00989338131045
 
 
 
 
 
 

 من ص 83 الى ص 164 

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الميزان في تفسير القرآن (الجزء الثامن عشر)   ||   تأليف : العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي (قده)

(بيان‏)

السورة موضوعة للإنذار كما تشهد به فاتحتها و خاتمتها و المقاصد المتخللة بينهما إلا ما في قوله: ﴿إِلاَّ اَلْمُتَّقِينَ يَا عِبَادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ اَلْيَوْمَ إلى تمام ست آيات استطرادية.

تذكر أن السنة الإلهية إنزال الذكر و إرسال الأنبياء و الرسل و لا يصده عن ذلك إسراف الناس في قولهم و فعلهم بل يرسل الأنبياء و الرسل و يهلك المستهزءين بهم و المكذبين لهم ثم يسوقهم إلى نار خالدة.

و قد ذكرت إرسال الأنبياء بالإجمال أولا ثم سمي منهم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى (عليه السلام ) ، و ذكرت من إسراف الكفار أشياء و من عمدتها قولهم بأن لله سبحانه ولدا و أن الملائكة بنات الله ففيها عناية خاصة بنفي الولد عنه تعالى فكررت ذلك و ردته و أوعدتهم بالعذاب، و فيها حقائق متفرقة أخرى.

و السورة مكية بشهادة مضامين آياتها إلا قوله: ﴿وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا الآية، و لم يثبت كما سيأتي إن شاء الله.

قوله تعالى: ﴿وَ اَلْكِتَابِ اَلْمُبِينِ ظاهره أنه قسم و جوابه قوله: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا إلى آخر الآيتين، و كون القرآن مبينا هو إبانته و إظهاره طريق الهدى كما قال تعالى: ﴿وَ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ اَلْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ: النحل: ٨٩، أو كونه ظاهرا في نفسه لا يرتاب فيه كما قال: ﴿ذَلِكَ اَلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ: البقرة: ٢.

قوله تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ الضمير للكتاب، و ﴿قُرْآناً عَرَبِيًّا أي مقروا باللغة العربية و ﴿لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ غاية الجعل و غرضه.

و جعل رجاء تعقله غاية للجعل المذكور يشهد بأن له مرحلة من الكينونة و الوجود لا ينالها عقول الناس، و من شأن العقل أن ينال كل أمر فكري و إن بلغ من اللطافة و الدقة ما بلغ فمفاد الآية أن الكتاب بحسب موطنه الذي له في نفسه أمر وراء الفكر أجنبي عن العقول البشرية و إنما جعله الله قرآنا عربيا و ألبسه هذا اللباس رجاء أن يستأنس به عقول الناس فيعقلوه، و الرجاء في كلامه تعالى قائم بالمقام أو المخاطب دون المتكلم كما تقدم غير مرة.

 

 

 قوله تعالى: ﴿وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ اَلْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ تأكيد و تبيين لما تدل عليه الآية السابقة أن الكتاب في موطنه الأصلي وراء تعقل العقول.

و الضمير للكتاب، و المراد بأم الكتاب اللوح المحفوظ كما قال تعالى: ﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ: البروج: ٢٢، و تسميته بأم الكتاب لكونه أصل الكتب السماوية يستنسخ منه غيره، و التقييد بأم الكتاب و ﴿لَدَيْنَا للتوضيح لا للاحتراز، و المعنى: أنه حال كونه في أم الكتاب لدينا حالا لازمة لعلي حكيم، و سيجي‏ء في أواخر سورة الجاثية كلام في أم الكتاب إن شاء الله.

و المراد بكونه عليا على ما يعطه مفاد الآية السابقة أنه رفيع القدر و المنزلة من أن تناله العقول، و بكونه حكيما أنه هناك محكم غير مفصل و لا مجزى إلى سور و آيات و جمل و كلمات كما هو كذلك بعد جعله قرآنا عربيا كما استفدناه من قوله تعالى:

﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ: هود: ١.

و هذان النعتان أعني كونه عليا حكيما هما الموجبان لكونه وراء العقول البشرية فإن العقل في فكرته لا ينال إلا ما كان من قبيل المفاهيم و الألفاظ أولا و كان مؤلفا من مقدمات تصديقية يترتب بعضها على بعض كما في الآيات و الجمل القرآنية، و أما إذا كان الأمر وراء المفاهيم و الألفاظ و كان غير متجز إلى أجزاء و فصول فلا طريق للعقل إلى نيله.

فمحصل معنى الآيتين: أن الكتاب عندنا في اللوح المحفوظ ذو مقام رفيع و أحكام لا تناله العقول لذينك الوصفين و إنما أنزلناه بجعله مقروا عربيا رجاء أن يعقله الناس.

فإن قلت: ظاهر قوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ إمكان تعقل الناس هذا القرآن العربي النازل تعقلا تاما فهذا الذي نقرؤه و نعقله إما أن يكون مطابقا لما في أم الكتاب كل المطابقة أو لا يكون، و الثاني باطل قطعا كيف؟ و هو تعالى يقول: ﴿وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ اَلْكِتَابِ و ﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ: البروج: ٢٢، و ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ: الواقعة: ٧٨، فتعين الأول و مع مطابقته لأم الكتاب كل المطابقة ما معنى كون القرآن العربي الذي عندنا معقولا لنا و ما في أم الكتاب عند الله غير معقول لنا.

قلت: يمكن أن تكون النسبة بين ما عندنا و ما في أم الكتاب نسبة المثل و الممثل فالمثل هو الممثل بعينه لكن الممثل له لا يفقه إلا المثل فافهم ذلك.

 

 

و بما مر يظهر ضعف الوجوه التي أوردوها في تفسير الوصفين كقول بعضهم: إن المراد بكونه عليا أنه عال في بلاغته مبين لما يحتاج إليه الناس، و قول بعضهم: معناه أنه يعلو كل كتاب بما اختص به من الإعجاز و هو ينسخ الكتب غيره و لا ينسخه كتاب، و قول بعضهم يعني أنه يعظمه الملائكة و المؤمنون.

و كقول بعضهم في معنى ﴿حَكِيمٌ إنه مظهر للحكمة البالغة، و قول بعضهم معناه أنه لا ينطق إلا بالحكمة و لا يقول إلا الحق و الصواب، ففي توصيفه بالحكيم تجوز لغرض المبالغة. و ضعف هذه الوجوه ظاهر بالتدبر في مفاد الآية السابقة و ظهور أن جعله قرآنا عربيا بالنزول عن أم الكتاب.

قوله تعالى: ﴿أَ فَنَضْرِبُ عَنْكُمُ اَلذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ الاستفهام للإنكار، و الفاء للتفريع على ما تقدم، و ضرب الذكر عنهم صرفه عنهم. قال في المجمع:، و أصل ضربت عنه الذكر أن الراكب إذا ركب دابة فأراد أن يصرفه عن جهة ضربه بعصا أو سوط ليعدل به إلى جهة أخرى ثم وضع الضرب موضع الصرف و العدل.

انتهى. و الصفح‏ بمعنى الإعراض فصفحا مفعول له، و احتمل أن يكون بمعنى الجانب و ﴿أَنْ كُنْتُمْ محذوف الجار و التقدير لأن كنتم و هو متعلق بقوله: ﴿أَ فَنَضْرِبُ.

و المعنى: أ فنصرف عنكم الذكر و هو الكتاب الذي جعلناه قرآنا لتعقلوه للإعراض عنكم لكونكم مسرفين أو أ فنصرفه عنكم إلى جانب لكونكم مسرفين أي أنا لا نصرفه عنكم لذلك.

قوله تعالى: ﴿وَ كَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي اَلْأَوَّلِينَ وَ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ﴿كَمْ للتكثير، و الأولون هم الأمم الدارجة و ﴿مَا يَأْتِيهِمْ إلخ، حال و العامل فيها ﴿أَرْسَلْنَا.

و الآيتان و ما يتلوهما في مقام التعليل لعدم صرف الذكر عنهم ببيان أن كونكم قوما مسرفين لا يمنعنا من إجراء سنة الهداية من طريق الوحي فإنا كثيرا ما أرسلنا من نبي في الأمم الماضين و الحال أنه ما يأتيهم من نبي إلا استهزءوا به و انجر الأمر إلى أن أهلكنا من أولئك من هو أشد بطشا منكم.

فكما كانت عاقبة إسرافهم و استهزائهم الهلاك دون الصرف فكذلك عاقبة إسرافكم ففي الآيات الثلاث كما ترى وعد للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و وعيد لقومه.

 

 

 قوله تعالى: ﴿فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَ مَضىَ مَثَلُ اَلْأَوَّلِينَ قال الراغب،:

البطش‏ تناول الشي‏ء بصولة. انتهى و في الآية التفات في قوله: ﴿مِنْهُمْ من الخطاب إلى الغيبة، و كان الوجه فيه العدول عن خطابهم إلى خطاب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لعدم اعتبارهم بهذه القصص و العبر و ليكون تمهيدا لقوله بعد: ﴿وَ مَضىَ مَثَلُ اَلْأَوَّلِينَ و يؤيده قوله بعد: ﴿وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ خطابا للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) . و معنى قوله: ﴿وَ مَضىَ مَثَلُ اَلْأَوَّلِينَ و مضى في السور النازلة قبل هذه السورة من القرآن وصف الأمم الأولين و أنه كيف حاق بهم ما كانوا به يستهزءون.

قوله تعالى: ﴿وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ اَلْعَزِيزُ اَلْعَلِيمُ في الآية و ما يتلوها إلى تمام ست آيات احتجاج على ربوبيته تعالى و توحده فيها مع إشارة ما إلى المعاد و تبكيت لهم على إسرافهم مأخوذ من اعترافهم بأنه تعالى هو خالق الكل ثم الأخذ بجهات من الخلق هي بعينها تدبير لأمور العباد كجعل الأرض لهم مهدا و جعله فيها سبلا و إنزال الأمطار فينتج أنه تعالى وحده مالك مدبر لأمورهم فهو الرب لا رب غيره.

و بذلك تبين أن الآية تقدمة و توطئة لما تتضمنه الآيات التالية من الحجة و قد تقدم في هذا الكتاب مرارا أن الوثنية لا تنكر رجوع الصنع و الإيجاد إليه تعالى وحده و إنما تدعي رجوع أمر التدبير إلى غيره.

قوله تعالى: ﴿اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اَلْأَرْضَ مَهْداً وَ جَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ أي جعل لكم الأرض بحيث تربون فيها كما يربى الأطفال في المهد، و جعل لكم في الأرض سبلا و طرقا تسلكونها و تهتدون بها إلى مقاصدكم.

و قيل: معنى ﴿لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ رجاء أن تهتدوا إلى معرفة الله و توحيده في العبادة و الأول أظهر.

و في الكلام التفات إلى خطاب القوم بعد صرف الخطاب عنهم إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و لعل الوجه فيه إظهار العناية بهذا المعنى في الخلقة و هو أن التدبير بعينه من الخلق فاعترافهم بكون الخلق مختصا بالله سبحانه و قولهم برجوع التدبير إلى غيره من خلقه من التهافت في القول جهلا فقرعهم بهذا الخطاب من غير واسطة.

 

 

 قوله تعالى: ﴿وَ اَلَّذِي نَزَّلَ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ قيد تنزيل الماء بقدر للإشارة إلى أنه عن إرادة و تدبير لا كيف اتفق و الإنشار الإحياء، و الميت مخفف الميت بالتشديد، و توصيف البلدة به باعتبار أنها مكان لأن البلدة أيضا إنما تتصف بالموت و الحياة باعتبار أنها مكان، و الالتفات عن الغيبة إلى التكلم مع الغير في ﴿فَأَنْشَرْنَا لإظهار العناية.

و لما استدل بتنزيل الماء بقدر و إحياء البلدة الميتة على خلقه و تدبيره استنتج منه أمر آخر لا يتم التوحيد إلا به و هو المعاد الذي هو رجوع الكل إليه تعالى فقال:

﴿كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ أي كما أحيا البلدة الميتة كذلك تبعثون من قبوركم أحياء.

قيل: في التعبير عن إخراج النبات بالإنشار الذي هو إحياء الموتى و عن إحيائهم بالإخراج تفخيم لشأن الإنبات و تهوين لأمر البعث لتقويم سنن الاستدلال و توضيح منهاج القياس.

قوله تعالى: ﴿وَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنَ اَلْفُلْكِ وَ اَلْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ قيل: المراد بالأزواج أصناف الموجودات من ذكر و أنثى و أبيض و أسود و غيرها، و قيل: المراد الزوج من كل شي‏ء فكل ما سوى الله كالفوق و تحت و اليمين و اليسار و الذكر و الأنثى زوج.

و قوله: ﴿وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنَ اَلْفُلْكِ وَ اَلْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ أي تركبونه، و الركوب‏ إذا نسب إلى الحيوان كالفرس و الإبل تعدى بنفسه فيقال: ركبت الفرس و إذا نسب إلى مثل الفلك و السفينة تعدى بفي فيقال ركب فيه قال تعالى: ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي اَلْفُلْكِ ففي قوله: ﴿مَا تَرْكَبُونَ أي تركبونه تغليب لجانب الأنعام.

قوله تعالى: ﴿لِتَسْتَوُوا عَلىَ ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اِسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَ تَقُولُوا إلى قوله ﴿لَمُنْقَلِبُونَ الاستواء على الظهور الاستقرار عليها، و الضمير في ﴿ظُهُورِهِ راجع إلى لفظ الموصول في ﴿مَا تَرْكَبُونَ، و الضمير في قوله: ﴿إِذَا اِسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ للموصول أيضا فكما يقال: استويت على ظهر الدابة يقال: استويت على الدابة.

و المراد بذكر نعمة الرب سبحانه بعد الاستواء على ظهر الفلك و الأنعام ذكر النعم التي ينتفع بها الإنسان بتسخيره تعالى له هذه المراكب كالانتقال من مكان إلى

 

 

 مكان و حمل الأثقال قال تعالى: ﴿وَ سَخَّرَ لَكُمُ اَلْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي اَلْبَحْرِ بِأَمْرِهِ : إبراهيم: ٣٢، و قال: ﴿وَ اَلْأَنْعَامَ خَلَقَهَا إلى أن قال ﴿وَ تَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلىَ بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ اَلْأَنْفُسِ: النحل: ٧، أو المراد ذكر مطلق نعمه تعالى بالانتقال من ذكر هذه النعم إليه.

و قوله: ﴿وَ تَقُولُوا سُبْحَانَ اَلَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَ مَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ أي مطيقين و الإقران‏ الإطاقة.

و ظاهر ذكر النعمة عند استعمالها و الانتفاع بها شكر منعمها و لازم ذلك أن يكون ذكر النعمة غير قول: ﴿سُبْحَانَ اَلَّذِي إلخ، فإن هذا القول تسبيح و تنزيه له عما لا يليق بساحة كبريائه و هو الشريك في الربوبية و الألوهية، و ذكر النعمة شكر كما تقدم و الشكر غير التنزيه.

و يؤيد هذا ما ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و أئمة أهل البيت (عليه السلام ) في ما يقال عند الاستواء على المركوب فإن الروايات على اختلافها تتضمن التحميد وراء التسبيح يقول ﴿سُبْحَانَ اَلَّذِي إلخ.

 و روي في الكشاف، عن الحسن بن علي (عليه السلام ) أنه رأى رجلا يركب دابة فقال:

سبحان الذي سخر لنا هذا فقال: أ بهذا أمرتم؟ فقال: و بم أمرنا؟ قال: إن تذكروا نعمة ربكم. و قوله: ﴿وَ إِنَّا إِلىَ رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ أي صائرون شهادة بالمعاد.

[سورة الزخرف (٤٣): الآیات ١٥ الی ٢٥]

﴿وَ جَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً إِنَّ اَلْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ ١٥ أَمِ اِتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَ أَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ ١٦ وَ إِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَ هُوَ كَظِيمٌ ١٧ أَ وَ مَنْ يُنَشَّؤُا فِي اَلْحِلْيَةِ وَ هُوَ فِي اَلْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ١٨ وَ جَعَلُوا اَلْمَلاَئِكَةَ

 

 

اَلَّذِينَ هُمْ عِبَادُ اَلرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَ شَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَ يُسْئَلُونَ ١٩ وَ قَالُوا لَوْ شَاءَ اَلرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ ٢٠ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ ٢١ بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلى‏ أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلى‏ آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ ٢٢ وَ كَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلى‏ أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلى‏ آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ ٢٣ قَالَ أَ وَ لَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى‏ مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ٢٤ فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ اَلْمُكَذِّبِينَ ٢٥

(بيان‏)

حكاية بعض أقوالهم التي دعاهم إلى القول بها الإسراف و الكفر بالنعم و هو قولهم بالولد و أن الملائكة بنات الله سبحانه، و احتجاجهم على عبادتهم الملائكة و رده عليهم.

قوله تعالى: ﴿وَ جَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً إِنَّ اَلْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ المراد بالجزء الولد فإن الولادة إنما هي الاشتقاق فالولد جزء من والده منفصل منه متصور بصورته.

و إنما عبر عن الولد بالجزء للإشارة إلى استحالة دعواهم، فإن جزئية شي‏ء من شي‏ء كيفما تصورت لا تتم إلا بتركب في ذلك الشي‏ء و الله سبحانه واحد من جميع الجهات.

و قد بان بما تقدم أن ﴿مِنْ عِبَادِهِ بيان لقوله: ﴿جُزْءاً و لا ضير في تقدم هذا النوع من البيان على المبين و لا في جمعية البيان و إفراد المبين.

قوله تعالى: ﴿أَمِ اِتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَ أَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ أي أخلصكم للبنين

 

 

فلكم بنون و ليس له إلا البنات و أنتم ترون أن البنت أخس من الابن فتثبتون له أخس الصنفين و تخصون أنفسكم بأشرفهما و هذا مع كونه قولا محالا في نفسه إزراء و إهانة ظاهرة و كفران.

و تقييد اتخاذ البنات بكونه مما يخلق لكونهم قائلين بكون الملائكة على ربوبيتهم و ألوهيتهم مخلوقين لله، و الالتفات في الآية إلى خطابهم لتأكيد الإلزام و تثبيت التوبيخ، و التنكير و التعريف في «بنات» و «البنين» للتحقير و التفخيم.

قوله تعالى: ﴿وَ إِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَ هُوَ كَظِيمٌ المثل‏ هو المثل و الشبه المجانس للشي‏ء و ضرب الشي‏ء مثلا أخذه مجانسا للشي‏ء «و ﴿بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً الأنثى، و الكظيم‏ المملوء كربا و غيظا.

و المعنى: و حالهم أنه إذا بشر أحدهم بالأنثى الذي جعلها شبها مجانسا للرحمان صار وجهه مسودا من الغم و هو مملوء كربا و غيظا لعدم رضاهم بذلك و عده عارا لهم لكنهم يرضونه له.

و الالتفات في الآية إلى الغيبة لحكاية شنيع سيرتهم و قبيح طريقتهم للغير حتى يتعجب منه.

قوله تعالى: ﴿أَ وَ مَنْ يُنَشَّؤُا فِي اَلْحِلْيَةِ وَ هُوَ فِي اَلْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ أي أ و جعلوا لله سبحانه من ينشأ في الحلية أي يتربى في الزينة و هو في المخاصمة و المحاجة غير مبين لحجته لا يقدر على تقرير دعواه.

و إنما ذكر هذين النعتين لأن المرأة بالطبع أقوى عاطفة و شفقة و أضعف تعقلا بالقياس إلى الرجل و هو بالعكس و من أوضح مظاهر قوة عواطفها تعلقها الشديد بالحلية و الزينة و ضعفها في تقرير الحجة المبني على قوة التعقل.

قوله تعالى: ﴿وَ جَعَلُوا اَلْمَلاَئِكَةَ اَلَّذِينَ هُمْ عِبَادُ اَلرَّحْمَنِ إِنَاثاً إلخ، هذا معنى قولهم: إن الملائكة بنات الله و قد كان يقول به طوائف من عرب الجاهلية و أما غيرهم من الوثنية فربما عدوا في آلهتهم إلهة هي أم إله أو بنت إله لكن لم يقولوا بكون جميع الملائكة إناثا كما هو ظاهر المحكي في الآية الكريمة.

و إنما وصف الملائكة بقوله: ﴿اَلَّذِينَ هُمْ عِبَادُ اَلرَّحْمَنِ ردا لقولهم بأنوثتهم لأن الإناث لا يطلق عليهن العباد، و لا يلزم منه اتصافهم بالذكورة بالمعنى الذي يتصف به

 

 

 الحيوان فإن الذكورة و الأنوثة اللتين في الحيوان من لوازم وجوده المادي المجهز للتناسل و توليد المثل، و الملائكة في معزل من ذلك.

و قوله: ﴿أَ شَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَ يُسْئَلُونَ رد لدعواهم الأنوثة في الملائكة بأن الطريق إلى العلم بذلك الحس و هم لم يروهم حتى يعلموا بها فلم يكونوا حاضرين عند خلقهم حتى يشاهدوا منهم ذلك.

فقوله: ﴿أَ شَهِدُوا خَلْقَهُمْ إلخ» استفهام إنكاري و وعيد على قولهم بغير علم أي لم يشهدوا خلقهم و ستكتب في صحائف أعمالهم هذه الشهادة عليهم و يسألون عنه يوم القيامة.

قوله تعالى: ﴿وَ قَالُوا لَوْ شَاءَ اَلرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ حجة عقلية داحضة محكية عنهم يمكن أن تقرر تارة لإثبات صحة عبادة الشركاء بأن يقال: لو شاء الله أن لا نعبد الشركاء ما عبدناهم ضرورة لاستحالة تخلف مراده تعالى عن إرادته لكنا نعبدهم فهو لم يشأ ذلك و عدم مشيته عدم عبادتهم إذن في عبادتهم فلا منع من قبله تعالى عن عبادة الشركاء و الملائكة منهم، و هذا المعنى هو المنساق إلى الذهن من قوله في سورة الأنعام: ﴿سَيَقُولُ اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اَللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَ لاَ آبَاؤُنَا وَ لاَ حَرَّمْنَا مِنْ شَيْ‏ءٍ: الأنعام: ١٤٨، على ما يعطيه السياق ما قبله و ما بعده.

و تقرر تارة لإبطال النبوة القائلة إن الله يوجب عليكم كذا و كذا و يحرم عليكم كذا كذا بأن يقال لو شاء الله أن لا نعبد الشركاء و لا نحل و لا نحرم شيئا لم نعبد الشركاء و لم نضع من عندنا حكما لاستحالة تخلف مراده تعالى عن إرادته لكنا نعبدهم و نحل و نحرم أشياء فلم يشأ الله سبحانه منا شيئا، فقول إن الله يأمركم بكذا و ينهاكم عن كذا و بالجملة أنه شاء كذا باطل.

و هذا المعنى هو الظاهر المستفاد من قوله تعالى في سورة النحل: ﴿وَ قَالَ اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اَللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ نَحْنُ وَ لاَ آبَاؤُنَا وَ لاَ حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ: النحل: ٣٥، بالنظر إلى السياق.

و قولهم في محكي الآية المبحوث عنها: ﴿لَوْ شَاءَ اَلرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ على ما يفيده سياق الآيات السابقة و اللاحقة مسوق للاحتجاج على المعنى الأول و هو تصحيح

 

 

 عبادتهم للملائكة فيكون في معنى آية سورة الأنعام و أخص منها.

و قوله: ﴿مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ أي هو منهم قول مبني على الجهل فإنه مغالطة خلطوا فيها بين الإرادة التكوينية و الإرادة التشريعية و أخذ الأولى مكان الثانية، فمقتضى الحجة أن لا إرادة تكوينية منه تعالى متعلقة بعدم عبادتهم الملائكة و انتفاء تعلق هذا النوع من الإرادة بعدم عبادتهم لهم لا يستلزم انتفاء تعلق الإرادة التشريعية به.

فهو سبحانه لما لم يشأ أن لا يعبدوا الشركاء بالإرادة التكوينية كانوا مختارين غير مضطرين على فعل أو ترك فأراد منهم بالإرادة التشريعية أن يوحدوه و لا يعبدوا الشركاء، و الإرادة التشريعية لا يستحيل تخلف المراد عنها لكونها اعتبارية غير حقيقية، و إنما تستعمل في الشرائع و القوانين و التكاليف المولوية، و الحقيقة التي تبتني عليها هي اشتمال الفعل على مصلحة أو مفسدة.

