00989338131045
 
 
 
 
 
 

 من ص 83 الى ص 164 

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الميزان في تفسير القرآن (الجزء السادس عشر)   ||   تأليف : العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي (قده)

موسى يا موسى فقال: خذيهم فغيبتهم فأوحى الله: يا موسى سألك عبادي و تضرعوا إليك فلم تجبهم فوعزتي لو أنهم دعوني لأجبتهم.

قال ابن عباس: و ذلك قوله تعالى: ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَ بِدَارِهِ اَلْأَرْضَ خسف به إلى الأرض السفلى. أقول: و روي فيه، أيضا عن عبد الرزاق و ابن أبي حاتم عن ابن نوفل الهاشمي القصة ":لكن فيها أن المرأة أحضرت إلى مجلس قارون لتشهد عند الملإ من بني إسرائيل على موسى (عليه السلام) بالفجور و تشكوه إلى قارون فجاءت إليه و اعترفت عند الملإ بالحق فبلغ ذلك موسى (عليه السلام) فشكاه إلى ربه فسلطه الله عليه. و روى القمي في تفسيره،" :في القصة أن موسى (عليه السلام) جاء إلى قارون و بلغه حكم الزكاة فاستهزأ به و أخرجه من داره فشكاه إلى ربه فسلطه الله عليه فخسف به و بداره الأرض‏، و الرواية موقوفة مشتملة على أمور منكرة و لذلك تركنا نقلها كما أن روايتي ابن عباس و ابن نوفل أيضا موقوفتان.

على أن رواية ابن عباس تقصص بغيه على موسى (عليه السلام) و الذي تقصه الآيات بغيه على بني إسرائيل، و تشير إلى أن العلم الذي عنده هو ما حصله بالتعلم و ظاهر الآية كما مر أنه العلم بطرق تحصيل الثروة و نحوها.

و قد سيقت القصة في التوراة الحاضرة على نحو آخر ففي الإصحاح السادس عشر من سفر العدد ":و أخذ قورح بن بصهار بن نهات بن لاوي و داثان و أبيرام ابنا ألياب و أون بن فالت بنو رأوبين يقاومون موسى مع أناس من بني إسرائيل مائتين و خمسين رؤساء الجماعة مدعوين للاجتماع ذوي اسم. فاجتمعوا على موسى و هارون و قالوا لهما كفاكما. إن كل الجماعة بأسرها مقدسة و في وسطها الرب فما بالكما ترتفعان على جماعة الرب؟.

فلما سمع موسى سقط على وجهه ثم كلم قورح و جميع قومه قائلا: غدا يعلن الرب من هو له؟ و من المقدس؟ حتى يقربه إليه فالذي يختاره يقربه إليه. افعلوا هذا:

خذوا لكم محابر قورح و كل جماعته و اجعلوا فيها نارا و ضعوا عليها بخورا أمام الرب غدا فالرجل الذي يختاره الرب هو المقدس. كفاكم يا بني لاوي.

 

 

 ثم سيقت القصة و ذكر فيها حضورهم غدا و مجيؤهم بالمجامر و فيها النار و البخور و اجتماعهم على باب خيمة الاجتماع ثم قيل: انشقت الأرض التي تحتهم و فتحت الأرض فاها و ابتلعتهم و بيوتهم و كل من كان لقورح مع كل الأموال فنزلوا هم و كل ما كان لهم أحياء إلى الهاوية فانطبقت عليهم الأرض فبادوا من بين الجماعة، و كل إسرائيل الذين حولهم هربوا من صوتهم، لأنهم قالوا: لعل الأرض تبتلعنا، و خرجت نار من عند الرب و أكلت المائتين و الخمسين رجلا الذين قربوا البخور. انتهى موضع الحاجة.

و في المجمع،: في قوله تعالى: ﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسىَ: و هو ابن خالته:

عن عطاء عن ابن عباس و هو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام). و في تفسير القمي،" :في قوله تعالى: ﴿مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوأُ الآية، قال: كان يحمل مفاتيح خزائنه العصبة أولوا القوة.

 و في المعاني، بإسناده عن موسى بن إسماعيل بن موسى بن جعفر (عليه السلام) عن أبيه عن جده عن آبائه عن علي (عليه السلام): في قول الله عز و جل: ﴿وَ لاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ اَلدُّنْيَا قال: لا تنس صحتك و قوتك و فراغك و شبابك و نشاطك أن تطلب بها الآخرة.

و في تفسير القمي، ":في قوله تعالى: ﴿فَخَرَجَ عَلىَ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قال: في الثياب المصبغات يجرها بالأرض.

 و في المجمع، و روى زاذان عن أمير المؤمنين (عليه السلام): أنه كان يمشي في الأسواق و هو وال يرشد الضال و يعين الضعيف و يمر بالبياع و البقال فيفتح عليه القرآن و يقرأ:

﴿تِلْكَ اَلدَّارُ اَلْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي اَلْأَرْضِ وَ لاَ فَسَاداً و يقول:

نزلت هذه الآية في أهل العدل و التواضع من الولاة و أهل القدرة من سائر الناس. و فيه، روى سلام الأعرج عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: الرجل ليعجبه شراك نعله فيدخل في هذه الآية ﴿تِلْكَ اَلدَّارُ اَلْآخِرَةُ الآية. أقول: و عن السيد ابن طاووس في سعد السعود، أنه رواه عن الطبرسي هكذا: إن الرجل ليعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه فيدخل تحتها. و في الدر المنثور، أخرج المحاملي و الديلمي عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : في الآية قال: التجبر في الأرض و الأخذ بغير الحق.

 

 

[سورة القصص (٢٨): الآیات ٨٥ الی ٨٨]

﴿إِنَّ اَلَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ اَلْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلىَ مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدىَ وَ مَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ ٨٥ وَ مَا كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى‏ إِلَيْكَ اَلْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكَافِرِينَ ٨٦ وَ لاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اَللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَ اُدْعُ إِلى‏ رَبِّكَ وَ لاَ تَكُونَنَّ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ ٨٧ وَ لاَ تَدْعُ مَعَ اَللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْ‏ءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ اَلْحُكْمُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ٨٨

(بيان)

الآيات خاتمة السورة و فيها وعد جميل للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن الله سبحانه سيمن عليه برفع قدره و نفوذ كلمته و تقدم دينه و انبساط الأمن و السلام عليه و على المؤمنين به كما فعل ذلك بموسى و بني إسرائيل، و قد كانت قصة موسى و بني إسرائيل مسوقة في السورة لبيان ذلك.

قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَلَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ اَلْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلىَ مَعَادٍ إلى آخر الآية الفرض على ما ذكره بمعنى الإيجاب فمعنى ﴿فَرَضَ عَلَيْكَ اَلْقُرْآنَ أي أوجب عليك العمل به أي بما فيه من الأحكام ففيه مجاز في النسبة.

و أحسن منه قول بعضهم: إن المعنى أوجب عليك تلاوته و تبليغه و العمل به و ذلك لكونه أوفق لقوله: ﴿لَرَادُّكَ إِلىَ مَعَادٍ بما سيجي‏ء من معناه.

و قوله: ﴿لَرَادُّكَ إِلىَ مَعَادٍ المعاد اسم مكان أو زمان من العود و قد اختلفت كلماتهم في تفسير هذا المعاد فقيل: هو مكة فالآية وعد له أن الله سيرده بعد هجرته

 

 

 إلى مكة ثانيا، و قيل: هو الموت، و قيل: هو القيامة، و قيل: هو المحشر، و قيل هو المقام المحمود و هو موقف الشفاعة الكبرى، و قيل: هو الجنة، و قيل: هو بيت المقدس، و هو في الحقيقة وعد بمعراج ثان يعود فيه إلى بيت المقدس بعد ما كان دخله في المعراج الأول: و قيل: هو الأمر المحبوب فيقبل الانطباق على جل الأقوال السابقة أو كلها.

و الذي يعطيه التدبر في سياق آيات السورة هو أن تكون الآية تصريحا بما كانت القصة المسرودة في أول السورة تلوح إليه ثم الآيات التالية لها تؤيده.

فإنه تعالى أورد قصة بني إسرائيل و موسى (عليه السلام) في أول السورة ففصل القول في أنه كيف من عليهم بالأمن و السلام و العزة و التمكن بعد ما كانوا أذلاء مستضعفين بأيدي آل فرعون يذبحون أبناءهم يستحيون نساءهم، و قد كانت القصة تدل بالالتزام و مطلع السورة يؤيده على وعد جميل للمؤمنين أن الله سبحانه سينجيهم مما هم عليه من الفتنة و الشدة و العسرة و يظهر دينهم على الدين كله و يمكنهم في الأرض بعد ما كانوا لا سماء تظلهم و لا أرض تقلهم.

ثم ذكر بعد الفراغ من القصة أن من الواجب في الحكمة أن ينزل كتابا يهدي الناس إلى الحق تذكرة و إتماما للحجة ليتقوا بذلك من عذاب الله كما نزله على موسى بعد ما أهلك القرون الأولى و كما نزل على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و إن كذبوا به عنادا للحق و إيثارا للدنيا على الآخرة.

و هذا السياق يرجي السامع أنه تعالى سيتعرض صريحا لما أشار إليه في سرد القصة تلويحا فإذا سمع قوله: ﴿إِنَّ اَلَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ اَلْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلى‏ مَعَادٍ لم يلبث دون أن يفهم أنه هو الوعد الجميل الذي كان يترقبه و خاصة مع الابتداء بقوله: ﴿إِنَّ اَلَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ اَلْقُرْآنَ و قد قدم تنظير التوراة بالقرآن و قد كان ما قصه في إنجاء بني إسرائيل مقدمة لنزول التوراة حتى يكونوا بالأخذ بها و العمل بها أئمة و يكونوا هم الوارثين.

فمعنى الآية: إن الذي فرض عليك القرآن لتقرأه على الناس و تبلغه و تعملوا به سيردك و يصيرك إلى محل تكون هذه الصيرورة منك إليه عودا و يكون هو معادا لك

 

 

 كما فرض التوراة على موسى و رفع به قدره و قدر قومه، و من المعلوم أنه (ص) كان بمكة على ما فيها من الشدة و الفتنة ثم هاجر منها ثم عاد إليها فاتحا مظفرا و ثبتت قواعد دينه و استحكمت أركان ملته و كسرت الأصنام و انهدم بنيان الشرك و المؤمنون هم الوارثون للأرض بعد ما كانوا أذلاء معذبين.

و في تنكير قوله: ﴿مَعَادٍ إشارة إلى عظمة قدر هذا العود و أنه لا يقاس إلى ما قبله من القطون بها و التاريخ يصدقه.

و قوله: ﴿قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدىَ وَ مَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ يؤيد ما قدمنا من المعنى فإنه يحاذي قول موسى (عليه السلام) - لما كذبوه و رموا آياته البينات بأنها سحر مفترى : ﴿رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدىَ مِنْ عِنْدِهِ وَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ اَلدَّارِ فأمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يقول للفراعنة من مشركي قومه لما كذبوه و رموه بالسحر ما قال موسى لآل فرعون لما كذبوه و رموه بالسحر للتشابه التام بين مبعثيهما و سير دعوتهما كما يظهر من القصة و يظهر ذلك تمام الظهور بالتأمل في قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلىَ فِرْعَوْنَ رَسُولاً: المزمل: ١٥.

و لعل الاكتفاء بالشطر الأول من قول موسى (عليه السلام) و السكوت عن الشطر الثاني أعني قوله: ﴿وَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ اَلدَّارِ لبناء الكلام بحسب سياقه على أن لا يتعدى حد الإشارة و الإيماء كما يستشم من سياق قوله: ﴿لَرَادُّكَ إِلىَ مَعَادٍ أيضا حيث خص الخطاب بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و نكر معادا.

و كيف كان فالمراد بقوله: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْهُدىَ النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) نفسه و بقوله:

﴿وَ مَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ المشركون من قومه، و اختلاف سياق الجملتين حيث قيل في جانبه (ص): ﴿مَنْ جَاءَ بِالْهُدى‏ و في جانبهم: ﴿مَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ فقوبل بين ضلالهم و بين مجيئه بالهدى لا بين ضلالهم و اهتدائه لكون تكذيبهم متوجها بالطبع إلى ما جاء به لا إلى نفسه.

و قد ذكروا في قوله: ﴿أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدىَ أن ﴿مَنْ منصوب بفعل مقدر يدل عليه ﴿أَعْلَمُ و التقدير يعلم من جاء به بناء على ما هو المشهور أن أفعل التفضيل لا ينصب المفعول به، و ذكر بعضهم أنه منصوب بأعلم و هو بمعنى عالم و لا دليل عليه،

 

 

 و ما أذكر قائلا بأنه منصوب بنزع الخافض و إن لم يظهر فيه النصب لبنائه و التقدير ربي أعلم بمن جاء بالهدى، و لا دليل على منعه.

