قوله تعالى: ﴿فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلىَ حِينٍ﴾ أي آمنوا به فلم نعذبهم و لم نهلكهم بما أشرف عليهم من العذاب فمتعناهم بالحياة و البقاء إلى أجلهم المقدر لهم.
و الآية في إشعارها برفع العذاب عنهم و تمتيعهم تشير إلى قوله تعالى﴿فَلَوْ لاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ اَلْخِزْيِ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ مَتَّعْنَاهُمْ إِلىَ حِينٍ﴾ يونس: - ٩٨.
و لا يخلو السياق من إشعار بل دلالةعلى أن المراد من إرساله في قوله:
﴿وَ أَرْسَلْنَاهُ﴾ أمره بالذهاب ثانيا إلى القوم، و بإيمانهم في قوله: ﴿فَآمَنُوا﴾ إلخ إيمانهم بتصديقه و اتباعه بعد ما آمنوا و تابوا حين رأوا العذاب.
و من هنا يظهر ضعف ما استدل بعضهم بالآيتين أن إرساله إلى القوم كان بعد خروجه من بطن الحوت و أنه أمر أولا بالذهاب إلى أهل نينوى و دعوتهم إلى الله و كانوا يعبدون الأصنام فاستعظم الأمر و خرج من بيته يسير في الأرض لعل الله يصرف عنه هذا التكليف و ركب البحر فابتلاه الله بالحوت ثم لما نبذ بالعراء كلف ثانيا فأجاب و أطاع و دعاهم فاستجابوا فدفع الله عذابا كان يهددهم إن لم يؤمنوا.
و ذلك أن السياق كما سمعت يدل على كون إرساله بأمر ثان و أن إيمانهم كان إيمانا ثانيا بعد الإيمان و التوبة و أن تمتيعهم إلى حين كان مترتبا على إيمانهم به لا على كشف العذاب عنهم فلم يكن الله سبحانه ليتركهم لو لم يؤمنوا برسوله ثانيا كما آمنوا به و تابوا إليه أولا في غيبته فافهم ذلك.
على أن قوله تعالى﴿وَ ذَا اَلنُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً﴾ الأنبياء: - ٨٧ و قوله﴿وَ لاَ تَكُنْ كَصَاحِبِ اَلْحُوتِ إِذْ نَادىَ وَ هُوَ مَكْظُومٌ﴾ ن: - ٤٨ لا يلائم ما ذكروه، و كذا قوله﴿إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ اَلْخِزْيِ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا﴾ يونس: - ٩٨ إذ لا يطلق الكشف إلا في عذاب واقع حال أو مشرف.
(كلام في قصة يونس (عليه السلام) في فصول)
١ - قصته في القرآن
لم يتعرض القرآن الكريم إلا لطرف من قصته و قصة قومه فقد تعرض في سورة الصافات لإرساله ثم إباقه و ركوبه الفلك و التقام الحوت له ثم نجاته و إرساله إلى
القوم و إيمانهم قال تعالى: ﴿وَ إِنَّ يُونُسَ لَمِنَ اَلْمُرْسَلِينَ. إِذْ أَبَقَ إِلَى اَلْفُلْكِ اَلْمَشْحُونِ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ اَلْمُدْحَضِينَ. فَالْتَقَمَهُ اَلْحُوتُ وَ هُوَ مُلِيمٌ. فَلَوْ لاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ اَلْمُسَبِّحِينَ. لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلىَ يَوْمِ يُبْعَثُونَ. فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَ هُوَ سَقِيمٌ. وَ أَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ.
وَ أَرْسَلْنَاهُ إِلىَ مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ. فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلىَ حِينٍ﴾.
و في سورة الأنبياء: لتسبيحه في بطن الحوت و تنجيته قال تعالى﴿وَ ذَا اَلنُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادىَ فِي اَلظُّلُمَاتِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ اَلظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَ نَجَّيْنَاهُ مِنَ اَلْغَمِّ وَ كَذَلِكَ نُنْجِي اَلْمُؤْمِنِينَ ﴾الأنبياء: - ٨٧ ٨٨.
و في سورة ن: لندائه مكظوما و خروجه من بطنه و اجتبائه قال تعالى﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَ لاَ تَكُنْ كَصَاحِبِ اَلْحُوتِ إِذْ نَادىَ وَ هُوَ مَكْظُومٌ. لَوْ لاَ أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَ هُوَ مَذْمُومٌ. فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ اَلصَّالِحِينَ﴾ ن: - ٥٠.
و في سورة يونس: لإيمان قومه و كشف العذاب عنهم قال تعالى﴿فَلَوْ لاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ اَلْخِزْيِ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ مَتَّعْنَاهُمْ إِلىَ حِينٍ﴾ يونس: - ٩٨.
و خلاصة ما يستفاد من الآيات بضم بعضها إلى بعض و اعتبار القرائن الحافة بها أن يونس (عليه السلام) كان من الرسل أرسله الله تعالى إلى قومه و هم جمع كثير يزيدون على مائة ألف فدعاهم فلم يجيبوه إلا بالتكذيب و الرد حتى جاءهم عذاب أوعدهم به يونس ثم خرج من بينهم.
فلما أشرف عليهم العذاب و شاهدوه مشاهدة عيان أجمعوا على الإيمان و التوبة إلى الله سبحانه فكشف الله عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا.
ثم إن يونس (عليه السلام) استخبر عن حالهم فوجد العذاب انكشف عنهم و كأنه لم يعلم بإيمانهم و توبتهم فلم يعد إليهم و ذهب لوجهه على ما به من الغضب و السخط عليهم فكان ظاهر حاله حال من يأبق من ربه مغاضبا عليه ظانا أن لا يقدر عليه و ركب البحر في فلك مشحون.
فعرض لهم حوت عظيم لم يجدوا بدا من أن يلقوا إليه واحدا منهم يبتلعه
و ينجو الفلك بذلك فساهموا و قارعوا فيما بينهم فأصابت يونس (عليه السلام) فألقوه في البحر فابتلعه الحوت و نجت السفينة.
ثم إن الله سبحانه حفظه حيا سويا في بطنه أياما و ليالي و يونس (عليه السلام) يعلم أنها بلية ابتلاه الله بها مؤاخذة بما فعل و هو ينادي في بطنه ﴿أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ اَلظَّالِمِينَ﴾ الأنبياء ٨٧.
فاستجاب الله له فأمر الحوت أن يلفظه فنبذه بالعراء و هو سقيم فأنبت الله سبحانه عليه شجرة من يقطين يستظل بأوراقها ثم لما استقامت حاله أرسله إلى قومه فلبوا دعوته و آمنوا به فمتعهم الله إلى حين.
و الأخبار الواردة من طرق أئمة أهل البيت (عليه السلام) على كثرتها و بعض الأخبار من طرق أهل السنة مشتركة المتون في قصة يونس (عليه السلام) على النحو الذي يستفاد من الآيات و إن اختلفت في بعض الخصوصيات الخارجة عن ذلك
[1]
٢ - قصته عند أهل الكتاب:
هو (عليه السلام) مذكور باسم يوناه بن إمتاي في مواضع من العهد القديم و كذا في مواضع من العهد الجديد أشير في بعضها إلى قصة لبثه في بطن الحوت لكن لم تذكر قصته الكاملة في شيء منهما.
و نقل الآلوسي في روح المعاني، في قصته عند أهل الكتاب و يؤيده ما في بعض كتبهم من إجمال[2] القصة:
أن الله أمره بالذهاب إلى دعوة أهل نينوى[3] و كانت إذ ذاك عظيمة جدا لا يقطع إلا في نحو ثلاثة أيام و كانوا قد عظم شرهم و كثر فسادهم، فاستعظم الأمر و هرب إلى ترسيس[4] فجاء يافا[5] فوجد سفينة يريد أهلها الذهاب بها إلى ترسيس فاستأجر و أعطى
الأجرة و ركب السفينة فهاجت ريح عظيمة و كثرت الأمواج و أشرفت السفينة على الغرق.
ففزع الملاحون و رموا في البحر بعض الأمتعة لتخف السفينة و عند ذلك نزل يونس إلى بطن السفينة و نام حتى علا نفسه فتقدم إليه الرئيس فقال له: ما بالك نائما؟ قم و ادع إلهك لعله يخلصنا مما نحن فيه و لا يهلكنا.
و قال بعضهم لبعض: تعالوا نتقارع لنعرف من أصابنا هذا الشر بسببه فتقارعوا فوقعت القرعة على يونس فقالوا له: أخبرنا ما ذا عملت: و من أين جئت؟ و إلى أين تمضي؟ و من أي كورة أنت؟ و من أي شعب أنت؟ فقال لهم: أنا عبد الرب إله السماء خالق البر و البحر و أخبرهم خبره فخافوا خوفا عظيما و قالوا له: لم صنعت ما صنعت؟ يلومونه على ذلك.
ثم قالوا له: ما نصنع الآن بك؟ ليسكن البحر عنا؟ فقال: ألقوني في البحر يسكن فإنه من أجلي صار هذا الموج العظيم فجهد الرجال أن يردوه إلى البر فلم يستطيعوا فأخذوا يونس و ألقوه في البحر لنجاة جميع من في السفينة فسكن البحر و أمر الله حوتا عظيما فابتلعه فبقي في بطنه ثلاثة أيام و ثلاث ليال و صلى في بطنه إلى ربه و استغاث به فأمر سبحانه الحوت فألقاه إلى اليبس ثم قال له: قم و امض إلى نينوى و ناد في أهلها كما أمرتك من قبل.
فمضى (عليه السلام) و نادى و قال: يخسف نينوى بعد ثلاثة أيام فآمنت رجال نينوى بالله و نادوا بالصيام و لبسوا المسوح جميعا و وصل الخبر إلى الملك فقام عن كرسيه و نزع حلته و لبس مسحا و جلس على الرماد و نودي أن لا يذق أحد من الناس و البهائم طعاما و لا شرابا و جاروا إلى الله تعالى و رجعوا عن الشر و الظلم فرحمهم الله و لم ينزل بهم العذاب.
فحزن يونس و قال: إلهي من هذا هربت، فإني علمت أنك الرحيم الرءوف الصبور التواب. يا رب خذ نفسي فالموت خير لي من الحياة فقال: يا يونس حزنت من هذا جدا؟ فقال: نعم يا رب.
و خرج يونس و جلس مقابل المدينة و صنع له هناك مظلة و جلس تحتها إلى أن يرى ما يكون في المدينة؟ فأمر الله يقطينا فصعد على رأسه ليكون ظلا له من كربه ففرح باليقطين فرحا عظيما و أمر الله تعالى دودة فضربت اليقطين فجف ثم هبت ريح
سموم و أشرقت الشمس على رأس يونس فعظم الأمر عليه و استطاب الموت.
فقال الرب: يا يونس أ حزنت جدا على اليقطين؟ فقال: نعم يا رب حزنت جدا فقال تعالى: حزنت عليه و أنت لم تتعب فيه و لم تربه بل صار من ليلته و هلك من ليلته فأنا لا أشفق على نينوى المدينة العظيمة التي فيها أكثر من اثنتي عشرة ربوة من الناس قوم لا يعلمون يمينهم و لا شمالهم و بهائمهم كثيرة انتهى. و جهات اختلاف القصة مع ما يستفاد من القرآن الكريم ظاهرة كالفرار من الرسالة و عدم رضاه برفع العذاب عنهم مع علمه بإيمانهم و توبتهم.
فإن قلت: نظير ذلك وارد في القرآن الكريم كنسبة الإباق إليه في سورة الصافات و كذا مغاضبته و ظنه أن الله لن يقدر عليه على ما في سورة الأنبياء.
قلت: بين النسبتين فرق فكتبهم المقدسة أعني العهدين لا تأبى عن نسبة المعاصي حتى الكبائر الموبقة إلى الأنبياء (عليه السلام) فلا موجب لتوجيه ما نسب من المعاصي إليه بما يخرج به عن كونه معصية بخلاف القرآن الكريم فإنه ينزه ساحتهم عن لوث المعاصي حتى الصغائر فما ورد فيه مما يوهم ذلك يحمل على أحسن الوجوه بهذه القرينة الموجبة و لذا حملنا قوله: ﴿إِذْ أَبَقَ﴾ و قوله: ﴿مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ﴾ على حكاية الحال و إيهام فعله.
٣ - ثناؤه تعالى عليه:
أثنى الله سبحانه عليه بأنه من المؤمنين «سورة الأنبياء ٨٨» و أنه اجتباه و قد عرفت أن اجتباءه إخلاصه العبد لنفسه خاصة، و أنه جعله من الصالحين «سورة ن: ٥٠» و عده في سورة الأنعام فيمن عده من الأنبياء و ذكر أنه فضلهم على العالمين و أنه هداهم إلى صراط مستقيم «سورة الأنعام: ٨٧».
(بحث روائي)
في الفقيه، و قال الصادق (عليه السلام) : ما تقارع قوم ففوضوا أمرهم إلى الله عز و جل إلا خرج سهم الحق، و قال: أي قضية أعدل من القرعة إذا فوض الأمر إلى الله.
أ ليس الله عز و جل يقول: ﴿فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ اَلْمُدْحَضِينَ﴾.
و في البحار، عن البصائر بإسناده عن حبة العرني قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : إن الله عرض ولايتي على أهل السماوات و على أهل الأرض أقر بها من أقر و أنكرها من أنكر أنكرها يونس فحبسه الله في بطن الحوت حتى أقر بها.
أقول: و في معناه روايات أخر، و المراد الولاية الكلية الإلهية التي هو (عليه السلام) أول من فتح بابها من هذه الأمة و هي قيامه تعالى مقام عبده في تدبير أمره فلا يتوجه العبد إلا إليه و لا يريد إلا ما أراده و ذلك بسلوك طريق العبودية التي تنتهي بالعبد إلى أن يخلصه الله لنفسه فلا يشاركه فيه غيره.
و كان ظاهر ما أتى به يونس (عليه السلام) مما لا يرتضيه الله تعالى فلم يكن قابلا للانتساب إلى إرادته فابتلاه الله بما ابتلاه ليعترف بظلمه على نفسه و أنه تعالى منزه عن إرادة مثله فالبلايا و المحن التي يبتلى بها الأولياء من التربية الإلهية التي يربيهم بها و يكملهم و يرفع درجاتهم بسببها و إن كان بعضها من جهة أخرى مؤاخذة ذات عتاب، و قد قيل البلاء للولاء.
و يؤيد ذلك ما عن العلل، بإسناده عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) :
لأي علة صرف الله العذاب عن قوم يونس و قد أظلهم و لم يفعل ذلك بغيرهم من الأمم؟ فقال: لأنه كان في علم الله أنه سيصرفه عنهم لتوبتهم و إنما ترك إخبار يونس بذلك لأنه أراد أن يفرغه لعبادته في بطن الحوت فيستوجب بذلك ثوابه و كرامته.
[سورة الصافات (٣٧): الآیات ١٤٩ الی ١٨٢]
﴿فَاسْتَفْتِهِمْ أَ لِرَبِّكَ اَلْبَنَاتُ وَ لَهُمُ اَلْبَنُونَ ١٤٩ أَمْ خَلَقْنَا اَلْمَلاَئِكَةَ إِنَاثاً وَ هُمْ شَاهِدُونَ ١٥٠ أَلاَ إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ ١٥١ وَلَدَ اَللَّهُ وَ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ١٥٢ أَصْطَفَى اَلْبَنَاتِ عَلَى اَلْبَنِينَ ١٥٣ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ١٥٤ أَ فَلاَ تَذَكَّرُونَ ١٥٥ أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ ١٥٦ فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ١٥٧
وَ جَعَلُوا بَيْنَهُ وَ بَيْنَ اَلْجِنَّةِ نَسَباً وَ لَقَدْ عَلِمَتِ اَلْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ١٥٨ سُبْحَانَ اَللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ١٥٩ إِلاَّ عِبَادَ اَللَّهِ اَلْمُخْلَصِينَ ١٦٠ فَإِنَّكُمْ وَ مَا تَعْبُدُونَ ١٦١ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ ١٦٢ إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ اَلْجَحِيمِ ١٦٣ وَ مَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ ١٦٤ وَ إِنَّا لَنَحْنُ اَلصَّافُّونَ ١٦٥ وَ إِنَّا لَنَحْنُ اَلْمُسَبِّحُونَ ١٦٦ وَ إِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ ١٦٧ لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْراً مِنَ اَلْأَوَّلِينَ ١٦٨ لَكُنَّا عِبَادَ اَللَّهِ اَلْمُخْلَصِينَ ١٦٩ فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ١٧٠ وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا اَلْمُرْسَلِينَ ١٧١ إِنَّهُمْ لَهُمُ اَلْمَنْصُورُونَ ١٧٢ وَ إِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ اَلْغَالِبُونَ ١٧٣ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ ١٧٤ وَ أَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ١٧٥ أَ فَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ ١٧٦ فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ اَلْمُنْذَرِينَ ١٧٧ وَ تَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ ١٧٨ وَ أَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ١٧٩ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ اَلْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ١٨٠ وَ سَلاَمٌ عَلَى اَلْمُرْسَلِينَ ١٨١ وَ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ ١٨٢﴾
(بيان)
قدم سبحانه ما بين به أنه رب معبود، عبده عباد مخلصون كالأنبياء المكرمين و كفر به آخرون فنجى عباده و أخذ الكافرين بأليم العذاب. ثم تعرض في هذه الآيات لما يعتقدونه في آلهتهم و هم الملائكة و الجن و أن الملائكة بنات الله و بينه و بين الجنة نسبا.
و الوثنية البرهمية و البوذية و الصابئة ما كانوا يقولون بأنوثة جميع الملائكة و إن قالوا بها في بعضهم لكن المنقول عن بعض قبائل العرب الوثنيين كجهينة و سليم و خزاعة و بني مليح القول بأنوثة الملائكة جميعا، و أما الجن فالقول بانتهاء نسبهم إليه في الجملة منقول عن الجميع.
و بالجملة يشير تعالى في الآيات إلى فساد قولهم ثم يبشر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بالنصر و يهددهم بالعذاب، و يختم السورة بتنزيهه تعالى و التسليم على المرسلين و الحمد لله رب العالمين.
قوله تعالى: ﴿فَاسْتَفْتِهِمْ أَ لِرَبِّكَ اَلْبَنَاتُ وَ لَهُمُ اَلْبَنُونَ﴾ حلل سبحانه قولهم: إن الملائكة بنات الله إلى ما يستلزمه من اللوازم و هي أن الملائكة أولاده، و أنهم بنات، و أنه تعالى خص نفسه بالبنات و هم مخصوصون بالبنين ثم رد هذه اللوازم واحدا بعد واحد فرد قولهم: إن له البنات و لهم البنين بقوله: ﴿فَاسْتَفْتِهِمْ أَ لِرَبِّكَ اَلْبَنَاتُ وَ لَهُمُ اَلْبَنُونَ﴾ و هو استفهام إنكاري لقولهم بما يلزمه من تفضيلهم على الله لما أنهم يفضلون البنين على البنات و يتنزهون منهن و يئدونهن.
قوله تعالى: ﴿أَمْ خَلَقْنَا اَلْمَلاَئِكَةَ إِنَاثاً وَ هُمْ شَاهِدُونَ﴾ أم منقطعة أي بل أ خلقنا الملائكة إناثا و هم شاهدون يشهدون خلقهم و لم يكونوا شاهدين خلقهم و لا لهم أن يدعوا ذلك، و الذكورة و الأنوثة مما لا يثبت إلا بنوع من الحس، و هذا رد لقولهم بأنوثة الملائكة.
قوله تعالى: ﴿أَلاَ إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اَللَّهُ وَ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ رد لقولهم بالولادة بأنه من الإفك أي صرف القول عن وجهه إلى غير وجهه أي من الحق إلى الباطل فيوجهون خلقهم بما يعدونه ولادة و يعبرون عنه بها فهم آفكون كاذبون.
قوله تعالى: ﴿أَصْطَفَى اَلْبَنَاتِ عَلَى اَلْبَنِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَ فَلاَ تَذَكَّرُونَ﴾
كرر الإنكار على اصطفاء البنات من بين لوازم قولهم لشدة شناعته.
ثم وبخهم بقوله: ﴿مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ لكون قولهم حكما من غير دليل ثم عقبه بقوله: ﴿أَ فَلاَ تَذَكَّرُونَ﴾ توبيخا و إشارة إلى أن قولهم ذلك فضلا عن كونه مما لا دليل عليه الدليل على خلافه و لو تذكروا لانكشف لهم فقد تنزهت ساحته تعالى عن أن يتجزأ فيلد أو يحتاج فيتخذ ولدا، و قد احتج عليهم بذلك في مواضع من كلامه.
و الالتفات من الغيبة إلى الخطاب للدلالة على اشتداد السخط الموجب لتوبيخهم شفاها.
قوله تعالى: ﴿أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ أم منقطعة و المراد بالسلطان و هو البرهان كتاب نازل من عند الله سبحانه يخبر فيه أن الملائكة بناته على ما يعطيه السياق إذ لما لم يثبت بعقل أو حس بقي أن يثبت بكتاب من عند الله نازل بالوحي فلو كانت دعواهم حقة و هم صادقون فيها كان لهم أن يأتوا بالكتاب.
و إضافة الكتاب إليهم بعناية فرضه دالا على دعواهم.
قوله تعالى: ﴿وَ جَعَلُوا بَيْنَهُ وَ بَيْنَ اَلْجِنَّةِ نَسَباً وَ لَقَدْ عَلِمَتِ اَلْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ﴾ جعل النسب بينه و بين الجنة قولهم: إن الجنة أولاده و قد تقدم تفصيل قولهم في تفسير سورة هود في الكلام على عبادة الأصنام.
و قوله: ﴿وَ لَقَدْ عَلِمَتِ اَلْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ﴾ أي للحساب أو للنار على ما يفيده إطلاق ﴿لَمُحْضَرُونَ﴾ و كيف كان فهم يعلمون أنهم مربوبون لله سيحاسبهم و يجازيهم بما عملوا فبينهم و بين الله سبحانه نسبة الربوبية و العبودية لا نسب الولادة و من كان كذلك لا يستحق العبادة.
و من الغريب قول بعضهم: إن المراد بالجنة طائفة من الملائكة يسمون بها و لازمه إرجاع ضمير ﴿إِنَّهُمْ﴾ إلى الكفار دون الجنة. و هو مما لا شاهد له من كلامه تعالى مضافا إلى بعده من السياق.
قوله تعالى: ﴿سُبْحَانَ اَللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلاَّ عِبَادَ اَللَّهِ اَلْمُخْلَصِينَ﴾ ضمير ﴿يَصِفُونَ﴾ نظرا إلى اتصال الآية بما قبلها راجع إلى الكفار المذكورين قبل، و الاستثناء منه
منقطع و المعنى هو منزه عن وصفهم أو عما يصفه الكفار به من الأوصاف كالولادة و النسب و الشركة و نحوها لكن عباد الله المخلصين يصفونه تعالى وصفا يليق به أو بما يليق به من الأوصاف.
و قيل: إنه استثناء منقطع من ضمير ﴿لَمُحْضَرُونَ﴾، و قيل: من فاعل ﴿جَعَلُوا﴾ و ما بينهما من الجمل المتخللة اعتراض، و هما وجهان بعيدان.
و للآيتين باستقلالهما معنى أوسع من ذلك و أدق و هو رجوع ضمير ﴿يَصِفُونَ﴾ إلى الناس، و الوصف مطلق يشمل كل ما يصفه به واصف، و الاستثناء متصل و المعنى هو منزه عن كل ما يصفه الواصفون إلا عباد الله المخلصين.
و ذلك أنهم إنما يصفونه بمفاهيم محدودة عندهم و هو سبحانه غير محدود لا يحيط به حد و لا يدركه نعت فكل ما وصف به فهو أجل منه و كل ما توهم أنه هو فهو غيره لكن له سبحانه عباد أخلصهم لنفسه و خصهم بنفسه لا يشاركه فيهم أحد غيره فعرفهم نفسه و أنساهم غيره يعرفونه و يعرفون غيره به فإذا وصفوه في نفوسهم وصفوه بما يليق بساحة كبريائه و إذا وصفوه بألسنتهم و الألفاظ قاصرة و المعاني محدودة اعترفوا بقصور البيان و أقروا بكلال اللسان
كما قال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و هو سيد المخلصين: لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك[6] فافهم ذلك.
قوله تعالى: ﴿فَإِنَّكُمْ وَ مَا تَعْبُدُونَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ اَلْجَحِيمِ﴾ تفريع على حكم المستثنى و المستثنى منه أو المستثنى خاصة، و المعنى لما كان ما وصفتموه ضلالا و عباد الله المخلصون لا يضلون في وصفهم فلستم بمضلين به إلا سالكي سبيل النار.
