00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة البقرة من آية 99 ـ 124 ( من ص 312 ـ 377) 

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء الأول)   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

الآيات

وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكَ ءَايَت بَيِّنَـت وَمَا يَكْفُرُبِهَآ إِلاَّ الْفَـسِقُونَ(99) أَوَكُلَّمَا عَـهَدُوا عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَيَؤْمِنُونَ(100) وَلَمَّا جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِّـمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـبَ كِتَـبَ اللهِ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ(101)

سبب النّزول

قال ابن عباس: إن ابن صوريا ـ وهو من أحبار اليهود ـ قال لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): يا محمّد ما جئتنا بشيء نعرفه، وما أنزل الله عليك من آية بينة فنتبعك لها، فأنزل الله هذه الآية(1)

التّفسير

الناكثون من اليهود

الآية الاُولى تشير إلى الآيات والعلامات والدلائل الكافية الواضحة التي

___________________________

1 ـ مجمع البيان، وتفسير القرطبي.

(312)

توفرت لدى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، وتؤكد أن المعرضين عن هذه الآيات البينات أدركوا في الواقع حقّانية الدعوة، لكنهم هبّوا للمعارضة مدفوعين بأغراضهم الشخصية: (وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَات بَيِّنَات وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إلاَّ الْفَاسِقُونَ).

التفكير في آيات القرآن ينير الطريق لكل طالب حق منصف، وبمطالعة هذه الآيات يمكن فهم صدق دعوة نبي الإسلام(صلى الله عليه وآله وسلم)، وعظمة القرآن.

لكن هذه الحقيقة الواضحة لا يفهمها الذين انطفأ نور قلوبهم بسبب الذنوب، من هنا نرى الفاسقين الملوثين بالخطايا يعرضون عن الإيمان بالرسالة.

ثم يتطرق القرآن إلى صفة مجموعة من اليهود، وهي صفة النكول ونقض العهود والمواثيق، وكأنها صفة تأريخية تلازمهم على مرّ العصور (أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ، بَلْ أكثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ).

لقد أخذ الله ميثاقهم في جانب الطور أن يعملوا بالتوراة لكنهم نقضوا الميثاق، وأخذ منهم الميثاق أن يؤمنوا بالنّبي الخاتم المذكور عندهم في التوراة فلم يؤمنوا به.

يهود «بني النضير» و«بني قريضة» عقدوا الميثاق مع النّبي لدى هجرته المباركة إلى المدينة أن لا يتواطؤوا مع أعدائه، لكنهم نقضوا العهد، وتعاونوا مع مشركي مكة في حرب الأحزاب ضد المسلمين.

وهذه الخصلة في هذا الفريق من اليهود نجدها اليوم متجسدةً في الصهيونية العالمية التي تضع كل المواثيق والقرارات والمعاهدات الدولية تحت قدميها، متى ما تعرّضت مصالحها للخطر.

الآية الأخيرة تؤكد بصراحة أكثر على هذا الموضوع: (وَلَمّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الّذينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ).

كان أحبار اليهود يبشرون النّاس قبل البعثة النبوية بالرّسول الموعود

(313)

ويذكرون لهم علاماته وصفاته، فلمّا بعث نبي الإِسلام، أعرضوا عمّا جاء في كتابهم، وكأنهم لم يروا ولم يقرأوا ما ذكرته التوراة في هذا المجال.

هذه هي النتيجة الطبيعية للأفراد الغارقين في ذاتياتهم، هؤلاء ـ حتى في دعوتهم إلى حقيقة من الحقائق ـ لا يتجردون عن ذاتياتهم، فإن وصلوا إلى تلك الحقيقة ووجدوها تنسجم مع أهوائهم، أعرضوا عنها ونبذوها وراء ظهروهم.

* * *

1 ـ واضح أن تعبير «النُّزول» أو «الإِنْزَالِ» بشأن القرآن الكريم لا يعني الإِنتقال المكاني من الأعلى إلى الاسفل وأن الله مثلا في السماء وأنزل القرآن إلى الارض، بل التعبير يشير إلى علو مكانة ربّ العالمين.

2 ـ كلمة «فاسق» من مادة «فسق» وتعني خروج النّواة من الرطب، فقد تسقط الرطبة من النخلة، وتنفصل عنها النّواة. ويقال عن هذا الإنفصال في العربية «فسقت النواة»، ثم أُطلقت الكلمة على كل انفصال عن خط طاعة الله، وعن طريق العبودية.

فكما أن النّواة تفسق إذا نزعت لباسها الحلو المفيد المغذي، كذلك الفاسق ينزع عنه بفسقه كل قيمه وشخصيّته الإنسانية.

3 ـ القرآن في حديثه عن اليهود لا يوبّخ الجميع بسبب ذنوب الأكثرية، بل يستعمل كلمات مثل «فريق» «أكثر» ليصون حق الأقلية المؤمنة المتقية، وطريقة القرآن هذه في حديثه عن الأُمم درس لنا كي لا نحيد في أحاديثنا ومواقفنا عن الحقّ والحقيقة.

* * *

(314)

الآيتان

وَاتَّبَعُواْ مَاتَتْلُواْ الشَّيَـطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَـنَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَـنُ وَلَـكِنَّ الشَّيَـطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَآ أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَـروتَ وَمَـرُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَد حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَاهُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَد إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَايَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَهُ مَالَهُ فِى الاَْخِرَةِ مِنْ خَلَـق وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْكَانُواْ يَعْلَمُونَ(102) وَلَوْ أَنَّهُمْ ءَامَنُواْ وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللهِ خَيْرٌ لَّو كَانُوا يَعْلَمُونَ(103)

التّفسير

سليمان وسحرة بابل

يفهم من الأحاديث أن مجموعة من النّاس مارست السحر في عصر النّبي سليمان(عليه السلام)، فأمر سليمان بجمع كل أوراقهم وكتاباتهم، واحتفظ بها في مكان خاص. (لعل الإحتفاظ بها يعود إلى إمكان الإِستفادة منها في إبطال سحر

(315)

السحرة).

بعد وفاة سليمان عمدت جماعة إلى إخراج هذه الكتابات، وبدأوا بنشر السحر وتعليمه. واستغلت فئة هذه الفرصة فأشاعت أن سليمان لم يكن نبيّاً أصلا، بل كان يسيطر على مُلكه ويأتي بالأُمور الخارقة للعادة عن طريق السحر!

مجموعة من بني إسرائيل سارت مع هذه الموجة ولجأت إلى السحر، وتركت التوراة.

عندما ظهر النّبي الخاتم(صلى الله عليه وآله وسلم)، وجاءت آيات القرآن مؤيدة لنبوة سليمان، قال بعض أحبار اليهود: ألا تعجبون من محمّد يقول: سليمان نبي وهو ساحر!

وجاءت الآية ترد على مزاعم هؤلاء وتنفي هذه التّهمة الكبرى عن سليمان(عليه السلام)(1).

الآية الاُولى إذن تكشف فضيحة اُخرى من فضائح اليهود وهي إتهامهم لنبي الله بالسحر والشعوذة، تقول الآية عن هؤلاء القوم: (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمـَانَ).

والضمير في «وَاتَّبِعُوا» قد يعود إلى المعاصرين للنبي، أو إلى أولئك اليهود المعاصرين لسليمان، أو لكلا الفريقين.

والمقصود بكلمة «الشَّيَاطِينَ» قد يكون الطغاة من البشر أو من الجن أو من كليهما.

ثم تؤكد الآية على نفي الكفر عن سليمان: (وَمَا كَفَرَ سُلَيْمـَانُ).

فسليمان(عليه السلام) لم يلجأ إلى السحر، ولم يحقق أهدافه عن طريق الشعوذة: (وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ).

هؤلاء اليهود لم يستغلوا ما تعلموه من سحر الشياطين فحسب، بل أساؤوا

___________________________

1 ـ سيرة ابن هشام، ج 2، ص 192. ومجمع البيان في تفسير الآية، مع قليل من الإِختلاف.

(316)

الإِستفادة أيضاً من تعليمات هاروت وماروت: (وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ)(1).

هاروت وماروت ملكان إلهيّان جاءا إلى النّاس في وقت راج السحر بينهم وابتلوا بالسحرة والمشعوذين، وكان هدفهما تعليم النّاس سبل إبطال السحر، وكما إن إحباط مفعول القنبلة يحتاج إلى فهم لطريقة فعل القنبلة، كذلك كانت عملية إحباط السحر تتطلب تعليم النّاس اُصول السحر، ولكنهما كانا يقرنان هذا التعليم بالتحذير من السقوط في الفتنة بعد تعلم السحر (وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَد حَتَّى يَقُولاً إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ).

وسقط أُولئك اليهود في الفتنة، وتوغلوا في إنحرافهم، فزعموا أن قدرة سليمان لم تكن من النّبوة، بل من السحر والسحرة. وهذا هو دأب المنحرفين دائماً، يحاولون تبرير إنحرافاتهم بإتهام العظماء بالإنحراف.

هؤلاء القوم لم ينجحوا في هذا الإختبار الإِلهي، فأخذوا العلم من الملكين واستغلّوه على طريق الإِفساد لا الإِصلاح، لكن قدرة الله فوق قدرتهم وفوق قدرة ما تعلموه: (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ، وَمَا هُمْ بِضَارّينَ بِهِ مِنْ أَحَد إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنْفَعُهُمْ).

لقد تهافتوا على إقتناء هذا المتاع الدّنيوي وهم عالمون بأنه يصادر آخرتهم (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَن اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الاْخِرَةِ مِنْ خَلاَق)(2). لقد باعوا شخصيتهم الإِنسانية بهذا المتاع الرخيص (وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ).

لقد أضاعوا سعادتهم وسعادة مجتمعهم عن علم ووعي، وغرقوا في مستنقع الكفر والإِنحراف (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوا لَمَثْوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ).

* * *

___________________________

1 ـ بعض المفسرين عطفوا جملة «مَا أُنْزِلَ» على «مَا تَتْلُوا» وعلى هذا الأساس فسرنا الآية أعلاه، وبعضهم عطفوها على (السحر).

2 ـ الخَلاق يعني الخُلُق، وقد يعني الحظّ والنصيب وهذا هو معنى الكلمة في الآية.

(317)

1 ـ قصّة هاروت وماروت

كثر الحديث بين أصحاب القصص والأساطير عن هذين الملكين، واختلطت الخرافة بالحقيقة بشأنهما، حتى ما عاد بالإِمكان استخلاص الحقائق مما كتب بشأن هذه الحادثة التاريخية، ويظهر أن أصح ما قيل بهذا الشأن وأقربه إلى الموازين العقلية والتاريخية والاحاديث الشريفة هو مايلي:

شاع السحر في أرض بابل وأدّى إلى إحراج النّاس وازعاجهم، فبعث الله ملكين بصورة البشر، وأمرهما أن يعلما النّاس طريقة إحباط مفعول السحر، ليتخلصوا من شرّ السحرة.

كان الملكان مضطرين لتعليم النّاس اُصول السحر، باعتبارها مقدمة لتعليم طريقة إحباط السحر. واستغلت مجموعة هذه الاُصول، فانخرطت في زمرة الساحرينِ، وأصبحت مصدر أذى للناس.

الملكان حذرا النّاس ـ حين التعليم ـ من الوقوع في الفتنة، ومن السقوط في حضيض الكفر بعد التعلم، لكن هذا التحذير لم يؤثّر في مجموعة منهم(1).

وهذا الذي ذكرناه ينسجم مع العقل والمنطق، وتؤيده أحاديث أئمّة آل البيت(عليهم السلام)منها ما ورد في كتاب عيون أخبار الرضا (وقد أورده في أحد طرقه عن الإمام الرضا(عليه السلام) في طريق آخر عن الامام الحسن العسكرى(عليه السلام))(2).

أمّا ما تتحدث عنه بعض كتب التاريخ ودوائر المعارف بهذا الشأن فمشوب بالخرافات والأساطير، وبعيد كل البعد عمّا ذكره القرآن، من ذاك مثلا أن الملكين أرسلا إلى الأرض ليثبت لهما سهولة سقوطهما في الذنب إن كانا مكان البشر، فنزلا وارتكبا أنواع الآثاموالذنوبوالكبائر!!والنص القرآني بعيدعن هذه الأساطير

___________________________

1 ـ مجمع البيان، في تفسير الآية المذكورة. الوسائل، ج 12، ص 106 ـ 107.

2 ـ نفس المصدر.

(318)

ومنزّه منها.

2 ـ لفظ هاروت وماروت

زعم بعض المحققين أن «هاروت» و«ماروت» لفظان فارسيان قديمان.

وقال: إن كلمة «هوروت» تعني «الخصب»، و«موروت» تعني «عديم الموت» واسما هاروت وماروت مأخوذان، من هذين اللفظين(1). وهذا الإِتجاه في فهم معنى الإِسمين لا يقوم على دليل.

وفي كتاب «آوِستا» وردت ألفاظ مثل: «هرودات» ويعني «شهر خرداد»، وكذلك «أمردات» بمعنى عديم الموت، وهو نفسه اسم «شهر مرداد»(2).

وفي معجم (دهخدا) تفسير للفظين شبيه بما سبق.

والعجيب أن البعض ذهب إلى أن هاروت وماروت من البشر ومن سكنة بابل!، وقيل أيضاً أنّهما من الشياطين!! والآيات المذكورة ترفض ذلك طبعاً.

3 ـ كيف يكون الملك معلماً للإِنسان؟

يبقى السّؤال عن الرابطة بين الملك والإِنسان، وهل يمكن أن تكون بينهما رابطة تعليمية؟ الآيات المذكورة تصرح بأن هاروت وماروت علّما النّاس السحر، وهذا تمّ طبعاً من أجل إحباط سحر السحرة في ذلك المجتمع. فهل يمكن للملك أن يكون معلماً للإِنسان؟

الأحاديث الواردة بشأن الملكين تجيب على هذا السّؤال، وتقول: إن الله بعثهما على شكل البشر، وهذه الحقيقة يمكن فهمها من الآية التاسعة لسورة الأنعام أيضاً، حيث يقول تعالى: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلا)(3).