قوله تعالى: ﴿وَ مَا كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقىَ إِلَيْكَ اَلْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكَافِرِينَ صدر الآية تقرير للوعد الذي في قوله: ﴿إِنَّ اَلَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ اَلْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلىَ مَعَادٍ أي أنه سيردك إلى معاد و ما كنت ترجوه كما ألقى إليك الكتاب و ما كنت ترجوه .

و قيل: تذكرة استينافية لنعمته تعالى عليه (ص) و هذا وجه وجيه و تقريره أنه تعالى لما وعده بالرد إلى معاد و فيه ارتفاع ذكره و تقدم دعوته و انبساط دينه خط له السبيل التي يجب عليه سلوكها بجهد و مراقبة فبين له أن إلقاء الكتاب إليه لم يكن على نهج الحوادث العادية التي من شأنها أن ترتجى و تترقب بل كانت رحمة خاصة من ربه و قد وعده في فرضه عليه ما وعده فمن الواجب عليه قبال هذه النعمة و في تقدم دعوته و بلوغها الغاية التي وعدها أن لا ينصر الكافرين و لا يطيعهم و يدعو إلى ربه و لا يكون من المشركين و لا يدعو معه إلها آخر.

و قوله: ﴿إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ استثناء منقطع أي لكنه ألقى إليك رحمة من ربك و ليس بإلقاء عادي يرجى مثله.

و قوله: ﴿فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكَافِرِينَ تفريع على قوله: ﴿إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ أي فإذا كان إلقاؤه إليك رحمة من ربك خصك بها و هو فوق رجائك فتبرء من الكافرين و لا تكن معينا و ناصرا لهم.

و من المحتمل قريبا أن يكون في الجملة نوع محاذاة لقول موسى (عليه السلام) لما قتل القبطي: ﴿رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ و على هذا يكون في النهي عن إعانتهم إشارة إلى أن إلقاء الكتاب إليه (ص) نعمة أنعمها الله عليه يهدي به إلى الحق و يدعو إلى التوحيد فعليه أن لا يعين الكافرين على كفرهم و لا يميل إلى صدهم إياه عن آيات الله بعد نزولها عليه كما عاهد موسى (عليه السلام) ربه بما أنعم عليه من الحكم و العلم أن لا يكون ظهيرا للمجرمين أبدا، و سيأتي أن قوله: ﴿وَ لاَ يَصُدُّنَّكَ إلخ، بمنزلة الشارح لهذه الجملة.

 

 

قوله تعالى: ﴿وَ لاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اَللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ إلى آخر الآية، نهي له (ص) على الانصراف عن آيات الله بلسان نهي الكفار عن الصد و الصرف و وجهه كون انصرافه مسببا لصدهم و هو كقوله لآدم و زوجه: ﴿فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ اَلْجَنَّةِ أي لا تخرجا منها بإخراجه لكما بالوسوسة.

و الظاهر أن الآية و ما بعدها في مقام الشرح لقوله: ﴿فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكَافِرِينَ و فائدته تأكيد النهي بعد موارده واحدا بعد واحد فنهاه أولا عن الانصراف عن القرآن النازل عليه برميهم كتاب الله بأنه سحر أو شعر أو كهانة أو أساطير الأولين اكتتبها، و أمره ثانيا أن يدعو إلى ربه، و نهاه ثالثا أن يكون من المشركين و فسره بأن يدعو مع الله إلها آخر.

و قد كرر صفة الرب مضافا إليه (ص) للدلالة على اختصاصه بالرحمة و النعمة و أنه (ص) متفرد في عبادته لا يشاركه المشركون فيها.

قوله تعالى: ﴿وَ لاَ تَدْعُ مَعَ اَللَّهِ إِلَهاً آخَرَ قد تقدم أنه كالتفسير لقوله: ﴿وَ لاَ تَكُونَنَّ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ.

قوله تعالى: ﴿لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْ‏ءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ اَلْحُكْمُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ كلمة الإخلاص في مقام التعليل لقوله قبله: ﴿وَ لاَ تَدْعُ مَعَ اَللَّهِ إِلَهاً آخَرَ أي لأنه لا إله غيره و ما بعدها في مقام التعليل بالنسبة إليها كما سيتضح.

و قوله: ﴿كُلُّ شَيْ‏ءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ الشي‏ء مساو للموجود و يطلق على كل أمر موجود حتى عليه تعالى كما يدل عليه قوله: ﴿قُلْ أَيُّ شَيْ‏ءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اَللَّهُ : الأنعام: ١٩، و الهلاك‏ البطلان و الانعدام.

و الوجه و الجهة واحد كالوعد و العدة، و وجه الشي‏ء في العرف العام ما يستقبل به غيره و يرتبط به إليه كما أن وجه الجسم السطح الظاهر منه و وجه الإنسان النصف المقدم من رأسه و وجهه تعالى ما يستقبل به غيره من خلقه و يتوجه إليه خلقه به و هو صفاته الكريمة من حياة و علم و قدرة و سمع و بصر و ما ينتهي إليها من صفات الفعل كالخلق و الرزق و الإحياء و الإماتة و المغفرة و الرحمة و كذا آياته الدالة عليه بما هي آياته.

فكل شي‏ء هالك في نفسه باطل في ذاته لا حقيقة له إلا ما كان عنده مما أفاضه

 

 

 الله عليه و أما ما لا ينسب إليه تعالى فليس إلا ما اختلقه وهم المتوهم أو سرابا صوره الخيال و ذلك كالأصنام ليس لها من الحقيقة إلا أنها حجارة أو خشبة أو شي‏ء من الفلزات و أما أنها أرباب أو آلهة أو نافعة أو ضارة أو غير ذلك فليست إلا أسماء سماها عبدتهم و كالإنسان ليس له من الحقيقة إلا ما أودعه فيه الخلقة من الروح و الجسم و ما اكتسبه من صفات الكمال و الجميع منسوبة إلى الله سبحانه و أما ما يضيفه إليه العقل الاجتماعي من قوة و سلطة و رئاسة و وجاهة و ثروة و عزة و أولاد و أعضاد فليس إلا سرابا هالكا و أمنية كاذبة و على هذا السبيل سائر الموجودات.

فليس عندها من الحقيقة إلا ما أفاض الله عليها بفضله و هي آياته الدالة على صفاته الكريمة من رحمة و رزق و فضل و إحسان و غير ذلك.

فالحقيقة الثابتة في الواقع التي ليست هالكة باطلة من الأشياء هي صفاته الكريمة و آياته الدالة عليها و الجميع ثابتة بثبوت الذات المقدسة.

هذا على تقدير كون المراد بالهالك في الآية الهالك بالفعل و على هذا يكون محصل تعليل كلمة الإخلاص بقوله: ﴿كُلُّ شَيْ‏ءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ أن الإله و هو المعبود بالحق إنما يكون إلها معبودا إذا كان أمرا ذا حقيقة واقعية غير هالك و لا باطل له تدبير في العالم بهذا النعت و كل شي‏ء غيره تعالى هالك باطل في نفسه إلا ما كان وجها له منتسبا إليه فليس في الوجود إله غيره سبحانه.

و الوثنيون و إن كانوا يرون وجود آلهتهم منسوبا إليه تعالى و من جهته إلا أنهم يجعلونها مستقلة في التدبير مقطوعة النسبة في ذلك عنه من دون أن يكون حكمها حكمه، و لذلك يعبدونها من دون الله، و لا استقلال لشي‏ء في شي‏ء عنه تعالى فلا يستحق العبادة إلا هو.

و هاهنا وجه آخر أدق منه بناء على أن المراد بالوجه ذات الشي‏ء فقد ذكر بعضهم ذلك من معاني الوجه كما يقال: وجه النهار و وجه الطريق لنفسهما و إن أمكنت المناقشة فيه، و ذكر بعض آخر: أن المراد به الذات الشريفة كما يقال: وجوه الناس أي أشرافهم و هو من المجاز المرسل أو الاستعارة و على كلا التقديرين فالمراد أن غيره تعالى من الموجودات ممكنة و الممكن و إن كان موجودا بإيجاده تعالى فهو معدوم بالنظر

 

 

 إلى حد ذاته هالك في نفسه و الذي لا سبيل للبطلان و الهلاك إليه هو ذاته الواجبة بذاتها.

و محصل التعليل على هذا المعنى: أن الإله المعبود بالحق يجب أن يكون ذاتا بيده شي‏ء من تدبير العالم، و التدبير الكوني لا ينفك عن الخلق و الإيجاد فلا معنى لأن يوجد الحوادث شي‏ء و يدبر أمرها شي‏ء آخر - و قد أوضحناه مرارا في هذا الكتاب - و لا يكون الخالق الموجد إلا واجب الوجود و لا واجب إلا هو تعالى فلا إله إلا هو.

و قولهم: إنه تعالى أجل من أن يحيط به عقل أو وهم فلا يمكن التوجه العبادي إليه فلا بد أن يتوجه بالعبادة إلى بعض مقربي حضرته من الملائكة الكرام و غيرهم ليكونوا شفعاء عنده.

مدفوع بمنع توقف التوجه بالعبادة على العلم الإحاطي بل يكفي فيه المعرفة بوجه و هو حاصل بالضرورة.

و أما على تقدير كون المراد بالهالك ما يستقبله الهلاك و الفناء بناء على ما قيل:

إن اسم الفاعل ظاهر في الاستقبال فظاهر الآية أن كل شي‏ء سيستقبله الهلاك بعد وجوده إلا وجهه. نعم استقبال الهلاك يختلف باختلاف الأشياء فاستقباله في الزمانيات انتهاء أمد وجودها و بطلانها بعده و في غيرها كون وجودها محاطا بالفناء من كل جانب.

و هلاك الأشياء على هذا بطلان وجودها الابتدائي و خلو النشأة الأولى عنها بانتقالها إلى النشأة الأخرى و رجوعها إلى الله و استقرارها عنده، و أما البطلان المطلق بعد الوجود فصريح كتاب الله ينفيه فالآيات متتابعة في أن كل شي‏ء مرجعه إلى الله و أنه المنتهى و إليه الرجعى و هو الذي يبدئ الخلق ثم يعيده.

فمحصل معنى الآية - لو أريد بالوجه صفاته الكريمة - أن كل شي‏ء سيخلي مكانه و يرجع إليه إلا صفاته الكريمة التي هي مبادئ فيضه فهي تفيض ثم تفيض إلى ما لا نهاية له و الإله يجب أن يكون كذلك لا بطلان لذاته و لا انقطاع لصفاته الفياضة و ليس شي‏ء غيره تعالى بهذه الصفة فلا إله إلا هو.

و لو أريد بوجهه الذات المقدسة فالمحصل أن كل شي‏ء سيستقبله الهلاك و الفناء بالرجوع إلى الله سبحانه إلا ذاته الحقة الثابتة التي لا سبيل للبطلان إليها - و الصفات على هذا محسوبة من صقع الذات - و الإله يجب أن يكون بحيث لا يتطرق الفناء إليه

 

 

 و ليس شي‏ء غيره بهذه الصفة فلا إله إلا هو.

و بما تقدم من التقرير يندفع الاعتراض على عموم الآية بمثل الجنة و النار و العرش فإن الجنة و النار لا تنعدمان بعد الوجود و تبقيان إلى غير النهاية، و العرش أيضا كذلك بناء على ما ورد في بعض الروايات أن سقف الجنة هو العرش.

وجه الاندفاع أن المراد بالهلاك هو تبدل نشأة الوجود و الرجوع إلى الله المعبر عنه بالانتقال من الدنيا إلى الآخرة و التلبس بالعود بعد البدء، و هذا إنما يكون فيما هو موجود بوجود بدئي دنيوي، و أما الدار الآخرة و ما هو موجود بوجود أخروي كالجنة و النار فلا يتصف شي‏ء من هذا القبيل بالهلاك بهذا المعنى.

قال تعالى: ﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَ مَا عِنْدَ اَللَّهِ بَاقٍ: النحل: ٩٦، و قال: ﴿وَ مَا عِنْدَ اَللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ: آل عمران: ١٩٨ و قال: ﴿سَيُصِيبُ اَلَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اَللَّهِ وَ عَذَابٌ شَدِيدٌ: الأنعام: ١٢٤ و نظيرتهما خزائن الرحمة كما قال: ﴿وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ: الحجر: ٢١ و كذا اللوح المحفوظ كما قال: ﴿وَ عِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ: ق: ٤.

و أما ما ذكروه من العرش فقد تقدم الكلام فيه في تفسير قوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اَللَّهُ الآية: الأعراف: ٥٤.

و يمكن أن يراد بالوجه جهته تعالى التي تنسب إليه و هي الناحية التي يقصد منها و يتوجه إليه بها، و تؤيده كثرة استعمال الوجه في كلامه تعالى بهذا المعنى كقوله:

﴿يُرِيدُونَ وَجْهَهُ: الأنعام: ٥٢ و قوله: ﴿إِلاَّ اِبْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ اَلْأَعْلىَ: الليل: ٢٠ إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة جدا.