و الظاهر من السياق أن ﴿مَا﴾ في ﴿مَا تَعْبُدُونَ﴾ موصولة و المراد بها الأصنام فحسب أو الأصنام و آلهة الضلال كشياطين الجن، و ما في ﴿مَا أَنْتُمْ﴾ نافية، و ضمير ﴿عَلَيْهِ﴾ لله سبحانه و الظرف متعلق بفاتنين، و فاتنين اسم فاعل من الفتنة بمعنى الإضلال و ﴿صَالِ﴾ من الصلو بمعنى الاتباع فصالي الجحيم هو المتبع للجحيم السالك سبيل النار، و الاستثناء مفرغ تقديره ما أنتم بفاتنين أحدا إلا من هو صال الجحيم.
و المعنى فإنكم و آلهة الضلال التي تعبدونها لستم جميعا بمضلين أحدا على الله إلا من هو متبع الجحيم.
و قيل: إن ﴿مَا﴾ الأولى مصدرية أو موصولة و جملة ﴿فَإِنَّكُمْ وَ مَا تَعْبُدُونَ﴾ كلام» تام مستقل من قبيل قولهم: أنت و شأنك و المعنى فإنكم و ما تعبدون متقارنان ثم استونف و قيل: ﴿مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ﴾ و ﴿بِفَاتِنِينَ﴾ مضمن معنى الحمل و ضمير ﴿عَلَيْهِ﴾ راجع إلى ﴿مَا تَعْبُدُونَ﴾ إن كانت ما مصدرية و إلى ﴿مَا﴾ بتقدير مضاف إن كانت موصولة و المعنى ما أنتم بحاملين على عبادتكم أو على عبادة ما تعبدونه إلا من هو صال الجيم.
قيل: و يمكن أن يكون «على» بمعنى الباء و الضمير لما تعبدون أو لما أن كانت موصولة و ﴿بِفَاتِنِينَ﴾ على ظاهر معناه من غير تضمين، و المعنى ما أنتم بمضلين أحدا بعبادتكم أو بعبادة ما تعبدونه إلا «إلخ».
و هذه كلها تكلفات من غير موجب و الكلام فيما في الآية من الالتفات كالكلام فيما سبق منه.
قوله تعالى: ﴿وَ مَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ وَ إِنَّا لَنَحْنُ اَلصَّافُّونَ وَ إِنَّا لَنَحْنُ اَلْمُسَبِّحُونَ﴾ الآيات الثلاث على ما يعطيه السياق اعتراض من كلام جبرئيل أو هو و أعوانه من ملائكة الوحي نظير قوله تعالى في سورة مريم﴿وَ مَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَ مَا خَلْفَنَا وَ مَا بَيْنَ ذَلِكَ﴾ الخ: مريم: - ٦٤.
و قيل: هي من كلام الرسول (صلى الله عليه وآله و سلم) يصف نفسه و المؤمنين به للكافرين تبكيتا لهم و تقريعا و هو متصل بقوله: ﴿فَاسْتَفْتِهِمْ﴾ و التقدير فاستفتهم و قل: ما منا معشر المسلمين إلا له مقام معلوم على قدر أعماله يوم القيامة و إنا لنحن الصافون في الصلاة و إنا لنحن المسبحون. و هو تكلف لا يلائمه السياق.
و الآيات الثلاث مسوقة لرد قولهم بألوهية الملائكة بإيراد نفس اعترافهم بما ينتفي به قول الكفار و هم لا ينفون العبودية عن الملائكة بل يرون أنهم مربوبون لله سبحانه أرباب و آلهة لمن دونهم يستقلون بالتصرف فيما فوض إليهم من أمر العالم من غير أن يرتبط شيء من هذا التدبير إلى الله سبحانه و هذا هو الذي ينفيه الملائكة عن أنفسهم لا كونهم أسبابا متوسطة بينه تعالى و بين خلقه كما قال تعالى ﴿بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ
لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾ الأنبياء: - ٢٧.
فقوله: ﴿وَ مَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ﴾ أي معين مشخص أقيم فيه ليس له أن يتعداه بأن يفوض إليه أمر فيستقل فيه بل مجبول على طاعة الله فيما يأمر به و عبادته.
و قوله: ﴿وَ إِنَّا لَنَحْنُ اَلصَّافُّونَ﴾ أي نصف عند الله في انتظار أوامره في تدبير العالم لنجريها على ما يريد. كما قال تعالى: ﴿لاَ يَعْصُونَ اَللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ هذا ما يفيده السياق، و ربما قيل: إن المراد إنا نصف للصلاة عند الله و هو بعيد من الفهم لا شاهد عليه.
و قوله: ﴿وَ إِنَّا لَنَحْنُ اَلْمُسَبِّحُونَ﴾ أي المنزهون له تعالى عما لا يليق بساحة كبريائه كما قال تعالى﴿يُسَبِّحُونَ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ﴾ الأنبياء: - ٢٠.
فالآيات الثلاث تصف موقف الملائكة في الخلقة و عملهم المناسب لخلقتهم و هو الاصطفاف لتلقي أمره تعالى و التنزيه لساحة كبريائه عن الشريك و كل ما لا يليق بكمال ذاته المتعالية.
قوله تعالى: ﴿وَ إِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْراً مِنَ اَلْأَوَّلِينَ لَكُنَّا عِبَادَ اَللَّهِ اَلْمُخْلَصِينَ﴾ رجوع إلى السياق السابق.
و الضمير في قوله: ﴿وَ إِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ﴾ لقريش و من يتلوهم، و ﴿إِنْ﴾ مخففة من الثقيلة، و المراد بذكر من الأولين كتاب سماوي من جنس الكتب النازلة على الأولين.
و المعنى لو أن عندنا كتابا سماويا من جنس الكتب النازلة قبلنا على الأولين لاهتدينا و كنا عباد الله المخلصين يريدون أنهم معذورون لو كفروا لعدم قيام الحجة عليهم من قبل الله سبحانه.
و هذا في الحقيقة هفوة منهم فإن مذهب الوثنية يحيل النبوة و الرسالة و نزول الكتاب السماوي.
قوله تعالى: ﴿فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ الفاء فصيحة، و المعنى فأنزلنا عليهم الذكر و هو القرآن الكريم فكفروا به و لم يفوا بما قالوا فسوف يعلمون وبال كفرهم
و هذا تهديد منه تعالى لهم.
قوله تعالى: ﴿وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا اَلْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ اَلْمَنْصُورُونَ﴾ كلمته تعالى لهم قوله الذي قاله فيهم و هو حكمه و قضاؤه في حقهم و سبق الكلمة تقدمها عهدا أو تقدمها بالنفوذ و الغلبة و اللام تفيد معنى النفع أي إنا قضينا قضاء محتوما فيهم إنهم لهم المنصورون و قد أكد الكلام بوجوه من التأكيد.
و قد أطلق النصر من غير تقييده بدنيا أو آخرة أو بنحو آخر بل القرينة على خلافه قال تعالى﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ يَوْمَ يَقُومُ اَلْأَشْهَادُ ﴾المؤمن: - ٥١.
فالرسل (عليه السلام) منصورون في الحجة لأنهم على الحق و الحق غير مغلوب.
و هم منصورون على أعدائهم إما بإظهارهم عليهم و إما بالانتقام منهم قال تعالى﴿ وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ اَلْقُرىَ ﴾ إلى أن قال ﴿حَتَّى إِذَا اِسْتَيْأَسَ اَلرُّسُلُ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَ لاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ اَلْقَوْمِ اَلْمُجْرِمِينَ﴾ يوسف: - ١١٠.
و هم منصورون في الآخرة كما قال تعالى﴿يَوْمَ لاَ يُخْزِي اَللَّهُ اَلنَّبِيَّ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾ التحريم: - ٨، و قد تقدم آنفا آية في سورة المؤمن في هذا المعنى.
قوله تعالى: ﴿وَ إِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ اَلْغَالِبُونَ﴾ الجند هو المجتمع الغليظ و لذا يقال للعسكر جند فهو قريب المعنى من الحزب[7] و قد قال تعالى في موضع آخر من كلامه ﴿ وَ مَنْ يَتَوَلَّ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اَللَّهِ هُمُ اَلْغَالِبُونَ﴾ المائدة: - ٥٦.
و المراد بقوله: ﴿جُنْدَنَا﴾ هو المجتمع المؤتمر بأمره المجاهد في سبيله و هم المؤمنون خاصة أو الأنبياء و من تبعهم من المؤمنين و في الكلام على التقدير الثاني تعميم بعد التخصيص، و كيف كان فالمؤمنون منصورون كمتبوعيهم من الأنبياء قال تعالى
﴿وَ لاَ تَهِنُوا وَ لاَ تَحْزَنُوا وَ أَنْتُمُ اَلْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ آل عمران: - ١٣٩ و قد مر بعض الآيات الدالة عليه آنفا.
و الحكم أعني النصر و الغلبة حكم اجتماعي منوط على العنوان لا غير أي إن الرسل و هم عباد أرسلهم الله و المؤمنون و هم جند لله يعملون بأمره و يجاهدون في سبيله ما داموا على هذا النعت منصورون غالبون، و أما إذا لم يبق من الإيمان إلا اسمه و من الانتساب إلا حديثه فلا ينبغي أن يرجى نصر و لا غلبة.
قوله تعالى: ﴿فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ﴾ تفريع على حديث النصر و الغلبة ففيه وعد للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بالنصر و الغلبة و إيعاد للمشركين و لقريش خاصة.
و الأمر بالإعراض عنهم ثم جعله مغيا بقوله: ﴿حَتَّى حِينٍ﴾ يلوح إلى أن الأمد غير بعيد و كان كذلك فهاجر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بعد قليل و أباد الله صناديد قريش في غزوة بدر و غيرها.
قوله تعالى: ﴿وَ أَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ﴾ الأمر بالإبصار و الإخبار بإبصارهم عاجلا و عطف الكلام على الأمر بالتولي معجلا يفيد بحسب القياس أن المعنى أنظرهم و أبصر ما هم عليه من الجحود و العناد قبال إنذارك و تخويفك فسوف يبصرون وبال جحودهم و استكبارهم.
قوله تعالى: ﴿أَ فَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ اَلْمُنْذَرِينَ﴾ توبيخ لهم لاستعجالهم و قولهم: متى هذا الوعد؟ متى هذا الفتح؟ و إيذان بأن هذا العذاب مما لا ينبغي أن يستعجل لأنه يعقب يوما بئيسا و صباحا مشئوما.
و نزول العذاب بساحتهم كناية عن نزوله بهم على نحو الشمول و الإحاطة، و قوله: ﴿فَسَاءَ صَبَاحُ اَلْمُنْذَرِينَ﴾ أي بئس صباحهم صباحا، و المنذرون هم المشركون من قريش.
قوله تعالى: ﴿وَ تَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَ أَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ﴾ تأكيد لما مر بتكرار الآيتين على ما قيل، و احتمل بعضهم أن يكون المراد بما تقدم التهديد بعذاب الدنيا و بهذا، التهديد بعذاب الآخرة. و لا يخلو من وجه فإن الواقع في الآية ﴿وَ أَبْصِرْ﴾
من غير مفعول كما في الآية السابقة من قوله: ﴿وَ أَبْصِرْهُمْ﴾ و الحذف يشعر بالعموم و أن المراد إبصار ما عليه عامة الناس من الكفر و الفسوق و يناسبه التهديد بعذاب يوم القيامة.
قوله تعالى: ﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ اَلْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾ تنزيه له تعالى عما يصفه به الكفار المخالفون لدعوة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) مما تقدم ذكره في السورة.
و الدليل عليه إضافة التنزيه إلى قوله: ﴿رَبِّكَ﴾ أي الرب الذي تعبده و تدعو إليه، و إضافة الرب ثانيا إلى العزة المفيد لاختصاصه تعالى بالعزة فهو منيع الجانب على الإطلاق فلا يذله مذل و لا يغلبه غالب و لا يفوته هارب فالمشركون أعداء الحق المهددون بالعذاب ليسوا له بمعجزين.
قوله تعالى: ﴿وَ سَلاَمٌ عَلَى اَلْمُرْسَلِينَ﴾ تسليم على عامة المرسلين و صون لهم من أن يصيبهم من قبله تعالى ما يسوؤهم و يكرهونه.
قوله تعالى: ﴿وَ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ﴾ تقدم الكلام فيه في تفسير سورة الفاتحة.
(بحث روائي)
في الدر المنثور، أخرج محمد بن نضر و ابن عساكر عن العلاء بن سعيد: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قال يوما لجلسائه: أطت السماء و حق لها أن تئط، ليس منها موضع قدم إلا عليه ملك راكع أو ساجد. ثم قرأ ﴿وَ إِنَّا لَنَحْنُ اَلصَّافُّونَ وَ إِنَّا لَنَحْنُ اَلْمُسَبِّحُونَ﴾.
أقول: و روي هذا المعنى عنه (ص) بغير هذا الطريق.
و فيه، أخرج ابن مردويه عن أنس: أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كان إذا قام إلى الصلاة قال:
استووا تقدم يا فلان تأخر يا فلان أقيموا صفوفكم يريد الله بكم هدى الملائكة ثم يتلو:
﴿وَ إِنَّا لَنَحْنُ اَلصَّافُّونَ وَ إِنَّا لَنَحْنُ اَلْمُسَبِّحُونَ﴾.
و في نهج البلاغة،: قال (عليه السلام) في وصف الملائكة: و صافون لا يتزايلون و مسبحون لا يسأمون.
(٣٨) سورة _ ص مكية و هي ثمان و ثمانون آية (٨٨)
[سورة ص (٣٨): الآیات ١ الی ١٦]
﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ ص وَ اَلْقُرْآنِ ذِي اَلذِّكْرِ ١ بَلِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَ شِقَاقٍ ٢ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَ لاَتَ حِينَ مَنَاصٍ ٣ وَ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَ قَالَ اَلْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ٤ أَ جَعَلَ اَلْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ٥ وَ اِنْطَلَقَ اَلْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ اِمْشُوا وَ اِصْبِرُوا عَلىَ آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ ٦ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي اَلْمِلَّةِ اَلْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اِخْتِلاَقٌ ٧ أَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اَلذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ ٨ أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ اَلْعَزِيزِ اَلْوَهَّابِ ٩ أَمْ لَهُمْ مُلْكُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي اَلْأَسْبَابِ ١٠ جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ اَلْأَحْزَابِ ١١ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ عَادٌ وَ فِرْعَوْنُ ذُو اَلْأَوْتَادِ ١٢ وَ ثَمُودُ وَ قَوْمُ لُوطٍ وَ أَصْحَابُ اَلْأَيْكَةِ أُولَئِكَ اَلْأَحْزَابُ ١٣ إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ اَلرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ ١٤ وَ مَا يَنْظُرُ هَؤُلاَءِ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ ١٥ وَ قَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ اَلْحِسَابِ ١٦﴾
(بيان)
يدور الكلام في السورة حول كون النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) منذرا بالذكر النازل عليه من عند الله سبحانه الداعي إلى التوحيد و إخلاص العبودية له تعالى.
فتبدأ بذكر اعتزاز الكفار و شقاقهم و بالجملة استكبارهم عن اتباعه و الإيمان به و صد الناس عنه و تفوههم بباطل القول في ذلك و رده في فصل.
ثم تأمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بالصبر و ذكر قصص عباده الأولين في فصل ثم يذكر مآل حال المتقين و الطاغين في فصل. ثم تأمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بإبلاغ نذارته و دعوته إلى توحيد الله و أن مآل أتباع الشيطان إلى النار على ما قضى به الله يوم أمر الملائكة بالسجدة لآدم فأبى إبليس فرجمه و قضى عليه و على من تبعه النار في فصل.
و السورة مكية بشهادة سياق آياتها.
قوله تعالى: ﴿ص وَ اَلْقُرْآنِ ذِي اَلذِّكْرِ بَلِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَ شِقَاقٍ﴾ المراد بالذكر ذكر الله تعالى بتوحيده و ما يتفرع عليه من المعارف الحقة من المعاد و النبوة و غيرهما، و العزة الامتناع، و الشقاق المخالفة، قال في مجمع البيان،: و أصله أن يصير كل من الفريقين في شق أي في جانب و منه يقال: شق فلان العصا إذا خالف انتهى.
و المستفاد من سياق الآيات أن قوله: ﴿وَ اَلْقُرْآنِ ذِي اَلذِّكْرِ﴾ قسم نظير ما في قوله:
﴿يس وَ اَلْقُرْآنِ اَلْحَكِيمِ﴾ ﴿ق وَ اَلْقُرْآنِ اَلْمَجِيدِ﴾ ﴿ن وَ اَلْقَلَمِ﴾ لا عطف على ما تقدمه، و أما المقسم عليه فالذي يدل عليه الإضراب في قوله: ﴿بَلِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَ شِقَاقٍ﴾ أنه أمر يمتنع عن قبوله القوم و يكفرون به عزة و شقاقا و قد هلك فيه قرون كثيرة ثم ذكر إنذار النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و ما قاله الكفار عليه و ما أمرهم به ملؤهم حول إنذاره (ص) أنه أعني المقسم عليه نحو من قولنا: إنك لمن المنذرين، و يشهد على ذلك أيضا التعرض في السورة بإنذاره (ص) بالذكر مرة بعد أخرى.
و قد قيل في قوله: ﴿ص وَ اَلْقُرْآنِ ذِي اَلذِّكْرِ﴾ من حيث الإعراب و المعنى وجوه كثيرة لا محصل لأكثرها تركنا إيرادها لعدم الجدوى.
و المعنى و الله أعلم أقسم بالقرآن المتضمن للذكر إنك لمن المنذرين بل الذين كفروا في امتناع عن قبوله و اتباعه و مخالفة له.
قوله تعالى: ﴿كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَ لاَتَ حِينَ مَنَاصٍ﴾ القرن أهل عصر واحد، و المناص بالنون مصدر ناص ينوص أي تأخر كما أنه بالباء الموحدة بمعنى التقدم على ما في المجمع، و قيل: هو بمعنى الفرار.
و المعنى: كثيرا ما أهلكنا من قبل هؤلاء الكفار من قرن و أمة بتكذيبهم الرسل المنذرين فنادوا عند نزول العذاب بالويل كقولهم: يا ويلنا إنا كنا ظالمين أو بالاستغاثة بالله سبحانه و ليس الحين حين تأخر الأخذ و العذاب أو ليس الحين حين فرار.
قوله تعالى: ﴿وَ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَ قَالَ اَلْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ﴾ أي تعجبوا من مجيء منذر من نوعهم بأن كان بشرا فإن الوثنية تنكر رسالة البشر.
و قوله: ﴿وَ قَالَ اَلْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ﴾ يشيرون بهذا إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) يرمونه بالسحر لكونهم عاجزين عن الإتيان بمثل ما أتى به و هو القرآن، و بالكذب لزعمهم أنه يفتري على الله بنسبة القرآن و ما فيه من المعارف الحقة إليه تعالى.
قوله تعالى: ﴿أَ جَعَلَ اَلْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾ العجاب بتخفيف الجيم اسم مبالغة من العجب و هو بتشديد الجيم أبلغ.
و هو من تتمة قول الكافرين و الاستفهام للتعجيب و الجعل بمعنى التصيير و هو كما قيل تصيير بحسب القول و الاعتقاد و الدعوى لا بحسب الواقع كما في قوله تعالى﴿ وَ جَعَلُوا اَلْمَلاَئِكَةَ اَلَّذِينَ هُمْ عِبَادُ اَلرَّحْمَنِ إِنَاثاً﴾ الزخرف: - ١٩ فمعنى جعله (ص) الآلهة إلها واحدا هو إبطاله ألوهية الآلهة من دون الله و حكمه بأن الإله هو الله لا إله إلا هو.
قوله تعالى: ﴿وَ اِنْطَلَقَ اَلْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ اِمْشُوا وَ اِصْبِرُوا عَلىَ آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ﴾ نسبة الانطلاق إلى ملإهم و أشرافهم و قولهم ما قالوا يلوح إلى أن أشراف قريش اجتمعوا على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ليحلوا مشكلة دعوته إلى التوحيد و رفض الآلهة بنوع من الاستمالة و كلموه في ذلك فما وافقهم في شيء منه ثم انطلقوا و قال بعضهم لبعض أو قالوا
لأتباعهم أن امشوا و اصبروا «إلخ» و هذا يؤيد ما ورد في أسباب النزول مما سيجيء في البحث الروائي الآتي إن شاء الله.
و قوله: ﴿أَنِ اِمْشُوا وَ اِصْبِرُوا عَلىَ آلِهَتِكُمْ﴾ بتقدير القول أي قائلين أن امشوا و اصبروا على آلهتكم و لا تتركوا عبادتها و إن عابها و قدح فيها، و ظاهر السياق أن القول قول بعضهم لبعض، و يمكن أن يكون قولهم لتبعتهم.
و قوله: ﴿إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ﴾ ظاهره أنه إشارة إلى ما يدعو إليه النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و يطلبه و أن مطلوبه شيء يراد بالطبع و هو السيادة و الرئاسة و إنما جعل الدعوة ذريعة إليه فهو نظير قول الملإ من قوم نوح لعامتهم﴿مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ﴾ المؤمنون: - ٢٤.
و قيل: المعنى إن هذا الذي شاهدناه من إسراره (ص) على ما يطلبه و تصلبه في دينه لشيء عظيم يراد من قبله.
و قيل: المعنى إن هذا الأمر لشيء من نوائب الدهر يراد بنا فلا حيلة إلا أن تمشوا و تصبروا.
و قيل: المعنى إن الصبر خلق محمود يراد منا في مثل هذه الموارد، و قيل غير ذلك و هي وجوه ضعيفة لا يلائمها السياق.
قوله تعالى: ﴿مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي اَلْمِلَّةِ اَلْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اِخْتِلاَقٌ﴾ أرادوا بالملة الآخرة المذهب الذي تداوله الآخرون من الأمم المعاصرين لهم أو المقارنين لعصرهم قبال الملل الأولى التي تداولها الأولون كأنهم يقولون: ليس هذا من الملة الآخرة التي يرتضيها أهل الدنيا اليوم بل من أساطير الأولين.
و قيل: المراد بالملة الآخرة النصرانية لأنها آخر الملل و هم لا يقولون بالتوحيد بل بالتثليث. و ضعفه ظاهر إذ لم يكن للنصرانية وقع عندهم كالإسلام.
و قوله: ﴿إِنْ هَذَا إِلاَّ اِخْتِلاَقٌ﴾ أي كذب و افتعال.
قوله تعالى: ﴿أَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اَلذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا﴾ استفهام إنكاري بداعي التكذيب أي لا مرجح عند محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) يترجح به علينا فينزل عليه الذكر دوننا فهو في إنكار
الاختصاص بنزول الذكر نظير قولهم: ما أنت إلا بشر مثلنا في نفي الاختصاص بالرسالة.
قوله تعالى: ﴿بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ﴾ إضراب عن جميع ما قالوه أي إنهم لم يقولوا عن إيمان و اعتقاد به بل هم في شك من ذكري و هو القرآن.
و ليس شكهم فيه من جهة خفاء دلالة آية النبوة و قصورها عن إفادة اليقين بل تعلق قلوبهم بما عندهم من الباطل و لزومهم التقليد يصرفهم عن النظر في دلالة الآية الإلهية المعجزة فشكوا في الذكر و الحال أنه آية معجزة.
و قوله: ﴿بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ﴾ إضراب عن الإضراب أي ليس إنكارهم و عدم إيمانهم به عن شك منهم فيه بل لأنهم لعتوهم و استكبارهم لا يعترفون بحقيته و لو لم يكن شك، حتى يذوقوا عذابي فيضطروا إلى الاعتراف كما فعل غيرهم.
و في قوله: ﴿لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ﴾ أي لم يذوقوا بعد عذابي، تهديد بعذاب واقع.
قوله تعالى: ﴿أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ اَلْعَزِيزِ اَلْوَهَّابِ﴾ الكلام في موقع الإضراب و ﴿أَمْ﴾ منقطعة و الكلام ناظر إلى قولهم: ﴿أَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اَلذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا﴾ أي بل أ عندهم خزائن رحمة ربك التي ينفق منها على من يشاء حتى يمنعوك منها بل هي له تعالى و هو أعلم حيث يجعل رسالته و يخص برحمته من يشاء.
و تذييل الكلام بقوله: ﴿اَلْعَزِيزِ اَلْوَهَّابِ﴾ لتأييد محصل الجملة أي ليس عندهم شيء من خزائن رحمته لأنه عزيز منيع جانبه لا يداخل في أمره أحد، و لا لهم أن يصرفوا رحمته عن أحد لأنه وهاب كثير الهبات.