___________________________

1 ـ أعلام القرآن، ص655.

2 ـ نفس المصدر.

3 ـ الأنعام، 9.

(319)

4 ـ لا قدرة لأحد على عمل دون إذن الله

نفهم من قول الله في هذه الآيات أن السحرة ما كانوا قادرين على إنزال الضّر بأحد دون إذن الله سبحانه، وليس في الأمر «جبر» ولا إرغام، بل إن هذا المعنى يشير إلى مبدأ أساس في التوحيد، وهو إن كلّ القوى في هذا الكون تنطلق من قدرة الله تعالى، النار إذ تحرق إنما تحرق بإذن الله، والسكين إذ تقطع إنما تقطع بأمر الله. لا يمكن للساحر أن يتدخل في عالم الخليقة خلافاً لإِرادة الله.

كلّ ما نراه من آثار وخواص إنما هي آثار وخواص جعلها الله سبحانه للموجودات المخلتفة، ومن هذه الموجودات من يحسن الإِستفادة من هذه الهبة الإِلهية ومنهم من يسيء الإِستفادة منها. و«الإِختيار» الذي منحه الله للإِنسان إنما هو وسيلة لإِختباره تكامله.

5 ـ السحر وتاريخه

الحديث عن السحر وتاريخه طويل، ونكتفي هنا بالقول إن جذوره ضاربة في أعماق التاريخ، ولكن بداياته وتطوراته التاريخية يلفّها الغموض ولا يمكن تشخيص أول من استعمل السحر.

وبشأن معناه يمكن القول: إنه نوع من الأعمال الخارقة للعادة، تؤثر في وجود الإنسان، وهو أحياناً نوع من المهارة والخفة في الحركة وإيهام للأنظار، كما إنه أحياناً ذو طابع نفسي خيالي.

والسحر في اللغة له معنيان:

1 ـ الخداع والشّعوذة والحركة الماهرة.

2 ـ كل ما لطف ودقّ.

والراغب ذكر للفظ السحر ثلاثة معان قرآنية:

الأوّل: الخداع وتخييلات لا حقيقة لها، نحو ما يفعله المشعبذ بصرف الأبصار

(320)

عما يفعله لخفة يده، وما يفعله النمام بقول مزخرف عائق للأسماع.

الثّاني: استجلاب معاونة الشيطان بضرب من التقرب إليه.

الثّالث: هو اسم لفعل يزعمون أنه من قوّته يغيّر الصور والطبائع فيجعل الإنسان حماراً، ولا حقيقة لذلك(1).

نستنتج من دراسة 51 موضعاً من مواضع ذكر كلمة «سحر» في القرآن الكريم أن السحر ينقسم في رأي القرآن الكريم على قسمين:

1 ـ الخداع والشعبذة وخفة اليد وليس له حقيقة كما جاء في قوله تعالى: (فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعى)(2) وقوله: (فَلَّمَا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ)(3) ويستفاد من هذه الآيات أن السحر ليس له حقيقة موضوعية حتى يمكنه التأثير في الاشياء، بل هو خفة حركة اليد ونوع من خداع البصر فيظهر ما هو خلاف الواقع.

2 ـ يستفاد من آيات اُخرى أن للسحر أثراً واقعياً، كقوله سبحانه: (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ)، وقوله: (وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنْفَعُهُمْ)كما مرّ في الآيات التي نحن بصددها.

وهل إن للسحر تأثيراً نفسياً فقط، أم يتعدى ذلك إلى الجسم أيضاً؟ لم تشر الآيات أعلاه إلى ذلك، ويعتقد بعض النّاس أن هذا التأثير نفسي لا غير.

جدير بالذكر أن بعض ألوان السحر كانت تُمارس عن طريق الإِستفادة من خواص المواد الكيمياوية والفيزياوية لخداع النّاس. فيحدثنا التاريخ أن سحرة فرعون وضعوا داخل حبالهم وعصيّهم مادة كيمياوية خاصّة (ولعلها الزئبق)، كانت تتحرك بتأثير حرارة الشمس أو أية حرارة اُخرى، وتوحي للمشاهد أنها حيّة. وهذا اللون من السحر ليس بقليل في عصرنا الرّاهن.

___________________________

1 ـ مفردات الراغب، مادة سحر.

2 ـ طه، 66.

3 ـ الأعراف، 116.

(321)

السّحر في رأي الإسلام

أجمعت الفقهاء على حرمة تعلم السحر وممارسته، وجاء عن أمير المؤمنين علي(عليه السلام): «مَنْ تَعَلَّمَ مِنَ السِّحْرِ قَلِيلا أَوْ كَثِيراً فَقَدْ كَفَرَ وَكَانَ آخِرُ عَهْدِهِ بِرَبِّهِ»(1).

ولكن ـ كما ذكرناه يجوز تعلم السحر لإبطال سحر السحرة، بل يرتفع الجواز أحياناً إلى حد الوجوب الكفائي، لإِحباط كيد الكائدين والحيلولة دون نزول الأذى بالنّاس من قبل المحتالين. دليلنا على ذلك حديث روي عن الإِمام أبي عبد الله جعفر محمّد الصادق(عليه السلام):

«كَانَ عِيَسى بْنُ شَقفَى سَاحِراً يَأْتِيهِ النَّاسُ وَيَأْخُذُ عَلى ذَلِكَ الاَْجْرَ فَقَالَ لَهُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ أَنَا رَجُلٌ كَانَتْ صِنَاعَتِي السِّحْرُ وَكُنْتُ آخِذُ عَلَيْهِ الاَْجْرَ وَكَانَ مَعَاشِي وَقَدْ حَجَجْتُ مِنْهُ وَمَنَّ اللهِ عَلَيَّ بِلِقَائِكَ وَقَدْ تُبْتُ إِلى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فَهَلْ لِي فِي شَيْء مِنْ ذَلِكَ مَخْرَجٌ فَقَالَ لَهُ أَبُو عَبْدِ اللهِ حُلَّ وَلاَ تَعْقُدْ»(2).

ويستفاد من هذا الحديث أن تعلّم السحر والعمل به من أجل فتح وحلّ عقد السحر لا إشكال فيه.

السحر في رأي التوراة

أعمال السحر والشّعبذة في كتب العهد القديم (التوراة وملحقاتها) هي أيضاً ذميمة غير جائزة. فالتوراة تقول: «لا تلتفتوا إلى الجان ولا تطلبوا التوابع فتنجسوا بهم وأنا الربّ إلهكم»(3).

وجاء في موضع آخر من التوراة: «والنفس التي تلتفت إلى الجان وإلى

___________________________

1 ـ وسائل الشيعة، الباب 25، من أبواب ما يكتسب به، حديث 7.

2 ـ وسائل الشيعة، ج 12، ص 105، ح 5.

3 ـ الكتاب المقدس سفر لاويين الإِصحاح، 19 الرقم 31.

(322)

التوابع لتزني ورائهم إجعل وجهي ضد تلك النفس واقطعها من شعبها»(1).

ويقول قاموس الكتاب المقدس: «واضح أن السحر لم يكن له وجود في شريعة موسى، بل إن الشريعة شددت كثيراً على أولئك الذين كانوا يستمدون من السحر».

ومن الطريف أن قاموس الكتاب المقدس الذي يؤكد على أن السحر مذموم في شريعة موسى، يصرح بأن اليهود تعلّموا السحر وعملوا به خلافاً لتعاليم التوراة فيقول: «... ولكن مع ذلك تسرّبت هذه المادة الفاسدة بين اليهود، فآمن بها قوم، ولجأوا إليه في وقت الحاجة»(2).

ولذلك ذمهم القرآن، وأدانهم لجشعهم وطمعهم وتهافتهم على متاع الحياة الدنيا.

السحر في عصرنا

توجد في عصرنا مجموعة من العلوم كان السحرة في العصور السالفة يستغلونها للوصول إلى مآربهم.

1 ـ الإِستفادة من الخواص الفيزياوية والكيمياوية للأجسام، كما ورد في قصّة سحرة فرعون واستفادتهم من خواص الزئبق أو أمثاله لتحريك الحبال والعصيّ.

واضح أن الإِستفادة من الخصائص الكيمياوية والفيزياوية للأجسام ليس بالعمل الحرام، بل لابدّ من الإِطلاع على هذه الخصائص لإِستثمار مواهب الطبيعة، لكن المحرم هو استغلام هذه الخواص المجهولة عند عامة النّاس لإِيهام الآخرين وخداعهم وتضليلهم، مثل هذا العمل من مصاديق السحر، (تأمل بدقة).

___________________________

1 ـ الكتاب المقدس سفر لاويين الإِصحاح 20 الرقم 6.

2 ـ قاموس الكتاب المقدس، تأليف المستر هاكس الإمريكي، ص 471.

(323)

2 ـ الإِستفادة من التنويم المغناطيسي، والهيبنوتيزم، والمانية تيزم، والتله بآتي (انتقال الأفكار من المسافات البعيدة).

هذه العلوم هي أيضاً إيجابية يمكن الإِستفادة منها بشكل صحيح في كثير من شؤون الحياة. لكن السحرة كانوا يستغلونها للخداع والتضليل.

ولو استخدمت هذه العلوم اليوم أيضاً على هذا الطريق المنحرف فهي من «السحر» المحرّم.

بعبارة موجزة: إن السحر له معنى واسع يشمل كل ما ذكرناه هنا وما أشرنا إليه سابقاً.

ومن الثابت كذلك أن قوة الإِرادة في الإِنسان تنطوي على طاقات عظيمة. وتزداد هذه الطاقات بالرياضات النفسية، ويصل بها الأمر أنها تستطيع أن تؤثر على الموجودات المحيطة بها، وهذا مشهود في قدرة المرتاضين على القيام بأعمال خارقة للعادة نتيجة رياضاتهم النفسية.

جدير بالذكر أن هذه الرياضات تكون مشروعة تارة، وغير مشروعة تارة اُخرى. الرياضات المشروعة تخلق في النفوس الطاهرة قوة إيجابية بناءة، والرياضات غير المشروعة تخلق قوة شيطانية، وقد تكون كلا القوتين قادرتين على القيام بأعمال خارقة للعادة، لكن الاُولى إيجابية بناءة، والاُخرى مخربة هدامة.

* * *

(324)

الآيتان

يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُواْ وَلِلْكَـفِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ(104) مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَـبِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِّنْ خَيْر مِّن رَّبِّكُمْ وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ(105)

سبب النّزول

روي عن ابن عباس أنه قال: إن الصحابة كانوا يطلبون من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)لدى تلاوته الآيات وبيانه الأحكام الإِلهية أن يتمهّل في حديثه حتى يستوعبوا ما يقوله، وحتى يعرضوا عليه أسئلتهم، وكانوا يستعملون لذلك عبارة: «راعنا» أي أمهلنا. واليهود حوّروا معنى هذه الكلمة لتكون من «الرعونة» فتكون راعنا بمعنى اجعلنا رعناء، واتخذوا ذلك وسيلة للسخرية من النّبي والمسلمين.

الآية تطلب من المسلمين أن يقولوا «انْظُرْنَا» بدلا من «رَاعِنَا» لسد الطريق أمام طعن الأعداء.

وقال بعض المفسرين: إنّ عبارة «رَاعِنَا» في كلام اليهود سبّة تعني «اسمع ولمّا تسمع»، وكانوا يرددون هذه العبارة مستهزئين!.

وقيل إن اليهود كانوا يقولون بدلا من رَاعِنَا «راعينا» = (راعي + نا)

(325)

ويخاطبون بذلك النّبي ساخرين(1). وليس بين هذه العلل المذكورة لنزول الآية الكريمة تناقض، فقد تكون بأجمعها صحيحة.

التّفسير

لا توفّروا للأعداء فرصة الطعن:

الآية الكريمة تخاطب المسلمين قائلة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ).

ممّا سبق من سبب نزول هذه الآية الكريمة نستنتج أنّ على المسلمين أن لا يوفروا للأعداء فرصة الطعن بهم، وأن لا يتيحوا لهم بفعل أو قول ذريعة يسيئون بها إلى الجماعة المسلمة. عليهم أن يتجنبوا حتى ترديد عبارة يستغلها العدوّ لصالحه. الآية تصرّح بالنهي عن قول عبارة تمكن الأعداء أن يستثمروا أحد معانيها لتضعيف معنويات المسلمين، وتأمرهم باستعمال كلمة اُخرى غير تلك الكلمة القابلة للتحريف ولطعن الأعداء.

حين يشدّد الإِسلام إلى هذا الحد في هذه المسألة البسيطة، فإن تكليف المسلمين في المسائل الكبرى واضح، عليهم في مواقفهم من المسائل العالمية أن يسدوا الطريق أمام طعن الأعداء، وأن لا يفتحوا ثغرة ينفذ منها المفسدون الداخليون والأجانب للإِساءة إلى سمعة الإِسلام والمسلمين.

جدير بالذكر أن عبارة راعنا ـ إضافة إلى ما فيها من معنى آخر استغله اليهود ـ فيها نوع من سوء الأدب، لأنّها من باب المفاعلة، وباب المفاعلة يفيد المبادلة والإِشتراك، وهي لذلك تعني: راعنا لنراعيك، وقد نهى القرآن عن ترديدها(2).

___________________________

1 ـ تفسير القرطبي، وتفسير المنار وتفسير الفخر الرازي، ذيل الآية المذكورة.

2 ـ تفسير الفخر الرازي، والمنار، ذيل الآية المذكورة.

