بَيْنَ اَلْعِبَادِ ٤٨ وَ قَالَ اَلَّذِينَ فِي اَلنَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ اُدْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ اَلْعَذَابِ ٤٩ قَالُوا أَ وَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلى قَالُوا فَادْعُوا وَ مَا دُعَاءُ اَلْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ ٥٠ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ يَوْمَ يَقُومُ اَلْأَشْهَادُ ٥١ يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ اَلظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَ لَهُمُ اَللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ اَلدَّارِ ٥٢ وَ لَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى اَلْهُدى وَ أَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اَلْكِتَابَ ٥٣ هُدىً وَ ذِكْرى لِأُولِي اَلْأَلْبَابِ ٥٤﴾
(بيان)
في الآيات موعظتهم بالإرجاع إلى آثار الأمم الماضين و قصصهم للنظر و الاعتبار فلينظروا فيها و ليعتبروا بها و يعلموا أن الله سبحانه لا تعجزه قوة الأقوياء و استكبار المستكبرين و مكر الماكرين و تذكر منها من باب الأنموذج طرفا من قصص موسى و فرعون و فيها قصة مؤمن آل فرعون.
قوله تعالى: ﴿أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا﴾ إلى آخر الآية الاستفهام إنكاري، و الواقي اسم فاعل من الوقاية بمعنى حفظ الشيء مما يؤذيه و يضره.
و المعنى: أ و لم يسيروا هؤلاء الذين أرسلناك إليهم ﴿فِي اَلْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا﴾ نظر تفكر و اعتبار ﴿كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ اَلَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ من الأمم الدارجة المكذبين لرسلهم ﴿كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً﴾ أي قدرة و تمكنا و سلطة ﴿وَ آثَاراً﴾ كالمدائن الحصينة و القلاع المنيعة و القصور العالية المشيدة ﴿فِي اَلْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اَللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ﴾ و أهلكهم بأعمالهم ﴿وَ مَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اَللَّهِ مِنْ وَاقٍ﴾ يقيهم و حافظ يحفظهم.
قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ﴾ إلخ الإشارة بذلك إلى الأخذ الإلهي، و المراد بالبينات الآيات الواضحات، و الباقي ظاهر.
قوله تعالى: ﴿وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسىَ بِآيَاتِنَا وَ سُلْطَانٍ مُبِينٍ﴾ لعل المراد بالآيات الخوارق المعجزة التي أرسل بها كالعصا و اليد و غيرهما و بالسلطان المبين السلطة الإلهية القاهرة التي أيد بها فمنعت فرعون أن يقتله و يطفئ نوره، و قيل: المراد بالآيات الحجج و الدلالات و بالسلطان معجزاته من العصا و اليد و غيرهما، و قيل: غير ذلك.
قوله تعالى: ﴿إِلىَ فِرْعَوْنَ وَ هَامَانَ وَ قَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ﴾ فرعون جبار القبط و مليكهم، و هامان وزيره و قارون من طغاة بني إسرائيل ذو الخزائن المليئة؟ و إنما اختص الثلاثة من بين الأمتين بالذكر لكونهم أصولا ينتهي إليهم كل فساد و فتنة فيهما.
قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اُقْتُلُوا أَبْنَاءَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾ إلخ مقايسة بين ما جاءهم به موسى و دعاهم إليه و بين ما قابلوه به من كيدهم فقد جاءهم بالحق و كان من الواجب أن يقبلوه لأنه حق و كان ما جاء به من عند الله و كان من الواجب أن يقبلوه و لا يردوه فقابلوه بالكيد و قالوا ما قالوا لئلا يؤمن به أحد لكن الله أضل كيدهم فلم يصب المؤمنين معه.
و يشعر السياق أن من القائلين بهذا القول قارون و هو من بني إسرائيل و لا ضير فيه لأن الحكم بقتل الأبناء و استحياء النساء كان قبل الدعوة صادرا في حق بني إسرائيل عامة و هذا الحكم في حق المؤمنين منهم خاصة فلعل قارون وافقهم عليه لعداوته و بغضه موسى و المؤمنين من قومه.
و في قوله: ﴿اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾ و لم يقل: آمنوا به إشارة إلى مظاهرتهم موسى في دعوته.
قوله تعالى: ﴿وَ قَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسىَ وَ لْيَدْعُ رَبَّهُ﴾ إلخ ﴿ذَرُونِي﴾ أي اتركوني، خطاب يخاطب به ملأه، و فيه دلالة على أنه كان هناك قوم يشيرون عليه أن لا يقتل موسى و يكف عنه كما يشير إليه قوله تعالى﴿قَالُوا أَرْجِهْ وَ أَخَاهُ﴾ الشعراء: - ٣٦.
و قوله: ﴿وَ لْيَدْعُ رَبَّهُ﴾ كلمة قالها كبرا و عتوا يقول: اتركوني أقتله و ليدع ربه
فلينجه من يدي و ليخلصه من القتل إن قدر.
و قوله: ﴿إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي اَلْأَرْضِ اَلْفَسَادَ﴾ تعليل لما عزم عليه من القتل و قد ذكر أنه يخافه عليهم من جهة دينهم و من جهة دنياهم، أما من جهة دينهم و هو عبادة الأصنام فأن يبدله و يضع موضعه عبادة الله وحده، و أما من جهة دنياهم فكأن يعظم أمره و يتقوى جانبه و يكثر متبعوه فيتظاهروا بالتمرد و المخالفة فيئول الأمر إلى المشاجرة و القتال و انسلاب الأمن.
قوله تعالى: ﴿وَ قَالَ مُوسىَ إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَ رَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لاَ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ اَلْحِسَابِ﴾ مقابلة منه (عليه السلام) لتهديد فرعون إياه بالقتل و استعاذة منه بربه، و قوله:
﴿عُذْتُ بِرَبِّي وَ رَبِّكُمْ﴾ فيه مقابلة منه أيضا لفرعون في قوله: ﴿وَ لْيَدْعُ رَبَّهُ﴾ حيث خص ربوبيته تعالى بموسى فأشار موسى بقوله: ﴿عُذْتُ بِرَبِّي وَ رَبِّكُمْ﴾ إلى أنه تعالى ربهم كما هو ربه نافذ حكمه فيهم كما هو نافذ فيه فله أن يقي عائذه من شرهم و قد وقى.
و من هنا يظهر أن الخطاب في قوله: ﴿وَ رَبِّكُمْ﴾ لفرعون و من معه دون قومه من بني إسرائيل.
و قوله: ﴿مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لاَ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ اَلْحِسَابِ﴾ يشير به إلى فرعون و كل من يشاركه في صفتي التكبر و عدم الإيمان بيوم الحساب و لا يؤمن ممن اجتمعت فيه الصفتان شر أصلا.
قوله تعالى: ﴿وَ قَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ﴾ إلى آخر الآية.
ظاهر السياق أن ﴿مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ﴾ صفة رجل و ﴿يَكْتُمُ إِيمَانَهُ﴾ صفة أخرى فكان الرجل من القبط من خاصة فرعون و هم لا يعلمون بإيمانه لكتمانه إياهم ذلك تقية.
و قيل: قوله: ﴿مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ﴾ مفعول ثان لقوله: ﴿يَكْتُمُ﴾ قدم عليه، و الغالب فيه و إن كان التعدي إلى المفعول الثاني بنفسه كما في قوله﴿وَ لاَ يَكْتُمُونَ اَللَّهَ حَدِيثاً﴾ النساء: - ٤٢ لكنه قد يتعدى إليه بمن كما صرح به في المصباح،.
و فيه أن السياق يأباه فلا نكتة ظاهرة تقتضي تقدم المفعول الثاني على الفعل من حصر و نحوه. على أن الرجل يكرر نداء فرعون و قومه بلفظة ﴿يَا قَوْمِ﴾ و لو لم يكن منهم لم يكن له ذلك.
و قوله: ﴿أَ تَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اَللَّهُ وَ قَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ إنكار لعزمهم على قتله، و في قوله: ﴿مِنْ رَبِّكُمْ﴾ دليل على أن في البينات التي جاء بها دلالة على أن الله ربهم أيضا كما اتخذه ربا فقتله قتل رجل جاء بالحق من ربهم.
و قوله: ﴿وَ إِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ﴾ قيل: إن ذكره هذا التقدير تلطف منه لا أنه كان شاكا في صدقه.
و قوله: ﴿وَ إِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ اَلَّذِي يَعِدُكُمْ﴾ فيه تنزل في المخاصمة بالاكتفاء على أيسر التقادير و أقلها كأنه يقول: و إن يك صادقا يصبكم ما وعدكم من أنواع العذاب و لا أقل من إصابة بعض ما يعدكم مع أن لازم صدقه إصابة جميع ما وعد.
و قوله: ﴿إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ﴾ تعليل للتقدير الثاني فقط و المعنى إن يك كاذبا كفاه كذبه و إن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم لأنكم حينئذ مسرفون متعدون طوركم كذابون في نفي ربوبية ربكم و اتخاذ أرباب من دونه و الله لا يهدي من هو مسرف كذاب، و أما على تقدير كذبه فلا ربوبية لمن اتخذه ربا حتى يهديه أو لا يهديه.
و من هنا يظهر أن ما ذكره بعضهم من كون الجملة تعليلا للتقديرين جميعا متعلقة بكلتا الجملتين غير مستقيم.
قوله تعالى: ﴿يَا قَوْمِ لَكُمُ اَلْمُلْكُ اَلْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي اَلْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اَللَّهِ إِنْ جَاءَنَا﴾ ظهورهم غلبتهم و علوهم في الأرض، و الأرض أرض مصر، و بأس الله أخذه و عذابه و الاستفهام للإنكار.
و المعنى: يا قوم لكم الملك حال كونهم غالبين عالين في أرض مصر على من دونكم من بني إسرائيل فمن ينصرنا من أخذ الله و عذابه كما يعدنا به موسى إن جاءنا؟ و قد أدخل نفسه فيهم على تقدير مجيء البأس ليكون أبلغ في النصح و أوقع في قلوبهم أنه يريد لهم من العافية ما يريده لنفسه.
قوله تعالى: ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرىَ وَ مَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ اَلرَّشَادِ﴾ أي طريق الصواب المطابقة للواقع يريد أنه على يقين مما يهدي إليه قومه من الطريق
و هي مع كونها معلومة له مطابقة للواقع، و هذا كان تمويها منه و تجلدا.
قوله تعالى: ﴿وَ قَالَ اَلَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ اَلْأَحْزَابِ﴾ إلى قوله ﴿لِلْعِبَادِ﴾ المراد بالذي آمن هو مؤمن آل فرعون، و لا يعبأ بما قيل: إنه موسى لقوة كلامه، و المراد بالأحزاب الأمم المذكورون في الآية التالية قوم نوح و عاد و ثمود و الذين من بعدهم، و قوله: ﴿مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ﴾ بيان للمثل السابق و الدأب هو العادة.
و المعنى: يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأقوام الماضين مثل العادة الجارية من العذاب عليهم واحدا بعد واحد لكفرهم و تكذيبهم الرسل، أو مثل جزاء عادتهم الدائمة من الكفر و التكذيب و ما الله يريد ظلما للعباد.
قوله تعالى: ﴿وَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ اَلتَّنَادِ﴾ إلى قوله ﴿مِنْ هَادٍ﴾ يوم التناد يوم القيامة، و لعل تسميته بذلك لكون الظالمين فيه ينادي بعضهم بعضا و ينادون بالويل و الثبور على ما اعتادوا به في الدنيا.
و قيل: المراد بالتنادي المناداة التي تقع بين أصحاب الجنة و أصحاب النار على ما ذكره الله تعالى في سورة الأعراف، و هناك وجوه أخر ذكروها لا جدوى فيها.
و قوله: ﴿يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اَللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ﴾ المراد به يوم القيامة و لعل المراد أنهم يفرون في النار من شدة عذابها ليتخلصوا منها فردوا إليها كما قال تعالى﴿كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَ ذُوقُوا عَذَابَ اَلْحَرِيقِ ﴾الحج: - ٢٢.
و قوله: ﴿وَ مَنْ يُضْلِلِ اَللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ بمنزلة التعليل لقوله: ﴿مَا لَكُمْ مِنَ اَللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ﴾ أي تفرون مدبرين ما لكم من عاصم و لو كان لكان من جانب الله و ليس و ذلك لأن الله أضلهم و من يضلل الله فما له من هاد.
قوله تعالى: ﴿وَ لَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ﴾ إلى آخر الآية. لما ذكر أن الله أضلهم و لا هادي لهم استشهد له بما عاملوا به يوسف (عليه السلام) في رسالته إليهم حيث شكوا في نبوته ما دام حيا ثم إذا مات قالوا: لا نبي بعده.
فالمعنى: و أقسم لقد جاءكم يوسف من قبل بالآيات البينات التي لا تدع ريبا في
رسالته من الله فما زلتم في شك مما جاءكم به ما دام حيا حتى إذا هلك و مات قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا فناقضتم أنفسكم و لم تبالوا.
ثم أكده و هو في معنى التعليل بقوله: ﴿كَذَلِكَ يُضِلُّ اَللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ﴾.
قوله تعالى: ﴿اَلَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اَللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ﴾ إلخ وصف لكل مسرف مرتاب فإن من تعدى طوره بالإعراض عن الحق و اتباع الهوى و استقر في نفسه الارتياب فكان لا يستقر على علم و لا يطمئن إلى حجة تهديه إلى الحق جادل في آيات الله بغير برهان إذا خالفت مقتضى هواه.
و قوله: ﴿كَذَلِكَ يَطْبَعُ اَللَّهُ عَلىَ كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ﴾ يفيد أن قلوبهم مطبوع عليها فلا يفقهون حجة و لا يركنون إلى برهان.
قوله تعالى: ﴿وَ قَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ اِبْنِ لِي صَرْحاً﴾ إلى قوله ﴿فِي تَبَابٍ﴾ أمر منه لوزيره هامان أن يبني له بناء يتوصل به إلى الاطلاع إلى إله موسى و لعله أصدر هذا الأمر أثناء محاجة الذي آمن و بعد الانصراف عن قتل موسى و لذلك وقع ذكره بين مواعظ الذي آمن و احتجاجاته.
و الصرح على ما في المجمع، البناء الظاهر الذي لا يخفى على عين الناظر و إن بعد، و الأسباب جمع سبب و هو ما تتوصل به إلى ما يبتعد عنك.
و قوله: ﴿لَعَلِّي أَبْلُغُ اَلْأَسْبَابَ﴾ في معنى التعليل لأمره ببناء الصرح، و المعنى آمرك ببنائه لأني أرجو أن أبلغ بالصعود عليه الأسباب ثم فسر الأسباب بقوله:
﴿أَسْبَابَ اَلسَّمَاوَاتِ﴾ و فرع عليه قوله: ﴿فَأَطَّلِعَ إِلىَ إِلَهِ مُوسىَ﴾ كأنه يقول: إن الإله الذي يدعوه و يدعو إليه موسى ليس في الأرض إذ لا إله فيها غيري فلعله في السماء فابن لي صرحا لعلي أبلغ بالصعود عليه الأسباب السماوية الكاشفة عن خبايا السماء فأطلع من جهتها إلى إله موسى و إني لأظنه كاذبا.
و قيل: إن مراده أن يبني له رصدا يرصد فيه الأوضاع السماوية لعله يعثر فيها على ما يستدل به على وجود إله موسى بعد اليأس عن الظفر عليه بالوسائل الأرضية
و هو حسن، و على أي حال لا يستقيم ما ذكره على شيء من مذاهب الوثنية فلعله كان منه تمويها على الناس أو جهلا منه و ما هو من الظالمين ببعيد.
و قوله: ﴿وَ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَ صُدَّ عَنِ اَلسَّبِيلِ﴾ مفاد السياق أنه في معنى إعطاء الضابط لما واجه به فرعون الحق الذي كان يدعوه إليه موسى فقد زين الشيطان له قبيح عمله فرآه حسنا و صده عن سبيل الرشاد فرأى انصداده عنها ركوبا عليها فجادل في آيات الله بالباطل و أتى بمثل هذه الأعمال القبيحة و المكائد السفيهة لإدحاض الحق.
و لذلك ختمت الآية بقوله: ﴿وَ مَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ﴾ أي هلاك و انقطاع.
قوله تعالى: ﴿وَ قَالَ اَلَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اِتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ اَلرَّشَادِ﴾ يدعوهم إلى اتباعه ليهديهم، و اتباعه اتباع موسى، و سبيل الرشاد السبيل التي في سلوكها إصابة الحق و الظفر بالسعادة، و الهداية بمعنى إراءة الطريق، و في قوله: ﴿أَهْدِكُمْ سَبِيلَ اَلرَّشَادِ﴾ تعريض لفرعون حيث قال: ﴿وَ مَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ اَلرَّشَادِ﴾ و الباقي ظاهر.
قوله تعالى: ﴿يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ اَلْحَيَاةُ اَلدُّنْيَا مَتَاعٌ وَ إِنَّ اَلْآخِرَةَ هِيَ دَارُ اَلْقَرَارِ﴾ هذا هو السناد الذي يستند إليه سلوك سبيل الرشاد و التدين بدين الحق لا غنى عنه بحال و هو الاعتقاد بأن للإنسان حياة خالدة مؤبدة هي الحياة الآخرة و أن هذه الحياة الدنيا متاع في الآخرة و مقدمة مقصودة لأجلها، و لذلك بدأ به في بيان سبيل الرشاد ثم ذكر السيئة و العمل الصالح.
قوله تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلاَ يُجْزىَ إِلاَّ مِثْلَهَا﴾ إلى آخر الآية. أي إن الذي يصيبه و يعيش به في الآخرة يشاكل ما أتى به في هذه الحياة الدنيا التي هي متاع فيها فإنما الدنيا دار عمل و الآخرة دار جزاء.
من عمل في الدنيا سيئة ذات صفة المساءة فلا يجزى في الآخرة إلا مثلها مما يسوؤه و من عمل صالحا من ذكر أو أنثى من غير فرق بينهما في ذلك و الحال أنه مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب.
و فيه إشارة إلى المساواة بين الذكر و الأنثى في قبول العمل و تقييد العمل الصالح
في تأثيره بالإيمان لكون العمل حبطا بدون الإيمان قال تعالى﴿وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ﴾ المائدة: - ٥ إلى غيرها من الآيات.
و قد جمع الدين الحق و هو سبيل الرشاد في أوجز بيان و هو أن للإنسان دار قرار يجزى فيها بما عمل في الدنيا من عمل سيئ أو صالح فليعمل صالحا و لا يعمل سيئا، و زاد بيانا إذ أفاد أنه إن عمل صالحا يرزق بغير حساب.
قوله تعالى: ﴿وَ يَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى اَلنَّجَاةِ وَ تَدْعُونَنِي إِلَى اَلنَّارِ﴾ إلى قوله ﴿اَلْعَزِيزِ اَلْغَفَّارِ﴾ كأنه لما دعاهم إلى التوحيد قابلوه بدعوته إلى عبادة آلهتهم أو قدرها لهم لما شاهد جدالهم بالباطل و إصرارهم على الشرك فنسب إليهم الدعوة بشهادة حالهم فأظهر العجب من مقابلتهم دعوته الحقة بدعوتهم الباطلة.
فقال: و يا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة أي النجاة من النار و تدعونني إلى النار و قد كان يدعوهم إلى سبب النجاة و يدعونه إلى سبب دخول النار فجعل الدعوة إلى السببين دعوة إلى المسببين أو لأن الجزاء هو العمل بوجه.
ثم فسر ما دعوه إليه و ما دعاهم إليه فقال: ﴿تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ﴾ أي إلى أن أكفر ﴿بِاللَّهِ وَ أُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ﴾ أي أشرك به شيئا لا حجة لي على كونه شريكا فأفتري على الله بغير علم، ﴿وَ أَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى اَلْعَزِيزِ﴾، الذي يغلب و لا يغلب ﴿اَلْغَفَّارِ﴾ لمن تاب إليه و آمن به أي أدعوكم إلى الإيمان به و الإسلام له.
قوله تعالى: ﴿لاَ جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي اَلدُّنْيَا وَ لاَ فِي اَلْآخِرَةِ﴾ إلخ لا جرم بمعنى حقا أو بمعنى لا بد، و مفاد الآية إقامة الحجة على عدم كون ما يدعون إليه إلها من طريق عدم الدعوة إليه و في ذلك تأييد لقوله في الآية السابقة ﴿مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ﴾.
و المعنى: ثبت ثبوتا أن ما تدعونني إليه مما تسمونه شريكا له سبحانه ليس له دعوة في الدنيا إذ لم يعهد نبي أرسل إلى الناس من ناحيته ليدعوهم إلى عبادته، و لا في الآخرة إذ لا رجوع إليه فيها من أحد، و أما الذي أدعوكم إليه و هو الله سبحانه فإن له دعوة في الدنيا و هي التي تصداها أنبياؤه و رسله المبعوثون من عنده المؤيدون بالحجج و البينات،
و في الآخرة و هي التي يتبعها رجوع الخلق إليه لفصل القضاء بينهم، قال تعالى﴿يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ﴾ إسراء: - ٥٢.
و من المعلوم كما قررناه في ذيل قوله تعالى﴿هُوَ اَلَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ»﴾ الآية: - ١٣ من السورة أن الربوبية لا تتم بدون دعوة في الدنيا و نظيرتها الدعوة في الآخرة، و إذ كان الذي يدعوهم إليه ذا دعوة في الدنيا و الآخرة دون ما يدعونه إليه فهو الإله دون ما يدعون إليه.
و قوله: ﴿وَ أَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اَللَّهِ وَ أَنَّ اَلْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ اَلنَّارِ﴾ معطوف على قوله:
﴿أَنَّمَا تَدْعُونَنِي﴾ أي لا جرم أن مردنا إلى الله فيجب الإسلام له و اتباع سبيله و رعاية حدود العبودية، و لا جرم أن المسرفين و هم المتعدون طور العبودية و هم أنتم أصحاب النار فالذي أدعوكم إليه فيه النجاة دون ما تدعونني إليه.
قوله تعالى: ﴿فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَ أُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اَللَّهِ إِنَّ اَللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ صدر الآية موعظة و تخويف لهم و هو تفريع على قوله: ﴿وَ أَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اَللَّهِ﴾ إلخ أي إذ كان لا بد من الرجوع إلى الله و حلول العذاب بالمسرفين و أنتم منهم و لم تسمعوا اليوم ما أقول لكم فستذكرون ما أقول لكم حين عاينتم العذاب و تعلمون عند ذاك أني كنت ناصحا لكم.
و قوله: ﴿وَ أُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اَللَّهِ﴾ التفويض على ما فسره الراغب هو الرد فتفويض الأمر إلى الله رده إليه فيقرب من معنى التوكل و التسليم و الاعتبار مختلف:
فالتفويض من العبد رده ما نسب إليه من الأمر إلى الله سبحانه و حال العبد حينئذ حال من هو أعزل لا أمر راجعا إليه، و التوكل من العبد جعله ربه وكيلا يتصرف فيما له من الأمر، و التسليم من العبد مطاوعته المحضة لما يريده الله سبحانه فيه و منه من غير نظر إلى انتساب أمر إليه فهي مقامات ثلاث من مقامات العبودية: التوكل ثم التفويض و هو أدق من التوكل ثم التسليم و هو أدق منهما.
و قوله: ﴿إِنَّ اَللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ تعليل لتفويضه أمره إلى الله، و في وضع اسم الجلالة موضع ضميره و كان مقتضى الظاهر الإضمار إشارة إلى علة بصيرته بالعباد كأنه قيل: إنه بصير بالعباد لأنه الله عز اسمه.
قوله تعالى: ﴿فَوَقَاهُ اَللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا﴾ تفريع على تفويضه الأمر إلى الله فكفاه الله شرهم و وقاه سيئات مكرهم، و فيه إشارة إلى أنهم قصدوه بالسوء لكن الله دفعهم عنه.
قوله تعالى: ﴿وَ حَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ اَلْعَذَابِ﴾ إلى قوله ﴿أَشَدَّ اَلْعَذَابِ﴾ أي نزل بهم و أصابهم العذاب السيئ فسوء العذاب من إضافة الصفة إلى موصوفها و في التوصيف بالمصدر مبالغة، و آل فرعون أشياعه و أتباعه، و ربما يقال آل فلان و يشمل نفسه.