قوله تعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ مُلْكُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي اَلْأَسْبَابِ﴾ ﴿أَمْ﴾ منقطعة، و الأمر في قوله: ﴿فَلْيَرْتَقُوا﴾ للتعجيز و الارتقاء الصعود، و الأسباب المعارج و المناهج التي يتوسل بها إلى الصعود إلى السماوات و يمكن أن يراد بارتقاء الأسباب التسبيب بالعلل و الحيل الذي يحصل به لهم المنع و الصرف.
و المعنى: بل لهم ملك السماوات و الأرض فيكون لهم أن يتصرفوا فيها فيمنعوا
نزول الوحي السماوي إلى بشر أرضي فإن كان كذلك فليصعدوا معارج السماوات أو فليتسببوا الأسباب و ليمنعوا من نزول الوحي عليك.
قوله تعالى: ﴿جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ اَلْأَحْزَابِ﴾ الهزيمة الخذلان و ﴿مِنَ اَلْأَحْزَابِ﴾ بيان لقوله: ﴿جُنْدٌ مَا﴾ و ﴿مَا﴾ للتقليل و التحقير، و الكلام مسوق لتحقير أمرهم رغما لما يشعر به ظاهر كلامهم من التعزز و الإعجاب بأنفسهم.
يدل على ذلك تنكير ﴿جُنْدٌ﴾ و تتميمه بلفظة ﴿مَا﴾ و الإشارة إلى مكانتهم بهنالك الدال على البعيد و عدهم من الأحزاب المتحزبين على الرسل الذين قطع الله دابر الماضين منهم كما سيذكر و لذلك عد هذا الجند مهزوما قبل انهزامهم.
و المعنى: هم جند ما أقلاء أذلاء منهزمون هنالك من أولئك الأحزاب المتحزبين على الرسل الذين كذبوهم فحق عليهم عقابي.
قوله تعالى: ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ عَادٌ وَ فِرْعَوْنُ ذُو اَلْأَوْتَادِ﴾ إلى قوله ﴿فَحَقَّ عِقَابِ﴾ ذو الأوتاد وصف فرعون و الأوتاد جمع وتد و هو معروف. قيل: سمي بذي الأوتاد لأنه كانت له ملاعب من أوتاد يلعب له عليها، و قيل: لأنه كان يعذب من غضب عليه من المجرمين بالأوتاد يوتد يديه و رجليه و رأسه على الأرض فيعذبه و قيل:
معناه ذو الجنود أوتاد الملك، و قيل: غير ذلك من الوجوه، و لا دليل على شيء منها يعول عليه.
و أصحاب الأيكة قوم شعيب و قد تقدم في سورة الحجر و الشعراء، و قوله:
﴿فَحَقَّ عِقَابِ﴾ أي ثبت في حقهم و استقر فيهم عقابي فأهلكتهم.
قوله تعالى: ﴿وَ مَا يَنْظُرُ هَؤُلاَءِ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ﴾ النظر الانتظار و الفواق الرجوع و المهلة اليسيرة، و المعنى و ما ينتظر هؤلاء المكذبون من أمتك إلا صيحة واحدة تقضي عليهم و تهلكهم ما لها من رجوع أو مهلة و هي عذاب الاستئصال.
قالوا: و المراد من الصيحة صيحة يوم القيامة لأن أمة محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) مؤخر عنهم العذاب إلى قيام الساعة، و قد عرفت في تفسير سورة يونس أن ظاهر آيات الكتاب يعطي خلاف ذلك فراجع.
قوله تعالى: ﴿وَ قَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ اَلْحِسَابِ﴾ القط النصيب و الحظ، و هذه الكلمة استعجال منهم للعذاب قبل يوم القيامة استهزاء بحديث يوم الحساب و الوعيد بالعذاب فيه.
(بحث روائي)
في الكافي، بإسناده عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: أقبل أبو جهل بن هشام و معه قوم من قريش فدخلوا على أبي طالب فقالوا. إن ابن أخيك قد آذانا و آذى آلهتنا فادعه و مره فليكف عن آلهتنا و نكف عن إلهه .
قال: فبعث أبو طالب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فدعاه فلما دخل النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لم ير في البيت إلا مشركا فقال: السلام على من اتبع الهدى ثم جلس فخبره أبو طالب بما جاءوا به فقال: أ و هل لهم في كلمة خير لهم من هذا يسودون بها العرب و يطئون أعناقهم؟ فقال أبو جهل: نعم و ما هذه الكلمة؟ قال: تقولون: لا إله إلا الله .
قال: فوضعوا أصابعهم في آذانهم و خرجوا و هم يقولون: ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق فأنزل الله في قولهم ﴿ص وَ اَلْقُرْآنِ ذِي اَلذِّكْرِ﴾ إلى قوله ﴿إِلاَّ اِخْتِلاَقٌ﴾ و في تفسير القمي، :في قوله تعالى: ﴿وَ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ﴾ قال: لما أظهر رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) الدعوة اجتمعت قريش إلى أبي طالب فقالوا: يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سفه أحلامنا و سب آلهتنا و أفسد شبابنا و فرق جماعتنا فإن كان الذي يحمله على ذلك العدم جمعنا له مالا حتى يكون أغنى رجل في قريش و نملكه علينا.
فأخبر أبو طالب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بذلك فقال: و الله لو وضعوا الشمس في يميني و القمر في يساري ما أردته و لكن يعطونني كلمة يملكون بها العرب و يدين لهم بها العجم و يكونون ملوكا في الجنة فقال لهم أبو طالب ذلك فقالوا: نعم و عشر كلمات فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) تشهدون أن لا إله إلا الله و أني رسول الله فقالوا: ندع ثلاثمائة و ستين إلها و نعبد إلها واحدا؟.
فأنزل الله سبحانه: ﴿وَ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَ قَالَ اَلْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ﴾ إلى قوله ﴿إِلاَّ اِخْتِلاَقٌ﴾ أي تخليط ﴿أَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اَلذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي﴾ إلى قوله ﴿مِنَ اَلْأَحْزَابِ﴾ يعني الذين تحزبوا عليه يوم الأحزاب.
أقول: و القصة مروية من طريق أهل السنة أيضا و في بعض رواياتهم أنه (ص) لما عرض عليهم كلمة التوحيد قالوا له: سلنا غير هذه قال: لو جئتموني بالشمس حتى تضعوها في يدي ما سألتكم غيرها فغضبوا و قالوا و الكلمة كناية عن تمليكهم إياه زمام نظام العالم الأرضي فإن الشمس و القمر من أعظم المؤثرات فيه، و قد أخذ على ما يظهر أن للحسن من القدر ليصح ما أريد من التمثيل.
و في العلل، بإسناده إلى إسحاق بن عمار قال: سألت أبا الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) كيف صارت الصلاة ركعة و سجدتين؟ و كيف إذا صارت سجدتين لم تكن ركعتين؟ فقال: إذا سألت عن شيء ففرغ قلبك لتفهم. إن أول صلاة صلاها رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) إنما صلاها في السماء بين يدي الله تبارك و تعالى قدام عرشه .
و ذلك أنه لما أسري به و صار عند عرشه قال يا محمد ادن من صاد فاغسل مساجدك و طهرها و صل لربك فدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى حيث أمره الله تبارك و تعالى فتوضأ و أسبغ وضوءه .
قلت: جعلت فداك و ما صاد الذي أمر أن يغتسل منه؟ فقال: عين تنفجر من ركن من أركان العرش يقال لها ماء الحيوان و هو ما قال الله عز و جل: ﴿ص وَ اَلْقُرْآنِ ذِي اَلذِّكْرِ﴾ الحديث.
أقول: و روي هذا المعنى أعني أن ﴿ص﴾ نهر يخرج من ساق العرش في المعاني، عن سفيان الثوري عن الصادق (عليه السلام) ،: و روي ذلك في مجمع البيان، عن ابن عباس: أنه اسم من أسماء الله تعالى: قال: و روي ذلك عن الصادق (عليه السلام) .
و في المعاني، بإسناده إلى الأصبغ عن علي (عليه السلام) : في قول الله عز و جل: ﴿وَ قَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ اَلْحِسَابِ﴾ قال: نصيبهم من العذاب.
[سورة ص (٣٨): الآیات ١٧ الی ٢٩]
﴿اِصْبِرْ عَلىَ مَا يَقُولُونَ وَ اُذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا اَلْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ ١٧ إِنَّا سَخَّرْنَا اَلْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَ اَلْإِشْرَاقِ ١٨ وَ اَلطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ ١٩ وَ شَدَدْنَا مُلْكَهُ وَ آتَيْنَاهُ اَلْحِكْمَةَ وَ فَصْلَ اَلْخِطَابِ ٢٠ وَ هَلْ أَتَاكَ نَبَأُ اَلْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا اَلْمِحْرَابَ ٢١ إِذْ دَخَلُوا عَلى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بَغى بَعْضُنَا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَ لاَ تُشْطِطْ وَ اِهْدِنَا إِلى سَوَاءِ اَلصِّرَاطِ ٢٢ إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَ تِسْعُونَ نَعْجَةً وَ لِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَ عَزَّنِي فِي اَلْخِطَابِ ٢٣ قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعَاجِهِ وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ اَلْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ وَ قَلِيلٌ مَا هُمْ وَ ظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَ خَرَّ رَاكِعاً وَ أَنَابَ ٢٤ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَ إِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفى وَ حُسْنَ مَآبٍ ٢٥ يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي اَلْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ اَلنَّاسِ بِالْحَقِّ وَ لاَ تَتَّبِعِ اَلْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ إِنَّ اَلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ اَلْحِسَابِ ٢٦
وَ مَا خَلَقْنَا اَلسَّمَاءَ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ اَلنَّارِ ٢٧ أَمْ نَجْعَلُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي اَلْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ اَلْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ٢٨ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَ لِيَتَذَكَّرَ أُولُوا اَلْأَلْبَابِ ٢٩﴾
(بيان)
لما حكى سبحانه عن المشركين رميهم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و دعوته الحقة باختلاق و أنها ذريعة إلى التقدم و الرئاسة و أنه لا مرجح له عليهم حتى يختص بالرسالة و الإنذار. ثم استهزائهم بيوم الحساب و عذابه الذي ينذرون به، أمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بالصبر و أن لا يزلزله هفواتهم و لا يوهن عزمه و أن يذكر عدة من عباده الأوابين له الراجعين إليه فيما دهمهم من الحوادث.
و هؤلاء تسعة من الأنبياء الكرام ذكرهم الله سبحانه: داود و سليمان و أيوب و إبراهيم و إسحاق و يعقوب و إسماعيل و اليسع و ذو الكفل (عليه السلام) ، و بدأ بداود (عليه السلام) و ذكر بعض قصصه.
قوله تعالى: ﴿اِصْبِرْ عَلىَ مَا يَقُولُونَ وَ اُذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا اَلْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ الأيد القوة و كان (عليه السلام) ذا قوة في تسبيحه تعالى يسبح و يسبح معه الجبال و الطير و ذا قوة في ملكه و ذا قوة في علمه و ذا قوة و بطش في الحروب و قد قتل جالوت الملك كما قصه الله في سورة البقرة.
و الأواب اسم مبالغة من الأوب بمعنى الرجوع و المراد به كثرة رجوعه إلى ربه.
قوله تعالى: ﴿إِنَّا سَخَّرْنَا اَلْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَ اَلْإِشْرَاقِ﴾ الظاهر أن ﴿مَعَهُ﴾ متعلق بقوله: ﴿يُسَبِّحْنَ﴾ و جملة ﴿مَعَهُ يُسَبِّحْنَ﴾ بيان لمعنى التسخير و قدم الظرف لتعلق العناية بتبعيتها لداود و اقتدائها في التسبيح لكن قوله تعالى في موضع
آخر﴿وَ سَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ اَلْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَ اَلطَّيْرَ﴾ الأنبياء: - ٧٩ يؤيد تعلق الظرف بسخرنا، و قد وقع في موضع آخر من كلامه تعالى﴿يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَ اَلطَّيْرَ ﴾ سبأ: - ١٠. و العشي و الإشراق الرواح و الصباح.
و قوله: ﴿إِنَّا سَخَّرْنَا﴾ إلخ «إن» فيه للتعليل و الآية و ما عطف عليها من الآيات بيان لكونه (عليه السلام) ذا أيد في تسبيحه و ملكه و علمه و كونه أوابا إلى ربه.
قوله تعالى: ﴿وَ اَلطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ﴾ المحشورة من الحشر بمعنى الجمع بإزعاج أي و سخرنا معه الطير مجموعة له تسبح معه.
و قوله: ﴿كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ﴾ استئناف يقرر ما تقدمه من تسبيح الجبال و الطير أي كل من الجبال و الطير أواب أي كثير الرجوع إلينا بالتسبيح فإن التسبيح من مصاديق الرجوع إليه تعالى. و يحتمل رجوع ضمير ﴿لَهُ﴾ إلى داود على بعد.
و لم يكن تأييد داود (عليه السلام) في أصل جعله تعالى للجبال و الطير تسبيحا فإن كل شيء مسبح لله سبحانه قال تعالى﴿وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ الإسراء: - ٤٤ بل في موافقة تسبيحها لتسبيحه و قرع تسبيحها أسماع الناس و قد تقدم كلام في معنى تسبيح الأشياء لله سبحانه في تفسير قوله تعالى: ﴿وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾ الآية و أنه بلسان القال دون لسان الحال.
قوله تعالى: ﴿وَ شَدَدْنَا مُلْكَهُ وَ آتَيْنَاهُ اَلْحِكْمَةَ وَ فَصْلَ اَلْخِطَابِ﴾ قال الراغب:
الشد العقد القوي يقال شددت الشيء قويت عقده. انتهى فشد الملك من الاستعارة بالكناية و المراد به تقوية الملك و تحكيم أساسه بالهيبة و الجنود و الخزائن و حسن التدبير و سائر ما يتقوى به الملك.
و الحكمة في الأصل بناء نوع من الحكم و المراد بها المعارف الحقة المتقنة التي تنفع الإنسان و تكمله، و قيل: المراد النبوة، و قيل الزبور و علم الشرائع، و قيل غير ذلك و هي وجوه ردية.
و فصل الخطاب تفكيك الكلام الحاصل من مخاطبة واحد لغيره و تمييز حقه من باطله و ينطبق على القضاء بين المتخاصمين في خصامهم.
و قيل: المراد به الكلام القصد ليس بإيجازه مخلا و لا بإطنابه مملا، و قيل:
فصل الخطاب قول أما بعد فهو (عليه السلام) أول من قال: أما بعد، و الآية التالية ﴿وَ هَلْ أَتَاكَ نَبَأُ اَلْخَصْمِ﴾ إلخ تؤيد ما قدمناه.
قوله تعالى: ﴿وَ هَلْ أَتَاكَ نَبَأُ اَلْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا اَلْمِحْرَابَ﴾ الخصم مصدر كالخصومة أريد به القوم الذي استقر فيهم الخصومة، و التسور الارتقاء إلى أعلى السور و هو الحائط الرفيع كالتسنم بمعنى الارتقاء إلى سنام البعير و التذري بمعنى الارتقاء إلى ذروة الجبل، و قد فسر المحراب بالغرفة و العلية، و الاستفهام للتعجيب و التشويق إلى استماع الخبر.
و المعنى هل أتاك يا محمد خبر القوم المتخاصمين إذ علوا سور المحراب محراب داود (عليه السلام) .
قوله تعالى: ﴿إِذْ دَخَلُوا عَلى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ﴾ إلى آخر الآية لفظة ﴿إِذْ﴾ هذه ظرف لقوله: ﴿تَسَوَّرُوا﴾ كما أن ﴿إِذْ﴾ الأولى ظرف لقوله: ﴿نَبَأُ اَلْخَصْمِ﴾ و محصل المعنى أنهم دخلوا على داود و هو في محرابه لا من الطريق العادي بل بتسوره بالارتقاء إلى سوره و الورود عليه منه و لذا فزع منهم لما رآهم دخلوا عليه من غير الطريق العادي و بغير إذن.
و قوله: ﴿فَفَزِعَ مِنْهُمْ﴾ قال الراغب: الفزع انقباض و نفار يعتري الإنسان من الشيء المخيف و هو من جنس الجزع و لا يقال: فزعت من الله كما يقال: خفت منه. انتهى.
و قد تقدم أن الخشية تأثير القلب بحيث يستتبع الاضطراب و القلق و هي رذيلة مذمومة إلا الخشية من الله سبحانه و لذا كان الأنبياء (عليه السلام) لا يخشون غيره قال تعالى﴿وَ لاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اَللَّهَ﴾ الأحزاب: - ٣٩.
و أن الخوف هو التأثير عن المكروه في مقام العمل بتهيئة ما يتحرز به من الشر و يدفع به المكروه لا في مقام الإدراك فليس برذيلة مذمومة لذاته بل هو حسن فيما يحسن الاتقاء قال تعالى خطابا لرسوله﴿وَ إِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً﴾ الأنفال: - ٥٨.
و إذا كان الفزع هو الانقباض و النفار الحاصل من الشيء المخوف كان أمرا راجعا
إلى مقام العمل دون الإدراك فلم يكن رذيلة بذاته بل كان فضيلة عند تحقق مكروه ينبغي التحرز منه فلا ضير في نسبته إلى داود (عليه السلام) في قوله: ﴿فَفَزِعَ مِنْهُمْ﴾ و هو من الأنبياء الذين لا يخشون إلا الله.
و قوله: ﴿قَالُوا لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بَغىَ بَعْضُنَا عَلىَ بَعْضٍ﴾ لما رأوا ما عليه داود (عليه السلام) من الفزع أرادوا تطييب نفسه و إسكان روعه فقالوا: ﴿لاَ تَخَفْ﴾ و هو نهي عن الفزع بالنهي عن سببه الذي هو الخوف ﴿خَصْمَانِ بَغىَ﴾ إلخ أي نحن خصمان أي فريقان متخاصمان تجاوز بعضنا ظلما على بعض.
و قوله: ﴿فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَ لاَ تُشْطِطْ﴾ إلخ الشطط الجور أي فاحكم بيننا حكما مصاحبا للحق و لا تجر في حكمك و دلنا على وسط العدل من الطريق.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا أَخِي﴾ إلى آخر الآية بيان لخصومتهم و قوله: ﴿إِنَّ هَذَا أَخِي﴾ كلام لواحد من أحد الفريقين يشير إلى آخر من الفريق الآخر بأن هذا أخ له» إلخ.
و بهذا يظهر فساد ما استدل بعضهم بالآية على أن أقل الجمع اثنان لظهور قوله:
﴿إِذْ تَسَوَّرُوا﴾ ﴿إِذْ دَخَلُوا﴾ في كونهم جمعا و دلالة قوله: ﴿خَصْمَانِ﴾ ﴿هَذَا أَخِي﴾ على الاثنينية.
و ذلك لجواز أن يكون في كل واحد من جانبي التثنية أكثر من فرد واحد قال تعالى﴿هَذَانِ خَصْمَانِ اِخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾ الخ: الحج: - ١٩ و جواز أن يكون أصل الخصومة بين فردين ثم يلحق بكل منهما غيره لإعانته في دعواه.
و قوله: ﴿لَهُ تِسْعٌ وَ تِسْعُونَ نَعْجَةً وَ لِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَ عَزَّنِي فِي اَلْخِطَابِ﴾ النعجة الأنثى من الضأن، و ﴿أَكْفِلْنِيهَا﴾ أي اجعلها في كفالتي و تحت سلطتي و ﴿عَزَّنِي فِي اَلْخِطَابِ﴾ أي غلبني فيه و الباقي ظاهر.
قوله تعالى: ﴿قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلىَ نِعَاجِهِ ﴾ إلى قوله ﴿وَ قَلِيلٌ مَا هُمْ﴾ جواب داود (عليه السلام) ، و لعله قضاء تقديري قبل استماع كلام المتخاصم الآخر فإن من الجائز أن يكون عنده من القول ما يكشف عن كونه محقا فيما يطلبه و يقترحه على
صاحبه لكن صاحب النعجة الواحدة ألقى كلامه بوجه هيج الرحمة و العطوفة منه (عليه السلام) فبادر إلى هذا التصديق التقديري فقال: ﴿لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعَاجِهِ﴾.
فاللام للقسم، و السؤال على ما قيل مضمن معنى الإضافة و لذا عدي إلى المفعول الثاني بإلى، و المعنى أقسم لقد ظلمك بسؤال إضافة نعجتك إلى نعاجه.
و قوله: ﴿وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ اَلْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ وَ قَلِيلٌ مَا هُمْ﴾ من تمام كلام داود (عليه السلام) يقرر به كلامه الأول و الخلطاء الشركاء المخالطون.
قوله تعالى: ﴿وَ ظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَ خَرَّ رَاكِعاً وَ أَنَابَ﴾ أي علم داود أنما فتناه بهذه الواقعة أي أنها إنما كانت فتنة فتناه بها و الفتنة الامتحان، و قيل:
ظن بمعناه المعروف الذي هو خلاف اليقين و ذكر استغفاره و توبته مطلقين يؤيد ما قدمناه و لو كان الظن بمعناه المعروف كان الاستغفار و التوبة على تقدير كونها فتنة واقعا و إطلاق اللفظة يدفعه، و الخر على ما ذكره الراغب سقوط يسمع منه خرير و الخرير يقال لصوت الماء و الريح و غير ذلك مما يسقط من علو، و الركوع على ما ذكره مطلق الانحناء.
و الإنابة إلى الله على ما ذكره الراغب الرجوع إليه بالتوبة و إخلاص العمل و هي من النوب بمعنى رجوع الشيء مرة بعد أخرى.
و المعنى: و علم داود أن هذه الواقعة إنما كانت امتحانا امتحناه و أنه أخطأ فاستغفر ربه - مما وقع منه - و خر منحنيا و تاب إليه.
و أكثر المفسرين تبعا للروايات على أن هؤلاء الخصم الداخلين على داود (عليه السلام) كانوا ملائكة أرسلهم الله سبحانه إليه ليمتحنه و ستعرف حال الروايات.
لكن خصوصيات القصة كتسورهم المحراب و دخولهم عليه دخولا غير عادي بحيث أفزعوه، و كذا تنبهه بأنه إنما كان فتنة من الله له لا واقعة عادية، و قوله تعالى بعد: ﴿فَاحْكُمْ بَيْنَ اَلنَّاسِ بِالْحَقِّ وَ لاَ تَتَّبِعِ اَلْهَوى﴾ الظاهر في أن الله ابتلاه بما ابتلى
لينبهه و يسدده في خلافته و حكمه بين الناس، كل ذلك يؤيد كونهم من الملائكة و قد تمثلوا له في صورة رجال من الإنس.
و على هذا فالواقعة تمثل تمثل فيه الملائكة في صورة متخاصمين لأحدهما نعجة واحدة يسألها آخر له تسع و تسعون نعجة و سألوه القضاء فقال لصاحب النعجة الواحدة:
﴿لَقَدْ ظَلَمَكَ﴾ إلخ و كان قوله (عليه السلام) لو كان قضاء منجزا حكما منه في ظرف التمثل كما لو كان رآهم فيما يرى النائم فقال لهم ما قال و حكم فيهم بما حكم و من المعلوم أن لا تكليف في ظرف التمثل كما لا تكليف في عالم الرؤيا و إنما التكليف في عالمنا المشهود و هو عالم المادة و لم تقع الواقعة فيه و لا كان هناك متخاصمان و لا نعجة و لا نعاج إلا في ظرف التمثل فكانت خطيئة داود (عليه السلام) في هذا الظرف من التمثل و لا تكليف هناك كخطيئة آدم (عليه السلام) في الجنة من أكل الشجرة قبل الهبوط إلى الأرض و تشريع الشرائع و جعل التكاليف، و استغفاره و توبته مما صدر منه كاستغفار آدم و توبته مما صدر منه و قد صرح الله بخلافته في كلامه كما صرح بخلافة آدم (عليه السلام) في كلامه و قد مر توضيح ذلك في قصة آدم (عليه السلام) من سورة البقرة في الجزء الأول من الكتاب.
و أما على قول بعض المفسرين من أن المتخاصمين الداخلين عليه كانوا بشرا و القصة على ظاهرها فينبغي أن يؤخذ قوله: ﴿لَقَدْ ظَلَمَكَ﴾ إلخ قضاء تقديريا أي إنك مظلوم لو لم يأت خصيمك بحجة بينة، و إنما ذلك لحفظ على ما قامت عليه الحجة من طريقي العقل و النقل أن الأنبياء معصومون بعصمة من الله لا يجوز عليهم كبيرة و لا صغيرة.