و بما تقدم يظهر فساد ما قيل: إن حجتهم مبنية على مقدمتين: الأولى أن عبادتهم للملائكة بمشيته تعالى، و الثانية أن ذلك مستلزم لكونها مرضية عنده تعالى و قد أصابوا في الأولى و أخطئوا في الثانية حيث جهلوا أن المشية عبارة عن ترجيح بعض الممكنات على بعض كائنا ما كان من غير اعتبار الرضا و السخط في شي‏ء من الطرفين.

وجه الفساد: أن مضمون الحجة عدم تعلق المشية على ترك العبادة و عدم تعلق المشية بالترك لا يستلزم تعلق المشية بالفعل بل لازمه الإذن الذي هو عدم المنع من الفعل. ثم إن ظاهر كلامه قصر الإرادة في التكوينية و إهمال التشريعية التي عليها المدار في التكاليف المولوية و هو خطأ منه.

و يظهر أيضا فساد ما نسب إلى بعضهم أن المراد بقولهم: «لو شاء الرحمن ما عبدناهم» الاعتذار عن عبادة الملائكة بتعلق مشية الله بها مع الاعتراف بكونها قبيحة.

و ذلك أنهم لم يكونوا مسلمين لقبح عبادة آلهتهم حتى يعتذروا عنها و قد حكي عنهم ذيلا قولهم: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلىَ أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلى‏ آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ.

و قوله: ﴿إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ الخرص على ما يظهر من الراغب القول على الظن و التخمين، و فسر أيضا بالكذب.

قوله تعالى: ﴿أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ ضمير ﴿مِنْ قَبْلِهِ

 

 

للقرآن، و في الآية نفي أن يكون لهم حجة من طريق النقل كما أن في الآية السابقة نفي حجتهم من طريق العقل، و محصل الآيتين أن لا حجة لهم على عبادة الملائكة لا من طريق العقل و لا من طريق النقل فلم يأذن الله فيها.

قوله تعالى: ﴿بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلىَ أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلىَ آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ الأمة الطريقة التي تؤم و تقصد، و المراد بها الدين، و الإضراب عما تحصل من الآيتين، و المعنى: لا دليل لهم على حقية عبادتهم بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على دين و إنا على آثارهم مهتدون أي إنهم متشبثون بتقليد آبائهم فحسب.

قوله تعالى: ﴿وَ كَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا إلخ، أي إن التشبث بذيل التقليد ليس مما يختص بهؤلاء فقد كان ذلك دأب أسلافهم من الأمم المشركين و ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير و هو النبي إلا تشبث متنعموها بذيل التقليد و قالوا: إنا وجدنا أسلافنا على دين و إنا على آثارهم مقتدون لن نتركها و لن نخالفهم.

و نسبة القول إلى مترفيهم للإشارة إلى أن الإتراف و التنعم هو الذي يدعوهم إلى التقليد و يصرفهم عن النظر في الحق.

قوله تعالى: ﴿قَالَ أَ وَ لَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدىَ مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ إلخ، القائل هو النذير، و الخطاب للمترفين و يشمل غيرهم بالتبعية، و العطف في ﴿أَ وَ لَوْ جِئْتُكُمْ على محذوف يدل عليه كلامهم، و التقدير أنكم على آثارهم مقتدون و لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم؟ و المحصل: هل أنتم لازمون لدينهم حتى لو كان ما جئتكم به من الدين أهدى منه؟ و عد النذير ما جاءهم به أهدى من دينهم مع كون دينهم باطلا لا هدى فيه من باب مجاراة الخصم.

و قوله: ﴿قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ جواب منهم لقول النذير: ﴿أَ وَ لَوْ جِئْتُكُمْ إلخ و هو تحكم من غير دليل.

قوله تعالى: ﴿فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ اَلْمُكَذِّبِينَ أي تفرع على ذلك الإرسال و الرد بالتقليد و التحكم أنا أهلكناهم بتكذيبهم فانظر كيف كان عاقبة أولئك السابقين من أهل القرى و فيه تهديد لقوم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) .

 

 

[سورة الزخرف (٤٣): الآیات ٢٦ الی ٤٥]

﴿وَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ ٢٦ إِلاَّ اَلَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ ٢٧ وَ جَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ٢٨ بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاَءِ وَ آبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ اَلْحَقُّ وَ رَسُولٌ مُبِينٌ ٢٩ وَ لَمَّا جَاءَهُمُ اَلْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَ إِنَّا بِهِ كَافِرُونَ ٣٠ وَ قَالُوا لَوْ لاَ نُزِّلَ هَذَا اَلْقُرْآنُ عَلى‏ رَجُلٍ مِنَ اَلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ٣١ أَ هُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ رَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَ رَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ٣٢ وَ لَوْ لاَ أَنْ يَكُونَ اَلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَ مَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ ٣٣ وَ لِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَ سُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِؤُنَ ٣٤ وَ زُخْرُفاً وَ إِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ اَلْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ ٣٥ وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ اَلرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ٣٦ وَ إِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ اَلسَّبِيلِ وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ٣٧ حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ بُعْدَ اَلْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ اَلْقَرِينُ ٣٨ وَ لَنْ يَنْفَعَكُمُ اَلْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي اَلْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ ٣٩ أَ فَأَنْتَ

 

 

تُسْمِعُ اَلصُّمَّ أَوْ تَهْدِي اَلْعُمْيَ وَ مَنْ كَانَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ ٤٠ فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ ٤١ أَوْ نُرِيَنَّكَ اَلَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ ٤٢ فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى‏ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ٤٣ وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَ لِقَوْمِكَ وَ سَوْفَ تُسْئَلُونَ ٤٤ وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَ جَعَلْنَا مِنْ دُونِ اَلرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ ٤٥

(بيان‏)

لما انجر الكلام إلى ردهم رسالة الرسول و كفرهم بها تحكما و تشبثهم في الشرك بذيل تقليد الآباء و الأسلاف من غير دليل عقب ذلك بالإشارة إلى قصة إبراهيم (عليه السلام ) و رفضه تقليد أبيه و قومه و تبريه عما يعبدونه من دون الله سبحانه و استهدائه هدى ربه الذي فطره.

ثم يذكر تمتيعه لهم بنعمه و كفرانهم بها بالكفر بكتاب الله و طعنهم فيه و في رسوله بما هو مردود عليهم. ثم يذكر تبعة الإعراض عن ذكر الله و ما تنتهي إليه من الشقاء و الخسران، و يعطف عليه إياس النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من إيمانهم و تهديدهم بالعذاب و يؤكد الأمر للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يستمسك بالقرآن و إنه لذكر له و لقومه و سوف يسألون عنه، و إن الذي فيه من دين التوحيد هو الذي كان عليه الأنبياء السابقون عليه.

قوله تعالى: ﴿وَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ البراء مصدر من برى‏ء يبرأ فهو بري‏ء فمعنى ﴿إِنَّنِي بَرَاءٌ إنني: ذو براء أو بري‏ء على سبيل المبالغة مثل زيد عدل.

و في الآية إشارة إلى تبري إبراهيم (عليه السلام ) مما كان يعبده أبوه و قومه من الأصنام

 

 

و الكواكب بعد ما حاجهم فيها فاستندوا فيها إلى سيرة آبائهم على ما ذكر في سور الأنعام و الأنبياء و الشعراء و غيرها.

و المعنى: و اذكر لهم إذ تبرأ إبراهيم عن آلهة أبيه و قومه إذ كانوا يعبدونها تقليدا لآبائهم من غير حجة و قام بالنظر وحده.

قوله تعالى: ﴿إِلاَّ اَلَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ أي إلا الذي أوجدني و هو الله سبحانه، و في توصيفه تعالى بالفطر إشارة إلى الحجة على ربوبيته و ألوهيته فإن الفطر و الإيجاد لا ينفك عن تدبير أمر الموجود المفطور فالذي فطر الكل هو الذي يدبر أمرهم فهو الحقيق أن يعبد.

و قوله: ﴿فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ أي إلى الحق الذي أطلبه، و قيل: أي إلى طريق الجنة، و في هذه الجملة إشارة إلى خاصة أخرى ربوبية و هي الهداية إلى السبيل الحق يجب أن يسلكه الإنسان فإن السوق إلى الكمال من تمام التدبير فعلى الرب المدبر لأمر مربوبه أن يهديه إلى كماله و سعادته، قال تعالى: ﴿رَبُّنَا اَلَّذِي أَعْطى‏َ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدىَ: طه: ٥٠، و قال: ﴿وَ عَلَى اَللَّهِ قَصْدُ اَلسَّبِيلِ: النحل: ٩، فالرجوع إلى الله بتوحيد العبادة يستتبع الهداية كما قال تعالى: ﴿وَ اَلَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا العنكبوت: ٦٩.

و الاستثناء في قوله: ﴿إِلاَّ اَلَّذِي فَطَرَنِي منقطع لأن الوثنيين لا يعبدون الله كما مر مرارا، فقول بعضهم: إنه متصل، و إنهم كانوا يقولون: الله ربنا مع عبادتهم الأوثان، كما ترى.

قوله تعالى: ﴿وَ جَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ الظاهر أن ضمير الفاعل المستتر في ﴿جَعَلَهَا لله سبحانه، و الضمير البارز على ما قيل لكلمة البراءة التي تكلم بها إبراهيم (عليه السلام ) و معناها معنى كلمة التوحيد فإن مفاد لا إله إلا الله نفي الآلهة غير الله لا نفي الآلهة و إثبات الإله تعالى‏[1] و هو ظاهر فلا حاجة إلى ما تكلف به بعضهم أن الضمير لكلمة التوحيد المعلوم مما تكلم به إبراهيم (عليه السلام ) .

و المراد بعقبه ذريته و ولده، و قوله: ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي يرجعون من عبادة

 

 

 آلهة غير الله إلى عبادته تعالى أي يرجع بعضهم و هم العابدون لغير الله بدعوة بعضهم و هم العابدون لله إلى عبادته تعالى، و بهذا يظهر أن المراد ببقاء الكلمة في عقبه عدم خلوهم عن الموحد ما داموا، و لعل هذا عن استجابة دعائه (عليه السلام ) إذ يقول: ﴿وَ اُجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ اَلْأَصْنَامَ: إبراهيم: ٣٥.

و قيل: الضمير في «جعل» لإبراهيم (عليه السلام ) فهو الجاعل هذه الكلمة باقية في عقبه رجاء أن يرجعوا إليها، و المراد بجعلها باقية فيهم وصيته لهم بذلك كما قال تعالى:

﴿وَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَ يَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اَللَّهَ اِصْطَفىَ لَكُمُ اَلدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ: البقرة: ١٣٢.

و أنت خبير بأن الوصية بكلمة التوحيد لا تسمى جعلا للكلمة باقية في العقب و إن صح أن يقال: أراد بها ذلك لكنه غير جعلها باقية فيهم.

و قيل: المراد أن الله جعل الإمامة كلمة باقية في عقبه و سيجي‏ء الكلام فيه في البحث الروائي الآتي إن شاء الله.

و يظهر من الآية أن ذرية إبراهيم (عليه السلام ) لا تخلو من هذه الكلمة إلى يوم القيامة.

قوله تعالى: ﴿بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاَءِ وَ آبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ اَلْحَقُّ وَ رَسُولٌ مُبِينٌ إضراب عما يفهم من الآية السابقة، و المعنى: أن رجوعهم عن الشرك إلى التوحيد كان هو الغاية المرجوة منهم لكنهم لم يرجعوا بل متعت هؤلاء من قومك و آباءهم فتمتعوا بنعمي ﴿حَتَّى جَاءَهُمُ اَلْحَقُّ وَ رَسُولٌ مُبِينٌ.

و لعل الالتفات إلى التكلم وحده في قوله: ﴿بَلْ مَتَّعْتُ للإشارة إلى تفخيم جرمهم و أنهم لا يقصدون في كفرانهم للنعمة و كفرهم بالحق و رمية بالسحر إلا إياه تعالى وحده.

و المراد بالحق الذي جاءهم هو القرآن، و بالرسول المبين محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) .

قوله تعالى: ﴿وَ لَمَّا جَاءَهُمُ اَلْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَ إِنَّا بِهِ كَافِرُونَ هذا طعنهم في الحق الذي جاءهم و هو القرآن و يستلزم الطعن في الرسول. كما أن قولهم الآتي: ﴿لَوْ لاَ نُزِّلَ إلخ، كذلك.

 

 

 قوله تعالى: ﴿وَ قَالُوا لَوْ لاَ نُزِّلَ هَذَا اَلْقُرْآنُ عَلىَ رَجُلٍ مِنَ اَلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ المراد بالقريتين مكة و الطائف، و مرادهم بالعظمة على ما يفيده السياق ما هو من حيث المال و الجاه اللذين هما ملاك الشرافة و علو المنزلة عند أبناء الدنيا، و المراد بقوله: ﴿رَجُلٍ مِنَ اَلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ رجل من إحدى القريتين حذف المضاف إيجازا.

و مرادهم أن الرسالة منزلة شريفة إلهية لا ينبغي أن يتلبس به إلا رجل شريف في نفسه عظيم مطاع في قومه، و النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فقير فاقد لهذه الخصلة، فلو كان القرآن الذي جاء به وحيا نازلا من الله فلو لا نزل على رجل عظيم من مكة أو الطائف كثير المال رفيع المنزلة.

و في المجمع،: و يعنون بالرجل العظيم من إحدى القريتين الوليد بن المغيرة من مكة و أبا مسعود عروة بن مسعود الثقفي من الطائف. عن قتادة، و قيل: عتبة بن أبي ربيعة من مكة و ابن عبد ياليل من الطائف. عن مجاهد، و قيل: الوليد بن المغيرة من مكة و حبيب بن عمر الثقفي من الطائف. عن ابن عباس. انتهى.

و الحق أن ذلك من تطبيق المفسرين و إنما قالوا ما قالوا على الإبهام و أرادوا أحد هؤلاء من عظماء القريتين على ما هو ظاهر الآية.

قوله تعالى: ﴿أَ هُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا إلخ، المراد بالرحمة على ما يعطيه السياق النبوة.

و قال الراغب: العيش‏ الحياة المختصة بالحيوان، و هو أخص من الحياة لأن الحياة تقال في الحيوان و في الباري تعالى و في الملك، و يشتق منه المعيشة لما يتعيش به.

انتهى. و قال: التسخير سياقه إلى الغرض المختص قهرا إلى أن قال: و السخري‏ هو الذي يقهر فيتسخر بإرادته. انتهى.

و الآية و الآيتان بعدها في مقام الجواب عن قولهم: ﴿لَوْ لاَ نُزِّلَ هَذَا اَلْقُرْآنُ عَلىَ رَجُلٍ إلخ، و محصلها أن قولهم هذا تحكم ظاهر ينبغي أن يتعجب منه فإنهم يحكمون فيما لا يملكون. هذه معيشتهم في الحياة الدنيا يعيشون بها و يرتزقون و هي رحمة منا لا قدر لها و لا منزلة عندنا و ليست إلا متاعا زائلا نحن نقسمها بينهم و هي خارجة عن مقدرتهم و مشيتهم فكيف يقسمون النبوة التي هي الرحمة الكبرى و هي مفتاح سعادة البشر الدائمة و الفلاح الخالد فيعطونها لمن شاءوا و يمنعونها ممن شاءوا.

 

 

 فقوله: ﴿أَ هُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ الاستفهام للإنكار، و الالتفات إلى الغيبة في قوله: ﴿رَحْمَتَ رَبِّكَ و لم يقل: رحمتنا، للدلالة على اختصاص النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بعناية الربوبية في النبوة.

و المعنى: أنهم لا يملكون النبوة التي هي رحمة لله خاصة به حتى يمنعوك منها و يعطوها لمن هووا.

و قوله: ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا بيان لوجه الإنكار في الجملة السابقة بأنهم عاجزون عن قسمة ما هو دون النبوة بمراحل و لا منزلة له و هو معيشتهم في الحياة الدنيا فنحن قسمناها بينهم فكيف يقسمون ما هو أرفع منزلة منها بما لا يقدر قدره و هو النبوة التي هي رحمة ربك الخاصة به.

و الدليل على أن الأرزاق و المعايش ليست بيد الإنسان اختلاف أفراده بالغنى و الفقر و العافية و الصحة و في الأولاد و سائر ما يعد من الرزق، و كل يريد أن يقتني منها ما لا مزيد عليه، و لا يكاد يتيسر لأحد منهم جميع ما يتمناه و يرتضيه فلو كان ذلك بيد الإنسان لم يوجد معدم فقير في شي‏ء منها بل لم يختلف اثنان فيها فاختلافهم فيها أوضح دليل على أن الرزق مقسوم بمشية من الله دون الإنسان.

على أن الإرادة و العمل من الإنسان بعض الأسباب الناقصة لحصول المطلوب الذي هو الرزق و وراءهما أسباب كونية لا تحصى خارجة عن مقدرة الإنسان لا يحصل المطلوب إلا بحصولها جميعا و اجتماعها عليه و ليست إلا بيد الله الذي إليه تنتهي الأسباب.

هذا كله في المال و أما الجاه فهو أيضا مقسوم من عند الله فإنه يتوقف على صفات خاصة بها ترتفع درجات الإنسان في المجتمع فيتمكن من تسخير من هو دونه كالفطنة و الدهاء و الشجاعة و علو الهمة و أحكام العزيمة و كثرة المال و العشيرة و شي‏ء من ذلك لا يتم إلا بصنع من الله سبحانه، و ذلك قوله: ﴿وَ رَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا.

فيتبين بمجموع القولين أعني قوله: ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا إلخ، و قوله: ﴿وَ رَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ إلخ، إن القاسم للمعيشة و الجاه بين الناس هو الله سبحانه لا غير، و قوله:

﴿وَ رَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ أي النبوة خير من المال فكيف يملكون قسمها و هم لا يملكون قسم المال فيما بينهم.

 

 

و من الممكن أن يكون قوله: ﴿وَ رَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ عطف تفسير على قوله: ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ إلخ، يبين قسم المعيشة بينهم ببيان علل انقسامها في المجتمع الإنساني، بيان ذلك أن كثرة حوائج الإنسان في حياته الدنيا بحيث لا يقدر على رفع جميعها في عيش انفرادي أحوجته إلى الاجتماع مع غيره من الأفراد على طريق الاستخدام و الاستدرار أولا و على طريق التعاون و التعاضد ثانيا كما مر في مباحث النبوة من الجزء الثاني من الكتاب.

فآل الأمر إلى المعاوضة العامة المفيدة لنوع من الاختصاص بأن يعطي كل مما عنده من حوائج الحياة ما يفضل من حاجته و يأخذ به من الغير ما يعادله مما يحتاج إليه فيعطي مثلا ما يفضل من حاجته من الماء الذي عنده و قد حصله و اختص به و يأخذ من غيره ما يزيد على قوته من الغذاء، و لازم ذلك أن يسعى كل فرد بما يستعد له و يحسنه من السعي فيقتني مما يحتاج إليه ما يختص به، و لازم ذلك أن يحتاج غيره إليه فيما عنده من متاع الحياة فيتسخر له فيفيده ما يحتاج إليه كالخباز يحتاج إلى ما عند السقاء من الماء و بالعكس فيتعاونان بالمعاوضة و كالمخدوم يتسخر للخادم لخدمته و الخادم يتسخر للمخدوم لماله و هكذا فكل بعض من المجتمع مسخر لآخرين بما عنده و الآخرون متسخرون له بلا واسطة أو بواسطة أو وسائط لما أن كلا يرتفع على غيره بما يختص به مما عنده بدرجات مختلفة باختلاف تعلق الهمم و القصود به.

و على ما تقدم فالمراد بالمعيشة كل ما يعاش به أعم من المال و الجاه أو خصوص المال و غيره تبع له كما يؤيده قوله ذيلا: ﴿وَ رَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ فإن المراد به المال و غيره من لوازم الحياة مقصود بالتبع.

قوله تعالى: ﴿وَ لَوْ لاَ أَنْ يَكُونَ اَلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً إلى قوله ﴿وَ مَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ الآية و ما يتلوها لبيان أن متاع الدنيا من مال و زينة لا قدر لها عند الله سبحانه و لا منزلة.

قالوا: المراد بكون الناس أمة واحدة كونهم مجتمعين على سنة واحدة هي الكفر بالله لو رأوا أن زينة الدنيا بحذافيرها عند الكافر بالله و المؤمن صفر الكف منها مطلقا، و المعارج الدرجات و المصاعد.

و المعنى: و لو لا أن يجتمع الناس على الكفر لو رأوا تنعم الكافرين و حرمان

 

 

 المؤمنين لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة و درجات عليها يظهرون لغيرهم.

و يمكن أن يكون المراد بكون الناس أمة واحدة كونهم جميعا على نسبة واحدة تجاه الأسباب العاملة في حظوظ العيش من غير فرق بين المؤمن و الكافر، فمن سعى سعيه للرزق و وافقته الأسباب و العوامل الموصلة الأخرى نال منه مؤمنا كان أو كافرا، و من لم يجتمع له حرم ذلك و قتر عليه الرزق مؤمنا أو كافرا.

و المعنى: لو لا ما أردنا أن يتساوى الناس تجاه الأسباب الموصلة إلى زخارف الدنيا و لا يختلفوا فيها بالإيمان و الكفر لجعلنا لمن يكفر، إلخ.

قوله تعالى: ﴿وَ لِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَ سُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِؤُنَ وَ زُخْرُفاً تنكير ﴿أَبْوَاباً و ﴿سُرُراً للتفخيم، و الزخرف‏ الذهب أو مطلق الزينة، قال في المجمع،: الزخرف كمال حسن الشي‏ء و منه قيل للذهب، و يقال: زخرفه زخرفة إذا حسنه و زينه، و منه قيل للنقوش و التصاوير: زخرف، و في الحديث: أنه (ص) لم يدخل الكعبة حتى أمر بالزخرف فنحي. انتهى. و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ﴿وَ إِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ اَلْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ ﴿إِنْ للنفي و ﴿لَمَّا بمعنى إلا أي ليس كل ما ذكر من مزايا المعيشة إلا متاع الحياة الدنيا الزائلة الفانية التي لا تدوم.

و قوله: ﴿وَ اَلْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ المراد بالآخرة بقرينة المقام الحياة الآخرة السعيدة كان الحياة الآخرة الشقية لا تعد حياة.

و المعنى: أن الحياة الآخرة السعيدة بحكم من الله تعالى و قضاء منه مختصة بالمتقين، و هذا التخصيص و القصر يؤيد ما قدمناه من معنى كون الناس أمة واحدة في الدنيا بعض التأييد.

قوله تعالى: ﴿وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ اَلرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ يقال: عشي‏ يعشى عشا من باب علم يعلم إذا كان ببصره آفة لا يبصر مطلقا أو بالليل فقط، و عشا يعشو عشوا و عشوا من باب نصر ينصر إذا تعامى و تعشى بلا آفة، و التقييض‏ التقدير و الإتيان بشي‏ء إلى شي‏ء، يقال: قيضه له إذا جاء به إليه.

لما انتهى الكلام إلى ذكر المتقين و أن الآخرة لهم عند الله قرنه بعاقبة أمر

 

 

 المعرضين عن الحق المتعامين عن ذكر الرحمن مشيرا إلى أمرهم من أوله و هو أن تعاميهم عن ذكر الله يورثهم ملازمة قرناء الشياطين فيلازمونهم مضلين لهم حتى يردوا عذاب الآخرة معهم.

فقوله: ﴿وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ اَلرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً أي من تعامى عن ذكر الرحمن و نظر إليه نظر الأعشى جئنا إليه بشيطان، و قد عبر تعالى عنه في موضع آخر بالإرسال فقال: ﴿أَ لَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا اَلشَّيَاطِينَ عَلَى اَلْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا: مريم: ٨٣، و إضافة الذكر إلى الرحمن للإشارة إلى أنه رحمة.

و قوله: ﴿فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ أي مصاحب لا يفارقه.

قوله تعالى: ﴿وَ إِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ اَلسَّبِيلِ وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ضمير «أنهم» للشياطين، و ضمائر الجمع الباقية للعاشين عن الذكر، و اعتبار الجمع نظرا إلى المعنى في ﴿وَ مَنْ يَعْشُ إلخ، و الصد الصرف، و المراد بالسبيل ما يدعو إليه الذكر من سبيل الله الذي هو دين التوحيد.

و المعنى: و إن الشياطين ليصرفون العاشين عن الذكر و يحسب العاشون أنهم أي العاشين أنفسهم مهتدون إلى الحق.