(326)

الآية التالية تكشف عن حقيقة ما يكنّه مجموعة من أهل الكتاب والمشركين من حقد وعداء للجماعة المؤمنة: (مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْر مِنْ رَبِّكُمْ)، وسوآء ودّ هؤلاء أم لم يودّوا فرحمة الله لها سنّة إلهية ولا تخضع للميول والأهواء: (وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).

الحاقدون لم يطيقوا أن يروا ما شمل الله المسلمين من فضل ونعمة، وما منّ عليهم من رسالة عظيمة، ولكن فضل الله عظيم.

* * *

بحوث

مغزى قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)

أكثر من ثمانين موضعاً خاطب الله المسلمين في كتابه الكريم بهذه العبارة، وكل هذه المواضع من القرآن الكريم نزلت في المدينة، ولا وجود لهذه العبارة في الآيات المكية، ولعل ذلك يعود إلى تشكل الجماعة المسلمة في المدينة، وإلى ظهور المجتمع الإِسلامي بعد الهجرة. ولذلك خاطب الله الجماعة المؤمنة بعبارة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا).

وهذا الخطاب يتضمن إشارة إلى ميثاق التسليم الذي عقدته الجماعة المسلمة مع ربّها بعد الإيمان به، وهذا الميثاق يفرض على الجماعة الطاعة والإِنصياع لأوامر ربّ العالمين، والإِستجابة لما يأتي بعد هذه العبارة من أحكام.

جدير بالذكر أن كثيراً من المصادر الإِسلامية بما في ذلك مصادر أهل السنة، روت عن الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: «مَا أَنْزَلَ اللهُ آيَةً فِيهَا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِلاَّ وَعَلِيٌّ رَأْسُهَا وَأَمِيرُهَا»(1).

* * *

___________________________

1 ـ الدر المنثور، نقلا عن أبي نعيم في «حلية الاُولياء» عن ابن عباس.

(327)

الآيتان

مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَة أَوْنُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْر مِّنْهَآ أَومِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ(106)أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللهِ مِن وَلِىٍّ وَلاَ نَصِير(107)

التّفسير

الغرض من النّسخ

الآية الاُولى تشير أيضاً إلى بعد آخر من أبعاد حملة التشكيك اليهودية ضد المسلمين.

كان هؤلاء القوم يخاطبون المسلمين أحياناً قائلين لهم إن الدين دين اليهود وأن القبلة قبلة اليهود، ولذلك فإن نبيّكم يصلي تجاه قبلتنا (بيت المقدس)، وحينما نزلت الآية 144 من هذه السّورة وتغيّرت بذلك جهة القبلة، من بيت المقدس إلى مكة، غيّر اليهود طريقة تشكيكهم، وقالوا: لو كانت القبلة الاُولى هي الصحيحة، فلم هذا التغيير؟ وإذا كانت القبلة الثانية هي الصحيحة، فكل أعمالكم السابقة ـ إذن ـ باطلة.

(328)

القرآن الكريم في هذه الآية يردّ على هذه المزاعم وينير قلوب المؤمنين(1). ويقول: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَة أَوْ نُنسِها نَأْتِ بِخَيْر مِنْهَا أَوْمِثْلِهَا) ... وليس مثل هذا التغيير على الله بعسير (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنْ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ)؟!

الآية التالية تؤكد مفهوم قدرة الله سبحانه وتعالى وحاكميته في السماوات والأرض وفي الأحكام، فهو البصير بمصالح عباده: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ)، وفي هذه العبارة من الآية أيضاً تثبيت لقلوب المؤمنين، كي لاتتزلزل أمام حملات التشكيك هذه، وتستمر الآية في تعميق هذا التثبيت، مؤكدة أن المجموعة المؤمنة ينبغي أن تعتمد على الله وحده، وتستند إلى قوته وقدرته دون سواه، فليس في هذا الكون سند حقيقي سوى الله سبحانه: (وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَليٍّ وَلاَ نَصِير).

* * *

1 ـ هل يجوز النّسخ في الأحكام؟

النسخ في اللغة الإِزالة، وفي الإِصطلاح تغيير حكم شرعي واحلال حكم آخر محله، من ذلك:

1 ـ المسلمون كانوا يصلون بعد الهجرة تجاه بيت المقدس، واستمروا على ذلك ستة عشر شهراً، ثم نزل الأمر بتغيير القبلة، فوجب على المسلمين أن يصلوا تجاه الكعبة.

2 ـ الآية 15 من سورة النساء قررت معاقبة الزانية بعد شهادة أربعة شهود بإمساكها في البيت حتى الوفاة، أو يجعل الله لها سبيلا، والآية الثانية من سورة

___________________________

1 ـ يحتمل أيضاً أن تشير الآية إلى نسخ أحكام إسلامية اُخرى، كما ذكر الفخر الرازي في تفسيره، وسيد قطب في ظلاله.

(329)

النور نسخت الآية المذكورة وبدّلت الحكم بمائة جلدة.

وهنا يطرح سؤال معروف بشأن سبب النسخ يقول: لو كان في الحكم مصلحة فلماذا نُسخ؟ وإن لم يكن كذلك فلماذا شُرع ؟ لماذا لم تطرح الشريعة منذ البداية حكماً غير قابل للنسخ؟

علماء الإِسلام أجابوا منذ القديم على هذا السؤال، وتقرير هذا الجواب باختصار كما يلي:

نعلم أن بعض احتياجات الإِنسان ثابتة لا تقبل التغيير، لأنها ترتبط بفطرة الإِنسان وطبيعته، وبعضها الآخر تتغير بتغير الزمان وظروف البيئة، وهذه المتغيرات قد تضمن سعادة الإِنسان في زمن معين، لكنها تصبح عقبة أمام تقدم الفرد في زمان آخر.

قد يكون نوع من الدواء نافعاً للمريض في ظرف زمني معين، وقد لا يكون نافعاً ـ بل ضاراً ـ في مرحلة نقاهة المريض، لذلك يأمر الطبيب بدواء في وقت، ثم يأمر بقطعه والإِمتناع عن تناوله في وقت آخر.

قد يكون درس معين مفيداً للطالب في مرحلة دراسية معينة، لكن هذا الدرس يصبح عديم الفائدة في المراحل الدراسة التالية. المنهج التعليمي الصحيح ينبغي أن ينظم الدروس بشكل يتناسب مع حاجة الطالب في كل مرحلة من مراحله الدراسية.

هذه المسألة تتضح أكثر في إطار القانون اللازم لتكامل الإِنسان والمجتمع الإِنساني، هذا القانون لابدّ أن يتضمن متغيرات كي يكون المنهج التكاملي مفيداً لكل مراحل مسيرة المجتمع. وتزداد أهمية هذه التغييرات عند اندلاع الثورات الإِجتماعية والعقائدية، وتزداد ضرورة مواكبة متطلبات التغيير في كل مرحلة من مراحل الثورة.

لابدّ من التأكيد أنّ اُصول الأحكام الإِلهية ثابتة لا يعتريها التغيير، فالتوحيد

(330)

والعدالة الإِجتماعية وسائر الاُصول والمبادىء المشابهة ثابتة لا تتغير، وإنما يطرأ التغيير على المسائل الفرعية والثانوية.

ومن الضروري أن نؤكد أيضاً أن تكامل الدين قد يبلغ مرحلة يصبح فيها (الدين الخاتم)، وتصبح جميع أحكامه ثابتة لا تقبل التغيير (سنشرح مسألة خاتمية الرسالة في تفسير الآية 40 من سورة الأحزاب).

اليهود، مع اعتراضهم على المسلمين بشأن نسخ حكم القبلة الاُولى، أقرّوا النسخ في الاحكام الإِلهيّة، واستناداً إلى ما جاء في مصادرهم الدينية.

تذكر التوراة أن كل الحيوانات كانت حلا لنوح(عليه السلام) حين نزل من سفينته، لكن هذا الحكم نُسخ في شريعة موسى، وحرّم قسم من الحيوانات(1).

2 ـ المقصود من الآية

الآية في اللغة العلامة، وفي القرآن لها معان متعددة:

1 ـ مقاطع من القرآن، مفصولة عن بعضها بعلائم خاصة، وهذا المعنى للآية نجده في قوله تعالى: (تِلْكَ آيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ)(2).

2 ـ المعجزة سميت في القرآن آية كقوله سبحانه: (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوء آيَةً أُخْرى)(3).

3 ـ الدليل على وجود الله أو المعاد كقوله: (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ)(4)وقوله: (وَمِنْ آيَاتِهِ أنَّكَ تَرَى الاَْرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَُمحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ)(5).

4 ـ الأشياء البارزة الملفتة للأنظار كالأبنية الشاهقة، كما في قوله تعالى:

___________________________

1 ـ سفر التكوين، الفصل 9، الفقرة 3.

2 ـ البقرة، 252.

3 ـ طه، 22.

4 ـ الإسراء، 12.

5 ـ فصلت، 39.

(331)

 (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيع آيَةً تَعْبَثُونَ)(1).

والمعنى المشترك بين كل هذه المعاني هو «العلامة».

وقوله سبحانه: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَة ...) يشير إلى نسخ الأحكام، فالحكم النّاسخ خير من المنسوخ أو مثله، أو إنه يشير إلى نسخ معجزة الأنبياء، فيكون المعنى أن معجزة النّبي التالي أفصح وأوضح من معجزة النّبي السابق.

ثمّة روايات في تفسير هذه الآية ذكرت أن المقصود من نسخ الآية هو وفاة الإِمام ومجيء الإِمام التالي بعده، وهذا طبعاً بيان مصداق من مصاديق الآية، لا تحديداً لمفهومها.

3 ـ تفسير عبارة «ننسها»

جملة «نُنْسِهَا» في الآية معطوفة على جملة «نَنْسَخْ» وهي من مادة «أنساء» بمعنى التأخير أو الحذف من الأذهان(2).

فما هو معنى هذه العبارة في الآية الكريمة؟

المقصود من العبارة هو: ما ننسخ من آية أو نؤخر نسخها استناداً إلى مصالح معينة ... نأت بخير منها أو مثلها ... .

فعبارة «نَنْسَخْ» تشير إلى النسخ على المدى القصير، وعبارة «نُنْسِهَا»النسخ على المدى البعيد، (لاحظ بدقّة).

ثمّة احتمالات اُخرى ذكرت في هذا المجال لا تبلغ أهميتها ما ذكرناه.

4 ـ تفسير (أو مِثْلِهَا)

سؤال آخر يطرح في هذا المجال بشأن عبارة «أو مِثْلِهَا» فلو كان الحكم

___________________________

1 ـ الشعراء، 128.

2 ـ إن كانت بمعنى التأخير فهي من مادة (نسأ) وإن كانت بمعنى الحذف من الأذهان فهي من مادة (نسي).

(332)

النّاسخ مثل الحكم المنسوخ فلا فائدة من هذا التغيير، النسخ تظهر فائدته حين يكون النّاسخ خيراً من المنسوخ.

والجواب على ذلك هو أن الآية النّاسخة لها آثار في زمانها كتلك الآثار التي كانت الآية المنسوخة في زمانها.

بعبارة أوضح: قد يكون لحكم اليوم فوائد معينة، لكن هذه الفوائد لا تظهر لهذا الحكم غداً، ولابدّ أن ينسخ هذا الحكم بحكم آخر تكون له في زمن لاحق ـ على الأقل ـ نفس الفوائد التي كانت للمنسوخ في زمن سابق.

* * *

(333)

الآية

أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالاِْيمَـنِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ(108)

سبب النّزول

تعددت الآراء في كتب التّفسير حول سبب نزول هذه الآية الشريفة، إلاّ أنها متقاربة في المضمون والنتيجة.

فقد نقل عن ابن عباس أنه: جاء وهب بن زيد، ورافع بن حرملة إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وقالا: إئتِ لنا بكتاب من الله مرسل إلينا نقرأه لكي نؤمن بك، أو إجر الانهار لنا حتى نتبعك!

وقال بعض آخر: إنّ جماعة من الاعراب جاءوا إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وطلبوا منه ما طلب بنو إسرائيل من موسى، فقالوا: أرنا الله جهرة.

وقال آخرون: إنهم طلبوا من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يجعل لهم صنماً من شجرة خاصة (ذات أنواط) ليعبدوه كما قال بنو إسرائيل لموسى: (إجعل لَنا إلهاً كَمَا لَهُم آلهة). والآية أعلاه نزلت جواباً لهؤلاء.

(334)

التّفسير

حُجج واهية

هذا الآية الكريمة، وإن كانت تخاطب مجموعة من المسلمين ضعاف الإيمان أو المشركين إلاّ أنّها ترتبط أيضاً بمواقف اليهود.

لعل هذا السؤال وجه إلى الرّسول بعد تغيير القبلة، وبعد حملات التشكيك التي شنها اليهود بين المسلمين وغير المسلمين، والله سبحانه في هذه الآية الكريمة نهى عن توجيه مثل هذه الأسئلة السخيفة (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ)؟!

مثل هذا العمل إعراض عن الإيمان واتجاه نحو الكفر، ولذلك قالت الآية: (وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالاِْيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ).

الإِسلام طبعاً لا يمنع طرح الأسئلة العلمية والمنطقية، ولا يحول دون طلب المعجزة من أجل اثبات صحة الدعوة، لأن مثل هذه الأسئلة والطلبات هي طريق الإِدراك والفهم والإِيمان. وهذه الآية الكريمة تشير إلى اُولئك الذين يتذرعون بمختلف الحجج الواهية كي يتخلصوا من حمل أعباء الرسالة.

هؤلاء كانوا قد شاهدوا من الرّسول معاجز كافية لإِيمانهم بالدعوة وصاحبها، لكنهم يتقدمون إلى النّبي بطلب معاجز اقتراحية اُخرى!

المعجزة ليست اُلعوبة بيد هذا وذاك كي تحدث وفق الميول والإِقتراحات والمشتهيات، بل إنها ضرورة لازمة للإطمئنان من صدق أقوال النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وليست مهمّة النّبي صنع المعاجز لكل من تهوى نفسه معجزة.