و عليه فتكون عبارة عن كل ما ينسب إليه وحده فإن كان الكلام على ظاهر عمومه انطبق على الوجه الأول الذي أوردناه و يكون من مصاديقه أسماؤه و صفاته و أنبياؤه و خلفاؤه و دينه الذي يؤتى منه.

و إن خص الوجه بالدين فحسب كما وقع في بعض الروايات إن لم يكن من باب التطبيق كان المراد بالهلاك الفساد و عدم الأثر، و كانت الجملة تعليلا لقوله: ﴿وَ لاَ تَدْعُ مَعَ اَللَّهِ إِلَهاً آخَرَ و كان ما قبلها قرينة على أن المراد بالشي‏ء الدين و الأعمال المتعلقة

 

 

 به و كان محصل المعنى: و لا تتدين بغير دين التوحيد لأن كل دين باطل لا أثر له إلا دينه.

و الأنسب على هذا أن يكون الحكم في ذيل الآية بمعنى الحكم التشريعي أو الأعم منه و من التكويني و المعنى: كل دين هالك إلا دينه لأن تشريع الدين إليه و إليه ترجعون لا إلى مشرعي الأديان الأخر.

هذا ما يعطيه التدبر في الآية الكريمة و للمفسرين فيها أقوال أخر مختلفة.

فقيل: المراد بالوجه ذاته تعالى المقدسة و بالهلاك الانعدام، و المعنى: كل شي‏ء في نفسه عرضة للعدم لكون وجوده عن غيره إلا ذاته الواجبة الوجود، و الكلام على هذا مبني على التشبيه أي كل شي‏ء غيره كالهالك لاستناد وجوده إلى غيره.

و قيل: الوجه بمعنى الذات و المراد به ذات الشي‏ء و الضمير لله باعتبار أن وجه الشي‏ء مملوك له، و المعنى: كل شي‏ء هالك إلا وجه الله الذي هو ذات ذلك الشي‏ء و وجوده.

و قيل: المراد بالوجه الجهة المقصودة و الضمير لله، و المعنى: كل شي‏ء هالك بجميع ما يتعلق به إلا الجهة المنسوبة إليه تعالى و هو الوجود الذي أفاضه الله تعالى عليه.

و قيل: الوجهة هو الجهة المقصودة و المراد به الله سبحانه الذي يتوجه إليه كل شي‏ء و الضمير للشي‏ء، و المعنى: كل شي‏ء هالك إلا الله الذي هو الجهة المطلوبة له.

و قيل: المراد بالهلاك هلاك الموت و العموم مخصوص بذوي الحياة و المعنى:

كل ذي حياة فإنه سيموت إلا وجهه.

و قيل: المراد بالوجه العمل الصالح و المعنى أن العمل كان في حيز العدم، فلما فعله العبد ممتثلا لأمره تعالى أبقاه الله من غير إحباط حتى يثيبه أو أنه بالقبول صار غير قابل للهلاك لأن الجزاء قائم مقامه و هو باق.

و قيل: المراد بالوجه جاهه تعالى الذي أثبته في الناس.

و قيل: الهلاك عام لجميع ما سواه تعالى دائما لكون الوجود المفاض عليها متجددا في كل آن فهي متغيرة هالكة دائما في الدنيا و الآخرة و المعنى كل شي‏ء متغير الذات دائما إلا وجهه.

و هذه الوجوه بين ما لا ينطبق على سياق الآية و بين ما لا ينجح به حجتها و بين ما هو بعيد عن الفهم، و بالتأمل فيما قدمناه يظهر ما في كل منها فلا نطيل.

 

 

 و قوله: ﴿لَهُ اَلْحُكْمُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ الحكم‏ هو قضاؤه النافذ في الأشياء و عليه يدور التدبير في نظام الكون، و أما كونه بمعنى فصل القضاء يوم القيامة فيبعده تقديم الحكم في الذكر على الرجوع إليه الذي هو يوم القيامة فإن فصل القضاء متفرع عليه.

و كلتا الجملتين مسوقتان للتعليل و كل واحدة منهما وحدها حجة تامة على توحده.

تعالى بالألوهية صالحة للتعليل كلمة الإخلاص، و قد تقدم إمكان أخذ الحكم على بعض الوجوه بمعنى الحكم التشريعي.

(بحث روائي)

 في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و عبد بن حميد و البخاري و النسائي و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه و البيهقي في الدلائل من طرق عن ابن عباس :في قوله تعالى: ﴿لَرَادُّكَ إِلى‏َ مَعَادٍ قال: إلى مكة. زاد ابن مردويه كما أخرجك منها. أقول: و روي عنه و عن أبي سعيد الخدري :أن المراد به الموت‏، و أيضا عن علي عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : أن المراد به الجنة و انطباقهما على الآية لا يخلو من خفاء. و روى القمي في تفسيره، عن حريز عن أبي جعفر (عليه السلام) و عن أبي خالد الكابلي عن علي بن الحسين (عليه السلام): أن المراد به الرجعة و لعله من البطن دون التفسير.

 و في الإحتجاج، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث طويل: و أما قوله ﴿كُلُّ شَيْ‏ءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ فالمراد كل شي‏ء هالك إلا دينه، لأن من المحال أن يهلك منه كل شي‏ء و يبقى الوجه. هو أجل و أعظم من ذلك و إنما يهلك من ليس منه أ لا ترى أنه قال:

﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَ يَبْقىَ وَجْهُ رَبِّكَ ففصل بين خلقه و وجهه؟.

 و في الكافي، بإسناده عن سيف عمن ذكره عن الحارث بن المغيرة النصري قال: سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن قول الله تبارك و تعالى: ﴿كُلُّ شَيْ‏ءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ فقال:

ما يقولون فيه؟ قلت: يقولون: يهلك كل شي‏ء إلا وجه الله فقال: سبحان الله لقد قالوا عظيما إنما عنى به وجه الله الذي يؤتى منه.

أقول: و روى مثله في التوحيد، بإسناده عن الحارث بن المغيرة النصري عنه

 

 

(عليه السلام) و لفظه: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: ﴿كُلُّ شَيْ‏ءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ قال: كل شي‏ء هالك إلا من أخذ طريق الحق.

 و في محاسن البرقي،: مثله إلا أن آخره «من أخذ الطريق الذي أنتم عليه». و التشويش الذي يتراءى في الروايات تطرق إليها من جهة النقل بالمعنى، فإن كان المراد بالوجه الذي يؤتى منه مطلق ما ينسب إليه و كان من صقعه تعالى و من جانبه كان منطبقا على المعنى الأول الذي قدمناه في معنى الآية.

و إن كان الوجه بمعنى الدين الذي يتوجه إليه تعالى بقصده كان المراد بالهلاك البطلان و عدم التأثير و كان المعنى: لا إله إلا هو كل دين باطل إلا دينه الحق الذي يؤتى منه فإنه سينفع و يثاب عليه، و قد تقدمت الإشارة إلى الوجهين في تفسير الآية.

و في تفسير القمي، ":في قوله تعالى: ﴿فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكَافِرِينَ قال: المخاطبة للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و المعنى للناس، و قوله: ﴿وَ لاَ تَدْعُ مَعَ اَللَّهِ إِلَهاً آخَرَ المخاطبة للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و المعنى للناس، و هو

 قول الصادق (عليه السلام) إن الله بعث نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) : بإياك أعني، و اسمعي يا جارة.

 

 

(٢٩) (سورة العنكبوت مكية، و هي تسع و ستون آية) (٦٩)

[سورة العنكبوت (٢٩): الآیات ١ الی ١٣]

﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ الم ١ أَ حَسِبَ اَلنَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لاَ يُفْتَنُونَ ٢ وَ لَقَدْ فَتَنَّا اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اَللَّهُ اَلَّذِينَ صَدَقُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ اَلْكَاذِبِينَ ٣ أَمْ حَسِبَ اَلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلسَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ٤ مَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ اَللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اَللَّهِ لَآتٍ وَ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ ٥ وَ مَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اَللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ اَلْعَالَمِينَ ٦ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ اَلَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ٧ وَ وَصَّيْنَا اَلْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَ إِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ٨ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي اَلصَّالِحِينَ ٩ وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اَللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ اَلنَّاسِ كَعَذَابِ اَللَّهِ وَ لَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَ وَ لَيْسَ اَللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ اَلْعَالَمِينَ ١٠

 

 

وَ لَيَعْلَمَنَّ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ اَلْمُنَافِقِينَ ١١ وَ قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَ لْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَ مَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ١٢ وَ لَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَ أَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَ لَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ ١٣

(بيان)

يلوح من سياق آيات السورة و خاصة ما في صدرها من الآيات أن بعضا ممن آمن بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بمكة قبل الهجرة رجع عنه خوفا من فتنة كانت تهدده من قبل المشركين فإن المشركين كانوا يدعونهم إلى العود إلى ملتهم و يضمنون لهم أن يحملوا خطاياهم إن اتبعوا سبيلهم فإن أبوا فتنوهم و عذبوهم ليعيدوهم إلى ملتهم.

يشير إلى ذلك قوله تعالى: ﴿وَ قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَ لْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ الآية، و قوله: ﴿وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اَللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ اَلنَّاسِ كَعَذَابِ اَللَّهِ الآية.

و كان في هؤلاء الراجعين عن إيمانهم من كان رجوعه بمجاهدة من والديه على أن يرجع و إلحاح منهما عليه في الارتداد كبعض أبناء المشركين على ما يستشم من قوله تعالى:

﴿وَ وَصَّيْنَا اَلْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَ إِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا الآية، و قد نزلت السورة في شأن هؤلاء.

فغرض السورة على ما يستفاد من بدئها و ختامها و السياق الجاري فيها أن الذي يريده الله سبحانه من الإيمان ليس هو مجرد قولهم: ﴿آمَنَّا بِاللَّهِ بل هو حقيقة الإيمان التي لا تحركها عواصف الفتن و لا تغيرها غير الزمن و هي إنما تتثبت و تستقر بتوارد الفتن و تراكم المحن، فالناس غير متروكين بمجرد أن يقولوا: ﴿آمَنَّا بِاللَّهِ دون أن يفتنوا و يمتحنوا فيظهر ما في نفوسهم من حقيقة الإيمان أو وصمة الكفر فليعلمن الله الذين صدقوا و يعلم الكاذبين.

 

 

فالفتنة و المحنة سنة إلهية لا معدل عنها تجري في الناس الحاضرين كما جرت في الأمم الماضين كقوم نوح و عاد ثمود و قوم إبراهيم و لوط و شعيب و موسى فاستقام منهم من استقام و هلك منهم من هلك و ما ظلمهم الله و لكن كانوا أنفسهم يظلمون.

فعلى من يقول: آمنت بالله أن يصبر على إيمانه و يعبد الله وحده فإن تعذر عليه القيام بوظائف الدين فليهاجر إلى أرض يستطيع فيها ذلك فأرض الله واسعة و لا يخف عسر المعاش فإن الرزق على الله و كأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها و إياه.

و أما المشركون الذين يفتنون المؤمنين من غير جرم أجرموه إلا أن يقولوا ربنا الله فلا يحسبوا أنهم يعجزون الله و يسبقونه فأما فتنتهم للمؤمنين و إيذاؤهم و تعذيبهم فإنما هي فتنة لهم و للمؤمنين غير خارجة عن علم الله و تقديره، فهي فتنة و هي محفوظة عليهم إن شاء أخذهم بوبالها في الدنيا و إن شاء أخرهم إلى يوم يرجعون فيه إليه و ما لهم من محيص.

و أما ما لفقوه من الحجة و ركنوا إليه من باطل القول فهو داحض مردود إليهم و الحجة قائمة تامة عليهم.

فهذا محصل غرض السورة و مقتضى ذلك كون السورة كلها مكية، و قول القائل: إنها مدنية كلها أو معظمها أو بعضها - و سيجي‏ء في البحث الروائي التالي غير سديد، فمضامين آيات السورة لا تلائم إلا زمن العسرة و الشدة قبل الهجرة.

قوله تعالى: ﴿الم أَ حَسِبَ اَلنَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لاَ يُفْتَنُونَ الحسبان‏ هو الظن، و جملة ﴿أَنْ يُتْرَكُوا قائمة مقام مفعوليه، و قوله: ﴿أَنْ يَقُولُوا بتقدير باء السببية، و الفتنة الامتحان و ربما تطلق على المصيبة و العذاب، و الأوفق للسياق هو المعنى الأول، و الاستفهام للإنكار.

و المعنى: أ ظن الناس أن يتركوا فلا يتعرض لحالهم و لا يمتحنوا بما يظهر به صدقهم أو كذبهم في دعوى الإيمان بمجرد قولهم: آمنا؟ و قيل: المعنى: أ ظن الناس أن يتركوا فلا يبتلوا ببلية و لا تصيبهم مصيبة لقولهم: آمنا بأن تكون لهم على الله كرامة بسبب الإيمان يسلموا بها من كل مكروه يصيب الإنسان مدى حياته؟ و لا يخلو من بعد بالنظر إلى سياق الآيات.