و قوله: ﴿اَلنَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَ عَشِيًّا وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ اَلْعَذَابِ﴾ ظاهر السياق أنه بيان لسوء العذاب و ليس من الاستئناف في شيء.
و الآية صريحة أولا في أن هناك عرضا على النار ثم إدخالا فيها و الإدخال أشد من العرض، و ثانيا: في أن العرض على النار قبل قيام الساعة التي فيها الإدخال و هو عذاب البرزخ عالم متوسط بين الموت و البعث و ثالثا: أن التعذيب في البرزخ و يوم تقوم الساعة بشيء واحد و هو نار الآخرة لكن البرزخيين يعذبون بها من بعيد و أهل الآخرة بدخولها.
و في قوله: ﴿غُدُوًّا وَ عَشِيًّا﴾ إشارة إلى التوالي من غير انقطاع، و لعل لأهل البرزخ لعدم انقطاعهم عن الدنيا بالكلية نسبة ما إلى الغداة و العشي.
و في قوله: ﴿وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسَّاعَةُ أَدْخِلُوا﴾ إيجاز بالحذف و التقدير يقال: أدخلوا آل فرعون أشد العذاب.
قوله تعالى: ﴿وَ إِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي اَلنَّارِ فَيَقُولُ اَلضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا﴾ إلى قوله ﴿بَيْنَ اَلْعِبَادِ﴾ يفيد السياق أن الضمير في ﴿يَتَحَاجُّونَ﴾ لآل فرعون و من الدليل على ذلك تغيير السياق في قوله بعد: ﴿وَ قَالَ اَلَّذِينَ فِي اَلنَّارِ﴾ و المعنى و حاق بآل فرعون سوء العذاب إذ يتحاجون في النار أو و اذكر من سوء عذابهم إذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء منهم للذين استكبروا إنا كنا في الدنيا لكم تبعا و كان لازم ذلك أن تكفونا في الحوائج و تنصرونا في الشدائد و لا شدة أشد مما نحن فيه فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار و إن لم يكن جميع عذابها فقد قنعنا بالبعض.
و هذا ظهور مما رسخ في نفوسهم في الدنيا من الالتجاء بكبريائهم و متبوعيهم من دون الله يظهر منهم ذلك يوم القيامة و هم يعلمون أنهم في يوم لا تغني فيه نفس عن نفس شيئا و الأمر يومئذ لله و له نظائر محكية عنهم في كلامه تعالى من كذبهم يومئذ و خلفهم و إنكارهم أعمالهم و تكذيب بعضهم لبعض و غير ذلك.
و قوله: ﴿قَالَ اَلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اَللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ اَلْعِبَادِ﴾ جواب من مستكبريهم عن قولهم و محصله أن اليوم يوم جزاء لا يوم عمل فالأسباب ساقطة عن التأثير و قد طاحت منا ما كنا نتوهمه لأنفسنا في الدنيا من القوة و القدرة فحالنا و حالكم و نحن جميعا في النار واحدة.
فقولهم: ﴿إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اَللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ اَلْعِبَادِ﴾ مفاده أن ظهور الحكم الإلهي قد أبطل أحكام سائر الأسباب و تأثيراتها و أثبتنا على ما نحن فيه من الحال في حد سواء فلسنا نختص دونكم بقوة حتى نغني عنكم شيئا من العذاب.
و مما قيل في الآية أن الضمير في قوله ﴿يَتَحَاجُّونَ﴾ لمطلق الكفار من أهل النار و هو بعيد كما عرفت، و قيل: الضمير لقريش و هو أبعد.
قوله تعالى: ﴿وَ قَالَ اَلَّذِينَ فِي اَلنَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ اُدْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ اَلْعَذَابِ﴾ مكالمة بين أهل النار و منهم آل فرعون و بين خزنة جهنم أوردها سبحانه تلو قصة آل فرعون، و هم إنما سألوا الخزنة أن يدعوا لهم ليأسهم من أن يستجاب منهم أنفسهم.
و المراد باليوم من العذاب ما يناسب من معنى اليوم لعالمهم الذي هم فيه، و يؤول معناه إلى قطعة من العذاب.
قوله تعالى: ﴿قَالُوا أَ وَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلىَ قَالُوا فَادْعُوا وَ مَا دُعَاءُ اَلْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ﴾ أجابوهم بالاستخبار عن إتيان رسلهم إياهم بالبينات فاعترفوا بذلك و هو اعتراف منهم بأنهم كفروا بهم مع العلم بكونهم على الحق و هو الكفر بالنبوة فلم يجبهم الخزنة فيما سألوهم من الدعاء إثباتا و لا نفيا بل ردوهم إلى أنفسهم مشيرين إلى أنهم لا يستجاب لهم دعاء.
و قوله: ﴿وَ مَا دُعَاءُ اَلْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ﴾ أي إن دعاءهم قد أحاط به الضلال فلا يهتدي إلى هدف الإجابة و هو تتمة كلام الخزنة على ما يعطيه السياق، و يحتمل أن يكون من كلامه تعالى، على بعد.
و الجملة على أي حال تفيد معنى التعليل و المحصل: ادعوا فلا يستجاب لكم فإنكم كافرون، و الكافرون لا يستجاب لهم دعاء.
و تعليق حكم عدم الاستجابة بوصف الكفر مشعر بعليته و ذلك أن الله سبحانه و إن وعد عباده وعدا قطعيا أن يجيب دعوة من دعاه منهم فقال﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ اَلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ البقرة - ١٨٦، و الدعاء إذا كان واقعا على حقيقته لا يرد البتة لكن الذي يتضمنه متن هذا الوعد هو أن يكون هناك دعاء و طلب حقيقة و أن يتعلق ذلك بالله حقيقة أي يدعو الداعي و يطلب جدا و ينقطع في ذلك إلى الله عن سائر الأسباب التي يسميها أسبابا.
و الكافر بعذاب الآخرة و هو الذي ينكرها و يستر حقيقتها لا يتمشى منه طلب جدي لرفعه أما في الدنيا فظاهر، و أما في الآخرة فلأنه و إن أيقن به بالمعاينة و انقطع إلى الله سبحانه لما هو فيه من الشدة و قد انقطعت عنه الأسباب لكن صفة الإنكار لزمته وبالا و قد جوزي بها فلا تدعه يطلب ما كان ينكره طلبا جديا.
على أن الكلام في انقطاعه إلى الله أيضا كالكلام في طلبه الجدي للتخلص و أنى له الانقطاع إلى الله هناك و لم يتلبس به في الدنيا فافهمه.
و بذلك يظهر ضعف الاستدلال بالآية على أن دعاء الكافر لا يستجاب مطلقا فإنك عرفت أن مدلول الآية عدم استجابة دعائه في ما يكفر به و ينكره لا مطلقا كيف؟ و هناك آيات كثيرة تذكر استجابة دعائه في موارد الاضطرار.
قوله تعالى: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ يَوْمَ يَقُومُ اَلْأَشْهَادُ﴾ الأشهاد جمع شهيد بمعنى شاهد، و الآية وعد نوعي لا وعد شخصي لكل واحد شخصي منهم في كل واقعة شخصية، و قد تقدم كلام في معنى النصر الإلهي في تفسير قوله تعالى
﴿إِنَّهُمْ لَهُمُ اَلْمَنْصُورُونَ﴾ الصافات: - ١٧٢.
قوله تعالى: ﴿يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ اَلظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَ لَهُمُ اَللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ اَلدَّارِ﴾ تفسير ليوم يقوم الأشهاد، و ظاهر إضافة المصدر إلى فاعله في قوله ﴿مَعْذِرَتُهُمْ﴾ و لم يقل: إن يعتذروا، تحقق معذرة ما منهم يومئذ، و أما قوله﴿هَذَا يَوْمُ لاَ يَنْطِقُونَ وَ لاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ﴾ المرسلات: - ٣٦ فمحمول على بعض مراحل يوم القيامة و عقباته لدلالة آيات أخرى على وقوع تكلم ما منهم يومئذ.
و قوله: ﴿وَ لَهُمُ اَللَّعْنَةُ﴾ أي البعد من رحمة الله، و قوله ﴿لَهُمْ سُوءُ اَلدَّارِ﴾ أي الدار السيئة و هي جهنم.
قوله تعالى: ﴿وَ لَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى اَلْهُدىَ وَ أَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اَلْكِتَابَ﴾ إلى قوله ﴿اَلْأَلْبَابِ﴾ خاتمة لما تقدم من إرسال موسى بالآيات و السلطان المبين و مجادلة آل فرعون في الآيات بالباطل و محاجة مؤمن آل فرعون، يشير بها و قد صدرت بلام القسم إلى حقية ما أرسل به و ظلمهم في ما قابلوه به.
و المراد بالهدى الدين الذي أوتيه موسى، و بإيراث بني إسرائيل الكتاب» إبقاء التوراة بينهم يعملون بها و يهتدون.
و قوله: ﴿هُدىً وَ ذِكْرىَ لِأُولِي اَلْأَلْبَابِ﴾ أي حال كون الكتاب هدى يهتدي به عامتهم و ذكرى يتذكر به خاصتهم من أولي الألباب.
(بحث روائي)
في العلل، بإسناده عن إسماعيل بن منصور أبي زياد عن رجل عن أبي عبد الله (عليه السلام) : في قول فرعون: ﴿ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسىَ﴾ ما كان يمنعه؟ قال: منعته رشدته، و لا يقتل الأنبياء و لا أولاد الأنبياء إلا أولاد الزنا.
و في المجمع، قال أبو عبد الله: التقية ديني و دين آبائي، و لا دين لمن لا تقية له، و التقية ترس الله في الأرض لأن مؤمن آل فرعون لو أظهر الإسلام لقتل.
أقول: و الروايات من طرق الشيعة فيها كثيرة و الآيات تؤيدها كقوله﴿إِلاَّ أَنْ
تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾ آل عمران: - ٢٨ و قوله﴿إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ ﴾النحل: - ١٠٦.
و في المحاسن، بإسناده عن أيوب بن الحر عن أبي عبد الله (عليه السلام) : في قول الله:
﴿فَوَقَاهُ اَللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا﴾ قال: أما لقد سطوا عليه و قتلوه و لكن أ تدرون ما وقاه؟ وقاه أن يفتنوه في دينه.
أقول: و في معناه بعض روايات أخر و في بعض ما ورد من طرق أهل السنة أن الله نجاه من القتل.
و في الخصال، عن الصادق (عليه السلام) قال: عجبت لمن يفزع من أربع كيف لا يفزع إلى أربع؟ إلى أن قال و عجبت لمن مكر به كيف لا يفزع إلى قوله: ﴿وَ أُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اَللَّهِ إِنَّ اَللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ فإني سمعت الله تعالى يقول بعقبها: ﴿فَوَقَاهُ اَللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا﴾.
أقول: و هو مروي في غير هذا الكتاب.
و في تفسير القمي،: قال رجل لأبي عبد الله (عليه السلام) : ما تقول في قول الله عز و جل:
﴿اَلنَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَ عَشِيًّا﴾ فقال أبو عبد الله (عليه السلام) : ما يقول الناس؟ فقال:
يقولون: إنها في نار الخلد و هم لا يعذبون فيما بين ذلك فقال: فهم من السعداء. فقيل له:
جعلت فداك فكيف هذا؟ فقال: إنما هذا في الدنيا فأما في دار الخلد فهو قوله: ﴿يَوْمَ تَقُومُ اَلسَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ اَلْعَذَابِ﴾. أقول: مراده (عليه السلام) بالدنيا البرزخ و هو كثير الورود في رواياتهم.
و في المجمع، عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة و العشي فإن كان من أهل الجنة فمن الجنة، و إن كان من أهل النار فمن النار يقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة: أورده البخاري و مسلم في الصحيح،.
أقول: و رواه السيوطي في الدر المنثور، عنهما و عن ابن أبي شيبة و ابن مردويه. و هذا المعنى كثير الورود في روايات أئمة أهل البيت (عليه السلام) ، و قد مر كثير منها في البحث عن البرزخ في الجزء الأول من الكتاب و غيره من المواضع.
[سورة غافر (٤٠): الآیات ٥٥ الی ٦٠]
﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اَللَّهِ حَقٌّ وَ اِسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَ اَلْإِبْكَارِ ٥٥ إِنَّ اَلَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اَللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْبَصِيرُ ٥٦ لَخَلْقُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ اَلنَّاسِ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ٥٧ وَ مَا يَسْتَوِي اَلْأَعْمىَ وَ اَلْبَصِيرُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ وَ لاَ اَلْمُسِيءُ قَلِيلاً مَا تَتَذَكَّرُونَ ٥٨ إِنَّ اَلسَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لاَ رَيْبَ فِيهَا وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ ٥٩ وَ قَالَ رَبُّكُمُ اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ اَلَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ٦٠﴾
(بيان)
لما قص قصة موسى و إرساله بالحق إلى فرعون و قومه، و مجادلتهم في آيات الله بالباطل و مكرهم فيها و نصره تعالى لنبيه و إبطاله كيدهم و ما آل إليه أمرهم من خيبة السعي و سوء المنقلب فرع على ذلك أمر نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) بالصبر منبها له أن وعد الله بالنصر حق و أن كيد قومه و جدالهم بالباطل و استكبارهم عن قبول دعوته سيبطل و يعود وبالا على أنفسهم فليسوا بمعجزي الله و ستقوم الساعة الموعودة و يدخلون جهنم داخرين.
قوله تعالى: ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اَللَّهِ حَقٌّ﴾ إلى آخر الآية. تفريع على ما تقدم
من الأمر بالاعتبار في قوله: ﴿أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ اَلَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ و ما أورد بعده من قصة موسى و مآل أمر المستكبرين المجادلين بالباطل و نصره تعالى للحق و أهله.
و المعنى: إذا كان الأمر على ذلك فاصبر على إيذاء المشركين و مجادلتهم بالباطل إن وعد الله حق و سيفي لك بما وعد، و المراد بالوعد ما في قوله قبيل هذا: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا﴾ الآية من وعد النصر.
و قوله: ﴿وَ اِسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾ أمر له بالاستغفار لما يعد بالنسبة إليه ذنبا و إن لم يكن ذنبا بمعنى المخالفة للأمر المولوي لمكان عصمته (ص)، و قد تقدم كلام في معنى الذنب و المغفرة في أواخر الجزء السادس من الكتاب.
و للذنب المنسوب إليه (ص) معنى آخر سنشير إليه في تفسير أول سورة الفتح إن شاء الله تعالى، و قيل: المراد بذنبه (ص) ذنب أمته أعطي الشفاعة فيه.
و قوله: ﴿وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَ اَلْإِبْكَارِ﴾ أي نزهه سبحانه مصاحبا لحمده على جميل آلائه مستمرا متواليا بتوالي الأيام أو في كل صباح و مساء، و كونه بالعشي و الإبكار على المعنى الأول من قبيل الكناية.
و قيل: المراد به صلاتا الصبح و العصر، و الآية مدنية.
و فيه أن المسلم من الروايات و منها أخبار المعراج أن الصلوات الخمس فرضت جميعا بمكة قبل الهجرة فلو كان المراد به الفريضتين كان ذلك بمكة قبل فرض بقية الصلوات الخمس.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اَللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ﴾ إلخ تأكيد لما تقدم في الآية السابقة من أمره (ص) بالصبر و تطييب نفسه بتأييد وعد النصر، و محصله أن هؤلاء المجادلين لا ينالون بغيتهم و لن ينالوا فلا يحزنك جدالهم و طب نفسا من ناحيتهم.
فقوله: ﴿إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ﴾ حصر للسبب الموجب لمجادلتهم في الكبر أي ليس عاملهم في ذلك طلب الحق أو الارتياب في آياتنا و الشك فيها حتى يريدوا بها
ظهور الحق و لا حجة و لا سلطان عندهم حتى يريدوا إظهارها بل الذي في صدورهم و هو الداعي لهم إلى الجدال، الكبر، يريدون به إدحاض الحق الصريح.
و قوله: ﴿مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ﴾ الضمير لكبر باعتبار مسببه فإن الكبر سبب للجدال و الجدال يراد به إبطال الحق و محق الدعوة الحقة، و المعنى ما هم ببالغي مرادهم و بغيتهم من الجدال الذي يأتون به لكبرهم.
و قوله: ﴿فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ﴾ أي فاستعذ بالله منهم بما لهم من الكبر كما استعاذ موسى من كل متكبر مجادل كما قال: ﴿وَ قَالَ مُوسىَ إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَ رَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لاَ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ اَلْحِسَابِ﴾.
و قوله: ﴿إِنَّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْبَصِيرُ﴾ أي السميع لدعاء عباده البصير بحوائجهم و الذي يبصر ما هم فيه من شدة أو رخاء.
قوله تعالى: ﴿لَخَلْقُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ اَلنَّاسِ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ اللام للقسم، و المراد بالسماوات و الأرض مجموع العالم، و معنى الآية حسب ما يعطيه المقام أنهم ليسوا ببالغي بغيتهم و ليسوا بمعجزين فإن الله الذي قدر على خلق مجموع العالم و لم يعجزه ذلك على ما فيه من العظمة ليس يعجزه جزء يسير منه و هو الناس المخلوقون الذين هم أهون عليه و لكن أكثر الناس جاهلون يظنون بجهلهم أنهم يعجزون الله بجدال يجادلونه أو أي كيد يكيدونه.
قوله تعالى: ﴿وَ مَا يَسْتَوِي اَلْأَعْمىَ وَ اَلْبَصِيرُ﴾ إلخ لما ذكر أن أكثر الناس لا يعلمون أكده بأنهم ليسوا على وتيرة واحدة فإن منهم الأعمى و البصير و لا يستويان و عطف عليهما الذين آمنوا و عملوا الصالحات و المسيء فالطائفة الأولى أولو بصيرة يتذكرون بها و الثانية أعمى الله قلوبهم فلا يتذكرون.
و قوله: ﴿قَلِيلاً مَا تَتَذَكَّرُونَ﴾ خطاب للناس بداعي التوبيخ و هو الوجه في الالتفات من الغيبة إلى الحضور.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَلسَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لاَ رَيْبَ فِيهَا وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ ذكرهم تعالى في هذه الآية بإتيان الساعة و في الآية التالية بدعوة ربهم إياهم إلى دعائه
و عبادته كما نبه الذي آمن من آل فرعون في القصة السابقة بإتيان الساعة و بأن لله الدعوة و ليس لآلهتهم دعوة في الدنيا و لا في الآخرة.
قوله تعالى: ﴿وَ قَالَ رَبُّكُمُ اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ دعوة منه تعالى لعباده إلى دعائه و وعد بالاستجابة، و قد أطلق الدعوة و الدعاء و الاستجابة إطلاقا، و قد أشبعنا الكلام في معنى الدعاء و الإجابة في ذيل قوله تعالى﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ اَلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ﴾البقرة: - ١٨٦ في الجزء الأول من الكتاب.
و قوله: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ الدخور الذلة، و قد بدل الدعاء عبادة فدل على أن الدعاء عبادة.
(بحث روائي)
في الصحيفة السجادية،: و قلت: ﴿اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ اَلَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ فسميت دعاءك عبادة و تركه استكبارا و توعدت على تركه دخول جهنم داخرين.
و في الكافي، بإسناده عن حماد بن عيسى عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: ادع و لا تقل: قد فرغ من الأمر فإن الدعاء هو العبادة إن الله عز و جل يقول: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ و قال: ﴿اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾.
أقول: قوله (عليه السلام) : فإن الدعاء إلى قوله ﴿دَاخِرِينَ﴾ احتجاج على ما ندب إليه أولا بقوله: ادع، و قوله: و قال: ﴿اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ احتجاج على ما قاله ثانيا: و لا تقل: قد فرغ من الأمر و لذا قدم (عليه السلام) في بيانه ذيل الآية على صدرها.
و في الخصال، عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: يا معاوية من أعطي ثلاثة لم يحرم ثلاثة: من أعطي الدعاء أعطي الإجابة، و من أعطي الشكر أعطي الزيادة و من أعطي التوكل أعطي الكفاية فإن الله عز و جل يقول في كتابه: ﴿وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اَللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ و قال: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾، و قال: ﴿اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾.
و في التوحيد، بإسناده إلى موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: قال قوم للصادق (عليه السلام) :
ندعوه فلا يستجاب لنا. قال: لأنكم تدعون من لا تعرفونه.
أقول: و قد أوردنا جملة من روايات الدعاء في ذيل قوله﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ اَلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ البقرة: - ١٨٦ في الجزء الأول من الكتاب.
[سورة غافر (٤٠): الآیات ٦١ الی ٦٨]
﴿اَللَّهُ اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اَللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَ اَلنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ اَللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى اَلنَّاسِ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ ٦١ ذَلِكُمُ اَللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ٦٢ كَذَلِكَ يُؤْفَكُ اَلَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اَللَّهِ يَجْحَدُونَ ٦٣ اَللَّهُ اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اَلْأَرْضَ قَرَاراً وَ اَلسَّمَاءَ بِنَاءً وَ صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَ رَزَقَكُمْ مِنَ اَلطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اَللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اَللَّهُ رَبُّ اَلْعَالَمِينَ ٦٤ هُوَ اَلْحَيُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ ٦٥ قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ لَمَّا جَاءَنِي اَلْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَ أُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ اَلْعَالَمِينَ ٦٦ هُوَ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَ لِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ٦٧ هُوَ اَلَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ فَإِذَا قَضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ٦٨﴾
(بيان)
رجع سبحانه ثانيا إلى الإشارة إلى آيات التوحيد توحيد الربوبية و الألوهية بعد ما بدأ بها في السورة أولا بقوله: ﴿هُوَ اَلَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ﴾.
قوله تعالى: ﴿اَللَّهُ اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اَللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَ اَلنَّهَارَ مُبْصِراً﴾ الآية.
أي جعل لأجلكم الليل مظلما لتسكنوا فيه من التعب الذي عرض لكم وجه النهار من جهة السعي في طلب الرزق، و النهار مبصرا لتبتغوا من فضل ربكم و تكسبوا الرزق، و هذا من أركان تدبير الحياة الإنسانية.
و قد ظهر بذلك أن نسبة الإبصار إلى النهار من المجاز العقلي لكن ليس من المبالغة في شيء كما ادعاه بعضهم.
و قوله: ﴿إِنَّ اَللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى اَلنَّاسِ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ﴾ امتنان عليهم بالفضل و تقريع لهم بعدم شكرهم له قبال هذا الفضل العظيم و لو شكروه لعبدوه و وضع ﴿اَلنَّاسِ﴾ الثاني موضع الضمير للإشارة إلى أن من طبع الناس بما هم ناس كفران النعم كما قال﴿إِنَّ اَلْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾ إبراهيم: - ٣٤.
قوله تعالى: ﴿ذَلِكُمُ اَللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾ أي ذلكم الذي يدبر أمر حياتكم و رزقكم بسكون الليل و سعي النهار هو الله تعالى و هو ربكم لأن تدبير أمركم إليه.
و قوله: ﴿خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ أي و رب كل شيء لأنه خالق كل شيء و الخلق لا ينفك عن التدبير و لازم ذلك أن لا يكون في الوجود رب غيره لا لكم و لا لغيركم و لذلك عقبه بقوله: ﴿لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ﴾ أي فإذن لا معبود بالحق غيره إذ لو كان هناك معبود آخر كان رب آخر فإن الألوهية من شئون الربوبية.
و قوله: ﴿فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾ أي فكيف تصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره.
قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ يُؤْفَكُ اَلَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اَللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ أي كمثل هذا الإفك يؤفك الجاحدون لآيات الله فإن الآيات ظاهرة غير خفية فالانصراف عن مدلولها لا سبب له إلا الجحد.
قوله تعالى: ﴿اَللَّهُ اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اَلْأَرْضَ قَرَاراً وَ اَلسَّمَاءَ بِنَاءً﴾ إلى آخر الآية القرار المستقر الذي يستقر عليه، و البناء - على ما قيل - القبة و منه أبنية العرب للقباب المضروبة عليهم. يذكر تعالى نعمة استقرار الإنسان على الأرض و تحت السماء.