ثم هناك من الأسئلة ما هو بعيد عن العقل والمنطق، كرؤية الله جهرة، وكطلب اتخاذ الصنم.

القرآن الكريم ينبه في هذه الآية بأن المجموعة البشرية التي لا تسلك طريق العقل والمنطق في اسئلتها ومطالبتها، سينزل بها ما نزل بقوم موسى.

* * *

(335)

الآيتان

وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَـبِ لَوْيَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَـنِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعدِ مَاتَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ واصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِىَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ(109)وَأَقِيمُوا الصَّلَوةَ وَءَاتُوا الزَّكَوةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لاَِنْفُسِكُم مِّنْ خَيْر تَجِدُوهُ عِندَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِمَآ تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(110)

التّفسير

حسد وعناد:

كثير من أهل الكتاب وخاصة اليهود لم يكتفوا بإعراضهم عن الدين المبين، بل كانوا يودّون أن يرتد المسلمون عن دينهم، ولم يكن ذلك إلاّ عن حسد يستعر في أنفسهم، تقول الآية: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ).

وأمام هذه المواقف الدنيئة والنظرات الضيقة والآمال التافهة والنوايا الخبيثة التي تحملها الفئة الكافرة، يحدد الإِسلام موقف الجماعة المسلمة، على أساس من رحابة الصدر وسعة الاُفق وبعد النظرة (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بَأَمْرِهِ

(336)

إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ).

هذا الإمر الإِلهي نزل حيث كان المسلمون بحاجة إلى بناء المجتمع الإِسلامي. وفي تلك الظروف يوجب على المسلمين أن يلجأوا إلى سلاح العفو والصفح حتى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ.

كثير من المفسرين قالوا إن «أمر الله» في هذه الآية يعني «أمر الجهاد»، ولعل الجماعة المسلمة لم تكن على استعداد شامل لخوض معركة دامية حين نزلت هذه الآية، ولذلك قيل إن آيات الجهاد نسخت هذه الآية.

ولعل التعبير بالنسخ في هذا الموضع ليس بصحيح، لأن الآية تحمل في عبارتها الإِطار الذي يحدّها بفترة زمنية محدودة.

الآية التالية تأمر المسلمين بحكمين هامّين: إقامة الصلاة باعتبارها رمز إرتباط الإِنسان بالله، وإيتاء الزكاة وهي أيضاً رمز التكافل بين أبناء الاُمّة المسلمة، وكلاهما ضروريان لتحقيق الإِنتصار على العدو: (وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَأَتُوا الزَّكَاةَ).

ثم تؤكّد الآية على خلود العمل الصالح وبقائه: (وَمَا تُقَدِّمُوا لاَِنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْر تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ). والله سبحانه عالم بالسرائر، ويعلم دوافع الأعمال، ولا يضيع عنده أجر العاملين (إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).

* * *

1 ـ «اصفحوا» من «صفح»، وصفح الشيء عرضه وجانبه كصفحة الوجه وصفحة السيف وصفحة الحجر، والأمر بالصفح هو الأمر بالإِعراض، لكنّ عطفها على «فَاعْفُوا» يفهم أنه أمر بالإِعراض لا عن جفاء، بل عن عفو وسماح.

وهذا التعبير يوحي أيضاً أن المسلمين كانت لهم قدرة المقابلة وعدم الصفح،

(337)

لكن الأمر بالعفو والصفح يستهدف اتمام الحجّة على العدوّ، كي يهتدي من هو قابل للإِصلاح. بعبارة اُخرى: ممارسة القوّة ليست المرحلة الاُولى في مواجهة العدوّ، بل العفو والصفح، فإن لم يُجد نفعاً فالسيف.

2 ـ عبارة (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ) قد تشير إلى أن الله قادر على أن ينصر المسلمين على أعدائهم بطرق غيبية، ولكن طبيعة حياة البشر والكون قائمة على أن الأعمال لا تتم إلاّ بالتدريج وبعد توفّر المقدمات.

3 ـ عبارة (حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) قد تكون إشارة إلى توغل هؤلاء الحسدة في ذاتياتهم، فالحسد قد يتخذ أحياناً طابع الدين والرسالة، لكن حسد هؤلاء لم يكن له حتى هذا الظاهر، بل كان ضيقاً شخصياً(1).

ويحتمل أيضاً أن تكون إشارة إلى أن الحسد متجذّر في نفوسهم.

* * *

___________________________

1 ـ تفسير المنار، الآية المذكورة.

(338)

الآيتان

وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَـرَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَـْنَكُمْ إِن كُنتُمْ صَـدِقِينَ(111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَهُمْ يَحْزَنُونَ(112)

التّفسير

احتكار الجنّة!

القرآن في هاتين الآيتين يشير إلى ادعاء آخر من الإِدعاءات الفارغة لمجموعة من اليهود والنصارى، (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارى)(1)، ثم يجيبهم جواباً رادعاً قائلا (تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ) ثم تخاطب الآية رسول الله وتقول: (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ).

بعد التأكيد على أن ادعاء هؤلاء فارغ لا قيمة له، وأنه مجرد أُمنية تخامر

___________________________

1 ـ واضح أن المقصود من «قالوا» ادعاء اليهود من جهة بأن الجنّة خاصة بهم، وادعاء النصارى من جهة اُخرى بأن الجنة حكراً عليهم.

(339)

أذهانهم، يطرح القرآن المعيار الأساس لدخول الجنّة على شكل قانون عام (بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ). ومن هنا فالمشمولون بهذا القانون هم في ظلال رحمة الله (وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ).

بعبارة موجزة: الجنّة ومرضاة الله والسعادة الخالدة ليست حكراً على طائفة معينة، بل هي نصيب كل من يتوفر فيه شرطان:

الأوّل: التسليم التام لله تعالى، أو الإِنصياع لأوامره سبحانه، وعدم التفريق بين هذه الأوامر، أي عدم ترك ذلك القسم من الأوامر الذي لا ينسجم مع المصالح الفردية الذاتية.

الثّاني: وهو ما يترتب على التسليم في المرحلة الاُولى، من القيام بالأعمال الصالحة والإِحسان في جميع المجالات.

والقرآن، بطرحه هذه الحقيقة، يرفض بشكل تام مسألة التعصب العنصري ويكسر طوق احتكار فئة معينة للسعادة، ويضع ضمنياً معيار الفوز متمثلا بالإِيمان، والعمل الصالح.

* * *

1 ـ «الأماني» جمع «أُمنية» وهي الرجاء الذي لا يتحقق للإِنسان.

والآية تطرح أُمنية واحدة من أُمنيات أهل الكتاب، ولكن هذه الأُمنية ـ أي أمنية احتكار الجنّة ـ هي مصدر أمان اُخرى، وبعبارة اُخرى: أُمنيتهم لها فروع وإمتدادات، ولذلك عبر عنها القرآن بلفظ (أماني).

2 ـ نسبت الآية الكريمة التسليم إلى (الوجه): (بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ ...)، وذلك يعود إلى أن الإِنسان حين يستسلم لشيء، فأوضح مظهر لهذا الإِستسلام هو أن يولي وجهه تجاه ذلك الشيء. ومن المتحمل أيضاً أن «الوجه» يعني في

(340)

الآية الذات، ويكون المعنى أن هؤلاء أسلموا بكل وجودهم لأوامر الله.

3 ـ الآيتان المذكورتان تعلّمان المسلمين عدم الإِنجراف وراء الإِدعاءات الباطلة غير القائمة على دليل، وتعلمهم أن يطلبوا الدليل والبرهان من صاحب الإِدعاء، وبذلك يسدّ القرآن الطريق أمام الإِنجراف الأعمى وراء التقليد، ويجعل التفكير المنطقي سائداً في المجتمع.

4 ـ ذكر عبارة (وَهُوَ مُحْسِنٌ) بعد طرح مسألة التسليم، إشارة إلى أن الإِحسان بالمعنى الواسع للكلمة لا يتحقق إلاّ برسوخ الإِيمان في النفوس. كما تفهم العبارة أن صفة الإِحسان ليست طارئة في نفوس المؤمنين، بل هي خصلة نافذة في أعماق هؤلاء.

ونفي الخوف والحزن عن أتباع خط التوحيد سببه واضح، لأن هؤلاء يخافون الله دون سواه، بينما المشركون يخشون من كل ما يهدد مصالحهم الدنيوية التافهة، بل يخشون أموراً خرافية موهومة تقلقهم وتقضّ مضاجعهم.

* * *

(341)

الآية

وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَـرَى عَلَى شَىْء وَقَالَتِ النَّصَـرَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَىْء وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَـبَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَـمَةِ فِيَما كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ(113)

سبب النّزول

قال ابن عباس أنه لما قدم وفد نجران من النصارى على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)آتتهم أحبار اليهود فتنازعوا عند رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال رافع بن حرملة: ما أنتم على شَيء، وجحد بنبوّة عيسى وكفر بالإِنجيل. فقال رجل من أهل نجران: ليست اليهود على شيء، وجحد بنبوّة موسى وكفر بالتوراة، فأنزل الله هذه الآية.(1)

التّفسير

تعصّب وتناقض

فيما مرّ بنا من آيات رأينا جانباً من الإِدعاءات الفارغة التي أطلقها جمع من

___________________________

1 ـ تفسير مجمع البيان، وتفسير القرطبي، وتفسير المنار في تفسير الآية المذكورة.

(342)

اليهود والنصارى، ورأينا أن هذه الإِدعاءات الفارغة تستتبعها روح احتكارية ضيقة، ثم وقوع في التناقضات.

تقول الآية: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارى عَلى شَيْء وَقَالَتِ النَّصَارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْء).

عبارة «لَيْسَتْ عَلى شَيْء» تعني أن أفراد هذا الدين لا مكانة لهم ولا منزلة لدى الله سبحانه، أو تعني أن هذا الدين لا وزن له ولا قيمة.

ثم تضيف الآية: (وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ).

أي إنّ هؤلاء لديهم الكتاب الذي يستطيع أن ينير لهم الطريق في هذه المسائل، ومع ذلك ينطلقون في أحكامهم من التعصب واللجاج والعناد!!

ثم تقول الآية: (كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ).

وهذه الآية الكريمة تجعل أقوال هذه المجموعة من أهل الكتاب المتعصبين شبيهة بأقوال الجهلة من الوثنيين. بعبارة اُخرى: هذه الآية تقرر أن المصدر الأساس للتعصب هو الجهل والبعد عن العلم، لأن الجاهل مطوّق بمحيطه المحدود، لا يقبل غيره، بل هو ملتصق بما ملأ ذهنه منذ صغره وإن كان خرافياً، ويرفض ما سواه.

ثم اختتمت الآية بالتأكيد على أن الحقائق إن خفيت في هذه الدنيا، فهي لا تخفى في الآخرة حيث تنكشف كل الأوراق: (فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيَما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ).

وهذه الآية فيها أيضاً تثبيت للقلوب وطمأنة للنفوس، فهي تؤكد للمسلمين أن الطوائف التي تجهزت لمحاربتهم لا تتميز بالإِنسجام والوحدة، بل إن مجاميعها يكفّر بعضهم بعضاً، والذي يجمع بينهم على الظاهر هو الجهل، وبالتالي التعصب الناشيء عن هذا الجهل.

* * *

(343)

الآية

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَـجِدَ اللهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِى خَرَابِهَا أُوْلَـئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ لَهُمْ فِى الدُّنْيَا خِزْىٌ وَلَهُمْ فِى الاَْخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ(114)

سبب النّزول

روي عن ابن عباس إنّه الآية نزلت في «فطلوس» الرومي وجنده النصارى الذين حاربوا بني إسرائيل، وأحرقوا التوراة، وأسروا الأبناء وهدموا بيت المقدس.

وعن ابن عباس أيضاً أنها نزلت في الروم، غزوا بيت المقدس وسعوا في خرابه حتى أظهر الله المسلمين عليهم.

وعن الإمام الصادق(عليه السلام) أنها نزلت في قريش حين حالوا دون دخول الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) مدينة مكة والمسجد الحرام.

وقيل إنها نزلت في مشركي مكة ممن هدموا الأماكن التي اتخذها المسلمون

(344)

للصلاة في مكّة، بعد هجرة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) منها(1).

ولا يمنع أن يكون نزول الآية بسبب كل هذه الأحداث، وبذلك يكون كل واحد من أسباب النّزول المذكورة قد تناول بُعداً واحداً من أبعاد المسألة.

التّفسير

أظلم النّاس

أسباب النّزول توضّح أن الآية تتحدث عن اليهود والنصارى والمشركين، مع أن الآيات السابقة تتحدث أكثر ما تتحدث عن اليهود وأحياناً عن النصارى.

على أي حال «اليهود» بوسوستهم بشأن مسألة تغيير القبلة، سعوا إلى أن يتجه المسلمون في صلاتهم نحو بيت المقدس، ليتفوقوا بذلك على المسلمين، وليحطوا من مكانة الكعبة(2).

و«مشركو مكة» بمنعهم النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين زيارة الكعبة سعوا عملياً في هدم هذا البناء الإِلهي.

و«النصارى» باستيلائهم على بيت المقدس والعبث فيه على ما ذكر ابن عباس سعوا في تخريبه.

القرآن يقول لهؤلاء جميعاً ولكل من يسلك طريقاً مشابهاً لهؤلاء: (وَمَنْ أَظْلمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرَابِهَا).

القرآن الكريم أطلق على مثل هذا العمل اسم «الظلم الكبير»، وعلى العاملين اسم «أظلم النّاس» وأيّ ظلم أكبر من تخريب قاعدة التوحيد، وصدّ النّاس عن ذكر الله؟!

ثم تقول الآية: (أُوَلئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ).

___________________________

1 ـ مجمع البيان، والميزان في تفسير الآية المذكورة.