على أن الله سبحانه صرح قبلا بأنه آتاه الحكمة و فصل الخطاب و لا يلائم ذلك خطأه في القضاء.
قوله تعالى: ﴿وَ إِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفى وَ حُسْنَ مَآبٍ﴾ الزلفة و الزلفى المنزلة و الحظوة، و المآب المرجع، و تنكير ﴿لَزُلْفى﴾ و ﴿مَآبٍ﴾ للتفخيم، و الباقي ظاهر.
قوله تعالى: ﴿يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي اَلْأَرْضِ﴾ إلى آخر الآية الظاهر أن الكلام بتقدير القول و التقدير فغفرنا له ذلك و قلنا يا داود «إلخ».
و ظاهر الخلافة أنها خلافة الله فتنطبق على ما في قوله تعالى﴿وَ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي اَلْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ البقرة: - ٣٠ و من شأن الخلافة أن يحاكي الخليفة
من استخلفه في صفاته و أعماله فعلى خليفة الله في الأرض أن يتخلق بأخلاق الله و يريد و يفعل ما يريده الله و يحكم و يقضي بما يقضي به الله و الله يقضي بالحق و يسلك سبيل الله و لا يتعداها.
و لذلك فرع على جعل خلافته قوله: ﴿فَاحْكُمْ بَيْنَ اَلنَّاسِ بِالْحَقِّ﴾ و هذا يؤيد أن المراد بجعل خلافته إخراجها من القوة إلى الفعل في حقه لا مجرد الخلافة الشأنية لأن الله أكمله في صفاته و آتاه الملك يحكم بين الناس.
و قول بعضهم: إن المراد بخلافته المجعولة خلافته ممن قبله من الأنبياء و تفريع قوله: ﴿فَاحْكُمْ بَيْنَ اَلنَّاسِ بِالْحَقِّ﴾ لأن الخلافة نعمة عظيمة شكرها العدل أو أن المترتب هو مطلق الحكم بين الناس الذي هو من آثار الخلافة و تقييده بالحق لأن سداده به، تصرف في اللفظ من غير شاهد.
و قوله: ﴿وَ لاَ تَتَّبِعِ اَلْهَوىَ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ﴾ العطف و المقابلة بينه و بين ما قبله يعطيان أن المعنى و لا تتبع في قضائك الهوى هوى النفس فيضلك عن الحق الذي هو سبيل الله فتفيد الآية أن سبيل الله هو الحق.
قال بعضهم: إن في أمره (عليه السلام) بالحكم بالحق و نهيه عن اتباع الهوى تنبيها لغيره ممن يلي أمور الناس أن يحكم بينهم بالحق و لا يتبع الباطل و إلا فهو (عليه السلام) من حيث إنه معصوم لا يحكم إلا بالحق و لا يتبع الباطل.
و فيه أن أمر تنبيه غيره بما وجه إليه من التكليف في محله لكن عصمة المعصوم و عدم حكمه إلا بالحق لا يمنع توجه التكليف بالأمر و النهي إليه فإن العصمة لا توجب سلب اختياره و ما دام اختياره باقيا جاز بل وجب توجه التكليف إليه كما يتوجه إلى غيره من الناس، و لو لا توجه التكليف إلى المعصوم لم يتحقق بالنسبة إليه واجب و محرم و لم تتميز طاعة من معصية فلغا معنى العصمة التي هي المصونية عن المعصية.
و قوله: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ اَلْحِسَابِ﴾ تعليل للنهي عن اتباع الهوى بأنه يلازم نسيان يوم الحساب و في نسيانه عذاب شديد و المراد بنسيانه عدم الاعتناء بأمره.
و في الآية دلالة على أن كل ضلال عن سبيل الله سبحانه بمعصية من المعاصي لا
ينفك عن نسيان يوم الحساب.
قوله تعالى: ﴿وَ مَا خَلَقْنَا اَلسَّمَاءَ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً﴾ إلى آخر الآية، لما انتهى الكلام إلى ذكر يوم الحساب عطف عنان البيان عليه فاحتج عليه بحجتين إحداهما ما ساقه في هذه الآية بقوله: ﴿وَ مَا خَلَقْنَا اَلسَّمَاءَ﴾ إلخ و هو احتجاج من طريق الغايات إذ لو لم يكن خلق السماء و الأرض و ما بينهما و هي أمور مخلوقة مؤجلة توجد و تفنى مؤديا إلى غاية ثابتة باقية غير مؤجلة كان باطلا و الباطل بمعنى ما لا غاية له ممتنع التحقق في الأعيان. على أنه مستحيل من الحكيم و لا ريب في حكمته تعالى.
و ربما أطلق الباطل و أريد به اللعب و لو كان المراد ذلك كانت الآية في معنى قوله﴿وَ مَا خَلَقْنَا اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ﴾ الدخان: - ٣٩.
و قيل: الآية عطف على ما قبلها بحسب المعنى كأنه قيل: و لا تتبع الهوى لأنه يكون سببا لضلالك و لأنه تعالى لم يخلق العالم لأجل اتباع الهوى و هو الباطل بل خلقه للتوحيد و متابعة الشرع.
و فيه أن الآية التالية: ﴿أَمْ نَجْعَلُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي اَلْأَرْضِ﴾ إلخ لا تلائم هذا المعنى.
و قوله: ﴿ذَلِكَ ظَنُّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ اَلنَّارِ﴾ أي خلق العالم باطلا لا غاية له و انتفاء يوم الحساب الذي يظهر فيه ما ينتجه حساب الأمور ظن الذين كفروا بالمعاد فويل لهم من عذاب النار.
قوله تعالى: ﴿أَمْ نَجْعَلُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي اَلْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ اَلْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ﴾ هذه هي الحجة الثانية على المعاد و تقريرها أن للإنسان كسائر الأنواع كمالا بالضرورة و كمال الإنسان هو خروجه في جانبي العلم و العمل من القوة إلى الفعل بأن يعتقد الاعتقادات الحقة و يعمل الأعمال الصالحة اللتين يهديه إليهما فطرته الصحيحة و هما الإيمان بالحق و العمل الصالح اللذين بهما يصلح المجتمع الإنساني الذي في الأرض.
فالذين آمنوا و عملوا الصالحات و هم المتقون هم الكاملون من الإنسان و المفسدون
في الأرض بفساد اعتقادهم و عملهم و هم الفجار هم الناقصون الخاسرون في إنسانيتهم حقيقة، و مقتضى هذا الكمال و النقص أن يكون بإزاء الكمال حياة سعيدة و عيش طيب و بإزاء خلافه خلاف ذلك.
و من المعلوم أن هذه الحياة الدنيا التي يشتركان فيها هي تحت سيطرة الأسباب و العوامل المادية و نسبتها إلى الكامل و الناقص و المؤمن و الكافر على السواء فمن أجاد العمل و وافقته الأسباب المادية فاز بطيب العيش و من كان على خلاف ذلك لزمه الشقاء و ضنك المعيشة.
فلو كانت الحياة مقصورة على هذه الحياة الدنيوية التي نسبتها إلى الفريقين على السواء و لم تكن هناك حياة تختص بكل منهما و تناسب حاله كان ذلك منافيا للعناية الإلهية بإيصال كل ذي حق حقه و إعطاء المقتضيات ما تقتضيه.
و إن شئت فقل: تسوية[8] بين الفريقين و إلغاء ما يقتضيه صلاح هذا و فساد ذلك خلاف عدله تعالى.
و الآية كما ترى لا تنفي استواء حال المؤمن و الكافر و إنما قررت المقابلة بين من آمن و عمل صالحا و بين من لم يكن كذلك سواء كان غير مؤمن أو مؤمنا غير صالح و لذا أتت بالمقابلة ثانيا بين المتقين و الفجار.
قوله تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَ لِيَتَذَكَّرَ أُولُوا اَلْأَلْبَابِ﴾ أي هذا كتاب من وصفه كذا و كذا، و توصيفه بالإنزال المشعر بالدفعة دون التنزيل الدال على التدريج لأن ما ذكر من التدبر و التذكر يناسب اعتباره مجموعا لا نجوما مفرقة.
و المقابلة بين ﴿لِيَدَّبَّرُوا﴾ و ﴿لِيَتَذَكَّرَ أُولُوا اَلْأَلْبَابِ﴾ تفيد أن المراد بضمير الجمع الناس عامة.
و المعنى: هذا كتاب أنزلناه إليك كثير الخيرات و البركات للعامة و الخاصة ليتدبره الناس فيهتدوا به أو تتم لهم الحجة و ليتذكر به أولو الألباب فيهتدوا إلى الحق باستحضار حجته و تلقيها من بيانه.
(بحث روائي)
روي في الدر المنثور، بطريق عن أنس و عن مجاهد و السدي و بعدة طرق عن ابن عباس قصة دخول الخصم على داود (عليه السلام) على اختلاف ما في الروايات و روى مثلها القمي في تفسيره، و رواها في العرائس، و غيره و قد لخصها في مجمع البيان، كما يأتي : أن داود كان كثير الصلاة فقال: يا رب فضلت علي إبراهيم فاتخذته خليلا و فضلت علي موسى فكلمته تكليما فقال: يا داود إنا ابتليناهم بما لم نبتلك بمثله فإن شئت ابتليتك فقال: نعم يا رب فابتلني.
فبينا هو في محرابه ذات يوم إذ وقعت حمامة فأراد أن يأخذها فطارت إلى كوة المحراب فذهب ليأخذها فاطلع من الكوة فإذا امرأة أوريا بن حيان تغتسل فهواها و هم بتزويجها فبعث بأوريا إلى بعض سراياه و أمر بتقديمه أمام التابوت الذي فيه السكينة ففعل ذلك و قتل .
فلما انقضت عدتها تزوجها و بنى بها فولد له منها سليمان فبينا هو ذات يوم في محرابه - إذ دخل عليه رجلان ففزع منهما فقالا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض إلى قوله و قليل ما هم، فنظر أحد الرجلين إلى صاحبه ثم ضحك فتنبه داود على أنهما ملكان بعثهما الله إليه في صورة خصمين ليبكتاه على خطيئته فتاب و بكى حتى نبت الزرع من كثرة دموعه. ثم قال في المجمع، و نعم ما قال : إنه مما لا شبهة في فساده فإن ذلك مما يقدح في العدالة فكيف يجوز أن يكون أنبياء الله الذين هم أمناؤه على وحيه و سفراؤه بينه و بين خلقه بصفة من لا تقبل شهادته و على حالة تنفر عن الاستماع إليه و القبول منه.
أقول: و القصة مأخوذة من التوراة غير أن التي فيها أشنع و أفظع فعدلت بعض التعديل على ما سيلوح لك.
ففي التوراة ما ملخصه :و كان في وقت المساء أن داود قام عن سريره و تمشي على سطح بيت الملك فرأى من على السطح امرأة تستحم و كانت المرأة جميلة المنظر جدا.
فأرسل داود و سأل عن المرأة فقيل: إنها بتشبع امرأة أوريا الحتي فأرسل
داود رسلا و أخذها فدخلت عليه فاضطجع معها و هي مطهرة من طمثها ثم رجعت إلى بيتها و حبلت المرأة فأرسلت و أخبرت داود أنها حبلى .
و كان أوريا في جيش لداود يحاربون بني عمون فكتب داود إلى يوآب أمير جيشه يأمره بإرسال أوريا إليه و لما أتاه و أقام عنده أياما كتب مكتوبا إلى يوآب[9] و أرسله بيد أوريا، و كتب في المكتوب يقول: اجعلوا أوريا في وجه الحرب الشديدة و ارجعوا من ورائه فيضرب و يموت ففعل به ذلك فقتل و أخبر داود بذلك .
فلما سمعت امرأة أوريا أنه قد مات ندبت بعلها و لما مضت المناحة أرسل داود و ضمها إلى بيته و صارت له امرأة و ولدت له ابنا و أما الأمر الذي فعله داود فقبح في عيني الرب .
فأرسل الرب ناثان النبي إلى داود فجاء إليه و قال له كان رجلان في مدينة واحدة واحد منهما غني و الآخر فقير، و كان للغني غنم و بقر كثيرة جدا و أما الفقير فلم يكن له شيء إلا نعجة واحدة صغيرة قد اقتناها و رباها فجاء ضيف إلى الرجل الغني فعفا أن يأخذ من غنمه و من بقره ليهيئ للضيف الذي جاء إليه فأخذ نعجة الرجل الفقير و هيأ لضيفه، فحمي غضب داود على الرجل جدا و قال لناثان: حي هو الرب إنه يقتل الرجل الفاعل ذلك و ترد النعجة أربعة أضعاف لأنه فعل هذا الأمر و لأنه لم يشفق .
فقال ناثان لداود: أنت هو الرجل يعاتبك الرب و يقول: سأقيم عليك الشر من بيتك و آخذ نساءك أمام عينيك و أعطيهن لقريبك فيضطجع معهن قدام جميع إسرائيل و قدام الشمس جزاء لما فعلت بأوريا و امرأته .
فقال داود لناثان: قد أخطأت إلى الرب فقال ناثان لداود: الرب أيضا قد نقل عنك خطيئتك. لا تموت غير أنه من أجل أنك قد جعلت بهذا الأمرأعداء الرب يشمتون فالابن المولود لك من المرأة يموت، فأمرض الله الصبي سبعة أيام ثم قبضه ثم ولدت مرأة أوريا بعده لداود ابنه سليمان. و في العيون، في باب مجلس الرضا عند المأمون مع أصحاب الملل و المقالات: قال
الرضا (عليه السلام) لابن جهم: و أما داود فما يقول من قبلكم فيه؟ قال: يقولون: إن داود كان يصلي في محرابه إذ تصور له إبليس على صورة طيرأحسن ما يكون من الطيو فقطع داود صلاته و قام يأخذ الطير إلى الدار فخرج في أثره فطار الطير إلى السطح فصعد في طلبه فسقط الطير في دار أوريا بن حيان .
فاطلع داود في أثر الطير فإذا بامرأة أوريا تغتسل فلما نظر إليها هواها و كان قد أخرج أوريا في بعض غزواته فكتب إلى صاحبه أن قدم أوريا أمام التابوت فقدم فظفر أوريا بالمشركين فصعب ذلك على داود فكتب إليه ثانية أن قدمه أمام التابوت فقدم فقتل أوريا و تزوج داود بامرأته .
قال: فضرب الرضا (عليه السلام) يده على جبهته و قال: إنا لله و إنا إليه راجعون لقد نسبتم نبيا من أنبياء الله إلى التهاون بصلاته حتى خرج في أثر الطير ثم بالفاحشة ثم بالقتل .
فقال: يا ابن رسول الله ما كانت خطيئته؟ فقال: ويحك إن داود (عليه السلام) إنما ظن أنه ما خلق الله خلقا هو أعلم منه فبعث الله عز و جل إليه الملكين فتسورا المحراب فقالا: خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق و لا تشطط و اهدنا إلى سواء الصراط إن هذا أخي له تسع و تسعون نعجة و لي نعجة واحدة فقال أكفلنيها و عزني في الخطاب فعجل داود على المدعى عليه فقال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه و لم يسأل المدعي البينة على ذلك، و لم يقبل على المدعى عليه فيقول له: ما تقول؟ فكان هذا خطيئة رسم الحكم لا ما ذهبتم إليه أ لا تسمع الله عز و جل يقول: ﴿يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي اَلْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ اَلنَّاسِ بِالْحَقِّ﴾ إلى آخر الآية .
فقال: يا ابن رسول الله ما قصته مع أوريا؟ قال الرضا (عليه السلام) : إن المرأة في أيام داود كانت إذا مات بعلها أو قتل لا تتزوج بعده أبدا فأول من أباح الله عز و جل له أن يتزوج بامرأة قتل بعلها داود (عليه السلام) فتزوج بامرأة أوريا لما قتل و انقضت عدتها فذلك الذي شق على الناس من قتل أوريا.
و في أمالي الصدوق، بإسناده إلى أبي عبد الله (عليه السلام) : أنه قال لعلقمة: إن رضا الناس لا يملك و ألسنتهم لا تضبط أ لم ينسبوا داود (عليه السلام) إلى أنه تبع الطير حتى نظر إلى امرأة أوريا فهواها، و أنه قدم زوجها أمام التابوت حتى قتل ثم تزوج بها الحديث.
(كلام في قصص داود في فصول)
١ - قصته في القرآن:
لم يقع من قصته في القرآن إلا إشارات فقد ذكر سبحانه أنه كان في جيش طالوت الملك حين حارب جالوت فقتل داود فأتاه الله الملك بعد طالوت و الحكمة و علمه مما يشاء «البقرة: ٢٥١» و جعله خليفة له يحكم بين الناس و آتاه فصل الخطاب «(ص): ٢٠ و ٢٦» و قد أيد الله ملكه و سخر معه الجبال و الطير يسبحن معه «الأنبياء: ٧٩، ص ١٩» و ألان له الحديد يعمل و ينسج منه الدروع «الأنبياء: ٨٠ سبأ: ١١».
٢ - جميل الثناء عليه في القرآن
عده سبحانه من الأنبياء و أثنى عليه بما أثنى عليهم و خصه بقوله﴿وَ آتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً ﴾«النساء: - ١٦٣» و آتاه فضلا و علما «سبأ: ١٠ النمل: ١٥» و آتاه الحكمة و فصل الخطاب و جعله خليفة في الأرض «_ ص: ٢٠ و ٢٦» و وصفه بأنه أواب و إن له عنده لزلفى و حسن مآب «_ ص: ١٩ و ٢٥».
٣ - حول قصة المتخاصمين
التدبر في آيات الكتاب المتعرضة لقصة دخول المتخاصمين على داود (عليه السلام) لا يعطي أزيد من كونه امتحانا منه تعالى له (عليه السلام) في ظرف التمثل ليربيه تربية إلهية و يعلمه رسم القضاء العدل فلا يجور في الحكم و لا يعدل عن العدل.
و أما ما تضمنته غالب الروايات من قصة أوريا و امرأته فهو مما يجل عنه الأنبياء و يتنزه عنه ساحتهم و قد تقدم في بيان الآيات و البحث الروائي محصل الكلام في ذلك.
[سورة ص (٣٨): الآیات ٣٠ الی ٤٠]
﴿وَ وَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ اَلْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ٣٠ إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ اَلصَّافِنَاتُ اَلْجِيَادُ ٣١ فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ اَلْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ ٣٢ رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ
مَسْحاً بِالسُّوقِ وَ اَلْأَعْنَاقِ ٣٣ وَ لَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَ أَلْقَيْنَا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ ٣٤ قَالَ رَبِّ اِغْفِرْ لِي وَ هَبْ لِي مُلْكاً لاَ يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ اَلْوَهَّابُ ٣٥ فَسَخَّرْنَا لَهُ اَلرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ ٣٦ وَ اَلشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَ غَوَّاصٍ ٣٧ وَ آخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي اَلْأَصْفَادِ ٣٨ هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ٣٩ وَ إِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفى وَ حُسْنَ مَآبٍ ٤٠﴾
(بيان)
القصة الثانية من قصص العباد الأوابين التي أمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يصبر و يذكرها.
قوله تعالى:: ﴿وَ وَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ اَلْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ أي وهبناه له ولدا و الباقي ظاهر مما تقدم.
قوله تعالى: ﴿إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ اَلصَّافِنَاتُ اَلْجِيَادُ﴾ العشي مقابل الغداة و هو آخر النهار بعد الزوال، و الصافنات على ما في المجمع، جمع الصافنة من الخيل و هي التي تقوم على ثلاث قوائم و ترفع إحدى يديها حتى تكون على طرف الحافر. قال:
و الجياد جمع جواد و الياء هاهنا منقلبة عن واو و الأصل جواد و هي السراع من الخيل كأنها تجود بالركض. انتهى.
قوله تعالى: ﴿فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ اَلْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ﴾ الضمير لسليمان، و المراد بالخير: الخيل على ما قيل فإن العرب تسمي الخيل خيرا
و عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : الخير معقود بنواصي الخيل إلى يوم القيامة.
و قيل: المراد بالخير المال الكثير و قد استعمل بهذا المعنى في مواضع من كلامه تعالى كقوله﴿إِنْ تَرَكَ خَيْراً﴾ البقرة: - ١٨٠.
و قوله: ﴿إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ اَلْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي﴾ قالوا: إن ﴿أَحْبَبْتُ﴾ مضمن معنى الإيثار و ﴿عَنْ﴾ بمعنى على، و المراد إني آثرت حب الخيل على ذكر ربي و هو الصلاة محبا إياه أو أحببت الخيل حبا مؤثرا إياه على ذكر ربي فاشتغلت بما عرض علي من الخيل عن الصلاة حتى غربت الشمس.
و قوله: ﴿حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ﴾ الضمير على ما قالوا للشمس و المراد بتواريها بالحجاب غروبها و استتارها تحت حجاب الأفق، و يؤيد هذا المعنى ذكر العشي في الآية السابقة إذ لو لا ذلك لم يكن غرض ظاهر يترتب على ذكر العشي.
فمحصل معنى الآية أني شغلني حب الخيل حين عرض الخيل علي عن الصلاة حتى فات وقتها بغروب الشمس، و إنما كان يحب الخيل في الله ليتهيأ به للجهاد في سبيل الله فكان الحضور للعرض عبادة منه فشغلته عبادة عن عبادة غير أنه يعد الصلاة أهم.
و قيل: ضمير ﴿تَوَارَتْ﴾ للخيل و ذلك أنه أمر بإجراء الخيل فشغله النظر في جريها حتى غابت عن نظره و توارت بحجاب البعد، و قد تقدم أن ذكر العشي يؤيد المعنى السابق و لا دليل على ما ذكره من حديث الأمر بالجري من لفظ الآية.
قوله تعالى: ﴿رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَ اَلْأَعْنَاقِ﴾ قيل: الضمير في ﴿رُدُّوهَا﴾ للشمس و هو أمر منه للملائكة برد الشمس ليصلي صلاته في وقتها، و قوله:
﴿فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَ اَلْأَعْنَاقِ﴾ أي شرع يمسح ساقيه و عنقه و يأمر أصحابه أن يمسحوا سوقهم و أعناقهم و كان ذلك وضوءهم ثم صلى و صلوا، و قد ورد ذلك في بعض الروايات عن أئمة أهل البيت (عليه السلام) .
و قيل: الضمير للخيل و المعنى قال: ردوا الخيل فلما ردت. شرع يمسح مسحا بسوقها و أعناقها و يجعلها مسبلة في سبيل الله جزاء ما اشتغل بها عن الصلاة.
و قيل: الضمير للخيل و المراد بمسح أعناق الخيل و سوقها ضربها بالسيف و قطعها و المسح القطع فهو (عليه السلام) غضب عليها في الله لما شغلته عن ذكر الله فأمر بردها ثم ضرب بالسيف أعناقها و سوقها فقتلها جميعا.
و فيه أن مثل هذا الفعل مما تتنزه ساحة الأنبياء (عليه السلام) عن مثله فما ذنب الخيل لو شغله النظر إليها عن الصلاة حتى تؤاخذ بأشد المؤاخذة فتقتل تلك القتلة الفظيعة عن آخرها مع ما فيه من إتلاف المال المحترم.
و أما استدلال بعضهم عليه برواية أبي بن كعب عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : في قوله تعالى:
﴿فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَ اَلْأَعْنَاقِ ﴾ قطع سوقها و أعناقها بالسيف ثم أضاف إليها و قد جعلها بذلك قربانا لله و كان تقريب الخيل مشروعا في دينه فليس من التقريب ذكر في الحديث و لا في غيره.
على أنه (عليه السلام) لم يشتغل عن العبادة بالهوى بل شغلته عبادة عن عبادة كما تقدمت الإشارة إليه.
فالمعول عليه هو أول الوجوه إن ساعده لفظ الآية و إلا فالوجه الثاني.
قوله تعالى: ﴿وَ لَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَ أَلْقَيْنَا عَلىَ كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ﴾ الجسد هو الجسم الذي لا روح فيه.
قيل: المراد بالجسد الملقى على كرسيه هو سليمان نفسه لمرض امتحنه الله به و تقدير الكلام ألقيناه على كرسيه جسدا أي كجسد لا روح فيه من شدة المرض.
و فيه أن حذف الضمير من «ألقيناه» و إخراج الكلام على صورته التي في الآية الظاهرة في أن الملقى هو الجسد مخل بالمعنى المقصود لا يجوز حمل أفصح الكلام عليه.