 

 

 قوله تعالى: ﴿وَ لَقَدْ فَتَنَّا اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اَللَّهُ اَلَّذِينَ صَدَقُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ اَلْكَاذِبِينَ اللامان للقسم، و قوله: ﴿وَ لَقَدْ فَتَنَّا اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حال من الناس في قوله: ﴿أَ حَسِبَ اَلنَّاسُ أو من ضمير الجمع في قوله ﴿لاَ يُفْتَنُونَ و على الأول فالإنكار و التوبيخ متوجه إلى ظنهم أنهم لا يفتنون مع جريان السنة الإلهية على الفتنة و الامتحان و على الثاني إلى ظنهم الاختلاف في فعله تعالى حيث يفتن قوما و لا يفتن آخرين، و لعل الوجه الأول أوفق للسياق.

فالظاهر أن المراد بقوله: ﴿وَ لَقَدْ فَتَنَّا اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أن الفتنة و الامتحان سنة جارية لنا و قد جرت في الذين من قبلهم و هي جارية فيهم و لن تجد لسنة الله تبديلا.

و قوله: ﴿فَلَيَعْلَمَنَّ اَللَّهُ اَلَّذِينَ صَدَقُوا إلخ تعليل لما قبله، و المراد بعلمه تعالى بالذين صدقوا بالكاذبين ظهور آثار صدقهم و كذبهم في مقام العمل بسبب الفتنة و الامتحان الملازم لثبوت الإيمان في قلوبهم حقيقة و عدم ثبوته فيها حقيقة فإن السعادة التي تترتب على الإيمان المدعو إليه و كذا الثواب إنما تترتب على حقيقة الإيمان الذي له آثار ظاهرة من الصبر عند المكاره و الصبر على طاعة الله و الصبر عن معصية الله لا على دعوى الإيمان المجردة.

و يمكن أن يكون المراد بالعلم علمه تعالى الفعلي الذي هو نفس الأمر الخارجي فإن الأمور الخارجية بنفسها من مراتب علمه تعالى، و أما علمه تعالى الذاتي فلا يتوقف على الامتحان البتة.

و المعنى: أ حسبوا أن يتركوا و لا يفتنوا بمجرد دعوى الإيمان و إظهاره و الحال أن الفتنة سنتنا و قد جرت في الذين من قبلهم فمن الواجب أن يتميز الصادقون من الكاذبين بظهور آثار صدق هؤلاء و آثار كذب أولئك الملازم لاستقرار الإيمان في قلوب هؤلاء و زوال صورته الكاذبة عن قلوب أولئك.

و الالتفات في قوله: ﴿فَلَيَعْلَمَنَّ اَللَّهُ إلى اسم الجلالة قيل: للتهويل و تربية المهابة و الظاهر أنه في أمثال المقام لإفادة نوع من التعليل و ذلك أن الدعوة إلى الإيمان و الهداية إليه و الثواب عليه لما كانت راجعة إلى المسمى بالله الذي منه يبدأ كل شي‏ء و به يقوم كل شي‏ء و إليه ينتهي كل شي‏ء بحقيقته فمن الواجب أن يتميز عنده حقيقة الإيمان من

 

 

 دعواه الخالية و يخرج عن حال الإبهام إلى حال الصراحة و لذلك عدل عن مثل قولنا:

فلنعلمن إلى قوله: ﴿فَلَيَعْلَمَنَّ اَللَّهُ.

قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبَ اَلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلسَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ أم منقطعة، و المراد بقوله: ﴿اَلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلسَّيِّئَاتِ المشركون الذين كانوا يفتنون المؤمنين و يصدونهم عن سبيل الله كما أن المراد بالناس في قوله: ﴿أَ حَسِبَ اَلنَّاسُ هم الذين قالوا: آمنا و هم في معرض الرجوع عن الإيمان خوفا من الفتنة و التعذيب.

و المراد بقوله: ﴿أَنْ يَسْبِقُونَا الغلبة و التعجيز بسبب فتنة المؤمنين و صدهم عن سبيل الله - على ما يعطيه السياق.

و قوله: ﴿سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ تخطئة لظنهم أنهم يسبقون الله بما يمكرون من فتنة و صد فإن ذلك بعينه فتنة من الله لهم أنفسهم و صد لهم عن سبيل السعادة و لا يحيق المكر السيئ إلا بأهله.

و قيل: مفاد الآية توبيخ العصاة من المؤمنين و هم المراد بقوله: ﴿اَلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلسَّيِّئَاتِ و المراد بالسيئات المعاصي التي يقترفونها غير الشرك، و أنت خبير بأن السياق لا يساعد عليه.

و قيل: المراد بعمل السيئات أعم من الشرك و اقتراف سائر المعاصي فالآية عامة لا موجب لتخصيصها بخصوص الشرك أو بخصوص سائر المعاصي دون الشرك.

و فيه أن اعتبار الآية من حيث وقوعها في سياق خاص من السياقات أمر و اعتبارها مستقلة في نفسها أمر آخر و الذي يقتضيه الاعتبار الأول و هو العمدة بالنظر إلى غرض السورة هو ما قدمناه من المعنى، و أما الاعتبار الثاني: فمقتضاه العموم و لا ضير فيه على ذلك التقدير.

قوله تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ اَللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اَللَّهِ لَآتٍ وَ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ إلى تمام ثلاث آيات. لما وبخ سبحانه الناس على استهانتهم بأمر الإيمان و رجوعهم عنه بأي فتنة و إيذاء من المشركين و وبخ المشركين على فتنتهم و إيذائهم المؤمنين و صدهم عن سبيل الله إرادة لإطفاء نور الله و تعجيزا له فيما شاء و خطأ الفريقين فيما ظنوا.

رجع إلى بيان الحق الذي لا معدل عنه و الواجب الذي لا مخلص منه، فبين في

 

 

 هذه الآيات الثلاث أن من يؤمن بالله لتوقع الرجوع إليه و لقائه فليعلم أنه آت لا محالة و أن الله سميع لأقواله عليم بأحواله و أعماله فليأخذ حذره و ليؤمن حق الإيمان الذي لا يصرفه عنه فتنة و لا إيذاء و ليجاهد في الله حق جهاده، و ليعلم أن الذي ينتفع بجهاده هو نفسه و لا حاجة لله سبحانه إلى إيمانه و لا إلى غيره من العالمين و ليعلم أنه إن آمن و عمل صالحا فإن الله سيكفر عنه سيئاته و يجزيه بأحسن أعماله، و العلمان الأخيران يؤكدان العلم الأول و يستوجبان لزومه الإيمان و صبره على الفتن و المحن في جنب الله.

فقوله: ﴿مَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ اَللَّهِ رجوع إلى بيان حال من يقول: آمنت فإنه إنما يؤمن لو صدق بعض الصدق لتوقعه الرجوع إلى الله سبحانه يوم القيامة إذ لو لا المعاد لغا الدين من أصله، فالمراد بقوله: ﴿مَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ اَللَّهِ من كان يؤمن بالله أو من كان يقول: آمنت بالله، فالجملة من قبيل وضع السبب موضع المسبب.

و المراد بلقاء الله وقوف العبد موقفا لا حجاب بينه و بين ربه كما هو الشأن يوم القيامة الذي هو ظرف ظهور الحقائق، قال تعالى: ﴿وَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلْحَقُّ اَلْمُبِينُ.

و قيل: المراد بلقاء الله هو البعث، و قيل: الوصول إلى العاقبة من لقاء ملك الموت و الحساب و الجزاء، و قيل: المراد ملاقاة جزاء الله من ثواب أو عقاب و قيل:

ملاقاة حكمه يوم القيامة، و الرجاء على بعض هذه الوجوه بمعنى الخوف.

و هذه وجوه مجازية بعيدة لا موجب لها إلا أن يكون من التفسير بلازم المعنى.

و قوله: ﴿فَإِنَّ أَجَلَ اَللَّهِ لَآتٍ الأجل‏ هو الغاية التي ينتهي إليها زمان الدين و نحوه و قد يطلق على مجموع ذلك الزمان و الغالب في استعماله هو المعنى الأول.

و ﴿أَجَلَ اَللَّهِ هو الغاية التي عينها الله تعالى للقائه، و هو آت لا ريب فيه و قد أكد القول تأكيدا بالغا، و لازم تحتم إتيان هذا الأجل و هو يوم القيامة أن لا يسامح في أمره و لا يستهان بأمر الإيمان بالله حق الإيمان و الصبر عليه عند الفتن و المحن من غير رجوع و ارتداد، و قد زاد في تأكيد القول بتذييله بقوله: ﴿وَ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ إذ هو تعالى لما كان سميعا لأقوالهم عليما بأحوالهم فلا ينبغي أن يقول القائل: آمنت بالله إلا عن ظهر القلب و مع الصبر على كل فتنة و محنة.

و من هنا يظهر أن ذيل الآية: ﴿فَإِنَّ أَجَلَ اَللَّهِ لَآتٍ إلخ، من قبيل وضع ـ

 

 

السبب موضع المسبب كما كان صدرها: ﴿مَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ اَللَّهِ أيضا كذلك، و الأصل من قال: آمنت بالله. فليقله مستقيما صابرا عليه مجاهدا في ربه.

و قوله: ﴿وَ مَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اَللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ اَلْعَالَمِينَ المجاهدة و الجهاد مبالغة من الجهد بمعنى بذل الطاقة، و فيه تنبيه لهم أن مجاهدتهم في الله بلزوم الإيمان و الصبر على المكاره دونه ليست مما يعود نفعه إلى الله سبحانه حتى لا يهمهم و يلغو بالنسبة إليهم أنفسهم بل إنما يعود نفعه إليهم أنفسهم لغناه تعالى عن العالمين فعليهم أن يلزموا الإيمان و يصبروا على المكاره دونه.

فقوله: ﴿وَ مَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ تأكيد لحجة الآية السابقة، و قوله:

﴿إِنَّ اَللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ اَلْعَالَمِينَ تعليل لما قبله.

و الالتفات من سياق التكلم بالغير إلى اسم الجلالة في الآيتين نظير ما مر من الالتفات في قوله: ﴿فَلَيَعْلَمَنَّ اَللَّهُ اَلَّذِينَ صَدَقُوا الآية.

و قوله: ﴿وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ اَلَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ بيان لعاقبة إيمانهم حق الإيمان المقارن للجهاد و يتبين به أن نفع إيمانهم يعود إليهم لا إلى الله سبحانه و أنه عطية من الله و فضل.

و على هذا فالآية لا تخلو من دلالة ما على أن الجهاد في الله هو الإيمان و العمل الصالح فإنها في معنى تبديل قوله في الآية السابقة: ﴿وَ مَنْ جَاهَدَ من قوله في هذه الآية: ﴿وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ.

و تكفير السيئات هو العفو عنها و الأصل في معنى الكفر هو الستر، و قيل:

تكفير السيئات هو تبديل كفرهم السابق إيمانا و معاصيهم السابقة طاعات، و ليس بذاك.

و جزاؤهم بأحسن الذي كانوا يعملون هو رفع درجتهم إلى ما يناسب أحسن أعمالهم أو عدم المناقشة في أعمالهم عند الحساب إذا كانت فيها جهات رداءة و خسة فيعاملون في كل واحد من أعمالهم معاملة من أتى بأحسن عمل من نوعه فتحتسب صلاتهم أحسن الصلاة و إن اشتملت على بعض جهات الرداءة و هكذا.

قوله تعالى: ﴿وَ وَصَّيْنَا اَلْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَ إِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا إلخ، التوصية العهد و هو هاهنا الأمر، و قوله: ﴿حُسْناً

 

 

مصدر في معنى الوصف قائم مقام مفعول مطلق محذوف و التقدير: و وصينا الإنسان بوالديه توصية حسنة أو ذات حسن أي أمرناه أن يحسن إليهما و هذا مثل قوله: ﴿وَ قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً أي قولا حسنا أو ذا حسن، و يمكن أن يكون وضع المصدر موضع الوصف للمبالغة نحو زيد عدل، و ربما وجه بتوجيهات أخر.

و قوله: ﴿وَ إِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي إلخ، تتميم للتوصية بخطاب شفاهي للإنسان بنهيه عن إطاعة والديه إن دعواه إلى الشرك و الوجه في ذلك أن التوصية في معنى الأمر فكأنه قيل: و قلنا للإنسان أحسن إلى والديك و إن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما.

و لم يقل: و أن لا يطيعهما إن جاهداه على أن يشرك إلخ، لما في الخطاب من الصراحة و ارتفاع الإبهام و لذلك قال أيضا: ﴿لِتُشْرِكَ بِي بضمير المتكلم وحده فافهمه و يئول معنى الجملة إلى أنا نهيناه عن الشرك طاعة لهما و رفعنا عنه كل إبهام.