و هذا أعني حسبانهم أنهم مهتدون عند انصدادهم عن سبيل الحق أمارة تقييض القرين و دخولهم تحت ولاية الشيطان فإن الإنسان بطبعه الأولي مفطور على الميل إلى الحق و معرفته إذا عرض عليه ثم إذا عرض عليه فأعرض عنه اتباعا للهوى و دام عليه طبع الله على قلبه و أعمى بصره و قيض له القرين فلم ير الحق الذي تراءى له و طبق الحق الذي يميل إليه بالفطرة على الباطل الذي يدعوه إليه الشيطان فيحسب أنه مهتد و هو ضال و يخيل إليه أنه على الحق و هو على الباطل.

و هذا هو الغطاء الذي يذكر تعالى أنه مضروب عليهم في الدنيا و أنه سينكشف عنهم يوم القيامة، قال تعالى: ﴿اَلَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي إلى أن قال ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً اَلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً: الكهف: ١٠٤، و قال فيما يخاطبه يوم القيامة و معه قرينه: ﴿لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ اَلْيَوْمَ حَدِيدٌ إلى أن قال ﴿قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَ لَكِنْ كَانَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ: ق: ٢٧.

 

 

قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ بُعْدَ اَلْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ اَلْقَرِينُ ﴿حَتَّى غاية لاستمرار الفعل الذي يدل عليه قوله في الآية السابقة: ﴿لَيَصُدُّونَهُمْ و قوله: ﴿يَحْسَبُونَ أي لا يزال القرناء يصدونهم و لا يزالون يحسبون أنهم مهتدون حتى إذا جاءنا الواحد منهم.

و المراد بالمجي‏ء إليه تعالى البعث، و ضمير «جاء» و «قال» راجع إلى الموصول باعتبار لفظه، و المراد بالمشرقين المشرق و المغرب غلب فيه جانب المشرق.

و المعنى: و أنهم يستمرون على صدهم عن السبيل و يستمر العاشون عن الذكر على حسبان أنهم مهتدون في انصدادهم حتى إذا حضر الواحد منهم عندنا و معه قرينه و كشف له عن ضلاله و ما يستتبعه من العذاب الأليم، قال مخاطبا لقرينه متأذيا من صحابته: يا ليت بيني و بينك بعد المشرق و المغرب فبئس القرين أنت.

و يستفاد من السياق أنهم معذبون بصحابة القرناء وراء عذابهم بالنار، و لذا يتمنون التباعد عنهم و يخصونه بالذكر و ينسون سائر العذاب.

قوله تعالى: ﴿وَ لَنْ يَنْفَعَكُمُ اَلْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي اَلْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ الظاهر أنه معطوف على ما قبله من وصف حالهم، و المراد باليوم يوم القيامة، و قوله: ﴿أَنَّكُمْ فِي اَلْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ فاعل ﴿لَنْ يَنْفَعَكُمُ و المراد بضمير جمع المخاطب العاشون عن الذكر و قرناؤهم، و ﴿إِذْ ظَلَمْتُمْ واقع موقع التعليل.

و المراد - و الله أعلم - أنكم إذا أساء بعضكم إلى بعض في الدنيا فأوقعه في مصيبة ربما تسليتم بعض التسلي لو ابتلي هو نفسه بمثل ما ابتلاكم به فينفعكم ذلك تسليا و تشفيا لكن لا ينفعكم يوم القيامة اشتراك قرنائكم معكم في العذاب فإن اشتراكهم معكم في العذاب و كونهم معكم في النار هو بعينه عذاب لكم.

و ذكر بعض المفسرين أن فاعل ﴿لَنْ يَنْفَعَكُمُ ضمير راجع إلى تمنيهم المذكور في الآية السابقة، و قوله: ﴿إِذْ ظَلَمْتُمْ أي لأجل ظلمكم أنفسكم في الدنيا باتباعكم إياهم في الكفر و المعاصي، و قوله: ﴿أَنَّكُمْ فِي اَلْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ تعليل لنفي النفع و المعنى: و لن ينفعكم تمني التباعد عنكم لأن حقكم أن تشتركوا أنتم و قرناؤكم في العذاب.

و فيه أن فيه تدافعا فإنه أخذ قوله: ﴿إِذْ ظَلَمْتُمْ تعليلا لنفي نفع التمني أولا

 

 

 و قوله: ﴿أَنَّكُمْ فِي اَلْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ تعليلا له ثانيا و لازم التطابق بين التعليلين أن يذكر ثانيا القضاء على المتمنين التابعين بالعذاب لا باشتراك التابعين و المتبوعين فيه.

و قال بعضهم: معنى الآية أنه لا يخفف الاشتراك عنكم شيئا من العذاب لأن لكل واحد منكم و من قرنائكم الحظ الأوفر من العذاب.

و فيه أن ما ذكر من سبب عدم النفع و إن فرض صحيحا في نفسه لكن لا دلالة عليه من جهة لفظ الآية و لا سياق الكلام.

و قال بعضهم: المعنى: لا ينفعكم اشتراككم في العذاب كما ينفع الواقعين في شدائد الدنيا اشتراكهم فيها لتعاونهم في تحمل أعبائها و تقسمهم لعنائها لأن لكل منكم و من قرنائكم من العذاب ما لا تبلغه طاقته.

و فيه ما في سابقه من الكلام، و رد أيضا بأن الانتفاع بذلك الوجه ليس مما يخطر ببالهم حتى يرد عليهم بنفيه.

قوله تعالى: ﴿أَ فَأَنْتَ تُسْمِعُ اَلصُّمَّ أَوْ تَهْدِي اَلْعُمْيَ وَ مَنْ كَانَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ لما ذكر تقييضه القرناء لهم و تقليبهم إدراكهم بحيث يرون الضلال هدى و لا يقدرون على معرفة الحق فرع عليه أن نبه (صلى الله عليه وآله و سلم) أن هؤلاء صم عمي لا يقدر هو على أسماعهم كلمة الحق و هدايتهم إلى سبيل الرشد فلا يتجشم و لا يتكلف في دعوتهم و لا يحزن لإعراضهم، و الاستفهام للإنكار، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ﴿فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ اَلَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ المراد بالإذهاب به توفيه (ص) قبل الانتقام منهم، و قيل:

المراد إذهابه بإخراجه من بينهم، و قوله: ﴿فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ أي لا محالة، و المراد بإراءته ما وعدهم الانتقام منهم قبل توفيه (ص) أو حال كونه بينهم، و قوله: «فإنا عليهم مقتدرون» أي اقتدارنا يفوق عليهم.

و قوله في الصدر: ﴿فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ أصله أن نذهب بك زيدت عليه ما و النون للتأكيد، و محصل الآية إنا منتقمون منهم بعد توفيك أو قبلها لا محالة.

قوله تعالى: ﴿فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى‏َ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ الظاهر أنه تفريع لجميع ما تقدم من أن إنزال الذكر من طريق الوحي و النبوة من سننه تعالى

 

 

 و أن كتابه النازل عليه حق و هو رسول مبين لا يستجيب دعوته إلا المتقون و لا يعرض عنها إلا قرناء الشياطين، و لا مطمع في إيمانهم و سينتقم الله منهم.

فأكد عليه الأمر بعد ذلك كله أن يجد في التمسك بالكتاب الذي أوحي إليه لأنه على صراط مستقيم.

قوله تعالى: ﴿وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَ لِقَوْمِكَ وَ سَوْفَ تُسْئَلُونَ الظاهر أن المراد بالذكر ذكر الله، و بهذا المعنى تكرر مرارا في السورة، و اللام في ﴿لَكَ وَ لِقَوْمِكَ للاختصاص بمعنى توجه ما فيه من التكاليف إليهم، و يؤيده بعض التأييد قوله: ﴿وَ سَوْفَ تُسْئَلُونَ أي عنه يوم القيامة.

و عن أكثر المفسرين أن المراد بالذكر الشرف الذي يذكر به، و المعنى: و إنه لشرف عظيم لك و لقومك من العرب تذكرون به بين الأمم.

قوله تعالى: ﴿وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَ جَعَلْنَا مِنْ دُونِ اَلرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ قيل: المراد بالسؤال منهم السؤال من أممهم و علماء دينهم كقوله تعالى:

﴿فَسْئَلِ اَلَّذِينَ يَقْرَؤُنَ اَلْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ: يونس: ٩٤، و فائدة هذا المجاز أن المسئول عنه السؤال منهم عين ما جاءت به رسلهم لا ما يجيبونه من تلقاء أنفسهم.

و قيل: المراد السؤال من أهل الكتابين: التوراة و الإنجيل فإنهم و إن كفروا لكن الحجة تقوم بتواتر خبرهم، و الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و التكليف لأمته.

و بعد الوجهين غير خفي و يزيد الثاني بعدا التخصيص بأهل الكتابين من غير مخصص ظاهر.

و قيل: الآية مما خوطب به النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ليلة المعراج أن يسأل أرواح الأنبياء (عليه السلام ) و قد اجتمع بهم أن يسألهم هل جاءوا بدين وراء دين التوحيد.

و قد وردت به غير واحدة من الروايات عن أئمة أهل البيت (صلى الله عليه وآله و سلم) و سيوافيك في البحث الروائي الآتي إن شاء الله.

 

 

(بحث روائي‏)

 في المجمع،: في قوله تعالى: ﴿وَ جَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ و قيل: الكلمة الباقية في عقبه هي الإمامة إلى يوم الدين: عن أبي عبد الله (عليه السلام ) . أقول: و في هذا المعنى روايات أخر و قد طبقت الآية في بعضها على الإمامة في عقب الحسين (عليه السلام ) .

و التأمل في الروايات يعطي أن بناءها على إرجاع الضمير في ﴿جَعَلَهَا إلى الهداية المفهومة من قوله: ﴿سَيَهْدِينِ و قد تقدم في تفسير قوله تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً إن الإمام وظيفته هداية الناس في ملكوت أعمالهم بمعنى سوقهم إلى الله سبحانه بإرشادهم و إيرادهم درجات القرب من الله سبحانه و إنزال كل ذي عمل منزلة الذي يستدعيه عمله، و حقيقة الهداية من الله سبحانه و تنسب إليه بالتبع أو بالعرض.

و فعلية الهداية النازلة من الله إلى الناس تشمله أولا ثم تفيض عنه إلى غيره فله أتم الهداية و لغيره ما هي دونها و ما ذكره إبراهيم (عليه السلام ) في قوله: ﴿فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ هداية مطلقة تقبل الانطباق على أتم مراتب الهداية التي هي حظ الإمام منها فهي الإمامة و جعلها كلمة باقية في عقبه جعل الإمامة كذلك.

 و في الإحتجاج، عن العسكري عن أبيه (عليه السلام ) قال : إن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) كان قاعدا ذات يوم بفناء الكعبة إذ قال له عبد الله بن أمية المخزومي: لو أراد الله أن يبعث إلينا رسولا لبعث أجل من فيما بيننا مالا و أحسنه حالا فهلا نزل هذا القرآن الذي تزعم أن الله أنزله عليك و ابتعثك به رسولا، على رجل من القريتين عظيم: إما الوليد بن المغيرة بمكة و إما عروة بن مسعود الثقفي بالطائف.

ثم ذكر (عليه السلام ) في كلام طويل جواب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) عن قوله بما في معنى الآيات.

ثم قال: و ذلك قوله تعالى: ﴿وَ قَالُوا لَوْ لاَ نُزِّلَ هَذَا اَلْقُرْآنُ عَلىَ رَجُلٍ مِنَ اَلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ قال الله: ﴿أَ هُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ يا محمد ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا فأحوجنا بعضنا إلى بعض أحوج هذا إلى مال ذلك و أحوج ذلك إلى سلعة هذا و إلى خدمته.

فترى أجل الملوك و أغنى الأغنياء محتاجا إلى أفقر الفقراء في ضرب من الضروب

 

 

إما سلعة معه ليست معه، و إما خدمة يصلح لها لا يتهيأ لذلك الملك أن يستغني إلا به و أما باب من العلوم و الحكم هو فقير إلى أن يستفيدها من هذا الفقي الذي يحتاج إلى مال ذلك الملك الغني، و ذلك الملك يحتاج إلى علم هذا الفقير أو رأيه أو معرفته.

ثم ليس للملك أن يقول: هلا اجتمع إلي مالي علم هذا الفقير و لا للفقير أن يقول:

هلا اجتمع إلى رأيي و معرفتي و علمي و ما أتصرف فيه من فنون الحكم مال هذا الملك الغني، ثم قال تعالى: ﴿وَ رَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا.

ثم قال: يا محمد ﴿وَ رَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ أي ما يجمعه هؤلاء من أموال الدنيا. و في الكافي، بإسناده عن سعيد بن المسيب قال : سألت علي بن الحسين (عليه السلام ) عن قول الله عز و جل: ﴿وَ لَوْ لاَ أَنْ يَكُونَ اَلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً قال: عنى بذلك أمة محمد أن يكونوا على دين واحد كفارا كلهم ﴿لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ إلى آخر الآية.

 و في تفسير القمي، بإسناده عن يحيى بن سعيد عن أبي عبد الله (عليه السلام ) قال : ﴿فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ﴾ يا محمد من مكة إلى المدينة فإما رادوك إليها و منتقمون منهم بعلي بن أبي طالب (عليه السلام ) .

 و في الدر المنثور، أخرج عبد الرزاق و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و الحاكم و صححه عن قتادة في قوله: ﴿فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ": قال: قال أنس" :ذهب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و بقيت النقمة و لم ير الله نبيه في أمته شيئا يكرهه حتى قبض و لم يكن نبي قط إلا و قد رأى العقوبة في أمته إلا نبيكم رأى ما يصيب أمته بعده فما رئي ضاحكا منبسطا حتى قبض. أقول: و روي فيه هذا المعنى عنه و عن علي بن أبي طالب و عن غيرهما بطرق أخرى.

 و فيه، أخرج ابن مردويه من طريق محمد بن مروان عن الكلبي عن أبي صالح عن جابر بن عبد الله عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في قوله تعالى: ﴿فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ نزلت في علي بن أبي طالب أنه ينتقم من الناكثين و القاسطين بعدي.

 أقول: ظاهر الرواية و ما قبلها و ما في معناهما أن الوعيد في الآيتين للمنحرفين عن الحق من أهل القبلة دون كفار قريش.

 

 

 و في الإحتجاج، عن أمير المؤمنين (عليه السلام ) في حديث طويل يقول فيه: و أما قوله تعالى: ﴿وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا فهذا من براهين نبينا (ص) التي آتاه الله إياها و أوجب به الحجة على سائر خلقه لأنه لما ختم به الأنبياء و جعله الله رسولا إلى جميع الأمم و سائر الملل خصه بالارتقاء إلى السماء عند المعراج و جمع له يومئذ الأنبياء فعلم منهم ما أرسلوا به و حملوه من عزائم الله و آياته و براهينه. الحديث.

أقول: و روى هذا المعنى القمي في تفسيره، بإسناده عن أبي الربيع عن أبي جعفر (عليه السلام ) في جواب ما سأله نافع بن الأزرق، و رواه في الدر المنثور، بطرق عن سعيد بن جبير و ابن جريح و ابن زيد.

[سورة الزخرف (٤٣): الآیات ٤٦ الی ٥٦]

﴿وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسىَ بِآيَاتِنَا إِلىَ فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ ٤٦ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ ٤٧ وَ مَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ٤٨ وَ قَالُوا يَا أَيُّهَا اَلسَّاحِرُ اُدْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ ٤٩ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ اَلْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ ٥٠ وَ نَادى‏ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَ لَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَ هَذِهِ اَلْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَ فَلاَ تُبْصِرُونَ ٥١ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا اَلَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَ لاَ يَكَادُ يُبِينُ ٥٢ فَلَوْ لاَ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ اَلْمَلاَئِكَةُ مُقْتَرِنِينَ ٥٣ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ ٥٤ فَلَمَّا

 

 

آسَفُونَا اِنْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ٥٥ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَ مَثَلاً لِلْآخِرِينَ ٥٦

(بيان‏)

لما ذكر طغيانهم بعد تمتيعهم بنعمه و رميهم الحق الذي جاءهم به رسول مبين بأنه سحر و أنهم قالوا: ﴿لَوْ لاَ نُزِّلَ هَذَا اَلْقُرْآنُ عَلى‏ رَجُلٍ مِنَ اَلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ فرجحوا الرجل على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بكثرة ماله مثل لهم بقصة موسى (عليه السلام ) و فرعون و قومه حيث أرسله الله إليهم بآياته الباهرة فضحكوا منها و استهزءوا بها، و احتج فرعون فيما خاطب به قومه على أنه خير من موسى بملك مصر و أنهار تجري من تحته فاستخفهم فأطاعوه فآل أمر استكبارهم أن انتقم الله منهم فأغرقهم.

قوله تعالى: ﴿وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسىَ بِآيَاتِنَا إِلىَ فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ اللام في ﴿لَقَدْ للقسم، و الباء في قوله: ﴿بِآيَاتِنَا للمصاحبة، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ المراد بمجيئهم بالآيات إظهار المعجزات للدلالة على الرسالة، و المراد بالضحك ضحك الاستهزاء استخفافا بالآيات.

قوله تعالى: ﴿وَ مَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا إلخ، الأخت‏ المثل، و قوله: ﴿هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا كناية عن كون كل واحدة منها بالغة في الدلالة على حقية الرسالة، و جملة ﴿وَ مَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إلخ، حال من ضمير ﴿مِنْهَا، و المعنى:

فلما أتاهم بالمعجزات إذا هم منها يضحكون و الحال أن كلا منها تامة كاملة في إعجازها و دلالتها من غير نقص و لا قصور.

و قوله: ﴿وَ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي رجاء أن يرجعوا عن استكبارهم إلى قبول رسالته، و المراد بالعذاب الذي أخذوا به آيات الرجز التي نزلت عليهم من السنين و نقص من الثمرات و الطوفان و الجراد و القمل و الضفادع و الدم آيات مفصلات كما في سورة الأعراف.

 

 

قوله تعالى: ﴿وَ قَالُوا يَا أَيُّهَا اَلسَّاحِرُ اُدْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ ما في ﴿بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ مصدرية أي بعهده عندك و المراد به عهده أن يكشف عنهم العذاب لو آمنوا كما قيل أو أن يستجيب دعاءه إذا دعا كما احتمله بعضهم.

و قولهم: ﴿يَا أَيُّهَا اَلسَّاحِرُ خطاب استهزاء استكبارا منهم كما قالوا: ادع ربك و لم يقولوا: ادع ربنا أو ادع الله استكبارا، و المراد أنهم طلبوا منه الدعاء لكشف العذاب عنهم و وعدوه الاهتداء.

و قيل: معنى الساحر في عرفهم العالم و كان الساحر عندهم عظيما يعظمونه و لم يكن صفة ذم. و ليس بذاك بل كانوا ساخرين على استكبارهم كما يشهد به قولهم:

﴿اُدْعُ لَنَا رَبَّكَ.

قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ اَلْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ النكث‏ نقض العهد و خلف الوعد، و وعدهم هو قولهم: ﴿إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ.

قوله تعالى: ﴿وَ نَادىَ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَ لَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَ هَذِهِ اَلْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَ فَلاَ تُبْصِرُونَ أي ناداهم و هو بينهم، و فصل ﴿قَالَ لكونه في موضع جواب السؤال كأنه قيل: فما ذا قال؟ فقيل: قال كذا.

و قوله: ﴿وَ هَذِهِ اَلْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أي من تحت قصري أو من بستاني الذي فيه قصري المرتفع العالي البناء، و الجملة أعني قوله: ﴿وَ هَذِهِ اَلْأَنْهَارُ إلخ، حالية أو ﴿وَ هَذِهِ اَلْأَنْهَارُ معطوف على ﴿مُلْكُ مِصْرَ، و قوله: ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِي حال من الأنهار، و الأنهار أنهار النيل.

و قوله: ﴿أَ فَلاَ تُبْصِرُونَ في معنى تكرير الاستفهام السابق في قوله: ﴿أَ لَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ إلخ.

قوله تعالى: ﴿أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا اَلَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَ لاَ يَكَادُ يُبِينُ المهين‏ الحقير الضعيف من المهانة بمعنى الحقارة، و يريد بالمهين موسى (عليه السلام ) لما به من الفقر و رثاثة الحال.

و قوله: ﴿وَ لاَ يَكَادُ يُبِينُ أي يفصح عن مراده و لعله كان يصف موسى (عليه السلام ) به باعتبار ما كان عليه قبل الرسالة لكن الله رفع عنه ذلك لقوله: ﴿قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسىَ: طه: ٣٦ بعد قوله (عليه السلام ) : ﴿وَ اُحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي : طه: ٢٨.

 

 

 و قوله في صدر الآية: ﴿أَمْ أَنَا خَيْرٌ إلخ، أم فيه إما منقطعة لتقرير كلامه السابق و المعنى: بل أنا خير من موسى لأنه كذا و كذا، و إما متصلة، و أحد طرفي الترديد محذوف مع همزة الاستفهام، و التقدير: أ هذا خير أم أنا خير إلخ، و في المجمع، قال سيبويه و الخليل: عطف أنا بأم على ﴿أَ فَلاَ تُبْصِرُونَ لأن معنى ﴿أَنَا خَيْرٌ معنى أم تبصرون فكأنه قال: أ فلا تبصرون أم تبصرون لأنهم إذا قالوا له: أنت خير منه فقد صاروا بصراء عنده انتهى. أي إن وضع ﴿أَمْ أَنَا خَيْرٌ موضع أم تبصرون من وضع المسبب موضع السبب أو بالعكس.

و كيف كان فالإشارة إلى موسى بهذا من دون أن يذكر باسمه للتحقير و توصيفه بقوله: ﴿اَلَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَ لاَ يَكَادُ يُبِينُ للتحقير و للدلالة على عدم خيريته.

قوله تعالى: ﴿فَلَوْ لاَ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ اَلْمَلاَئِكَةُ مُقْتَرِنِينَ الأسورة جمع سوار بالكسر، و قال الراغب: هو معرب دستواره قالوا: كان من دأبهم أنهم إذا سودوا رجلا سوروه بسوار من ذهب و طوقوه بطوق من ذهب فالمعنى لو كان رسولا و ساد الناس بذلك لألقي إليه أسورة من ذهب.

و قوله: ﴿أَوْ جَاءَ مَعَهُ اَلْمَلاَئِكَةُ مُقْتَرِنِينَ الظاهر أن الاقتران‏ بمعنى التقارن كالاستباق و الاستواء بمعنى التسابق و التساوي، و المراد إتيان الملائكة معه متقارنين لتصديق رسالته، و هذه الكلمة مما تكررت على لسان مكذبي الرسل كقولهم: ﴿لَوْ لاَ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً: الفرقان: ٧.

قوله تعالى: ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ أي استخف عقول قومه و أحلامهم، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا آسَفُونَا اِنْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ الإيساف‏ الإغضاب أي فلما أغضبونا بفسوقهم انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين، و الغضب منه تعالى إرادة العقوبة.

قوله تعالى: ﴿فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَ مَثَلاً لِلْآخِرِينَ السلف‏ المتقدم و الظاهر أن المراد بكونهم سلفا للآخرين تقدمهم عليهم في دخول النار، و المثل الكلام السائر الذي يتمثل به و يعتبر به، و الظاهر أن كونهم مثلا لهم كونهم مما يعتبر به الآخرون لو اعتبروا و اتعظوا.

 

 

(بحث روائي)‏

في تفسير القمي،: في قوله تعالى: ﴿وَ لاَ يَكَادُ يُبِينُ قال: لم يبين الكلام.

 و في التوحيد، بإسناده إلى أحمد بن أبي عبد الله رفعه إلى أبي عبد الله (عليه السلام ) : في قول الله عز و جل ﴿فَلَمَّا آسَفُونَا اِنْتَقَمْنَا مِنْهُمْ قال: إن الله لا يأسف كأسفنا و لكنه خلق أولياء لنفسه يأسفون و يرضون و هم مخلوقون مدبرون فجعل رضاهم لنفسه رضى و سخطهم لنفسه سخطا و ذلك لأنه جعلهم الدعاة إليه و الأدلاء عليه فلذلك صاروا كذلك.

و ليس أن ذلك يصل إلى الله كما يصل إلى خلقه و لكن هذا معنى ما قال من ذلك، و قد قال أيضا من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة و دعاني إليها، و قال أيضا:

﴿مَنْ يُطِعِ اَلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اَللَّهَ، و قال أيضا: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اَللَّهَ و كل هذا و شبهه على ما ذكرت لك، و هكذا الرضا و الغضب و غيرهما من الأشياء مما يشاكل ذلك.