و قوله: ﴿وَ صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ﴾ الفاء للتفسير و المعنى أحسن خلق صوركم و ذلك أن الإنسان جهز من دقائق التجهيز في صورته بما يقوى به من الأعمال المتنوعة العجيبة على ما لا يقوى عليه شيء من سائر الموجودات الحية، و يلتذ من مزايا الحياة بما لا يتيسر لغيره أبدا.
و قوله: ﴿وَ رَزَقَكُمْ مِنَ اَلطَّيِّبَاتِ﴾ هي الأرزاق المتنوعة التي تلائم بطبائعها طبيعة الإنسان من الحبوب و الفواكه و اللحوم و غيرها، و ليس في الحيوان متنوع في الرزق كالإنسان.
و قوله: ﴿ذَلِكُمُ اَللَّهُ رَبُّكُمْ﴾ أي المدبر لأمركم، و قوله: ﴿فَتَبَارَكَ اَللَّهُ رَبُّ اَلْعَالَمِينَ﴾ ثناء عليه عز و جل بربوبيته لجميع العالمين، و قد فرعه على ربوبيته و تدبيره للإنسان إشارة إلى أن الربوبية واحدة و تدبيره لأمر الإنسان عين تدبيره لأمر العالمين جميعا فإن النظام الجاري نظام واحد روعي في انطباقه على كل، انطباقه على الكل فهو سبحانه متبارك منشأ للخير الكثير فتبارك الله رب العالمين.
قوله تعالى: ﴿هُوَ اَلْحَيُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ﴾ إلخ في جملة ﴿هُوَ اَلْحَيُّ﴾ إطلاق لا مقيد لا عقلا و لا نقلا مضافا إلى إفادة الحصر فمفادها أن له تعالى وحده حياة لا يداخلها موت و لا يزيلها فناء فهو تعالى حي بذاته و غيره كائنا ما كان حي بإحياء غيره.
و إذا فرض هناك حي بذاته و حي بغيره لم يستحق العبادة بذاته إلا من كان حيا بذاته، و لذلك عقب قوله: ﴿هُوَ اَلْحَيُّ﴾ بقوله: ﴿لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ﴾.
و قد سيقت الجملتان توطئة للأمر بدعائه و لا مطلق دعائه بل دعائه بالتوحيد و إخلاص الدين له وحده لأنه الحي بذاته دون غيره و لأنه المعبود بالاستحقاق الذاتي دون غيره، و لذلك فرع على قوله: ﴿هُوَ اَلْحَيُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ﴾ قوله: ﴿فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ﴾.
و قوله: ﴿اَلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ﴾ ثناء عليه بربوبيته للعالمين.
قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ لَمَّا جَاءَنِي اَلْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَ أُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ اَلْعَالَمِينَ﴾ معنى الآية ظاهر، و فيه إياس للمشركين من موافقته لهم في عبادة آلهتهم» و قد تكرر هذا المعنى في سورة الزمر و يمكن أن يستأنس منه أن هذه السورة نزلت بعد سورة الزمر.
قوله تعالى: ﴿هُوَ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ﴾ إلخ المراد بخلقهم من تراب خلق أبيهم آدم من تراب فإن خلق غيره ينتهي إليه فخلقه من تراب هو خلقهم منه أو المراد بخلقهم من تراب تكوين النطفة من البسائط الأرضية.
و قوله: ﴿ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ﴾ إلخ أي ثم خلقناكم من نطفة حقيرة معلومة الحال ﴿ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ﴾ كذلك ﴿ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ﴾ من بطون أمهاتكم ﴿طِفْلاً﴾ أي أطفالا، و الطفل كما قيل يطلق على الواحد و الجمع قال تعالى﴿أَوِ اَلطِّفْلِ اَلَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلىَ عَوْرَاتِ اَلنِّسَاءِ﴾ النور: - ٣١.
﴿ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ﴾ اللام للغاية و كان متعلقها محذوف و التقدير ثم ينشئكم لتبلغوا أشدكم و هو من العمر زمان اشتداد القوى ﴿ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً﴾ معطوف على ﴿لِتَبْلُغُوا﴾ ﴿وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ﴾ فلا يبلغ أحد هذه المراحل من العمر كالشيخوخة و بلوغ الأشد و غيرهما.
﴿وَ لِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى﴾ و هو النهاية من الأمد المضروب الذي لا سبيل للتغير إليه أصلا، و هو غاية عامة لجميع الناس كيفما عمروا قال تعالى﴿وَ أَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ﴾الأنعام: - ٢. و لذلك لم تعطف الجملة بثم حتى تتميز من الغايتين المذكورتين سابقا.
و قوله: ﴿وَ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ أي تدركون الحق بالتعقل المغروز فيكم، و هذا غاية خلقة الإنسان بحسب حياته المعنوية كما أن بلوغ الأجل المسمى غاية حياته الدنيا الصورية.
قوله تعالى: ﴿هُوَ اَلَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ﴾ إلخ أي هو الذي يفعل الإحياء و الإماتة و فيهما نقل الأحياء من عالم إلى عالم و كل منهما مبدأ لتصرفاته بالنعم التي يتفضل بها على من يدبر أمره.
و قوله: ﴿فَإِذَا قَضىَ أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ تقدم تفسيره كرارا.
(بحث روائي)
في الدر المنثور، أخرج عبد بن حميد و ابن أبي حاتم بسند صحيح عن أبي العالية قال: إن اليهود أتوا النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و قالوا إن الدجال يكون منا في آخر الزمان و يكون من أمره فعظموا أمره و قالوا يصنع كذا فأنزل الله: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اَللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ﴾ قال: لا يبلغ الذي يقول: ﴿فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ﴾ فأمر نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يتعوذ من فتنة الدجال ﴿لَخَلْقُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ اَلنَّاسِ﴾ الدجال. و فيه، أخرج ابن أبي حاتم عن كعب الأحبار :في قوله: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اَللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ﴾ قال: هم اليهود نزلت فيهم فيما ينتظرونه من أمر الدجال. و فيه، أخرج ابن المنذر عن ابن جريح :في قوله: ﴿لَخَلْقُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ اَلنَّاسِ﴾ قال: زعموا أن اليهود قالوا: يكون منا ملك في آخر الزمان البحر إلى ركبتيه، و السحاب دون رأسه، يأخذ الطير بين السماء و الأرض، معه جبل خبز و نهر فنزلت: ﴿لَخَلْقُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ اَلنَّاسِ﴾.
أقول: قد عرفت فيما تقدم أن غرض السورة - كما يستفاد من سياق آياتها - التكلم حول استكبارهم و مجادلتهم في آيات الله بغير الحق فمنها ابتداء الكلام و إليها يعود عودة بعد عودة كقوله: ﴿مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اَللَّهِ إِلاَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ و قوله: ﴿وَ جَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ اَلْحَقَّ﴾، و قوله: ﴿اَلَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اَللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً﴾، و قوله: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اَللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ﴾، و قوله: ﴿أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اَللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ﴾.
فسياق آيات السورة يأبى أن يكون بعضها يختص بسبب في نزولها لا يشاركها فيه غيرها كما هو مؤدى هذه الروايات الثلاث.
على أن ما في الروايات من قصة إخبار اليهود بالدجال لا ينطبق على الآيتين انطباقا ظاهرا بعد التأمل في مضمون الآيتين نفسهما أعني قوله: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ يُجَادِلُونَ﴾ إلى قوله ﴿وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾.
و من هذا يظهر أن القول بكون الآيتين مدنيتين استنادا إلى هذه الروايات كما ترى.
[سورة غافر (٤٠): الآیات ٦٩ الی ٧٨]
﴿أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اَللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ ٦٩ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَ بِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ٧٠ إِذِ اَلْأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَ اَلسَّلاَسِلُ يُسْحَبُونَ ٧١ فِي اَلْحَمِيمِ ثُمَّ فِي اَلنَّارِ يُسْجَرُونَ ٧٢ ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ ٧٣ مِنْ دُونِ اَللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اَللَّهُ اَلْكَافِرِينَ ٧٤ ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي اَلْأَرْضِ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ وَ بِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ ٧٥ اُدْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى اَلْمُتَكَبِّرِينَ ٧٦ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اَللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ اَلَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ٧٧ وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَ مَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اَللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اَللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَ خَسِرَ هُنَالِكَ اَلْمُبْطِلُونَ ٧٨﴾
(بيان)
رجوع بعد رجوع إلى حديث المجادلين في آيات الله و قد تعرض لبيان مآل أمرهم بذكر ما آل إليه أمر أشباههم من الأمم الخالية و نصره تعالى لدينه في أول السورة
إجمالا ثم بذكر الحال في دعوة موسى (عليه السلام) بالخصوص فيما قصه من قصته و نصره له بالخصوص ثم في ضمن أمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بالصبر و وعده بالنصر.
و هذا آخر كرة عليهم يذكر فيها مآل أمرهم و ما يصرفون إليه و هو العذاب المخلد ثم يأمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بالصبر و بعده بالنصر و يطيب نفسه بأن وعد الله حق.
قوله تعالى: ﴿أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اَللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ﴾ ﴿أَ لَمْ تَرَ﴾ مفيد للتعجيب و ﴿أَنَّى﴾ بمعنى كيف، و المعنى أ لا تعجب أو أ لم تعجب من أمر هؤلاء المجادلين في آيات الله كيف يصرفون عن الحق إلى الباطل و عن الهدى إلى الضلال.
و التعرض لحال المجادلين هاهنا من حيث الإشارة إلى كونهم مصروفين عن الحق و الهدى و مآل ذلك، و فيما تقدم من قوله: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اَللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ﴾ من حيث إن الداعي لهم إلى ذلك الكبر و أنهم لا يبلغون ما يريدون فلا تكرار.
و منه يظهر ما في قول بعضهم: إن تكرير ذكر المجادلة محمول على تعدد المجادل بأن يكون المجادلون المذكورون في الآية السابقة غير المذكورين في هذه الآية أو على اختلاف ما فيه المجادلة كأن يكون المجادلة هناك في أمر البعث و هاهنا في أمر التوحيد على أن فيه غفلة عن غرض السورة كما عرفت.
قوله تعالى: ﴿اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَ بِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ الذي يعطيه سياق الآيات التالية أن المراد بهؤلاء المجادلين هم المجادلون من قوم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و عليه فالأنسب أن يكون المراد بالكتاب هو القرآن الكريم، و بقوله: ﴿بِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا﴾ ما جاءت به الرسل (عليه السلام) من عند الله من كتاب و دين فالوثنية منكرون للنبوة.
و قوله: ﴿فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ تفريع على مجادلتهم و تكذيبهم و تهديد لهم أي سوف يعلمون حقيقة مجادلتهم في آيات الله و تكذيبهم بالكتاب و بالرسل.
قوله تعالى: ﴿إِذِ اَلْأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَ اَلسَّلاَسِلُ يُسْحَبُونَ فِي اَلْحَمِيمِ ثُمَّ فِي اَلنَّارِ يُسْجَرُونَ﴾ في المجمع،: الأغلال جمع غل و هو طوق يدخل في العنق للذل و الألم و أصله الدخول، و قال: السلاسل جمع سلسلة و هي الحلق منتظمة في جهة الطول مستمرة
و قال: السحب جر الشيء على الأرض. هذا أصله، و قال: السجر أصله إلقاء الحطب في معظم النار كالتنور الذي يسجر بالوقود. انتهى.
و قوله: ﴿إِذِ اَلْأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَ اَلسَّلاَسِلُ﴾ ظرف لقوله: ﴿فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ قيل: الإتيان بإذ و هو للماضي للدلالة على تحقق الوقوع و إن كان موقعه المستقبل فلا تنافي، في الجمع بين سوف و إذ.
و ﴿اَلْأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ﴾ مبتدأ و خبر، و ﴿اَلسَّلاَسِلُ﴾ معطوف على الأغلال، و ﴿يُسْحَبُونَ فِي اَلْحَمِيمِ﴾ خبر بعد خبر، و ﴿فِي اَلنَّارِ يُسْجَرُونَ﴾ معطوف على ﴿يُسْحَبُونَ﴾.
و المعنى: سوف يعلمون حقيقة عملهم حين تكون الأغلال و السلاسل في أعناقهم يجرون في الماء الحار الشديد الحرارة ثم يقذفون في النار.
و قيل: معنى قوله: ﴿ثُمَّ فِي اَلنَّارِ يُسْجَرُونَ﴾ ثم يصيرون وقود النار، و يؤيده قوله تعالى في صفة جهنم﴿وَقُودُهَا اَلنَّاسُ وَ اَلْحِجَارَةُ﴾ البقرة: - ٢٤، و قوله﴿إِنَّكُمْ وَ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾ الأنبياء: - ٩٨.
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا﴾ إلى آخر الآية. أي قيل لهم و هم يتقلبون بين السحب و السجر: أين ما كنتم تشركون من شركائكم من دون الله حتى ينصروكم بالإنجاء من هذا العذاب أو يشفعوا لكم كما كنتم تزعمون أنهم سيشفعون لكم قبال عبادتكم لهم؟.
و قوله: ﴿قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا﴾ أي غابوا عنا من قولهم: ضلت الدابة إذا غابت فلم يعرف مكانها، و هذا جوابهم عما قيل لهم: أين ما كنتم تشركون من دون الله.
و قوله: ﴿بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً﴾ إضراب منهم عن الجواب الأول لما يظهر لهم أن الآلهة الذين كانوا يزعمونهم شركاء لم يكونوا إلا أسماء لا مسميات لها و مفاهيم لا يطابقها شيء و لم يكن عبادتهم لها إلا سدى، و لذلك نفوا أن يكونوا يعبدون شيئا قال تعالى﴿فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ﴾ يونس: - ٢٨ و قال﴿لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَ ضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ الأنعام: - ٩٤.
و قيل: هذا من كذبهم يوم القيامة على حد قوله﴿وَ اَللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ
﴾ الأنعام: - ٢٣.
و قوله: ﴿كَذَلِكَ يُضِلُّ اَللَّهُ اَلْكَافِرِينَ﴾ أي إضلاله تعالى للكافرين و هم الساترون للحق يشبه هذا الضلال و هو أنهم يرون الباطل حقا فيقصدونه ثم يتبين لهم بعد ضلال سعيهم أنه لم يكن إلا باطلا في صورة حق و سرابا في سيماء الحقيقة.
و المعنى: على الوجه الثاني أعني كون قولهم: ﴿بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً﴾ كذبا منهم: كمثل هذا الإضلال يضل الله الكافرين فيئول أمرهم إلى الكذب حيث لا ينفع مع علمهم بأنه لا ينفع.
و قد فسرت الجملة بتفاسير أخرى متقاربة و قريبة مما ذكرناه.
قوله تعالى: ﴿ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي اَلْأَرْضِ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ وَ بِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ﴾ الفرح مطلق السرور، و المرح الإفراط فيه و هو مذموم، و قال الراغب: الفرح انشراح الصدر بلذة عاجلة و أكثر ما يكون ذلك في اللذات البدنية، و قال: المرح شدة الفرح و التوسع فيه. انتهى.
و قوله: ﴿ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ﴾ الإشارة إلى ما هم فيه من العذاب و الباء في ﴿بِمَا كُنْتُمْ﴾ للسببية أو المقابلة.
و المعنى: ذلكم العذاب الذي أنتم فيه بسبب كونكم تفرحون في الأرض بغير الحق من اللذات العاجلة و بسبب كونكم تفرطون في الفرح و ذلك لتعلق قلوبهم بعرض الدنيا و زينتها و معاداتهم لكل حق يخالف باطلهم فيفرحون و يمرحون بإحياء باطلهم و إماتة الحق و اضطهاده.
قال في المجمع،: قيد الفرح و أطلق المرح لأن الفرح قد يكون بحق فيحمد عليه و قد يكون بالباطل فيذم عليه، و المرح لا يكون إلا باطلا. انتهى.
قوله تعالى: ﴿اُدْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى اَلْمُتَكَبِّرِينَ﴾ أي ادخلوا أبوابها المقسومة لكم خالدين فيها فبئس مقام الذين يتكبرون عن الحق جهنم، و قد تقدم أن أبواب جهنم دركاتها.
قوله تعالى: ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اَللَّهِ حَقٌّ﴾ لما بين مآل أمر المجادلين في آيات الله
و هي النار و أن الله يضلهم بكفرهم فرع عليه أمر نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) بالصبر معللا ذلك بأن وعد الله حق.
و قوله: ﴿فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ اَلَّذِي نَعِدُهُمْ﴾ هو عذاب الدنيا ﴿أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ﴾ بالموت فلم نرك ذلك ﴿فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ﴾ و لا يفوتوننا فننجز فيهم ما وعدناه.
قوله تعالى: ﴿وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ﴾ إلخ بيان لكيفية النصر المذكور في الآية السابقة أن آية النصر التي جرت سنة الله على إنزالها للقضاء بين كل رسول و أمته و إظهار الحق على الباطل كما يشير إليه قوله﴿وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَ هُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴾يونس: - ٤٧ لم يفوض أمرها إلى رسول من الرسل من قبلك بل كان يأتي بها من يأتي منهم بإذن الله، و حالك حالهم، فمن الممكن أن نأذن لك في الإتيان بها فنريك بعض ما نعدهم، و من الممكن أن نتوفاك فلا نريك غير أن أمر الله إذا جاء قضي بينهم بالحق و خسر هنالك المبطلون. هذا ما يفيده السياق.
فقوله: ﴿وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ﴾ مسوق للإشارة إلى كون ما سيذكره سنة جارية منه تعالى.
و قوله: ﴿وَ مَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اَللَّهِ﴾ الآية و إن كانت أعم من الآية المعجزة التي يؤتاها الرسول لتأييد رسالته، و الآية التي تنصر الحق و تقضي بين الرسول و بين أمته و الكل بإذن الله لكن مورد الكلام كما استفدناه من السياق القسم الثاني و هي القاضية بين الرسول و أمته.
و قوله: ﴿فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اَللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَ خَسِرَ هُنَالِكَ اَلْمُبْطِلُونَ﴾ أي فإذا جاء أمر الله بالعذاب قضي بالحق فأظهر الحق و أزهق الباطل و خسر عند ذلك المتمسكون بالباطل في دنياهم بالهلاك و في آخرتهم بالعذاب الدائم.
و استدل بالآية على أن من الرسل من لم تذكر قصته في القرآن، و فيه أن الآية مكية لا تدل على أزيد من عدم ذكر قصة بعض الرسل إلى حين نزولها بمكة، و قد ورد
في سورة النساء﴿وَ رُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَ رُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ﴾النساء: - ١٦٤ و لم يذكر في السور النازلة بعد سورة النساء اسم أحد من الرسل المذكورين بأسمائهم في القرآن.
و في المجمع، و روي عن علي (عليه السلام) أنه قال: بعث الله نبيا أسود لم يقص علينا قصته، و روي في الدر المنثور عن الطبراني في الأوسط و ابن مردويه عنه ما في معناه.
[سورة غافر (٤٠): الآیات ٧٩ الی ٨٥]
﴿اَللَّهُ اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اَلْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَ مِنْهَا تَأْكُلُونَ ٧٩ وَ لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَ لِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَ عَلَيْهَا وَ عَلَى اَلْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ٨٠ وَ يُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اَللَّهِ تُنْكِرُونَ ٨١ أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَ أَشَدَّ قُوَّةً وَ آثَاراً فِي اَلْأَرْضِ فَمَا أَغْنى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ٨٢ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ اَلْعِلْمِ وَ حَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ٨٣ فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَ كَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ ٨٤ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اَللَّهِ اَلَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَ خَسِرَ هُنَالِكَ اَلْكَافِرُونَ ٨٥﴾
(بيان)
رجوع بعد رجوع إلى ذكر بعض آيات التوحيد و إرجاع لهم إلى الاعتبار بحال الأمم الدارجة الهالكة و سنة الله الجارية فيهم بإرسال رسله إليهم ثم القضاء بين رسلهم و بينهم المؤدي إلى خسران الكافرين منهم، و عند ذلك تختتم السورة.
قوله تعالى: ﴿اَللَّهُ اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اَلْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَ مِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾ ذكر سبحانه مما ينتفع به الإنسان في حياته و يدبر به أمره الأنعام و المراد بها الإبل و البقر و الغنم، و قيل: المراد بها هاهنا الإبل خاصة.
فقوله: ﴿جَعَلَ لَكُمُ اَلْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَ مِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾ الجعل هنا الخلق أو التسخير، و اللام في ﴿لِتَرْكَبُوا﴾ للغرض و «من» للتبعيض، و المعنى خلق لأجلكم أو سخر لكم الأنعام و الغرض من هذا الجعل أن تركبوا بعضها كبعض الإبل و بعضها كبعض الإبل و البقر و الغنم تأكلون.
قوله تعالى: ﴿وَ لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ﴾ إلخ كانتفاعكم بألبانها و أصوافها و أوبارها و أشعارها و جلودها و غير ذلك، و قوله: ﴿وَ لِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ﴾ أي و من الغرض من جعلها أن تبلغوا، حال كونكم عليها بالركوب، حاجة في صدوركم و هي الانتقال من مكان إلى مكان لأغراض مختلفة.
و قوله: ﴿وَ عَلَيْهَا وَ عَلَى اَلْفُلْكِ تُحْمَلُونَ﴾ كناية عن قطع البر و البحر بالأنعام و الفلك.
قوله تعالى: ﴿وَ يُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اَللَّهِ تُنْكِرُونَ﴾ تقدم معنى إراءته تعالى آياته في تفسير أوائل السورة، و كأن الجملة أعني قوله: ﴿وَ يُرِيكُمْ آيَاتِهِ﴾ غير مقصودة لنفسها حتى يلزم التكرار و إنما هي تمهيد و توطئة للتوبيخ الذي في قوله: ﴿فَأَيَّ آيَاتِ اَللَّهِ تُنْكِرُونَ﴾ أي أي هذه الآيات التي يريكم الله إياها عيانا و بيانا، تنكرون إنكارا يمهد لكم الإعراض عن توحيده.
قوله تعالى: ﴿أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا﴾ إلى آخر الآية توبيخ لهم و عطف لأنظارهم إلى ما جرى من سنة القضاء و الحكم في الأمم السالفة، و قد تقدمت نظيرة الآية في أوائل السورة و كان الغرض هناك أن يتبين لهم أن الله أخذ كلا منهم بذنوبهم
لما كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فيكفرون بهم و لذا ذيل الآية بقوله: ﴿فَأَخَذَهُمُ اَللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ﴾، و الغرض هاهنا أن يتبين لهم أنهم لم يغنهم ما كسبوا و لم ينفعهم في دفع عذاب الله ما فرحوا به من العلم الذي عندهم و لا توبتهم و ندامتهم مما عملوا.
و قد صدرت الآية بفاء التفريع فقيل: ﴿أَ فَلَمْ يَسِيرُوا﴾ إلخ مع الالتفات من الخطاب إلى الغيبة، و كأن الكلام تفريع على قوله: ﴿فَأَيَّ آيَاتِ اَللَّهِ تُنْكِرُونَ﴾ فكأنه لما ذمهم و أنكر إنكارهم لآياته رجع و انصرف عنهم إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) مشيرا إلى سقوطه من منزلة الخطاب و قال: إذا كانت آياته تعالى ظاهرة بينة لا تقبل الإنكار و من جملتها ما في آثار الماضين من الآيات الناطقة و هم قد ساروا في الأرض و شاهدوها فلم لم ينظروا فيها فيتبين لهم أن الماضين مع كونهم أقوى من هؤلاء كما و كيفا لم ينفعهم ما فرحوا به من علم و قوة.
قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ اَلْعِلْمِ﴾ إلخ ضمائر الجمع في الآية و هي سبع للذين من قبلهم، و المراد بما عندهم من العلم ما وقع في قلوبهم و شغل نفوسهم من زينة الحياة الدنيا و فنون التدبير للظفر بها و بلوغ لذائذها و قد عد الله سبحانه ذلك علما لهم و قصر علمهم فيه، قال تعالى﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ هُمْ عَنِ اَلْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾ الروم: - ٧، و قال﴿فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَ لَمْ يُرِدْ إِلاَّ اَلْحَيَاةَ اَلدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ اَلْعِلْمِ﴾ النجم: - ٣٠.