و في قوله: ﴿مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إشارة إلى علة النهي عن الطاعة فإن دعوتهما إلى الشرك بعبادة إله من دون الله دعوة إلى الجهل و عبادة ما ليس له به علم افتراء على الله و قد نهى الله عن اتباع غير العلم قال: ﴿وَ لاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ: إسراء:

 ٣٨ و بهذه المناسبة ذيلها بقوله: ﴿إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي سأعلمكم ما معنى أعمالكم و منها عبادتكم الأصنام و شرككم بالله سبحانه.

و معنى الآية: و عهدنا إلى الإنسان في والديه عهدا حسنا و أمرناه أن أحسن إلى والديك و إن بذلا جهدهما أن تشرك بي فلا تطعهما لأنه اتباع ما ليس لك به علم.

و في الآية كما تقدمت الإشارة إليه - توبيخ تعريضي لبعض من كان قد آمن ثم رجع عن إيمانه بمجاهدة من والديه.

قوله تعالى: ﴿وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي اَلصَّالِحِينَ معنى الآية ظاهر، و في وقوعها بعد الآية السابقة و في سياقها، دلالة على وعد جميل منه تعالى و تطييب نفس لمن ابتلي من المؤمنين بوالدين مشركين يجاهدانه على الشرك فعصاهما و فارقهما، يقول سبحانه: إن جاهداه على الشرك فعصاهما و هجرهما ففاتاه لم يكن بذلك بأس فإنا سنرزقه خيرا منهما و ندخله بإيمانه و عمله الصالح في الصالحين و هم العباد

 

 

 المنعمون في الجنة، قال تعالى: ﴿يَا أَيَّتُهَا اَلنَّفْسُ اَلْمُطْمَئِنَّةُ اِرْجِعِي إِلى‏َ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَ اُدْخُلِي جَنَّتِي: الفجر: ٣٠.

و أما إرادة المجتمع الصالح في الدنيا فبعيد من السياق.

قوله تعالى: ﴿وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اَللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ اَلنَّاسِ كَعَذَابِ اَللَّهِ إلى آخر الآية، لما كان إيمان هؤلاء مقيدا بالعافية و السلامة مغيى بالإيذاء و الابتلاء لم يعده إيمانا بقول مطلق و لم يقل: و من الناس من يؤمن بالله بل قال: ﴿وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فالآية بوجه نظيرة قوله: ﴿وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اَللَّهَ عَلى‏َ حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اِطْمَأَنَّ بِهِ وَ إِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ اِنْقَلَبَ عَلى‏َ وَجْهِهِ: الحج: ١١.

و قوله: ﴿فَإِذَا أُوذِيَ فِي اَللَّهِ أي أوذي لأجل الإيمان بالله بناء على أن في للسببية كما قيل و فيه عناية كلامية لطيفة بجعله تعالى أي جعل الإيمان بالله ظرفا للإيذاء و لمن يقع عليه الإيذاء ليفيد أن الإيذاء منتسب إليه تعالى انتساب المظروف إلى ظرفه و ينطبق على معنى السببية و الغرضية و نظيره قوله: ﴿يَا حَسْرَتى‏َ عَلى‏َ مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اَللَّهِ: الزمر: ٥٦ و قوله: ﴿وَ اَلَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا: العنكبوت: ٦٩.

و قيل: معنى الإيذاء في الله هو الإيذاء في سبيل الله و كأنه مبني على تقدير مضاف محذوف.

و فيه أن العناية الكلامية مختلفة فالإيذاء في الله ما كان السبب فيه محض الإيمان بالله و هو قولهم: ربنا الله، و الإيذاء في سبيل الله ما كان سببه سلوك السبيل التي هي الدين قال تعالى: ﴿فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَ أُوذُوا فِي سَبِيلِي: آل عمران: ١٩٥ و من الشاهد على تغاير الاعتبارين قوله في آخر السورة: ﴿وَ اَلَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا حيث جعل الجهاد في الله طريقا إلى الاهتداء إلى سبله و لو كانا بمعنى واحد لم يصح ذلك.

و قوله: ﴿جَعَلَ فِتْنَةَ اَلنَّاسِ كَعَذَابِ اَللَّهِ أي نزل العذاب و الإيذاء الذي يصيبه من الناس في وجوب التحرز منه منزلة عذاب الله الذي يجب أن يتحرز منه فرجع عن الإيمان إلى الشرك خوفا و جزعا من فتنتهم مع أن عذابهم يسير منقطع الآخر بنجاة أو موت و لا يقاس ذلك بعذاب الله العظيم المؤبد الذي يستتبع الهلاك الدائم.

 

 

 و قوله: ﴿وَ لَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أي لئن أتاكم من قبله تعالى ما فيه فرج و يسر لكم من بعد ما أنتم فيه من الشدة و العسرة من قبل أعداء الله ليقولن هؤلاء إنا كنا معكم فلنا منه نصيب.

و ﴿لَيَقُولُنَّ بضم اللام صيغة جمع، و الضمير راجع إلى ﴿مِنَ باعتبار المعنى كما أن ضمائر الإفراد الأخر راجعة إليها باعتبار اللفظ.

و قوله: ﴿أَ وَ لَيْسَ اَللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ اَلْعَالَمِينَ استفهام إنكاري فيه رد دعواهم أنهم مؤمنون بأن الله أعلم بما في الصدور و لا تنطوي قلوب هؤلاء على إيمان.

و المراد بالعالمين الجماعات من الإنسان أو الجماعات المختلفة من أولي العقل إنسانا كان أو غيره كالجن و الملك، و لو كان المراد به جميع المخلوقات من ذوي الشعور و غيرهم كان المراد بالصدور البواطن و هو بعيد.

قوله تعالى: ﴿وَ لَيَعْلَمَنَّ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ اَلْمُنَافِقِينَ من تتمة الكلام في الآية السابقة و المحصل أن الله مع ذلك يميز بين المؤمنين و المنافقين بالفتنة و الامتحان.

و في الآية إشارة إلى كون هؤلاء منافقين و ذلك لكون إيمانهم مقيدا بعدم الفتنة و هم يظهرونه مطلقا غير مقيد و الفتنة سنة إلهية جارية لا معدل عنها.

و قد استدل بالآيتين على أن السورة أو خصوص هذه الآيات مدنية و ذلك أن الآية تحدث عن النفاق و النفاق إنما ظهر بالمدينة بعد الهجرة و أما مكة قبل الهجرة فلم يكن للإسلام فيها شوكة و لا للمسلمين فيها إلا الذلة و الإهانة و الشدة و الفتنة و لا للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في المجتمع العربي يومئذ و خاصة عند قريش عزة و لا منزلة فلم يكن لأحد منهم داع يدعوه إلى أن يتظاهر بالإيمان و هو ينوي الكفر.

على أن قوله في الآية: ﴿وَ لَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ يخبر عن النصر و هو الفتح و الغنيمة و قد كان ذلك بالمدينة دون مكة.

و نظير الآيتين قوله السابق: ﴿وَ مَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ ضرورة إن الجهاد و القتال إنما كان بالمدينة بعد الهجرة.

و هو سخيف: أما حديث النفاق فالذي جعل في الآية ملاكا للنفاق و هو قولهم:

﴿آمَنَّا بِاللَّهِ حتى إذا أوذوا في الله راجعوا عن قولهم كان جائز التحقق في مكة كما في

 

 

 غيرها و هو ظاهر بل الذي ذكر من الإيذاء و الفتنة إنما كان بمكة فلم تكن في المدينة بعد الهجرة فتنة.

و أما حديث النصر فالنصر غير منحصر في الفتح و الغنيمة فله مصاديق أخر يفرج الله بها عن عباده. على أن الآية لا تخبر عنه بما يدل على التحقق فقوله: ﴿فَإِذَا أُوذِيَ فِي اَللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ اَلنَّاسِ كَعَذَابِ اَللَّهِ وَ لَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ يدل على تحقق الإيذاء و الفتنة حيث عبر بإذا الدالة على تحقق الوقوع بخلاف مجي‏ء النصر حيث عبر عنه بأن الشرطية الدالة على إمكان الوقوع دون تحققه.

و أما قوله تعالى: ﴿وَ مَنْ جَاهَدَ إلخ فقد اتضح مما تقدم أن المراد به جهاد النفس دون مقاتلة الكفار فالحق أن لا دلالة في شي‏ء من الآيات على كون السورة أو بعضها مدنية.

قوله تعالى: ﴿وَ قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَ لْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَ مَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ المراد بالذين كفروا مشركو مكة الذين أبدوا الكفر أول مرة بالدعوة الحقة، و بالذين آمنوا المؤمنون بها أول مرة و قولهم لهم: ﴿اِتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَ لْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ نوع استمالة لهم و تطييب لنفوسهم أن لو رجعوا إلى الشرك و اتبعوا سبيلهم لم تكن عليهم تبعة على أي حال: إذ لو لم تكن في ذلك خطيئة فهو، و إن كانت فهم حاملون لها عنهم، و لذلك لم يقولوا: و لنحمل خطاياكم لو كانت بل أطلقوا القول من غير تقييد.

فكأنهم قالوا: لنفرض أن اتباعكم لسبيلنا خطيئة فإنا نحملها عنكم و نحمل كل ما يتفرع عليه من الخطايا أو أنا نحمل عنكم خطاياكم عامة و من جملتها هذه الخطيئة.

و قوله: ﴿وَ مَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ رد لقولهم: ﴿وَ لْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ و هو رد محفوف بحجة إذ لو كان اتباعهم لسبيلهم و رجوعهم عن الإيمان بالله خطيئة كان خطيئة عند الله لاحقة بالراجعين و انتقالها عن عهدتهم إلى غيرهم يحتاج إلى إذن من الله و رضى فهو الذي يؤاخذهم به و يجازيهم و هو سبحانه يصرح و يقول: ﴿مَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ و قد عمم النفي لكل شي‏ء من خطاياهم.

و قوله: ﴿إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ تكذيب لهم لما أن قولهم: ﴿وَ لْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ يشتمل على دعوى ضمني أن خطاياهم تنتقل إليهم لو احتملوها و أن الله يجيز لهم ذلك.

 

 

قوله تعالى: ﴿وَ لَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَ أَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَ لَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ من تمام القول السابق في ردهم و هو في محل الاستدراك أي إنهم لا يحملون خطاياهم بعينها فهي لازمة لفاعليها لكنهم حاملون أثقالا و أحمالا من الأوزار مثل أوزار فاعليها من غير أن ينقص من فاعليها فيحملونها مضافا إلى أثقال أنفسهم و أحمالها لما أنهم ضالون مضلون.

فالآية في معنى قوله تعالى: ﴿لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ وَ مِنْ أَوْزَارِ اَلَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ: النحل: ٢٥.

و قوله: ﴿وَ لَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ فشركهم افتراء على الله سبحانه و كذا دعواهم القدرة على إنجاز ما وعدوه و أن الله يجيز لهم ذلك.

(بحث روائي)

في الدر المنثور، أخرج ابن الضريس و النحاس و ابن مردويه و البيهقي في الدلائل عن ابن عباس و أيضا ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير قالا ":نزلت سورة العنكبوت بمكة.

أقول: و قد نقل في روح المعاني، عن البحر عن ابن عباس أن السورة مدنية.

و في المجمع،" :قيل نزلت الآية يعني قوله تعالى: ﴿أَ حَسِبَ اَلنَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا في عمار بن ياسر و كان يعذب في الله. عن ابن جريج.

 و في الدر المنثور، أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن الشعبي :في قوله: ﴿الم أَ حَسِبَ اَلنَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا الآية، قال: أنزلت في أناس بمكة قد أقروا بالإسلام فكتب إليهم أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) من المدينة لما نزلت آية الهجرة أنه لا يقبل منكم إقرار و لا إسلام حتى تهاجروا. قال: فخرجوا عامدين إلى المدينة فأتبعهم المشركون فردوهم فنزلت فيهم هذه الآية فكتبوا إليهم أنه نزل فيكم آية كذا و كذا فقالوا: نخرج فإن اتبعنا أحد قاتلناه فخرجوا فأتبعهم المشركون فقاتلوهم فمنهم من قتل و منهم من نجا فأنزل الله فيهم: ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَ صَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ

 

 

 و فيه، أخرج ابن جرير عن قتادة" : ﴿وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ إلى قوله ﴿وَ لَيَعْلَمَنَّ اَلْمُنَافِقِينَ قال هذه الآيات نزلت في القوم الذين ردهم المشركون إلى مكة، و هذه الآيات العشر مدنية. و فيه، أخرج ابن جرير عن الضحاك ":في قوله: ﴿وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ قال: ناس من المنافقين بمكة كانوا يؤمنون فإذا أوذوا و أصابهم بلاء من المشركين رجعوا إلى الكفر و الشرك مخافة من يؤذيهم و جعلوا أذى الناس في الدنيا كعذاب الله. و فيه، أخرج ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص قال" :قالت أمي: لا آكل طعاما و لا أشرب شرابا حتى تكفر بمحمد فامتنعت من الطعام و الشراب حتى جعلوا يسجرون فاها بالعصا فنزلت هذه الآية ﴿وَ وَصَّيْنَا اَلْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً الآية. و في المجمع، قال الكلبي ":نزل قوله: ﴿وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يَقُولُ الآية في عياش بن أبي ربيعة المخزومي و ذلك أنه أسلم فخاف أهل بيته فهاجر إلى المدينة قبل أن يهاجر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فحلفت أمه أسماء بنت مخرمة بن أبي جندل التميمي أن لا تأكل و لا تشرب و لا تغسل رأسها و لا تدخل كنا حتى يرجع إليها فلما رأى ابناها أبو جهل و الحارث ابنا هشام و هما أخوا عياش لأمه جزعها ركبا في طلبه حتى أتيا المدينة فلقياه و ذكرا له القصة فلم يزالا به حتى أخذ عليهما المواثيق أن لا يصرفاه عن دينه و تبعهما و قد كانت أمه صبرت ثلاثة أيام ثم أكلت و شربت .