و لو كان يصل إلى المكون الأسف و الضجر و هو الذي أحدثهما و أنشأهما لجاز لقائل أن يقول: إن المكون يبيد يوما لأنه إذا دخله الضجر و الغضب دخله التغيير فإذا دخله التغيير لم يؤمن عليه الإبادة، و لو كان ذلك كذلك لم يعرف المكون من المكون و إلا القادر من المقدور و لا الخالق من المخلوقين تعالى الله عن هذا القول علوا كبيرا.

هو الخالق للأشياء لا لحاجة فإذا كان لا لحاجة استحال الحد و الكيف فيه فافهم ذلك إن شاء الله.:

أقول: و روي مثله في الكافي، بإسناده عن محمد بن إسماعيل بن بزيع عن عمه حمزة بن بزيع عنه (عليه السلام ) .

[سورة الزخرف (٤٣): الآیات ٥٧ الی ٦٥]

﴿وَ لَمَّا ضُرِبَ اِبْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ٥٧ وَ قَالُوا أَ آلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ

 

 

خَصِمُونَ ٥٨ إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَ جَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ٥٩ وَ لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلاَئِكَةً فِي اَلْأَرْضِ يَخْلُفُونَ ٦٠ وَ إِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا وَ اِتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ٦١ وَ لاَ يَصُدَّنَّكُمُ اَلشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ٦٢ وَ لَمَّا جَاءَ عِيسى‏ بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَ لِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ اَلَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اَللَّهَ وَ أَطِيعُونِ ٦٣ إِنَّ اَللَّهَ هُوَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ٦٤ فَاخْتَلَفَ اَلْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ ٦٥

 (بيان‏)

إشارة إلى قصة عيسى بعد الفراغ عن قصة موسى (عليه السلام ) و قدم عليها مجادلتهم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في عيسى (عليه السلام ) و أجيب عنها.

قوله تعالى: ﴿وَ لَمَّا ضُرِبَ اِبْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ إلى قوله ﴿خَصِمُونَ الآية إلى تمام أربع آيات أو ست آيات حول جدال القوم فيما ضرب من مثل ابن مريم، و الذي يتحصل بالتدبر فيها نظرا إلى كون السورة مكية و مع قطع النظر عن الروايات هو أن المراد بقوله: ﴿وَ لَمَّا ضُرِبَ اِبْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً هو ما أنزله الله من وصفه في أول سورة مريم فإنها السورة المكية الوحيدة التي وردت فيها قصة عيسى بن مريم (عليه السلام ) تفصيلا، و السورة تقص قصص عدة من النبيين بما أن الله أنعم عليهم كما تختتم قصصهم بقوله: ﴿أُولَئِكَ اَلَّذِينَ أَنْعَمَ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ اَلنَّبِيِّينَ: مريم: ٥٨، و قد وقع في

 

 

 هذه الآيات قوله: ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ و هو من الشواهد على كون قوله:

﴿وَ لَمَّا ضُرِبَ اِبْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إشارة إلى ما في سورة مريم.

و المراد بقوله: ﴿إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ بكسر الصاد أي يضجون و يضحكون ذم لقريش في مقابلتهم المثل الحق بالتهكم و السخرية، و قرئ ﴿يَصِدُّونَ بضم الصاد أي يعرضون و هو أنسب للجملة التالية.

و قوله: ﴿وَ قَالُوا أَ آلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ الاستفهام للإنكار أي آلهتنا خير من ابن مريم كأنهم لما سمعوا اسمه بما يصفه القرآن به من النعمة و الكرامة أعرضوا عنه بما يصفه به القرآن و أخذوه بما له من الصفة عند النصارى أنه إله ابن إله فردوا على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بأن آلهتنا خير منه و هذا من أسخف الجدال كأنهم يشيرون بذلك إلى أن الذي في القرآن من وصفه لا يعتنى به و ما عند النصارى لا ينفع فإن آلهتهم خير منه.

و قوله: ﴿مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً أي ما وجهوا هذا الكلام: ﴿أَ آلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ إليك إلا جدلا يريدون به إبطال المثل المذكور و إن كان حقا ﴿بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ أي ثابتون على خصومتهم مصرون عليها.

و قوله: ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ رد لما يستفاد من قولهم: ﴿أَ آلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ أنه إله النصارى كما سيجي‏ء.

 و قال الزمخشري في الكشاف، و كثير من المفسرين و نسب إلى ابن عباس و غيره في تفسير الآية: أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لما قرأ قوله تعالى: ﴿إِنَّكُمْ وَ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ على قريش امتعضوا من ذلك امتعاضا شديدا فقال ابن الزبعري: يا محمد، أ خاصة لنا و لآلهتنا أم لجميع الأمم؟ فقال (عليه السلام ) : هو لكم و لآلهتكم و لجميع الأمم.

فقال: خصمتك و رب الكعبة أ لست تزعم أن عيسى بن مريم نبي و تثني عليه خيرا و على أمه؟ و قد علمت أن النصارى يعبدونهما، و عزير يعبد و الملائكة يعبدون فإن كان هؤلاء في النار فقد رضينا أن نكون نحن و آلهتنا معهم ففرحوا و ضحكوا و سكت النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فأنزل الله: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا اَلْحُسْنىَ أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ و نزلت هذه الآية. و المعنى: و لما ضرب ابن الزبعري عيسى بن مريم مثلا و جادل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بعبادة النصارى إياه إذا قومك يعني قريشا من هذا المثل يضجون فرحا و ضحكا بما

 

 

 سمعوا منه من إسكات رسول (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و قالوا: ء آلهتنا خير أم هو أي إن عيسى عندك خير من آلهتنا و إذا كان هو حصب جهنم فأمر آلهتنا هين. ما ضربوا هذا المثل لك إلا جدلا و غلبة في القول لا لميز الحق من الباطل.

و فيه أنه تقدم في تفسير[2] قوله: ﴿إِنَّكُمْ وَ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ الأنبياء: ٩٨، أن هذه الرواية بما فيها من وجوه الوهن و الخلل ضعيفة لا يعبأ بها حتى نقل عن الحافظ ابن حجر أن الحديث لا أصل له و لم يوجد في شي‏ء من كتب الحديث لا مسندا و لا غير مسند. و قصة ابن الزبعري هذه و إن رويت من طرق الشيعة على وجه سليم عن المناقشة لكن لم يذكر فيها نزول قوله: ﴿وَ لَمَّا ضُرِبَ اِبْنُ مَرْيَمَ الآية هناك.

على أن ظاهر قوله: ﴿ضُرِبَ اِبْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً و قوله: ﴿أَ آلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ لا يلائم ما فسرته تلك الملاءمة.

و قيل: إنهم لما سمعوا قوله تعالى: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسىَ عِنْدَ اَللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ: آل عمران: ٥٩، قالوا: نحن أهدى من النصارى لأنهم يعبدون آدميا و نحن نعبد الملائكة يريدون أرباب الأصنام فآلهتنا خير من إلههم فالذي ضرب المثل بابن مريم هو الله سبحانه، و قولهم: ﴿أَ آلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ لتفضيل آلهتهم على عيسى لا بالعكس كما في الوجه السابق.

و فيه أن قوله تعالى: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسىَ عِنْدَ اَللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ مدنية. و هذه الآيات أعني قوله: ﴿وَ لَمَّا ضُرِبَ اِبْنُ مَرْيَمَ إلخ، آيات مكية من سورة مكية.

على أن الأساس في قولهم على هذا الوجه تفضيلهم أنفسهم على النصارى فلا يرتبط على هذا قوله: ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ إلخ، بما تقدمه.

و قيل: إنهم لما سمعوا قوله: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسىَ عِنْدَ اَللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ ضجوا و قالوا: ما يريد محمد بهذا إلا أن نعبده كما يعبد النصارى المسيح، و آلهتنا خير منه أي من محمد.

و فيه ما في سابقه.

 

 

 

و قيل: مرادهم بقولهم: ﴿أَ آلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ التنصل و التخلص عما أنكر عليهم من قولهم: الملائكة بنات الله، و من عبادتهم لهم كأنهم قالوا: ما كان ذلك منا بدعا فإن النصارى يعبدون المسيح و ينسبونه إلى الله و هو بشر و نحن نعبد الملائكة و ننسبهم إلى الله و هم أفضل من البشر.

و فيه أنه لا يفي بتوجيه قوله: ﴿وَ لَمَّا ضُرِبَ اِبْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ على أن قوله: ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ على هذا الوجه لا يرتبط بما قبله كما في الوجهين السابقين.

و قيل: معنى قولهم: ﴿أَ آلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ أن مثلنا في عبادة الآلهة مثل النصارى في عبادة المسيح فأيهما خير؟ عبادة آلهتنا أم عبادة المسيح؟ فإن قال: عبادة المسيح خير فقد اعترف بعبادة غير الله، و إن قال: عبادة الآلهة فكذلك، و إن قال:

ليس في عبادة المسيح خير فقد قصر به عن منزلته و جوابه أن اختصاص المسيح بضرب من التشريف و الإنعام من الله تعالى لا يوجب جواز عبادته.

و فيه أنه في نفسه لا بأس به لكن الشأن في دلالة قوله تعالى: ﴿أَ آلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ على هذا التفصيل.

و قال في المجمع، في الوجوه التي أوردها في معنى الآية: و رابعها ما رواه سادة أهل البيت عن علي (عليه السلام ) أنه قال: جئت إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يوما فوجدته في ملإ من قريش فنظر إلي ثم قال: يا علي، إنما مثلك في هذه الأمة مثل عيسى بن مريم أحبه قوم فأفرطوا في حبه فهلكوا، و أبغضه قوم فأفرطوا في بغضه فهلكوا، و اقتصد فيه قوم فنجوا. فعظم ذلك عليهم فضحكوا و قالوا: يشبهه بالأنبياء و الرسل، فنزلت الآية.

 أقول: و الرواية غير متعرضة لتوجيه قولهم: ﴿أَ آلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ و لئن كانت القصة سببا للنزول فمعنى الجملة: لئن نتبع آلهتنا و نطيع كبراءنا خير من أن نتولى عليا فيتحكم علينا أو خير من أن نتبع محمدا فيحكم علينا ابن عمه.

و يمكن أن يكون قوله: ﴿وَ قَالُوا أَ آلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ إلخ، استئنافا و النازل في القصة هو قوله: ﴿وَ لَمَّا ضُرِبَ اِبْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً الآية.

قوله تعالى: ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَ جَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ الذي

 

 

 يستدعيه السياق أن يكون الضمير لابن مريم، و المراد بكونه مثلا على ما قيل كونه آية عجيبة إلهية يسير ذكره كالأمثال السائرة.

و المعنى: ليس ابن مريم إلا عبدا متظاهرا بالعبودية أنعمنا عليه بالنبوة و تأييده بروح القدس و إجراء المعجزات الباهرة على يديه و غير ذلك و جعلناه آية عجيبة خارقة نصف به الحق لبني إسرائيل.

و هذا المعنى كما ترى رد لقولهم: ﴿أَ آلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ الظاهر في تفضيلهم آلهتهم في ألوهيتها على المسيح (عليه السلام ) في ألوهيته و محصله أن المسيح لم يكن إلها حتى ينظر في منزلته في ألوهيته و إنما كان عبدا أنعم الله عليه بما أنعم، و أما آلهتهم فنظر القرآن فيهم ظاهر.

قوله تعالى: ﴿وَ لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلاَئِكَةً فِي اَلْأَرْضِ يَخْلُفُونَ الظاهر أن الآية متصلة بما قبلها مسرودة لرفع استبعاد أن يتلبس البشر من الكمال ما يقصه القرآن عن عيسى (عليه السلام ) فيخلق الطير و يحيي الموتى و يكلم الناس في المهد إلى غير ذلك، فيكون كالملائكة المتوسطين في الإحياء و الإماتة و الرزق و سائر أنواع التدبير و يكون مع ذلك عبدا غير معبود و مألوها غير إله فإن هذا النوع من الكمال عند الوثنية مختص بالملائكة و هو ملاك ألوهيتهم و معبوديتهم و بالجملة هم يحيلون تلبس البشر بهذا النوع من الكمال الذي يخصونه بالملائكة.

فأجيب بأن لله أن يزكي الإنسان و يطهره من أدناس المعاصي بحيث يصير باطنه باطن الملائكة فظاهره ظاهر البشر و باطنه باطن الملك يعيش في الأرض يخلف مثله و يخلفه مثله و يظهر منه ما يظهر من الملائكة[3].

و على هذا فمن في قوله ﴿مِنْكُمْ للتبعيض، و قوله: ﴿يَخْلُفُونَ أي يخلف بعضهم بعضا.

و في المجمع، أن «من» في قوله: ﴿مِنْكُمْ تفيد معنى البدلية كما في قوله:

 

 

 

فليت لنا من ماء زمزم شربة *** مبردة باتت على الطهيان[4]

و قوله: «يخلفون» أي يخلفون بني آدم و يكونون خلفاء لهم، و المعنى: و لو نشاء أهلكناكم و جعلنا بدلكم ملائكة يسكنون الأرض و يعمرونها و يعبدون الله.

و فيه أنه لا يلائم النظم تلك الملاءمة.

قوله تعالى: ﴿وَ إِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا وَ اِتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ضمير ﴿إِنَّهُ لعيسى (عليه السلام ) و المراد بالعلم ما يعلم به، و المعنى: و إن عيسى يعلم به الساعة في خلقه من غير أب و إحيائه الموتى فيعلم به أن الساعة ممكنة فلا تشكوا في الساعة و لا ترتابوا فيها البتة.

و قيل: المراد بكونه علما للساعة كونه من أشراطها ينزل على الأرض فيعلم به قرب الساعة.

و قيل: الضمير للقرآن و كونه علما للساعة كونه آخر الكتب المنزلة من السماء.

و في الوجهين جميعا خفاء التفريع الذي في قوله: ﴿فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا.

و قوله: ﴿وَ اِتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ قيل: هو من كلامه تعالى، و المعنى:

اتبعوا هداي أو شرعي أو رسولي، و قيل: من كلام الرسول بأمر منه تعالى.

قوله تعالى: ﴿وَ لاَ يَصُدَّنَّكُمُ اَلشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ الصد الصرف، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ﴿وَ لَمَّا جَاءَ عِيسىَ بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ إلخ، المراد بالبينات الآيات البينات من المعجزات، و بالحكمة المعارف الإلهية من العقائد الحقة و الأخلاق الفاضلة.

و قوله: ﴿وَ لِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ اَلَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ أي في حكمه من الحوادث و الأفعال، و الذي يختلفون فيه و إن كان أعم من الاعتقادات التي يختلف في كونها حقة أو باطلة و الحوادث و الأفعال التي يختلف في مشروع حكمها لكن المناسب لسبق قوله:

﴿قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ أن يختص ما اختلفوا فيه بالحوادث و الأفعال و الله أعلم.

 

 

و قيل: المراد بقوله: ﴿بَعْضَ اَلَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ كل الذي تختلفون فيه.

و هو كما ترى.

و قيل: المراد لأبين لكم أمور دينكم دون أمور دنياكم و لا دليل عليه من لفظ الآية و لا من المقام.

و قوله: ﴿فَاتَّقُوا اَللَّهَ وَ أَطِيعُونِ نسب التقوى إلى الله و الطاعة إلى نفسه ليسجل أنه لا يدعي إلا الرسالة.

قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَللَّهَ هُوَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ دعوة منه إلى عبادة الله وحده و أنه هو ربه و ربهم جميعا و إتمام للحجة على من يقول بألوهيته.

قوله تعالى: ﴿فَاخْتَلَفَ اَلْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ ضمير ﴿مِنْ بَيْنِهِمْ لمن بعث إليهم عيسى (عليه السلام ) و المعنى: فاختلف الأحزاب المتشعبة من بين أمته في أمر عيسى من كافر به قال فيه، و من مؤمن به غال فيه، و من مقتصد لزم الاعتدال.

و قوله: ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ تهديد و وعيد للقالي منهم و الغالي.

[سورة الزخرف (٤٣): الآیات ٦٦ الی ٧٨]

﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ اَلسَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَ هُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ٦٦ اَلْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ اَلْمُتَّقِينَ ٦٧ يَا عِبَادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ اَلْيَوْمَ وَ لاَ أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ٦٨ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَ كَانُوا مُسْلِمِينَ ٦٩ اُدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَ أَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ ٧٠ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَ أَكْوَابٍ وَ فِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ اَلْأَنْفُسُ وَ تَلَذُّ اَلْأَعْيُنُ وَ أَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ٧١ وَ تِلْكَ اَلْجَنَّةُ اَلَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ٧٢ لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ ٧٣

 

 

إِنَّ اَلْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ٧٤ لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَ هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ٧٥ وَ مَا ظَلَمْنَاهُمْ وَ لَكِنْ كَانُوا هُمُ اَلظَّالِمِينَ ٧٦ وَ نَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ ٧٧ لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ٧٨

(بيان‏)

رجوع إلى إنذار القوم و فيه تخويفهم بالساعة و الإشارة إلى ما يئول إليه حال المتقين و المجرمين فيها من الثواب و العقاب.

قوله تعالى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ اَلسَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَ هُمْ لاَ يَشْعُرُونَ النظر الانتظار، و البغتة الفجأة، و المراد بعدم شعورهم بها غفلتهم عنها لاشتغالهم بأمور الدنيا كما قال تعالى: ﴿مَا يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَ هُمْ يَخِصِّمُونَ: يس: ٤٩، فلا يتكرر المعنى في قوله: ﴿بَغْتَةً وَ هُمْ لاَ يَشْعُرُونَ.

و المعنى: ما ينتظر هؤلاء الكفار بكفرهم و تكذيبهم لآيات الله إلا أن تأتيهم الساعة مباغتة لهم و هم غافلون عنها مشتغلون بأمور دنياهم أي إن حالهم حال من هدده الهلاك فلم يتوسل بشي‏ء من أسباب النجاة و قعد ينتظر الهلاك ففي الكلام كناية عن عدم اعتنائهم بالإيمان بالحق ليتخلصوا به عن أليم العذاب.

قوله تعالى: ﴿اَلْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ اَلْمُتَّقِينَ الأخلاء جمع خليل و هو الصديق حيث يرفع خلة صديقه و حاجته، و الظاهر أن المراد بالأخلاء المطلق الشامل للمخالة و التحاب في الله كما في مخالة المتقين أهل الآخرة و المخالة في غيره كما في مخالة أهل الدنيا فاستثناء المتقين متصل.

و الوجه في عداوة الأخلاء غير المتقين أن من لوازم المخالة إعانة أحد الخليلين الآخر في مهام أموره فإذا كانت لغير وجه الله كان فيها الإعانة على الشقوة الدائمة و العذاب الخالد كما قال تعالى حاكيا عن الظالمين يوم القيامة: ﴿يَا وَيْلَتىَ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً

 

 

 لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ اَلذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي: الفرقان: ٢٩، و أما الأخلاء من المتقين فإن مخالتهم تتأكد و تنفعهم يومئذ.

 و في الخبر النبوي: إذا كان يوم القيامة انقطعت الأرحام و قلت الأنساب و ذهبت الأخوة إلا الأخوة في الله و ذلك قوله: ﴿اَلْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ اَلْمُتَّقِينَ[5].

قوله تعالى: ﴿يَا عِبَادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ اَلْيَوْمَ وَ لاَ أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ من خطابه تعالى لهم يوم القيامة كما يشهد به قوله بعد: ﴿اُدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ إلخ، و في الخطاب تأمين لهم من كل مكروه محتمل أو مقطوع به فإن مورد الخوف المكروه المحتمل و مورد الحزن المكروه المقطوع به فإذا ارتفعا ارتفعا.

قوله تعالى: ﴿اَلَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَ كَانُوا مُسْلِمِينَ الموصول بدل من المنادي المضاف في ﴿يَا عِبَادِ أو صفة له، و الآيات كل ما يدل عليه تعالى من نبي و كتاب و أي آية أخرى دالة، و المراد بالإسلام‏ التسليم لإرادة الله و أمره.

قوله تعالى: ﴿اُدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَ أَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ ظاهر الأمر بدخول الجنة أن المراد بالأزواج هي النساء المؤمنات في الدنيا دون الحور العين لأنهن في الجنة غير خارجات منها.

و الحبور على ما قيل السرور الذي يظهر أثره و حباره في الوجه و الحبرة الزينة و حسن الهيئة، و المعنى: ادخلوا الجنة أنتم و أزواجكم المؤمنات و الحال أنكم تسرون سرورا يظهر أثره في وجوهكم أو تزينون بأحسن زينة.

قوله تعالى: ﴿يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَ أَكْوَابٍ إلخ الصحاف‏ جمع صحفة و هي القصعة أو أصغر منها، و الأكواب‏ جمع كوب و هو كوز لا عروة له، و في ذكر الصحاف و الأكواب إشارة إلى تنعمهم بالطعام و الشراب.

و في الالتفات إلى الغيبة في قوله: ﴿يُطَافُ عَلَيْهِمْ بين الخطابين ﴿اُدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ و ﴿أَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ تفخيم لإكرامهم و إنعامهم أن ذلك بحيث ينبغي أن يذكر

 

 

 لغيرهم ليزيد به اغتباطهم و يظهر به صدق ما وعدوا به.

و قوله: ﴿وَ فِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ اَلْأَنْفُسُ وَ تَلَذُّ اَلْأَعْيُنُ الظاهر أن المراد بما تشتهيه الأنفس ما تتعلق به الشهوة الطبيعية من مذوق و مشموم و مسموع و ملموس مما يتشارك فيه الإنسان و عامة الحيوان، و المراد بما تلذه الأعين الجمال و الزنية و ذلك مما الالتذاذ به كالمختص بالإنسان كما في المناظر البهجة و الوجه الحسن و اللباس الفاخر، و لذا غير التعبير فعبر عما يتعلق بالأنفس بالاشتهاء و فيما يتعلق بالأعين باللذة و في هذين القسمين تنحصر اللذائذ النفسانية عندنا.

و يمكن أن تندرج اللذائذ الروحية العقلية فيما تلذه الأعين فإن الالتذاذ الروحي يعد من رؤية القلب.

قال في المجمع،: و قد جمع الله سبحانه في قوله: ﴿مَا تَشْتَهِيهِ اَلْأَنْفُسُ وَ تَلَذُّ اَلْأَعْيُنُ ما لو اجتمع الخلائق كلهم على أن يصفوا ما في الجنة من أنواع النعيم لم يزيدوا على ما انتظمته هاتان الصفتان. انتهى.

و قوله: ﴿وَ أَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ إخبار و وعد و تبشير بالخلود و لهم في العلم به من اللذة الروحية ما لا يقاس بغيره و لا يقدر بقدر.

قوله تعالى: ﴿وَ تِلْكَ اَلْجَنَّةُ اَلَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ قيل: المعنى أعطيتموها بأعمالكم، و قيل أورثتموها من الكفار و كانوا داخليها لو آمنوا و عملوا صالحا، و قد تقدم الكلام في المعنيين في تفسير قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ هُمُ اَلْوَارِثُونَ» المؤمنون: ١٠.

قوله تعالى: ﴿لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ أضاف الفاكهة إلى ما مرت الإشارة إليه من الطعام و الشراب لإحصاء النعمة، و من في ﴿مِنْهَا تَأْكُلُونَ للتبعيض و لا يخلو من إشارة إلى أنها لا تنفد بالأكل.

قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَلْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَ هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ المراد بالمجرمين المتلبسون بالإجرام فيكون أعم من الكفار و يؤيده إيراده في مقابلة المتقين و هو أخص من المؤمنين.

و التفتير التخفيف و التقليل، و الإبلاس‏ اليأس و يأسهم من الرحمة أو من الخروج من النار.

 

 

 قوله تعالى: ﴿وَ مَا ظَلَمْنَاهُمْ وَ لَكِنْ كَانُوا هُمُ اَلظَّالِمِينَ و ذلك أنه تعالى جازاهم بأعمالهم لكنهم ظلموا أنفسهم حيث أوردوها بأعمالهم مورد الشقوة و الهلكة.

قوله تعالى: ﴿وَ نَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ مالك هو الملك الخازن للنار على ما وردت به الأخبار من طرق العامة و الخاصة.

و خطابهم مالكا بما يسألونه من الله سبحانه لكونهم محجوبين عنه كما قال تعالى:

﴿كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ: المطففين: ١٥، و قال: ﴿قَالَ اِخْسَؤُا فِيهَا وَ لاَ تُكَلِّمُونِ: المؤمنون: ١٠٨.

فالمعنى: أنهم يسألون مالكا أن يسأل الله أن يقضي عليهم.