و لسائر المفسرين أقوال مختلفة في المراد من الآية تبعا للروايات المختلفة الواردة فيها و الذي يمكن أن يؤخذ من بينها إجمالا أنه كان جسد صبي له أماته الله و ألقى جسده على كرسيه، و لقوله: ﴿ثُمَّ أَنَابَ قَالَ رَبِّ اِغْفِرْ لِي﴾ إشعار أو دلالة على أنه كان له (عليه السلام) فيه رجاء أو أمنية في الله فأماته الله سبحانه و ألقاه على كرسيه فنبهه أن يفوض الأمر إلى الله و يسلم له.
قوله: ﴿قَالَ رَبِّ اِغْفِرْ لِي وَ هَبْ لِي مُلْكاً لاَ يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ اَلْوَهَّابُ﴾ ظاهر السياق أن الاستغفار مرتبط بما في الآية السابقة من إلقاء الجسد على كرسيه، و الفصل لكون الكلام في محل دفع الدخل كأنه لما قيل: ﴿ثُمَّ أَنَابَ﴾ قيل:
فما ذا قال؟ فقيل: ﴿قَالَ رَبِّ اِغْفِرْ لِي﴾ إلخ.
و ربما استشكل في قوله: ﴿وَ هَبْ لِي مُلْكاً لاَ يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي﴾ أن فيه ضنا و بخلا، فإن فيه اشتراط أن لا يؤتى مثل ما أوتيه من الملك لأحد من العالمين غيره.
و يدفعه أن فيه سؤال ملك يختص به لا سؤال أن يمنع غيره عن مثل ما آتاه و يحرمه ففرق بين أن يسأل ملكا اختصاصيا و أن يسأل الاختصاص بملك أوتيه.
قوله تعالى: ﴿فَسَخَّرْنَا لَهُ اَلرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ﴾ متفرع على سؤاله الملك و إخباره عن إجابة دعوته و بيان الملك الذي لا ينبغي لأحد غيره و هو تسخير الريح و الجن.
و الرخاء بالضم اللينة و الظاهر أن المراد بكون الريح تجري بأمره رخاء مطاوعتها لأمره و سهولة جريانها على ما يريده (عليه السلام) فلا يرد أن توصيف الريح هاهنا بالرخاء يناقض توصيفه في قوله﴿وَ لِسُلَيْمَانَ اَلرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ﴾ الأنبياء: - ٨١ بكونها عاصفة.
و ربما أجيب عنه بأن من الجائز أن يجعلها الله رخوة تارة و عاصفة أخرى حسب ما أراد سليمان (عليه السلام) .
و قوله: ﴿حَيْثُ أَصَابَ﴾ أي حيث شاء سليمان (عليه السلام) و قصد و هو متعلق بتجري.
قوله تعالى: ﴿وَ اَلشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَ غَوَّاصٍ﴾ أي و سخرنا له الشياطين من الجن كل بناء منهم يبني له في البر و كل غواص يعمل له في البحر فيستخرج اللئالئ و غيرها.
قوله تعالى: ﴿وَ آخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي اَلْأَصْفَادِ﴾ الأصفاد جمع صفد و هو الغل من الحديد، و المعنى سخرنا له آخرين منهم مجموعين في الأغلال مشدودين بالسلاسل.
قوله تعالى: ﴿هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ أي هذا الذي ذكر من الملك عطاؤنا لك بغير حساب و الظاهر أن المراد بكونه بغير حساب أنه لا ينفد بالعطاء و المن و لذا قيل: ﴿فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ﴾ أي أنهما يستويان في عدم التأثير فيه.
و قيل: المراد بغير حساب أنك لا تحاسب عليه يوم القيامة، و قيل: المراد أن إعطاءه تفضل لا مجازاة و قيل غير ذلك.
قوله تعالى: ﴿وَ إِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفىَ وَ حُسْنَ مَآبٍ﴾ تقدم معناه.
(بحث روائي)
و في المجمع،: في قوله تعالى: ﴿فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ اَلْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي﴾ الآية قيل: إن هذه الخيل كانت شغلته عن صلاة العصر حتى فات وقتها: عن علي (عليه السلام)
و في رواية أصحابنا: أنه فاته أول الوقت. و فيه، قال ابن عباس: سألت عليا عن هذه الآية فقال: ما بلغك فيها يا ابن عباس؟ قلت: سمعت كعبا يقول: اشتغل سليمان بعرض الأفراس حتى فاتته الصلاة فقال:
ردوها علي يعني الأفراس و كانت أربعة عشر فأمر بضرب سوقها و أعناقها بالسيف فقتلها فسلبه الله ملكه أربعة عشر يوما لأنه ظلم الخيل بقتلها .
فقال علي: كذب كعب لكن اشتغل سليمان بعرض الأفراس ذات يوم لأنه أراد جهاد العدو حتى توارت الشمس بالحجاب فقال بأمر الله للملائكة الموكلين بالشمس:
ردوها علي فردت فصلى العصر في وقتها و إن أنبياء الله لا يظلمون و لا يأمرون بالظلم لأنهم معصومون مطهرون. أقول: و قول كعب الأحبار: فسلبه الله ملكه إشارة إلى حديث الخاتم الذي سنشير إليه.
و في الفقيه، روي عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: إن سليمان بن داود عرض عليه ذات يوم بالعشي الخيل فاشتغل بالنظر إليها حتى توارت الشمس بالحجاب فقال للملائكة:
ردوا الشمس علي حتى أصلي صلاتي في وقتها فردوها فقام و مسح ساقيه و عنقه بمثل ذلك و كان ذلك وضوءهم للصلاة ثم قام فصلى فلما فرغ غابت الشمس و طلعت النجوم، و ذلك قول الله عز و جل: ﴿وَ وَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ ﴾ إلى قوله ﴿مَسْحاً بِالسُّوقِ وَ اَلْأَعْنَاقِ﴾.
أقول: و الرواية لا بأس بها لو ساعد لفظ الآية أعني قوله: ﴿فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَ اَلْأَعْنَاقِ﴾ على ما فيها من المعنى، و أما مسألة رد الشمس فلا إشكال فيه بعد ثبوت إعجاز الأنبياء، و قد ورد ردها لغيره (عليه السلام) كيوشع بن نون و علي بن أبي طالب (عليه السلام) في النقل المعتبر و لا يعبأ بما أورده الرازي في تفسيره الكبير،.
و أما عقره (عليه السلام) الخيل و ضربه أعناقها بالسيف فقد روي في ذلك عدة روايات
من طرق أهل السنة و أورده القمي في تفسيره، و كأنها تنتهي إلى كعب كما مر في رواية ابن عباس المتقدمة و كيف كان فلا يعبأ بها كما تقدم.
و قد بلغ من إغراقهم في القصة أن رووا أن الخيل كانت عشرين ألف فرس ذات أجنة و مثله ما روي في قوله: ﴿حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ﴾ عن كعب أنه حجاب من ياقوتة خضراء محيط بالخلائق منه اخضرت السماء.
و مثل هذه الروايات أعاجيب من القصص رووها في قوله تعالى: ﴿وَ أَلْقَيْنَا عَلىَ كُرْسِيِّهِ جَسَداً﴾ الآية كما روي: أنه ولد له ولد فأمر بإرضاعه و حفظه في السحاب إشفاقا عليه من مردة الجن و في بعضها خوفا عليه من ملك الموت فوقع يوما جسده على كرسيه ميتا. و ما روي: أنه قال يوما: لأطوفن الليلة بمائة امرأة من نسائي تلد لي كل واحدة منهن لي فارسا يجاهد في سبيل الله و لم يستثن فلم تحمل منهن إلا واحدة بشق من ولد و كان يحبه فخبأه له بعض الجن من ملك الموت فأخذه من مخبئه و قبضه على كرسي سليمان. و ما روي في روايات كثيرة تنتهي عدة منها إلى ابن عباس و هو يصرح في بعضها أنه أخذه عن كعب :أن ملك سليمان كان في خاتمه فتخطفه شيطان منه فزال ملكه و تسلط الشيطان على ملكه أياما ثم أعاد الله الخاتم إليه فعاد إلى ما كان عليه من الملك، و قد أوردوا في القصة أمورا ينبغي أن تنزه ساحة الأنبياء (عليه السلام) عن ذكرها فضلا عن نسبتها إليهم. قالوا: و جلوس الشيطان على كرسي سليمان هو المراد بقوله تعالى:
﴿وَ أَلْقَيْنَا عَلىَ كُرْسِيِّهِ جَسَداً﴾ الآية.
فهذه[10] كلها مما لا يعبأ بها على ما تقدمت الإشارة إليه و إنما هي مما لعبت بها أيدي الوضع.
[سورة ص (٣٨): الآیات ٤١ الی ٤٨ ]
﴿وَ اُذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادىَ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ اَلشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ﴾
﴿وَ عَذَابٍ ٤١ اُرْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَ شَرَابٌ ٤٢ وَ وَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَ ذِكْرىَ لِأُولِي اَلْأَلْبَابِ ٤٣ وَ خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَ لاَ تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ اَلْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ٤٤ وَ اُذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَ إِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبَ أُولِي اَلْأَيْدِي وَ اَلْأَبْصَارِ ٤٥ إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى اَلدَّارِ ٤٦ وَ إِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ اَلْمُصْطَفَيْنَ اَلْأَخْيَارِ ٤٧ وَ اُذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَ اَلْيَسَعَ وَ ذَا اَلْكِفْلِ وَ كُلٌّ مِنَ اَلْأَخْيَارِ ٤٨﴾
(بيان)
القصة الثالثة مما أمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يصبر و يذكرها و هي قصة أيوب النبي (عليه السلام) و ما ابتلي به من المحنة ثم أكرمه الله بالعافية و العطية. ثم الأمر بذكر إبراهيم و خمسة من ذريته من الأنبياء (عليه السلام) .
قوله تعالى: ﴿وَ اُذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادىَ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ اَلشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَ عَذَابٍ﴾ دعاء منه (عليه السلام) و سؤال للعافية و أن يكشف عنه ربه ما أصابه من سوء الحال، و لم يصرح بما يريده و يسأله تواضعا و تذللا غير أن نداءه تعالى بلفظ ربي يشعر بأنه يناديه لحاجة.
و النصب التعب، و قوله: ﴿إِذْ نَادىَ﴾ إلخ بدل اشتمال من ﴿عَبْدَنَا﴾ أو ﴿أَيُّوبَ﴾ و قوله: ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ﴾ إلخ حكاية ندائه.
و الظاهر من الآيات التالية أن مراده من النصب و العذاب ما أصابه من سوء الحال في بدنه و أهله و هو الذي ذكره عنه (عليه السلام) في سورة الأنبياء من ندائه ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ اَلضُّرُّ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ اَلرَّاحِمِينَ﴾ بناء على شمول الضر مصيبته في نفسه و أهله و لم يشر في هذه السورة و لا في سورة الأنبياء إلى ذهاب ماله و إن وقع ذكر المال في الروايات.
و الظاهر أن المراد من مس الشيطان له بالنصب و العذاب استناد نصبه و عذابه من الشيطان بنحو من السببية و التأثير و هو الذي يظهر من الروايات، و لا ينافي استناد المرض و نحوه إلى الشيطان استناده أيضا إلى بعض الأسباب العادية الطبيعية لأن السببين ليسا عرضيين متدافعين بل أحدهما في طول الآخر و قد أوضحنا ذلك في تفسير قوله تعالى﴿وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرىَ آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ اَلسَّمَاءِ﴾ الأعراف: - ٩٦ في الجزء الثامن من الكتاب.
و لا دليل يدل على امتناع وقوع هذا النوع من التأثير للشيطان في الإنسان و قد قال تعالى﴿إِنَّمَا اَلْخَمْرُ وَ اَلْمَيْسِرُ وَ اَلْأَنْصَابُ وَ اَلْأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطَانِ﴾ المائدة: - ٩٠ فنسبها أنفسها إليه، و قال حاكيا عن موسى (عليه السلام) ﴿هَذَا مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ﴾ القصص: - ١٥ يشير إلى الاقتتال.
و لو أغمض عن الروايات أمكن أن يحتمل أن يكون المراد بانتساب ذلك إلى الشيطان إغراؤه الناس بوسوسته أن يتجنبوا من الاقتراب منه و ابتعادهم و طعنهم فيه أن لو كان نبيا لم تحط به البلية من كل جانب و لم يصر إلى ما صار إليه من العاقبة السوأى و شماتتهم و استهزائهم به.
و قد أنكر في الكشاف، ما تقدم من الوجه قائلا: لا يجوز أن يسلط الله الشيطان على أنبيائه (عليه السلام) ليقضي من تعذيبهم و إتعابهم وطره و لو قدر على ذلك لم يدع صالحا إلا و قد نكبه و أهلكه، و قد تكرر في القرآن أنه لا سلطان له إلا الوسوسة فحسب. انتهى.
و فيه أن الذي يخص الأنبياء و أهل العصمة أنهم لمكان عصمتهم في أمن من تأثير الشيطان في نفوسهم بالوسوسة، و أما تأثيره في أبدانهم و سائر ما ينسب إليهم بإيذاء أو إتعاب أو نحو ذلك من غير إضلال فلا دليل يدل على امتناعه، و قد حكى الله سبحانه عن فتى موسى و هو يوشع النبي (عليه السلام) ﴿فَإِنِّي نَسِيتُ اَلْحُوتَ وَ مَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ اَلشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ﴾ الكهف: - ٦٣.
و لا يلزم من تسلطه على نبي بالإيذاء و الإتعاب لمصلحة تقتضيه كظهور صبره في
الله سبحانه و أوبته إليه أن يقدر على ما يشاء فيمن يشاء من عباد الله تعالى إلا أن يشاء الله ذلك و هو ظاهر.
قوله تعالى: ﴿اُرْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَ شَرَابٌ﴾ وقوع الآية عقيب ندائه و مسألته يعطي أنه إيذان باستجابة دعائه و أن قوله تعالى: ﴿اُرْكُضْ بِرِجْلِكَ﴾ إلخ حكاية لما أوحي إليه عند الكشف عن الاستجابة أو هو بإضمار القول و التقدير فاستجبنا له و قلنا: اركض «إلخ» و سياق الأمر مشعر بل كاشف عن أنه كان لا يقدر على القيام و المشي بقدميه و كان مصابا في سائر بدنه فأبرأ الله ما في رجليه من ضر و أظهر له عينا هناك و أمره أن يغتسل منها و يشرب حتى يبرأ ظاهر بدنه و باطنه و يتأيد بذلك ما سيأتي من الرواية.
و في الكلام إيجاز بالحذف و التقدير فركض برجله و اغتسل و شرب فبرأه الله من مرضه.
قوله تعالى: ﴿وَ وَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَ ذِكْرىَ لِأُولِي اَلْأَلْبَابِ﴾ ورد في الرواية أنه ابتلي فيما ابتلي بموت جميع أهله إلا امرأته و أن الله أحياهم له و وهبهم له و مثلهم معهم، و قيل: إنهم كانوا قد تفرقوا عنه أيام ابتلائه فجمعهم الله إليه بعد برئه و تناسلوا فكانوا مثلي ما كانوا عددا.
و قوله: ﴿رَحْمَةً مِنَّا وَ ذِكْرىَ لِأُولِي اَلْأَلْبَابِ﴾ مفعول له أي فعلنا به ما فعلنا ليكون رحمة منا و ذكرى لأولي الألباب يتذكرون به.
قوله تعالى: ﴿وَ خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَ لاَ تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ اَلْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ في المجمع،: الضغث ملء الكف من الشجرة و الحشيش و الشماريخ و نحو ذلك انتهى، و كان (عليه السلام) قد حلف لئن عوفي أن يجلد امرأته مائة جلدة لأمر أنكره عليها على ما سيأتي من الرواية فلما عافاه الله تعالى أمره أن يأخذ بيده ضغثا بعدد ما حلف عليه من الجلدات فيضربها به و لا يحنث.
و في سياق الآية تلويح إلى ذلك و إنما طوي ذكر المرأة و سبب الحلف تأدبا و رعاية لجانبه.
و قوله: ﴿إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً﴾ أي فيما ابتليناه به من المرض و ذهاب الأهل و المال،
و الجملة تعليل لقوله: ﴿وَ اُذْكُرْ﴾ أو لقوله: ﴿عَبْدَنَا﴾ أي لتسميته عبدا و إضافته إليه تعالى، و الأول أولى.
و قوله: ﴿نِعْمَ اَلْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ مدح له (عليه السلام) .
قوله تعالى: ﴿وَ اُذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَ إِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبَ أُولِي اَلْأَيْدِي وَ اَلْأَبْصَارِ﴾ مدحهم بتوصيفهم بأن لهم الأيدي و الأبصار و يد الإنسان و بصره إنما يمدحان إذا كانا يد إنسان و بصر إنسان و استعملا فيما خلقا له و خدما الإنسان في إنسانيته فتكتسب اليد صالح العمل و يجري منها الخير على الخلق و يميز البصر طرق العافية و السلامة من موارد الهلكة و يصيب الحق و لا يلتبس عليه الباطل.
فيكون كونهم أولي الأيد و الأبصار كناية عن قوتهم في الطاعة و إيصال الخير و تبصرهم في إصابة الحق في الاعتقاد و العمل و قد جمع المعنيين في قوله تعالى﴿وَ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبَ نَافِلَةً وَ كُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ وَ جَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَ أَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ اَلْخَيْرَاتِ وَ إِقَامَ اَلصَّلاَةِ وَ إِيتَاءَ اَلزَّكَاةِ وَ كَانُوا لَنَا عَابِدِينَ﴾ الأنبياء: - ٧٣ فجعلهم أئمة و الأمر و الوحي لأبصارهم و فعل الخيرات و إقام الصلاة و إيتاء الزكاة لأيديهم[11] و إليه يئول ما في الرواية من تفسير ذلك بأولي القوة في العبادة و البصر فيها.
قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى اَلدَّارِ﴾ الخالصة وصف قائم مقام موصوفه، و الباء للسببية و التقدير بسبب خصلة خالصة، و ﴿ذِكْرَى اَلدَّارِ﴾ بيان للخصلة و الدار هي الدار الآخرة.
و الآية أعني قوله: ﴿إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ﴾ إلخ لتعليل ما في الآية السابقة من قوله:
﴿أُولِي اَلْأَيْدِي وَ اَلْأَبْصَارِ﴾ أو لقوله: ﴿عِبَادَنَا﴾ أو لقوله: ﴿وَ اُذْكُرْ﴾ و أوجه الوجوه أولها، و ذلك لأن استغراق الإنسان في ذكرى الدار الآخرة و جوار رب العالمين و ركوز همه فيها يلازم كمال معرفته في جنب الله تعالى و إصابة نظره في حق الاعتقاد و التبصر في سلوك سبيل العبودية و التخلص عن الجمود على ظاهر الحياة الدنيا و زينتها كما هو شأن أبنائها قال تعالى
﴿فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَ لَمْ يُرِدْ إِلاَّ اَلْحَيَاةَ اَلدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ اَلْعِلْمِ﴾ النجم: - ٣٠.
و معنى الآية و إنما كانوا أولي الأيدي و الأبصار لأنا أخلصناهم بخصلة خالصة غير مشوبة عظيمة الشأن هي ذكرى الدار الآخرة.
و قيل: المراد بالدار هي الدنيا و المراد بالآية بقاء ذكرهم الجميل في الألسن ما دامت الدنيا كما قال تعالى﴿وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبَ ﴾ إلى أن قال ﴿ وَ جَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا﴾ مريم: - ٥٠ و الوجه السابق أوجه.
قوله تعالى: ﴿وَ إِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ اَلْمُصْطَفَيْنَ اَلْأَخْيَارِ﴾ تقدم أن الاصطفاء يلازم الإسلام التام لله سبحانه، و في الآية إشارة إلى قوله تعالى﴿إِنَّ اَللَّهَ اِصْطَفىَ آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْرَاهِيمَ وَ آلَ عِمْرَانَ عَلَى اَلْعَالَمِينَ﴾ آل عمران: - ٣٣.
و الأخيار جمع خير مقابل الشر على ما قيل، و قيل: جمع خير بالتشديد أو التخفيف كأموات جمع ميت بالتشديد أو بالتخفيف.
قوله تعالى: ﴿وَ اُذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَ اَلْيَسَعَ وَ ذَا اَلْكِفْلِ وَ كُلٌّ مِنَ اَلْأَخْيَارِ﴾ معناه ظاهر.
(كلام في قصة أيوب (عليه السلام) في فصول)
١ - قصته في القرآن:
لم يذكر من قصته في القرآن إلا ابتلاؤه بالضر في نفسه و أولاده ثم تفريجه تعالى بمعافاته و إيتائه أهله و مثلهم معهم رحمة منه و ذكرى للعابدين «الأنبياء: ٨٣-٨٤. ص: ٤١-٤٤».
٢ - جميل ثنائه:
ذكره تعالى في زمرة الأنبياء من ذرية إبراهيم (عليه السلام) في سورة الأنعام و أثنى عليهم بكل ثناء جميل «الأنعام: ٨٤-٩٠» و ذكره في سورة _ ص فعده صابرا و نعم العبد و أوابا «_ ص: ٤٤».
قصته في الروايات:
في تفسير القمي، حدثني أبي عن ابن فضال عن عبد الله بن بحر عن ابن مسكان عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن بلية أيوب التي ابتلي بها في الدنيا لأي علة كانت؟ قال: لنعمة أنعم الله عز و جل عليه بها في الدنيا و أدى شكرها و كان في ذلك الزمان لا يحجب إبليس دون العرش فلما صعد و رأى
شكر نعمة أيوب حسده إبليس.
فقال: يا رب إن أيوب لم يؤد إليك شكر هذه النعمة إلا بما أعطيته من الدنيا و لو حرمته دنياه ما أدى إليك شكر نعمة أبدا فسلطني على دنياه حتى تعلم أنه لم يؤد إليه شكر نعمة أبدا فقيل له: قد سلطتك على ماله و ولده .
قال: فانحدر إبليس فلم يبق له مالا و لا ولدا إلا أعطبه فازداد أيوب لله شكرا و حمدا، و قال: فسلطني على زرعه يا رب. قال: قد فعلت فجاء مع شياطينه فنفخ فيه فاحترق فازداد أيوب لله شكرا و حمدا فقال: يا رب سلطني على غنمه فأهلكها فازداد أيوب لله شكرا و حمدا .
فقال: يا رب سلطني على بدنه فسلطه على بدنه ما خلا عقله و عينيه فنفخ فيه إبليس فصار قرحة واحدة من قرنه إلى قدمه فبقي في ذلك دهرا طويلا يحمد الله و يشكره حتى وقع في بدنه الدود فكانت تخرج من بدنه فيردها فيقول لها: ارجعي إلى موضعك الذي خلقك الله منه، و نتن حتى أخرجه أهل القرية من القرية و ألقوه في المزبلة خارج القرية .
و كانت امرأته رحمة بنت أفراييم بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم (عليه السلام) و عليها يتصدق من الناس و تأتيه بما تجده .
قال: فلما طال عليه البلاء و رأى إبليس صبره أتى أصحابا لأيوب كانوا رهبانا في الجبال و قال لهم: مروا بنا إلى هذا العبد المبتلى فنسأله عن بليته فركبوا بغالا شهبا و جاءوا فلما دنوا منه نفرت بغالهم من نتن ريحه فنظر بعضهم إلى بعض ثم مشوا إليه و كان فيهم شاب حدث السن فقعدوا إليه فقالوا: يا أيوب لو أخبرتنا بذنبك لعل الله يهلكنا إذا سألناه، و ما نرى ابتلاءك بهذا البلاء الذي لم يبتل به أحد إلا من أمر كنت تستره .
فقال أيوب: و عزة ربي إنه ليعلم أني ما أكلت طعاما إلا و يتيم أو ضعيف يأكل معي، و ما عرض لي أمران كلاهما طاعة الله إلا أخذت بأشدهما على بدني. فقال الشاب:
سوأة لكم عيرتم نبي الله حتى أظهر من عبادة ربه ما كان يسترها .
فقال أيوب: يا رب لو جلست مجلس الحكم منك لأدليت بحجتي فبعث الله إليه
غمامة فقال: يا أيوب أدل بحجتك فقد أقعدتك مقعد الحكم و ها أنا ذا قريب و لم أزل .
فقال: يا رب إنك لتعلم أنه لم يعرض لي أمران قط كلاهما لك طاعة إلا أخذت بأشدهما على نفسي. أ لم أحمدك؟ أ لم أشكرك؟ أ لم أسبحك؟ .
قال: فنودي من الغمامة بعشرة آلاف لسان: يا أيوب من صيرك تعبد الله و الناس عنه غافلون؟ و تحمده و تسبحه و تكبره و الناس عنه غافلون؟ أ تمن على الله بما لله فيه المنة عليك؟ قال: فأخذ التراب و وضعه في فيه ثم قال: لك العتبى يا رب أنت فعلت ذلك بي .