فلما خرجوا من المدينة أخذاه و أوثقاه كتافا و جلده كل واحد منهما مائة جلدة حتى برى‏ء من دين محمد جزعا من الضرب و قال ما لا ينبغي فنزلت الآية و كان الحارث أشدهما عليه فحلف عياش لئن قدر عليه خارجا من الحرم ليضربن عنقه .

فلما رجعوا إلى مكة مكثوا حينا ثم هاجر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و المؤمنون إلى المدينة و هاجر عياش و حسن إسلامه و أسلم الحارث بن هشام و هاجر إلى المدينة و بايع النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) على الإسلام و لم يحضر عياش فلقيه عياش يوما بظهر قبا و لم يشعر بإسلامه فضرب عنقه فقيل له: إن الرجل قد أسلم فاسترجع عياش و بكى ثم أتى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فأخبره بذلك فنزل: ﴿وَ مَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً الآية.

 

 

 أقول: و أنت ترى اختلاف الروايات في سبب نزول الآيات و قد تقدم أن الذي يعطيه سياق آيات السورة أنها مكية محضة.

 و في الكافي، عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد عن معمر بن خلاد قال: سمعت أبا الحسن (عليه السلام) يقول: ﴿الم أَ حَسِبَ اَلنَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لاَ يُفْتَنُونَ.

ثم قال لي: ما الفتنة؟ قلت: جعلت فداك الفتنة في الدين فقال: «يفتنون كما يفتن الذهب. ثم قال: يخلصون كما يخلص الذهب.

 و في المجمع،: قيل: إن معنى يفتنون يبتلون في أنفسهم و أموالهم: و هو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام). و فيه،: في قوله تعالى: ﴿أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً: و في تفسير الكلبي،: أنه لما نزلت هذه الآية قام النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فتوضأ و أسبغ وضوءه ثم قام و صلى فأحسن صلاته ثم سأل الله سبحانه أن لا يبعث عذابا من فوقهم أو من تحت أرجلهم أو يلبسهم شيعا و لا يذيق بعضهم بأس بعض.

فنزل جبرئيل و لم يجرهم من الخصلتين الأخيرتين فقال (ص): يا جبرئيل ما بقاء أمتي مع قتل بعضهم بعضا؟ فقام و عاد إلى الدعاء فنزل: ﴿الم أَ حَسِبَ اَلنَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا الآيتان فقال: لا بد من فتنة يبتلى بها الأمة بعد نبيها ليتعين الصادق من الكاذب لأن الوحي انقطع و بقي السيف و افتراق الكلمة إلى يوم القيامة.

 و في نهج البلاغة،: و قام إليه رجل فقال أخبرنا عن الفتنة و هل سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) عنها؟ فقال (عليه السلام): لما أنزل الله سبحانه قوله: ﴿الم أَ حَسِبَ اَلنَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لاَ يُفْتَنُونَ علمت أن الفتنة لا تنزل بنا و رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بين أظهرنا فقلت: يا رسول الله ما هذه الفتنة التي أخبرك الله بها؟ فقال: يا علي إن أمتي سيفتنون من بعدي.

 و في التوحيد، عن علي (عليه السلام) في حديث طويل: و قد سأله رجل عن آيات من القرآن و قوله: ﴿مَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ اَللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اَللَّهِ لَآتٍ يعني بقوله: من كان يؤمن بأنه مبعوث فإن وعد الله لآت من الثواب و العقاب فاللقاء هاهنا ليس بالرؤية و اللقاء هو البعث فافهم جميع ما في كتاب الله من لقائه فإنه يعني بذلك البعث.

 

 

 أقول: مراده (عليه السلام) نفي الرؤية الحسية و التفسير بلازم المعنى.

و في تفسير القمي،" :في قوله تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ اَللَّهِ الآية قال: من أحب لقاء الله جاءه الأجل ﴿وَ مَنْ جَاهَدَ نفسه عن اللذات و الشهوات و المعاصي ﴿فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اَللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ اَلْعَالَمِينَ. ﴿وَ وَصَّيْنَا اَلْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً قال:

هما اللذان ولداه.

 و فيه، ":في قوله تعالى: ﴿وَ قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَ لْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ قال: كان الكفار يقولون للمؤمنين: كونوا معنا فإن الذي تخافون أنتم ليس بشي‏ء فإن كان حقا نتحمل عنكم ذنوبكم، فيعذبهم الله عز و جل مرتين: مرة بذنوبهم و مرة بذنوب غيرهم. و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة في المصنف و ابن المنذر عن ابن الحنفية قال" :كان أبو جهل و صناديد قريش يتلقون الناس إذا جاءوا إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) يسلمون يقولون: إنه يحرم الخمر و يحرم الزنا و يحرم ما كانت تصنع العرب فارجعوا فنحن نحمل أوزاركم فنزلت هذه الآية: ﴿وَ لَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَ أَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ و فيه، أخرج أحمد عن حذيفة قال: سأل رجل على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فأمسك القوم ثم إن رجلا أعطاه فأعطى القوم فقال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : من سن خيرا فاستن به كان له أجره و من أجور من تبعه غير منتقص من أجورهم شيئا، و من سن شرا فاستن به كان عليه وزره و من أوزار من تبعه غير منتقص من أوزارهم شيئا. أقول: و في هذا المعنى روايات أخر و في بعضها تفسير قوله: ﴿وَ لَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَ أَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ بذلك.

[سورة العنكبوت (٢٩): الآیات ١٤ الی ٤٠]

﴿وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلىَ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ اَلطُّوفَانُ وَ هُمْ ظَالِمُونَ ١٤ فَأَنْجَيْنَاهُ وَ أَصْحَابَ اَلسَّفِينَةِ وَ جَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ ١٥ وَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اُعْبُدُوا اَللَّهَ

 

 

وَ اِتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ١٦ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ أَوْثَاناً وَ تَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ اَلَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اَللَّهِ اَلرِّزْقَ وَ اُعْبُدُوهُ وَ اُشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ١٧ وَ إِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ مَا عَلَى اَلرَّسُولِ إِلاَّ اَلْبَلاَغُ اَلْمُبِينُ ١٨ أَ وَ لَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اَللَّهُ اَلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اَللَّهِ يَسِيرٌ ١٩ قُلْ سِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ اَلْخَلْقَ ثُمَّ اَللَّهُ يُنْشِئُ اَلنَّشْأَةَ اَلْآخِرَةَ إِنَّ اَللَّهَ عَلى‏َ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ٢٠ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَ يَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَ إِلَيْهِ تُقْلَبُونَ ٢١ وَ مَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي اَلْأَرْضِ وَ لاَ فِي اَلسَّمَاءِ وَ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اَللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لاَ نَصِيرٍ ٢٢ وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اَللَّهِ وَ لِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ٢٣ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا اُقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اَللَّهُ مِنَ اَلنَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ٢٤ وَ قَالَ إِنَّمَا اِتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اَللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَ يَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَ مَأْوَاكُمُ اَلنَّارُ وَ مَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ٢٥ فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَ قَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلى‏َ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ ٢٦ وَ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبَ

 

 

وَ جَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ اَلنُّبُوَّةَ وَ اَلْكِتَابَ وَ آتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي اَلدُّنْيَا وَ إِنَّهُ فِي اَلْآخِرَةِ لَمِنَ اَلصَّالِحِينَ ٢٧ وَ لُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ اَلْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ اَلْعَالَمِينَ ٢٨ أَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ اَلرِّجَالَ وَ تَقْطَعُونَ اَلسَّبِيلَ وَ تَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ اَلْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا اِئْتِنَا بِعَذَابِ اَللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصَّادِقِينَ ٢٩ قَالَ رَبِّ اُنْصُرْنِي عَلَى اَلْقَوْمِ اَلْمُفْسِدِينَ ٣٠ وَ لَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرى‏ قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هَذِهِ اَلْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ ٣١ قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَ أَهْلَهُ إِلاَّ اِمْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ اَلْغَابِرِينَ ٣٢ وَ لَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِي‏ءَ بِهِمْ وَ ضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَ قَالُوا لاَ تَخَفْ وَ لاَ تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَ أَهْلَكَ إِلاَّ اِمْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ اَلْغَابِرِينَ ٣٣ إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى‏َ أَهْلِ هَذِهِ اَلْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ اَلسَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ٣٤ وَ لَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ٣٥ وَ إِلى‏ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً فَقَالَ يَا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللَّهَ وَ اُرْجُوا اَلْيَوْمَ اَلْآخِرَ وَ لاَ تَعْثَوْا فِي اَلْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ٣٦ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ اَلرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ٣٧ وَ عَاداً وَ ثَمُودَ وَ قَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ

 

 

وَ زَيَّنَ لَهُمُ اَلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ اَلسَّبِيلِ وَ كَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ ٣٨ وَ قَارُونَ وَ فِرْعَوْنَ وَ هَامَانَ وَ لَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسى‏َ بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي اَلْأَرْضِ وَ مَا كَانُوا سَابِقِينَ ٣٩ فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَ مِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ اَلصَّيْحَةُ وَ مِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ اَلْأَرْضَ وَ مِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَ مَا كَانَ اَللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَ لَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ٤٠

(بيان)

لما ذكر سبحانه في صدر السورة أن الفتنة سنة إلهية لا معدل عنها و قد جرت في الأمم السابقة عقب ذلك بالإشارة إلى قصص سبعة من الأنبياء الماضين و أممهم و هم:

نوح و إبراهيم و لوط و شعيب و هود و صالح و موسى (عليه السلام) فتنهم الله و امتحنهم فنجا منهم من نجا و هلك، منهم من هلك و قد ذكر سبحانه في الثلاثة الأول النجاة و الهلاك معا و في الأربعة الأخيرة الهلاك فحسب.

قوله تعالى: ﴿وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلىَ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ اَلطُّوفَانُ وَ هُمْ ظَالِمُونَ، في المجمع:، الطوفان‏ الماء الكثير الغامر لأنه يطوف بكثرته في نواحي الأرض، انتهى. و قيل: هو كل ما يطوف بالشي‏ء على كثرة و شدة من السيل و الريح و الظلام و الغالب استعماله في طوفان الماء.

و التعبير بألف سنة إلا خمسين عاما دون أن يقال: تسعمائة و خمسين سنة للتكثير و الآية ظاهرة في أن الألف إلا خمسين مدة دعوة نوح (عليه السلام) ما بين بعثته إلى أخذ الطوفان فيغاير ما في التوراة الحاضرة أنها مدة عمره (عليه السلام) و قد تقدمت الإشارة إلى ذلك في قصصه (عليه السلام) في تفسير سورة هود، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ﴿فَأَنْجَيْنَاهُ وَ أَصْحَابَ اَلسَّفِينَةِ وَ جَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ أي فأنجينا

 

 

نوحا و أصحاب السفينة الراكبين معه فيها و هم أهله و عدة قليلة من المؤمنين به و لم يكونوا ظالمين.

و قوله: ﴿وَ جَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ الظاهر أن الضمير للواقعة أو للنجاة و أما رجوعه إلى السفينة فلا يخلو من بعد، و العالمين‏ الجماعات الكثيرة المختلفة من الأجيال اللاحقة بهم.

قوله تعالى: ﴿وَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اُعْبُدُوا اَللَّهَ وَ اِتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ معطوف على قوله: ﴿نُوحاً أي و أرسلنا إبراهيم إلى قومه.

و قوله لقومه: ﴿اُعْبُدُوا اَللَّهَ وَ اِتَّقُوهُ دعوة إلى التوحيد و إنذار بقرينة الآيات التالية فتفيد الجملة فائدة الحصر.