و المراد بالقضاء عليهم إماتتهم، و يريدون بالموت الانعدام و البطلان لينجوا بذلك عما هم فيه من الشقوة و أليم العذاب، و هذا من ظهور ملكاتهم الدنيوية فإنهم كانوا يرون في الدنيا أن الموت انعدام و فوت لا انتقال من دار إلى دار فيسألون الموت بالمعنى الذي ارتكز في نفوسهم و إلا فهم قد ماتوا و شاهدوا ما هي حقيقته.

و قوله: ﴿قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ أي فيما أنتم فيه من الحياة الشقية و العذاب الأليم، و القائل هو مالك جوابا عن مسألتهم.

قوله تعالى: ﴿لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ظاهره أنه من تمام كلام مالك يقوله عن لسان الملائكة و هو منهم، و قيل: من كلامه تعالى و يبعده أنهم محجوبون يومئذ عن ربهم لا يكلمهم الله تعالى.

و الخطاب لأهل النار بما أنهم بشر، فالمعنى: لقد جئناكم معشر البشر بالحق و لكن أكثركم و هم المجرمون كارهون للحق.

و قيل: المراد بالحق مطلق الحق أي حق كان فهم يكرهونه و ينفرون منه و أما الحق المعهود الذي هو التوحيد أو القرآن فكلهم كارهون له مشمئزون منه.

و المراد بكراهتهم للحق الكراهة بحسب الطبع الثاني المكتسب بالمعاصي و الذنوب لا بحسب الطبع الأول الذي هو الفطرة التي فطر الناس عليها إذ لو كرهوه بحسبها لم يكلفوا بقبوله، قال تعالى: ﴿لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللَّهِ: الروم: ٣٠، و قال: ﴿وَ نَفْسٍ وَ مَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَ تَقْوَاهَا: الشمس: ٨.

و يظهر من الآية أن الملاك في السعادة و الشقاء قبول الحق و رده.

 

 

[سورة الزخرف (٤٣): الآیات ٧٩ الی ٨٩]

﴿أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ ٧٩ أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَ نَجْوَاهُمْ بَلىَ وَ رُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ٨٠ قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ اَلْعَابِدِينَ ٨١ سُبْحَانَ رَبِّ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ رَبِّ اَلْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ٨٢ فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَ يَلْعَبُوا حَتَّى يُلاَقُوا يَوْمَهُمُ اَلَّذِي يُوعَدُونَ ٨٣ وَ هُوَ اَلَّذِي فِي اَلسَّمَاءِ إِلَهٌ وَ فِي اَلْأَرْضِ إِلَهٌ وَ هُوَ اَلْحَكِيمُ اَلْعَلِيمُ ٨٤ وَ تَبَارَكَ اَلَّذِي لَهُ مُلْكُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مَا بَيْنَهُمَا وَ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلسَّاعَةِ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ٨٥ وَ لاَ يَمْلِكُ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ اَلشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ ٨٦ وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اَللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ٨٧ وَ قِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاَءِ قَوْمٌ لاَ يُؤْمِنُونَ ٨٨ فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَ قُلْ سَلاَمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ٨٩

 (بيان‏)

رجوع إلى سابق الكلام و فيه توبيخهم على ما يريدون من الكيد برسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و تهديدهم بأن الله يكيدهم، و نفي الولد الذي يقولون به، و إبطال القول بمطلق الشريك و إثبات الربوبية المطلقة لله وحده، و تختتم السورة بالتهديد و الوعيد.

قوله تعالى: ﴿أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ الإبرام‏ خلاف النقض و هو الإحكام، و أم منقطعة.

 

 

 و المعنى: على ما يفيده سياق الآية و الآية التالية: بل أحكموا أمرا من الكيد بك يا محمد فإنا محكمون الكيد بهم فالآية في معنى قوله تعالى: ﴿أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ اَلْمَكِيدُونَ: الطور: ٤٢.

قوله تعالى: ﴿أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَ نَجْوَاهُمْ بَلىَ وَ رُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ السر ما يستسرونه في قلوبهم و النجوى ما يناجيه بعضهم بعضا بحيث لا يسمعه غيرهما، و لما كان السر حديث النفس عبر عن العلم بالسر و النجوى جميعا بالسمع.

و قوله: ﴿بَلىَ وَ رُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ أي بلى نحن نسمع سرهم و نجواهم و رسلنا الموكلون على حفظ أعمالهم عليهم يكتبون ذلك.

قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ اَلْعَابِدِينَ إبطال لألوهية الولد بإبطال أصل وجوده من جهة علمه بأنه ليس، و التعبير بأن الشرطية دون لو الدالة على الامتناع - و كان مقتضى المقام أن يقال: لو كان للرحمن ولد، لاستنزالهم عن رتبة المكابرة إلى مرحلة الانتصاف.

و المعنى: قل لهم إن كان للرحمن ولد كما يقولون، فأنا أول من يعبده أداء لحق بنوته و مسانخته لوالده، لكني أعلم أنه ليس و لذلك لا أعبده لا لبغض و نحوه.

و قد أوردوا للآية معاني أخرى:

منها: أن المعنى لو كان لله ولد كما تزعمون فأنا أعبد الله وحده و لا أعبد الولد الذي تزعمون.

و منها: أن ﴿إِنْ نافية و المعنى: قل ما كان لله ولد فأنا أول العابدين الموحدين له من بينكم.

و منها: أن ﴿اَلْعَابِدِينَ من عبد بمعنى أنف و المعنى: قل لو كان للرحمن ولد فأنا أول من أنف و استنكف عن عبادته لأن الذي يلد لا يكون إلا جسما و الجسمية تنافي الألوهية.

و منها: أن المعنى: كما أني لست أول من عبد الله كذلك ليس لله ولد أي لو جاز لكم أن تدعوا ذاك المحال جاز لي أن أدعي هذا المحال. إلى غير ذلك مما قيل لكن الظاهر من الآية ما قدمناه.

قوله تعالى: ﴿سُبْحَانَ رَبِّ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ رَبِّ اَلْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ تسبيح

 

 

 له سبحانه عما ينسبون إليه، و الظاهر أن ﴿رَبِّ اَلْعَرْشِ عطف بيان لرب السماوات و الأرض لأن المراد بالسماوات و الأرض مجموع العالم المشهود و هو عرش ملكه تعالى الذي استوى عليه و حكم فيه و دبر أمره.

و لا يخلو من إشارة إلى حجة على الوحدانية إذ لما كان الخلق مختصا به تعالى حتى باعتراف الخصم و هو من شئون عرش ملكه، و التدبير من الخلق و الإيجاد فإنه إيجاد النظام الجاري بين المخلوقات فالتدبير أيضا من شئون عرشه فربوبيته للعرش ربوبية لجميع السماوات و الأرض.

قوله تعالى: ﴿فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَ يَلْعَبُوا حَتَّى يُلاَقُوا يَوْمَهُمُ اَلَّذِي يُوعَدُونَ وعيد إجمالي لهم بأمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بالإعراض عنهم حتى يلاقوا ما يحذرهم منه من عذاب يوم القيامة.

و المعنى: فاتركهم يخوضوا في أباطيلهم و يلعبوا في دنياهم و يشتغلوا بذلك حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدونه و هو يوم القيامة كما ذكر في الآيات السابقة: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ اَلسَّاعَةَ إلخ.

قوله تعالى: ﴿وَ هُوَ اَلَّذِي فِي اَلسَّمَاءِ إِلَهٌ وَ فِي اَلْأَرْضِ إِلَهٌ وَ هُوَ اَلْحَكِيمُ اَلْعَلِيمُ أي هو الذي هو في السماء إله مستحق للمعبودية و هو في الأرض إله أي هو المستحق لمعبودية أهل السماوات و الأرض وحده، و يفيد تكرار ﴿إِلَهٌ كما قيل التأكيد و الدلالة على أن كونه تعالى إلها في السماء و الأرض بمعنى تعلق ألوهيته بهما لا بمعنى استقراره فيهما أو في أحدهما.

و في الآية مقابلة لما يثبته الوثنية لكل من السماء و الأرض إلها أو آلهة، و في تذييل الآية بقوله: ﴿وَ هُوَ اَلْحَكِيمُ اَلْعَلِيمُ الدال على الحصر إشارة إلى وحدانيته في الربوبية التي لازمها الحكمة و العلم.

قوله تعالى: ﴿وَ تَبَارَكَ اَلَّذِي لَهُ مُلْكُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مَا بَيْنَهُمَا وَ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلسَّاعَةِ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ثناء عليه تعالى بالتبارك و هو مصدريته للخير الكثير.

و كل من الصفات الثلاث المذكورة حجة على توحده في الربوبية أما ملكه للجميع فظاهر فإن الربوبية لمن يدبر الأمر و التدبير للملك، و أما اختصاص علم الساعة به فلأن

 

 

 الساعة هي المنزل الأقصى إليه يسير الكل و كيف يصح أن يرب الأشياء من لا علم له بمنتهى مسيرها فهو تعالى رب الأشياء لا من يدعونه، و أما رجوع الناس إليه فإن الرجوع للحساب و الجزاء و هو آخر التدبير فمن إليه الرجوع فإليه التدبير و من إليه التدبير له الربوبية.

قوله تعالى: ﴿وَ لاَ يَمْلِكُ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ اَلشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ السياق سياق العموم فالمراد بالذين يدعون، أي يعبدونهم من دونه، كل معبود غيره تعالى من الملائكة و الجن و البشر و غيرهم.

و المراد ﴿بِالْحَقِّ الحق الذي هو التوحيد، و الشهادة به الاعتراف به، و المراد بقوله: ﴿وَ هُمْ يَعْلَمُونَ حيث أطلق العلم علمهم بحقيقة حال من شفعوا له و حقيقة عمله كما قال: ﴿لاَ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ اَلرَّحْمَنُ وَ قَالَ صَوَاباً: النبأ: ٣٨، و إذا كان هذا حال الشفعاء لا يملكونها إلا بعد الشهادة بالحق فما هم بشافعين إلا لأهل التوحيد كما قال: ﴿وَ لاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ اِرْتَضى‏َ.

و الآية مصرحة بوجود الشفاعة.

قوله تعالى: ﴿وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اَللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ أي إلى متى يصرفون عن الحق الذي هو التوحيد إلى الباطل الذي هو الشرك، و ذلك أنهم معترفون أن لا خالق إلا الله و التدبير الذي هو ملاك الربوبية غير منفك عن الخلق كما اتضح مرارا فالرب المعبود هو الذي بيده الخلق و هو الله سبحانه.

قوله تعالى: ﴿وَ قِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاَءِ قَوْمٌ لاَ يُؤْمِنُونَ ضمير ﴿قِيلِهِ للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بلا إشكال، و القيل مصدر كالقول و القال، و ﴿قِيلِهِ معطوف على ما قيل على الساعة في قوله: ﴿وَ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلسَّاعَةِ، و المعنى: و عنده علم قوله: ﴿يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاَءِ قَوْمٌ لاَ يُؤْمِنُونَ.

قوله تعالى: ﴿فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَ قُلْ سَلاَمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ أمر بالإعراض عنهم و إقناط من إيمانهم، و قوله: ﴿قُلْ سَلاَمٌ أي وادعهم موادعة ترك من غير هم لك فيهم، و في قوله: ﴿فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ تهديد و وعيد.

 

 

(بحث روائي‏)

 في الإحتجاج، عن علي (عليه السلام ) في حديث طويل يقول فيه: قوله: ﴿إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ اَلْعَابِدِينَ أي الجاحدين، و التأويل في هذا القول باطنه مضاد لظاهره.

 أقول: الظاهر أن المراد أنه خلاف ما ينصرف إليه لفظ عابد عند الإطلاق.

 و في الكافي، بإسناده عن هشام بن الحكم قال : قال أبو شاكر الديصاني: إن في القرآن آية هي قولنا. قلت: و ما هي؟ قال: ﴿هُوَ اَلَّذِي فِي اَلسَّمَاءِ إِلَهٌ وَ فِي اَلْأَرْضِ إِلَهٌ فلم أدر بما أجيبه فحججت فخبرت أبا عبد الله (عليه السلام ) فقال: هذا كلام زنديق خبيث إذا رجعت إليه فقل: ما اسمك بالكوفة؟ فإنه يقول: فلان، فقل: ما اسمك بالبصرة؟ فإنه يقول: فلان، فقل: كذلك الله ربنا في السماء إله، و في الأرض إله، و في البحار إله، و في القفار إله، و في كل مكان إله.

قال: فقدمت فأتيت أبا شاكر فأخبرته فقال: هذه نقلت من الحجاز. و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: ﴿وَ لاَ يَمْلِكُ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ اَلشَّفَاعَةَ قال: هم الذين عبدوا في الدنيا لا يملكون الشفاعة لمن عبدهم.

 و في الكافي، بإسناده عن أبي هاشم الجعفري قال : سألت أبا جعفر الثاني (عليه السلام ) :

ما معنى الواحد؟ فقال: إجماع الألسن عليه بالوحدانية لقوله: ﴿وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اَللَّهُ.

 

 

(٤٤) سورة الدخان مكية و هي تسع و خمسون آية (٥٩)

[سورة الدخان (٤٤): الآیات ١ الی ٨]

﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ حم ١ وَ اَلْكِتَابِ اَلْمُبِينِ ٢ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ ٣ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ٤ أَمْراً مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ٥ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ ٦ رَبِّ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ٧ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَ يُمِيتُ رَبُّكُمْ وَ رَبُّ آبَائِكُمُ اَلْأَوَّلِينَ ٨

(بيان)

يتلخص غرض السورة في إنذار المرتابين في الكتاب بعذاب الدنيا و عذاب الآخرة و قد سيق بيان ذلك بأنه كتاب مبين نازل من عند الله على من أرسله إلى الناس لإنذارهم و قد نزل رحمة منه تعالى لعباده خير نزول في ليلة القدر التي فيها يفرق كل أمر حكيم.

غير أن الناس و هم الكفار ارتابوا فيه لاعبين في هوساتهم و سيغشاهم أليم عذاب الدنيا ثم يرجعون إلى ربهم فينتقم منهم بعد فصل القضاء بعذاب خالد.

ثم يذكر لهم تنظيرا لأول الوعيدين قصة إرسال موسى (عليه السلام ) إلى قوم فرعون لإنجاء بني إسرائيل و تكذيبهم له و إغراقهم نكالا منه.

 

 

 ثم يذكر إنكارهم لثاني الوعيدين و هو الرجوع إلى الله في يوم الفصل فيقيم الحجة على أنه آت لا محالة ثم يذكر طرفا من أخباره و ما سيجري فيه على المجرمين و يصيبهم من ألوان عذابه، و ما سيثاب به المتقون من حياة طيبة و مقام كريم.

و السورة مكية بشهادة سياق آياتها.

قوله تعالى: ﴿حم وَ اَلْكِتَابِ اَلْمُبِينِ الواو للقسم و المراد بالكتاب المبين القرآن.

قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ المراد بالليلة المباركة التي نزل فيها القرآن ليلة القدر على ما يدل عليه قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ اَلْقَدْرِ: القدر: ١، و كونها مباركة ظرفيتها للخير الكثير الذي ينبسط على الخلق من الرحمة الواسعة، و قد قال تعالى: ﴿وَ مَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ اَلْقَدْرِ لَيْلَةُ اَلْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ: القدر: ٣.

و ظاهر اللفظ أنها إحدى الليالي التي تدور على الأرض و ظاهر قوله: ﴿فِيهَا يُفْرَقُ الدال على الاستمرار أنها تتكرر و ظاهر قوله تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ اَلَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ اَلْقُرْآنُ: البقرة: ١٨٥، أنها تتكرر بتكرر شهر رمضان فهي تتكرر بتكرر السنين القمرية و تقع في كل سنة قمرية مرة واحدة في شهر رمضان، و أما إنها أي ليلة هي؟ فلا إشعار في كلامه تعالى بذلك، و أما الروايات فستوافيك في البحث الروائي التالي.

و المراد بنزول الكتاب في ليلة مباركة على ما هو ظاهر قوله: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ و قوله: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ اَلْقَدْرِ: القدر: ١، و قوله: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ اَلَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ اَلْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَ بَيِّنَاتٍ مِنَ اَلْهُدىَ وَ اَلْفُرْقَانِ: البقرة: ١٨٥، أن النازل هو القرآن كله.

و لا يدفع ذلك قوله: ﴿وَ قُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى اَلنَّاسِ عَلىَ مُكْثٍ وَ نَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً» : إسراء: ١٠٦، و قوله: ﴿وَ قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ اَلْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَ رَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً: الفرقان: ٣٢، الظاهرين في نزوله تدريجا، و يؤيد ذلك آيات أخر كقوله: ﴿فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ: سورة محمد: ٢٠، و قوله:

﴿وَ إِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلىَ بَعْضٍ: التوبة: ١٢٧ و غير ذلك و يؤيد ذلك أيضا ما لا يحصى من الأخبار المتضمنة لأسباب النزول.

و ذلك أنه يمكن أن يحمل على نزول القرآن مرتين مرة مجموعا و جملة في ليلة

 

 

 واحدة من ليالي شهر رمضان، و مرة تدريجا و نجوما في مدة ثلاث و عشرين سنة و هي مدة دعوته (ص).

لكن الذي لا ينبغي الارتياب فيه أن هذا القرآن المؤلف من السور و الآيات بما فيه من السياقات المختلفة المنطبقة على موارد النزول المختلفة الشخصية لا يقبل النزول دفعة فإن الآيات النازلة في وقائع شخصية و حوادث جزئية مرتبطة بأزمنة و أمكنة و أشخاص و أحوال خاصة لا تصدق إلا مع تحقق مواردها المتفرقة زمانا و مكانا و غير ذلك بحيث لو اجتمعت زمانا و مكانا و غير ذلك انقلبت عن تلك الموارد و صارت غيرها فلا يمكن احتمال نزول القرآن و هو على هيئته و حاله بعينها مرة جملة، و مرة نجوما.

فلو قيل بنزوله مرتين كان من الواجب أن يفرق بين المرتين بالإجمال و التفصيل فيكون نازلا مرة إجمالا و مرة تفصيلا و نعني بهذا الإجمال و التفصيل ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ: هود: ١، و قوله:

﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ اَلْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ الزخرف: ٤، و قد مر الكلام في معنى الإحكام و التفصيل في تفسير سورتي هود و الزخرف.

و قيل: المراد بنزول الكتاب في ليلة مباركة افتتاح نزوله التدريجي في ليلة القدر من شهر رمضان فأول ما نزل من آيات القرآن و هو سورة العلق أو سورة الحمد نزل في ليلة القدر.

و هذا القول مبني على استشعار منافاة نزول الكتاب كله في ليلة و نزوله التدريجي الذي تدل عليه الآيات السابقة و قد عرفت أن لا منافاة بين الآيات.

على أنك خبير بأنه خلاف ظاهر الآيات.

و قيل: إنه نزل أولا جملة على السماء الدنيا في ليلة القدر ثم نزل من السماء الدنيا على الأرض تدريجا في ثلاث و عشرين سنة مدة الدعوة النبوية.

و هذا القول مأخوذ من الأخبار الواردة في تفسير الآيات الظاهرة في نزوله جملة و ستمر بك في البحث الروائي التالي إن شاء الله.

و قوله: ﴿إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ واقع موقع التعليل، و هو يدل على استمرار الإنذار منه تعالى قبل هذا الإنذار، فيدل على أن نزول القرآن من عنده تعالى ليس ببدع،

 

 

 فإنما هو إنذار و الإنذار سنة جارية له تعالى لم تزل تجري في السابقين من طريق الوحي إلى الأنبياء و الرسل و بعثهم لإنذار الناس.

قوله تعالى: ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ضمير ﴿فِيهَا لليلة و الفرق فصل الشي‏ء من الشي‏ء بحيث يتمايزان و يقابله الإحكام فالأمر الحكيم ما لا يتميز بعض أجزائه من بعض و لا يتعين خصوصياته و أحواله كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: ﴿وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَ مَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ: الحجر: ٢١.

فللأمور بحسب القضاء الإلهي مرحلتان: مرحلة الإجمال و الإبهام و مرحلة التفصيل، و ليلة القدر على ما يدل عليه قوله: ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ليلة يخرج فيها الأمور من مرحلة الإحكام إلى مرحلة الفرق و التفصيل، و قد نزل فيها القرآن و هو أمر من الأمور المحكمة فرق في ليلة القدر.

و لعل الله سبحانه أطلع نبيه على جزئيات الحوادث التي ستقع في زمان دعوته و ما يقارن منها نزول كل آية أو آيات أو سورة من كتابه فيستدعي نزولها و أطلعه على ما ينزل منها فيكون القرآن نازلا عليه دفعة و جملة قبل نزوله تدريجا و مفرقا.

و مآل هذا الوجه اطلاع النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) على القرآن في مرحلة نزوله إلى القضاء التفصيلي قبل نزوله على الأرض و استقراره في مرحلة العين، و على هذا الوجه لا حاجة إلى تفريق المرتين بالإجمال و التفصيل كما تقدم في الوجه الأول.

و ظاهر كلام بعضهم أن المراد بقوله: ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ تفصيل الأمور المبينة في القرآن من معارف و أحكام و غير ذلك. و يدفعه أن ظاهر قوله:

﴿فِيهَا يُفْرَقُ الاستمرار و الذي يستمر في هذه الليلة بتكررها تفصيل الأمور الكونية بعد إحكامها و أما المعارف و الأحكام الإلهية فلا استمرار في تفصيلها فلو كان المراد فرقها كان الأنسب أن يقال: «فيها فرق».

و قيل: المراد بكون الأمر حكيما إحكامه بعد الفرق لا الإحكام الذي قبل التفصيل، و المعنى: يقضى في الليلة كل أمر محكم لا يتغير بزيادة أو نقصان أو غير ذلك هذا، و الأظهر ما قدمناه من المعنى.

قوله تعالى: ﴿أَمْراً مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ المراد بالأمر الشأن و هو حال من الأمر السابق و المعنى فيها يفرق كل أمر حال كونه أمرا من عندنا و مبتدأ من

 

 

 لدنا، و يمكن أن يكون المراد به ما يقابل النهي و المعنى: يفرق فيها كل أمر بأمر منا، و هو على أي حال متعلق بقوله: ﴿يُفْرَقُ.

و يمكن أن يكون متعلقا بقوله: ﴿أَنْزَلْنَاهُ أي حال كون الكتاب أمرا أو بأمر من عندنا، و قوله: ﴿إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ لا يخلو من تأييد لذلك، و يكون تعليلا له و المعنى: إنا أنزلناه أمرا من عندنا لأن سنتنا الجارية إرسال الأنبياء و الرسل.

قوله تعالى: ﴿رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ أي إنزاله رحمة من ربك أو أنزلناه لأجل إفاضة الرحمة على الناس أو لاقتضاء رحمة ربك إنزاله فقوله: ﴿رَحْمَةً حال على المعنى الأول و مفعول له على الثاني و الثالث.

و في قوله: ﴿مِنْ رَبِّكَ التفات من التكلم مع الغير إلى الغيبة و وجهه إظهار العناية بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لأنه هو الذي أنزل عليه القرآن و هو المنذر المرسل إلى الناس.

و قوله: ﴿إِنَّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ أي السميع للمسائل و العليم بالحوائج فيسمع مسألتهم و يعلم حاجتهم إلى الاهتداء بهدى ربك فينزل الكتاب و يرسل الرسول رحمة منه لهم.

قوله تعالى: ﴿رَبِّ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ لما كانت الوثنية يرون أن لكل صنف من الخلق إلها أو أكثر و ربما اتخذ قوم منهم إلها غير ما يتخذه غيرهم عقب قوله: ﴿مِنْ رَبِّكَ بقوله: ﴿رَبِّ اَلسَّمَاوَاتِ إلخ، لئلا يتوهم متوهم منهم أن ربوبيته للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ليست بالاختصاص كالتي بينهم بل هو تعالى ربه و رب السماوات و الأرض و ما بينهما، و لذلك عقبه أيضا في الآية التالية بقوله: ﴿لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ.

و قوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ هذا الاشتراط كما ذكره الزمخشري من قبيل قولنا هذا إنعام زيد الذي تسامع الناس بكرمه و اشتهروا سخاءه أن بلغك حديثه و حدثت بقصته فالمعنى هو الذي يعرفه الموقنون بأنه رب السماوات و الأرض و ما بينهما إن كنتم منهم عرفتموه بأنه رب كل شي‏ء.

قوله تعالى: ﴿لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَ يُمِيتُ رَبُّكُمْ وَ رَبُّ آبَائِكُمُ اَلْأَوَّلِينَ لما كان مدلول الآية السابقة انحصار الربوبية و هي الملك و التدبير فيه تعالى و الألوهية و هي

 

 

 المعبودية بالحق من لوازم الربوبية عقبه بكلمة التوحيد النافية لكل إله دونه تعالى.