و المراد بفرحهم بما عندهم من العلم شدة إعجابهم بما كسبوه من الخبرة و العلم الظاهري و انجذابهم إليه الموجب لإعراضهم عن المعارف الحقيقية التي جاءت بها رسلهم، و استهانتهم بها و سخريتهم لها، و لذا عقب فرحهم بما عندهم من العلم بقوله: ﴿وَ حَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ﴾.
و في معنى قوله: ﴿فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ اَلْعِلْمِ﴾ أقوال أخر:
منها: أن المراد بما عندهم من العلم عقائدهم الفاسدة و آراؤهم الباطلة و تسميتها علما للتهكم فهم كانوا يفرحون بها و يستحقرون لذلك علم الرسل، و أنت خبير بأنه تصوير من غير دليل.
و منها: أن المراد بالعلم هو علوم الفلاسفة من اليونان و الدهريين فكانوا إذا سمعوا بالوحي و معارف النبوة صغروا علم الأنبياء و تبجحوا بما عندهم، و هو كسابقه على أنه
لا ينطبق على أحد من الأمم التي قص القرآن قصتهم كقوم نوح و عاد و ثمود و قوم إبراهيم و قوم لوط و قوم شعيب و غيرهم.
و منها: أن أصل المعنى فلما جاءتهم رسلهم بالبينات لم يفرحوا بما جاءهم من العلم فوضع موضعه فرحوا بما عندهم من الجهل ثم بدل الجهل علما تهكما فقيل: فرحوا بما عندهم من العلم، و هذا الوجه - على ما فيه من التكلف و البعد من الفهم - يرد عليه ما يرد على الأول.
و منها: أن ضمير ﴿فَرِحُوا﴾ للكفار و ضمير ﴿عِنْدَهُمْ﴾ للرسل، و المعنى فرح الكفار بما عند الرسل من العلم فرح ضحك و استهزاء و فيه أن لازمه اختلاف الضمائر المتسقة مضافا إلى أن الضحك و الاستهزاء لا يسمى فرحا و لا قرينة.
و منها: أن ضميري ﴿فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ﴾ للرسل، و المعنى أن الرسل لما جاءوهم و شاهدوا ما هم فيه من الجهل و التمادي على الكفر و الجحود و علموا عاقبة أمرهم فرحوا بما عندهم من العلم الحق و شكروا الله على ذلك.
و فيه أن سياق الآيات أصدق شاهد على أنها سيقت لبيان حال الكفار بعد إتيان رسلهم بالبينات و كيف آلت إلى نزول العذاب و لم ينفعهم الإيمان بعد مشاهدة البأس؟ و أي ارتباط له بفرح الرسل بعلومهم الحقة؟ على أن لازمه أيضا اختلاف الضمائر.
قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَ كَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ﴾ البأس شدة العذاب، و الباقي ظاهر.
قوله تعالى: ﴿فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا﴾ إلخ و ذلك لعدم استناد الإيمان حينئذ إلى الاختيار، و قوله: ﴿سُنَّتَ اَللَّهِ اَلَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ﴾ أي سنها الله سنة ماضية في عباده أن لا تقبل توبة بعد رؤية البأس ﴿وَ خَسِرَ هُنَالِكَ اَلْكَافِرُونَ﴾.
(٤١) (سورة حم السجدة مكية و هي أربع و خمسون آية) (٥٤)
[سورة فصلت (٤١): الآیات ١ الی ١٢]
﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ حم ١ تَنْزِيلٌ مِنَ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ ٢ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ٣ بَشِيراً وَ نَذِيراً
فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ ٤ وَ قَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَ فِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَ مِنْ بَيْنِنَا وَ بَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ ٥ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَ اِسْتَغْفِرُوهُ وَ وَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ ٦ اَلَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ اَلزَّكَاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ٧ إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ٨ قُلْ أَ إِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ اَلْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَ تَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ اَلْعَالَمِينَ ٩ وَ جَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَ بَارَكَ فِيهَا وَ قَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ١٠ ثُمَّ اِسْتَوى إِلَى اَلسَّمَاءِ وَ هِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَ لِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ١١ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَ أَوْحى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَ زَيَّنَّا اَلسَّمَاءَ اَلدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَ حِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ اَلْعَزِيزِ اَلْعَلِيمِ ١٢﴾
(بيان)
تتكلم السورة حول إعراضهم عن الكتاب المنزل عليهم و هو القرآن الكريم فهو الغرض الأصلي و لذلك ترى طائف الكلام يطوف حوله و يبتدئ به ثم يعود إليه فصلا
بعد فصل فقد افتتح بقوله: ﴿تَنْزِيلٌ مِنَ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ﴾ إلخ ثم قيل: ﴿وَ قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا اَلْقُرْآنِ﴾ إلخ، و قيل: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا﴾ إلخ، و قيل: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ﴾ إلخ، و قيل و هو في خاتمة الكلام : ﴿قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ﴾ إلخ.
و لازم إعراضهم عن كتاب الله إنكار الأصول الثلاثة التي هي أساس دعوته الحقة و هي الوحدانية و النبوة و المعاد فبسطت الكلام فيها و ضمنته التبشير و الإنذار.
و السورة مكية لشهادة مضامين آياتها على ذلك و هي من السور النازلة في أوائل البعثة على ما يستفاد من الروايات.
قوله تعالى: ﴿حم تَنْزِيلٌ مِنَ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ﴾ خبر مبتدإ محذوف، و المصدر بمعنى المفعول، و التقدير هذا منزل من الرحمن الرحيم، و التعرض للصفتين الكريمتين:
الرحمن الدال على الرحمة العامة للمؤمن و الكافر، و الرحيم الدالة على الرحمة الخاصة بالمؤمنين للإشارة إلى أن هذا التنزيل يصلح للناس دنياهم كما يصلح لهم آخرتهم.
قوله تعالى: ﴿كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ خبر بعد خبر، و التفصيل يقابل الإحكام و الإجمال، و المراد بتفصيل آيات القرآن تمييز أبعاضه بعضها من بعض بإنزاله إلى مرتبة البيان بحيث يتمكن السامع العارف بأساليب البيان من فهم معانيه و تعقل مقاصده و إلى هذا يشير قوله تعالى﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ هود: - ١، و قوله﴿وَ اَلْكِتَابِ اَلْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ اَلْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ الزخرف: - ٤.
و قوله: ﴿قُرْآناً عَرَبِيًّا﴾ حال من الكتاب أو من آياته، و قوله: ﴿لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ اللام للتعليل أو للاختصاص، و مفعول ﴿يَعْلَمُونَ﴾ إما محذوف و التقدير لقوم يعلمون معانيه لكونهم عارفين باللسان الذي نزل به و هم العرب و إما متروك و المعنى لقوم لهم علم.
و لازم المعنى الأول أن يكون هناك عناية خاصة بالعرب في نزول القرآن عربيا و هو الذي يشعر به أيضا قوله الآتي: ﴿وَ لَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْ لاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ءَ أَعْجَمِيٌّ وَ عَرَبِيٌّ﴾ الآية و قريب منه قوله﴿وَ لَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلىَ بَعْضِ اَلْأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ
عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ﴾ الشعراء: - ١٩٩.
و لا ينافي ذلك عموم دعوته (ص) لعامة البشر لأن دعوته (ص) كانت مرتبة على مراحل فأول ما دعا دعا الناس بالموسم فقوبل بإنكار شديد منهم ثم كان يدعو بعد ذلك سرا مدة ثم أمر بدعوة عشيرته الأقربين كما يشير إليه قوله تعالى﴿وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ اَلْأَقْرَبِينَ﴾ الشعراء: - ٢١٤ ثم أمر بدعوة قومه كما يشير إليه قوله﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ اَلْمُشْرِكِينَ﴾ الحجر: - ٩٤ ثم أمر بدعوة الناس عامة كما يشير إليه قوله﴿قُلْ يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اَللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً﴾ الأعراف: - ١٥٨، و قوله﴿ وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا اَلْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ﴾ الأنعام: - ١٩.
على أن من المسلم تاريخا أنه كان من المؤمنين به سلمان و كان فارسيا، و بلال و كان حبشيا، و صهيب و كان روميا، و دعوته لليهود و وقائعه (ص) معهم، و كذا كتابه إلى ملك إيران و مصر و الحبشة و الروم في دعوتهم إلى الإسلام كل ذلك دليل على عموم الدعوة.
قوله تعالى: ﴿بَشِيراً وَ نَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ﴾ ﴿بَشِيراً وَ نَذِيراً﴾ حالان من الكتاب في الآية السابقة، و المراد بالسمع المنفي سمع القبول كما يدل عليه قرينة الإعراض.
قوله تعالى: ﴿وَ قَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ﴾ إلى آخر الآية. قال الراغب: الكن ما يحفظ فيه الشيء قال: الكنان الغطاء الذي يكن فيه الشيء و الجمع أكنة نحو غطاء و أغطية قال تعالى: ﴿وَ جَعَلْنَا عَلىَ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ﴾. انتهى.
فقوله: ﴿قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ﴾ كناية عن كون قلوبهم بحيث لا تفقه ما يدعو (ص) إليه من التوحيد كأنها مغطاة بأغطية لا يتطرق إليها شيء من خارج.
و قوله: ﴿وَ فِي آذَانِنَا وَقْرٌ﴾ أي ثقل من الصمم فلا تسمع شيئا من هذه الدعوة، و قوله: ﴿وَ مِنْ بَيْنِنَا وَ بَيْنِكَ حِجَابٌ﴾ أي حاجز يحجزنا منك فلا نجتمع معك على شيء مما تريد فقد أيأسوه (ص) من قبول دعوته بما أخبروه أولا بكون قلوبهم في أكنة فلا تقع فيها دعوته حتى يفقهوها، و ثانيا بكون طرق ورودها إلى القلوب و هي الآذان مسدودة فلا تلجها دعوة و لا ينفذ منها إنذار و تبشير، و ثالثا بأن بينهم و بينه (ص)
حجابا مضروبا لا يجمعهم معه جامع و فيه تمام الإياس.
و قوله: ﴿فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ﴾ تفريع على ما سبق، و لا يخلو من شوب تهديد، و عليه فالمعنى إذا كان لا سبيل إلى التفاهم بيننا فاعمل بما يمكنك العمل به في إبطال أمرنا إننا عاملون في إبطال أمرك.
و قيل: المعنى فاعمل على دينك فإننا عاملون على ديننا، و قيل: المعنى فاعمل في هلاكنا فإننا عاملون في هلاكك، و لا يخلوان من بعد.
قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحىَ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَ اِسْتَغْفِرُوهُ﴾ في مقام الجواب عن قولهم: ﴿قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ﴾ على ما يعطيه السياق فمحصله قل لهم: إنما أنا بشر مثلكم أعاشركم كما يعاشر بعضكم بعضا و أكلمكم كما يكلم أحدكم صاحبه فلست من جنس يباينكم كالملك حتى يكون بيني و بينكم حجاب مضروب أو لا ينفذ كلامي في آذانكم أو لا يرد قولي في قلوبكم غير أن الذي أقول لكم و أدعوكم إليه وحي يوحى إلي و هو إنما إلهكم الذي يستحق أن تعبدوه إله واحد لا آلهة متفرقون.
و قوله: ﴿فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَ اِسْتَغْفِرُوهُ﴾ أي فإذا لم يكن إلا إلها واحدا لا شريك له فاستووا إليه بتوحيده و نفي الشركاء عنه و استغفروه فيما صدر عنكم من الشرك و الذنوب.
قوله تعالى: ﴿وَ وَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ اَلَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ اَلزَّكَاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ﴾ تهديد للمشركين الذين يثبتون لله شركاء و لا يوحدونه، و قد وصفهم من أخص صفاتهم بصفتين هما عدم إيتائهم الزكاة و كفرهم بالآخرة.
و المراد بإيتاء الزكاة مطلق إنفاق المال للفقراء و المساكين لوجه الله فإن الزكاة بمعنى الصدقة الواجبة في الإسلام لم تكن شرعت بعد عند نزول السورة و هي من أقدم السور المكية.
و قيل: المراد بإيتاء الزكاة تزكية النفس و تطهيرها من أوساخ الذنوب و قذارتها و إنماؤها نماء طيبا بعبادة الله سبحانه، و هو حسن لو حسن إطلاق إيتاء الزكاة على ذلك.
و قوله: ﴿وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ﴾ وصف آخر للمشركين هو من لوازم مذهبهم و هو إنكار المعاد، و لذلك أتى بضمير الفصل ليفيد أنهم معروفون بالكفر بالآخرة.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ أي غير مقطوع بل متصل دائم كما فسره بعضهم، و فسره آخرون بغير معدود كما قال تعالى﴿ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ المؤمن: - ٤٠.
و جوز أن يكون المراد أنه لا أذى فيه من المن الذي يكدر الصنيعة، و يمكن أن يوجه هذا الوجه بأن في تسمية ما يؤتونه بالأجر دلالة على ذلك لإشعاره بالاستحقاق و إن كان هذا الاستحقاق بجعل من الله تعالى لا لهم من عند أنفسهم قال تعالى﴿إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَ كَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً﴾ الدهر: - ٢٢.
قوله تعالى: ﴿قُلْ أَ إِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ اَلْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَ تَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً﴾ الآية. أمره ثانيا أن يستفهم عن كفرهم بالله بمعنى شركهم مع ظهور آيات وحدانية في خلق السماوات و الأرض و تدبير أمرهما بعد ما أمره أولا بدفع قولهم:
﴿قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ﴾ إلخ.
و الاستفهام للتعجيب و لذا أكد المستفهم عنه بأن و اللام كأن المستفهم لا يكاد يذعن بكفرهم بالله و قولهم بالأنداد مع ظهور المحجة و استقامة الحجة.
و قوله: ﴿وَ تَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً﴾ تفسير لقوله: ﴿لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ اَلْأَرْضَ﴾ إلخ، و الأنداد جمع ند و هو المثل، و المراد بجعل الأنداد له اتخاذ شركاء له يماثلونه في الربوبية و الألوهية.
و قوله: ﴿ذَلِكَ رَبُّ اَلْعَالَمِينَ﴾ في الإشارة بلفظ البعيد رفع لساحته تعالى و تنزيهه عن أمثال هذه الأوهام فهو رب العالمين المدبر لأمر الخلق أجمعين فلا مسوغ لأن يتوهم ربا آخر سواه و إلها آخر غيره.
و المراد باليوم في قوله: ﴿خَلَقَ اَلْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ﴾ برهة من الزمان دون مصداق اليوم الذي نعهده و نحن على بسيط أرضنا هذه و هو مقدار حركة الكرة الأرضية حول نفسها مرة واحدة فإنه ظاهر الفساد، و إطلاق اليوم على قطعة من الزمان تحوي حادثة من الحوادث كثير الورود شائع الاستعمال، و من ذلك قوله تعالى﴿وَ تِلْكَ اَلْأَيَّامُ
نُدَاوِلُهَا بَيْنَ اَلنَّاسِ﴾ آل عمران: - ١٤٠، و قوله﴿فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ اَلَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ يونس: - ١٠٢، و غير ذلك.
فاليومان اللذان خلق الله فيهما الأرض قطعتان من الزمان تم فيهما تكون الأرض أرضا تامة، و في عدهما يومين لا يوما واحدا دليل على أن الأرض لاقت زمان تكونها الأولي مرحلتين متغايرتين كمرحلة النيء و النضج أو الذوبان و الانعقاد أو نحو ذلك.
قوله تعالى: ﴿وَ جَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا﴾ إلى آخر الآية. معطوف على قوله: ﴿خَلَقَ اَلْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ﴾ و لا ضير في تخلل الجملتين: ﴿وَ تَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ اَلْعَالَمِينَ﴾ بين المعطوف و المعطوف عليه لأن الأولى تفسير لقوله: ﴿لَتَكْفُرُونَ﴾ و الثانية تقرير للتعجيب الذي يفيده الاستفهام.
و الرواسي صفة لموصوف محذوف و التقدير جبالا رواسي أي ثابتات على الأرض و ضمائر التأنيث الخمس في الآية للأرض.
و قوله: ﴿وَ بَارَكَ فِيهَا﴾ أي جعل فيها الخير الكثير الذي ينتفع به ما على الأرض من نبات و حيوان و إنسان في حياته أنواع الانتفاعات.
و قوله: ﴿وَ قَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ﴾ قيل: الظرف أعني قوله: ﴿فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ﴾ بتقدير مضاف و هو متعلق بقدر، و التقدير قدر الأقوات في تتمة أربعة أيام من حين بدء الخلق فيومان لخلق الأرض و يومان و هما تتمة أربعة أيام لتقدير الأقوات.
و قيل: متعلق بحصول الأقوات و تقدير المضاف على حاله، و التقدير قدر حصول أقواتها في تتمة أربعة أيام فيها خلق الأرض و أقواتها جميعا .
و قيل: متعلق بحصول جميع الأمور المذكورة من جعل الرواسي من فوقها و المباركة فيها و تقدير أقواتها و التقدير و حصول ذلك كله في تتمة أربعة أيام و فيه حذف و تقدير كثير.
و جعل الزمخشري في الكشاف، الظرف متعلقا بخبر مبتدإ محذوفين من غير تقدير مضاف و التقدير كل ذلك كائن في أربعة أيام فيكون قوله: ﴿فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ﴾ من قبيل الفذلكة كأنه قيل: خلق الأرض في يومين و أقواتها و غير ذلك في يومين فكل ذلك في أربعة أيام.
قالوا: و إنما لم يجز حمل الآية على أن جعل الرواسي و ما ذكر عقيبه أو تقدير الأقوات في أربعة أيام لأن لازمه كون خلق الأرض و ما فيها في ستة أيام و قد ذكر بعده أن السماوات خلقت في يومين فيكون المجموع ثمانية أيام و قد تكرر في كلامه تعالى أنه خلق السماوات و الأرض في ستة أيام فهذا هو الوجه في حمل الآية على أحد الوجوه السابقة على ما فيها من ارتكاب الحذف و التقدير.
و الإنصاف أن الآية أعني قوله: ﴿وَ قَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ﴾ ظاهرة في غير ما ذكروه و القرائن الحافة بها تؤيد كون المراد بها تقدير أقواتها في الفصول الأربعة التي يكونها ميل الشمس الشمالي و الجنوبي بحسب ظاهر الحس فالأيام الأربعة هي الفصول الأربعة.
و الذي ذكر في هذه الآيات من أيام خلق السماوات و الأرض أربعة أيام يومان لخلق الأرض و يومان لتسوية السماوات سبعا بعد كونها دخانا و أما أيام الأقوات فقد ذكرت أياما لتقديرها لا لخلقها، و ما تكرر في كلامه تعالى هو خلق السماوات و الأرض في ستة أيام لا مجموع خلقها و تقدير أمرها فالحق أن الظرف قيد للجملة الأخيرة فقط و لا حذف و لا تقدير في الآية و المراد بيان تقدير أقوات الأرض و أرزاقها في الفصول الأربعة من السنة.
و قوله: ﴿سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ﴾ مفعول مطلق لفعل مقدر أي استوت الأقوات المقدرة استواء للسائلين أو حال من الأقوات أي قدرها حال كونها مستوية للسائلين يقتاتون بها جميعا و تكفيهم من دون زيادة أو نقيصة.
و السائلون هم أنواع النبات و الحيوان و الإنسان فإنهم محتاجون في بقائهم إلى الأرزاق و الأقوات فهم سائلون ربهم[1] قال تعالى﴿يَسْئَلُهُ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ ﴾الرحمن: - ٢٩، و قال﴿وَ آتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ﴾ إبراهيم: - ٣٤.
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ اِسْتَوىَ إِلَى اَلسَّمَاءِ وَ هِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَ لِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾
الاستواء على ما ذكره الراغب إذا عدي بعلى أفاد معنى الاستيلاء نحو ﴿اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوىَ﴾، و إذا عدي بإلى أفاد معنى الانتهاء إليه.
و أيضا في المفردات، أن الكره بفتح الكاف المشتقة التي تنال الإنسان من خارج فيما يحمل عليه بإكراه، و الكره بضم الكاف ما تناله من ذاته و هو يعافه.
فقوله: ﴿ثُمَّ اِسْتَوىَ إِلَى اَلسَّمَاءِ﴾ أي توجه إليها و قصدها بالخلق دون القصد المكاني الذي لا يتم إلا بانتقال القاصد من مكان إلى مكان و من جهة إلى جهة لتنزهه تعالى على ذلك.
و ظاهر العطف بثم تأخر خلق السماوات عن الأرض لكن قيل: إن ﴿ثُمَّ﴾ لإفادة التراخي بحسب الخبر لا بحسب الوجود و التحقق و يؤيده قوله تعالى﴿أَمِ اَلسَّمَاءُ بَنَاهَا ﴾إلى أن قال ﴿وَ اَلْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَ مَرْعَاهَا وَ اَلْجِبَالَ أَرْسَاهَا﴾ النازعات: - ٣٢ فإنه يفيد تأخر الأرض عن السماء خلقا.
و الاعتراض عليه بأن مفاده تأخر دحو الأرض عن بناء السماء و دحوها غير خلقها مدفوع بأن الأرض كروية فليس دحوها و بسطها غير تسويتها كرة و هو خلقها على أنه تعالى أشار بعد ذكر دحو الأرض إلى إخراج مائها و مرعاها و إرساء جبالها و هذه بعينها جعل الرواسي من فوقها و المباركة فيها و تقدير أقواتها التي ذكرها في الآيات التي نحن فيها مع خلق الأرض و عطف عليها خلق السماء بثم فلا مناص عن حمل ثم على غير التراخي الزماني فإن قوله في آية النازعات: ﴿بَعْدَ ذَلِكَ﴾ أظهر في التراخي الزماني من لفظة ﴿ثُمَّ﴾ فيه في آية حم السجدة و الله أعلم.
و قوله: ﴿وَ هِيَ دُخَانٌ﴾ حال من السماء أي استوى إلى السماء بالخلق حال كونها شيئا سماه الله دخانا و هو مادتها التي ألبسها الصورة و قضاها سبع سماوات بعد ما لم تكن معدودة متميزا بعضها من بعض، و لذا أفرد السماء فقال: ﴿اِسْتَوىَ إِلَى اَلسَّمَاءِ﴾.
و قوله: ﴿فَقَالَ لَهَا وَ لِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً﴾ تفريع على استوائه إلى السماء و المورد مورد التكوين بلا شك فقوله لها و للأرض: ﴿اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً﴾ كلمة إيجاد و أمر تكويني كقوله لشيء أراد وجوده: كن، قال تعالى﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ﴾ يس: - ٨٣.
و مجموع قوله لهما: ﴿اِئْتِيَا﴾ إلخ و قولهما له: ﴿أَتَيْنَا﴾ إلخ تمثيل لصفة الإيجاد و التكوين على الفهم الساذج العرفي و حقيقة تحليلية بناء على ما يستفاد من كلامه تعالى من سراية العلم في الموجودات و كون تكليم كل شيء بحسب ما يناسب حاله، و قد أوردنا بعض الكلام فيه فيما تقدم من المباحث، و سيجيء شطر من الكلام فيه في تفسير قوله﴿:
«قَالُوا أَنْطَقَنَا اَللَّهُ اَلَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ الآية - ٢١ من السورة إن شاء الله.
و قول بعضهم: إن المراد بقوله: ﴿اِئْتِيَا﴾ إلخ أمرهما بإظهار ما فيهما من الآثار و المنافع دون الأمر بأن توجدا و تكونا مدفوع بأن تكون السماء مذكور فيما بعد و لا معنى لتقديم الأمر بإظهار الآثار و المنافع قبل ذكر التكون.
و في قوله: ﴿اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً﴾ إيجاب الإتيان عليهما و تخييرهما بين أن تفعلا ذلك بطوع أو كره، و لعل المراد بالطوع و الكره - و هما بوجه قبول الفعل و نوع ملاءمة و عدمه هو الاستعداد السابق للكون و عدمه فيكون قوله: ﴿اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً﴾ كناية عن وجوب إتيانهما بلا مناص و أنه أمر لا يتخلف البتة أرادتا أو كرهتا سألتاه أو لم تسألا فأجابتا أنهما يمتثلان الأمر عن استعداد سابق و قبول ذاتي و سؤال فطري إذ قالتا: ﴿أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾.