على أن الوثنية لا يعبدون الله سبحانه و إنما يعبدون غيره زعما منهم أنه تعالى لا يمكن أن يعبد إلا من طريق الأسباب الفعالة في العالم المقربة عنده كالملائكة و الجن و لو عبد لكان معبودا وحده من غير شريك فدعوتهم إلى عبادة الله بقوله: ﴿اُعْبُدُوا اَللَّهَ تفيد الدعوة إليه وحده و إن لم تقيد بأداة الحصر.

قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ أَوْثَاناً وَ تَخْلُقُونَ إِفْكاً إلى آخر الآية، الأوثان‏ جمع وثن بفتحتين و هو الصنم، و الإفك‏ الأمر المصروف عن وجهه قولا أو فعلا.

و قوله: ﴿إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ أَوْثَاناً بيان لبطلان عبادة الأوثان و يظهر به كون عبادة الله هي العبادة الحقة و بالجملة انحصار العبادة الحقة فيه تعالى ﴿أَوْثَاناً منكر للدلالة على وهن أمرها و كون ألوهيتها دعوى مجردة لا حقيقة وراءها، أي لا تعبدون من دون الله إلا أوثانا من أمرها كذا و كذا.

و لذا عقب الجملة بقوله: ﴿وَ تَخْلُقُونَ إِفْكاً أي و تفتعلون كذبا بتسميتها آلهة و عبادتها بعد ذلك فهناك إله تجب عبادته لكنه هو الله الواحد دون الأوثان.

و قوله: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً تعليل لما ذكر من افتعالهم الكذب بتسمية الأوثان آلهة و عبادتها و محصله أن هؤلاء الذين تعبدون من دون الله و هم الأوثان بما هم تماثيل المقربين من الملائكة و الجن إنما تعبدونهم لجلب النفع و هو أن يرضوا عنكم فيرزقوكم و يدروا عليكم الرزق لكنهم ليسوا يملكون لكم رزقا

 

 

 فإن الله هو الذي يملك رزقكم الذي هو السبب الممد لبقائكم لأنه الذي خلقكم و خلق رزقكم فجعله ممدا لبقائكم و الملك تابع للخلق و الإيجاد.

و لذلك عقبه بقوله: ﴿فَابْتَغُوا عِنْدَ اَللَّهِ اَلرِّزْقَ وَ اُعْبُدُوهُ وَ اُشْكُرُوا لَهُ أي فاطلبوا الرزق من عند الله لأنه هو الذي يملكه فلا تعبدوهم بل اعبدوا الله و اشكروا له على ما رزقكم و أنعم عليكم بألوان النعم فمن الواجب شكر المنعم على ما أنعم.

و قوله: ﴿إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ في مقام التعليل لقوله: ﴿وَ اُعْبُدُوهُ وَ اُشْكُرُوا لَهُ و لذا جي‏ء بالفصل من غير عطف، و في هذا التعليل صرفهم عن عبادة الإله ابتغاء للرزق إلى عبادته للرجوع و الحساب إذ لو لا المعاد لم يكن لعبادة الإله سبب محصل لأن الرزق و ما يجري مجراه له أسباب خاصة كونية غير العبادات و القربات و لا يزيد و لا ينقص بإيمان أو كفر لكن سعادة يوم الحساب تختلف بالإيمان و الكفر و العبادة و الشكر و خلافهما فليكن الرجوع إلى الله هو الباعث إلى العبادة و الشكر دون ابتغاء الرزق.

قوله تعالى: ﴿وَ إِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ مَا عَلَى اَلرَّسُولِ إِلاَّ اَلْبَلاَغُ اَلْمُبِينُ الظاهر أنه من تمام كلام إبراهيم (عليه السلام)، و ذكر بعضهم أنه خطاب منه تعالى لمشركي قريش و لا يخلو من بعد.

و معنى الشرط و الجزاء في صدر الآية أن التكذيب هو المتوقع منكم لأنه كالسنة الجارية في الأمم المشركة و قد كذب من قبلكم و أنتم منهم و في آخرهم و ليس علي بما أنا رسول إلا البلاغ المبين.

و يمكن أن يكون المراد أن حالكم في تكذيبكم كحال الأمم من قبلكم لم ينفعهم تكذيبهم شيئا حل بهم عذاب الله و لم يكونوا بمعجزين في الأرض و لا في السماء و لم يكن لهم من دون الله من ولي و لا نصير، فكذلكم أنتم، و قوله: ﴿وَ مَا عَلَى اَلرَّسُولِ يناسب الوجهين جميعا.

قوله تعالى: ﴿أَ وَ لَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اَللَّهُ اَلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اَللَّهِ يَسِيرٌ هذه الآية إلى تمام خمس آيات من كلامه تعالى واقعة في خلال القصة تقيم الحجة على المعاد و ترفع استبعادهم له متعلقه بما تقدم من حيث إن العمدة في تكذيبهم الرسل إنكارهم للمعاد كما يشير إليه قول إبراهيم: ﴿إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَ إِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ.

 

 

فقوله: ﴿أَ وَ لَمْ يَرَوْا إلخ الضمير فيه للمكذبين من جميع الأمم من سابق و لاحق و المراد بالرؤية النظر العلمي دون الرؤية البصرية، و قوله: ﴿كَيْفَ يُبْدِئُ اَللَّهُ اَلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ في موضع المفعول لقوله: ﴿يَرَوْا بعطف ﴿يُعِيدُهُ على موضع ﴿يُبْدِئُ خلافا لمن يرى عطفه على ﴿أَ وَ لَمْ يَرَوْا و الاستفهام للتوبيخ.

و المعنى: أ و لم يعلموا كيفية الإبداء ثم الإعادة أي إنهما من سنخ واحد هو إنشاء ما لم يكن، و قوله: ﴿إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اَللَّهِ يَسِيرٌ الإشارة فيه إلى الإعادة بعد الإبداء و فيه رفع الاستبعاد لأنه إنشاء بعد إنشاء و إذ كانت القدرة المطلقة تتعلق بالإيجاد فهي جائزة التعلق بالإنشاء بعد الإنشاء و هي في الحقيقة نقل للخلق من دار إلى دار و إنزال للسائرين إليه في دار القرار.

و قول بعضهم: إن المراد بالإبداء ثم الإعادة إنشاء الخلق ثم إعادة أمثالهم بعد إفنائهم غير سديد لعدم ملائمة الاحتجاج على المعاد الذي هو إعادة عين ما فنى دون مثله.

قوله تعالى: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ اَلْخَلْقَ ثُمَّ اَللَّهُ يُنْشِئُ اَلنَّشْأَةَ اَلْآخِرَةَ إِنَّ اَللَّهَ عَلى‏َ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ الآية إلى تمام ثلاث آيات أمر للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يخاطبهم بما يتم به الحجة عليهم فيرشدهم إلى السير في الأرض لينظروا إلى كيفية بدء الخلق و إنشائهم على اختلاف طبائعهم و تفاوت ألوانهم و أشكالهم من غير مثال سابق و حصر أو تحديد في عدتهم و عدتهم ففيه دلالة على عدم التحديد في القدرة الإلهية فهو ينشئ النشأة الآخرة كما أنشأ النشأة الأولى فالآية في معنى قوله: ﴿وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ اَلنَّشْأَةَ اَلْأُولى‏َ فَلَوْ لاَ تَذَكَّرُونَ: الواقعة: ٦٢.

قوله تعالى: ﴿يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَ يَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَ إِلَيْهِ تُقْلَبُونَ من مقول القول، و الظاهر أنه بيان لقوله: ﴿يُنْشِئُ اَلنَّشْأَةَ اَلْآخِرَةَ و قلب‏ الشي‏ء تحويله عن وجهه أو حاله كجعل أسفله أعلاه و جعل باطنه ظاهره و هذا المعنى الأخير يناسب قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تُبْلَى اَلسَّرَائِرُ: الطارق: ٩.

و فسروا القلب بالرد قال في المجمع:، و القلب‏ هو الرجوع و الرد فمعناه أنكم تردون إلى حال الحياة في الآخرة حيث لا يملك فيه النفع و الضر إلا الله. انتهى و هذا

 

 

 معنى لطيف يفسر به معنى الرجوع إلى الله و الرد إليه و هو وقوفهم موقفا تنقطع فيه عنهم الأسباب و لا يحكم فيه إلا الله سبحانه فالآية في معنى قوله: ﴿وَ رُدُّوا إِلَى اَللَّهِ مَوْلاَهُمُ اَلْحَقِّ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ: يونس: ٣٠.

و محصل المعنى: أن النشأة الآخرة هي نشأة يعذب الله فيها من يشاء و هم المجرمون و يرحم من يشاء و هم غيرهم و إليه تردون فلا يحكم فيكم غيره.

قوله تعالى: ﴿وَ مَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي اَلْأَرْضِ وَ لاَ فِي اَلسَّمَاءِ وَ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اَللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لاَ نَصِيرٍ من مقول القول و توصيف لشأنهم يوم القيامة كما أن الآية السابقة توصيف لشأنه تعالى يومئذ.

فقوله: ﴿وَ مَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي اَلْأَرْضِ وَ لاَ فِي اَلسَّمَاءِ أي أنكم لا تقدرون أن تعجزوه تعالى يومئذ بالفوت منه و الخروج من حكمه و سلطانه بالفرار و الخروج من ملكه و النفوذ من أقطار الأرض و السماء، فالآية تجري مجرى قوله: ﴿يَا مَعْشَرَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ إِنِ اِسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ فَانْفُذُوا: الرحمن: ٣٣.

و قيل: الكلام في معنى «من في السماء» فحذف من لدلالة الكلام عليه و التقدير و ما أنتم بمعجزين في الأرض و لا من في السماء بمعجزين في السماء.

و هو بعيد و دلالة الكلام عليه غير مسلمة و لو بني عليه لكفى فيه أن الخطاب للأعم من البشر بتغليب جانب البشر المخاطبين على غيرهم من الجن و الملك و المعنى: و ما أنتم معاشر الخلق بمعجزين في الأرض و لا في السماء.

و قوله: ﴿وَ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اَللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لاَ نَصِيرٍ أي ليس لكم اليوم ولي من دون الله يتولى أمركم فيغنيكم من الله و لا نصير ينصركم فيقوي جانبكم و يتمم ناقص قوتكم فيظهركم عليه سبحانه.

فالآية - كما ترى - تنفي ظهورهم على الله و تعجيزهم له بالخروج و الامتناع عن حكمه بأقسامه فلا هم يستقلون بذلك و هو قوله: ﴿وَ مَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ إلخ و لا غيرهم يستقل بذلك و هو قوله: ﴿وَ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اَللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ و لا المجموع منهم و من غيرهم يعجزه تعالى و هو قوله: ﴿وَ لاَ نَصِيرٍ.

قوله تعالى: ﴿وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اَللَّهِ وَ لِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَ أُولَئِكَ

 

 

 لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ خطاب مصروف إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) خارج من مقول القول السابق ﴿قُلْ سِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ إلخ و المطلوب فيه أن ينبئه (ص) صريح الحق فيمن يشقى و يهلك يوم القيامة فإنه أبهم ذلك في قوله أولا: ﴿يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَ يَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ.

و من الدليل عليه الخطاب في ﴿أُولَئِكَ مرتين و لو كان من كلام النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لقيل: أولئكم».

و يؤيد ذلك أيضا قوله: ﴿مِنْ رَحْمَتِي فإن الانتقال من مثل قولنا: أولئك يئسوا من رحمة الله أو من رحمته بسياق الغيبة على ما يقتضيه المقام إلى قوله: ﴿أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي يفيد التصديق و الاعتراف مضافا إلى أصل الإخبار فيفيد صريح التعيين لأهل العذاب، و يؤيد ذلك أيضا تكرار الإشارة و ما في السياق من التأكيد.

و كان في تخصيص النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بهذا الإخبار تقوية لنفسه الشريفة و عزلا لهم عن صلاحية السمع لمثله و هم لا يؤمنون.

و المراد بآيات الله على ما يفيده إطلاق اللفظ جميع الأدلة الدالة على الوحدانية و النبوة و المعاد من الآيات الكونية و المعجزات النبوية و منها القرآن فالكفر بآيات الله يشمل بعمومه الكفر بالمعاد فذكر الكفر باللقاء و هو المعاد بعد الكفر بالآيات من ذكر الخاص بعد العام و الوجه فيه الإشارة إلى أهمية الإيمان بالمعاد إذ مع إنكار المعاد يلغو أمر الدين الحق من أصله و هو ظاهر.

و المراد بالرحمة ما يقابل العذاب و يلازم الجنة و قد تكرر في كلامه تعالى إطلاق الرحمة عليها بالملازمة كقوله: ﴿فَأَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ: الجاثية: ٣٠ و قوله: ﴿يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَ اَلظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً: الإنسان: ٣١.