و قوله: ﴿يُحْيِي وَ يُمِيتُ من أخص الصفات به تعالى و هما من شئون التدبير، و في ذكرهما نوع تمهيد لما سيأتي من إنذارهم بالمعاد.

و قوله: ﴿رَبُّكُمْ وَ رَبُّ آبَائِكُمُ اَلْأَوَّلِينَ فيه كمال التصريح بأنه ربهم و رب آبائهم فليعبدوه و لا يتعللوا باتباع آبائهم في عبادة الأصنام، و لتكميل التصريح سيقت الجملة بالخطاب فقيل: ﴿رَبُّكُمْ وَ رَبُّ آبَائِكُمُ.

و هما أعني قوله: ﴿يُحْيِي وَ يُمِيتُ و قوله: ﴿رَبُّكُمْ خبران لمبتدإ محذوف و التقدير هو يحيي و يميت إلخ.

(بحث روائي‏)

 في المجمع،: في قوله تعالى‏﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ و الليلة المباركة هي ليلة القدر: و، هو المروي عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام ) .

 و في الكافي، بإسناده عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن عمر بن أذينة عن الفضيل و زرارة و محمد بن مسلم عن حمران أنه سأل أبا جعفر (عليه السلام ) عن قول الله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ قال: نعم ليلة القدر و هي في كل سنة في شهر رمضان في العشر الأواخر فلم ينزل القرآن إلا في ليلة القدر قال الله تعالى: ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ قال: يقدر في ليلة القدر كل شي‏ء يكون في تلك السنة إلى مثلها من قابل: خير و شر و طاعة و معصية و مولود و أجل و رزق فما قدر في تلك السنة و قضي فهو المحتوم و لله تعالى فيه المشية.

 أقول: قوله: فهو المحتوم و لله فيه المشية أي أنه محتوم من جهة الأسباب و الشرائط فلا شي‏ء يمنع عن تحققه إلا أن يشاء الله ذلك.

 و في البصائر، عن عباس بن معروف عن سعدان بن مسلم عن عبد الله بن سنان قال : سألته عن النصف من شعبان فقال: ما عندي فيه شي‏ء و لكن إذا كانت ليلة تسع عشرة من شهر رمضان قسم فيها الأرزاق و كتب فيها الآجال و خرج فيها صكاك الحاج و اطلع الله إلى عباده فغفر الله لهم إلا شارب خمر مسكر.

 

 

 فإذا كانت ليلة ثلاث و عشرين فيها يفرق كل أمر حكيم ثم ينهى ذلك و يمضي ذلك.

قلت: إلى من؟ قال: إلى صاحبكم و لو لا ذلك لم يعلم. و في الدر المنثور، أخرج محمد بن نصر و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى: ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ قال: يكتب من أم الكتاب في ليلة القدر ما يكون في السنة - من رزق أو موت أو حياة أو مطر حتى يكتب الحاج: يحج فلان و يحج فلان.

أقول: و الأخبار في ليلة القدر و ما يقضى فيها و في تعيينها كثيرة جدا و سيأتي عمدتها في تفسير سورة القدر إن شاء الله تعالى.

[سورة الدخان (٤٤): الآیات ٩ الی ٣٣]

﴿بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ ٩ فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي اَلسَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ ١٠ يَغْشَى اَلنَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ١١ رَبَّنَا اِكْشِفْ عَنَّا اَلْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ ١٢ أَنَّى لَهُمُ اَلذِّكْرى‏ وَ قَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ١٣ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَ قَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ ١٤ إِنَّا كَاشِفُوا اَلْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ ١٥ يَوْمَ نَبْطِشُ اَلْبَطْشَةَ اَلْكُبْرى‏ إِنَّا مُنْتَقِمُونَ ١٦ وَ لَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَ جَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ ١٧ أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اَللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ١٨ وَ أَنْ لاَ تَعْلُوا عَلَى اَللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ١٩ وَ إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَ رَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ ٢٠ وَ إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ ٢١ فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلاَءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ ٢٢

 

 

فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ ٢٣ وَ اُتْرُكِ اَلْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ ٢٤ كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ ٢٥ وَ زُرُوعٍ وَ مَقَامٍ كَرِيمٍ ٢٦ وَ نَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ ٢٧ كَذَلِكَ وَ أَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ ٢٨ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ اَلسَّمَاءُ وَ اَلْأَرْضُ وَ مَا كَانُوا مُنْظَرِينَ ٢٩ وَ لَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ اَلْعَذَابِ اَلْمُهِينِ ٣٠ مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِنَ اَلْمُسْرِفِينَ ٣١ وَ لَقَدِ اِخْتَرْنَاهُمْ عَلى‏ عِلْمٍ عَلَى اَلْعَالَمِينَ ٣٢ وَ آتَيْنَاهُمْ مِنَ اَلْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَؤُا مُبِينٌ ٣٣

(بيان‏)

تذكر الآيات ارتيابهم في كتاب الله بعد ما ذكرت أنه كتاب مبين نازل في خير ليلة على رسوله لغرض الإنذار رحمة من الله، ثم تهددهم بعذاب الدنيا و بطش يوم القيامة و تتمثل لهم بقصة إرسال موسى إلى قوم فرعون و تكذيبهم له و إغراقهم.

و لا تخلو القصة من إيماء إلى أنه تعالى سينجي النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و المؤمنين به من عتاة قريش بإخراجهم من مكة ثم إهلاك صناديد قريش في تعقيبهم النبي و المؤمنين به.

قوله تعالى: ﴿بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ ضمير الجمع لقوم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و الإضراب عن محذوف يدل عليه السياق السابق أي إنهم لا يوقنون و لا يؤمنون بما ذكر من رسالة الرسول و صفة الكتاب الذي أنزل عليه بل هم في شك و ارتياب فيه يلعبون بالاشتغال بدنياهم، و ذكر الزمخشري أن الإضراب عن قوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ.

قوله تعالى: ﴿فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي اَلسَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ يَغْشَى اَلنَّاسَ الارتقاب‏ الانتظار و هذا وعيد بالعذاب و هو إتيان السماء بدخان مبين يغشى الناس.

 

 

و اختلف في المراد بهذا العذاب المذكور في الآية.

فقيل: المراد به المجاعة التي ابتلي بها أهل مكة فإنهم لما أصروا على كفرهم و أذاهم للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و المؤمنين به دعا عليهم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال: اللهم سنين كسني يوسف فأجدبت الأرض و أصابت قريشا مجاعة شديدة، و كان الرجل لما به من الجوع يرى بينه و بين السماء كالدخان و أكلوا الميتة و العظام ثم جاءوا إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و قالوا:

يا محمد جئت تأمر بصلة الرحم و قومك قد هلكوا، و وعدوه إن كشف الله عنهم الجدب أن يؤمنوا، فدعا و سأل الله لهم بالخصب و السعة فكشف عنهم ثم عادوا إلى كفرهم و نقضوا عهدهم.

و قيل: إن الدخان المذكور في الآية من أشراط الساعة و هو لم يأت بعد و هو يأتي قبل قيام الساعة فيدخل أسماع الناس حتى أن رءوسهم تكون كالرأس الحنيذ.

و يصيب المؤمن منه مثل الزكمة و تكون الأرض كلها كبيت أوقد فيه ليس فيه خصاص‏[6] و يمكث ذلك أربعين يوما.

و ربما قيل: إن المراد بيوم الدخان يوم فتح مكة حين دخل جيش المسلمين مكة فارتفع الغبار كالدخان المظلم، و ربما قيل: المراد به يوم القيامة، و القولان كما ترى.

و قوله: ﴿يَغْشَى اَلنَّاسَ أي يشملهم و يحيط بهم، و المراد بالناس أهل مكة على القول الأول، و عامة الناس على القول الثاني.

قوله تعالى: ﴿هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ رَبَّنَا اِكْشِفْ عَنَّا اَلْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ حكاية قول الناس عند نزول عذاب الدخان أي يقول الناس يوم تأتي السماء بدخان مبين:

هذا عذاب أليم و يسألون الله كشفه بالاعتراف بربوبيته و إظهار الإيمان بالدعوة الحقة فيقولون: ﴿رَبَّنَا اِكْشِفْ عَنَّا اَلْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ.

قوله تعالى: ﴿أَنَّى لَهُمُ اَلذِّكْرىَ وَ قَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ أي من أين لهم أن يتذكروا و يذعنوا بالحق و الحال أنه قد جاءهم رسول مبين ظاهر في رسالته لا يقبل الارتياب و هو محمد ص، و في الآية رد صدقهم في وعدهم.

قوله تعالى: ﴿ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَ قَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ التولي‏ الإعراض، و ضمير

 

 

﴿عَنْهُ للرسول و ﴿مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ خبران لمبتدإ محذوف هو ضمير راجع إلى الرسول و المعنى: ثم أعرضوا عن الرسول و قالوا هو معلم مجنون فرموه أولا بأنه معلم يعلمه غيره فيسند ما تعلمه إلى الله سبحانه، قال تعالى: ﴿وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ: النحل: ١٠٣، و ثانيا بأنه مجنون مختل العقل.

قوله تعالى: ﴿إِنَّا كَاشِفُوا اَلْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ أي إنا كاشفون للعذاب زمانا أنكم عائدون إلى ما كنتم فيه من الكفر و التكذيب هذا بناء على القول الأول و الآية تأكيد لرد صدقهم فيما وعدوه من الإيمان.

و أما على القول الثاني فالأقرب أن المعنى: أنكم عائدون إلى العذاب يوم القيامة.

قوله تعالى: ﴿يَوْمَ نَبْطِشُ اَلْبَطْشَةَ اَلْكُبْرىَ إِنَّا مُنْتَقِمُونَ البطش - على ما ذكره الراغب - تناول الشي‏ء بصولة، و هذا اليوم بناء على القول الأول المذكور يوم بدر و بناء على القول الثاني يوم القيامة، و ربما أيد توصيف البطشة بالكبرى هذا القول الثاني فإن بطش يوم القيامة و عذابه أكبر البطش و العذاب، قال تعالى: ﴿فَيُعَذِّبُهُ اَللَّهُ اَلْعَذَابَ اَلْأَكْبَرَ: الغاشية: ٢٤، كما أن أجره أكبر الأجر قال تعالى: ﴿وَ لَأَجْرُ اَلْآخِرَةِ أَكْبَرُ: النحل: ٤١.

قوله تعالى: ﴿وَ لَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَ جَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ الفتنة الامتحان و الابتلاء للحصول على حقيقة الشي‏ء، و قوله: ﴿وَ جَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ إلخ، تفسير للامتحان، و الرسول الكريم موسى (عليه السلام ) ، و الكريم‏ هو المتصف بالخصال الحميدة قال الراغب: الكرم إذا وصف الله تعالى به فهو اسم لإحسانه و إنعامه المتظاهر نحو قوله: ﴿فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ و إذا وصف به الإنسان فهو اسم للأخلاق و الأفعال المحمودة التي تظهر منه، و لا يقال: هو كريم حتى يظهر ذلك منه، قال: و كل شي‏ء شرف في بابه فإنه يوصف بالكرم قال تعالى: ﴿أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ﴿وَ زُرُوعٍ وَ مَقَامٍ كَرِيمٍ ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ﴿وَ قُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً انتهى.

قوله تعالى: ﴿أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اَللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ تفسير لمجي‏ء الرسول فإن معنى مجي‏ء الرسول تبليغ الرسالة و كان من رسالة موسى (عليه السلام ) إلى فرعون و قومه أن يرسلوا معهم بني إسرائيل و لا يعذبوهم، و المراد بعباد الله بنو إسرائيل و عبر عنهم

 

 

 بذلك استرحاما و تلويحا إلى أنهم في استكبارهم و تعديهم عليهم إنما يستكبرون على الله لأنهم عباد الله.

و في قوله: ﴿إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ حيث وصف نفسه بالأمانة دفع لاحتمال أن يخونهم في دعوى الرسالة و إنجاء بني إسرائيل من سيطرتهم فيخرج معهم عليهم فيخرجهم من أرضهم كما حكى تعالى عن فرعون إذ قال للملإ حوله: ﴿إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ: الشعراء: ٢٥.

و قيل: ﴿عِبَادَ اَللَّهِ نداء لفرعون و قومه و التقدير أن أدوا إلى ما آمركم به يا عباد الله، و لا يخلو من التقدير المخالف للظاهر.

قوله تعالى: ﴿وَ أَنْ لاَ تَعْلُوا عَلَى اَللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ أي لا تتجبروا على الله بتكذيب رسالتي و الإعراض عما أمركم الله فإن تكذيب الرسول في رسالته استعلاء و تجبر على من أرسله و الدليل على أن المراد ذلك تعليل النهي بقوله: ﴿إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ أي حجة بارزة من الآيات المعجزة أو حجة المعجزة و حجة البرهان.

قيل: و من حسن التعبير الجمع بين التأدية و الأمين و كذا بين العلو و السلطان.

قوله تعالى: ﴿وَ إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَ رَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ أي التجأت إليه تعالى من رجمكم إياي فلا تقدرون على ذلك، و الظاهر أنه إشارة إلى ما آمنه ربه قبل المجي‏ء إلى القوم كما في قوله تعالى: ﴿قَالاَ رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغىَ قَالَ لاَ تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَ أَرى‏: طه: ٤٦.

و بما مر يظهر فساد ما قيل: إن هذا كان قبل أن يخبره الله بعجزهم عن رجمه بقوله سبحانه: ﴿فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا.

قوله تعالى: ﴿وَ إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ أي إن لم تؤمنوا لي فكونوا بمعزل مني لا لي و لا علي و لا تتعرضوا لي بخير أو شر، و قيل: المراد تنحوا عني و انقطعوا، و هو بعيد.

قوله تعالى: ﴿فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلاَءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ أي دعاه بأن هؤلاء قوم مجرمون و قد ذكر من دعائه السبب الداعي له إلى الدعاء و هو إجرامهم إلى حد يستحقون معه الهلاك و يعلم ما سأله مما أجاب به ربه تعالى إذ قال: ﴿فَأَسْرِ بِعِبَادِي

 

 

إلخ، و هو الإهلاك.

قوله تعالى: ﴿فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ الإسراء: السير بالليل فيكون قوله: ﴿لَيْلاً تأكيدا له و تصريحا به، و المراد بعبادي بنو إسرائيل، و قوله: ﴿إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ أي يتبعكم فرعون و جنوده، و هو استئناف يخبر عما سيقع عقيب الإسراء.

و في الكلام إيجاز بالحذف و التقدير فقال له: أسر بعبادي ليلا إنكم متبعون يتبعكم فرعون و جنوده.

قوله تعالى: ﴿وَ اُتْرُكِ اَلْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ قال في المفردات: و اترك البحر رهوا أي ساكنا، و قيل: سعة من الطريق و هو الصحيح. انتهى. و قوله:

﴿إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ تعليل لقوله: ﴿وَ اُتْرُكِ اَلْبَحْرَ رَهْواً.

و في الكلام إيجاز بالحذف اختصارا و التقدير: أسر بعبادي ليلا يتبعكم فرعون و جنوده حتى إذا بلغتم البحر فاضربه بعصاك لينفتح طريق لجوازكم فجاوزوه و اتركه ساكنا أو مفتوحا على حاله فيدخلونه طمعا في إدراككم فهم جند مغرقون.

قوله تعالى: ﴿كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ وَ زُرُوعٍ وَ مَقَامٍ كَرِيمٍ وَ نَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ كَذَلِكَ ﴿كَمْ للتكثير أي كثيرا ما تركوا، و قوله: ﴿مِنْ جَنَّاتٍ إلخ...

بيان لما تركوا، و المقام الكريم المساكن الحسنة الزاهية، و النعمة فتح النون التنعم و بناؤها بناء المرة كالضربة و بكسر النون قسم من التنعم و بناؤها بناء النوع كالجلسة و فسروا النعمة هاهنا بما يتنعم به و هو أنسب للترك، و فاكهين‏ من الفكاهة بمعنى حديث الأنس و لعل المراد به هاهنا التمتع كما يتمتع بالفواكه و هي أنواع الثمار.

و قوله: ﴿كَذَلِكَ قيل: معناه الأمر كذلك، و قيل: المعنى نفعل فعلا كذلك لمن نريد إهلاكه، و قيل: الإشارة إلى الإخراج المفهوم من الكلام السابق، و المعنى:

مثل ذلك الإخراج أخرجناهم منها.

و يمكن أن يكون حالا من مفعول «تركوا» المحذوف و المعنى: كثيرا ما تركوا أشياء كذلك أي على حالها و الله أعلم.

قوله تعالى: ﴿وَ أَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ الضمير لمفعول ﴿تَرَكُوا المحذوف المبين بقوله: ﴿مِنْ جَنَّاتٍ إلخ، و المعنى ظاهر.

 

 

 قوله تعالى: ﴿فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ اَلسَّمَاءُ وَ اَلْأَرْضُ وَ مَا كَانُوا مُنْظَرِينَ بكاء السماء و الأرض على شي‏ء فائت كناية تخييلية عن تأثرهما عن فوته و فقده فعدم بكائهما عليهم بعد إهلاكهم كناية عن هوان أمرهم على الله و عدم تأثير هلاكهم في شي‏ء من أجزاء الكون.

و قوله: ﴿وَ مَا كَانُوا مُنْظَرِينَ كناية عن سرعة جريان القضاء الإلهي و القهر الربوبي في حقهم و عدم مصادفته لمانع يمنعه أو يحتاج إلى علاج في رفعه حتى يتأخر به.

قوله تعالى: ﴿وَ لَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ اَلْعَذَابِ اَلْمُهِينِ و هو ما يصيبهم و هم في إسارة فرعون من ذبح الأبناء و استحياء النساء و غير ذلك.

قوله تعالى: ﴿مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِنَ اَلْمُسْرِفِينَ ﴿مِنْ فِرْعَوْنَ بدل من قوله: ﴿مِنَ اَلْعَذَابِ إما بحذف مضاف و التقدير من عذاب فرعون، أو من غير حذف بجعل فرعون عين العذاب دعوى للمبالغة، و قوله: ﴿إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِنَ اَلْمُسْرِفِينَ أي متكبرا من أهل الإسراف و التعدي عن الحد.

قوله تعالى: ﴿وَ لَقَدِ اِخْتَرْنَاهُمْ عَلىَ عِلْمٍ عَلَى اَلْعَالَمِينَ أي اخترناهم على علم منا باستحقاقهم الاختيار على ما يفيده السياق.

و المراد بالعالمين جميع العالمين من الأمم إن كان المراد بالاختيار الاختيار من بعض الوجوه ككثرة الأنبياء فإنهم يمتازون من سائر الأمم بكثرة الأنبياء المبعوثين منهم و يمتازون بأن مر عليهم دهر طويل في التيه و هم يتظللون بالغمام و يأكلون المن و السلوى إلى غير ذلك.

و عالمو أهل زمانهم إن كان المراد بالاختيار مطلقة فإنهم لم يختاروا على الأمة الإسلامية التي خاطبهم الله تعالى بمثل قوله: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ: آل عمران: ١١٠، و قوله: ﴿هُوَ اِجْتَبَاكُمْ وَ مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ: الحج: ٧٨.

قوله تعالى: ﴿وَ آتَيْنَاهُمْ مِنَ اَلْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَؤُا مُبِينٌ البلاء الاختبار و الامتحان أي و أعطينا بني إسرائيل من الآيات المعجزات ما فيه امتحان ظاهر و لقد أوتوا من الآيات المعجزات ما لم يعهد في غيرهم من الأمم و ابتلوا بذلك ابتلاء مبينا.

قيل: و في قوله: ﴿فِيهِ إشارة إلى أن هناك أمورا أخرى ككونه معجزة.

و في تذييل القصة بهذه الآيات الأربع أعني قوله: ﴿وَ لَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ

 

 

 إلى قوله ﴿بَلَؤُا مُبِينٌ نوع تطييب لنفس النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و إيماء إلى أن الله تعالى سينجيه و المؤمنين به من فراعنة مكة و يختارهم و يمكنهم في الأرض فينظر كيف يعملون.

(بحث روائي‏)

 عن جوامع الجامع،: في قوله تعالى: ﴿فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي اَلسَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ و اختلف في الدخان فقيل: إنه دخان يأتي من السماء قبل قيام الساعة يدخل في أسماع الكفرة حتى يكون رأس الواحد كالرأس الحنيذ[7] و يعتري المؤمن منه كهيئة الزكام و يكون الأرض كلها كبيت أوقد فيه ليس فيه خصاص يمد ذلك أربعين يوما، و روي ذلك عن علي و ابن عباس و الحسن:

أقول: و رواه في الدر المنثور، عنهم و أيضا عن حذيفة بن اليمان و أبي سعيد الخدري عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و رواه أيضا عن ابن عمر موقوفا.

و في تفسير القمي،: في الآية قال: ذلك إذا خرجوا في الرجعة من القبر يغشى الناس كلهم الظلمة فيقولون: هذا عذاب أليم ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون.

 و في المجمع، و روى زرارة بن أعين عن أبي عبد الله (عليه السلام ) أنه قال : بكت السماء على يحيى بن زكريا و الحسين بن علي (عليه السلام ) أربعين صباحا. قلت: فما بكاؤها؟ قال: كانت تطلع حمراء و تغيب حمراء.

 و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم عن عبيد المكتب عن إبراهيم قال : ما بكت السماء منذ كانت الدنيا إلا على اثنين. قيل لعبيد: أ ليس السماء و الأرض تبكي على المؤمن؟ قال: ذاك مقامه و حيث يصعد عمله. قال: و تدري ما بكاء السماء؟ قال: لا. قال:

تحمر و تصير وردة كالدهان. إن يحيى بن زكريا لما قتل احمرت السماء و قطرت دما، و إن الحسين بن علي يوم قتل احمرت السماء.

 و في الفقيه، عن الصادق (عليه السلام ) قال: إذا مات المؤمن بكت عليه بقاع الأرض التي كان يعبد الله عز و جل فيها و الباب الذي كان يصعد منه عمله و موضع سجوده.

 

 

 أقول: و في هذا المعنى و معنى الروايتين السابقتين روايات أخر من طرق الشيعة و أهل السنة.

و لو بني في معنى بكاء السماء و الأرض على ما يظهر من هذه الروايات لم يحتج إلى حمل بكائهما على الكناية التخييلية.

و في تفسير القمي، :في قوله تعالى: ﴿وَ قَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ قال: قالوا ذلك لما نزل الوحي على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فأخذه الغشي فقالوا: هو مجنون.

 [سورة الدخان (٤٤): الآیات ٣٤ الی ٥٩]

﴿إِنَّ هَؤُلاَءِ لَيَقُولُونَ ٣٤ إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا اَلْأُولىَ وَ مَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ ٣٥ فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ٣٦ أَ هُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ ٣٧ وَ مَا خَلَقْنَا اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ ٣٨ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ٣٩ إِنَّ يَوْمَ اَلْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ ٤٠ يَوْمَ لاَ يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَ لاَ هُمْ يُنْصَرُونَ ٤١ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اَللَّهُ إِنَّهُ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلرَّحِيمُ ٤٢ إِنَّ شَجَرَةَ اَلزَّقُّومِ ٤٣ طَعَامُ اَلْأَثِيمِ ٤٤ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي اَلْبُطُونِ ٤٥ كَغَلْيِ اَلْحَمِيمِ ٤٦ خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى‏ سَوَاءِ اَلْجَحِيمِ ٤٧ ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ اَلْحَمِيمِ ٤٨ ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ اَلْعَزِيزُ اَلْكَرِيمُ ٤٩ إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ ٥٠

 

 

إِنَّ اَلْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ ٥١ فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ ٥٢ يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَ إِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ ٥٣ كَذَلِكَ وَ زَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ ٥٤ يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ ٥٥ لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا اَلْمَوْتَ إِلاَّ اَلْمَوْتَةَ اَلْأُولى‏ وَ وَقَاهُمْ عَذَابَ اَلْجَحِيمِ ٥٦ فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ ٥٧ فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ٥٨ فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ ٥٩

(بيان‏)

لما أنذر القوم بالعذاب الدنيوي ثم بالعذاب الأخروي و تمثل للعذاب الدنيوي بما جرى على قوم فرعون إذ جاءهم موسى (عليه السلام ) بالرسالة من ربه فكذبوه فأخذهم الله بعذاب الإغراق فاستأصلهم.