2 ـ تفسير الفخر الرازي، الآية المذكورة.

(345)

أي إِن المسلمين والموحدين ينبغي أن يكونوا على درجة من القوّة والمقاومة بحيث لا يستطيع الظلمة أن يمدوا أيديهم إلى هذه الأماكن المقدسة، ولا يستطيعون أن يدخلوها جهرة بدون خوف أو خشية.

ومن المحتمل أيضاً أن الآية تقول: إن الظلمة لن يستطيعوا أبداً أن ينجحوا في الإِستيلاء على هذه المراكز العبادية، بل إنهم سوف لا يستطيعون في المستقبل أن يدخلوا هذه المساجد إلاّ وهم خائفون مذعورون، تماماً كالمصير الذي لاقاه مشركو مكة بشأن المسجد الحرام.

والآية تبين بعد ذلك العقاب الذي ينتظر هؤلاء الظلمة ممن يريد أن يفصل بين الله وعباده: (لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الاْخِرَةِ عَظِيمٌ).

* * *

بحثان

1 ـ تخريب المساجد

مفهوم الآية المذكورة واسع ـ دون شك ـ غير محدود بزمان أو مكان معينين. إنها مثل سائر الآيات التي نزلت في ظروف خاصة لكن حكمها ثابت على مرّ العصور والدهور. فكل الذين يسعون بنوع من الأنواع في تخريب المساجد مشمولون بهذا الخزي والعذاب العظيم.

من الضروري أن نؤكد أن منع الذكر في مساجد الله والسعي في خرابها، لا يقتصر على هدم بنائها، بل إن كل عمل يؤدي إلى القضاء على دور المسجد في المجتمع مشمول بهذه الآية.

وسوف نرى في الآية (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ...)(1) أن المقصود من العمران ـ استناداً إلى الأحاديث والروايات الصريحة ـ ليس هو تشييد البناء فحسب، بل الحضور فيها واحياؤها بالذكر، هو نوع من العمران، بل أهم أنواع العمران.

___________________________

1 ـ التوبة، 18.

(346)

وفي النقطة المقابلة ـ إذن ـ يكون كل عمل يبعد النّاس عن المساجد، ويبعد المساجد عن دورها ظلماً كبيراً.

ومن المؤسف أن عصرنا يشهد ظهور مجموعة جاهلة متعصبة متعنتة بعيدة عن المنطق، تطلق على نفسها اسم الوهابيّة تسعى في تخريب المساجد بحجة إحياء التوحيد!!

هؤلاء عمدوا إلى تخريب المساجد المبنيّة على قبور الأئمة والصالحين، والتي كانت مركزاً للذكر والدعاء والإِرتباط بالله وبخط الصالحين من آل الله. ومن الغريب أنهم يمارسون هذه الأعمال تحت عنوان مكافحة الشرك مرتكبين بذلك أفظع الكبائر.

ولو افترضنا حدوث ما يخالف الشرع في بعض هذه الأماكن الدينية من قبل الجهلة، فيجب الوقوف بوجه مثل هذه الأعمال، لا أن تتجه الجهود إلى تخريب هذه القواعد التوحيدية، فهذا عمل يشبه عمل المشركين الجاهليين.

2 ـ أكبر الظّلم

ومسألة اُخرى تلفت النظر في هذه الآية، هي وصفها مثل هؤلاء الأفراد بأنهم أظلم النّاس. وهم كذلك، لأن تعطيل المساجد وتخريبها ومنع ذكر الله فيها، يؤدي إلى ابتعاد النّاس عن الدين، وبالتالي إلى عواقب سيئة ومأساة اجتماعية عظيمة.

وصفة «الأظلم» ذكرها القرآن الكريم في مواضع اُخرى للحكاية عن كبائر اُخرى، لكن كل هذه الذنوب تعود إلى أصل واحد هو صدّ النّاس عن طريق التوحيد.

وسيأتي شرح ذلك أكثر في المجلد الرابع من هذا التّفسير عند الحديث عن الآية 21 من سورة الأنعام.

* * *

(347)

الآية

وَللهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمـَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ وَسِعٌ عَلِيمٌ(115)

سبب النّزول

اختلفت الروايات في سبب نزول هذه الآية:

روي عن ابن عباس أن الآية ترتبط بتغيير القبلة، فعندما تغيرت قبلة المسلمين من بيت المقدس إلى الكعبة بدأ اليهود يشككون قائلين: وهل من الممكن أن تتغير الكعبة؟ فنزلت الآية ترد عليهم وتقول إن المشرق والمغرب لله.

وروي أيضاً: أَنَّ الاية نَزَلْتْ فِي الصَّلاَةِ الْمُسْتَحبَّةِ يَسْتَطِيعُ الاِْنْسَانُ أَنْ يُؤَدِّيهَا عَلى رَاحِلَتِهِ أَيْنَمـَا اتَّجَهَتِ الرَّاحِلَةُ، دُونَ اشْتِرَاطِ الاِْتِّجَاهِ نَحوَ الْقِبْلَةِ.

وروي عن جابر أَنَّ الرَّسُولَ(صلى الله عليه وآله وسلم) بَعَثَ جَمَاعَةً فِي غَزْوَة، فَجَنَّ عَلَيْهِمُ اللَّيْلُ وَلَمْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يَعْرِفُوا اتِّجَاهَ الْقِبْلَةِ، فَصَلَّتْ كُلُّ مَجْمُوعَة صَوْبَ جهَة، وَبَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ سَأَلْوا النَّبيَّ عَنْ ذَلِكَ فَنَزَلَتِ الاْيَةُ الْكَرِيمَةُ (هذا الحكم له شروط طبعاً تذكره الكتب الفقهية).

ومن الممكن أن تكون أسباب النّزول المذكورة كلها ثابتة للآية، أضف الى

(348)

ذلك أن كل آية في القرآن لا تنحصر بأسباب نزولها، بل ينبغي أن يؤخذ مفهومها بشكل حكم عام، وربما استخرج منها أحكام متعددة.

التّفسير

أَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ:

الآية السابقة تحدثت عن الظالمين الذين يمنعون مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ويسعون في خرابها، وهذه الآية تواصل موضوع الآية السابقة فتقول: (وِللهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَايْنَمـَا تُولُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ).

تؤكد هذه الآية أن منع النّاس عن إحياء المساجد لا يقطع الطريق أمام عبودية الله، فشرق هذا العالم وغربه لله سبحانه، وأينما تولوا وجوهكم فالله موجود. وتغيير القبلة تمّ لظروف خاصة، وليس له علاقة بمكان وجود الله، فالله سبحانه وتعالى لا يحده مكان، ولذلك تقول الآية بعد ذلك: (إِنَّ اللهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ).

واضح أن المقصود بالمشرق والمغرب في الآية ليس هو الجهتين الخاصتين، بل هو كناية عن كل الجهات. كأن يقول أحد مثلا: أعداء علي(عليه السلام)سعوا للتغطية على فضائله، لكن فضائله انتشرت في شرق العالم وغربه، (أي في كل العالم). ولعل سبب شيوع استعمال الشرق والغرب في الكلام أن الإنسان يتعرف أولا على هاتين الجهتين، ثم يعرف بقية الجهات عن طريق هاتين الجهتين.

وفي آية اُخرى يقول القرآن الكريم: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مِشَارِقَ الاَْرْضِ وَمَغَارِبَهَا)(1)

* * *

___________________________

1 ـ الأعراف، 137.

(349)

1 ـ فلسفة القبلة

الله موجود في كل جهة ومكان، فلماذا وجب الإِتجاه نحو القبلة في الصلاة؟

واضح أن الإِتجاه نحو القبلة لا يعني تحديد ذات الباري تعالى في مكان وفي جهة، بل إن الإِنسان موجود مادي، ولابدّ أن يصلي باتجاه معين، ثم إن ضرورة الوحدة والتنسيق في صفوف المسلمين تفرض اتجاههم في الصلاة نحو قبلة واحدة، وإلاّ ساد الهرج والفوضى، وتفرّقت الصفوف وتشتتت.

أضف إلى ذلك أن الكعبة التي جعلت قبلة للمسلمين بقعة مقدسة ومن أقدم قواعد التوحيد، والإِتجاه نحوها يوقظ في النفوس ذكريات المسيرة التوحيدة.

2 ـ عبارة (وَجْهُ اللهِ) لا تعني هذا الوجه المتعارف، بل تعني ذات الله تعالى.

3 ـ استدلت الروايات بهذه الآية على صحة الصلاة إلى غير القبلة لسهو أو اضطرار، وعلى صحة الصلاة على ظهر الراحلة.

(لمزيد من التوضيح راجع وسائل الشيعة، كتاب الصلاة، باب القبلة).

* * *

(350)

الآيتان

وَقَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحَـنَهُ بَل لَّهُ مَا فِى السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَـنِتُونَ(116) بَدِيعُ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ(117)

التّفسير

خرافات اليهود والنصارى والمشركين

المسيحيون وجمع من اليهود والمشركون تبنّوا عقيدة تافهة بشأن اتخاذ الله ابناً.

قال سبحانه: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزِيرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)(1).

وقال عزّ شأنه: (قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ)(2).

وهناك آيات اُخرى ذكرت هذا المعتقد المنحرف.

وهذه الآية الكريمة التي نحن بصددها تقول: (وَقَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) ثم

___________________________

1 ـ التوبة، 30.

2 ـ يونس، 68.

(351)

تجيب عليهم أوّلا بتنزيه الله عن هذه النسبة: (سُبْحَانَهُ)، فما حاجة الله إلى الولد؟ هل هو محتاج إلى المساعدة أو إلى بقاء النسل؟! نعم، لا يمكن نسبة أي إحتياج إلى الله (بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ) وجميع الكون خاضع له (كُلُّ لَهُ قَانِتُونَ).

وليس هو مالك جميع موجودات الكون فحسب، بل هو خالقها ... بل مبدعها أي موجدها دون إحتياج إلى مادة أولية في هذا الإِيجاد (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ).

ما حاجة الله إلى الولد وهو النافذ الإِرادة في جميع الموجودات؟! (وَإِذَا قَضى أَمْراً فِإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)(1)

* * *

1 ـ دلائل نفي الولد

نسبة الولد إلى الله سبحانه، هي دون شك وليدة سذاجة فكرية، قائمة على أساس مقارنة كل شيء بالوجود البشري المحدود.

الإِنسان يحتاج إلى الولد لأسباب عديدة: فهو من جانب ذو عمر محدود يحتاج إلى توليد المثل لإِستمرار نسله.

ومن جهة اُخرى هو ذو قوّة محدودة تضعف بالتدريج، ويحتاج لذلك ـ وخاصة في فترة الشيخوخة ـ إلى من يساعده في أعماله.

وهو أيضاً ينطوي على عواطف وحبّ للأنيس، وذلك يتطلب وجود فرد أنيس في حياة الإِنسان، والولد يلبي هذه الحاجة.

___________________________

1 ـ غافر، 68.

(352)

واضح أن كل هذه الأُمور لا يمكن أن تجد لها مفهوماً بشأن الله سبحانه، وهو خالق عالم الوجود والقادر على كلّ شيء، وهوالأزلي الأبدي.

أضف إلى ذلك، الولد يستلزم أن يكون الوالد جسماً والله منزّه عن ذلك(1).

2 ـ تفسير (كُنْ فَيَكُونُ)

هذا التعبير ورد في آيات عديدة منها الآية 47 و59 من سورة آل عمران، والآية 73 من سورة الأنعام، والآية 40 من سورة النحل والآية 35 من سورة مريم، والآية 82 من سورة يس،و غيرها، والمراد منها الإِرادة التكوينية لله تعالى وحاكميته في الخليقة.

بعبارة أوضح: المقصود من جملة (كُنْ فَيَكُونُ) ليس هو صدور الأمر اللفظي «كُنْ» من قبل الله تعالى، بل المقصود تحقق إرادة الله سبحانه حينما تقتضي إيجاد شيء من الأشياء، صغيراً بحجم الذّرة كان، أم كبيراً بحجم السماوات والأرض، بسيطاً كان أم معقداً، دون أن يحتاج في ذلك الإِيجاد إلى أية علّة اُخرى، ودون أن تكون هناك أية فترة زمنية بين الإِرادة والإِيجاد.

لا يمكن للزمان أن يفصل بين الأمر والكينونة، ولذلك فإن الفاء في جملة «فَيَكُون»، لا تدل على تأخير زمني كما هو الحال في الجمل الاُخرى، بل إنها تدل فقط على التأخير في الرتبة (الفلسفة أثبتت تأخر المعلول عن العلة، وهذا التأخر ليس زمنياً، بل في الرتبة ـ تأمل بدقة ـ).

ليس المقصود أن الشيء يصبح موجوداً متى ما أراد الله ذلك، بل المقصود أن الشيء يصبح موجوداً بالشكل الذي أراده الله.

على سبيل المثال، لو أراد الله أن يخلق السماوات والأرض في ستة أيّام،

___________________________

1 ـ هذه المسألة بحثناها في سورة الأنبياء، الآية 26، المجلد العاشر من هذا التّفسير.

(353)

لكان ذلك، دون زيادة أو نقص، ولو أراد أن توجد في لحظة واحدة لوجدت بأجمعها في لحظة واحدة، فذلك تابع لكيفية إرادته ولما يراه من مصلحة.

ولو شاء الله ـ مثلا ـ أن يبقى الجنين في رحم أمه تسعة أشهر وتسعة أيّام ليطوي مراحل تكامله، لما زادت هذه المدة وما نقصت. أمّا لو شاء أن يطوي هذا الجنين مراحل تكامله خلال لحظة واحدة لحدث ذلك قطعاً، لأن إرادته علّة تامّة للخليقة، ولا يمكن أن توجد فاصلة بين العلة التامة ووجود المعلول.