فأنزل الله عليه ملكا فركض برجله فخرج الماء فغسله بذلك الماء فعاد أحسن ما كان و أطرأ، و أنبت الله عليه روضة خضراء، و رد عليه أهله و ماله و ولده و زرعه و قعد معه الملك يحدثه و يؤنسه .
فأقبلت امرأته معها الكسرة [12]فلما انتهت إلى الموضع إذا الموضع متغير و إذا رجلان جالسان فبكت و صاحت و قالت: يا أيوب ما دهاك؟ فناداها أيوب فأقبلت فلما رأته و قد رد الله عليه بدنه و نعمه سجدت لله شكرا. فرأى ذؤابتها مقطوعة و ذلك أنها سألت قوما أن يعطوها ما تحمله إلى أيوب من الطعام و كانت حسنة الذوائب فقالوا لها: تبيعينا ذؤابتك هذه حتى نعطيك؟ فقطعتها و دفعتها إليهم و أخذت منهم طعاما لأيوب، فلما رآها مقطوعة الشعر غضب و حلف عليها أن يضربها مائة فأخبرته أنه كان سببه كيت و كيت. فاغتم أيوب من ذلك فأوحى الله عز و جل إليه ﴿خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَ لاَ تَحْنَثْ﴾ فأخذ عذقا مشتملا على مائة شمراخ فضربها ضربة واحدة فخرج من يمينه. أقول: و روي عن ابن عباس ما يقرب منه، و عن وهب أن امرأته كانت بنت ميشا بن يوسف، و الرواية كما ترى تذكر ابتلاءه بما تتنفر عنه الطباع و هناك من الروايات ما يؤيد ذلك لكن بعض الأخبار المروية عن أئمة أهل البيت (عليه السلام) ينفي ذلك و ينكره أشد الإنكار كما يأتي.
و عن الخصال،: القطان عن السكري عن الجوهري عن ابن عمارة عن أبيه عن
جعفر بن محمد عن أبيه (عليه السلام) قال: إن أيوب (عليه السلام) ابتلي سبع سنين من غير ذنب و إن الأنبياء لا يذنبون لأنهم معصومون مطهرون لا يذنبون و لا يزيغون و لا يرتكبون ذنبا صغيرا و لا كبيرا.
و قال: إن أيوب من جميع ما ابتلي به لم تنتن له رائحة، و لا قبحت له صورة و لا خرجت منه مدة من دم و لا قيح، و لا استقذره أحد رآه، و لا استوحش منه أحد شاهده، و لا تدود شيء من جسده و هكذا يصنع الله عز و جل بجميع من يبتليه من أنبيائه و أوليائه المكرمين عليه .
و إنما اجتنبه الناس لفقره و ضعفه في ظاهر أمره لجهلهم بما له عند ربه تعالى ذكره من التأييد و الفرج، و قد قال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : أعظم الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل .
و إنما ابتلاه الله بالبلاء العظيم الذي يهون معه على جميع الناس لئلا يدعوا له الربوبية إذا شاهدوا ما أراد الله أن يوصله إليه من عظائم نعمه متى شاهدوه، و ليستدلوا بذلك على أن الثواب من الله على ضربين: استحقاق و اختصاص، و لئلا يحتقروا ضعيفا لضعفه و لا فقيرا لفقره و لا مريضا لمرضه، و ليعلموا أنه يسقم من يشاء، و يشفي من يشاء متى شاء كيف شاء، بأي سبب شاء و يجعل ذلك عبرة لمن شاء، و شقاوة لمن شاء، و سعادة لمن شاء، و هو عز و جل في جميع ذلك عدل في قضائه و حكيم في أفعاله لا يفعل بعباده إلا الأصلح لهم و لا قوة لهم إلا به. و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: ﴿وَ وَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ﴾ الآية - قال:
فرد الله عليه أهله الذين ماتوا قبل البلاء، و رد عليه أهله الذين ماتوا بعد ما أصابهم البلاء كلهم أحياهم الله له فعاشوا معه .
و سئل أيوب بعد ما عافاه الله: أي شيء كان أشد عليك مما مر؟ فقال:
شماتة الأعداء.
و في المجمع، ":في قوله تعالى: ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ اَلشَّيْطَانُ﴾ الآية قيل: إنه اشتد مرضه حتى تجنبه الناس فوسوس الشيطان إلى الناس أن يستقذروه و يخرجوه من بينهم و لا يتركوا امرأته التي تخدمه أن تدخل عليهم فكان أيوب يتأذى بذلك و يتألم به و لم يشك
الألم الذي كان من أمر الله سبحانه. قال قتادة: دام ذلك سبع سنين" :و روي ذلك عن أبي عبد الله (عليه السلام) .
خبر اليسع و ذي الكفل «عليه السلام »
ذكر سبحانه اسمهما في كلامه و عدهما من الأنبياء و أثنى عليهما و عدهما من الأخيار «_ ص: ٤٨» و عد ذا الكفل من الصابرين «الأنبياء: ٨٥» و لهما ذكر في الأخبار.
ففي البحار، عن الإحتجاج و التوحيد و العيون في خبر طويل رواه الحسن بن محمد النوفلي عن الرضا (عليه السلام) فيما احتج به على جاثليق النصارى أن قال (عليه السلام) : إن اليسع قد صنع مثل ما صنع عيسى (عليه السلام) مشى على الماء و أحيا الموتى و أبرأ الأكمه و الأبرص فلم يتخذه أمته ربا، الخبر.
و عن قصص الأنبياء،: الصدوق عن الدقاق عن الأسدي عن سهل عن عبد العظيم الحسني قال: كتبت إلى أبي جعفر الثاني أسأله عن ذي الكفل ما اسمه؟ و هل كان من المرسلين؟.
فكتب (عليه السلام) بعث الله جل ذكره مائة ألف نبي و أربعة و عشرين ألف نبي.
مرسلون منهم ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلا، و إن ذا الكفل منهم، و كان بعد سليمان بن داود، و كان يقضي بين الناس كما كان يقضي داود، و لم يغضب إلا لله عز و جل و كان اسمه عويديا و هو الذي ذكره الله جلت عظمته في كتابه حيث قال: ﴿وَ اُذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَ اَلْيَسَعَ وَ ذَا اَلْكِفْلِ وَ كُلٌّ مِنَ اَلْأَخْيَارِ﴾.
أقول: و هناك روايات متفرقة أخر في قصصهما (عليه السلام) تركنا إيرادها لضعفها و عدم الاعتماد عليها.
[سورة ص (٣٨): الآیات ٤٩ الی ٦٤]
﴿هَذَا ذِكْرٌ وَ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ ٤٩ جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً
لَهُمُ اَلْأَبْوَابُ ٥٠ مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَ شَرَابٍ ٥١ وَ عِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ اَلطَّرْفِ أَتْرَابٌ ٥٢ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ اَلْحِسَابِ ٥٣ إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ ٥٤ هَذَا وَ إِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ ٥٥ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ اَلْمِهَادُ ٥٦ هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَ غَسَّاقٌ ٥٧ وَ آخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ ٥٨ هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لاَ مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا اَلنَّارِ ٥٩ قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ اَلْقَرَارُ ٦٠ قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي اَلنَّارِ ٦١ وَ قَالُوا مَا لَنَا لاَ نَرى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ اَلْأَشْرَارِ ٦٢ أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ اَلْأَبْصَارُ ٦٣ إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ اَلنَّارِ ٦٤﴾
(بيان)
فصل آخر من الكلام يبين فيه مآل أمر المتقين و الطاغين تبشيرا و إنذارا.
قوله تعالى: ﴿هَذَا ذِكْرٌ وَ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ﴾ الإشارة بهذا إلى ما ذكر من قصص الأوابين من الأنبياء الكرام (عليه السلام) ، و المراد بالذكر الشرف و الثناء الجميل أي هذا الذي ذكر شرف و ذكر جميل و ثناء حسن لهم يذكرون به في الدنيا أبدا و لهم حسن مآب من ثواب الآخرة. كذا قالوا.
و على هذا فالمراد بالمتقين هم المذكورون من الأنبياء بالخصوص أو عموم أهل التقوى و هم داخلون فيهم و يكون ذكر مآب الطاغين بعد من باب الاستطراد.
و الظاهر أن الإشارة بهذا إلى القرآن و المراد بالذكر ما يشتمل عليه من الذكر و في الكلام عود إلى ما بدئ به في السورة من قوله ﴿وَ اَلْقُرْآنِ ذِي اَلذِّكْرِ﴾ فهو فصل من الكلام يذكر فيه الله سبحانه ما في الدار الآخرة من ثواب المتقين و عقاب الطاغين.
و قوله: ﴿وَ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ﴾ المآب المرجع و التنكير للتفخيم، و المعنى ظاهر.
قوله تعالى: ﴿جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ اَلْأَبْوَابُ﴾ أي جنات استقرار و خلود و كون الأبواب مفتحة لهم كناية عن أنهم غير ممنوعين عن شيء من النعم الموجودة فيها فهي مهيأة لهم مخلوقة لأجلهم، و قيل: المراد أن أبوابها مفتحة لهم لا تحتاج إلى الوقوف وراءها و دقها، و قيل: المراد أنها تفتح بغير مفتاح و تغلق بغير مغلاق.
و الآية و ما بعدها بيان لحسن مآبهم.
قوله تعالى: ﴿مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَ شَرَابٍ﴾ أي حال كونهم جالسين فيها بنحو الاتكاء و الاستناد جلسة الأعزة و الأشراف.
و قوله: ﴿يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ﴾ إلخ أي يتحكمون فيها بدعوة الفاكهة و هي كثيرة و الشراب فإذا دعيت فاكهة أو دعي شراب أجابهم المدعو فأتاهم من غير حاجة إلى من يحمله و يناوله.
قوله تعالى: ﴿وَ عِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ اَلطَّرْفِ أَتْرَابٌ﴾ الضمير للمتقين و قاصرات الطرف صفة قائمة مقام الموصوف و التقدير و عندهم أزواج قاصرات الطرف و المراد قصور طرفهن على أزواجهن يرضين بهم و لا يرون غيرهم أو هو كناية عن كونهن ذوات غنج و دلال.
و الأتراب الأقران أي أنهن أمثال لا يختلفن سنا أو جمالا أو أنهن أمثال لأزواجهن فكلما زادوا نورا و بهاء زدن حسنا و جمالا.
قوله تعالى: ﴿هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ اَلْحِسَابِ﴾ الإشارة إلى ما ذكر من الجنة و نعيمها، و الخطاب للمتقين ففي الكلام التفات من الغيبة إلى الخطاب و النكتة فيه
إظهار القرب منهم و الإشراف عليهم ليكمل نعمهم الصورية بهذه النعمة المعنوية.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ﴾ النفاد الفناء و الانقطاع، و الآية من تمام الخطاب الذي في الآية السابقة على ما يعطيه السياق.
قوله تعالى: ﴿هَذَا وَ إِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ﴾ الإشارة بهذا إلى ما ذكر من مقام المتقين أي هذا ما للمتقين من المآب، و يمكن أن يكون هذا اسم فعل أي خذ هذا.
و الباقي ظاهر.
قوله تعالى: ﴿جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ اَلْمِهَادُ﴾ الصلي دخول النار و مقاساة حرارتها أو اتباعها و المهاد على ما في المجمع، الفراش الموطأ يقال: مهدت له تمهيدا مثل وطأت له توطئة، و الآية و ما بعدها تفسير لمآب الطاغين.
قوله تعالى: ﴿هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَ غَسَّاقٌ﴾ الحميم الحار الشديد الحرارة الغساق على ما في المجمع، قيح شديد النتن، و فسر بتفاسير أخر، و قوله: ﴿حَمِيمٌ وَ غَسَّاقٌ﴾ بيان لهذا، و قوله: ﴿فَلْيَذُوقُوهُ﴾ دال على إكراههم و حملهم على ذوقه و تقديم المخبر عنه و جعله اسم إشارة يؤكد ذلك، و المعنى هذا حميم و غساق عليهم أن يذوقوه ليس إلا.
قوله تعالى: ﴿وَ آخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ﴾ شكل الشيء ما يشابهه و جنسه و الأزواج الأنواع و الأقسام أي و هذا آخر من جنس الحميم و الغساق أنواع مختلفة ليذوقوها.
قوله تعالى: ﴿هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ ﴾ إلى قوله ﴿فِي اَلنَّارِ﴾ الآيات الثلاث على ما يعطيه السياق حكاية ما يجري بين التابعين و المتبوعين من الطاغين في النار من التخاصم و المجاراة.
فقوله: ﴿هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ﴾ خطاب يخاطب به المتبوعون يشار به إلى التابعين الذين يدخلون النار مع المتبوعين فوجا، و الاقتحام الدخول في الشيء بشدة و صعوبة.
و قوله: ﴿لاَ مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا اَلنَّارِ﴾ جواب المتبوعين لمن يخاطبهم بقوله:
﴿هَذَا فَوْجٌ﴾ و مرحبا تحية للوارد معناه عرض رحب الدار و سعتها له فقولهم:
﴿لاَ مَرْحَباً بِهِمْ﴾ معناه نفي الرحب و السعة عنهم. و قولهم: ﴿إِنَّهُمْ صَالُوا اَلنَّارِ﴾ أي داخلوها و مقاسو حرارتها أو متبعوها تعليل لتحيتهم بنفي التحية.
و قوله: ﴿قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ اَلْقَرَارُ﴾ نقل كلام التابعين و هم القائلون يردون إلى متبوعيهم نفي التحية و يذمون القرار في النار.
قوله تعالى: ﴿قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي اَلنَّارِ﴾ لم يذكر تعالى جواب المتبوعين لقولهم: ﴿أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا﴾ إلخ و قد ذكره في سورة الصافات فيما حكى من تساؤلهم بقوله﴿قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَ مَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طَاغِينَ»﴾ الخ: الآية - ٣٠ فقولهم: ﴿رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي اَلنَّارِ﴾ كلامهم بعد الانقطاع عن المخاصمة.
و جملة ﴿مَنْ قَدَّمَ﴾ إلخ شرط و جزاء، و الضعف المثل و ﴿عَذَاباً ضِعْفاً﴾ أي ذا ضعف و مثل أي ضعفين من العذاب.
قوله تعالى: ﴿وَ قَالُوا مَا لَنَا لاَ نَرىَ رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ اَلْأَشْرَارِ﴾ القائلون على ما يعطيه السياق مطلق أهل النار، و مرادهم بالرجال الذين كانوا يعدونهم من الأشرار المؤمنون و هم في الجنة فيطلبهم أهل النار فلا يجدونهم فيها.
قوله تعالى: ﴿أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ اَلْأَبْصَارُ﴾ أي اتخذناهم سخريا في الدنيا فأخطأنا و قد كانوا ناجين أم عدلت أبصارنا فلا نراهم و هم معنا في النار.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ اَلنَّارِ﴾ إشارة إلى ما حكي من تخاصمهم و بيان أن تخاصم أهل النار ثابت واقع لا ريب فيه و هو ظهور ما استقر في نفوسهم في الدنيا من ملكة التنازع و التشاجر.
[سورة ص (٣٨): الآیات ٦٥ الی ٨٨]
﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَ مَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اَللَّهُ اَلْوَاحِدُ اَلْقَهَّارُ ٦٥ رَبُّ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مَا بَيْنَهُمَا اَلْعَزِيزُ اَلْغَفَّارُ ٦٦ قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ ٦٧ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ ٦٨ مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ اَلْأَعْلىَ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ٦٩ إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّمَا أَنَا
نَذِيرٌ مُبِينٌ ٧٠ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ ٧١ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ٧٢ فَسَجَدَ اَلْمَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ٧٣ إِلاَّ إِبْلِيسَ اِسْتَكْبَرَ وَ كَانَ مِنَ اَلْكَافِرِينَ ٧٤ قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ اَلْعَالِينَ ٧٥ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ٧٦ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ٧٧ وَ إِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ اَلدِّينِ ٧٨ قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ٧٩ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ اَلْمُنْظَرِينَ ٨٠ إِلى يَوْمِ اَلْوَقْتِ اَلْمَعْلُومِ ٨١ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ٨٢ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ اَلْمُخْلَصِينَ ٨٣ قَالَ فَالْحَقُّ وَ اَلْحَقَّ أَقُولُ ٨٤ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ٨٥ قُلْ مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَ مَا أَنَا مِنَ اَلْمُتَكَلِّفِينَ ٨٦ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ٨٧ وَ لَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ٨٨﴾
(بيان)
الفصل الأخير من فصول السورة المشتمل على أمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بإبلاغ نذارته و دعوته إلى التوحيد. و أن الإعراض عن الحق و اتباع الشيطان ينتهي بالإنسان إلى
عذاب النار المقضي في حقه و حق أتباعه و عند ذلك تختتم السورة.
قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَ مَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اَللَّهُ اَلْوَاحِدُ اَلْقَهَّارُ﴾ إلى قوله ﴿اَلْعَزِيزُ اَلْغَفَّارُ﴾ في الآيتين أمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بإبلاغ أنه منذر و أن الله تعالى واحد في الألوهية فقوله: ﴿إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ﴾ يفيد قصره في كونه منذرا و نفي سائر الأغراض التي ربما تتلبس به الدعوة بين الناس من طلب مال أو جاه كما يشير إليه ما في آخر الآيات من قوله: ﴿قُلْ مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَ مَا أَنَا مِنَ اَلْمُتَكَلِّفِينَ﴾.
و قوله: ﴿وَ مَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اَللَّهُ﴾ إلى آخر الآيتين إبلاغ لتوحيده تعالى بحجة يدل عليها ما أورد من صفاته المدلول عليها بأسمائه.
فقوله: ﴿وَ مَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اَللَّهُ﴾ نفي لكل إله و الإله هو المعبود بالحق غيره تعالى و أما ثبوت ألوهيته تعالى فهو مسلم بانتفاء ألوهية غيره إذ لا نزاع بين الإسلام و الشرك في أصل ثبوت الإله و إنما النزاع في أن الإله و هو المعبود بالحق هو الله تعالى أو غيره. على أن ما ذكر في الآيتين من الصفات متضمن لإثبات ألوهيته كما أنها حجة على انتفاء ألوهية غيره تعالى.
و قوله: ﴿اَلْوَاحِدُ اَلْقَهَّارُ﴾ يدل على توحده تعالى في وجوده و قهره كل شيء و ذلك أنه تعالى واحد لا يماثله شيء في وجوده و لا تناهي كماله الذي هو عين وجوده الواجب فهو الغني بذاته و على الإطلاق و غيره من شيء فقير يحتاج إليه من كل جهة ليس له من الوجود و آثار الوجود إلا ما أنعم و أفاض فهو سبحانه القاهر لكل شيء على ما يريد و كل شيء مطيع له فيما أراد خاضع له فيما شاء.
و هذا الخضوع الذاتي هو حقيقة العبادة فلو جاز أن يعبد شيء في الوجود عملا بأن يؤتى بعمل يمثل به العبودية و الخضوع فهي عبادته سبحانه إذ كل شيء مفروض دونه فهو مقهور خاضع له لا يملك لنفسه و لا لغيره شيء و لا يستقل من الوجود و آثار الوجود بشيء فهو سبحانه الإله المعبود بالحق لا غير.
و قوله: ﴿رَبُّ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مَا بَيْنَهُمَا﴾ يفيد حجة أخرى على توحده تعالى في الألوهية و ذلك أن نظام التدبير الجاري في العالم برمته نظام واحد متصل غير متبعض و لا متجز و هو آية وحدة المدبر، و قد تقدم كرارا أن الخلق و التدبير لا ينفكان
فالتدبير خلق بوجه كما أن الخلق تدبير بوجه و الخالق الموجد للسماوات و الأرض و ما بينهما هو الله سبحانه حتى عند الخصم فهو تعالى ربها المدبر لها جميعا فهو وحده الإله الذي يجب أن يقصد بالعبادة لأن العبادة تمثيل عبودية العابد و مملوكيته تجاه مولوية المعبود و مالكيته و تصرفه في العابد بإفاضة النعمة و دفع النقمة فهو سبحانه الإله في السماوات و الأرض و ما بينهما لا إله غيره. فافهم ذلك.
و يمكن أن يكون قوله: ﴿رَبُّ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مَا بَيْنَهُمَا﴾ بيانا لقوله ﴿اَلْقَهَّارُ﴾ أو ﴿اَلْوَاحِدُ اَلْقَهَّارُ﴾.
و قوله: ﴿اَلْعَزِيزُ اَلْغَفَّارُ﴾ يفيد حجة أخرى على توحده تعالى في الألوهية و ذلك أنه تعالى عزيز لا يغلبه شيء بإكراهه على ما لم يرد أو بمنعه عما أراد فهو العزيز على الإطلاق و غيره من شيء ذليل عنده قانت له و العبادة إظهار للمذلة و لا يستقيم إلا قبال العزة و لا عزة لغيره تعالى إلا به.
و أيضا غاية العبادة و هي تمثيل العبودية التقرب إلى المعبود و رفع وصمة البعد عن العبد العابد و هو مغفرة الذنب و الله سبحانه هو المستقل بالرحمة التي لا تنفد خزائنها و هو الذي يورد عباده العابدين له في الآخرة دار كرامته فهو الغفار الذي يجب أن يعبد طمعا في مغفرته.
و يمكن أن يكون قوله: ﴿اَلْعَزِيزُ اَلْغَفَّارُ﴾ تلويحا إلى وجه الدعوة إلى التوحيد أو وجوب الإيمان به المفهوم بحسب المقام من قوله: ﴿وَ مَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اَللَّهُ اَلْوَاحِدُ اَلْقَهَّارُ﴾ و المعنى أدعوكم إلى توحيده فآمنوا به لأنه العزيز الذي لا يشوبه ذلة الغفار للذنوب و هكذا يجب أن يكون الإله.
قوله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ﴾ مرجع الضمير ما ذكره من حديث الوحدانية في قوله: ﴿وَ مَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اَللَّهُ﴾ إلخ.
و قيل: الضمير للقرآن فهو النبأ العظيم الذي أعرضوا عنه، و هو أوفق لسياق الآيات السابقة المرتبطة بأمر القرآن، و أوفق أيضا لقوله الآتي: ﴿مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ اَلْأَعْلىَ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ أي حتى أخبرني به القرآن، و قيل: المراد به يوم القيامة و هو أبعد الوجوه. ـ
قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ اَلْأَعْلىَ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ الملأ الأعلى جماعة الملائكة و كأن المراد باختصامهم ما أشار تعالى إليه بقوله: ﴿إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي اَلْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ إلى آخر الآيات.
و كأن المعنى إني ما كنت أعلم اختصام الملإ الأعلى حتى أوحى الله إلي ذلك في كتابه فإنما أنا منذر أتبع الوحي.
قوله تعالى: ﴿إِنْ يُوحىَ إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ تأكيد لقوله: ﴿إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ﴾ و بمنزلة التعليل لقوله: ﴿مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ اَلْأَعْلى﴾ و المعنى لم أكن أعلم ذلك لأن علمي ليس من قبل نفسي و إنما هو بالوحي و ليس يوحى إلي إلا ما يتعلق بالإنذار.
قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ﴾ الذي يعطيه السياق أن الآية و ما بعدها ليست تتمة لقول النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : ﴿إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ﴾ إلخ و الشاهد عليه قوله: ﴿رَبُّكَ﴾ فهو من كلامه تعالى يشير إلى زمان اختصام الملإ الأعلى و الظرف متعلق بما تعلق به قوله: ﴿إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ أو متعلق بمحذوف و التقدير «اذكر إذ قال ربك للملائكة» إلخ فإن قوله تعالى للملائكة: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي اَلْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ و قوله لهم: ﴿إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ﴾ متقارنان وقعا في ظرف واحد.
و على هذا يؤول معنى قوله: ﴿إِذْ قَالَ رَبُّكَ﴾ إلخ إلى نحو من قولنا: اذكر وقتئذ قال ربك كذا و كذا فهو وقت اختصامهم.
و جعل بعضهم قوله: ﴿إِذْ قَالَ رَبُّكَ﴾ إلخ مفسرا لقوله: ﴿إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ ثم أخذ الاختصام بعد تفسيره بالتقاول مجموع قوله تعالى للملائكة ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي اَلْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ و قولهم: ﴿أَ تَجْعَلُ﴾ إلخ، و قوله لآدم و قول آدم لهم، و قوله تعالى لهم: ﴿إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً﴾ و قول إبليس و قوله تعالى له.