و قول بعضهم: إن قوله: ﴿طَوْعاً أَوْ كَرْهاً﴾ تمثيل لتحتم تأثير قدرته تعالى فيهما و استحالة امتناعهما من ذلك لا إثبات الطوع و الكره لهما. مدفوع بقوله بعد:
﴿قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾ إذ لو كان الترديد المذكور تمثيلا فقط من غير إثبات كما ذكره لم يكن لإثبات الطوع في الجواب وجه.
و قوله: ﴿قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾ جواب السماء و الأرض لخطابه تعالى باختيار الطوع، و التعبير باللفظ الخاص بأولي العقل طائعين لمكان المخاطبة و الجواب و هما من خواص أولي العقل، و التعبير بلفظ الجمع دون أن تقولا: أتينا طائعتين لعله تواضع منهما بعد أنفسهما غير متميزة من سائر مخلوقاته تعالى المطيعة لأمره فأجابتا عن لسان الجميع، نظير ما قيل في قوله تعالى﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ الحمد: - ٥.
ثم إن تشريك الأرض مع السماء في خطاب ﴿اِئْتِيَا﴾ إلخ مع ذكر خلقها و تدبير أمرها قبلا لا يخلو من إشعار بأن بينهما نوع ارتباط في الوجود و اتصال في النظام الجاري
فيهما و هو كذلك فإن الفعل و الانفعال و التأثير و التأثر دائر بين أجزاء العالم المشهود.
و في قوله: ﴿فَقَالَ لَهَا وَ لِلْأَرْضِ﴾ تلويح على أي حال إلى كون ﴿ثُمَّ﴾ في قوله:
﴿ثُمَّ اِسْتَوىَ﴾ للتراخي بحسب رتبة الكلام.
قوله تعالى: ﴿فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَ أَوْحىَ فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا﴾ الأصل في معنى القضاء فصل الأمر، و ضمير ﴿فَقَضَاهُنَّ﴾ للسماء على المعنى، و ﴿سَبْعَ سَمَاوَاتٍ﴾ حال من الضمير و ﴿فِي يَوْمَيْنِ﴾ متعلق بقضاهن فتفيد الجملة أن السماء لما استوى سبحانه إليها و هي دخان كان أمرها مبهما غير مشخص من حيث فعلية الوجود ففصل تعالى أمرها بجعلها سبع سماوات في يومين.
و قيل: إن القضاء في الآية مضمن معنى التصيير و ﴿سَبْعَ سَمَاوَاتٍ﴾ مفعوله الثاني، و قيل فيها وجوه أخر لا يهمنا إيرادها.
و الآية و ما قبلها ناظرة إلى تفصيل ما أجمل في قوله﴿أَ وَ لَمْ يَرَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا﴾ الأنبياء: - ٣٠.
و قوله: ﴿وَ أَوْحىَ فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا﴾ قيل: المراد بأمر السماء ما تستعد له أو تقتضيه الحكمة فيها من وجود ملك أو كوكب و ما أشبه ذلك، و الوحي هو الخلق و الإيجاد، و الجملة معطوفة على قوله: ﴿فَقَضَاهُنَّ﴾ مقيدة بالوقت المذكور للمعطوف عليه، و المعنى و خلق في كل سماء ما فيها من الملائكة و الكواكب و غيرها.
و أنت خبير بأن إرادة الخلق من الوحي و أمثال الملك و الكوكب من الأمر تحتاج إلى عناية زائدة لا تثبت إلا بدليل بين، و كذا تقيد الجملة المعطوفة بالوقت المذكور في المعطوف عليها.
و قيل: المراد بالأمر التكليف الإلهي المتوجه إلى أهل كل سماء من الملائكة و الوحي بمعناه المعروف و المعنى و أوحى إلى أهل كل سماء من الملائكة ما أمرهم به من العبادة.
و فيه أن ظاهر الآية و قد قال تعالى: ﴿فِي كُلِّ سَمَاءٍ﴾ و لم يقل: إلى كل سماء لا يوافقه تلك الموافقة.
و قيل: المراد بأمرها ما أراده الله منها، و هذا الوجه في الحقيقة راجع إلى أحد
الوجهين السابقين فإن أريد بالوحي الخلق و الإيجاد رجع إلى أول الوجهين و إن أريد به معناه المعروف رجع إلى ثانيهما.
و الذي وقع في كلامه تعالى من الأمر المتعلق بوجه بالسماء يلوح إلى معنى أدق مما ذكروه فقد قال تعالى﴿يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ مِنَ اَلسَّمَاءِ إِلَى اَلْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ﴾ الم السجدة: - ٥، و قال﴿اَللَّهُ اَلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَ مِنَ اَلْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ اَلْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ﴾ الطلاق: - ١٢، و قال﴿وَ لَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَ مَا كُنَّا عَنِ اَلْخَلْقِ غَافِلِينَ﴾ المؤمنون: - ١٧.
دلت الآية الأولى على أن السماء مبدأ لأمره تعالى النازل إلى الأرض بوجه و الثانية على أن الأمر يتنزل بين السماوات من سماء إلى سماء حتى ينتهي إلى الأرض، و الثالثة على أن السماوات طرائق لسلوك الأمر من عند ذي العرش أو لسلوك الملائكة الحاملين للأمر إلى الأرض كما يشير إليه قوله﴿تَنَزَّلُ اَلْمَلاَئِكَةُ وَ اَلرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ﴾ القدر: - ٤، و قوله﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ الدخان: - ٤.
و لو كان المراد بالأمر أمره تعالى التكويني و هو كلمة الإيجاد كما يستفاد من قوله﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ﴾ يس: - ٨٢، أفادت الآيات بانضمام بعضها إلى بعض أن الأمر الإلهي الذي مضيه في العالم الأرضي هو خلق الأشياء و حدوث الحوادث تحمله الملائكة من عند ذي العرش تعالى و تسلك في تنزيله طرق السماوات فتنزله من سماء إلى سماء حتى تنتهي به إلى الأرض.
و إنما تحمله ملائكة كل سماء إلى من دونهم كما يستفاد من قوله﴿حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَا ذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا اَلْحَقَّ وَ هُوَ اَلْعَلِيُّ اَلْكَبِيرُ﴾ سبأ: - ٢٣ و قد تقدم الكلام فيه و السماوات مساكن الملائكة كما يستفاد من قوله﴿وَ كَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي اَلسَّمَاوَاتِ ﴾النجم: - ٢٦، و قوله﴿لاَ يَسَّمَّعُونَ إِلَى اَلْمَلَإِ اَلْأَعْلىَ وَ يُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ﴾ الصافات: - ٨.
فللأمر نسبة إلى كل سماء باعتبار الملائكة الساكنين فيها، و نسبة إلى كل قبيل من الملائكة الحاملين له باعتبار تحميله لهم و هو وحيه إليهم فإن الله سبحانه سماه قولا كما قال﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ﴾ النحل: - ٤٠.
فتحصل بما مر أن معنى قوله: ﴿وَ أَوْحىَ فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا﴾ أوحى في كل
سماء إلى أهلها من الملائكة الأمر الإلهي. المنسوب إلى تلك السماء المتعلق بها، و أما كون اليومين المذكورين في الآية ظرفا لهذا الوحي كما هما ظرف لخلق السماوات سبعا فلا دليل عليه من لفظ الآية.
قوله تعالى: ﴿وَ زَيَّنَّا اَلسَّمَاءَ اَلدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَ حِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ اَلْعَزِيزِ اَلْعَلِيمِ﴾ توصيف هذه السماء بالدنيا للدلالة على أنها أقرب السماوات من الأرض و هي طباق بعضها فوق بعض كما قال﴿خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً﴾ الملك: - ٣.
و الظاهر من معنى تزيينها بمصابيح و هي الكواكب كما قال﴿إِنَّا زَيَّنَّا اَلسَّمَاءَ اَلدُّنْيَا بِزِينَةٍ اَلْكَوَاكِبِ﴾ الصافات: - ٦ أن الكواكب في السماء الدنيا أو دونها كالقناديل المعلقة و لو كانت متفرقة في جميع السماوات من غير حجب بعضها بعضا لكون السماوات شفافة كما قيل كانت زينة لجميعها و لم تختص الزينة ببعضها كما يفيده السياق فلا وجه لقول القائل: إنها في الجميع لكن لكونها ترى متلألئة على السماء الدنيا عدت زينة لها.
و أما قوله﴿أَ لَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اَللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً وَ جَعَلَ اَلْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَ جَعَلَ اَلشَّمْسَ سِرَاجاً﴾ نوح: - ١٦ فهو بالنسبة إلينا معاشر المستضيئين بالليل و النهار كقوله﴿وَ جَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً﴾ النبأ: - ١٣.
و قوله: ﴿وَ حِفْظاً﴾ أي و حفظناها من الشياطين حفظا كما قال﴿وَ حَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ إِلاَّ مَنِ اِسْتَرَقَ اَلسَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ﴾ الحجر: - ١٨.
و قوله: ﴿ذَلِكَ تَقْدِيرُ اَلْعَزِيزِ اَلْعَلِيمِ﴾ إشارة إلى ما تقدم من النظم و الترتيب.
(كلام فيه تتميم) في معنى السماء.
قد تحصل مما تقدم:
أولا: أن المستفاد من ظاهر الآيات الكريمة و ليست بنص أن السماء الدنيا من هذه السبع هي عالم النجوم و الكواكب فوقنا.
و ثانيا: أن هذه السماوات السبع المذكورة جميعا من الخلق الجسماني فكأنها طبقات
سبع متطابقة من عالم الأجسام أقربها منا عالم النجوم و الكواكب، و لم يصف القرآن شيئا من السماوات الست الباقية دون أن ذكر أنها طباق.
و ثالثا: أن ليس المراد بالسماوات السبع الأجرام العلوية أو خصوص بعضها كالشمس و القمر أو غيرهما.
و رابعا: أن ما ورد من كون السماوات مساكن للملائكة و أنهم ينزلون منها بأمر الله حاملين له و يعرجون إليها بكتب الأعمال، و أن للسماء أبوابا لا تفتح للكفار و أن الأشياء و الأرزاق تنزل منها و غير ذلك مما تشير إليه متفرقات الآيات و الروايات يكشف عن أن لهذه الأمور نوع تعلق بهذه السماوات لا كتعلق ما نراه من الأجسام بمحالها و أماكنها الجسمانية الموجبة لحكومة النظام المادي فيها و تسرب التغير و التبدل و الدثور و الفتور إليها.
و ذلك أن من الضروري اليوم أن لهذه الأجرام العلوية كائنة ما كانت كينونة عنصرية جسمانية تجري فيها نظائر الأحكام و الآثار الجارية في عالمنا الأرضي العنصري و النظام الذي يثبت للسماء و أهلها و الأمور الجارية فيها مما أشرنا إليه يباين هذا النظام العنصري المشهود. أضف إلى ذلك ما ورد أن الملائكة خلقوا من نور، و أن غذاءهم التسبيح، و ما ورد من توصيف خلقهم، و ما ورد في توصيف خلق السماوات و ما خلق فيها إلى غير ذلك.
فللملائكة عوالم ملكوتية سبعة مترتبة سميت سماوات سبعا و نسبت ما لها من الخواص و الآثار إلى ظاهر هذه السماوات بلحاظ ما لها من العلو و الإحاطة بالنسبة إلى الأرض تسهيلا للفهم الساذج.
(بحث روائي)
في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و عبد بن حميد و أبو يعلى و الحاكم و صححه و ابن مردويه و أبو نعيم و البيهقي كلاهما في الدلائل و ابن عساكر عن جابر بن عبد الله قال: اجتمع قريش يوما فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر و الكهانة و الشعر فليأت هذا الرجل الذي قد فرق جماعتنا، و شتت أمرنا و عاب ديننا فليكلمه و لينظر ما ذا يرد
عليه؟ فقالوا: ما نعلم أحدا غير عتبة بن ربيعة قالوا: أنت يا أبا الوليد .
فأتاه فقال: يا محمد أنت خير أم عبد الله؟ أنت خير أم عبد المطلب؟ فسكت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: فإن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي عبدت و إن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى نسمع منك .
أما و الله ما رأينا سلحة قط أشأم على قومك منك فرقت جماعتنا، و شتت أمرنا و عبت ديننا، و فضحتنا في العرب حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحرا، و أن في قريش كاهنا و الله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف. يا أيها الرجل إن كان نما بك الحاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلا واحدا و إن كان نما بك الباءة فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوجك عشرا .
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : فرغت؟ قال: نعم. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) :
﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ حم تَنْزِيلٌ مِنَ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ حتى بلغ ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَ ثَمُودَ﴾.
فقال عتبة: حسبك. ما عندك غير هذا؟ قال: لا فرجع إلى قريش فقالوا:
ما وراءك؟ قال: ما تركت شيئا أرى أنكم تكلمون به إلا كلمته - قالوا: فهل أجابك؟ قال: و الذي نصبها بنية ما فهمت شيئا مما قال - غير أنه قال: ﴿أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَ ثَمُودَ﴾ قالوا: ويلك يكلمك الرجل بالعربية و ما تدري ما قال؟ قال:
لا و الله ما فهمت شيئا مما قال غير ذكر الصاعقة.:
أقول: و رواه عن عدة من الكتب قريبا منه، و في بعض الطرق: قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: و الله إني قد سمعت قولا ما سمعت بمثله قط، و الله ما هو بالشعر و لا بالسحر و لا بالكهانة، و الله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ، و في بعضها غير ذلك.
و في تلاوته (ص) آيات أول السورة على الوليد بن المغيرة رواية أخرى ستوافيك إن شاء الله في تفسير سورة المدثر في ذيل قوله تعالى: ﴿ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً﴾ الآيات.
و فيه، أخرج ابن جرير عن أبي بكر قال: جاء اليهود إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقالوا: يا محمد أخبرنا ما خلق الله من الخلق في هذه الأيام الستة؟ فقال: خلق الله
الأرض يوم الأحد و الإثنين، و خلق الجبال يوم الثلاثاء، و خلق المدائن و الأقوات و الأنهار و عمرانها و خرابها يوم الأربعاء، و خلق السماوات و الملائكة يوم الخميس إلى ثلاث ساعات يعني من يوم الجمعة، و خلق في أول ساعة الآجال و في الثانية الآفة و في الثالثة آدم. قالوا: صدقت إن تممت فعرف النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ما يريدون فغضب فأنزل الله ﴿وَ مَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ فَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ﴾.
أقول: و روي ما يقرب منه عن ابن عباس و عبد الله بن سلام و عن عكرمة و غيره و قد ورد في بعض أخبار الشيعة، و قوله: قالوا: صدقت إن تممت أي تممت كلامك في الخلق بأن تقول: إنه تعالى فرغ من الخلق يوم السبت و استراح فيه.
و الروايات لا تخلو من شيء:
أما أولا: فمن جهة اشتمالها على تصديق اليهود ما ذكر فيها من ترتيب الخلق و هو مخالف لما ورد في أول سفر التكوين من التوراة مخالفة صريحة ففيها أنه خلق النور و الظلمة النهار و الليل يوم الأحد، و خلق السماء يوم الإثنين، و خلق الأرض و البحار و النبات يوم الثلاثاء و خلق الشمس و القمر و النجوم يوم الأربعاء و خلق دواب البحر و الطير يوم الخميس، و خلق حيوان البر و الإنسان يوم الجمعة و فرغ من الخلق يوم السبت و استراح فيه، و القول بأن التوراة الحاضرة غير ما كان في عهد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كما ترى.
و أما ثانيا: فلأن اليوم من الأسبوع و هو نهار مع ليلته يتوقف في كينونته على حركة الأرض الوضعية دورة واحدة قبال الشمس فما معنى خلق الأرض في يومين و لم يخلق السماء و السماويات بعد و لا تمت الأرض كرة متحركة؟ و نظير الإشكال جار في خلق السماء و السماويات و منها الشمس و لا يوم حيث لا شمس بعد.
و أما ثالثا: فلأنه عد فيها يوم لخلق الجبال و قد جزم الفحص العلمي بأنها تخلق تدريجا، و نظير الإشكال جار في خلق المدائن و الأنهار و الأقوات.
و في روضة الكافي، بإسناده عن محمد بن عطية عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال: و خلق الشيء الذي جميع الأشياء منه و هو الماء الذي خلق الأشياء منه فجعل نسب كل شيء إلى الماء و لم يجعل للماء نسبا يضاف إليه، و خلق الريح من الماء .
ثم سلط الريح على الماء فشققت الريح متن الماء حتى ثار من الماء زبد على قدر
ما شاء أن يثور فخلق من ذلك الزبد أرضا بيضاء نقية ليس فيها صدع و لا ثقب و لا صعود و لا هبوط و لا شجرة ثم طواها فوضعها فوق الماء .
ثم خلق الله النار من الماء فشققت النار متن الماء حتى ثار من الماء دخان على قدر ما شاء الله أن يثور فخلق من ذلك الدخان سماء صافية نقية ليس فيها صدع و لا ثقب و ذلك قوله: ﴿اَلسَّمَاءُ بَنَاهَا﴾. أقول: و في هذه المعنى بعض روايات أخر، و يمكن تطبيق ما في الرواية و كذا مضامين الآيات على ما تسلمته الأبحاث العلمية اليوم في خلق العالم و هيئته غير أنا تركنا ذلك احترازا من تحديد الحقائق القرآنية بالأحداس و الفرضيات العلمية ما دامت فرضية غير مقطوع بها من طريق البرهان العلمي.
و في نهج البلاغة،: فمن شواهد خلقه خلق السماوات موطدات بلا عمد قائمات بلا سند، دعاهن فأجبن طائعات مذعنات غير متلكئات و لا مبطئات، و لو لا إقرارهن له بالربوبية، و إذعانهن له بالطواعية لما جعلهن موضعا لعرشه، و لا مسكنا لملائكته و لا مصعدا للكلم الطيب و العمل الصالح من خلقه.
و في كمال الدين، بإسناده إلى فضيل الرسان قال: كتب محمد بن إبراهيم إلى أبي عبد الله (عليه السلام) : أخبرنا ما فضلكم أهل البيت؟ فكتب إليه أبو عبد الله (عليه السلام) : إن الكواكب جعلت أمانا لأهل السماء فإذا ذهبت نجوم السماء جاء أهل السماء ما كانوا يوعدون، و قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : جعل أهل بيتي أمانا لأمتي فإذا ذهب أهل بيتي جاء أمتي ما كانوا يوعدون.
أقول: و ورد هذا المعنى في غير واحد من الروايات.
و في البحار، عن كتاب الغارات بإسناده عن ابن نباتة قال: سئل أمير المؤمنين (عليه السلام) كم بين السماء و الأرض؟ قال: مد البصر و دعوة المظلوم. أقول: و هو من لطائف كلامه (عليه السلام) يشير به إلى ظاهر السماء و باطنها كما تقدم.
[سورة فصلت (٤١): الآیات ١٣ الی ٢٥]
﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَ ثَمُودَ ١٣
إِذْ جَاءَتْهُمُ اَلرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اَللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلاَئِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ١٤ فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي اَلْأَرْضِ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ وَ قَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اَللَّهَ اَلَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ١٥ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ اَلْخِزْيِ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ لَعَذَابُ اَلْآخِرَةِ أَخْزى وَ هُمْ لاَ يُنْصَرُونَ ١٦ وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا اَلْعَمى عَلَى اَلْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ اَلْعَذَابِ اَلْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ١٧ وَ نَجَّيْنَا اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ كَانُوا يَتَّقُونَ ١٨ وَ يَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اَللَّهِ إِلَى اَلنَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ١٩ حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصَارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ٢٠ وَ قَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اَللَّهُ اَلَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَ هُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ٢١ وَ مَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَ لاَ أَبْصَارُكُمْ وَ لاَ جُلُودُكُمْ وَ لَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اَللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ ٢٢ وَ ذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ اَلَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ
أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ اَلْخَاسِرِينَ ٢٣ فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَ إِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ اَلْمُعْتَبِينَ ٢٤ وَ قَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ مَا خَلْفَهُمْ وَ حَقَّ عَلَيْهِمُ اَلْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ ٢٥﴾
(بيان)
الآيات تتضمن الإنذار بالعذاب الدنيوي الذي ابتليت به عاد و ثمود بكفرهم بالرسل و جحدهم لآيات الله، و بالعذاب الأخروي الذي سيبتلى به أعداء الله من أهل الجحود الذين حقت عليهم كلمة العذاب، و فيها إشارة إلى كيفية إضلالهم في الدنيا و إلى استنطاق أعضائهم في الآخرة.
قوله تعالى: ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَ ثَمُودَ﴾ قال في المجمع،: الصاعقة المهلكة من كل شيء انتهى، و قال الراغب: قال بعض أهل اللغة:
الصاعقة على ثلاثة أوجه: الموت كقوله: ﴿فَصَعِقَ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ﴾ و قوله: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ اَلصَّاعِقَةُ﴾ و العذاب كقوله: ﴿أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَ ثَمُودَ﴾ و النار كقوله:
﴿وَ يُرْسِلُ اَلصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ﴾ و ما ذكره فهو أشياء حاصلة من الصاعقة فإن الصاعقة هي الصوت الشديد من الجو ثم يكون نار فقط أو عذاب أو موت و هي في ذاتها شيء واحد، و هذه الأشياء تأثيرات منها. انتهى.
و على ما مر تنطبق الصاعقة على عذابي عاد و ثمود و هما الريح و الصيحة، و التعبير بالماضي في قوله: ﴿أَنْذَرْتُكُمْ﴾ للدلالة على التحقق و الوقوع.
قوله تعالى: ﴿إِذْ جَاءَتْهُمُ اَلرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اَللَّهَ﴾ إلخ ظرف للصاعقة الثانية فإن الإنذار بالصاعقة بالحقيقة إنذار بوقوعها و حلولها فالمعنى مثل حلول صاعقة عاد و ثمود إذ جاءتهم إلخ.
و نسبة المجيء إلى الرسل و هو جمع - مع أن الذي ذكر في قصتهم رسولان هما هود و صالح - باعتبار أن الرسل دعوتهم واحدة و المبعوث منهم إلى قوم مبعوث لآخرين
و كذا القوم المكذبون لأحدهم مكذبون لآخرين قال تعالى﴿كَذَّبَتْ عَادٌ اَلْمُرْسَلِينَ ﴾الشعراء: - ١٢٣ و قال﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ اَلْمُرْسَلِينَ﴾ الشعراء: - ١٤١، و قال﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ اَلْمُرْسَلِينَ﴾ الشعراء: - ١٦٠ إلى غير ذلك.
و قول بعضهم: إن إطلاق الرسل و هو جمع على هود و صالح (عليه السلام) و هما اثنان من إطلاق الجمع على ما دون الثلاثة و هو شائع، و من هذا القبيل إرجاع ضمير الجمع في قوله: ﴿إِذْ جَاءَتْهُمُ﴾ إلى عاد و ثمود.
ممنوع بما تقدم، و أما إرجاع ضمير الجمع إلى عاد و ثمود فإنما هو لكون مجموع الجمعين جمعا مثلهما.
و قوله: ﴿مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ﴾ أي من جميع الجهات فاستعمال هاتين الجهتين في جميع الجهات شائع، و جوز أن يكون المراد به الماضي و المستقبل فقوله: ﴿جَاءَتْهُمُ اَلرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ﴾ كناية عن دعوتهم لهم من جميع الطرق الممكنة خلوة و جلوة و فرادى و مجتمعين بالتبشير و الإنذار و لذلك فسر مجيئهم كذلك بعد بقوله:
﴿أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اَللَّهَ﴾ و هو التوحيد.
و قوله: ﴿قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلاَئِكَةً﴾ رد منهم لرسالتهم بأن الله لو شاء إرسال رسول إلينا لأرسل من الملائكة، و قد تقدم كرارا معنى قولهم هذا و أنه مبني على إنكارهم نبوة البشر.
و قوله: ﴿فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ﴾ تفريع على النفي المفهوم من الجملة السابقة أي فإذا لم يشأ و لم يرسل فإنا بما أرسلتم به و هو التوحيد كافرون.
قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي اَلْأَرْضِ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ﴾ إلخ رجوع إلى تفصيل حال من كل الفريقين على حدته، من كفرهم و وبال ذلك، و قوله: ﴿بِغَيْرِ اَلْحَقِّ﴾ قيد توضيحي للاستكبار في الأرض فإنه بغير الحق دائما، و الباقي ظاهر.
قوله تعالى: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ﴾ إلخ فسر الصرصر بالريح الشديدة السموم، و بالريح الشديدة البرد، و بالريح الشديدة الصوت و تلازم شدة الهبوب، و النحسات بكسر الحاء صفة مشبهة من نحس ينحس نحسا خلاف سعد فالأيام النحسات الأيام المشئومات.
و قيل: أيام نحسات أي ذوات الغبار و التراب لا يرى فيها بعضهم بعضا، و يؤيده قوله في سورة الأحقاف﴿فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اِسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ الأحقاف: - ٢٤.
و قوله: ﴿وَ هُمْ لاَ يُنْصَرُونَ﴾ أي لا منج ينجيهم و لا شفيع يشفع لهم.
و الباقي ظاهر.
قوله تعالى: ﴿وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا اَلْعَمىَ عَلَى اَلْهُدىَ﴾ إلخ المراد بهدايتهم إراءتهم الطريق و دلالتهم على الحق ببيان حق الاعتقاد و العمل لهم، و المراد بالاستحباب الإيثار و الاختيار، و لعله بالتضمين و لذا عدي إلى المفعول الثاني بعلى و المراد بالعمى الضلال استعارة، و في مقابله الهدى له إيماء إلى أن الهدى بصر كما أن الضلالة عمى، و الهون مصدر بمعنى الذل و توصيف العذاب به للمبالغة أو بحذف ذي و التقدير صاعقة العذاب ذي الهون.
و المعنى: و أما قوم ثمود فدللناهم على طريق الحق و عرفناهم الهدى بتمييزه من الضلال فاختاروا الضلال الذي هو عمى على الهدى الذي هو بصر فأخذتهم صيحة العذاب ذي المذلة أو أخذهم العذاب بناء على كون الصاعقة بمعنى العذاب و الإضافة بيانية بما كانوا يكسبون.
قوله تعالى: ﴿وَ نَجَّيْنَا اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ كَانُوا يَتَّقُونَ﴾ ضم التقوى إلى الإيمان معبرا عن التقوى بقوله: ﴿وَ كَانُوا يَتَّقُونَ﴾ الدال على الاستمرار للدلالة على جمعهم بين الإيمان و العمل الصالح و ذلك هو السبب لنجاتهم من عذاب الاستئصال على ما وعده الله بقوله﴿وَ كَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ اَلْمُؤْمِنِينَ﴾ الروم: - ٤٧.
و الظاهر أن الآية متعلقة بالقصتين جميعا متممة لهما و إن كان ظاهر المفسرين تعلقها بالقصة الثانية.
قوله تعالى: ﴿وَ يَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اَللَّهِ إِلَى اَلنَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾ الحشر إخراج الجماعة عن مقرهم و إزعاجهم عنه إلى الحرب و نحوها. كذا قال الراغب، و ﴿يُوزَعُونَ﴾ من الوزع و هو حبس أول القوم ليلحق بهم آخرهم فيجتمعوا.
قيل: المراد بحشرهم إلى النار إخراجهم إلى المحشر للسؤال و الحساب، و جعل
النار غاية لحشرهم لأن عاقبتهم إليها، و الدليل عليه ما ذكره من أمر شهادة الأعضاء فإنها في الموقف قبل الأمر بهم إلى النار.
و قيل: المراد حشرهم إلى النار نفسها و من الممكن أن يستشهد عليهم مرتين مرة في الموقف و مرة على شفير جهنم و هو كما ترى.
و المراد بأعداء الله على ما قيل المكذبون بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من مشركي قومه لا مطلق الكفار و الدليل عليه قوله الآتي: ﴿وَ حَقَّ عَلَيْهِمُ اَلْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ الآية.
قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصَارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ ﴿مَا﴾ في ﴿إِذَا مَا جَاؤُهَا﴾ زائد للتأكيد و الضمير للنار.
و شهادة الأعضاء أو القوى يوم القيامة ذكرها و إخبارها ما تحملته في الدنيا من معصية صاحبها فهي شهادة أداء لما تحملته، و لو لا التحمل في الدنيا حين العمل كما لو جعل الله لها شعورا و نطقا يوم القيامة فعلمت ثم أخبرت بما عملته أو أوجد الله عندها صوتا يفيد معنى الإخبار من غير شعور منها به لم يصدق عليه الشهادة، و لا تمت بذلك على العبد المنكر حجة و هو ظاهر.
و بذلك يظهر فساد قول بعضهم: إن الله يخلق يوم القيامة للأعضاء علما و قدرة على الكلام فتخبر بمعاصي صاحبيها و هو شهادتها و قول بعضهم: إنه يخلق عندها أصواتا في صورة كلام مدلوله الشهادة، و كذا قول بعضهم: إن معنى الشهادة دلالة الحال على صدور معصية كذائية منهم.
و ظاهر الآية أن شهادة السمع و البصر أداؤهما ما تحملاه و إن لم يكن معصية مأتيا بها بواسطتهما كشهادة السمع أنه سمع آيات الله تتلى عليه فأعرض عنها صاحبه أو أنه سمع صاحبه يتكلم بكلمة الكفر، و شهادة البصر أنه رأى الآيات الدالة على وحدانية الله تعالى فأعرض عنها صاحبه أو أنه رأى صاحبه يستمع إلى الغيبة أو سائر ما يحرم الإصغاء إليه فتكون الآية على حد قوله تعالى﴿إِنَّ اَلسَّمْعَ وَ اَلْبَصَرَ وَ اَلْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً﴾ إسراء: - ٣٦.
و على هذا يختلف السمع و الأبصار و الجلود فيما شهدت عليه فالسمع و الأبصار تشهد على معصية العبد و إن لم تكن بسببهما و الجلود تشهد على المعصية التي كانت هي آلات لها بالمباشرة، و هذا الفرق هو السبب لتخصيصهم الجلود بالخطاب في قولهم: ﴿لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا﴾ على ما سيجيء.
و المراد بالجلود على ظاهر إطلاق الآية مطلق الجلود و شهادتها على أنواع المعاصي التي تتم بالجلود من التمتعات المحرمة كالزنا و نحوه، و يمكن حينئذ أن تعمم الجلود بحيث تشمل شهادتها ما شهدت الأيدي و الأرجل المذكورة في قوله﴿اَلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلىَ أَفْوَاهِهِمْ وَ تُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ﴾ يس: - ٦٥ على بعد.
و قيل: المراد بالجلود الفروج و قد كني بها عنها تأدبا.
قوله تعالى: ﴿وَ قَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا﴾ اعتراض و عتاب منهم لجلودهم في شهادتها عليهم، و قيل: الاستفهام للتعجب فهو سؤال عن السبب لرفع التعجب و إنما خصوها بالسؤال دون سمعهم و أبصارهم مع اشتراكها في الشهادة لأن الجلود شهدت على ما كانت هي بنفسها أسبابا و آلات مباشرة له بخلاف السمع و الأبصار فإنها كسائر الشهداء تشهد بما ارتكبه غيرها.
و قيل: تخصيص الجلود بالذكر تقريع لهم و زيادة تشنيع و فضاحة و خاصة لو كان المراد بالجلود الفروج و قيل غير ذلك.
قوله تعالى: ﴿قَالُوا أَنْطَقَنَا اَللَّهُ اَلَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ إلخ إرجاع ضمير أولي العقل إلى الجوارح لمكان نسبة الشهادة و النطق إليها و ذلك من شئون أولي العقل.
و المتيقن من معنى النطق إذا استعمل على الحقيقة من غير تجوز هو إظهار ما في الضمير من طريق التكلم فيتوقف على علم و كشفه لغيره، قال الراغب: و لا يكاد يستعمل النطق في غير الإنسان إلا تبعا و بنوع من التشبيه و ظاهر سياق الآيات و ما فيها من ألفاظ القول و التكلم و الشهادة و النطق أن المراد بالنطق ما هو حقيقة معناه.
فشهادة الأعضاء على المجرمين كانت نطقا و تكلما حقيقة عن علم تحملته سابقا بدليل قولها: ﴿أَنْطَقَنَا اَللَّهُ﴾. ثم إن قولها: ﴿أَنْطَقَنَا اَللَّهُ﴾ جوابا عن قول المجرمين:
﴿لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا﴾؟ إراءة منها للسبب الذي أوجب نطقها و كشف عن العلم المدخر عندها المكنون في ضميرها فهي ملجؤه إلى التكلم و النطق، و لا يضر ذلك نفوذ شهادتها و تمام الحجة بذلك فإنها إنما ألجئت إلى الكشف عما في ضميرها لا على الستر عليه و الإخبار بخلافه كذبا و زورا حتى ينافي جواز الشهادة و تمام الحجة.
و قوله: ﴿اَلَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ توصيف لله سبحانه و إشارة إلى أن النطق ليس مختصا بالأعضاء حتى تختص هي بالسؤال بل هو عام شامل لكل شيء و السبب الموجب له هو الله سبحانه.
و قوله: ﴿وَ هُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ من تتمة الكلام السابق أو هو من كلامه، و هو احتجاج على علمه بأعمالهم و قد أنطق الجوارح بما علم.
يقول: إن وجودكم يبتدئ منه تعالى و ينتهي إليه تعالى فعند ما تظهرون من كتم العدم و هو خلقكم أول مرة يعطيكم الوجود و يملككم الصفات و الأفعال فتنسب إليكم ثم ترجعون و تنتهون إليه فيرجع ما عندكم من ظاهر الملك الموهوب إليه فلا يبقى ملك إلا و هو لله سبحانه.
فهو سبحانه المالك لجميع ما عندكم أولا و آخرا فما عندكم من شيء في أول وجودكم هو الذي أعطاكموه و ملكه لكم و هو أعلم بما أعطى و أودع، و ما عندكم من شيء حينما ترجعون إليه هو الذي يقبضه منكم إليه و يملكه فكيف لا يعلمه، و انكشافه له سبحانه حينما يرجع إليه إنطاقه لكم و شهادتكم على أنفسكم عنده.
و بما مر من البيان يظهر وجه تقييد قوله: ﴿وَ هُوَ خَلَقَكُمْ﴾ بقوله: ﴿أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ فالمراد به أول وجودهم.
و لهم في قوله: ﴿قَالُوا أَنْطَقَنَا اَللَّهُ﴾ في معنى الإنطاق نظائر ما تقدم في قوله:
﴿شَهِدَ عَلَيْهِمْ﴾ من الأقوال فمن قائل: إن الله يخلق لهم يومئذ العلم و القدرة على النطق فينطقون، و من قائل: إنه يخلق عند الأعضاء أصواتا شبيهة بنطق الناطقين و هو المراد بنطقهم، و من قائل: إن المراد بالنطق دلالة ظاهر الحال على ذلك.
و كذا في عموم قوله: ﴿أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ فقيل: هو مخصص بكل حي نطق إذ
ليس كل شيء و لا كل حي ينطق بالنطق الحقيقي و مثل هذا التخصيص شائع و منه قوله تعالى في الريح المرسلة إلى عاد﴿ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ﴾ الأحقاف: - ٢٥.
و قيل: النطق في ﴿أَنْطَقَنَا﴾ بمعناه الحقيقي و في قوله: ﴿أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ بمعنى الدلالة فيبقى الإطلاق على حاله.
و يرد عليهما أن تخصيص الآية أو حملها على المعنى المجازي مبني على تسلم كون غير ما نعده من الأشياء حيا ناطقا كالإنسان و الحيوان و الملك و الجن فاقدا للعلم و النطق على ما نراه من حالها.
لكن لا دليل على فقدان الأشياء غير ما استثنيناه للشعور و الإرادة سوى أنا في حجاب من بطون ذواتها لا طريق لنا إلى الاطلاع على حقيقة حالها، و الآيات القرآنية و خاصة الآيات المتعرضة لشئون يوم القيامة ظاهرة في عموم العلم.
(بحث إجمالي قرآني في سراية العلم).
كررنا الإشارة في الأبحاث المتقدمة إلى أن الظاهر من كلامه تعالى أن العلم صار في الموجودات عامة كما تقدم في تفسير قوله تعالى﴿وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ إسراء: - ٤٤ فإن قوله: ﴿وَ لَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ﴾ نعم الدليل على كون التسبيح منهم عن علم و إرادة لا بلسان الحال.
و من هذا القبيل قوله: ﴿فَقَالَ لَهَا وَ لِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾ و قد تقدم تفسيره في السورة.
و من هذا القبيل قوله﴿وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اَللَّهِ مَنْ لاَ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلىَ يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ وَ هُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَ إِذَا حُشِرَ اَلنَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَ كَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ﴾ الأحقاف: - ٦ فالمراد بمن لا يستجيب الأصنام فقط أو هي و غيرها، و قوله﴿ يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحىَ لَهَا﴾ الزلزال: - ٥.
و من هذا القبيل الآيات الدالة على شهادة الأعضاء و نطقها و تكليمها لله و السؤال
منها و خاصة ما ورد في ذيل الآيات الماضية آنفا من قوله: ﴿أَنْطَقَنَا اَللَّهُ اَلَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ الآية.
لا يقال: لو كان غير الإنسان و الحيوان كالجماد و النبات ذا شعور و إرادة لبانت آثاره و ظهر منها ما يظهر من الإنسان و الحيوان من الأعمال العلمية و الأفعال و الانفعالات الشعورية.
لأنه يقال: لا دليل على كون العلم ذا سنخ واحد حتى تتشابه الآثار المترشحة منه فمن الممكن أن يكون ذا مراتب مختلفة تختلف باختلافها آثارها.
على أن الآثار و الأعمال العجيبة المتقنة المشهودة من النبات و سائر الأنواع الطبيعية في عالمنا هذا لا تقصر في إتقانها و نظمها و ترتيبها عن آثار الأحياء كالإنسان و الحيوان.
(بحث إجمالي فلسفي) في سراية العلم.
حقق في مباحث العلم من الفلسفة أن العلم و هو حضور شيء لشيء يساوق الوجود المجرد لكونه ما له من فعلية الكمال حاضرا عنده من غير قوة فكل وجود مجرد يمكنه أن يوجد حاضرا لمجرد غيره أو يوجد له مجرد غيره و ما أمكن لمجرد بالإمكان العام فهو له بالضرورة.
فكل عالم فهو مجرد و كذا كل معلوم و ينعكسان بعكس النقيض إلى أن المادة و ما تألف منها ليس بعالم و لا معلوم.
فالعلم يساوق الوجود المجرد، و الوجودات المادية لا يتعلق بها علم و لا لها علم بشيء لكن لها، على كونها مادية متغيرة متحركة لا تستقر على حال، ثبوتا من غير تغير و لا تحول لا ينقلب عما وقع عليه.
فلها من هذه الجهة تجرد و العلم سار فيها كما هو سار في المجردات المحضة العقلية و المثالية فافهم ذلك.
(بيان)
قوله تعالى: ﴿وَ مَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَ لاَ أَبْصَارُكُمْ وَ لاَ جُلُودُكُمْ﴾
إلخ لا شك أن الله سبحانه خالق كل شيء لا موجد غيره فلا يحول بين خلقه و بينه شيء و لا يحجب خلقه من حاجب فهو تعالى مع كل شيء أينما كان و كيفما كان قال تعالى﴿إِنَّ اَللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ الحج: - ١٧ و قال﴿وَ كَانَ اَللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً ﴾الأحزاب: - ٥٢.
فالإنسان أينما كان كان الله معه، و أي عمل عمله كان الله مع عمله، و أي عضو من أعضائه استعمله و أي سبب أو أداة أو طريق اتخذه لعمله كان مع ذلك العضو و السبب و الأداة و الطريق قال تعالى﴿وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ الحديد: - ٤، و قال﴿أَ فَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾ الرعد: - ٣٣، و قال﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾ الفجر: - ١٤.
و من هنا يستنتج أن الإنسان و هو جار في عمله واقع بين مراصد كثيرة يرصده من كل منها ربه و يرقبه و يشهده فمرتكب المعصية و هو متوغل في سيئته غافل عنه تعالى في جهل عظيم بمقام ربه و استهانة به سبحانه و هو يرصده و يرقبه.
و هذه الحقيقة هي التي تشير إليه الآية أعني قوله: ﴿وَ مَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ﴾ إلخ على ما يعطيه السياق.
فقوله: ﴿وَ مَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ﴾ نفي لاستتارهم و هم في المعاصي قبلا و هم في الدنيا و قوله: ﴿أَنْ يَشْهَدَ﴾ إلخ منصوب بنزع الخافض و التقدير من أن يشهد إلخ.
و قوله: ﴿وَ لَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اَللَّهَ لاَ يَعْلَمُ﴾ استدراك في معنى الإضراب عن محذوف يدل عليه صدر الآية، و التقدير و لم تظنوا أنها لا تعلم أعمالكم و لكن ظننتم إلخ و الآية تقريع و توبيخ للمشركين أو لمطلق المجرمين يوجه إليهم يوم القيامة من قبله تعالى.
و محصل المعنى و ما كنتم تستخفون في الدنيا عند المعاصي من شهادة أعضائكم التي تستعملونها في معصية الله و لم يكن ذلك لظنكم أنها لا إدراك فيها لعملكم بل لظنكم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون أي لم تستهينوا عند المعصية بشهادة أعضائكم و إنما استهنتم بشهادتنا.
فالاستدراك و معنى الإضراب في الآية نظير ما في قوله تعالى﴿وَ مَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لَكِنَّ اَللَّهَ رَمى﴾ الأنفال: - ١٧، و قوله﴿وَ مَا ظَلَمُونَا وَ لَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ
يَظْلِمُونَ﴾ البقرة: - ٥٧.
و قوله: ﴿كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ﴾ و لم يقل: لا يعلم ما تعملون و لعل ذلك لكونهم معتقدين بالله و بصفاته العليا التي منها العلم فهم يعتقدون فيه العلم في الجملة لكن حالهم في المعاصي حال من لا يرى علمه بكثير من أعماله.
و يستفاد من الآية أن شهادة الشهود شهادته تعالى بوجه قال تعالى﴿وَ لاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ﴾ يونس: - ٦١.
و لهم في توجيه معنى الآية أقوال أخر لا يساعد عليها السياق و لا تخلو من تكلف أضربنا عن التعرض لها.
قوله تعالى: ﴿وَ ذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ اَلَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ اَلْخَاسِرِينَ﴾ الإرداء من الردى بمعنى الهلاك، و ﴿ذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ﴾ مبتدأ و خبر و ﴿أَرْدَاكُمْ﴾ خبر بعد خبر، و يمكن أن يكون ﴿ظَنُّكُمُ﴾ بدلا من ﴿ذَلِكُمْ﴾.
و معنى الآية على الأول و ذلكم الظن الذي ذكر ظن ظننتموه لا يغني من الحق شيئا و العلم و الشهادة على حالها أهلككم ذلك الظن فأصبحتم من الخاسرين.
و على الثاني و ظنكم الذي ظننتم بربكم أنه لا يعلم كثيرا مما تعملون أهلككم إذ هون عليكم أمر المعاصي و أدى بكم إلى الكفر فأصبحتم من الخاسرين.
قوله تعالى: ﴿فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَ إِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ اَلْمُعْتَبِينَ﴾ في المفردات،: الثواء الإقامة مع الاستقرار. انتهى، و في المجمع، الاستعتاب طلب العتبى و هي الرضا و هو الاسترضاء، و الإعتاب الإرضاء، و أصل الإعتاب عند العرب استصلاح الجلد بإعادته في الدباغ ثم أستعير فيما يستعطف به البعض بعضا لإعادته ما كان من الألفة. انتهى.
و معنى الآية فإن يصبروا فالنار مأواهم و مستقرهم و إن يطلبوا الرضا و يعتذروا لينجوا من العذاب فليسوا ممن يرضى عنهم و يقبل أعتابهم و معذرتهم فالآية في معنى قوله﴿اِصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لاَ تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ﴾ الطور: - ١٦.
قوله تعالى: ﴿وَ قَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ مَا خَلْفَهُمْ﴾ إلى آخر
الآية. أصل التقييض كما في المجمع، التبديل، و القرناء جمع قرين و هو معروف.
فقوله: ﴿وَ قَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ﴾ إشارة إلى أنهم لو آمنوا و اتقوا لأيدهم الله بمن يسددهم و يهديهم كما قال﴿أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ اَلْإِيمَانَ وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ﴾ المجادلة: - ٢٢ لكنهم كفروا و فسقوا فبدل الله لهم قرناء من الشياطين يقارنونهم و يلازمونهم، و إنما يفعل ذلك بهم مجازاة لكفرهم و فسوقهم.
و قيل: المعنى بدلناهم قرناء سوء من الجن و الإنس مكان قرناء الصدق الذين أمروا بمقارنتهم فلم يفعلوا، و لعل ما قدمناه أحسن.
و قوله: ﴿فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ مَا خَلْفَهُمْ﴾ لعل المراد التمتعات المادية التي هم مكبون عليها في الحال و ما تعلقت به آمالهم و أمانيهم في المستقبل.
و قيل: ما بين أيديهم ما قدموه من أعمالهم السيئة حتى ارتكبوها، و ما خلفهم ما سنوه لغيرهم ممن يأتي بعدهم، و يمكن إدراج هذا الوجه في سابقه.
و قيل: ما بين أيديهم هو ما يحضرهم من أمر الدنيا فيؤثرونه و يقبلون إليه و يعملون له، و ما خلفهم هو أمر الآخرة حيث يدعوهم قرناؤهم إلى أنه لا بعث و لا نشور و لا حساب و لا جنة و لا نار، و هو وجه بعيد إذ لا يقال لمن ينكر الآخرة أنها زينت له.
و قوله: ﴿وَ حَقَّ عَلَيْهِمُ اَلْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ﴾ أي ثبت و وجب عليهم كلمة العذاب حال كونهم في أمم مماثلين لهم ماضين قبلهم من الجن و الإنس و كلمة العذاب قوله تعالى﴿وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ اَلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ كقوله البقرة: - ٣٩﴿لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ ص: - ٨٥. و قوله: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ﴾ تعليل لوجوب كلمة العذاب عليهم أو لجميع ما تقدم.
و يظهر من الآية أن حكم الموت جار في الجن مثل الإنس.
(بحث روائي)
في الفقيه، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصيته لابن الحنفية: قال الله تعالى: ﴿وَ مَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَ لاَ أَبْصَارُكُمْ وَ لاَ جُلُودُكُمْ﴾ يعني بالجلود الفروج. و في تفسير القمي، بإسناده عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله (عليه السلام) : في الآية:
يعني بالجلود الفروج و الأفخاذ. و في المجمع، قال الصادق (عليه السلام) : ينبغي للمؤمن أن يخاف الله خوفا كأنه يشرف على النار، و يرجوه رجاء كأنه من أهل الجنة إن الله تعالى يقول: ﴿وَ ذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ اَلَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ﴾ الآية، ثم قال: إن الله عند ظن عبده إن خيرا فخير و إن شرا فشر. و في تفسير القمي، بإسناده عن عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : ليس من عبد يظن بالله عز و جل خيرا إلا كان عند ظنه به و ذلك قوله عز و جل: ﴿وَ ذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ اَلَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ﴾ الآية. و في الدر المنثور، أخرج أحمد و الطبراني و عبد بن حميد و مسلم و أبو داود و ابن ماجة و ابن حبان و ابن مردويه عن جابر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : لا يموتن أحدكم إلا و هو يحسن الظن بالله فإن قوما قد أرداهم سوء ظنهم بالله عز و جل قال الله:
﴿وَ ذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ اَلَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ اَلْخَاسِرِينَ﴾. أقول: و قد روي في سبب نزول بعض الآيات السابقة ما لا يلائم سياقها تلك الملاءمة و لذلك أغمضنا عن إيراده.