3 ـ كيف يوجد الشيء من العدم؟

كلمة «بَدِيعُ» من «بدع»، والإبداع إنشاء صنعة بلا احتذاء واقتداء منه، وفي الآية بمعنى إيجاد الشيء من غير مادة سابقة(1).

والسّؤال الذي يطرح في هذا المجال يدور حول إمكان إيجاد الشيء من العدم، فكيف يمكن للعدم ـ وهو نقيض الوجود ـ أن يكون منشأ للوجود؟ وهذه هي الشبهة التي يوردها الماديون في مسألة «الإبداع» ليستنتجوا منها أن المادة الأصلية للعالم أزلية أبدية، ولا يطرأ عليها وجود وعدم إطلاقاً.

الجواب

في المرحلة الاُولى، يوجّه نفس هذا الإِعتراض إلى الماديين فهؤلاء يعتقدون أن مادة هذا العالم قديمة أزلية، ولم ينقص منها شيء حتى الآن، والذي نراه يتغير هو «الصورة» وحدها، لا أصل المادة. ونحن بدورنا نسأل: كيف وجدت الصورة الحالية للمادة ولم تكن موجودة من قبل؟ هل وجدت من العدم؟ إذا كان كذلك، فكيف يمكن للعدم أن يكون منشأ للوجود؟ (تأمل بدقّة).

___________________________

1 ـ المفردات، مادة بَدَعَ.

(354)

على سبيل المثال، يقول الماديون في لوحة زيتية مرسومة على ورقة أنّ زيوت التلوين كانت موجودة، ونحن نسأل: كيف وجدت هذه «الصورة» التي لم تكن موجودة من قبل؟

كل جواب يقدمونه بشأن إيجاد «الصورة» من «العدم» نقدمه نحن أيضاً بشأن إيجاده «المادة».

وفي المرحلة الثانية، ينبغي التأكيد على أن خطأ الماديين ناتج عن كلمة «من». هؤلاء تصوروا قولنا: (أن العالم وجد من العدم) شبيه بقولنا (أن المنضدة وجدت من الخشب) حيث لابدّ من وجود الخشب أوّلا لكي توجد المنضدة. بينما جملة «وجود العالم من العدم» لا تعني ذلك. بل تعني «أن العالم لم يكن موجوداً ثم وجد». وهل في هذه العبارة تضاد أو تناقض؟!

وبالتعبير الفلسفي: كل موجود ممكن (الذي لا يملك الوجود ذاتياً) له جانبان: ماهية ووجود، «الماهية» هي «المعنى الإِعتباري» الذي يتساوى في نسبته للعدم والوجود. بعبارة اُخرى، الماهية هي المقدار المشترك الذي نفهمه من ملاحظة وجود شيء وعدمه. فهذه الشجرة لم تكن موجودة سابقاً وهي موجودة الآن، والشخص الفلاني لم يكن موجوداً سابقاً وهو الآن موجود، وما أسندنا إليه الحالتين (الوجود والعدم) هي «الماهية».

من هنا يكون معنى قولنا (إن الله أوجد العالم من العدم) هو أنه سبحان نقل الماهية من حالة العدم إلى حالة الوجود، وبعبارة اُخرى وضع لباس «الوجود» على جسد «الماهية»(1).

* * *

___________________________

1 ـ راجع لمزيد من التوضيح كتاب: خالق العالم.

(355)

الآيتان

وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْتَأْتِينَآ ءَايَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَـبَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الاَْيَـتِ لِقَوْم يُوقِنُونَ(118) إنَّآ أَرْسَلْنَـكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلاَ تُسْئَلُ عَنْ أَصْحَـبِ الْجَحِيمِ(119)

التّفسير

حجج اُخرى

بمناسبة ذكر حجج اليهود في الآيات السابقة، تتحدث الآية عن حجج مجموعة اُخرى من المعاندين ويبدو أنهم المشركون العرب فتقول: (وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ).

هؤلاء الجاهلون ـ أو الذين لا يعلمون ـ بتعبير الآية، طرحوا طلبين بعيدين عن المنطق، طلبوا:

1 ـ أن يكلمهم الله: (لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللهُ).

2 ـ أن تنزل عليهم آية: (أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ).

والقرآن يجيب على هذه الطلبات التافهة قائلا: (كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الاْيَاتِ لِقَوْم يُوقِنُونَ).

(356)

لو أن هؤلاء يستهدفون حقاً إدراك الحقيقة، ففي هذه الآيات النازلة على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) دلالة واضحة بينة على صدق أقواله، فما الداعي إلى نزول آية مستقلة على كل واحد من الأفراد؟! وما معنى الإصرار على أن يكلمهم الله مباشرة؟!

مثل هذا الطلب تذكره الآية 52 من سورة المدثر: (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِيء مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً).

مثل هذا الطلب لا يمكن أن يتحقق، لأن تحققه ـ إضافة إلى عدم ضرورته ـ مخالف لحكمة الباري سبحانه، لما يلي:

أوّلا: إثبات صدق الأنبياء للناس كافة أمر ممكن عن طريق الآيات التي تنزل عليهم.

ثانياً: لايمكن للآيات والمعاجز أن تنزل على أي فرد من الأفراد، فذلك يتطلب نوعاً من اللياقة والإِستعداد والطّهارة الرّوحية. فالأسلاك الكهربائية تتحمل من التيّار ما يتناسب مع ضخامتها. الأسلاك الرقيقة لا تتحمل التّيار العالي، ولايمكن أن تتساوى بالأسلاك الضخمة القادرة على توصيل التّيارات العالية . والمهندس يفرّق بين الأسلاك التي تستقبل التّيارات العالية من المولدات مباشرة، والأسلاك التي تنقل التيّار الواطيء داخل البيوت.

الآية التالية تخاطب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وتبين موقفه من الطلبات المذكورة وتقول: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً).

فمسؤولية الرّسول بيان الأحكام الإِلهية، وتقديم المعاجز، وتوضيح الحقائق، وهذه الدعوة ينبغي أن تقترن بتبشير المهتدين وإنذار العاصين وهذه مسؤوليتك أيّها الرّسول، وأما الفئة التي لا تذعن للحق بعد كل هذه الآيات فانت غير مسؤول عنها: (وَلاَ تُسْئَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ).

* * *

(357)

بحثان

1 ـ (تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ)

مرّ علينا في الآية أن القرآن يصف الحجج الواهية التي يطرحها المعاصرون لصاحب الرسالة الخاتمة، بأنها شبيهة بتلك التي كان يتذرع بها المنحرفون من الأمم السابقة، فقلوبهم متشابهة.

القرآن يشير بهذا التقريع واللوم إلى أنّ مرور الزمن ينبغي أن يكون عاملا على زيادة وعي الأجيال البشرية، وعلى تفهّم هذه الأجيال اللاحقة أكثر من السابقة لتعاليم الأنبياء، لكن مرور الزمن لا يرفع مستوى المنحرفين، بل يبقى خط الإِنحراف واحداً متشابهاً على مرّ الأجيال وكأنها متعلقة بالآف الأعوام السالفة.

2 ـ أصلان تربويان

«البشارة» و«الإِنذار» أو «التشجيع» و«التهديد» من أهم الأُصول اللازمة للتربية وللحركة الإِجتماعية. ينبغي أن يلقي الفرد تشجيعاً على أعماله الصالحة، وتوبيخاً على أعماله الطالحة، كي يواصل مسيره الأول، ويرتدع عن ارتياد المسير الثاني.

«التشجيع» وحده لا يكفي لدفع الفرد والمجتمع على طريق التكامل، لأن الانسان سوف يكون مطمئناً من عدم الخطر في حالة إرتكاب المعاصي.

على سبيل المثال، نرى ارتكاب المعاصي بين النصارى الحاليين أمراً عادياً، لأنهم يعتقدون بالفداء، أي بأن السيد المسيح(عليه السلام) قد ضحى بنفسه لغفران ذنوب أتباعه، أو لإِعتقادهم بأن أحبارهم قادرون أن يغفروا لهم ذنوبهم بسبل شتى، منها منحهم صكوك الغفران. أو يبيعون لهم الجنّة مثل هؤلاء القوم يسمحون لأنفسهم إرتكاب الذنوب بسهولة.

جاء في قاموس الكتاب المقدس: «... الفداء أيضاً إشارة إلى كفارة دم

(358)

المسيح، الذي أخذ على عاتقه كل ذنوبنا وتحمل ذنوبناً في جسده على الصليب».

هذا المنطق يجعل الأفراد دون شك جريئين على إرتكاب المعاصي.

بعبارة اُخرى، من يرى أن التشجيع وحده كاف لتربية الإِنسان (طفلا كان أم كبيراً)، وضرورة ترك التهديد والتقريع، فهو مجانب للصواب ومخطئ تماماً.

وهكذا أُولئك الذين يعتقدون أن التربية ينبغي أن تقوم على أساس التخويف والتأنيب لا غير.

الفريقان المذكوران خاطئان في فهم الإِنسان، حيث إن الإِنسان يتجاذبه كلّ الخوف والرجاء، حبّ الذات وكره الفناء، تحصيل المنفعة ودفع الضرر. وهل يمكن لموجود يحمل في ذاته هذين البعدين أن يربّى وفق بعد واحد؟!

والتعادل ضروري بين هذين الجانبين، فلو تجاوز التشجيع حدّه لأدّى إلى التجرؤ والغفلة، ولو تعدّى التخويف حدّه لبعث على اليأس والقنوط وانطفاء شعلة الشوق والتحرك في النفوس.

ممّا سبق نفهم سبب إقتران البشارة بالإِنذار أو «البشير» بـ«النذير» في القرآن الكريم، فتارة تقدم كلمة البشير على النذير كالآية التي نحن بصددها: (بَشيراً وَنَذِيراً) وتارة تقدم كلمة النذير كقوله تعالى في الآية 188 من سورة الأعراف: (إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْم يُؤْمِنُونَ).

واكثر الآيات القرآنية في هذا المورد تتقدم فيها صفة البشير، ولعل ذلك يعود إلى أن رحمة الله من حيث المجموع سابقة على غضبه: (يَا مَنْ سَبَقَتْ رَحْمَتُهُ غَضَبَهُ).

* * *

(359)

الآيتان

وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَـرَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَآءَ هُم بَعْدَ الَّذِى جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَالَكَ مِنَ اللهِ مِن وَلِىٍّ وَلاَ نَصِير(120) الَّذِينَ ءَاتَيْنَـهُمُ الْكِتَـبَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَـئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْبِهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَـسِرُونَ(121)

أسباب النّزول

روي عن ابن عباس بشأن نزول الآية الاُولى أن يهود المدينة ونصارى نجران، كانوا يأملون أن تكون قبلة المسلمين موافقة دائماً لقبلتهم، فلمّا تغيّرت قبلة المسلمين من بيت المقدس إلى الكعبة يئسوا من نبي الإِسلام.

ولعل بعض المسلمين لم يرق له هذا التغيير، لرغبته أن لا يحدث عملا يؤدي إلى إزعاج اليهود والنصارى(1).

الآية الاُولى نزلت لتعلن للنبي أن هذه الفئة من اليهود والنصارى لا ترضى

___________________________

1 ـ تفسير أبي الفتوح الرازي، وتفسير الفخر الرازي (مع اختلاف بسيط).

(360)

عنك بالإِشتراك في قبلتهم ولا بأي شيء آخر، إلاّ أن تقبل كلَّ ما يتبعونه.

وقيل: إن الآية نزلت إثر إصرار النّبي على إرضاء أهل الكتاب طمعاً في قبولهم الإِسلام، فنزلت الآية لتؤكد أن رضى هؤلاء غاية لا تدرك إلا بإعتناق دينهم(1).

وبشأن نزول الآية الثانية وردت روايات مختلفة، قيل إنها نزلت فيمن إلتحق بجعفر بن أبي طالب لدى عودته من الحبشة وهم أربعون نفراً، إثنان وثلاثون من أهل الحبشة وثمانية رهبان فيهم «بحيرا» الراهب المعروف. وقيل إنّها نزلت في يهود أسلموا وحسن إسلامهم من أمثال: عبد الله بن سلام وسعيد بن عمرو، وتمام بن يهودا(2).

التّفسير

إرضاء هذه المجموعة محال

الآية السابقة رفعت المسؤولية عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) إزاء الضالين المعاندين. والآية أعلاه تواصل الموضوع السابق وتخاطب الرّسول بأن لا يحاول عبثاً في كسب رضا اليهود و النصارى لأنه: (وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارى حَتَّى تَتَّبعَ مِلَّتَهُمْ).

واجبك أن تقول لهم: (إِنَّ هُدى اللهِ هُوَ الهُدى)، هدى الله هو الهدى البعيد عن الخرافات وعن الأفكار التافهة التي تفرزها عقول الجهّال، ويجب إتباع مثل هذا الهدى الخالص.

ثم تقول الآية: (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ نَصِير).

___________________________

1 ـ مجمع البيان، الآية المذكورة.

2 ـ تفسير أبي الفتوح الرازي، ومجمع البيان.

(361)

وبعد أن ذمّ القرآن الفئة المذكورة من اليهود والنصارى، أشاد بأُولئك الذين آمنوا من أهل الكتاب وانضموا تحت راية الرسالة الخاتمة (أَلَّذِينَ اتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ ـ اي بالتفكر والتدبر ثم العمل به ـ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) أي يؤمنون بالرّسول الكريم(صلى الله عليه وآله وسلم) (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ).

هؤلاء كانوا قد تلوا كتابهم السماوي حقّاً، وكان ذلك سبب هدايتهم، فهم قرأوا فيه بشارات ظهور النّبيّ الموعود، وقرأوا صفاته المنطبقة مع صفات نبيّ الإِسلام(صلى الله عليه وآله وسلم)فآمنوا به، والله مدحهم وأشاد بهم.