و قال على تقدير كون الاختصام بمعنى المخاصمة و دلالة قوله: ﴿إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ على كون المخاصمة بين الملائكة أنفسهم لا بينهم و بين الله سبحانه أن إخباره تعالى لهم بقوله: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي اَلْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ ﴿إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً﴾ كان بتوسط ملك من الملائكة و كذا قوله لآدم و لإبليس فيكون قولهم لربهم: ﴿أَ تَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا﴾ إلخ و غيره قولا منهم للملك المتوسط و يقع الاختصام فيما بينهم أنفسهم.
و أنت خبير بأن شيئا مما ذكره لا يستفاد من سياق الآيات.
و قوله: ﴿إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ﴾ البشر الإنسان، قال الراغب: البشر ظاهر الجلد و الأدمة باطنه. كذا قال عامة الأدباء، قال: و عبر عن الإنسان بالبشر اعتبارا بظهور جلده من الشعر بخلاف الحيوانات التي عليها الصوف أو الوبر، و استوى في لفظ البشر الواحد و الجمع و ثني فقال تعالى: ﴿أَ نُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ﴾ و خص في القرآن كل موضع اعتبر من الإنسان جثته و ظاهره بلفظ البشر. انتهى.
و قد عد في الآية مبدأ خلق الإنسان الطين، و في سورة الروم التراب و في سورة الحجر صلصال من حمإ مسنون، و في سورة الرحمن صلصال كالفخار و لا ضير فإنها أحوال مختلفة لمادته الأصلية التي منها خلق و قد أشير في كل موضع إلى واحدة منها.
قوله تعالى: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ تسوية الإنسان تعديل أعضائه بتركيب بعضها على بعض و تتميمها صورة إنسان تام، و نفخ الروح فيه جعله ذا نفس حية إنسانية و إضافة الروح إليه تعالى تشريفية و قوله: ﴿فَقَعُوا﴾ أمر من الوقوع و هو متفرع على التسوية و النفخ.
قوله تعالى: ﴿فَسَجَدَ اَلْمَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ﴾ ظاهر الدلالة على سجود الملائكة له من غير استثناء.
قوله تعالى: ﴿إِلاَّ إِبْلِيسَ اِسْتَكْبَرَ وَ كَانَ مِنَ اَلْكَافِرِينَ﴾ أي استكبر إبليس فلم يسجد له و كان قبل ذلك من الكافرين كما حكى سبحانه عنه في سورة الحجر قوله﴿لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ﴾ الحجر: - ٣٣.
قوله تعالى: ﴿قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ اَلْعَالِينَ﴾ نسبة خلقه إلى اليد للتشريف بالاختصاص كما قال: ﴿وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي﴾ و تثنية اليد كناية عن الاهتمام التام بخلقه و صنعه فإن الإنسان إنما يستعمل اليدين فيما يهتم به من العمل فقوله: ﴿خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ كقوله﴿مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا﴾ يس: - ٧١.
و قيل: المراد باليد القدرة و التثنية لمجرد التأكيد كقوله﴿ثُمَّ اِرْجِعِ اَلْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ
﴾ الملك: - ٣ و قد وردت به الرواية.
و قيل: المراد باليدين نعم الدنيا و الآخرة، و يمكن أن يحتمل إرادة مبدأي الجسم و الروح أو الصورة و المعنى أو صفتي الجلال و الجمال من اليدين لكنها معان لا دليل على شيء منها من اللفظ.
و قوله: ﴿أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ اَلْعَالِينَ﴾ استفهام توبيخ أي أ كان عدم سجودك لأنك استكبرت أم كنت من الذين يعلون أي يعلو قدرهم أن يؤمروا بالسجود، و لذا قال بعضهم بالاستفادة من الآية أن العالين قوم من خلقه تعالى مستغرقون في التوجه إلى ربهم لا يشعرون بغيره تعالى.
و قيل: المراد بالعلو الاستكبار كما في قوله تعالى﴿وَ إِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي اَلْأَرْضِ﴾يونس: - ٨٣ و المعنى استكبرت حين أمرت بالسجدة أم كنت من قبل من المستكبرين؟.
و يدفعه أنه لا يلائم مقتضى المقام فإن مقتضاه تعلق الغرض باستعلام أصل استكباره لا تعيين كون استكباره قديما أو حديثا.
و قيل: المراد بالعالين ملائكة السماء فإن المأمورين بالسجود هم ملائكة الأرض.
و يدفعه ما في الآية من العموم.
قوله تعالى: ﴿قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ تعليل عدم سجوده بما يدعيه من شرافة ذاته و أنه لكون خلقه من نار خير من آدم المخلوق من طين، و فيه تلويح أن الأمر الإلهي إنما يطاع إذا كان حقا لا لذاته، و ليس أمره بالسجود له حقا، و يؤول إلى إنكار إطلاق ملكه تعالى و حكمته و هو الأصل الذي ينتهي إليه كل معصية فإن المعصية إنما تقع بالخروج عن حكم عبوديته تعالى و مملوكيته و بالإعراض عن كون تركها أولى من فعلها و اقترافها.
قوله تعالى: ﴿قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَ إِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلىَ يَوْمِ اَلدِّينِ﴾ الرجم الطرد، و يوم الدين يوم الجزاء.
و قوله: ﴿وَ إِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي﴾ و في سورة الحجر﴿: «وَ إِنَّ عَلَيْكَ اَللَّعْنَةَ﴾ الآية - ٣٥ قيل في وجهه: لو كانت اللام للعهد فلا فرق بين التعبيرين، و لو كانت للجنس فكذلك
أيضا لأن لعن غيره تعالى من الملائكة و الناس عليه إنما يكون طردا له حقيقة و إبعادا من الرحمة إذا كان بأمر الله و بإبعاده من رحمته.
قوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ إلى قوله ﴿إِلى يَوْمِ اَلْوَقْتِ اَلْمَعْلُومِ﴾ ظاهر تغير الغاية في السؤال و الجواب حيث قال: ﴿إِلىَ يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ فأجيب بقوله: ﴿إِلىَ يَوْمِ اَلْوَقْتِ اَلْمَعْلُومِ﴾ أن ما أجيب إليه غير ما سأله فهو لا محالة آخر يوم يعصي فيه الناس ربهم و هو قبل يوم البعث، و الظاهر أن المراد باليوم الظرف فتفيد إضافته إلى الوقت التأكيد.
قوله تعالى: ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ اَلْمُخْلَصِينَ﴾ الباء في ﴿فَبِعِزَّتِكَ﴾ للقسم أقسم بعزته ليغوينهم أجمعين و استثنى منهم المخلصين و هم الذين أخلصهم الله لنفسه فلا نصيب فيهم لإبليس و لا لغيره.
قوله تعالى: ﴿قَالَ فَالْحَقُّ وَ اَلْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ جوابه تعالى لإبليس و هو يتضمن القضاء عليه و على من تبعه بالنار.
فقوله: ﴿فَالْحَقُّ﴾ مبتدأ محذوف الخبر أو خبر محذوف المبتدإ، و الفاء لترتيب ما بعده على ما قبله، و المراد بالحق ما يقابل الباطل على ما يؤيده إعادة الحق ثانيا باللام و المراد به ما يقابل الباطل قطعا و التقدير فالحق أقسم به لأملأن جهنم منك و ممن تبعك منهم، أو فقولي الحق لأملأن «إلخ».
و قوله: ﴿وَ اَلْحَقَّ أَقُولُ﴾ جملة معترضة تشير إلى حتمية القضاء و ترد على إبليس ما يلوح إليه قوله: ﴿أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ﴾ إلخ من كون قوله تعالى و هو أمره بالسجود غير حق، و تقديم الحق في ﴿وَ اَلْحَقَّ أَقُولُ﴾ و تحليته باللام لإفادة الحصر.
و قوله: ﴿لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ متن القضاء الذي قضى به و كأن المراد بقوله: ﴿مِنْكَ﴾ جنس الشياطين حتى يشمل إبليس و ذريته و قبيله، و قوله: ﴿وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ﴾ أي من الناس ذرية آدم.
و قد أشبعنا الكلام في نظائر الآيات من سورة الحجر و في القصة من سور البقرة و الأعراف و الإسراء فعليك بالرجوع إليها.
قوله تعالى: ﴿قُلْ مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَ مَا أَنَا مِنَ اَلْمُتَكَلِّفِينَ﴾ رجوع إلى ما تقدم في أول السورة و خلال آياتها أن القرآن ذكر و أن ليس النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) إلا منذرا لا غير و رد لما رموه بقولهم ﴿اِمْشُوا وَ اِصْبِرُوا عَلىَ آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ﴾.
فقوله: ﴿مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ﴾ أي أجرا دنيويا من مال أو جاه، و قوله:
﴿وَ مَا أَنَا مِنَ اَلْمُتَكَلِّفِينَ﴾ أي من أهل التكلف و هو التصنع و التحلي بما ليس له.
قوله تعالى: ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ﴾ أي القرآن ذكر عام للعالمين من جماعات الناس و مختلف الشعوب و الأمم و غيرهم لا يختص بقوم دون قوم حتى يؤخذ على تلاوته مال و على تعليمه أجر بل هو للجميع.
قوله تعالى: ﴿وَ لَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ﴾ أي لتعلمن ما أخبر به القرآن من الوعد و الوعيد و ظهوره على الأديان و غير ذلك بعد حين أي بعد مرور زمان.
قيل: المراد بعد حين يوم القيامة، و قيل: يوم الموت، و قيل: يوم بدر، و لا يبعد أن يقال: إن نبأه مختلف لا يختص بيوم من هذه الأيام حتى يكون هو المراد بل المراد به المطلق فلكل من أقسام نبئه حينه.
بحث روائي
في تفسير القمي، بإسناده عن إسماعيل الجعفي عن أبي جعفر (عليه السلام) : في حديث يذكر فيه المعراج، عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : قال تعالى: يا محمد. قلت: لبيك يا رب. قال:
فيما اختصم الملأ الأعلى؟ قال: قلت: سبحانك لا علم لي إلا ما علمتني. قال: فوضع يده أي يد القدرة بين ثديي فوجدت بردها بين كتفي قال: فلم يسألني عما مضى و لا عما بقي إلا علمته. فقال: يا محمد فيم اختصم الملأ الأعلى؟ قال: قلت: في الكفارات و الدرجات و الحسنات الحديث.
و في المجمع، روى ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: قال لي ربي: أ تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ فقلت: لا. قال: اختصموا في الكفارات و الدرجات فأما الكفارات فإسباغ الوضوء في السبرات و نقل الأقدام إلى الجماعات و انتظار الصلاة بعد الصلاة،
و أما الدرجات فإفشاء السلام و إطعام الطعامو الصلاة بالليل و الناس نيام.:
أقول: و رواه في الخصال، عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فجعل ما فسر به الكفارات تفسيرا للدرجات و بالعكس، و روي في الدر المنثور، حديث المجمع بطرق كثيرة عن عدة من الصحابة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) على اختلاف ما في الروايات.
و كيفما كان فسياق الآية يأبى الانطباق على مضمون هذه الروايات و لا دليل يدل على كون الروايات في مقام تفسير الآية فلعل الاختصام المذكور فيها غير المذكور في الآية.
و في نهج البلاغة،: الحمد لله الذي لبس العز و الكبرياء و اختارهما لنفسه دون خلقه، و جعلهما حمى و حرما على غيره، و اصطفاهما لجلاله، و جعل اللعنة على من نازعه فيهما من عباده، ثم اختبر بذلك ملائكته المقربين ليميز المتواضعين منهم من المستكبرين فقال سبحانه و هو العالم بمضمرات القلوب و محجوبات الغيوب: ﴿إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ اَلْمَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ ﴾ اعترضته الحمية فافتخر على آدم بخلقه و تعصب عليه بأصله .
فعدو الله إمام المتعصبين و سلف المستكبرين الذي وضع أساس العصبية، و نازع الله رداء الجبرية، و أدرع لباس التعزز، و خلع قناع التذلل أ لا ترون كيف صغره الله بتكبره، و وضعه بترفعه فجعله في الدنيا مدحورا، و أعد له في الآخرة سعيرا. الخطبة.
و في العيون، بإسناده إلى محمد بن عبيدة قال: سألت الرضا (عليه السلام) عن قول الله تعالى لإبليس: ﴿مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ قال: يعني بقدرتي و قوتي). أقول: و روي مثله في التوحيد، بإسناده عن محمد بن مسلم عن الصادق (عليه السلام) .
و في القصة روايات أخر أوردناها في ذيلها من سور البقرة و الأعراف و الحجر و الإسراء فراجع.
و عن جوامع الجامع، عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : للمتكلف ثلاث علامات: ينازع من فوقه، و يتعاطى ما لا ينال، و يقول ما لا يعلم.
أقول: و روي مثله في الخصال، عن الصادق (عليه السلام) عن لقمان في وصيته لابنه،
و روي أيضا من طرق أهل السنة، و في بعض الروايات: ينازل من فوقه.
(٣٩) سورة الزمر مكية و هي خمس و سبعون آية (٧٥)
[سورة الزمر (٣٩): الآیات ١ الی ١٠]
﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ تَنْزِيلُ اَلْكِتَابِ مِنَ اَللَّهِ اَلْعَزِيزِ اَلْحَكِيمِ ١ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ اَلْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اَللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ اَلدِّينَ ٢ أَلاَ لِلَّهِ اَلدِّينُ اَلْخَالِصُ وَ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اَللَّهِ زُلْفى إِنَّ اَللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ٣ لَوْ أَرَادَ اَللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاَصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اَللَّهُ اَلْوَاحِدُ اَلْقَهَّارُ ٤ خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اَللَّيْلَ عَلَى اَلنَّهَارِ وَ يُكَوِّرُ اَلنَّهَارَ عَلَى اَللَّيْلِ وَ سَخَّرَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلاَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْغَفَّارُ ٥ خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ اَلْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ ذَلِكُمُ اَللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ اَلْمُلْكُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ٦ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اَللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَ لاَ يَرْضى لِعِبَادِهِ اَلْكُفْرَ وَ إِنْ
تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَ لاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ اَلصُّدُورِ ٧ وَ إِذَا مَسَّ اَلْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَ جَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ اَلنَّارِ ٨ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اَللَّيْلِ سَاجِداً وَ قَائِماً يَحْذَرُ اَلْآخِرَةَ وَ يَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي اَلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ اَلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُوا اَلْأَلْبَابِ ٩ قُلْ يَا عِبَادِ اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ اَلدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَ أَرْضُ اَللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى اَلصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ١٠﴾
(بيان)
يظهر من خلال آيات السورة أن المشركين من قومه (ص) سألوه أن ينصرف عما هو عليه من التوحيد و الدعوة إليه و التعرض لآلهتهم و خوفوه بآلهتهم فنزلت السورة و هي قرينة سورة _ ص بوجه و هي تؤكد الأمر بأن يخلص دينه لله سبحانه و لا يعبأ بآلهتهم و أن يعلمهم أنه مأمور بالتوحيد و إخلاص الدين الذي تواترت الآيات من طريق الوحي و العقل جميعا عليه.
و لذلك نراه سبحانه يعطف الكلام عليه في خلال السورة مرة بعد مرة كقوله في مفتتح السورة: ﴿فَاعْبُدِ اَللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ اَلدِّينَ أَلاَ لِلَّهِ اَلدِّينُ اَلْخَالِصُ﴾ ثم يرجع إليه و يقول:
﴿قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اَللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ اَلدِّينَ﴾ إلى قوله ﴿قُلِ اَللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ﴾.
ثم يقول: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾ إلخ ثم يقول: ﴿أَ لَيْسَ اَللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَ يُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ﴾ ثم يقول: ﴿قُلْ يَا قَوْمِ اِعْمَلُوا عَلىَ مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ﴾ ثم يقول: ﴿قُلْ أَ فَغَيْرَ اَللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا اَلْجَاهِلُونَ﴾ إلى غير ذلك من الإشارات.
ثم عمم الاحتجاج على توحده تعالى في الربوبية و الألوهية من الوحي و من طريق البرهان و قايس بين المؤمنين و المشركين مقايسات لطيفة فوصف المؤمنين بأجمل أوصافهم و بشرهم بما سيثيبهم في الآخرة مرة بعد مرة و ذكر المشركين و أنذرهم بما سيلحقهم من الخسران و عذاب الآخرة مضافا إلى ما يصيبهم في الدنيا من وبال أمرهم كما أصاب الذين كذبوا من الأمم الدارجة من عذاب الخزي في الحياة الدنيا و لعذاب الآخرة أكبر.
و من ثم وصفت السورة يوم البعث و خاصة في مختتمها بأوضح الوصف و أتمه.
و السورة مكية لشهادة سياق آياتها بذلك و كأنها نزلت دفعة واحدة لما بين آياتها من الاتصال.
و الآيات العشر المنقولة تجمع الدعوة من طريق الوحي و الحجة العقلية بادئة بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) .
قوله تعالى: ﴿تَنْزِيلُ اَلْكِتَابِ مِنَ اَللَّهِ اَلْعَزِيزِ اَلْحَكِيمِ﴾ ﴿تَنْزِيلُ اَلْكِتَابِ﴾ خبر لمبتدإ محذوف، و هو مصدر بمعنى المفعول فيكون إضافته إلى الكتاب من إضافة الصفة إلى موصوفها و ﴿مِنَ اَللَّهِ﴾ متعلق بتنزيل و المعنى هذا كتاب منزل من الله العزيز الحكيم.
و قيل: ﴿تَنْزِيلُ اَلْكِتَابِ﴾ مبتدأ و ﴿مِنَ اَللَّهِ﴾ خبره و لعل الأول أقرب إلى الذهن.
قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ اَلْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اَللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ اَلدِّينَ﴾ عبر بالإنزال دون التنزيل كما في الآية السابقة لأن القصد إلى بيان كونه بالحق و هو يناسب مجموع ما نزل إليه من ربه.
و قوله: ﴿بِالْحَقِّ﴾ الباء فيه للملابسة أي أنزلناه إليك متلبسا بالحق فما فيه من الأمر بعبادة الله وحده حق، و على هذا المعنى فرع عليه قوله: ﴿فَاعْبُدِ اَللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ
اَلدِّينَ﴾ و المعنى فإذا كان بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين لأن فيه ذلك.
و المراد بالدين على ما يعطيه السياق العبادة و يمكن أن يراد به سنة الحياة و هي الطريقة المسلوكة في الحياة في المجتمع الإنساني، و يراد بالعبادة تمثيل العبودية بسلوك الطريق التي شرعها الله سبحانه و المعنى فأظهر العبودية لله في جميع شئون حياتك باتباع ما شرعه لك فيها و الحال أنك مخلص له دينك لا تتبع غير ما شرعه لك.
قوله تعالى: ﴿أَلاَ لِلَّهِ اَلدِّينُ اَلْخَالِصُ﴾ إظهار و إعلان لما أضمر و أجمل في قوله:
﴿بِالْحَقِّ﴾ و تعميم لما خصص في قوله: ﴿فَاعْبُدِ اَللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ اَلدِّينَ﴾ أي إن الذي أوحيناه إليك من إخلاص الدين لله واجب على كل من سمع هذا النداء، و لكون الجملة نداء مستقلا أظهر اسم الجلالة و كان مقتضى الظاهر أن يضمر و يقال: له الدين الخالص.
و معنى كون الدين الخالص له أنه لا يقبل العبادة ممن لا يعبده وحده سواء عبده و غيره أو عبد غيره وحده.
قوله تعالى: ﴿وَ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اَللَّهِ زُلْفىَ﴾ إلى آخر الآية تقدم أن الوثنية يرون أن الله سبحانه أجل من أن يحيط به الإدراك الإنساني من عقل أو وهم أو حس فيتنزه تعالى عن أن يقع عليه توجه عبادي منا.
فمن الواجب أن نتقرب إليه بالتقرب إلى مقربيه من خلقه و هم الذين فوض إليهم تدبير شئون العالم فنتخذهم أربابا من دون الله ثم آلهة نعبدهم و نتقرب إليهم ليشفعوا لنا عند الله و يقربونا إليه زلفى و هؤلاء هم الملائكة و الجن و قديسو البشر و هؤلاء هم الأرباب و الآلهة بالحقيقة.
أما الأصنام المصنوعة المنصوبة في الهياكل و المعابد فإنما هي تماثيل للأرباب و الآلهة و ليست في نفسها أربابا و لا آلهة غير أن الجهلة من عامتهم ربما لم يفرقوا بين الأصنام و أرباب الأصنام فعبدوا الأصنام كما يعبد الأرباب و الآلهة و كذلك كانت عرب الجاهلية و كذلك الجهلة من عامة الصابئين ربما لم يفرقوا بين أصنام الكواكب و الكواكب التي هي أيضا أصنام لأرواحها الموكلة عليها و بين أرواحها التي هي الأرباب و الآلهة بالحقيقة عند خاصتهم.
و كيف كان فالأرباب و الآلهة هم المعبودون عندهم و هم موجودات ممكنة مخلوقة لله مقربة عنده مفوضة إليهم تدبير أمر العالم لكل بحسب منزلته و أما الله سبحانه فليس له إلا الخلق و الإيجاد و هو رب الأرباب و إله الآلهة.
إذا تذكرت ما مر ظهر أن المراد بقوله: ﴿وَ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ﴾ اتخاذهم أربابا يدبرون الأمر بأن يسندوا الربوبية و أمر التدبير إليهم لا إلى الله فهم المدبرون للأمر عندهم و يتفرع عليه أن يخضع لهم و يعبدوا لأن العبادة لجلب النفع أو لدفع الضرر أو شكر النعم و كل ذلك إليهم لتصديهم أمر التدبير دون الله سبحانه.
فالمراد باتخاذهم أولياء اتخاذهم أربابا (١)،[13] و لذا عقب اتخاذ الأولياء بذكر العبادة ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا﴾ فقوله: ﴿وَ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ﴾ مبتدأ خبره ﴿إِنَّ اَللَّهَ يَحْكُمُ﴾ إلخ و المراد بهم المشركون القائلون بربوبية الشركاء و ألوهيتهم دون الله إلا ما ذهب إليه جهلتهم من كونه تعالى شريكا لهم في المعبودية.
و قوله: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اَللَّهِ زُلْفىَ﴾ تفسير لمعنى اتخاذ الأولياء من دون الله و هو حكاية لقولهم أو بتقدير القول أي يقولون: ما نعبدهم هؤلاء إلا ليقربونا بسبب عبادتنا لهم إلى الله تقريبا فهم عادلون منه تعالى إلى غيره، و إنما سموا مشركين لأنهم يشركون به تعالى غيره حيث يقولون بكونهم أربابا و آلهة للعالم و كونه تعالى ربا و إلها لأولئك الأرباب و الآلهة، و أما الشركة في الخلق و الإيجاد فلم يقل به لا مشرك و لا موحد.
و قوله: ﴿إِنَّ اَللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ قيل: ضمير الجمع للمشركين و أوليائهم أي إن الله يحكم بين المشركين و بين أوليائهم فيما هم فيه يختلفون، و قيل:
الضميران راجعان إلى المشركين و خصمائهم من أهل الإخلاص في الدين المفهوم من السياق، و المعنى إن الله يحكم بينهم و بين المخلصين للدين.
و قوله: ﴿إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ﴾ الكفار كثير الكفران لنعم الله
أو كثير الستر للحق، و في الجملة إشعار بل دلالة على أن الحكم يوم القيامة على المشركين لا لهم و أنهم مسيرون إلى العذاب، و المراد بالهداية الإيصال إلى حسن العاقبة.
قوله تعالى: ﴿لَوْ أَرَادَ اَللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاَصْطَفىَ مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اَللَّهُ اَلْوَاحِدُ اَلْقَهَّارُ﴾ احتجاج على نفي قولهم: إن الله اتخذ ولدا، و قول بعضهم: الملائكة بنات الله. و القول بالولد دائر بين عامة الوثنية على اختلاف مذاهبهم و قد قالت النصارى:
المسيح ابن الله، و قالت اليهود على ما حكاه القرآن عنهم: عزير ابن الله و كأنها بنوة تشريفية.
و البنوة كيفما كانت تقتضي شركة ما بين الابن و الأب و الولد و الوالد فإن كانت بنوة حقيقية و هي اشتقاق شيء من شيء و انفصاله منه اقتضت الشركة في حقيقة الذات و الخواص و الآثار المنبعثة من الذات كبنوة إنسان لإنسان المقتضية لشركة الابن لأبيه في الإنسانية و لوازمها، و إن كانت بنوة اعتبارية كالبنوة الاجتماعية و هو التبني اقتضت الاشتراك في الشئونات الخاصة بالأب كالسؤدد و الملك و الشرف و التقدم و الوراثة و بعض أحكام النسب، و الحجة المسوقة في الآية تدل على استحالة اتخاذ الولد عليه تعالى بكلا المعنيين.