[سورة فصلت (٤١): الآیات ٢٦ الی ٣٩]
﴿وَ قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا اَلْقُرْآنِ وَ اِلْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ٢٦ فَلَنُذِيقَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا عَذَاباً شَدِيداً وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ اَلَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ٢٧ ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اَللَّهِ اَلنَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ
اَلْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ٢٨ وَ قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اَلَّذَيْنِ أَضَلاَّنَا مِنَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ اَلْأَسْفَلِينَ ٢٩ إِنَّ اَلَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اَللَّهُ ثُمَّ اِسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ اَلْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَ لاَ تَحْزَنُوا وَ أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ اَلَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ٣٠ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ فِي اَلْآخِرَةِ وَ لَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَ لَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ ٣١ نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ ٣٢ وَ مَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اَللَّهِ وَ عَمِلَ صَالِحاً وَ قَالَ إِنَّنِي مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ ٣٣ وَ لاَ تَسْتَوِي اَلْحَسَنَةُ وَ لاَ اَلسَّيِّئَةُ اِدْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا اَلَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ٣٤ وَ مَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ اَلَّذِينَ صَبَرُوا وَ مَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ٣٥ وَ إِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ اَلشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ ٣٦ وَ مِنْ آيَاتِهِ اَللَّيْلُ وَ اَلنَّهَارُ وَ اَلشَّمْسُ وَ اَلْقَمَرُ لاَ تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَ لاَ لِلْقَمَرِ وَ اُسْجُدُوا لِلَّهِ اَلَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ٣٧ فَإِنِ اِسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَ اَلنَّهَارِ وَ هُمْ لاَ يَسْأَمُونَ ٣٨ وَ مِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى اَلْأَرْضَ
خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا اَلْمَاءَ اِهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ إِنَّ اَلَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ اَلْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ٣٩﴾
(بيان)
رجوع إلى حديث كفرهم بالقرآن المذكور في أول السورة و ذكر كيدهم لإبطال حجته، و في الآيات ذكر الكفار و بعض ما في عقبى ضلالتهم و أهل الاستقامة من المؤمنين و بعض ما لهم في الآخرة و متفرقات أخر.
قوله تعالى: ﴿وَ قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا اَلْقُرْآنِ وَ اِلْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ﴾ اللغو من الأمر ما لا أصل له و من الكلام ما لا معنى له يقال: لغا يلغى و يلغو لغوا أي أتى باللغو، و الإشارة إلى القرآن مع ذكر اسمه دليل على كمال عنايتهم بالقرآن لإعفاء أثره.
و الآية تدل على نهاية عجزهم عن مخاصمة القرآن بإتيان كلام يعادله و يماثله أو إقامة حجة تعارضه حتى أمر بعضهم بعضا أن لا ينصتوا له و يأتوا بلغو الكلام عند قراءة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) القرآن ليختل به قراءته و لا تقرع أسماع الناس آياته فيلغو أثره و هو الغلبة.
قوله تعالى: ﴿فَلَنُذِيقَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا عَذَاباً شَدِيداً﴾ إلخ اللام للقسم، و المراد بالذين كفروا بحسب مورد الآية هم الذين قالوا: لا تسمعوا لهذا القرآن و إن كانت الآية مطلقة بحسب اللفظ.
و قوله: ﴿وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ اَلَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ قيل: المراد العمل السيئ الذي كانوا يعملون بتجريد أفعل عن معنى التفضيل، و قيل: المراد بيان جزاء ما هو أسوأ أعمالهم و سكت عن الباقي مبالغة في الزجر.
قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اَللَّهِ اَلنَّارُ﴾ إلخ ﴿ذَلِكَ جَزَاءُ﴾ مبتدأ و خبر و ﴿اَلنَّارُ﴾ بدل أو عطف بيان من ﴿ذَلِكَ﴾ أو خبر مبتدإ محذوف و التقدير هي النار أو مبتدأ خبره ﴿لَهُمْ فِيهَا دَارُ اَلْخُلْدِ﴾.
و قوله: ﴿لَهُمْ فِيهَا دَارُ اَلْخُلْدِ﴾ أي النار محيطة بهم جميعا و لكل منهم فيها دار
تخصه خالدا فيها.
و قوله: ﴿جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ﴾ مفعول مطلق لفعل مقدر، و التقدير يجزون جزاء أو للمصدر المتقدم أعني قوله: ﴿ذَلِكَ جَزَاءُ﴾ نظير قوله﴿فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُوراً﴾ إسراء: - ٦٣.
قوله تعالى: ﴿وَ قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اَلَّذَيْنِ أَضَلاَّنَا مِنَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ﴾ محكي قول يقولونه و هم في النار، يسألون الله أن يريهم متبوعيهم من الجن و الإنس ليجعلوهما تحت أقدامهم إذلالا لهما و تشديدا لعذابهما كما يشعر به قولهم ذيلا: ﴿نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ اَلْأَسْفَلِينَ﴾.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اَللَّهُ ثُمَّ اِسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ اَلْمَلاَئِكَةُ﴾ إلخ قال الراغب: الاستقامة تقال في الطريق الذي يكون على خط مستو، و به شبه طريق الحق نحو ﴿اِهْدِنَا اَلصِّرَاطَ اَلْمُسْتَقِيمَ﴾. قال: و استقامة الإنسان لزومه المنهج المستقيم نحو قوله: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اَللَّهُ ثُمَّ اِسْتَقَامُوا﴾. انتهى.
و في الصحاح،: الاستقامة الاعتدال يقال: استقام له الأمر. انتهى.
فالمراد بقوله: ﴿ثُمَّ اِسْتَقَامُوا﴾ لزوم وسط الطريق من غير ميل و انحراف و الثبات على القول الذي قالوه، قال تعالى﴿فَمَا اِسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ﴾ التوبة: - ٧ و قال﴿وَ اِسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَ لاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ﴾ الشورى: - ١٥ و ما ورد فيها من مختلف التفاسير يرجع إلى ما ذكر.
و الآية و ما يتلوها بيان حسن حال المؤمنين كما كانت الآيات قبلها بيان سوء حال الكافرين.
و قوله: ﴿تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ اَلْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَ لاَ تَحْزَنُوا وَ أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ اَلَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ إخبار عما سيستقبلهم به الملائكة من تقوية قلوبهم و تطييب نفوسهم و البشرى بالكرامة.
فالملائكة يؤمنونهم من الخوف و الحزن، و الخوف إنما يكون من مكروه متوقع كالعذاب الذي يخافونه و الحرمان من الجنة الذي يخشونه، و الحزن إنما يكون من
مكروه واقع و شر لازم كالسيئات التي يحزنون من اكتسابها و الخيرات التي يحزنون لفوتها عنهم فيطيب الملائكة أنفسهم أنهم في أمن من أن يخافوا شيئا أو يحزنوا لشيء فالذنوب مغفورة لهم و العذاب مصروف عنهم.
ثم يبشرونهم بالجنة الموعودة بقولهم: ﴿وَ أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ اَلَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ و في قولهم: ﴿كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ دلالة على أن تنزلهم بهذه البشرى عليهم إنما هو بعد الحياة الدنيا.
قوله تعالى: ﴿نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ فِي اَلْآخِرَةِ﴾ إلخ من تتمة البشارة، و على هذا فذكر ولايتهم لهم في الحياة الدنيا مع انقضاء وقتها كما تقدم من باب التوطئة و التمهيد إلى ذكر الآخرة للإشارة إلى أن ولاية الآخرة مترتبة على ولاية الدنيا فكأنه قيل نحن أولياؤكم في الآخرة كما كنا لما كنا أولياءكم في الحياة الدنيا و سنتولى أمركم بعد هذا كما توليناه قبل.
و كون الملائكة أولياء لهم لا ينافي كونه تعالى هو الولي لأنهم وسائط الرحمة و الكرامة ليس لهم من الأمر شيء، و لعل ذكر ولايتهم لهم في الآية دون ولايته تعالى للمقابلة و المقايسة بين أوليائه تعالى و أعدائه إذ قال في حق أعدائه: ﴿وَ قَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ﴾ إلخ و قال في حق أوليائه عن لسان ملائكته: ﴿نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ﴾.
و بالمقابلة يستفاد أن المراد ولايتهم لهم بالتسديد و التأييد فإن الملائكة المسددين هم المخصوصون بأهل ولاية الله و أما الملائكة الحرس و موكلو الأرزاق و الآجال و غيرهم فمشتركون بين المؤمن و الكافر.
و قيل: الآية من كلام الله دون الملائكة.
و قوله: ﴿وَ لَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَ لَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ﴾ ضمير ﴿فِيهَا﴾ في الموضعين للآخرة، و أصل الشهوة نزوع النفس بقوة من قواها إلى ما تريده تلك القوة و تلتذ به كشهوة الطعام و الشراب و النكاح، و أصل الادعاء و هو افتعال من الدعاء هو الطلب فالجملة الثانية أعني قوله: ﴿وَ لَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ﴾ أوسع نطاقا من الأولى أعني قوله: ﴿لَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ﴾ فإن الشهوة طلب خاص و مطلق الطلب أعم منها.
فالآية تبشرهم بأن لهم في الآخرة ما يمكن أن تتعلق به شهواتهم من أكل و شرب و نكاح و غير ذلك بل ما هو أوسع من ذلك و أعلى كعبا و هو أن لهم ما يشاءون فيها كما قال تعالى﴿لَهُمْ مَا يَشَاؤُنَ فِيهَا﴾: ق - ٣٥.
قوله تعالى: ﴿وَ مَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اَللَّهِ وَ عَمِلَ صَالِحاً وَ قَالَ إِنَّنِي مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ﴾ الآية اتصال بقوله السابق: ﴿وَ قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا اَلْقُرْآنِ وَ اِلْغَوْا فِيهِ﴾ الآية فإنهم كانوا يخاصمون النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كما ينازعون القرآن، و قد ذكر في أول السورة قولهم: ﴿قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ﴾ الآية فأيد سبحانه في هذه الآية نبيه بأن قوله و هو دعوته أحسن القول.
فقوله: ﴿وَ مَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اَللَّهِ﴾ المراد به النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و إن كان لفظ الآية يعم كل من دعا إلى الله و لما أمكن أن يدعو الداعي إلى الله لغرض فاسد و ليست الدعوة التي هذا شأنها من القول الأحسن قيده بقوله: ﴿وَ عَمِلَ صَالِحاً﴾ فإن العمل الصالح يكشف عن نية صالحة غير أن العمل الصالح لا يكشف عن الاعتقاد الحق و الالتزام به، و لا حسن في قول لا يقول به صاحبه و لذا قيده بقوله: ﴿وَ قَالَ إِنَّنِي مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ﴾ و المراد بالقول الرأي و الاعتقاد على ما يعطيه السياق.
فإذا تم الإسلام لله و العمل الصالح للإنسان ثم دعا إلى الله كان قوله أحسن القول لأن أحسن القول أحقه و أنفعه و لا قول أحق من كلمة التوحيد و لا أنفع منها و هي الهادية للإنسان إلى حاق سعادته.
قوله تعالى: ﴿لاَ تَسْتَوِي اَلْحَسَنَةُ وَ لاَ اَلسَّيِّئَةُ﴾ الآية لما ذكر أحسن القول و أنه الدعوة إلى الله و القائم به حقا هو النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) التفت إليه ببيان أحسن الطريق إلى الدعوة و أقربها من الغاية المطلوبة منها و هي التأثير في النفوس فخاطبه بقوله:
﴿لاَ تَسْتَوِي﴾ إلخ.
فقوله: ﴿لاَ تَسْتَوِي اَلْحَسَنَةُ وَ لاَ اَلسَّيِّئَةُ﴾ أي الخصلة الحسنة و السيئة من حيث حسن التأثير في النفوس، و ﴿لاَ﴾ في ﴿لاَ اَلسَّيِّئَةُ﴾ زائدة لتأكيد النفي.
و قوله: ﴿اِدْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ استئناف في معنى دفع الدخل كأن المخاطب لما سمع قوله: ﴿لاَ تَسْتَوِي﴾ إلخ قال: فما ذا أصنع؟ فقيل: ﴿اِدْفَعْ﴾ إلخ و المعنى
ادفع بالخصلة التي هي أحسن الخصلة السيئة التي تقابلها و تضادها فادفع بالحق الذي عندك باطلهم لا بباطل آخر و بحلمك جهلهم و بعفوك إساءتهم و هكذا.
و قوله: ﴿فَإِذَا اَلَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ بيان لأثر الدفع بالأحسن و نتيجته و المراد أنك إن دفعت بالتي هي أحسن فاجأك أن عدوك صار كأنه ولي شفيق.
قيل: ﴿اَلَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَدَاوَةٌ﴾ أبلغ من «عدوك» و لذا اختاره عليه مع اختصاره.
ثم عظم الله سبحانه الدفع بالتي هي أحسن و مدحه أحسن التعظيم و أبلغ المدح بقوله: ﴿وَ مَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ اَلَّذِينَ صَبَرُوا وَ مَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ أي ذو نصيب وافر من كمال الإنسانية و خصال الخير.
و في الآية مع ذلك دلالة ظاهرة على أن الحظ العظيم إنما يوجد لأهل الصبر خاصة.
قوله تعالى: ﴿وَ إِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ اَلشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ﴾ النزغ النخس و هو غرز جنب الدابة أو مؤخرها بقضيب و نحوه ليهيج، و ﴿إِمَّا﴾ في ﴿إِمَّا يَنْزَغَنَّكَ﴾ زائدة و الأصل و إن ينزغنك فاستعذ.
و النازغ هو الشيطان أو تسويله و وسوسته، و الأول هو الأنسب لمقام النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فإنه لا سبيل للشيطان إليه بالوسوسة غير أنه يمكن أن يقلب له الأمور بالوسوسة على المدعوين من أهل الكفر و الجحود فيبالغوا في جحودهم و مشاقتهم و إيذائهم له فلا يؤثر فيهم الدفع بالأحسن و يؤول هذا إلى نزغ من الشيطان بتشديد العداوة في البين كما في قوله﴿مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ اَلشَّيْطَانُ بَيْنِي وَ بَيْنَ إِخْوَتِي﴾ يوسف: - ١٠٠، قال تعالى﴿وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى اَلشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ»﴾ الآية: الحج: - ٥٢.
و لو حمل على الوجه الثاني فالمتعين حمله على مطلق الدستور تتميما للأمر، و هو بوجه من باب «إياك أعني و اسمعي يا جارة».
و قوله: ﴿فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ﴾ العوذ و العياذ بكسر العين و المعاذ و الاستعاذة بمعنى و هو الالتجاء و المعنى فالتجئ بالله من نزغه إنه هو السميع لمسألتك العليم بحالك أو السميع لأقوالكم العليم بأفعالكم.
قوله تعالى: ﴿وَ مِنْ آيَاتِهِ اَللَّيْلُ وَ اَلنَّهَارُ وَ اَلشَّمْسُ وَ اَلْقَمَرُ﴾ إلخ لما ذكر سبحانه
كون دعوته (ص) أحسن القول و وصاه أن يدفع بأحسن الخصال عاد إلى أصل الدعوة فاحتج على الوحدانية و المعاد في هذه الآيات الثلاث.
فقوله: ﴿وَ مِنْ آيَاتِهِ اَللَّيْلُ وَ اَلنَّهَارُ﴾ إلخ احتجاج بوحدة التدبير و اتصاله على وحدة الرب المدبر، و بوحدة الرب على وجوب عبادته وحده، و لذلك عقبه بقوله ﴿لاَ تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَ لاَ لِلْقَمَرِ﴾ إلخ.
فالكلام في معنى دفع الدخل كأنه لما قيل: ﴿وَ مِنْ آيَاتِهِ اَللَّيْلُ وَ اَلنَّهَارُ﴾ إلخ فأثبت وحدته في ربوبيته قيل: فما ذا نصنع؟ فقيل ﴿لاَ تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَ لاَ لِلْقَمَرِ﴾ هما مخلوقان مدبران من خلقه بل خصوه بالسجدة و اعبدوه وحده، و عامة الوثنيين كانوا يعظمون الشمس و القمر و إن لم يعبدهما غير الصابئين على ما قيل، و ضمير ﴿خَلَقَهُنَّ﴾ لليل و النهار و الشمس و القمر.
و قوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ أي إن عبادته لا تجامع عبادة غيره.
قوله تعالى: ﴿فَإِنِ اِسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَ اَلنَّهَارِ وَ هُمْ لاَ يَسْأَمُونَ﴾ السأمة الملال، و المراد بـ ﴿فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ﴾ الملائكة و المخلصون من عباد الله و قد تقدم كلام في ذلك في تفسير قوله﴿إِنَّ اَلَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَ يُسَبِّحُونَهُ وَ لَهُ يَسْجُدُونَ﴾ الأعراف: - ٢٠٦.
و قوله: ﴿يُسَبِّحُونَ لَهُ﴾ و لم يقل: يسبحونه للدلالة على الحصر و الاختصاص أي يسبحونه خاصة، و قوله: ﴿بِاللَّيْلِ وَ اَلنَّهَارِ﴾ أي دائما لا ينقطع فإن الملائكة ليس عندهم ليل و لا نهار.
و المعنى: فإن استكبر هؤلاء الكفار عن السجدة لله وحده فعبادته تعالى لا ترتفع من الوجود فهناك من يسبحه تسبيحا دائما لا ينقطع من غير سأمة و هم الذين عند ربك.
قوله تعالى: ﴿وَ مِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى اَلْأَرْضَ خَاشِعَةً﴾ إلخ الخشوع التذلل، و الاهتزاز التحرك الشديد، و الربو النشوء و النماء و العلو، و اهتزاز الأرض و ربوها تحركها بنباتها و ارتفاعه.
و في الآية استعارة تمثيلية شبهت فيها الأرض في جدبها و خلوها عن النبات ثم اخضرارها و نمو نباتها و علوه بشخص كان وضيع الحال رث الثياب متذللا خاشعا ثم أصاب ما لا يقيم أوده فلبس أفخر الثياب و انتصب ناشطا متبخترا يعرف في وجهه نضرة النعيم.
و الآية مسوقة للاحتجاج على المعاد، و قد تكرر البحث عن مضمونها في السور المتقدمة.
(بحث روائي)
في المجمع،: في قوله تعالى: ﴿أَرِنَا اَلَّذَيْنِ أَضَلاَّنَا﴾ يعنون إبليس الأبالسة و قابيل بن آدم أول من أبدع المعصية: روي ذلك عن علي (عليه السلام) .
أقول: و لعله من نوع الجري فالآية عامة.
و فيه،: في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اَللَّهُ ثُمَّ اِسْتَقَامُوا﴾: روي عن أنس قال: قرأ علينا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) هذه الآية ثم قال: قد قالها ناس ثم كفر أكثرهم فمن قالها حتى يموت فقد استقام عليها.
و فيه،: في قوله تعالى: ﴿تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ اَلْمَلاَئِكَةُ﴾ يعني عند الموت: عن مجاهد و السدي و روي ذلك عن أبي عبد الله (عليه السلام) .
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: ﴿نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا﴾ قال: كنا نحرسكم من الشياطين ﴿وَ فِي اَلْآخِرَةِ﴾ أي عند الموت.
و في المجمع، ":في الآية قيل: ﴿نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا﴾ أي نحرسكم في الدنيا و عند الموت في الآخرة.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: ﴿اِدْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ قال: ادفع سيئة من أساء إليك بحسنتك حتى يكون الذي بينك و بينه عداوة كأنه ولي حميم.
[سورة فصلت (٤١): الآیات ٤٠ الی ٥٤ ]
﴿إِنَّ اَلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَ فَمَنْ يُلْقىَ فِي اَلنَّارِ﴾
﴿خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ اِعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ٤٠ إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَ إِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ٤١ لاَ يَأْتِيهِ اَلْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ٤٢ مَا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَ ذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ ٤٣ وَ لَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْ لاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ءَ أَعْجَمِيٌّ وَ عَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَ شِفَاءٌ وَ اَلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَ هُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ٤٤ وَ لَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى اَلْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَ لَوْ لاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَ إِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ٤٥ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَ مَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ ٤٦ إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ اَلسَّاعَةِ وَ مَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَ مَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَ لاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَ يَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ ٤٧ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَ ظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ ٤٨ لاَ يَسْأَمُ اَلْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ اَلْخَيْرِ وَ إِنْ مَسَّهُ اَلشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ ٤٩
وَ لَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَ مَا أَظُنُّ اَلسَّاعَةَ قَائِمَةً وَ لَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَ لَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ٥٠ وَ إِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى اَلْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَ نَأى بِجَانِبِهِ وَ إِذَا مَسَّهُ اَلشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ ٥١ قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ٥٢ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي اَلْآفَاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ اَلْحَقُّ أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ٥٣ أَلاَ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ ٥٤﴾
(بيان)
عودة أخرى إلى حديث القرآن و كفرهم به على ظهور آيته و رفعة درجته و ما فرطوا في جنبه و رميهم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و جحدهم الحق و كفرهم بالآيات و ما يتبع ذلك، و تختتم السورة.
و الآية الأولى أعني قوله: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا﴾ الآية كالبرزخ الرابط بين هذا الفصل و الفصل السابق من الآيات لما وقعت بين قوله: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ﴾ الآية و بين قوله: ﴿وَ قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا اَلْقُرْآنِ﴾ الآية و قوله:
﴿وَ مِنْ آيَاتِهِ اَللَّيْلُ وَ اَلنَّهَارُ﴾ إلخ.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا﴾ إلخ سياق تهديد
لملحدي هذه الأمة كما يؤيده الآية التالية، و الإلحاد الميل.
و إطلاق قوله: ﴿يُلْحِدُونَ﴾ و قوله: ﴿آيَاتِنَا﴾ يشمل كل إلحاد في كل آية فيشمل الإلحاد في الآيات التكوينية كالشمس و القمر و غيرهما فيعدونها آيات لله سبحانه ثم يعودون فيعبدونها، و يشمل آيات الوحي و النبوة فيعدون القرآن افتراء على الله و تقولا من النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أو يلغون فيه لتختل تلاوته فلا يسمعه سامع أو يفسرونه من عند أنفسهم أو يؤولونه ابتغاء الفتنة فكل ذلك إلحاد في آيات الله بوضعها في غير موضعها و الميل بها إلى غير مستقرها.
و قوله: ﴿أَ فَمَنْ يُلْقىَ فِي اَلنَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ﴾ إيذان بالجزاء و هو الإلقاء في النار يوم القيامة قسرا من غير أي مؤمن متوقع كشفيع أو ناصر أو عذر مسموع فليس لهم إلا النار يلقون فيها، و الظاهر أن قوله ﴿أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ﴾ لإبانة أنهما قبيلان لا ثالث لهما فمستقيم في الإيمان بالآيات و ملحد فيها و يظهر به أن أهل الاستقامة في أمن يوم القيامة.
و قوله: ﴿اِعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ تشديد في التهديد.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ﴾ إلى قوله ﴿مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ المراد بالذكر القرآن لما فيه من ذكر الله، و تقييد الجملة بقوله: ﴿لَمَّا جَاءَهُمْ﴾ يدل على أن المراد بالذين كفروا هم مشركو العرب المعاصرين للقرآن من قريش و غيرهم.
و قد اختلفوا في خبر ﴿إِنَّ﴾ و يمكن أن يستظهر من السياق أنه محذوف يدل عليه قوله: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا﴾ إلخ فإن الكفر بالقرآن من مصاديق الإلحاد في آيات الله فالتقدير إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم يلقون في النار يوم القيامة، و إنما حذف ليذهب فيه وهم السامع أي مذهب ممكن و الكلام مسوق للوعيد.
و إلى هذا المعنى يرجع قول الزمخشري في الكشاف،: إن قوله: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ إلخ بدل من قوله: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا﴾.
و قيل: خبر إن قوله الآتي: ﴿أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ﴾، و قيل: الخبر قوله: ﴿لاَ يَأْتِيهِ اَلْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لاَ مِنْ خَلْفِهِ﴾ بحذف ضمير عائد إلى اسم إن
و التقدير لا يأتيه منهم أي لا يأتيه من قبلهم ما يبطله و لا يقدرون على ذلك أو بجعل أل في الباطل عوضا من الضمير و المعنى لا يأتيه باطلهم.
و قيل: إن قوله: ﴿وَ إِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ﴾ إلخ قائم مقام الخبر، و التقدير إن الذين كفروا بالذكر كفروا به و إنه لكتاب عزيز.