* * *

1 ـ سؤال عن عصمة الأنبياء

العبارة القرآنية: (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ) قد تثير سؤالا بشأن عصمة الأنبياء، فهل يمكن للنبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ وهو معصوم ـ أن يتبع أهواء المنحرفين من اليهود والنصارى؟

في الجواب نقول: مثل هذه التعبيرات تكررت في القرآن الكريم، ولا تتعارض مع مقام عصمة الأنبياء، لأنها ـ من جهة ـ جملة شرطية، والجملة الشرطيّة لا تدل على تحقق الشرط.

ومن جهة اُخرى، عصمة الأنبياء لا تجعل الذنب على الأنبياء محالا، بل المعصوم له قدرة على إرتكاب الذنب، ولم يسلب منه الإِختيار، ومع ذلك لم يتلوث بالذنوب. بعبارة اُخرى: إن المعصوم قادر على الذنب، ولكن إيمانه وعلمه وتقواه بدرجة لا تجعله يتجه معها إلى ذنب. من هنا فالتحذيرات المذكورة بشأنهم مناسبة تماماً.

من جهة ثالثة، هذا الخطاب وإن اتجه إلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ولكن قد يكون موجهاً

(361)

إلى النّاس جميعاً.

2 ـ للإِسترضاء حدود

صحيح أن الإِنسان الرّسالي يجب أن يسعى بأخلاقه إلى جذب الأعداء إلى صفوف الدعوة، لكن مثل هذا الموقف يجب أن يكون تجاه المخالفين المرنين الليّنين، أما الموقف تجاه المعاندين المتصلبين فينبغي أن يكون غير ذلك. لا يجوز إهدار الوقت مع هؤلاء، بل لابدّ من الإِعراض عنهم وتركهم.

3 ـ إنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى

نفهم من الآية المذكورة أن القانون الوحيد القادر على إنقاذ البشرية هو قانون الهداية الإِلهية، لأن علم البشر ـ مهما قدر له من التكامل ـ يبقى مخلوطاً بالجهل والشك والقصور في جهات مختلفة. والهداية في ضوء مثل هذا العلم الناقص لا يمكن أن تكون هداية مطلقة، ولا يستطيع أن يضع للإنسان برنامج «الهداية المطلقة» إلا من له «علم مطلق»، ومن هو خال من الجهل والنقص، وهو الله وحده.

4 ـ حق التلاوة

عبر القرآن عن الفئة المهتدية من أهل الكتاب بأنهم (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ)، وهو تعبير عميق يرسم لنا سبيلا واضحاً تجاه القرآن الكريم والكتب السماوية، فالنّاس أمام الآيات الإِلهية على أقسام:

قسم يكرسون اهتمامهم على أداء الألفاظ بشكل صحيح وعلى قواعد التجويد، ويشغل ذهنهم دوماً الوقف والوصل والإِدغام والغنّة في التلاوة، ولا يهتمون إطلاقاً بمحتوى القرآن فما بالك بالعمل به! وهؤلاء بالتعبير القرآني (كَمَثَلِ

(363)

الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً)(1).

وقسم يتجاوز إطار الألفاظ، ويتعمق في المعاني، ويدقّق في الموضوعات القرآنية، ولكن لا يعمل بما يفهم!

وقسم ثالث، وهو المؤمنون حقّاً، يقرأون القرآن باعتباره كتاب عمل، ومنهجاً كاملا للحياة، ويعتبرون قراءة الألفاظ والتفكير في المعاني وإدراك مفاهيم الآيات الكريمة مقدمة للعمل، ولذلك تصحو في نفوسهم روح جديدة كلما قرأوا القرآن، وتتصاعد في داخلهم عزيمة وإرادة واستعداد جديد للأعمال الصالحة، وهذه هي التلاوة الحقة.

ورد عن الإِمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام) في تفسير هذه الآية: «يُرَتِّلُونَ آيَاتِهِ، وَيَتَفَقَّهُونَ بِهِ، وَيَعْمَلُونَ بِأَحْكَامِهِ، وَيَرْجُونَ وَعْدَهُ، وَيَخَافُونَ وَعِيدَهُ، وَيَعْتَبِرُونَ بِقِصَصِهِ، ويَأْتَمِرُونَ بِأَوَامِرِهِ، وَيَنْتَهُونَ بِنَوَاهِيهِ، مَا هُوَ وَاللهِ حفظُ آيَاتِهِ وَدَرسُ حُرُوفِه، وَتِلاَوَةُ سُوَرِهِ وَدَرسُ أَعْشَارِهِ وَأَخْمَاسِهِ(2)، حَفِظُوا حُرُوفَهُ وَأَضَاعُوا حُدُودَهُ، وإِنَّمَا هُوَ تَدَبُّرُ آيَاتِهِ وَالْعَمَلُ بِأَرْكَانِهِ، قَالَ الله تَعالى: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ)(3)».

* * *

___________________________

1 ـ الجمعة، 5.

2 ـ المقصود من الأعشار والأخماس تقسيمات القرآن.

3 ـ الميزان، نقلا عن إرشاد الديلمي.

(364)

الآيتان

يَـبَنِى إِسْرَ ءِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِىَ الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَـلَمِينَ(122) وَاتَّقُوا يَوْماً لاَّتَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْس شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَـعَة وَلاَهُمْ يُنصَرُونَ(123)

التّفسير

مرّة اُخرى يتجه الخطاب الإِلهي إلى بني إسرائيل ليذكرهم بالنعم التي اُحيطوا بها، وخاصة نعمة تفضيلهم على أُمم زمانهم، فتقول الآية: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ) أي على كل من كان يعيش في ذلك الزمان.

كل نعمة تقترن بمسؤولية، وتقترن بإلتزام وتكليف إلهي جديد، ولذلك قال سبحانه في الآية التالية: (وَاتَّقُوا يَوْماً لاَ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْس شَيْئاً) ... (وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ) أي غرامة أو فدية، (وَلاَ تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ) إلاّ بإذن الله، ولا يستطيع أحد غير الله أن يساعد أحداً (وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ).

فكل سُبل النجاة التي تتوسلون بها في هذه الدنيا موصدة يوم القيامة،

(365)

والطريق الوحيد المفتوح أمامكم هو طريق الإيمان والعمل الصالح، وطريق التوبة من الذنوب.

هذه المفاهيم مطروحة في الآيتين 47 و 48 من هذه السورة حيث تعرضنا لها بالتفصيل، ونكتفي هنا بهذا القدر.

* * *

(366)

الآية

وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَـت فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِى قَالَ لاَيَنَالُ عَهْدِى الظّـلِمِينَ(124)

التّفسير

الإِمامة قمة مفاخر إبراهيم(عليه السلام)

هذه الآية وما بعدها تتحدث عن بطل التوحيد نبي الله الكبير إبراهيم على نبيّنا وعليه الصلاة والسلام، وعن بناء الكعبة وأهمية هذه القاعدة التوحيدية العبادية.

والهدف من هذه الآيات ـ وعددها ثماني عشرة آية ـ ثلاثة أُمور:

أوّلا: أن تكون مقدمة لمسألة تغيير القبلة التي ستطرح بعد ذلك، كي يعلم المسلمون أن هذه الكعبة من ذكريات إبراهيم محطم الأصنام، ولكي يفهموا أن التلويث الذي طرأ على الكعبة إذ حولها المشركون إلى بيت للأصنام، إنما هو تلويث سطحي لا يحط من قيمة الكعبة ومكانتها.

ثانياً: لفضح ادعاءات اليهود والنصارى بشأن انتسابهم لإِبراهيم، وأنهم ورثة

(367)

دينه وطريقته، ولتوضيح مدى ابتعاد هؤلاء عن ملة إبراهيم.

ثالثاً: لتفهيم مشركي العرب أيضاً ببعدهم عن منهج النّبي الكبير محطم الأصنام، والرّد على ما كانوا يتصورونه من ارتباط بينهم وبين إبراهيم.

الآية الكريمة تقول أوّلا: (وَإِذَ ابْتَلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَات فَأَتَمَّهُنَّ).

هذه الفقرة من الآية تشير إلى الإختبارات المتتالية التي اجتازها إبراهيم(عليه السلام)بنجاح، وتبين من خلالها مكانة إبراهيم وعظمته وشخصيته.

وبعد أن اجتاز هذه الإختبارات بنجاح استحق أن يمنحه الله الوسام الكبير (قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إمَاماً).

وهنا تمنّى إبراهيم(عليه السلام) أن يستمر خط الإِمامة من بعده، وأن لا يبقى محصوراً بشخصه (قَالَ وَمِنْ ذُرّيَّتِي).

لكن الله أجابه: (قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ).

وقد استجيب طلب إبراهيم(عليه السلام) في استمرار خط الإِمامة في ذريَّته، لكن هذا المقام لا يناله إلاّ الطاهرون المعصومون من ذريّته لا غيرهم.

* * *

1 ـ المقصود من «الكلمات»

من دراسة آيات القرآن الكريم بشأن إبراهيم(عليه السلام)، و ما أدّاه هذا النّبي العظيم من أعمال جسيمة استحق ثناء الله، نفهم أن المقصود من الكلمات هو مجموعة المسؤوليات والمهام الثقيلة الصعبة التي وضعها الله على عاتق إبراهيم(عليه السلام)، فحملها وأحسن حملها، وأدّى ما عليه خير أداء، وهي عبارة عن:

أخذ ولده إلى المذبح والإِستعداد التام لذبحه، إطاعة لأمر الله سبحانه.

إسكان الزوج والولد في واد غير ذي زرع بمكة، حيث لم يسكن فيه إنسان.

(368)

النهوض بوجه عَبَدة الأصنام وتحطيم الأصنام، والوقوف ببطولة في تلك المحاكمة التاريخية، ثم إلقاؤه في وسط النيران. وثباته ورباطة جأشه في كل هذه المراحل.

الهجرة من أرض عبدة الأصنام والإِبتعاد عن الوطن، والإِتجاه نحو أصقاع نائية لأداء رسالته ... وأمثالها(1).

كان كل واحد من هذه الإِختبارات ثقيلا وصعباً حقّاً، لكنه بقوة إيمانه نجح فيها جميعاً، وأثبت لياقته لمقام «الإِمامة».

* * *

2 ـ من هو الإِمام؟

يتبين من الآية الكريمة التي نحن بصددها، أن منزلة الإِمامة الممنوحة لإبراهيم(عليه السلام) بعد كل هذه الإِختبارات، تفوق منزلة النّبوة والرسالة.

ولتوضيح ذلك نقول: إن للإِمامة معاني مختلفة:

1 ـ الإِمامة بمعنى الرئاسة والزعامة في أُمور الدنيا، (قال بذلك فريق من علماء أهل السنة).

2 ـ الإِمامة بمعنى الرئاسة في أُمور الدين و الدنيا، (قال بذلك فريق آخر من علماء أهل السنة).

3 ـ الإِمامة بمعنى تحقيق المناهج الدينية بما في ذلك منهج الحكم بالمعنى الواسع للحكومة، وإجراء الحدود وأحكام الله، وتطبيق العدالة الإِجتماعية، وتربية الأفراد في محتواهم الداخلي وفي سلوكهم الخارجي. وهذه المنزلة أسمى من منزلة النّبوة والرسالة، لأن منزلة النّبوة والرسالة تقتصر على إبلاغ أوامر الله، والبشارة والإِنذار، أمّا الإِمامة فتشمل مسؤوليات النّبوة والرسالة إضافة إلى

___________________________

1 ـ روي عن ابن عباس أنه استخرج اختبارات إبراهيم من أربع سور قرآنية فكانت ثلاثين موضعاً (تفسير المنار، تفسير الآية المذكورة)، وخلاصتها ما ذكرناه.

(369)

«إجراء الأحكام» و«تربية النفوس ظاهرياً وباطنياً» (من الواضح أن كثيراً من الأنبياء كانوا يتمتعون بمنزلة الإِمامة).

منزلة الإِمامة هي في الحقيقة منزلة تحقيق أهداف الدين والهداية، أي «الإِيصال إلى المطلوب»، وليست هي «إراءة الطريق» فحسب.

ومضافاً لما سبق فانّ الإِمامة تتضمن أيضاً على «الهداية التكوينية»، أي النفوذ الروحي للإِمام، وتأثيره على القلوب المستعدة للهداية المعنوية (تأمل بدقّة).

الإمام في ذلك يشبه الشمس التي تبعث الحياة في النباتات، فكذلك دور الامام في بعث الحياة الروحية والمعنوية في الكائنات الحيّة؟.

يقول سبحانه: (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً)(1).

ومن هذه الآية نفهم بوضوح أن رحمة الله الخاصة والمعونة الغيبية للملائكة بامكانها أن تخرج المؤمنين من الظلمات إلى النور.

هذا الموضوع يصدق على الإِمام أيضاً، فالقوّة الروحية للإِمام وللأنبياء الحائزين على منزلة الإِمامة وخلفائهم، لها التأثير العميق على تربية الأفراد المؤهلين، وإخراجهم من ظلمات الجهل والضلالة إلى نور الهداية.

لا شك أن المراد من الإِمامة في الآية التي نحن بصدد تفسيرها هو المعنى الثالث للإمامة، لأنّه يستفاد من آيات متعددة أن مفهوم «الإمامة» ينطوي على مفهوم «الهداية»، كقوله تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ)(2).

هذه الهداية لا تعني إراءة الطريق، لأن إبراهيم(عليه السلام) كانت له قبل ذلك مكانة

___________________________

1 ـ الأحزاب، 43.

2 ـ السجدة، 24.

(370)

النّبوة والرسالة، أي مكانة إراءة الطريق.

القرائن الواضحة تشير إلى أن منزلة الإِمامة الممنوحة لإِبراهيم(عليه السلام) بعد الإِمتحانات العسيرة، واجتياز مراحل اليقين والشجاعة والإِستقامة، هي غير منزلة البشارة والإِبلاغ والإِنذار.