رجع إلى الكلام في العذاب الأخروي فذكر إنكار القوم للمعاد و قولهم أن ليس بعد الموتة الأولى حياة فاحتج على إثبات المعاد بالبرهان ثم أنبأ عن بعض ما سيلقاه المجرمون من العذاب في الآخرة و بعض ما سيلقاه المتقون من النعيم المقيم و عند ذلك تختتم السورة بما بدأت به و هو نزول الكتاب للتذكر و أمره (ص) بالارتقاب.

قوله تعالى: ﴿إِنَّ هَؤُلاَءِ لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا اَلْأُولىَ وَ مَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ رجوع إلى أول الكلام من قوله: ﴿بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ و الإشارة بهؤلاء إلى قريش و من يلحق بهم من العرب الوثنيين المنكرين للمعاد، و قولهم: ﴿إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا اَلْأُولى‏ يريدون به نفي الحياة بعد الموت الملازم لنفي المعاد بدليل قولهم بعده: ﴿وَ مَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ أي بمبعوثين، قال في الكشاف يقال: أنشر الله الموتى و نشرهم إذا بعثهم. انتهى.

 

 

فقولهم: ﴿إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا اَلْأُولىَ الضمير فيه للعاقبة و النهاية أي ليست عاقبة أمرنا و نهاية وجودنا و حياتنا إلا موتتنا الأولى فنعدم بها و لا حياة بعدها أبدا.

و وجه تقييد الموتة في الآية بالأولى، بأنه ليس بقيد احترازي إذ لا ملازمة بين الأول و الآخر أو بين الأول و الثاني فمن الجائز أن يكون هناك شي‏ء أول و لا ثاني له و لا في قباله آخر، كذا قيل.

و هناك وجه آخر ذكره الزمخشري في الكشاف فقال: فإن قلت: كان الكلام واقعا في الحياة الثانية لا في الموت فهلا قيل: إلا حياتنا الأولى و ما نحن بمنشرين كما قيل: إن هي إلا حياتنا الدنيا و ما نحن بمبعوثين، و ما معنى قوله: ﴿إِلاَّ مَوْتَتُنَا اَلْأُولى‏؟ و ما معنى ذكر الأولى؟ كأنهم وعدوا موتة أخرى حتى نفوها و جحدوها و أثبتوا الأولى.

قلت: معناه و الله الموفق للصواب أنهم قيل لهم: إنكم تموتون موتة تتعقبها حياة كما تقدمتكم موتة قد تعقبتها حياة و ذلك قوله عز و جل: ﴿وَ كُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ فقالوا: إن هي إلا موتتنا الأولى يريدون ما الموتة التي من شأنها أن تتعقبها حياة إلا الموتة الأولى دون الموتة الثانية، و ما هذه الصفة التي تصفون بها الموتة من تعقب الحياة لها إلا للموتة الأولى خاصة فلا فرق إذا بين هذا و بين قوله:

﴿إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا اَلدُّنْيَا في المعنى انتهى.

و يمكن أن يوجه بوجه ثالث و هو أن يقولوا: ﴿إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا اَلْأُولىَ بعد ما سمعوا قوله تعالى: ﴿قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اِثْنَتَيْنِ وَ أَحْيَيْتَنَا اِثْنَتَيْنِ الآية، و قد تقدم في تفسير الآية أن الإماتة الأولى هي الموتة بعد الحياة الدنيا، و الإماتة الثانية هي التي بعد الحياة البرزخية فهم في قولهم: ﴿إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا اَلْأُولىَ ينفون الموتة الثانية الملازمة للحياة البرزخية التي هي حياة بعد الموت فإنهم يرون موت الإنسان انعداما له و بطلانا لذاته.

و يمكن أن يوجه بوجه رابع و هو أن يرجع التقيد بالأولى إلى الحكاية دون المحكي و ذلك بأن يكون الذي قالوا إنما هو ﴿إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا و يكون معنى الكلام

 

 

 أن هؤلاء ينفون الحياة بعد الموت و يقولون: إن هي إلا موتتنا يريدون الموتة الأولى من الموتتين اللتين ذكرنا في قولنا: ﴿قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اِثْنَتَيْنِ الآية.

و الوجوه الأربع مختلفة في القرب من الفهم فأقربها ثالثها ثم الرابع ثم الأول.

قوله تعالى: ﴿فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ تتمة كلام القوم و خطاب منهم للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و المؤمنين به حيث كانوا يذكرون لهم البعث و الإحياء فاحتجوا لرد الإحياء بعد الموت بقولهم: ﴿فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ أي فليحي آباؤنا الماضون بدعائكم أو بأي وسيلة اتخذتموها حتى نعلم صدقكم في دعواكم أن الأموات سيحيون و أن الموت ليس بانعدام.

قوله تعالى: ﴿أَ هُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ تهديد للقوم بالإهلاك كما أهلك قوم تبع و الذين من قبلهم من الأمم.

و تبع‏ هذا ملك من ملوك الحمير باليمن و اسمه على ما ذكروا أسعد أبو كرب و قيل: سعد أبو كرب و سيأتي في البحث الروائي نبذة من قصته و في الكلام نوع تلويح إلى سلامة تبع نفسه من الإهلاك.

قوله تعالى: ﴿وَ مَا خَلَقْنَا اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ضمير التثنية في قوله: ﴿وَ مَا بَيْنَهُمَا لجنسي السماوات و الأرض و لذا لم يجمع، و الباء في قوله ﴿بِالْحَقِّ للملابسة أي ما خلقناهما إلا متلبستين بالحق، و جوز بعضهم كونها للسببية أي ما خلقناهما بسبب من الأسباب إلا بسبب الحق الذي هو الإيمان و الطاعة و البعث و الجزاء، و لا يخفى بعده.

و مضمون الآيتين حجة برهانية على ثبوت المعاد و تقريرها أنه لو لم يكن وراء هذا العالم عالم ثابت باق بل كان الله لا يزال يوجد أشياء ثم يعدمها ثم يوجد أشياء أخر ثم يعدمها و يحيي هذا ثم يميته و يحيي آخر و هكذا كان لاعبا في فعله عابثا به و اللعب عليه تعالى محال ففعله حق له غرض صحيح فهناك عالم آخر باق دائمي ينتقل إليه الأشياء و ما في هذا العالم الدنيوي الفاني البائد مقدمة للانتقال إلى ذلك العالم و هو الحياة الآخرة.

و قد فصلنا القول في هذا البرهان في تفسير الآية ١٦ من سورة الأنبياء، و الآية ٢٧ من سورة _ ص فليراجع.

 

 

 و قوله: ﴿وَ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ تقريع لهم بالجهل.

قوله تعالى: ﴿إِنَّ يَوْمَ اَلْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ بيان لصفة اليوم الذي يثبته البرهان السابق و هو يوم القيامة الذي فيه يقوم الناس لرب العالمين.

و سماه الله يوم الفصل لأنه يفصل فيه بين الحق و الباطل و بين المحق و المبطل و المتقين و المجرمين أو لأنه يوم القضاء الفصل منه تعالى.

و قوله: ﴿مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ أي موعد الناس أجمعين أو موعد من تقدم ذكره من قوم تبع و قوم فرعون و من تقدمهم و قريش و غيرهم.

قوله تعالى: ﴿يَوْمَ لاَ يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَ لاَ هُمْ يُنْصَرُونَ بيان ليوم الفصل، و المولى هو الصاحب الذي له أن يتصرف في أمور صاحبه و يطلق على من يتولى الأمر و على من يتولى أمره و المولى الأول في الآية هو الأول و الثاني هو الثاني.

و الآية تنفي أولا إغناء مولى عن مولاه يومئذ، و تخبر ثانيا أنهم لا ينصرون و الفرق بين المعنيين أن الإغناء يكون فيما استقل المغني في عمله و لا يكون لمن يغني عنه صنع في ذلك، و النصرة إنما تكون فيما كان للمنصور بعض أسباب الظفر الناقصة و يتم له ذلك بنصرة الناصر.

و الوجه في انتفاء الإغناء و النصر يومئذ أن الأسباب المؤثرة في نشأة الحياة الدنيا تسقط يوم القيامة، قال تعالى: ﴿وَ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ اَلْأَسْبَابُ: البقرة: ١٦٦، و قال:

﴿فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ: يونس: ٢٨.

قوله تعالى: ﴿إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اَللَّهُ إِنَّهُ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلرَّحِيمُ استثناء من ضمير ﴿لاَ هُمْ يُنْصَرُونَ و الآية من أدلة الشفاعة يومئذ و قد تقدم تفصيل القول في الشفاعة في الجزء الأول من الكتاب.

هذا على تقدير رجوع ضمير ﴿لاَ هُمْ يُنْصَرُونَ إلى الناس جميعا على ما هو الظاهر.

و أما لو رجع إلى الكفار كما قيل فالاستثناء منقطع و المعنى: لكن من رحمة الله و هم المتقون فإنهم في غني عن مولى يغني عنهم و ناصر ينصرهم.

و أما ما جوزه بعضهم من كونه استثناء متصلا من ﴿مَوْلًى فقد ظهر فساده مما قدمناه فإن الإغناء إنما هو فيما لم يكن عند الإنسان شي‏ء من أسباب النجاة و من كان

 

 

 على هذه الصفة لم يغن عنه مغن و لا استثناء و الشفاعة نصرة تحتاج إلى بعض أسباب النجاة و هو الدين المرضي و قد تقدم في بحث الشفاعة، نعم يمكن أن يوجه بما سيجي‏ء في رواية الشحام.

و قوله: ﴿إِنَّهُ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلرَّحِيمُ أي الغالب الذي لا يغلبه شي‏ء حتى يمنعه من تعذيب من يريد عذابه، و مفيض الخير على من يريد أن يرحمه و يفيض الخير عليه و مناسبة الاسمين الكريمين لمضامين الآيات ظاهرة.

قوله تعالى: ﴿إِنَّ شَجَرَةَ اَلزَّقُّومِ طَعَامُ اَلْأَثِيمِ تقدم الكلام في شجرة الزقوم في تفسير سورة الصافات، و الأثيم‏ من استقر فيه الإثم إما بالمداومة على معصية أو بالإكثار من المعاصي و الآية إلى تمام ثمان آيات بيان حال أهل النار.

قوله تعالى: ﴿كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي اَلْبُطُونِ كَغَلْيِ اَلْحَمِيمِ المهل‏ هو المذاب من النحاس و الرصاص و غيرهما، و الغلي و الغليان معروف، و الحميم‏ الماء الحار الشديد الحرارة، و قوله: ﴿كَالْمُهْلِ خبر ثان لقوله: ﴿إِنَّ كما أن قوله: ﴿طَعَامُ اَلْأَثِيمِ خبر أول، و قوله: ﴿يَغْلِي فِي اَلْبُطُونِ كَغَلْيِ اَلْحَمِيمِ خبر ثالث، و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ﴿خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلىَ سَوَاءِ اَلْجَحِيمِ الاعتلاء الزعزعة و الدفع بعنف و سواء الجحيم وسطه، و الخطاب للملائكة الموكلين على النار أي نقول للملائكة خذوا الأثيم و ادفعوه بعنف إلى وسط النار لتحيط به قال تعالى: ﴿وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ: التوبة: ٤٩.

قوله تعالى: ﴿ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ اَلْحَمِيمِ كان المراد بالعذاب ما يعذب به، و إضافته إلى الحميم بيانية و المعنى: ثم صبوا فوق رأسه من الحميم الذي يعذب به.

قوله تعالى: ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ اَلْعَزِيزُ اَلْكَرِيمُ خطاب يخاطب به الأثيم و هو يقاسي العذاب بعد العذاب، و توصيفه بالعزة و الكرامة على ما هو عليه من الذلة و اللآمة استهزاء به تشديدا لعذابه و قد كان يرى في الدنيا لنفسه عزة و كرامة لا تفارقانه كما يظهر مما حكى الله سبحانه من قوله: ﴿وَ مَا أَظُنُّ اَلسَّاعَةَ قَائِمَةً وَ لَئِنْ رُجِعْتُ إِلىَ رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنىَ: حم السجدة: ٥٠.

 

 

قوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ الامتراء الشك و الارتياب، و الآية تتمة قولهم له: ﴿ذُقْ إلخ، و فيها تأكيد و إعلام لهم بخطاهم و زلتهم في الدنيا حيث ارتابوا فيما يشاهدونه اليوم من العذاب مشاهدة عيان، و لذا عبر عن تحمل العذاب بالذوق لما أنه يعبر عن إدراك ألم المولمات و لذة الملذات إدراكا تاما بالذوق.

و يمكن أن تكون الآية استئنافا من كلام الله سبحانه يخاطب به الكفار بعد ذكر حالهم في يوم القيامة، و ربما أيده قوله: ﴿كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ بخطاب الجمع و الخطاب في الآيات السابقة بالإفراد.

قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَلْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ المقام‏ محل القيام بمعنى الثبوت و الركوز و لذا فسر أيضا بموضع الإقامة، و الأمين‏ صفة من الأمن بمعنى عدم إصابة المكروه، و المعنى: أن المتقين يوم القيامة ثابتون في محل ذي أمن من إصابة المكروه مطلقا.

و بذلك يظهر أن نسبة الأمن إلى المقام بتوصيف المقام بالأمين من المجاز في النسبة.

قوله تعالى: ﴿فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ بيان لقوله: ﴿فِي مَقَامٍ أَمِينٍ و جعل العيون ظرفا لهم باعتبار المجاورة و وجودها في الجنات التي هي ظرف، و جمع الجنات باعتبار اختلاف أنواعها أو باعتبار أن لكل منهم وحده جنة أو أكثر.

قوله تعالى: ﴿يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَ إِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ السندس‏ الرقيق من الحرير و الإستبرق‏ الغليظ منه و هما معربان من الفارسية.

و قوله: ﴿مُتَقَابِلِينَ أي يقابل بعضهم بعضا للاستيناس إذ لا شر و لا مكروه عندهم لكونهم في مقام أمين.

قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ وَ زَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ أي الأمر كذلك أي كما وصفناه و المراد بتزويجهم بالحور جعلهم قرناء لهن من الزوج بمعنى القرين و هو أصل التزويج في اللغة، و الحور جمع حوراء بمعنى شديدة سواد العين و بياضها أو ذات المقلة السوداء كالظباء، و العين‏ جمع عيناء بمعنى عظيمة العينين، و ظاهر كلامه تعالى أن الحور العين غير نساء الدنيا الداخلة في الجنة.

قوله تعالى: ﴿يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ أي آمنين من ضررها.

 

 

 قوله تعالى: ﴿لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا اَلْمَوْتَ إِلاَّ اَلْمَوْتَةَ اَلْأُولىَ وَ وَقَاهُمْ عَذَابَ اَلْجَحِيمِ أي إنهم في جنة الخلد أحياء بحياة أبدية لا يعتريها موت.

و قد استشكل في الآية بأن استثناء الموتة الأولى من قوله: ﴿لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا اَلْمَوْتَ يفيد أنهم يذوقون الموتة الأولى فيها، و المراد خلافه قطعا، و بتقرير آخر الموتة الأولى هي موتة الدنيا و قد مضت بالنسبة إلى أهل الجنة، و التلبس في المستقبل بأمر ماض محال قطعا فما معنى استثناء الموتة الأولى من عدم الذوق في المستقبل؟.

و هنا إشكال آخر لم يتعرضوا له و هو أنه قد تقدم في قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا أَمَتَّنَا اِثْنَتَيْنِ وَ أَحْيَيْتَنَا اِثْنَتَيْنِ: المؤمن: ١١، إن بين الحياة الدنيا و الساعة موتتين: موتة بالانتقال من الدنيا إلى البرزخ و موتة بالانتقال من البرزخ إلى الآخرة، و الظاهر أن المراد بالموتة الأولى في الآية هي موتة الدنيا الناقلة للإنسان إلى البرزخ فهب أنا أصلحنا استثناء الموتة الأولى بوجه فما بال الموتة الثانية لم تستثن؟ و ما الفرق بينهما و هما موتتان ذاقوهما قبل الدخول في جنة الخلد؟.

و أجيب عن الإشكال الأول بأن الاستثناء منقطع، و المعنى: لكنهم قد ذاقوا الموتة الأولى في الدنيا و قد مضت فعموم قوله: ﴿لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا اَلْمَوْتَ على حاله.

و على تقدير عدم كون الاستثناء منقطعا «إلا» بمعنى سوى و ﴿إِلاَّ اَلْمَوْتَةَ اَلْأُولىَ بدل من ﴿اَلْمَوْتَ و ليس من الاستثناء في شي‏ء، و المعنى: لا يذوقون فيها سوى الموتة الأولى من الموت أما الموتة الأولى فقد ذاقوها و محال أن تعود و تذاق و هي أولى.

و أجيب ببعض وجوه أخر لا يعبأ به، و أنت خبير بأن شيئا من الوجهين لا يوجه اتصاف الموتة بالأولى و قد تقدم في تفسير قوله: ﴿إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا اَلْأُولىَ الآية، وجوه في ذلك.

و أما الإشكال الثاني فيمكن أن يجاب عنه بالجواب الثاني المتقدم لما أن هناك موتتين الموتة الأولى و هي الناقلة للإنسان من الدنيا إلى البرزخ و الموتة الثانية و هي الناقلة له من البرزخ إلى الآخرة فإذا كان ﴿إِلاَّ في قوله: ﴿إِلاَّ اَلْمَوْتَةَ اَلْأُولىَ بمعنى سوى و المجموع بدلا من الموت كانت الآية مسوقة لنفي غير الموتة الأولى و هي الموتة الثانية التي هي موتة البرزخ فلا موت في جنة الآخرة لا موتة الدنيا لأنها تحققت لهم قبلا و لا غير موتة الدنيا التي هي موتة البرزخ، و يتبين بهذا وجه تقييد الموتة بالأولى.

 

 

 و قوله: ﴿وَ وَقَاهُمْ عَذَابَ اَلْجَحِيمِ الوقاية حفظ الشي‏ء مما يؤذيه و يضره، فالمعنى: و حفظهم من عذاب الجحيم، و ذكر وقايتهم من عذاب الجحيم مع نفي الموت عنهم تتميم لقسمة المكاره أي إنهم مصونون من الانتقال من دار إلى دار و من نشأة الجنة إلى نشأة غيرها و هو الموت و مصونون من الانتقال من حال سعيدة إلى حال شقية و هي عذاب الجحيم.

قوله تعالى: ﴿فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ حال مما تقدم ذكره من الكرامة و النعمة، و يمكن أن يكون مفعولا مطلقا أو مفعولا له، و على أي حال هو تفضل منه تعالى من غير استحقاق من العباد استحقاقا يوجب عليه تعالى و يلزمه على الإثابة فإنه تعالى مالك غير مملوك لا يتحكم عليه شي‏ء، و إنما هو وعده لعباده ثم أخبر أنه لا يخلف وعده، و قد تقدم تفصيل القول في هذا المعنى في الأبحاث السابقة.

و قوله: ﴿ذَلِكَ هُوَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ الفوز هو الظفر بالمراد و كونه فوزا عظيما لكونه آخر ما يسعد به الإنسان.

قوله تعالى: ﴿فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ تفريع على جميع ما تقدم من أول السورة إلى هنا و فذلكة للجميع، و التيسير التسهيل، و الضمير للكتاب و المراد بلسان النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) العربية.

و المعنى: فإنما سهلنا القرآن أي فهم مقاصده بالعربية لعلهم أي لعل قومك يتذكرون فتكون الآية قريبة المعنى من قوله: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ: الزخرف: ٣.

و قيل: المراد من تيسير الكتاب بلسان النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) إجراؤه على لسانه و هو أمي لا يقرأ و لا يكتب ليكون آية لصدق نبوته، و هو بعيد من سياق الفذلكة.

قوله تعالى: ﴿فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ كأنه متفرع على ما يتفرع على الآية السابقة، و محصل المعنى أنا يسرناه بالعربية رجاء أن يتذكروا فلم يتذكروا بل هم في شك يلعبون و ينتظرون العذاب الذي لا مرد له من المكذبين فانتظر العذاب إنهم منتظرون له.

فإطلاق المرتقبين على القوم من باب التهكم، و من سخيف القول قول من يقول إن في الآية أمرا بالمتاركة و هي منسوخة بآية السيف.

 

 

(بحث روائي‏(

في المجمع،: في قوله تعالى: ﴿أَ هُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ: روى سهل بن ساعد عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أنه قال: لا تسبوا تبعا فإنه كان قد أسلم.

 أقول: و روي هذا المعنى في الدر المنثور، عن ابن عباس أيضا، و أيضا عن ابن عساكر عن عطاء بن أبي رباح عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) .

 و فيه، و روى الوليد بن صبيح عن أبي عبد الله (عليه السلام ) قال : إن تبعا قال للأوس و الخزرج: كونوا هاهنا حتى يخرج هذا النبي، أما أنا فلو أدركته لخدمته و خرجت معه.

 و في الدر المنثور، أخرج أبو نعيم في الدلائل عن عبد الله بن سلام قال: لم يمت تبع حتى صدق بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لما كان يهود يثرب يخبرونه. أقول: و الأخبار في أمر تبع كثيرة، و في بعضها أنه أول من كسا الكعبة.

 و في الكافي، بإسناده عن زيد الشحام قال : قال لي أبو عبد الله (عليه السلام ) و نحن في الطريق في ليلة الجمعة: اقرأ فإنها ليلة الجمعة قرآنا، فقرأت ﴿إِنَّ يَوْمَ اَلْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ يَوْمَ لاَ يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَ لاَ هُمْ يُنْصَرُونَ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اَللَّهُ فقال أبو عبد الله (عليه السلام ) : نحن و الله الذي استثنى الله فكنا نغني عنهم.

 أقول: يشير (عليه السلام ) إلى الشفاعة و قد أخذ الاستثناء عن «مولى» الأول.

و في تفسير القمي، ثم قال: ﴿إِنَّ شَجَرَةَ اَلزَّقُّومِ طَعَامُ اَلْأَثِيمِ نزلت في أبي جهل بن هشام، و قوله: ﴿كَالْمُهْلِ قال: المهل الصفر المذاب ﴿يَغْلِي فِي اَلْبُطُونِ كَغَلْيِ اَلْحَمِيمِ و هو الذي قد حمي و بلغ المنتهى.

أقول: و من طرق أهل السنة أيضا روايات تؤيد نزول الآية في أبي جهل.

 

 

(٤٥) سورة الجاثية مكية و هي سبع و ثلاثون آية (٣٧)

[سورة الجاثية (٤٥): الآیات ١ الی ١٣]

﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ حم ١ تَنْزِيلُ اَلْكِتَابِ مِنَ اَللَّهِ اَلْعَزِيزِ اَلْحَكِيمِ ٢ إِنَّ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ ٣ وَ فِي خَلْقِكُمْ وَ مَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ٤ وَ اِخْتِلاَفِ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهَارِ وَ مَا أَنْزَلَ اَللَّهُ مِنَ اَلسَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَ تَصْرِيفِ اَلرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ٥ تِلْكَ آيَاتُ اَللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اَللَّهِ وَ آيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ ٦ وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ٧ يَسْمَعُ آيَاتِ اَللَّهِ تُتْلى‏ عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ٨ وَ إِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً اِتَّخَذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ٩ مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَ لاَ يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئاً وَ لاَ مَا اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اَللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ١٠ هَذَا هُدىً وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ ١١ اَللَّهُ اَلَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ اَلْبَحْرَ لِتَجْرِيَ اَلْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ١٢

 

 

وَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ١٣

 (بيان‏)

غرض السورة دعوة عامة على الإنذار تفتتح بآيات الوحدانية ثم تذكر تشريع الشريعة للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و تشير إلى لزوم اتباعها له و لغيره بما أن أمامهم يوما يحاسبون فيه على أعمالهم الصالحة من الإيمان و اتباع الشريعة و اجتراحهم السيئات بالإعراض عن الدين، ثم تذكر ما سيجري على الفريقين في ذلك اليوم و هو يوم القيامة.

و في خلال مقاصدها إنذار و وعيد شديد للمستكبرين المعرضين عن آيات الله و الذين اتخذوا إلههم هواهم و أضلهم الله على علم.

و من طرائف مطالبها بيان معنى كتابة الأعمال و استنساخها.

و السورة مكية بشهادة سياق آياتها و استثنى بعضهم قوله تعالى: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا الآية، و لا شاهد له.

قوله تعالى: ﴿حم تَنْزِيلُ اَلْكِتَابِ مِنَ اَللَّهِ اَلْعَزِيزِ اَلْحَكِيمِ الظاهر أن ﴿تَنْزِيلُ اَلْكِتَابِ من إضافة الصفة إلى الموصوف و المصدر بمعنى المفعول، و ﴿مِنَ اَللَّهِ متعلق بتنزيل، و المجموع خبر لمبتدإ محذوف.