فقوله: ﴿لَوْ أَرَادَ اَللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً﴾ شرط صدر بلو الدال على الامتناع للامتناع، و قوله: ﴿لاَصْطَفىَ مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾ أي لاختار لذلك مما يخلق ما يتعلق به مشيئته على ما يفيده السياق و كونه مما يخلق لكون ما عداه سبحانه خلقا له.
و قوله: ﴿سُبْحَانَهُ﴾ تنزيه له سبحانه، و قوله: ﴿هُوَ اَللَّهُ اَلْوَاحِدُ اَلْقَهَّارُ﴾ بيان لاستحالة الشرط و هو إرادة اتخاذ الولد ليترتب عليه استحالة الجزاء و هو اصطفاء ما يشاء مما يخلق و ذلك لأنه سبحانه واحد في ذاته المتعالية لا يشاركه فيها شيء و لا يماثله فيها أحد لأدلة التوحيد، و واحد في صفاته الذاتية التي هي عين ذاته كالحياة و العلم و القدرة، و واحد في شئونه التي هي من لوازم ذاته كالخلق و الملك و العزة و الكبرياء لا يشاركه فيها أحد.
و هو سبحانه قهار يقهر كل شيء بذاته و صفاته فلا يستقل قبال ذاته و وجوده شيء في ذاته و وجوده و لا يستغني عنه شيء في صفاته و آثار وجوده فالكل أذلاء داخرون بالنسبة إليه مملوكون له فقراء إليه. ـ
فمحصل حجة الآية قياس استثنائي ساذج يستثني فيه نقيض المقدم لينتج نقيض التالي و هو نحو من قولنا: لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى لذلك بعض من يشاء من خلقه لكن إرادته اتخاذ الولد ممتنعة لكونه واحدا قهارا فاصطفاؤه لذلك بعض من يشاء من خلقه ممتنع.
و قد أغرب بعضهم في تقريب حجة الآية فقال: حاصل المعنى لو أراد سبحانه اتخاذ الولد لامتنعت تلك الإرادة لتعلقها بالممتنع أعني الاتخاذ لكن لا يجوز للباري إرادة ممتنعة لأنها ترجح بعض الممكنات على بعض.
و أصل الكلام لو اتخذ الولد لامتنع لاستلزامه ما ينافي الألوهية فعدل إلى لو أراد الاتخاذ لامتنع أن يريده ليكون أبلغ و أبلغ ثم حذف هذا الجواب و جيء بدله لاصطفى تنبيها على أن الممكن هذا لا الأول و أنه لو كان هذا من اتخاذ الولد في شيء لجاز اتخاذ الولد عليه سبحانه و تعالى شأنه عن ذلك فقد تحقق التلازم و حق نفي اللازم و إثبات الملزوم دون صعوبة. انتهى.
و كأنه مأخوذ من قول الزمخشري في الكشاف، في تفسير الآية حيث قال: يعني لو أراد اتخاذ الولد لامتنع و لم يصح لكونه محالا و لم يتأت إلا أن يصطفي من خلقه بعضه و يختصهم و يقربهم كما يختص الرجل ولده و يقربه و قد فعل ذلك بالملائكة فافتتنتم به و غركم اختصاصه إياهم فزعمتم أنهم أولاده جهلا منكم به و بحقيقته المخالفة لحقائق الأجسام و الأعراض كأنه قال: لو أراد اتخاذ الولد لم يزد على ما فعل من اصطفاء ما يشاء من خلقه و هم الملائكة لكنكم لجهلكم به حسبتم اصطفاءهم اتخاذهم أولادا ثم تماديتم في جهلكم و سفهكم فجعلتموهم بنات فكنتم كذابين كفارين متبالغين في الافتراء على الله و ملائكته غالين في الكفر انتهى.
و أنت خبير أن سياق الآية لا يلائم هذا البيان. على أنه لا يدفع قول القائل بالتبني التشريفي كقول اليهود عزير ابن الله فإنهم لا يريدون بالتبني إلا اصطفاء من يشاء من خلقه.
و هناك بعض تقريبات أخر منهم لا جدوى فيه تركنا إيراده.
قوله تعالى: ﴿خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ بِالْحَقِّ﴾ لا يبعد أن يكون ما فيه من
الإشارة إلى الخلق و التدبير بيانا لقهاريته تعالى لكن اتصال الآيتين و ارتباطهما مضمونا و انتهاء الثانية إلى قوله: ﴿ذَلِكُمُ اَللَّهُ رَبُّكُمْ﴾ إلخ كالصريح في أن ذلك استئناف بيان للاحتجاج على توحيد الربوبية.
فالآية و التي تليها مسوقتان لتوحيد الربوبية و قد جمع فيهما بين الخلق و التدبير لما مر مرارا أن إثبات وحدة الخالق لا يستلزم عند الوثني نفي تعدد الأرباب و الآلهة لأنهم لا ينكرون انحصار الخلق و الإيجاد فيه تعالى لكنه سبحانه فيما يحتج على توحده في الربوبية و الألوهية في كلامه يجمع بين الخلق و التدبير إشارة إلى أن التدبير غير خارج من الخلق بل هو خلق بوجه كما أن الخلق تدبير بوجه و عند ذلك يتم الاحتجاج على رجوع التدبير إليه تعالى و انحصاره فيه برجوع الخلق إليه.
و قوله: ﴿خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ بِالْحَقِّ﴾ إشارة إلى الخلقة، و في قوله: ﴿بِالْحَقِّ﴾ و الباء للملابسة إشارة إلى البعث فإن كون الخلقة حقا غير باطل يلازم كونها لغاية تقصدها و تنساق إليها و هي البعث قال تعالى﴿وَ مَا خَلَقْنَا اَلسَّمَاءَ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً﴾ ص: - ٢٧.
و قوله: ﴿يُكَوِّرُ اَللَّيْلَ عَلَى اَلنَّهَارِ وَ يُكَوِّرُ اَلنَّهَارَ عَلَى اَللَّيْلِ﴾ قال في المجمع، التكوير طرح الشيء بعضه على بعض. انتهى فالمراد طرح الليل على النهار و طرح النهار على الليل فيكون من الاستعارة بالكناية قريب المعنى من قوله﴿يُغْشِي اَللَّيْلَ اَلنَّهَارَ ﴾الأعراف: - ٥٤ و المراد استمرار توالي الليل و النهار بظهور هذا على ذاك ثم ذاك على هذا و هكذا، و هو من التدبير.
و قوله: ﴿وَ سَخَّرَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى﴾ أي سخر الشمس و القمر فأجراهما للنظام الجاري في العالم الأرضي إلى أجل مسمى معين لا يتجاوزانه.
و قوله: ﴿أَلاَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْغَفَّارُ﴾ يمكن أن يكون في ذكر الاسمين إشارة إلى ما يحتج به على توحده تعالى في الربوبية و الألوهية فإن العزيز الذي لا يعتريه ذلة إن كان فهو الله و هو المتعين للعبادة لا غيره الذي تغشاه الذلة و تغمره الفاقة و كذا الغفار للذنوب إذا قيس إلى من ليس من شأنه ذلك.
و يمكن أن يكون ذكرهما تحضيضا على التوحيد و الإيمان بالله الواحد و المعنى
أنبهكم أنه هو العزيز فآمنوا به و اعتزوا بعزته، الغفار فآمنوا به يغفر لكم.
قوله تعالى: ﴿خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ إلخ الخطاب لعامة البشر، و المراد بالنفس الواحدة على ما تؤيده نظائره من الآيات آدم أبو البشر، و المراد بزوجها امرأته التي هي من نوعها و تماثلها في الإنسانية، و ﴿ثُمَّ﴾ للتراخي بحسب رتبة الكلام.
و المراد أنه تعالى خلق هذا النوع و كثر أفراده من نفس واحدة و زوجها.
و قوله: ﴿وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ اَلْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ﴾ الأنعام هي الإبل و البقر و الضأن و المعز، و كونها ثمانية أزواج باعتبار انقسامها إلى الذكر و الأنثى.
و تسمية خلق الأنعام في الأرض إنزالا لها باعتبار أنه تعالى يسمي ظهور الأشياء في الكون بعد ما لم يكن إنزالا لها من خزائنه التي هي عنده و من الغيب إلى الشهادة قال تعالى﴿وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَ مَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾ الحجر: - ٢١.
و قوله: ﴿يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ﴾ بيان لكيفية خلق من تقدم ذكره من البشر و الأنعام، و في الخطاب تغليب أولي العقل على غيرهم، و الخلق من بعد الخلق التوالي و التوارد كخلق النطفة علقة و خلق العلقة مضغة و هكذا، و الظلمات الثلاث هي ظلمة البطن و الرحم و المشيمة كما قيل و رواه في المجمع، عن أبي جعفر (عليه السلام) .
و قيل: المراد بها ظلمة الصلب و الرحم و المشيمة و هو خطأ فإن قوله: ﴿فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ﴾ صريح في أن المراد بالظلمات الثلاث ما في بطون النساء دون أصلاب الرجال.
و قوله: ﴿ذَلِكُمُ اَللَّهُ رَبُّكُمْ﴾ أي الذي وصف لكم في الآيتين بالخلق و التدبير هو ربكم دون غيره لأن الرب هو المالك الذي يدبر أمر ما ملكه و إذ كان خالقا لكم و لكل شيء دونكم و للنظام الجاري فيكم فهو الذي يملككم و يدبر أمركم فهو ربكم لا غير.
و قوله: ﴿لَهُ اَلْمُلْكُ﴾ أي على جميع المخلوقات في الدنيا و الآخرة فهو المليك على الإطلاق» و تقديم الظرف يفيد الحصر، و الجملة خبر بعد خبر لقوله: ﴿ذَلِكُمُ اَللَّهُ﴾ كما أن قوله: ﴿لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ ﴾كذلك، و انحصار الألوهية فيه تعالى فرع انحصار الربوبية فيه
لأن الإله إنما يعبد لأنه رب مدبر فيعبد إما خوفا منه أو رجاء فيه أو شكرا له.
و قوله: ﴿فَأَنَّى تُصْرَفُونَ﴾ أي فكيف تصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره و هو ربكم الذي خلقكم و دبر أمركم و هو المليك عليكم.
قوله تعالى: ﴿إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اَللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَ لاَ يَرْضىَ لِعِبَادِهِ اَلْكُفْرَ﴾ إلى آخر الآية. مسوق لبيان أن الدعوة إلى التوحيد و إخلاص الدين لله سبحانه ليست لحاجة منه تعالى إلى إقبالهم إليه بالانصراف عن عبادة غيره بل لعناية منه تعالى بهم فيدعوهم إلى سعادتهم اعتناء بها كما يعتني برزقهم فيفيض النعم عليهم و كما يعتني بحفظهم فيلهمهم أن يدفعوا الآفات عن أنفسهم.
فقوله: ﴿إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اَللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ﴾ الخطاب لعامة المكلفين أي إن تكفروا بالله فلم توحدوه فإنه غني عنكم لذاته لا ينتفع بإيمانكم و طاعتكم و لا يتضرر بكفركم و معصيتكم فالنفع و الضرر إنما يتحققان في مجال الإمكان و الحاجة و أما الواجب الغني بذاته فلا يتصور في حقه انتفاع و لا تضرر.
و قوله: ﴿وَ لاَ يَرْضىَ لِعِبَادِهِ اَلْكُفْرَ﴾ دفع لما ربما يمكن أن يتوهم من قوله: ﴿فَإِنَّ اَللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ﴾ إنه إذا لم يتضرر بكفر و لم ينتفع بإيمان فلا موجب له أن يريد منا الإيمان و الشكر فدفعه بأن تعلق العناية الإلهية بكم يقتضي أن لا يرضى بكفركم و أنتم عباده.
و المراد بالكفر كفر النعمة الذي هو ترك الشكر بقرينة مقابلة قوله: ﴿وَ إِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ﴾ و بذلك يظهر أن التعبير بقوله: ﴿لِعِبَادِهِ﴾ دون أن يقول: لكم للدلالة على علة الحكم أعني سبب عدم الرضا.
و المحصل أنكم عباد مملوكون لله سبحانه منغمرون في نعمه و رابطة المولوية و العبودية و هي نسبة المالكية و المملوكية لا تلائمه أن يكفر العبد بنعمة سيده فينسى ولاية مولاه و يتخذ لنفسه أولياء من دونه و يعصي المولى و يطيع عدوه و هو عبد عليه طابع العبودية لا يملك لنفسه نفعا و لا ضرا.
و قوله: ﴿وَ إِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ﴾ الضمير للشكر نظير قوله تعالى﴿اِعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوىَ﴾ المائدة: - ٨ و المعنى و إن تشكروا الله بالجري على مقتضى العبودية
و إخلاص الدين له يرض الشكر لكم و أنتم عباده، و الشكر و الكفر المقابل له ينطبقان على الإيمان و الكفر المقابل له.
و مما تقدم يظهر أن العباد في قوله: ﴿وَ لاَ يَرْضىَ لِعِبَادِهِ اَلْكُفْرَ﴾ عام يشمل الجميع فقول بعضهم: إنه خاص أريد به من عناهم في قوله﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اِتَّبَعَكَ مِنَ اَلْغَاوِينَ﴾ الحجر: - ٤٢ و هم المخلصون أو المعصومون على ما فسره الزمخشري و لازمه أن الله سبحانه رضي الإيمان لمن آمن و رضي الكفر لمن كفر إلا المعصومين فإنه أراد منهم الإيمان، و صانهم عن الكفر سخيف جدا، و السياق يأباه كل الإباء، إذ الكلام مشعر حينئذ برضاه الكفر للكافر فيؤول معنى الكلام إلى نحو من قولنا: إن تكفروا فإن الله غني عنكم و لا يرضى للأنبياء مثلا الكفر لرضاه لهم الإيمان و إن تشكروا أنتم يرضه لكم و إن تكفروا يرضه لكم و هذا - كما ترى - معنى رديء ساقط و خاصة من حيث وقوعه في سياق الدعوة.
على أن الأنبياء مثلا داخلون فيمن شكر و قد رضي لهم الشكر و الإيمان و لم يرض لهم الكفر فلا موجب لإفرادهم بالذكر و قد ذكر الرضا عمن شكر.
و قوله: ﴿وَ لاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرىَ﴾ أي لا تحمل نفس حاملة حمل نفس أخرى أي لا يؤاخذ بالذنب إلا من ارتكبه.
و قوله: ﴿ثُمَّ إِلىَ رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ اَلصُّدُورِ﴾ أي هذا في الدنيا من كفر أو شكر ثم يبعثكم الله فيظهر لكم حقيقة أعمالكم و يحاسبكم على ما في قلوبكم و قد تكرر الكلام في معاني هذه الجمل فيما تقدم.
(كلام في معنى الرضا و السخط من الله)
الرضا من المعاني التي يتصف بها أولو الشعور و الإرادة و يقابله السخط و كلاهما وصفان وجوديان.
ثم الرضا يتعلق بالمعاني من الأوصاف و الأفعال دون الذوات يقال: رضي له كذا و رضي بكذا قال تعالى﴿وَ لَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ﴾ التوبة: - ٥٩ و قال:
﴿وَ رَضُوا بِالْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا﴾ يونس: - ٧ و ما ربما يتعلق بالذوات فإنما هو بعناية ما و يؤول بالآخرة إلى المعنى كقوله﴿وَ لَنْ تَرْضىَ عَنْكَ اَلْيَهُودُ وَ لاَ اَلنَّصَارىَ﴾ البقرة: - ١٢٠.
و ليس الرضا هو الإرادة بعينها و إن كان كلما تعلقت به الإرادة فقد تعلق به الرضا بعد وقوعه بوجه. و ذلك لأن الإرادة كما قيل تتعلق بأمر غير واقع و الرضا إنما يتعلق بالأمر بعد وقوعه أو فرض وقوعه فإذن كون الإنسان راضيا بفعل كذا كونه بحيث يلائم ذلك الفعل و لا ينافره، و هو وصف قائم بالراضي دون المرضي.
ثم الرضا لكونه متعلقا بالأمر بعد وقوعه كان متحققا بتحقق المرضي حادثا بحدوثه فيمتنع أن يكون صفة من الصفات القائمة بذاته لتنزهه تعالى عن أن يكون محلا للحوادث فما نسب إليه تعالى من الرضا صفة فعل قائم بفعله منتزع عنه كالرحمة و الغضب و الإرادة و الكراهة قال تعالى﴿رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ﴾ البينة: - ٨ و قال﴿وَ أَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ﴾ النمل: - ١٩، و قال﴿وَ رَضِيتُ لَكُمُ اَلْإِسْلاَمَ دِيناً﴾ المائدة: - ٣.
فرضاه تعالى عن أمر من الأمور ملائمة فعله تعالى له، و إذ كان فعله قسمين تكويني و تشريعي انقسم الرضا منه أيضا إلى تكويني و تشريعي فكل أمر تكويني و هو الذي أراد الله و أوجده فهو مرضي له رضا تكوينيا بمعنى كون فعله و هو إيجاده عن مشية ملائما لما أوجده، و كل أمر تشريعي و هو الذي تعلق به التكليف من اعتقاد أو عمل كالإيمان و العمل الصالح فهو مرضي له رضا تشريعيا بمعنى ملاءمة تشريعه للمأتي به.
و أما ما يقابل هذه الأمور المأمور بها مما تعلق به نهي فلا يتعلق بها رضا البتة لعدم ملاءمة التشريع لها كالكفر و الفسوق كما قال تعالى﴿ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اَللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَ لاَ يَرْضىَ لِعِبَادِهِ اَلْكُفْرَ﴾ الزمر: - ٧، و قال﴿فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اَللَّهَ لاَ يَرْضىَ عَنِ اَلْقَوْمِ اَلْفَاسِقِينَ﴾ التوبة: - ٩٦.
(بيان)
قوله تعالى: ﴿وَ إِذَا مَسَّ اَلْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ﴾ إلى آخر الآية الإنابة الرجوع، و التخويل العطية العظيمة على وجه الهبة و هي المنحة. على ما في المجمع،.
لما مر في الآية السابقة ذكر من كفر النعمة و أن الله سبحانه على غناه من الناس
لا يرضى لهم ذلك نبه في هذه الآية على أن الإنسان كفور بالطبع مع أنه يعرف ربه بالفطرة و لا يلبث عند الاضطرار دون أن يرجع إليه فيسأله كشف ضره كما قال﴿وَ كَانَ اَلْإِنْسَانُ كَفُوراً﴾ الإسراء: - ٦٧، و قال﴿إِنَّ اَلْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾ إبراهيم: - ٣٤.
فقوله: ﴿وَ إِذَا مَسَّ اَلْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ﴾ أي إذا أصاب الإنسان ضر من شدة أو مرض أو قحط و نحوه دعا ربه - و هو الله يعترف عند ذلك بربوبيته - راجعا إليه معرضا عمن سواه يسأله كشف الضر عنه.
و قوله: ﴿ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ﴾ أي و إذا أعطاه ربه سبحانه بعد كشف الضر نعمة منه اشتغل به مستغرقا و نسي الضر الذي كان يدعو إليه أي إلى كشفه من قبل إعطاء النعمة.
فما في قوله: ﴿مَا كَانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ﴾ موصولة و المراد به الضر و ضمير ﴿إِلَيْهِ﴾ له و قيل: مصدرية و الضمير للرب سبحانه و المعنى نسي دعاءه إلى ربه من قبل الإعطاء، و قيل: موصولة و المراد به الله سبحانه و هو أبعد الوجوه.
و قوله: ﴿وَ جَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ الأنداد الأمثال و المراد بها على ما قيل الأصنام و أربابها، و اللام في ﴿لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ للعاقبة، و المعنى و اتخذ الله أمثالا يشاركونه في الربوبية و الألوهية على مزعمته لينتهي به ذلك إلى إضلال الناس عن سبيل الله لأن الناس مطبوعون على التقليد يتشبه بعضهم ببعض و في الفعل دعوة كالقول.
و لا يبعد أن يراد بالأنداد مطلق الأسباب التي يعتمد عليها الإنسان و يطمئن إليها و من جملتها أرباب الأصنام عند الوثني و ذلك لأن الآية تصف الإنسان و هو أعم من المشرك نعم مورد الآية هو الكافر.
و قوله: ﴿قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ اَلنَّارِ﴾ أي تمتع تمتعا قليلا لا يدوم لك لأنك من أصحاب النار مصيرك إليها، و هو أمر تهديدي في معنى الإخبار أي إنك إلى النار و لا يدفعها عنك تمتعك بالكفر أياما قلائل.
قوله تعالى: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اَللَّيْلِ سَاجِداً وَ قَائِماً يَحْذَرُ اَلْآخِرَةَ وَ يَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ﴾ الآية لا تخلو عن مناسبة و اتصال بقوله السابق: ﴿وَ لاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرىَ﴾
فإن فحواه أن الكافر و الشاكر لا يستويان و لا يختلطان فأوضح ذلك في هذه الآية بأن القانت الذي يخاف العذاب و يرجو رحمة لا يساوي غيره.
فقوله: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اَللَّيْلِ سَاجِداً وَ قَائِماً يَحْذَرُ اَلْآخِرَةَ وَ يَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ﴾ أحد شقي الترديد محذوف و التقدير أ هذا الذي ذكرناه خير أم من هو قانت إلخ؟.
و القنوت على ما ذكره الراغب لزوم الطاعة مع الخضوع، و الآناء جمع أنى و هو الوقت، و ﴿يَحْذَرُ اَلْآخِرَةَ﴾ أي عذاب الله في الآخرة قال تعالى﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً﴾ الإسراء: - ٥٧، و قوله: ﴿يَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ﴾ هو و ما قبله يجمعان خوف العذاب و رجاء الرحمة، و لم يقيد الرحمة بالآخرة فإن رحمة الآخرة ربما وسعت الدنيا.
و المعنى أ هذا الكافر الذي هو من أصحاب النار خير أم من هو لازم للطاعة و الخضوع لربه في أوقات الليل إذا جن عليه ساجدا في صلاته تارة قائما فيها أخرى يحذر عذاب الآخرة و يرجو رحمة ربه؟ أي لا يستويان.
و قوله: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي اَلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ اَلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ العلم و عدمه مطلقان لكن المراد بهما بحسب ما ينطبق على مورد الآية العلم بالله و عدمه فإن ذلك هو الذي يكمل به الإنسان و ينتفع بحقيقة معنى الكلمة و يتضرر بعدمه، و غيره من العلم كالمال ينتفع به في الحياة الدنيا و يفنى بفنائها.
و قوله: ﴿إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُوا اَلْأَلْبَابِ﴾ أي ذوو العقول و هو في مقام التعليل لعدم تساوي الفريقين بأن أحد الفريقين يتذكر حقائق الأمور دون الفريق الآخر فلا يستويان بل يترجح الذين يعلمون على غيرهم.
قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِ اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ اَلدُّنْيَا حَسَنَةٌ﴾ إلى آخر الآية، الجار و المجرور ﴿فِي هَذِهِ اَلدُّنْيَا﴾ متعلق بقوله: ﴿أَحْسَنُوا﴾ فالمراد بالجملة وعد الذين أحسنوا أي لزموا الأعمال الحسنة أن لهم حسنة لا يقدر وصفها بقدر.
و قد أطلق الحسنة فلم يقيدها بدنيا أو آخرة و ظاهرها ما يعلم الدنيا فللمؤمنين المحسنين في هذه الدنيا طيب النفس و سلامة الروح و صون النفوس عما يتقلب فيه الكفار من تشوش البال و تقسم القلب و غل الصدر و الخضوع للأسباب الظاهرية و فقد من يرجى
[1] و لذلك نوردها لأنها في نفسها آحاد لا حجية لها في مثل المقام و لا يمكن تصحيح خصوصياتها بالآيات و هو ظاهر لمن راجعها.
[3] كانت مدينة عظيمة من مدائن آشور على ساحل دجلة.
[5] مدينة في الأرض المقدسة.
[6] فقد أثنى على الله و تمم نقصه بأنه يريد ما يريده الله من الثناء على نفسه.
[7] قال تعالى: «إذ جاءتكم جنود» الأحزاب: ٩ و قال فيهم بعينهم: «و لما رأى المؤمنون الأحزاب» الأحزاب: ٢٢.
[8] الحجة الأولى برهانية و الثانية جدلية.
[9] ملخص من الإصحاح الحادي عشر و الثاني عشر من صموئيل الثاني.
[10] ليراجع في الحصول على عامة هذه الروايات الدر المنثور.
[11] رواها القمي في تفسيره عن أبي الجارود عن أبي جعفر ع.
[12] الكسرة القطعة من الخبز.
[13] فالولاية و الربوبية قريبا المعنى فالرب هو المالك المدبر و الولي هو مالك التدبير أو متصدي التدبير.
|