و قيل: الخبر قوله: ﴿مَا يُقَالُ لَكَ﴾ إلخ بحذف الضمير و هو «فيهم» و المعنى ما يقال لك في الذين كفروا بالذكر إلا ما قد قيل للرسل من قبلك إن لهم عذاب الاستئصال في الدنيا و عذاب النار في الآخرة، و وجوه التكلف في هذه الوجوه غير خفية على المتأمل البصير.
و قوله: ﴿وَ إِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ﴾ الضمير للذكر و هو القرآن، و العزيز عديم النظير أو المنيع الممتنع من أن يغلب، و المعنى الثاني أنسب لما يتعقبه من قوله: ﴿لاَ يَأْتِيهِ اَلْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لاَ مِنْ خَلْفِهِ﴾.
و قوله: ﴿لاَ يَأْتِيهِ اَلْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لاَ مِنْ خَلْفِهِ﴾ إتيان الباطل إليه وروده فيه و صيرورة بعض أجزائه أو جميعها باطلا بأن يصير ما فيه من المعارف الحقة أو بعضها غير حقة أو ما فيه من الأحكام و الشرائع و ما يلحقها من الأخلاق أو بعضها لغا لا ينبغي العمل به.
و عليه فالمراد بقوله: ﴿مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لاَ مِنْ خَلْفِهِ﴾ زمانا الحال و الاستقبال أي زمان النزول و ما بعده إلى يوم القيامة، و قيل: المراد بما بين يديه و من خلفه جميع الجهات كالصباح و المساء كناية عن الزمان كله فهو مصون من البطلان من جميع الجهات و هذا العموم على الوجه الأول مستفاد من إطلاق النفي في قوله: ﴿لاَ يَأْتِيهِ﴾.
و المدلول على أي حال أنه لا تناقض في بياناته، و لا كذب في إخباره، و لا بطلان يتطرق إلى معارفه و حكمه و شرائعه، و لا يعارض و لا يغير بإدخال ما ليس منه فيه أو بتحريف آية من وجه إلى وجه.
فالآية تجري مجرى قوله﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا اَلذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ الحجر: - ٩.
و قوله: ﴿تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ بمنزلة التعليل لكونه كتابا عزيزا لا يأتيه ـ
الباطل «إلخ» أي كيف لا يكون كذلك و هو منزل من حكيم متقن في فعله لا يشوب فعله وهن، محمود على الإطلاق.
قوله تعالى: ﴿مَا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ﴾ إلخ ﴿مَا﴾ في ﴿مَا يُقَالُ لَكَ﴾ نافية، و القائلون هم الذين كفروا حيث قالوا: إنه ساحر أو مجنون أو شاعر لاغ في كلامه أو يريد أن يتأمر علينا، و القائلون لما قد قيل للرسل أممهم.
و المعنى: ما يقال لك من قبل كفار قومك حيث أرسلت إليهم فدعوتهم فرموك بما رموك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك أي مثل ما قد قيل لهم.
و قوله: ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَ ذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ﴾ في موضع التهديد و الوعيد أي إن ربك ذو هاتين الصفتين أي فانظر أو فلينظروا ما ذا يصيبهم من ربهم و هم يقولون ما يقولونه لرسوله؟ أ هو مغفرة أم عقاب؟ فالآية في معنى قوله: ﴿اِعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ أي ما عملتم من حسنة أو سيئة أصابكم جزاؤه بعينه.
و قيل: المعنى ما يوحى إليك في أمر هؤلاء الذين كفروا بالذكر إلا ما قد أوحي للرسل من قبلك و هو أن ربك لذو مغفرة و ذو عقاب أليم فالمراد بالقول الوحي، و ﴿إِنَّ رَبَّكَ﴾ إلخ بيان لما قد قيل.
قوله تعالى: ﴿وَ لَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْ لاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ءَ أَعْجَمِيٌّ وَ عَرَبِيٌّ﴾ قال الراغب،: العجمة خلاف الإبانة. قال: و العجم خلاف العرب و العجمي منسوب إليهم، و الأعجم من في لسانه عجمة عربيا كان أو غير عربي اعتبارا بقلة فهمهم عن العجم. انتهى. فالأعجمي غير العربي البليغ سواء كان من غير أهل اللغة العربية أو كان منهم و هو غير مفصح للكنة في لسانه، و إطلاق الأعجمي على الكلام كإطلاق العربي من المجاز.
فالمعنى: و لو جعلنا القرآن أعجميا غير مبين لمقاصده غير بليغ في نظمه لقال الذين كفروا من قومك: هلا فصلت و بينت آياته و أجزاؤه فانفصلت و بانت بعضها من بعض بالعربية و البلاغة أ كتاب مرسل أعجمي و مرسل إليه عربي؟ أي يتنافيان و لا يتناسبان.
و إنما قال: ﴿عَرَبِيٌّ﴾ و لم يقل: عربيون أو عربية مع كون من أرسل إليه جمعا و هم جماعة العرب، إذ القصد إلى مجرد العربية من دون خصوصية للكثرة بل المراد بيان التنافي بين الكلام و بين المخاطب به لا بيان كون المخاطب واحدا أو كثيرا.
قال في الكشاف،: فإن قلت: كيف يصح أن يراد بالعربي المرسل إليهم و هم أمة العرب؟ قلت: هو على ما يجب أن يقع في إنكار المنكر لو رأى كتابا عجميا كتب إلى قوم من العرب يقول: كتاب أعجمي و مكتوب إليه عربي و ذلك لأن مبني الإنكار على تنافر حالتي الكتاب و المكتوب إليه لا على أن المكتوب إليه واحد أو جماعة فوجب أن يجرد لما سيق إليه من الغرض و لا يوصل به ما يخل غرضا آخر أ لا تراك تقول و قد رأيت لباسا طويلا على امرأة قصيرة: اللباس طويل و اللابس قصير و لو قلت و اللابس قصيرة جئت بما هو لكنة و فضول قول لأن الكلام لم يقع في ذكورة اللابس و أنوثته إنما وقع في غرض وراءهما.
و قوله: ﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَ شِفَاءٌ﴾ بيان أن أثر القرآن و خاصته لا يدور مدار لغته بل الناس تجاهه صنفان و هم الذين آمنوا و الذين لا يؤمنون، و هو هدى و شفاء للذين آمنوا يهديهم إلى الحق و يشفي ما في قلوبهم من مرض الشك و الريب. و هو عمى على الذين لا يؤمنون - و هم الذين في آذانهم وقر - يعميهم فلا يبصرون الحق و سبيل الرشاد.
و في توصيف الذين لا يؤمنون بأن في آذانهم وقرا إيماء إلى اعترافهم بذلك المنقول عنهم في أول السورة: ﴿وَ فِي آذَانِنَا وَقْرٌ﴾.
و قوله: ﴿أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ﴾ أي فلا يسمعون الصوت و لا يرون الشخص و هو تمثيل لحالهم حيث لا يقبلون العظة و لا يعقلون الحجة.
قوله تعالى: ﴿وَ لَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى اَلْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ﴾ إلخ تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عن جحود قومه و كفرهم بكتابه.
و قوله: ﴿وَ لَوْ لاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ﴾ الكلمة هي قوله﴿وَ لَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتَاعٌ إِلىَ حِينٍ﴾ الأعراف: - ٢٤.
و قوله: ﴿وَ إِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ﴾ أي في شك مريب من كتاب موسى (عليه السلام) . بيان حال قومه ليتسلى به النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فيما يرى من قومه.
قوله تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا﴾ إلخ أي إن العمل قائم بصاحبه ناعت له فلو كان صالحا نافعا انتفعت به نفسه و إن كان سيئا ضارا تضررت به نفسه فليس في إيصاله تعالى نفع العمل الصالح إلى صاحبه و هو الثواب و لا في إيصال ضرر العمل السيئ إلى صاحبه و هو العقاب ظلم و وضع للشيء في غير موضعه.
و لو كان ذلك ظلما كان تعالى في إثابته و تعذيبه من لا يحصى من العباد في ما لا يحصى من الأعمال ظلاما للعبيد لكنه ليس بظلم و لا أنه تعالى ظلام لعبيده و بذلك يظهر وجه التعبير باسم المبالغة في قوله: ﴿وَ مَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ﴾ و لم يقل: و ما ربك بظالم.
قوله تعالى: ﴿إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ اَلسَّاعَةِ﴾ إلى قوله - ﴿إِلاَّ بِعِلْمِهِ﴾ ارتداد علم الساعة إليه اختصاصه به فلا يعلمها إلا هو، و قد تكرر ذلك في كلامه تعالى.
و قوله: ﴿وَ مَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا﴾ ﴿ثَمَرَاتٍ﴾ فاعل ﴿تَخْرُجُ﴾ و ﴿مِنْ﴾ زائدة للتأكيد كقوله﴿وَ كَفىَ بِاللَّهِ شَهِيداً﴾ النساء: - ٧٩، و أكمام جمع كم و هو وعاء الثمرة و ﴿مَا﴾ مبتدأ خبره ﴿إِلاَّ بِعِلْمِهِ﴾ و المعنى و ليس تخرج ثمرات من أوعيتها و لا تحمل أنثى و لا تضع حملها إلا مصاحبا لعلمه أي هو تعالى يعلم جزئيات حالات كل شيء.
فهو تعالى على كونه خالقا للأشياء محولا لأحوالها عالم بها و بجزئيات حالاتها مراقب لها، و هذا هو أحسن التدبير فهو الرب وحده، ففي الآية إشارة إلى توحده تعالى في الربوبية و الألوهية، و لذا ذيل هذا الصدر بقوله: ﴿وَ يَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي﴾ إلخ.
قوله تعالى: ﴿وَ يَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ﴾ إلى قوله - ﴿مِنْ مَحِيصٍ﴾ الظرف متعلق بقوله: ﴿قَالُوا﴾ و قيل: ظرف لمضمر مؤخر قد ترك إيذانا بقصور البيان عنه كما في قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَجْمَعُ اَللَّهُ اَلرُّسُلَ﴾، و قيل: متعلق بمحذوف نحو اذكر، و لعل الوجه الأول أنسب لصدر الآية بالمعنى الذي ذكرناه فتكون الآية مسوقة لنفي الشركاء ببيان قيام التدبير به تعالى و اعتراف المشركين بذلك يوم القيامة.
و الإيذان الاعلام، و المراد بالشهادة الشهادة القولية أو الشهادة بمعنى الرؤية الحضورية و على الثاني فقوله: ﴿وَ ضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ﴾ عطف تفسير يبين به سبب انتفاء الشهادة.
و قوله: ﴿وَ ظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ﴾ الظن على ما قيل بمعنى اليقين، و المحيص المهرب و المفر، و المعنى: و يوم ينادي الله المشركين: أين شركائي؟ على زعمكم قالوا:
أعلمناك ما منا من يشهد عليك بالشركاء أو ما منا من يشاهد الشركاء و غاب عنهم ما كانوا يدعون من دون الله في الدنيا، و أيقنوا أن ليس لهم مهرب من العذاب.
قوله تعالى: ﴿لاَ يَسْأَمُ اَلْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ اَلْخَيْرِ وَ إِنْ مَسَّهُ اَلشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ﴾ السأمة الملال، و اليأس و القنوط بمعنى و هو انقطاع الرجاء، و الدعاء الطلب.
شروع في ختم الكلام في السورة ببيان ما هو السبب في جحودهم و دفعهم الحق الصريح، و هو أن الإنسان مغتر بنفسه فإذا مسه شر يعجز عن دفعه يئس من الخير و تعلق بذيل الدعاء و المسألة و توجه إلى ربه، و إذا مسه خير اشتغل به و أعجب بنفسه و أنساه ذلك كل حق و حقيقة.
و المعنى: لا يمل الإنسان من طلب الخير و هو ما يراه نافعا لحياته و معيشته و إن مسه الشر فكثير اليأس و القنوط لما يرى من سقوط الأسباب التي كان يستند إليها، و هذا لا ينافي تعلق رجائه إذ ذاك بالله سبحانه كما سيأتي.
قوله تعالى: ﴿وَ لَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي﴾ إلخ الأصل بالنظر إلى مضمون الآية السابقة أن يقال: و إن ذاق خيرا قال: هذا لي لكن بدل ذاق من ﴿أَذَقْنَاهُ﴾ و خيرا» من قوله: ﴿رَحْمَةً مِنَّا﴾ ليدل على أن الخير الذي ذاقه هو رحمة من الله أذاقه إياها و ليس بمصيبة برأسه و لا هو يملكه و لو كان يملكه لم ينفك عنه و لم يمسسه الضراء، و لذا قيد قوله: ﴿وَ لَئِنْ أَذَقْنَاهُ﴾ إلخ بقوله:
﴿مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ﴾.
و قوله: ﴿لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي﴾ أي أنا أملكه فلي أن أفعل فيه ما أشاء و أتصرف فيه كيف أريد، فليس لأحد أن يمنعني من شيء منه أو يحاسبني على فعل، و لهذا المعنى عقبه بقوله: ﴿وَ مَا أَظُنُّ اَلسَّاعَةَ قَائِمَةً﴾ فإن الساعة هي يوم الحساب.
و قوله: ﴿وَ لَئِنْ رُجِعْتُ إِلىَ رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنىَ﴾ أي للمثوبة الحسنى أو للعاقبة الحسنى، و هذا مبني على ما يراه لنفسه من الكرامة و استحقاق الخير كأنه يقول: ما ملكته من الخير لو كان من الله فإنما هو لكرامة نفسي عليه و على هذا فإن قامت الساعة و رجعت إلى ربي كانت لي عنده العاقبة الحسنى.
فالمعنى: و أقسم لئن أذقنا الإنسان رحمة هي منا و لا يستحقها و لا يملكها فأذقناها من بعد ضراء مسته و ذلك يدله على أنه لا يملك ما أذيقه نسي ما كان من قبل و قال:
هذا لي يشير إلى شخص النعمة و لا يسميها رحمة و ليس لأحد أن يمنعني عما أفعل فيه و يحاسبني عليه و ما أظن الساعة و هي يوم الحساب قائمة، و أقسم لئن رجعت إلى ربي و قامت ساعة كانت لي عنده العاقبة الحسنى لكرامتي عليه كما أنعم علي من النعمة.
و الآية نظيرة قوله في قصة صاحب الجنة﴿: «مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً وَ مَا أَظُنُّ اَلسَّاعَةَ قَائِمَةً وَ لَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنْقَلَباً﴾ الكهف: - ٣٦.
و قد تقدم بعض الكلام فيه.
و قوله: ﴿فَلَنُنَبِّئَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَ لَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾ تهديد و وعيد.
قوله تعالى: ﴿وَ إِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى اَلْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَ نَأىَ بِجَانِبِهِ وَ إِذَا مَسَّهُ اَلشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ﴾ النأي الابتعاد، و المراد بالجانب الجارحة و هي الجنب أو المراد الجهة و المكان فقوله: ﴿نَأىَ بِجَانِبِهِ﴾ كناية عن الابتعاد بنفسه و هو كناية عن التكبر و الخيلاء، و المراد بالعريض الوسيع، و الدعاء العريض كالدعاء الطويل كناية عما استمر و أصر عليه الداعي، و الآية في مقام ذم الإنسان و توبيخه أنه إذا أنعم الله عليه أعرض عنه و تكبر و إذا سلب النعمة ذكر الله و أقبل عليه بالدعاء مستمرا مصرا.
قوله تعالى: ﴿قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾ ﴿أَ رَأَيْتُمْ﴾ أي أخبروني، و الشقاق و المشاقة الخلاف، و الشقاق البعيد الخلاف الذي لا يقارب الوفاق و هو شديدة، و قوله: ﴿مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾ كناية عن المشركين و لم يقل: منكم بل أتى بالموصول و الصلة و ذلك في معنى الصفة ليدل على علة الحكم و هو الشقاق البعيد من الحق.
و المعنى: قل للمشركين أخبروني إن كان هذا القرآن من عند الله ثم كفرتم به من أضل منكم؟ أي لا أضل منكم لأنكم في خلاف بعيد من حق ما فوقه حق.
فمفاد الآية أن القرآن يدعوكم إلى الله ناطقا بأنه من عند الله فلا أقل من احتمال صدقه في دعواه و هذا يكفي في وجوب النظر في أمره دفعا للضرر المحتمل و أي ضرر أقوى من الهلاك الأبدي فلا معنى لإعراضكم عنه بالكلية. ـ
قوله تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي اَلْآفَاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ اَلْحَقُّ﴾ إلخ، الآفاق جمع أفق و هو الناحية، و الشهيد بمعنى الشاهد أو بمعنى المشهود و هو المناسب لسياق الآية.
و ضمير ﴿أَنَّهُ﴾ للقرآن على ما يعطيه سياق الآية و يؤيده الآية السابقة التي تذكر كفرهم بالقرآن، و على هذا فالآية تعد إراءة آيات في الآفاق و في أنفسهم حتى يتبين بها كون القرآن حقا، و الآيات التي شأنها إثبات حقية القرآن هي الحوادث و المواعيد التي أخبر القرآن أنها ستقع كإخباره بأن الله سينصر نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) و المؤمنين و يمكن لهم في الأرض و يظهر دينهم على الدين كله و ينتقم من مشركي قريش إلى غير ذلك.
فأمر الله تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) بالهجرة إلى المدينة و قد اشتد الأمر عليه و على من آمن به غايتها فلا سماء تظلهم و لا أرض تقلهم ثم قتل صناديد قريش في بدر و لم يزل يرفع ذكره و يفتح على يديه حتى فتح مكة و دانت له جزيرة العرب ثم فتح بعد رحلته للمسلمين معظم المعمورة فأرى سبحانه المشركين آياته في الآفاق و هي النواحي التي فتحها للمسلمين و نشر فيها دينهم، و في أنفسهم و هو قتلهم الذريع في بدر.
و ليست هذه آيات في أنفسها فكم من فتح و غلبة يذكره التاريخ و مقاتل ذريعة يقصها لكنها آيات بما أن الله سبحانه وعد بها و القرآن الكريم أخبر بها قبل وقوعها ثم وقعت على ما أخبر بها.
و يمكن أن يكون المراد بإراءة الآيات و تبين الحق بذلك ما يستفاد من آيات أخرى أن الله سيظهر دينه بتمام معنى الظهور على الدين كله فلا يعبد على الأرض إلا الله وحده و تظل السعادة على النوع الإنساني و هي الغاية لخلقتهم، و قد تقدم استفادة ذلك من قوله تعالى﴿وَعَدَ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي اَلْأَرْضِ»﴾ الآية: النور: - ٥٥ و غيره و أيدناه بالدليل العقلي.
و الفرق بين الوجهين أن وجه الكلام على الأول إلى مشركي مكة و من يتبعهم خاصة و على الثاني إلى مشركي الأمة عامة و الخطاب على أي حال اجتماعي، و يمكن الجمع بين الوجهين.
و يمكن أن يكون المراد ما يشاهده الإنسان في آخر لحظة من لحظات حياته الدنيا حيث تطير عنه الأوهام و تضل عنه الدعاوي و تبطل الأسباب و لا يبقى إلا الله عز اسمه
و يؤيده ذيل الآية و الآية التالية، و ضمير ﴿أَنَّهُ اَلْحَقُّ﴾ على هذا لله سبحانه.
و لهم في الآية أقوال أخرى أغمضنا عن إيرادها.
و قوله: ﴿أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلىَ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ فاعل ﴿لَمْ يَكْفِ﴾ هو ﴿بِرَبِّكَ﴾ و الباء زائدة، و ﴿أَنَّهُ عَلىَ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ بدل من الفاعل، و الاستفهام للإنكار، و المعنى أ و لم يكف في تبين الحق كون ربك مشهودا على كل شيء إذ ما من شيء إلا و هو فقير من جميع جهاته إليه متعلق به و هو تعالى قائم به قاهر فوقه فهو تعالى معلوم لكل شيء و إن لم يعرفه بعض الأشياء.
و اتصال الجملة أعني قوله: ﴿أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ﴾ إلخ بقوله: ﴿سَنُرِيهِمْ﴾ إلخ على الوجه الأخير من الوجوه الثلاثة الماضية ظاهر، و أما على الوجهين الأولين فلعل الوجه فيه أن المشركين إنما كفروا بالقرآن لدعوته إلى التوحيد فانتقل من الدلالة على حقية القرآن للدلالة على حقية ما يدعو إليه إلى الدلالة على حقية ما يدعو إليه مستقيما من غير واسطة كأنه قيل: سنريهم آياتنا ليتبين لهم أن القرآن الذي يخبرهم بها حق فيتبين أن ربك واحد لا شريك له ثم قيل: و هذا طريق بعيد هناك ما هو أقرب منه أ و لم يكفهم أن ربك مشهود على كل شيء؟ قوله تعالى: ﴿أَلاَ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ﴾ إلخ الذي يفيده السياق أن في الآية تنبيها على أنهم لا ينتفعون بالاحتجاج على وحدانيته تعالى بكونه شهيدا على كل شيء و هو أقوى براهين التوحيد و أوضحها لمن تعقل لأنهم في مرية و شك من لقاء ربهم و هو كونه تعالى غير محجوب بصفاته و أفعاله عن شيء من خلقه.
ثم نبه بقوله: ﴿أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ﴾ على ما ترتفع به هذه المرية و تنبت من أصلها و هو إحاطته تعالى بكل شيء على ما يليق بساحة قدسه و كبريائه فلا يخلو عنه مكان و ليس في مكان و لا يفقده شيء و ليس في شيء.
و للمفسرين في الآية أقوال لو راجعتها لرأيت عجبا.
(بحث روائي)
في الدر المنثور، أخرج ابن عساكر عن عكرمة ":في قوله: ﴿أَ فَمَنْ يُلْقىَ فِي اَلنَّارِ
خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ﴾ نزلت في عمار بن ياسر و في أبي جهل.:
أقول: و رواه أيضا عن عدة من الكتب عن بشر بن تميم، و روي أيضا عن ابن مردويه عن ابن عباس : ﴿أَ فَمَنْ يُلْقىَ فِي اَلنَّارِ﴾ قال: أبو جهل بن هشام، و ﴿أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ﴾ قال: أبو بكر الصديق، و الروايات من التطبيق.
و في تفسير القمي، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) : في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ﴾ يعني القرآن ﴿لاَ يَأْتِيهِ اَلْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ﴾ قال: لا يأتيه الباطل من قبل التوراة و لا من قبل الإنجيل و الزبور ﴿وَ لاَ مِنْ خَلْفِهِ﴾ قال: لا يأتيه من بعده كتاب يبطله.
و في المجمع، في الآية قيل فيه أقوال إلى أن قال و ثالثها معناه:
أنه ليس في إخباره عما مضى باطل و لا في إخباره عما يكون في المستقبل باطل بل أخباره كلها موافقة لمخبراتها،: و هو المروي عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) .
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: ﴿أَعْجَمِيٌّ وَ عَرَبِيٌّ﴾ قال: لو كان هذا القرآن أعجميا لقالوا: كيف نتعلمه و لساننا عربي و أتيتنا بقرآن أعجمي فأحب الله أن ينزله بلسانهم و قد قال الله عز و جل: ﴿وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ﴾.
و في روضة الكافي، بإسناده عن الطيار عن أبي عبد الله (عليه السلام) : في قول الله عز و جل:
﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي اَلْآفَاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ اَلْحَقُّ﴾ قال خسف و مسخ و قذف. قال: قلت: ﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ﴾ قال: دع ذا ذاك قيام القائم.
و في إرشاد المفيد، عن علي بن أبي حمزة عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) : في الآية قال:
الفتن في آفاق الأرض و المسخ في أعداء الحق. و في روضة الكافي، بإسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام) : في الآية قال: يريهم في أنفسهم المسخ، و يريهم في الآفاق انتقاض الآفاق عليهم فيرون قدرة الله عز و جل في أنفسهم و في الآفاق. قلت له: ﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ اَلْحَقُّ﴾؟ قال: خروج القائم هو الحق عند الله عز و جل يراه الخلق.
تم و الحمد لله.
فهرس بعض المواضيع المبحوث عنها في هذا الجزء
[1] ظاهر الآيتين و إن كان اختصاصهما بذوي العقول لكنهما و خاصة الثانية تفيدان أن المراد بالسؤال هو الحاجة و الاستعداد و عليه فالآية تعم النبات و الإتيان بضمير أولي العقل للتغليب.
|