و المعنى: هذا كتاب منزل من الله العزيز الحكيم، و قد تقدم الكلام في مفردات الآية فيما تقدم.

قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ آية الشي‏ء علامته التي تدل عليه و تشير إليه، و المراد بكون السماوات و الأرض فيها آيات كونها بنفسها آيات له فليس وراء السماوات و الأرض و سائر ما خلق الله أمر مظروف لها هو آية دالة عليه تعالى.

و من الدليل على ما ذكرنا اختلاف التعبير فيها في كلامه تعالى فتارة يذكر أن في الشي‏ء آية له و أخرى يعده بنفسه آية كقوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ

 

 

 وَ اِخْتِلاَفِ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهَارِ لَآيَاتٍ: آل عمران: ١٩٠، و قوله: ﴿وَ مِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ: الروم: ٢٢، و نظائرهما كثيرة، و يستفاد من اختلاف التعبير الذي فيها أن معنى كون الشي‏ء فيه آية هو كونه بنفسه آية كما يستفاد من اختلاف التعبير في مثل قوله: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اِخْتِلاَفِ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهَارِ لَآيَاتٍ، و قوله: ﴿إِنَّ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ لَآيَاتٍ الآية، أن المراد من خلق السماوات و الأرض نفسها لا غير.

و العناية في أخذ الشي‏ء ظرفا للآية مع كونه بنفسه آية اعتبار جهات وجوده و إن لوجوده جهة أو جهات كل واحدة منها آية من الآيات و لو أخذت نفس الشي‏ء لم يستقم إلا أخذها آية واحدة كما في قوله تعالى: ﴿وَ فِي اَلْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ: الذاريات:

 ٢٠، و لو أخذت الآية نفس الأرض لم يستقم إلا أن يقال: و الأرض آية للموقنين و ضاع المراد و هو أن في وجود الأرض جهات كل واحدة منها آية وحدها.

فمعنى قوله: ﴿إِنَّ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ إلخ، إن لوجود السماوات و الأرض جهات دالة على أن الله تعالى هو خالقها المدبر لها وحده لا شريك له فإنها بحاجتها الذاتية إلى من يوجدها و عظمة خلقتها و بداعة تركيبها و اتصال وجود بعضها ببعض و ارتباطه على كثرتها الهائلة و اندراج أنظمتها الجزئية الخاصة بكل واحد تحت نظام عام يجمعها و يحكم فيها تدل على أن لها خالقا هو وحده ربها المدبر أمرها فلو لا أن هناك من يوجدها لم توجد من رأس، و لو لا أن مدبرها واحد لتناقضت النظامات و تدافعت و اختلف التدبير.

و مما تقدم يظهر أن قول بعضهم: إن قوله: ﴿فِي اَلسَّمَاوَاتِ بتقدير مضاف محذوف و التقدير في خلق السماوات، تكلف من غير ضرورة تدعو إليه.

قوله تعالى: ﴿وَ فِي خَلْقِكُمْ وَ مَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ البث‏ التفريق و الإثارة و بثه تعالى للدواب خلقها و تفريقها و نشرها على الأرض كما قال في خلق الإنسان:

﴿ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ: الروم: ٢٠.

و معنى الآية: و فيكم من حيث وجودكم المخلوق و فيما يفرقه الله من دابة من حيث خلقها آيات لقوم يسلكون سبيل اليقين.

و خلق الإنسان على كونه موجودا أرضيا له ارتباط بالمادة نوع آخر من الخلق يغاير خلق السماوات و الأرض لأنه مركب من بدن أرضي مؤلف من مواد كونية

 

 

 عنصرية تفسد بالموت بالتفرق و التلاشي و أمر آخر وراء ذلك علوي غير مادي لا يفسد بالموت بل يتوفى و يحفظ عند الله، و هو الذي يسميه القرآن بالروح قال تعالى: ﴿وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي: الحجر: ٢٩، و قال بعد ذكر خلق الإنسان من نطفة ثم من علقة ثم مضغة ثم تتميم خلق بدنه: ﴿ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ: المؤمنون: ١٤ و قال: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ اَلْمَوْتِ اَلَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ: الم السجدة: ١١.

فالناظر في خلق الإنسان ناظر في آية ملكوتية وراء الآيات المادية و كذا الناظر في خلق الدواب و لها نفوس ذوات حياة و شعور و إن كانت دون الإنسان في حياتها و شعورها كما أنها دونه في تجهيزاتها البدنية ففي الجميع آيات لأهل اليقين يعرفون بها الله سبحانه بأنه واحد لا شريك له في ربوبيته و ألوهيته.

قوله تعالى: ﴿وَ اِخْتِلاَفِ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهَارِ إلى آخر الآية هذا القبيل من الآيات آيات ما بين السماء و الأرض.

و قوله: ﴿وَ اِخْتِلاَفِ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهَارِ يريد به اختلافهما في الطول و القصر اختلافا منظما باختلاف الفصول الأربعة بحسب بقاع الأرض المختلفة و يتكرر بتكرر السنين يدبر سبحانه بذلك أقوات أهل الأرض و يربيهم بذلك تربية صالحة قال تعالى: ﴿وَ قَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ: حم السجدة: ١٠.

و قوله: ﴿وَ مَا أَنْزَلَ اَللَّهُ مِنَ اَلسَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا المراد بالرزق الذي ينزله الله من السماء هو المطر تسمية للسبب باسم المسبب مجازا أو لأن المطر أيضا من الرزق فإن مياه الأرض من المطر، و المراد بالسماء جهة العلو أو السحاب مجازا، و إحياء الأرض به بعد موتها هو إحياء ما فيها من النبات بالأخذ في الرشد و النمو، و لا يخلو التعرض للإحياء بعد الموت من تلويح إلى المعاد.

و قوله: ﴿وَ تَصْرِيفِ اَلرِّيَاحِ أي تحويلها و إرسالها من جانب إلى جانب، لتصريفها فوائد عامة كثيرة من أعمها سوق السحب إلى أقطار الأرض و تلقيح النباتات و دفع العفونات و الروائح المنتنة.

و قوله: ﴿آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أي يميزون بين الحق و الباطل و الحسن و القبيح بالعقل الذي أودعه الله سبحانه فيهم.

و قد خص كل قبيل من الآيات بقوم خاص فخصت آية السماوات و الأرض

 

 

 بالمؤمنين و آية الإنسان و سائر الحيوان بقوم يوقنون، و آية اختلاف الليل و النهار و الأمطار و تصريف الرياح بقوم يعقلون.

و لعل الوجه في ذلك أن آية السماوات و الأرض تدل بدلالة بسيطة ساذجة على أنها لم توجد نفسها بنفسها و لا عن اتفاق و صدفة بل لها موجد أوجدها مع ما لها من الآثار و الأفعال التي يتحصل منها النظام المشهود فخالقها خالق الجميع و رب الكل، و الإنسان يدرك ذلك بفهمه البسيط الساذج و المؤمنون بجميع طبقاتهم يفهمون ذلك و ينتفعون به.

و أما أنه خلق الإنسان و سائر الدواب التي لها حياة و شعور فإنها من حيث أرواحها و نفوسها الحية الشاعرة من عالم وراء عالم المادة و هو المسمى بالملكوت و قد خص القرآن كمال إدراكه و مشاهدته بأهل اليقين كما قال: ﴿وَ كَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ اَلْمُوقِنِينَ: الأنعام: ٧٥.

و أما آية اختلاف الليل و النهار و الأمطار المحيية للأرض و تصريف الرياح فإنها لتنوع أقسامها و تعدد جهاتها و ارتباطها بالأرض و الأرضيات و كثرة فوائدها و سعة منافعها تحتاج إلى تعقل فكري تفصيلي عميق و لا تنال بالفهم البسيط الساذج و لذلك خصت بقوم يعقلون و الآيات آيات لجميع الناس لكن لما كان المنتفع بها بعضهم خصت بهم.

و قد عبر عن أهل اليقين و العقل بقوم يوقنون و بقوم يعقلون و عن أهل الإيمان بالمؤمنين لأن بساطة آية أهل الإيمان تفيد أن المراد بالإيمان أصله و هو ثابت فيهم فناسب التعبير عنهم بالوصف بخلاف آيتي أهل اليقين و العقل فإنهما لدقتهما و علو منالهما تدركان شيئا فشيئا فناسبتا التعبير بالفعل المضارع الدال على الاستمرار التجددي.

و قيل في وجه ما في الآيات الثلاث من الترتيب بين أهلها حيث ذكر أولا أهل الإيمان ثم الإيقان ثم العقل أنه على ترتيب الترقي فإن الإيقان مرتبة خاصة في الإيمان فهو بعد الإيمان و العقل مدار الإيمان و الإيقان و نعني العقل المؤيد بنور البصيرة فبسببه يخلص اليقين من اعتراء الشكوك من كل وجه و في استحكامه كل خير. و روعي في ترتيب الآيات ما روعي في ترتيب المراتب الثلاث.[8]

 

 

 

 و فيه أن مقتضى ما وصفه من أمر العقل وقوعه قبل الثاني بل قبل أول المراتب على أن ما ذكره من إمكان اعتراء الشكوك على اليقين مما لا سبيل إلى تصوره.

و قيل في وجه الترتيب: أن تمام النظر في الثاني يضطر إلى النظر في الأول لأن السماوات و الأرض من أسباب تكون الحيوان بوجه فيجب أن تذكر قبله، و كذلك النظر في الثالث يضطر إلى النظر في الأولين أما الأول فظاهر، و أما الثاني فلأنه العلة الغائية فلا بد أن يكون جامعا أي إن الثالث و هو المعلول يتوقف في معرفته على ذكر علته الغائية قبله.

و فيه أنه على تقدير صحته وجه لترتب الآيات دون مراتب الصفات الثلاث أعني الإيمان و الإيقان و العقل. على أن الثالث أيضا كالأول من أسباب تكون الحيوان فيجب أن يتقدم على الثاني، و بوجه آخر الثاني علة غائية للأول فيجب أن يتقدم على الأول كما تقدم على الثالث.

و قيل: إن السبب في ترتيب هذه الفواصل أنه قيل: إن كنتم مؤمنين فافهموا هذه الدلائل، و إن كنتم لستم بمؤمنين و كنتم من طلاب الجزم و اليقين فافهموا هذه الدلائل، و إن كنتم لستم بمؤمنين و لا موقنين فاجتهدوا في معرفة هذه الدلائل.

و فيه أنه على تقدير صحته وجه لترتب الصفات الثلاث دون أقسام الآيات الثلاثة على أن لازمه أن لا يختص شي‏ء من الآيات الثلاث بواحدة من الصفات الثلاث بل يكون الجميع للجميع و السياق لا يساعد عليه على أن ظاهر كلامه أنه فسر اليقين بالجزم و هو العلم فلا يبقى للعقل إلا الحكم الظني و لا يعبأ به في المعارف الاعتقادية.

قوله تعالى: ﴿تِلْكَ آيَاتُ اَللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اَللَّهِ وَ آيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ الإيمان‏ بأمر هو العلم به مع الالتزام به عملا فلو لم يلتزم لم يكن إيمانا و إن كان هناك علم، قال تعالى: ﴿وَ جَحَدُوا بِهَا وَ اِسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ: النمل: ١٤، و قال:

﴿وَ أَضَلَّهُ اَللَّهُ عَلىَ عِلْمٍ: الجاثية: ٢٣.

و الآيات هي العلامات الدالة فآيات الله الكونية هي الأمور الكونية الدالة بوجودها الخارجي على كونه تعالى واحدا في الخلق متصفا بصفات الكمال منزها عن كل نقص و حاجة، و الإيمان بهذه الآيات هو الإيمان بدلالتها عليه تعالى و لازمه الإيمان به

 

 

 تعالى كما تدل هي عليه.

و الآيات القرآنية آيات له تعالى بما تدل على الآيات الكونية الدالة عليه سبحانه أو على معارف اعتقادية أو أحكام عملية أو أخلاق يرتضيها الله سبحانه و يأمر بها فإن مضامينها دالة عليه و من عنده، و الإيمان بهذه الآيات أيضا إيمان بدلالتها و يلزمه الإيمان بمدلولها.

و الآيات المعجزة أيضا إما آيات كونية و دلالتها دلالة الآيات الكونية و إما غير كونية كالقرآن في إعجازه و مرجع دلالتها إلى دلالة الآيات الكونية.

و قوله: ﴿تِلْكَ آيَاتُ اَللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ الإشارة إلى الآيات القرآنية المتلوة عليه (ص)، و يمكن أن تكون إشارة إلى الآيات الكونية المذكورة في الآيات الثلاث السابقة بعناية الاتحاد بين الدال و المدلول.

و قوله: ﴿فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اَللَّهِ وَ آيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ قيل: هو من قبيل قولك:

أعجبني زيد و كرمه، و إنما أعجبك كرمه و المعنى بحسب النظر الدقيق أعجبني كرم زيد و زيد من حيث كرمه، فمعنى الآية فبأي حديث بعد آيات الله يعني الآيات القرآنية يؤمنون؟ يعني إذا لم يؤمنوا بهذا الحديث فبأي حديث بعده يؤمنون؟.

و قيل: الكلام بتقدير حديث أي إذا لم يؤمنوا فبأي حديث بعد حديث الله و آياته يؤمنون، و الأنسب على هذا المعنى أن يكون المراد بالآيات الآيات الكونية و لذا قال الطبرسي بعد ذكر هذا المعنى: و الفرق بين الحديث الذي هو القرآن و بين الآيات أن الحديث قصص يستخرج منه عبر تبيين الحق من الباطل، و الآيات هي الأدلة الفاصلة بين الصحيح و الفاسد. انتهى و أول الوجهين ألطف.

قوله تعالى: ﴿وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ الويل و الهلاك، و الأفاك مبالغة من الإفك‏ و هو الكذب، و الأثيم‏ من الإثم بمعنى المعصية و المعنى: ليكن الهلاك على كل كذاب ذي معصية.

قوله تعالى: ﴿يَسْمَعُ آيَاتِ اَللَّهِ تُتْلىَ عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا إلخ صفة لكل أفاك أثيم، و ﴿ثُمَّ للتراخي الرتبي و تفيد معنى الاستبعاد، و الإصرار على الفعل ملازمته و عدم الانفكاك عنه.

 

 

و المعنى: يسمع آيات الله و هي آيات القرآن تقرأ عليه ثم يلازم الكفر و الحال أنه مستكبر لا يتواضع للحق كأن لم يسمع تلك الآيات فبشره بعذاب أليم.

قوله تعالى: ﴿وَ إِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً اِتَّخَذَهَا هُزُواً إلخ، ظاهر السياق أن ضمير «اتخذها» للآيات، و جعل الهزء متعلقا بالآيات دون ما علم منها يفيد كمال جهله، و المعنى: و إذا علم ذلك الأفاك الأثيم المصر المستكبر بعض آياتنا استهزأ بآياتنا جميعا.

و قوله: ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ أي مذل مخز، و توصيف العذاب بالإهانة مقابلة لاستكبارهم و استهزائهم، و الإشارة بأولئك إلى كل أفاك، و قيل في الآية بوجوه أخر أعرضنا عنها لعدم الجدوى فيها.

قوله تعالى: ﴿مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَ لاَ يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئاً وَ لاَ مَا اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اَللَّهِ أَوْلِيَاءَ إلخ، لما كانوا مشتغلين بالدنيا معرضين عن الحق غير ملتفتين إلى تبعات أعمالهم جعلت جهنم وراءهم مع أنها قدامهم و هم سائرون نحوها متوجهون إليها.

و قيل: وراءهم بمعنى قدامهم قال في المجمع،: وراء اسم يقع على القدام و الخلف فما توارى عنك فهو وراءك خلفك كان أو أمامك. انتهى و في قوله: «من ورائهم جهنم» قضاء حتم.

و قوله: ﴿وَ لاَ يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئاً المراد بما كسبوا ما حصلوه في الدنيا من مال و نحوه، و تنكير ﴿شَيْئاً للتحقير أي و لا يغني عنهم يوم الحساب ما كسبوه من مال و جاه و أنصار في الدنيا شيئا يسيرا حقيرا.

و قوله: ﴿وَ لاَ مَا اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اَللَّهِ أَوْلِيَاءَ ﴿مَا مصدرية و المراد بالأولياء أرباب الأصنام الذين اتخذوهم أربابا آلهة و زعموا أنهم لهم شفعاء أو الأصنام.

و قوله: ﴿وَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ تأكيد لوعيدهم و قد أوعدهم الله سبحانه أولا بقوله: ﴿وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ إلخ، و ثانيا بقوله: ﴿فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ و ثالثا بقوله:

﴿أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ و رابعا بقوله: ﴿مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ إلخ، و خامسا بقوله:

﴿وَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ، و وصف عذابهم في خلالها بأنه أليم مهين عظيم.

قوله تعالى: ﴿هَذَا هُدىً وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ

 

 

الإشارة بقوله: ﴿هَذَا هُدىً إلى القرآن و وصفه بالهدى للمبالغة نحو زيد عدل و الرجز - كما قيل - أشد العذاب و أصله الاضطراب.

و الآية في مقام الرد لما رموا به القرآن و عدوه مهانا بالهزء و السخرية و خلاصة وعيد من كفر بآياته.

قوله تعالى: ﴿اَللَّهُ اَلَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ اَلْبَحْرَ لِتَجْرِيَ اَلْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ إلخ، لما ذكر سبحانه حال الأفاكين من الاستكبار عن الإيمان بالآيات إذا تليت عليهم و الاستهزاء بما علموا منها و أوعدهم أبلغ الإيعاد بأشد العذاب رجع إليهم بخطاب الجميع ممن يؤمن و يكفر، و ذكر بعض آيات ربوبيته التي فيها من عظيم عليهم و ليس في وسعهم إنكارها فذكر أولا تسخير البحر لهم ثم ما في السماوات و الأرض جميعا ففيها آيات لا يكفر بها إلا من انسلخ عن الفطرة الإنسانية و نسي التفكر الذي هو من أجلى خواص الإنسان.

فقوله: ﴿اَللَّهُ اَلَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ اَلْبَحْرَ اللام في ﴿لَكُمُ للغاية أي سخر لأجلكم البحر بأن خلقه على نحو يحمل الفلك و يقبل أن تجري فيه فينتفع به الإنسان، و يمكن أن تكون للتعدية فيكون الإنسان يسخر البحر بإذن الله.

و قوله: ﴿لِتَجْرِيَ اَلْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ غاية لتسخير البحر، و جريان الفلك فيه بأمره، هو إيجاد الجريان بكلمة كن فآثار الأشياء كنفس الأشياء منسوبة إليه تعالى و قوله: ﴿وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ أي و لتطلبوا بركوبه عطيته تعالى و هو رزقه.

و قوله: ﴿وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي رجاء أن تشكروه تعالى قبال هذه النعمة التي هي تسخير البحر.

قوله تعالى: ﴿وَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إلخ، هذا من الترقي بعطف العام على الخاص، و الكلام في ﴿لَكُمْ﴾ كالكلام في مثله في الآية السابقة، و قوله: ﴿جَمِيعاً تأكيد لما في السماوات و الأرض أو حال منه.

و قوله: ﴿سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً معنى تسخيرها للإنسان أن أجزاء العالم المشهود تجري على نظام واحد يحكم فيها و يربط بعضها ببعض و يربط

 

 

 الجميع بالإنسان فينتفع في حياته من علويها و سفليها و لا يزال المجتمع البشري يتوسع في الانتفاع بها و الاستفادة من توسيطها و التوسل بشتاتها في الحصول على مزايا الحياة فالكل مسخر له.

و قوله: ﴿مِنْهُ من للابتداء، و الضمير لله تعالى و هو حال مما في السماوات و الأرض، و المعنى: سخر لكم ما في السماوات و الأرض جميعا حال كونه مبتدأ منه حاصلا من عنده فذوات الأشياء تبتدئ منه بإيجاده لها من غير مثال سابق و كذلك خواصها و آثارها بخلقه و من خواصها و آثارها ارتباط بعضها ببعض و هو النظام الجاري فيها المرتبط بالإنسان قال تعالى: ﴿اَللَّهُ يَبْدَؤُا اَلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ: الروم: ١١، و قال:

﴿إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَ يُعِيدُ: البروج: ١٣.

و قد ذكروا لقوله: ﴿مِنْهُ معاني أخر لا يخلو شي‏ء منها عن التكلف تركنا التعرض لها.

و قوله: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وجه تعلقها بالتفكر ظاهر.

 [سورة الجاثية (٤٥): الآیات ١٤ الی ١٩]

﴿قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اَللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ١٤ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلى‏ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ١٥ وَ لَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اَلْكِتَابَ وَ اَلْحُكْمَ وَ اَلنُّبُوَّةَ وَ رَزَقْنَاهُمْ مِنَ اَلطَّيِّبَاتِ وَ فَضَّلْنَاهُمْ عَلَى اَلْعَالَمِينَ ١٦ وَ آتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ اَلْأَمْرِ فَمَا اِخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ اَلْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ١٧ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلى‏ شَرِيعَةٍ مِنَ اَلْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا

 

 

وَ لاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ اَلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ١٨ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اَللَّهِ شَيْئاً وَ إِنَّ اَلظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَ اَللَّهُ وَلِيُّ اَلْمُتَّقِينَ ١٩

(بيان)

لما ذكر آيات الوحدانية و أشار فيها بعض الإشارة إلى المعاد و كذا إلى النبوة في ضمن ذكر تنزيل الكتاب و إيعاد المستكبرين المستهزءين به ذكر في هذه الآيات تشريع الشريعة للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و توسل إلى ذلك بمقدمتين تربطانه بما تقدم من الكلام إحداهما دعوة المؤمنين إلى أن يكفوا عن التعرض لحال الكفار الذين لا يرجون أيام الله فإن الله مجازيهم لأن الأعمال مسئول عنها صالحة أو طالحة، و هذا هو السبب لتشريع الشريعة، و الثانية: أن إنزال الكتاب و الحكم و النبوة ليس ببدع فقد آتى الله بني إسرائيل الكتاب و الحكم و النبوة و آتاهم البينات التي لا يبقى معها في دين الله ريب لمرتاب إلا أن علماءهم اختلفوا فيه بغيا منهم و سيقضي الله بينهم.

ثم ذكر سبحانه تشريع الشريعة له و أمره باتباعها و نهاه عن اتباع أهواء الجاهلين.

قوله تعالى: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اَللَّهِ إلخ، أمر منه تعالى لنبيه (ص) أن يأمر المؤمنين أن يغفروا للكفار فيصير تقدير الآية: قل لهم:

اغفروا يغفروا فهي كقوله تعالى: ﴿قُلْ لِعِبَادِيَ اَلَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا اَلصَّلاَةَ» إبراهيم: ٣١.

و الآية مكية واقعة في سياق الآيات السابقة الواصفة لحال المستكبرين المستهزءين بآيات الله المهددة لهم بأشد العذاب و كان المؤمنين بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كانوا إذا رأوا هؤلاء المستهزءين يبالغون في طعنهم و إهانتهم للنبي و استهزائهم بآيات الله لم يتمالكوا أنفسهم دون أن يدافعوا عن كتاب الله و من أرسله به و يدعوهم إلى رفض ما هم فيه و الإيمان مع كونهم ممن حقت عليهم كلمة العذاب كما هو ظاهر الآيات السابقة، فأمر الله سبحانه نبيه(صلى الله عليه وآله و سلم) أن يأمرهم بالعفو و الصفح عنهم و عدم التعرض لحالهم فإن وبال أعمالهم

 

 

[1]  و ذلك أن «الله» فيها مرفوع على البدلية لا منصوب على الاستثناء.

[2]  في البحث الروائي المعقود بعد الآية.

[3]  و ليس هذا من الانقلاب المحال في شي‏ء بل نوع من التكامل الوجودي بالخروج من حد منه أدنى إلى حد منه أعلى كما بين في محله.

[4]  الطهيان قلة الجبل و معنى البيت: ليت لنا بدلا من ماء زمزم شربة من الماء مبردة بقيت ليلة على قلة الجبل.

[5]  رواه في الدر المنثور في الآية عن سعد بن معاذ.

[6]  الخصاص: الثقبة و الفرجة.

[7]  الحنيذ: المشوي.

[8]  هذا الوجه مستفاد من الكشاف، و ما يتلوه لصاحب الكشف، و الوجه الأخير للرازي في التفسير الكبير.




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 22214501

  • التاريخ : 3/02/2025 - 17:08

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net