إذن، الهداية التي يتضمنها مفهوم الإِمامة ما هي إلاّ «الإِيصال إلى المطلوب» و«تحقيق روح الدين»، وتطبيق المناهج التربوية في النفوس المستعدة.

هذا الحقيقة يوضحها بإجمال حديث عميق المعنى روي عن الإِمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام) يقول:

«إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالى اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ عَبْداً قَبْلَ أَنْ يَتَخِذَهُ نَبِيّاً، وإِنَّ اللهَ اتَّخَذَهُ نَبِيّاً قَبْلَ أَنْ يَتَّخِذَهُ رَسُولا، وَإِنَّ اللهَ اتَّخَذَهُ رَسُولا قَبْلَ أَنْ يَتَّخِذَهُ خَلِيلا، وَإِنَّ اللهَ اتَّخَذَهُ خَلِيلا قَبْلَ أَنْ يَجْعَلَهُ إِمَاماً، فَلَمَّا جَمَعَ لَهُ الاَْشْيَاءَ، قَالَ: (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً) قَالَ: فَمِنْ عِظَمِهَا فِي عَيْنِ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) قَالَ: لاَ يَكُونُ السَّفِيهُ إِمامَ التَّقِيِّ»(1).

* * *

3 ـ الفرق بين النّبوة والإِمامة والرسالة

يفهم من الآيات الكريمة والمأثور عن المعصومين، أن حَمَلة المهمات من قبل الله تعالى لهم منازل مختلفة:

1 ـ منزلة النّبوة: أي إستلام الوحي من الله، فالنبي هو الذي ينزل عليه الوحي، ومايستلمه من الوحي يعطيه للنّاس إن طلبوا منه ذلك.

2 ـ منزلة الرسالة: وهي منزلة إبلاغ الوحي، ونشر أحكام الله، وتربية الأفراد عن طريق التعليم والتوعية. فالرّسول إذن هو المكلف بالسعي في دائرة مهمته

___________________________

1 ـ أصول الكافي، ج 1، باب طبقات الأنبياء والرسل والأئمة، ص 133.

(371)

لدعوة النّاس إلى الله وتبليغ رسالته، وبذل الجهد لتغيير فكري عقائدي في مجتمعه.

3 ـ منزلة الإِمامة: وهي منزلة قيادة البشرية، فالإِمام يسعى إلى تطبيق أحكام الله عملياً عن طريق إقامة حكومة إلهية وإستلام مقاليد الأمور اللازمة. وإن لم يستطع إقامة الدولة يسعى قدر طاقته في تنفيذ الأحكام.

بعبارة اُخرى، مهمة الإِمام تنفيذ الأوامر الإِلهية، بينما تقتصر مهمة الرّسول على تبليغ هذه الأوامر. وبتعبير آخر أيضاً، مهمة الرّسول، إراءة الطريق، ومهمة الإِمام «الإِيصال إلى المطلوب» (إضافة إلى المهام الثقيلة الاُخرى المذكورة).

من نافلة القول أن كثيراً من الأنبياء كنبيّ الإِسلام عليه أفضل الصلاة والسلام حازوا على المنازل الثلاث، كانوا يستلمون الوحي، ويبلغون أوامر الله، ويسعون إلى أقامة الحكومة وتنفيذ الأحكام، وينهضون ـ بما لهم من تأثير روحي ـ بمهمة تربية النفوس.

الإِمامة ـ بعبارة موجزة ـ هي منزلة القيادة الشاملة لجميع المجالات المادية والمعنوية والجسمية والروحية والظاهرية والباطنية. الإِمام رئيس الدولة وزعيم المجتمع ومعلم الأخلاق وقائد المحتوى الداخلي للأفراد المؤهلين.

فهو بقوّته المعنوية يقود النفوس المؤهلة على طريق التكامل.

وبقدرته العلمية يعلم الجهلة.

وبقوّة حكومته أو أية قوّة تنفيذية اُخرى يطبق مبادي العدالة.

* * *

4 ـ الإِمامة آخر مراحل مسيرة إبراهيم التكاملية

بما تقدم في بيان حقيقة الإِمامة يتضح أنه من الممكن أن تكون لشخص منزلة النّبوة وتبليغ الرسالة، بينما لا تكون له منزلة الإِمامة. وهذه المنزلة تحتاج إلى مؤهلات كثيرة في جميع المجالات. وهي المنزلة التي نالها إبراهيم(عليه السلام) بعد كل

(372)

هذه الإمتحانات والمواقف العظيمة، وكانت آخر مرحلة من مراحل مسيرته التكاملية.

من ذهب إلى أن الإِمامة هي «أن يكون الفرد لائقاً ونموذجياً» فقط، ما فهم أن هذه الصفة كانت موجودة في إبراهيم(عليه السلام) منذ بداية النّبوة.

ومن قال إنّ المقصود من الإِمامة «أن يكون الفرد قدوة»، فاته أن هذه صفة جميع الأنبياء منذ ابتدائهم بدعوة النّبوة، ولذلك وجب أن يكون النّبي معصوماً لأن أعماله قدوة للآخرين.

من هنا، فمنزلة الإِمامة أسمى ممّا ذكر، بل أسمى من النّبوة والرسالة، وهي المنزلة التي نالها إبراهيم من قبل الله بعد أن اجتاز الإِمتحان تلو الإِمتحان.

* * *

5 ـ مَنِ الظّالم؟

المقصود من «الظلم» في التعبير القرآني: (لاَ يَنَالُ عهدِي الظَّالِمِينَ) لا يقتصر على ظلم الآخرين، بل الظلم (مقابل العدل)، وقد استعمل هنا بالمعنى الواسع للكلمة، ويقع في النقطة المقابلة للعدل: وهو وضع الشيء في محله.

فالظلم إذن وضع الشخص أو العمل أو الشيء في غير مكانه المناسب.

ولما كانت منزلة الإِمامة والقيادة الظاهرية والباطنية للبشرية منزلة ذات مسؤوليات جسيمة هائلة عظيمة، فإن لحظة من الذنب والمعصية خلال العمر تسبب سلب لياقة هذه المنزلة عن الشخص.

لذلك نرى أئمة آل البيت(عليهم السلام) يثبتون بهذه الآية تعيّن الخلافة بعد النّبي مباشرة لعلي(عليه السلام) وإنحصارها به، مشيرين إلى أن الآخرين عبدوا الأصنام في الجاهلية، وعليّ(عليه السلام) وحده لم يسجد لصنم. وأيّ ظلم أكبر من عبادة الأصنام؟! ألم يقل لقمان

(373)

لابنه: (يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)(1)؟!

من هذه الإستدلالات ما رواه هشام بن سالم عن الإِمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام) قال: «قَدْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ نَبِيّاً وَلَيْسَ بِإِمَام، حَتِّى قَالَ اللهُ: (إنّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً، قَالَ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي، فَقَالَ اللهُ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)، مَنْ عَبَدَ صَنَماً أَوْ وَثَناً لاَ يَكُونُ إِمَاماً»(2).

وفي حديث آخر عن عبد الله بن مسعود عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): «إِنَّ اللهَ قَالَ لإِبْرَاهِيمَ: «لاَ أَعْطِيَكَ عَهْداً لِلظَّالِمِ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ، قَالَ: يَا رَبِّ وَمَنِ الظَّالِمُ مِنْ وَلِدي الَّذِي لا يَنَالُ عَهْدَكَ؟ قَالَ: مَنْ سَجَدَ لِصَنَم مِنْ دُونِي لاَ أَجْعَلُهُ إِمَاماً أَبَداً، وَلاَ يَصْلَحُ أن يكون إِمَاماً»(3).

* * *

6 ـ تعيين الامام من قبل الله

من الآية مورد البحث نفهم ضمنياً أن الإِمام (القائد المعصوم لكل جوانب المجتمع) يجب أن يكون معيناً من قبل الله سبحانه، لما يلي:

أوّلا: الإِمامة ميثاق إلهي، وطبيعي أن يكون التعيين من قبل الله، لأنه طرف هذا الميثاق.

ثانياً: الأفراد الذين تلبّسوا بعنوان الظلم، ومارسوا في حياتهم لحظة ظلم بحقّ أنفسهم أو بحقّ الآخرين، كأن تكون لحظة شرك مثلا، لا يليقون للإمامة، فالإِمام يجب أن يكون طيلة عمره معصوماً.

وهل يعلم ذلك في نفوس الأفراد إلاّ الله؟!

ولو أردنا بهذا المعيار أن نعيّن خليفة لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، فلا يمكن أن يكون غير علي(عليه السلام).

___________________________

1 ـ لقمان، 13.

2 ـ أصول الكافي، ج 1، باب «طبقات الأنبياء والرسل» حديث 1.

3 ـ أمالي الشيخ المفيد، ومناقب ابن المغازلي، نقلا عن الميزان، تفسير الآية المذكورة.

(374)

جدير بالذكر أن صاحب «المنار» نقل عن أبي حنيفة قوله: أن الخلافة لا تليق إلاّ بالعلويين، ومن هنا أجاز الخروج على حكومة العباسيين، ومن هنا أيضاً رفض منصب القضاء في حكومة خلفاء بني العباس.

ويقول صاحب المنار أيضاً: إن أئمة المذاهب الأربعة كانوا معارضين لحكام زمانهم، وكانوا يعتبرون أولئك الحكام غير لائقين لزعامة المسملين، لأنهم ظالمون(1).

ومن العجيب أن كثيراً من علماء أهل السنة في عصرنا هذا، يؤيدون ويدعمون الحكومات الظالمة المتجبّرة المرتبطة إرتباطاً واضحاً جليّاً بجبهة الكفر العالمية، والمفسدة في الأرض إفساداً لا يخفى على أحد، بل أكثر من ذلك يعتبرون هؤلاء الحكام «أُولي الأمر» ويركزون على وجوب طاعتهم!!

* * *

7 ـ جواب عن سؤالين

1 ـ قلنا في تفسير معنى الإِمامة أن عمل الإِمامة هو «الإِيصال إلى المطلوب» و«تنفيذ المناهج الإِلهية»، وهنا قد يقول قائل: إن هذا المعنى لم يتحقق في كثير من الأنبياء، بل لم يتحقق حتى بالنسبة للنبي الخاتم(صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة الأطهار في المقياس العام، فقد كان يقف في مقابلهم دوماً أفراد ضالون مضلون.

جواباً على ذلك نقول: تعريفنا لعمل الإِمام لا يعني أن الإِمام يجرّ الاُمّة قسراً نحو الحق، بل إن الأفراد يستطيعون ـ وهم مختارون ـ أن يهتدوا بما يمتلكه الإِمام من قوّة ظاهرية وباطنية، على شرط امتلاك هؤلاء الأفراد للّياقة والإِستعداد.

وهذا كقولنا الشمس خلقت لإستمرار حياة الموجودات الحيّة، أو أن المطر يعمل على إحياء الأرض الميتة، تأثير الشمس والمطر له طابع عام، لكنه لا يصدق

___________________________

1 ـ المنار، ج 1، ص 457 ـ 458.

(375)

إلاّ في الموجودات المستعدة لقبول هذا التأثير.

2 ـ التّفسير المذكور للإِمام يستدعي أن يكون كل إمام نبيّاً ورسولا أوّلا، وبعد ذلك يبلغ درجة الإِمامة. بينما لم يكن الخلفاء المعصومون لنبيّ الإِسلام(صلى الله عليه وآله وسلم)كذلك.

نقول في الجواب: لا يلزم أن يكون الإِمام قد بلغ حتماً منزلة النّبوة والرسالة، فالذي اجتمعت فيه منزلة النّبوة والرسالة والإِمامة (مثل النّبي الخاتم) يمكن لخليفته أن يواصل طريق الإِمامة، وذلك حين تنتفي الحاجة إلى رسالة جديدة كما هو الحال بعد خاتم الأنبياء.

بعباره اُخرى، حين تكون مرحلة إستلام الوحي الإِلهي وتبليغ جميع الأحكام قد انتهت وبقيت المرحلة التنفيذية، فإن خليفة النّبي يستطيع أن يواصل الخط التنفيذي، ولا حاجة لأن يكون هذا الخليفة نبياً أو رسولا.

* * *

8 ـ شخصية إبراهيم المثالية

ورد اسم إبراهيم(عليه السلام) في 69 موضعاً من القرآن الكريم، تحدثت عنه آيات تتوزع بين خمس وعشرين سورة. والقرآن يثني كثيراً على هذا النّبي الكريم ويذكره بصفات جليلة عظيمة.

إنه قدوة وأسوة في كل المجالات، ونموذج للإِنسان الكامل.

مكانته في سُلّم معرفة الله ... و منطقه الصريح أمام عبدة الأوثان ... ونضاله المرير ضد الجبابرة ... وتضحياته على طريق الله، وصموده الغريب أمام عواصف الحوادث والإِختبارات الصعبة ... كل واحدة من هذه الصفات تشكل النموذج الأعلى للسائرين على طريق التوحيد.

(376)

إبراهيم كما يصفه القرآن من (الُْمحْسِنِينَ)(1)، ومن (الصَّالِحِينَ)(2)، ومن (القانتين)(3)، ومن (الصدّيقين)(4)، و(إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ)(5)، و(وَإِبْراهَيمَ الّذي وَفَّى)(6)، ذو سخاء عظيم وشجاعة منقطعة النظير.

في تفسير سورة إبراهيم (خاصة في القسم الأخير من السّورة) سنفصل الحديث في هذا المجال. (راجع المجلد السابع من هذا التّفسير).

* * *

___________________________

1 ـ الصافات، 105.

2 ـ النحل، 122.

3 ـ النحل، 120.

4 ـ مريم، 41.

5 ـ التوبة، 114.

6 ـ النجم، 37.

(377)




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21338808

  • التاريخ : 29/03/2024 - 11:56

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net