و المراد بإسناد اليأس إليهم إما تلبسهم به حقيقة فإنهم لجحدهم الحياة الآخرة آيسون من السعادة المؤبدة و الجنة الخالدة و إما أنه كناية عن قضائه تعالى المحتوم أن الجنة لا يدخلها كافر.

و المعنى: و الذين جحدوا آيات الله الدالة على الدين الحق و خاصة المعاد أولئك يئسوا من الرحمة و الجنة و أولئك لهم عذاب أليم.

 

 

قوله تعالى: ﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا اُقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اَللَّهُ مِنَ اَلنَّارِ إلخ، تفريع على قوله في صدر القصة: ﴿وَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اُعْبُدُوا اَللَّهَ وَ اِتَّقُوهُ.

و ظاهر قوله: ﴿قَالُوا اُقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ أن كلا من طرفي الترديد قول طائفة منهم و المراد بالقتل القتل بالسيف و نحوه فهو قولهم أول ما ائتمروا ليجازوه و إن اتفقوا بعد ذلك على إحراقه كما قال ﴿قَالُوا حَرِّقُوهُ وَ اُنْصُرُوا آلِهَتَكُمْ: الأنبياء: ٦٨ و يمكن أن يكون الترديد من الجميع لترددهم في أمره أولا ثم اتفاقهم على إحراقه.

و قوله: ﴿فَأَنْجَاهُ اَللَّهُ مِنَ اَلنَّارِ فيه حذف و إيجاز و تقديره ثم اتفقوا على إحراقه فأضرموا نارا فألقوه فيها فأنجاه الله منها، و قد فصلت القصة في مواضع من كلامه تعالى.

قوله تعالى: ﴿وَ قَالَ إِنَّمَا اِتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اَللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا إلى آخر الآية إذ كان لا حجة عقلية لهم على اتخاذ الأوثان لم يبق لهم مما يستنون به إلا الاستنان بسنة من يعظمونه و يحترمون جانبه كالآباء للأبناء و الرؤساء المعظمين لأتباعهم و الأصدقاء لأصدقائهم و بالأخرة الأمة لأفرادها فهذا السبب الرابط هو عمدة ما يحفظ السنن القومية معمولا بها قائمة على ساقها.

فالاستنان بسنة الوثنية بالحقيقة من آثار الموت الاجتماعية يرى العامة ذلك بعضهم من بعض فتبعثه المودة القومية على تقليده و الاستنان به مثله ثم هذا الاستنان نفسه يحفظ المودة القومية و يقيم الاتحاد و الاتفاق على ساقه.

هذه حال العامة منهم و أما الخاصة فربما ركنوا في ذلك إلى ما يحسبونه حجة و ما هو بحجة كقولهم إن الله سبحانه أجل من أن يحيط به حس أو وهم أو عقل فلا يتعلق به توجهنا العبادي فمن الواجب أن نتقرب إلى بعض من له به عناية كالملائكة و الجن ليقربونا إليه زلفى و يشفعوا لنا عنده.

فقوله: ﴿إِنَّمَا اِتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اَللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا خطاب منه (عليه السلام) لعامة قومه في أمر اتخاذهم الأوثان للمودة القومية ليصلحوا به شأن حياتهم الدنيا الاجتماعية، و قد أجابوه بذلك حيث سألهم عن شأنهم ﴿إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ

 

 

 مَا هَذِهِ اَلتَّمَاثِيلُ اَلَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ: الأنبياء: ٥٣ ﴿قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ: الشعراء: ٧٤.

و من هنا يظهر أن قوله: ﴿مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ صالح لأن يكون منصوبا بنزع الخافض بتقدير لام التعليل و المودة على هذا سبب مؤد إلى اتخاذ الأوثان، و أن يكون مفعولا له، و المودة غاية مقصودة من اتخاذ الأوثان، لكن ذيل الآية إنما تلائم الوجه الثاني على ما سيظهر.

ثم عقب (عليه السلام) بقوله: ﴿إِنَّمَا اِتَّخَذْتُمْ إلخ، بقوله: ﴿ثُمَّ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَ يَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً يبين لهم عاقبة اتخاذهم الأوثان للمودة و هو باطن هذه المودة المقصودة الذي سيظهر يوم تبلى السرائر فإنهم توسلوا إلى هذا المتاع القليل بالشرك الذي هو أعظم الظلم و أكبر الكبائر الموبقة و اجتمعوا عليه و توافقوا لكنهم سيبدو لهم حقيقة عملهم و يلحق بهم وباله فيتبرأ بعضهم من بعض و ينكره بعضهم على بعض.

و المراد بكفر بعضهم ببعض كفر آلهتهم بهم و تبريهم منهم، كما قال تعالى:

﴿سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَ يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا: مريم: ٨٢ و قال: ﴿وَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ: فاطر: ١٤ و في معناه: تبري المتبوعين من تابعيهم، كما قال تعالى: ﴿إِذْ تَبَرَّأَ اَلَّذِينَ اُتُّبِعُوا مِنَ اَلَّذِينَ اِتَّبَعُوا وَ رَأَوُا اَلْعَذَابَ وَ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ اَلْأَسْبَابُ: البقرة: ١٦٦ و المراد بلعن بعضهم بعضا لعن كل بعض صاحبه، قال تعالى: ﴿كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا: الأعراف: ٣٨.

ثم عقب ذلك بقوله: ﴿وَ مَأْوَاكُمُ اَلنَّارُ وَ مَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ إشارة إلى لحوق الوبال و وقوع الجزاء و هو النار التي فيها الهلاك المؤبد و لا ناصر ينصرهم و يدفع عنهم العذاب فهم إنما توسلوا إلى المودة ليتناصروا و يتعاونوا و يتعاضدوا في الحياة لكنها عادت يوم القيامة معاداة و مضادة و أورثت تبريا و خذلانا.

قوله تعالى: ﴿فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَ قَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلى‏َ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ أي آمن به لوط و الإيمان يتعدى باللام كما يتعدى بالباء و المعنى واحد.

 

 

 و قوله: ﴿وَ قَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلى‏َ رَبِّي قيل الضمير راجع إلى لوط، و قيل:

راجع إلى إبراهيم و يؤيده قوله تعالى حكاية عن إبراهيم ﴿وَ قَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلى‏َ رَبِّي سَيَهْدِينِ: الصافات: ٩٩.

و كأن المراد بالمهاجرة إلى الله هجره وطنه و خروجه من بين قومه المشركين إلى أرض لا يعترضه فيها المشركون و لا يمنعونه من عبادة ربه فعد المهاجرة مهاجرة إلى الله من المجاز العقلي.

و قوله: ﴿إِنَّهُ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ أي عزيز لا يذل من نصره حكيم لا يضيع من حفظه.

قوله تعالى: ﴿وَ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ جَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ اَلنُّبُوَّةَ وَ اَلْكِتَابَ معناه ظاهر.

قوله تعالى: ﴿وَ آتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي اَلدُّنْيَا وَ إِنَّهُ فِي اَلْآخِرَةِ لَمِنَ اَلصَّالِحِينَ الأجر هو الجزاء الذي يقابل العمل و يعود إلى عامله و الفرق بينه و بين الأجرة أن الأجرة تختص بالجزاء الدنيوي و الأجر يعم الدنيا و الآخرة، و الفرق بينه و بين الجزاء أن الأجر لا يقال إلا في الخير و النافع، و الجزاء يعم الخير و الشر و النافع و الضار.

و الغالب في كلامه تعالى استعمال لفظ الأجر في جزاء العمل العبودي الذي أعده الله سبحانه لعباده المؤمنين في الآخرة من مقامات القرب و درجات الولاية و منها الجنة، نعم وقع في قوله تعالى حكاية عن يوسف (عليه السلام): ﴿إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَ يَصْبِرْ فَإِنَّ اَللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ اَلْمُحْسِنِينَ: يوسف: ٩٠ و قوله: ﴿وَ كَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي اَلْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَ لاَ نُضِيعُ أَجْرَ اَلْمُحْسِنِينَ: يوسف: ٥٦ إطلاق الأجر على الجزاء الدنيوي الحسن.

فقوله: ﴿وَ آتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي اَلدُّنْيَا يمكن أن يكون المراد به إيتاء الأجر الدنيوي الحسن و الأنسب على هذا أن يكون ﴿فِي اَلدُّنْيَا متعلقا بالأجر لا بالإيتاء و ربما تأيد هذا المعنى بقوله تعالى فيه (عليه السلام) في موضع آخر: ﴿وَ آتَيْنَاهُ فِي اَلدُّنْيَا حَسَنَةً وَ إِنَّهُ فِي اَلْآخِرَةِ لَمِنَ اَلصَّالِحِينَ: النحل: ١٢٢ فإن الظاهر أن المراد بالحسنة الحياة الحسنة أو العيشة الحسنة و إيتاؤها فعلية إعطائها دون تقديرها و كتابتها.

و يمكن أن يكون المراد به تقديم ما أعد لعامة المؤمنين في الآخرة من مقامات

 

 

 القرب في حقه (عليه السلام) و إيتاؤه ذلك في الدنيا و قد تقدم إحصاء ما يذكره القرآن الكريم من مقاماته (عليه السلام) في قصصه من تفسير سورة الأنعام.

و قوله: ﴿وَ إِنَّهُ فِي اَلْآخِرَةِ لَمِنَ اَلصَّالِحِينَ تقدم الكلام فيه في تفسير قوله تعالى:

﴿وَ لَقَدِ اِصْطَفَيْنَاهُ فِي اَلدُّنْيَا وَ إِنَّهُ فِي اَلْآخِرَةِ لَمِنَ اَلصَّالِحِينَ: البقرة: ١٣٠ في الجزء الأول من الكتاب.

قوله تعالى: ﴿وَ لُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ اَلْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ اَلْعَالَمِينَ أي و أرسلنا لوطا أو و اذكر لوطا إذ قال لقومه، و قوله: ﴿إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ اَلْفَاحِشَةَ إخبار بداعي الاستعجاب و الإنكار، و المراد بالفاحشة إتيان الذكران.

و قوله: ﴿مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ اَلْعَالَمِينَ استئناف يوضح معنى الفاحشة و يؤكده، و كأن المراد أن هذا العمل لم يشع في قوم قبلهم هذا الشيوع أو الجملة حال من فاعل ﴿لَتَأْتُونَ.

قوله تعالى: ﴿أَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ اَلرِّجَالَ وَ تَقْطَعُونَ اَلسَّبِيلَ وَ تَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ اَلْمُنْكَرَ إلى آخر الآية، استفهام من أمر من الحري أن لا يصدقه سامع و لا يقبله ذو لب و لذا أكد بالنون و اللام، و هذا السياق يشهد أن المراد بإتيان الرجل اللواط و بقطع السبيل إهمال طريق التناسل و إلغاؤها و هي إتيان النساء، فقطع السبيل كناية عن الإعراض عن النساء و ترك نكاحهن، و بإتيانهم المنكر في ناديهم و النادي‏ هو المجلس الذي يجتمعون فيه و لا يسمى نادية إلا إذا كان فيه أهله الإتيان بالفحشاء أو بمقدماتها الشنيعة بمرأى من الجماعة.

و قيل: المراد بقطع السبيل قطع سبيل المارة بديارهم فإنهم كانوا يفعلون هذا الفعل بالمجتازين من ديارهم و كانوا يرمون ابن السبيل بالحجارة بالخذف فأيهم أصابه كان أولى به فيأخذون ماله و ينكحونه و يغرمونه ثلاثة دراهم و كان لهم قاض يقضي بذلك و قيل: بل كانوا يقطعون الطرق، و قد عرفت أن السياق يقضي بخلاف ذلك.

و قيل: المراد بإتيان المنكر في النادي أن مجالسهم كانت تشتمل على أنواع المنكرات و القبائح مثل الشتم و السخف و القمار و خذف الأحجار على من مر بهم و ضرب المعازف و المزامير و كشف العورات و اللواط و نحو ذلك و قد عرفت ما يقتضيه السياق.

 

 

 و قوله: ﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا اِئْتِنَا بِعَذَابِ اَللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصَّادِقِينَ استهزاء و سخرية منهم، و يظهر من جوابهم أنه كان ينذرهم بعذاب الله و قد قال الله في قصته في موضع آخر: ﴿وَ لَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ: القمر: ٣٦.

قوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ اُنْصُرْنِي عَلَى اَلْقَوْمِ اَلْمُفْسِدِينَ سؤال للفتح و دعاء منه عليهم، و قد عدهم مفسدين لعملهم الذي يفسد الأرض و يقطع النسل و يهدد الإنسانية بالفناء.

قوله تعالى: ﴿وَ لَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرى‏َ قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هَذِهِ اَلْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ إجمال قصة هلاك قوم لوط، و قد كان ذلك برسل من الملائكة أرسلهم الله أولا إلى إبراهيم (عليه السلام) فبشروه و بشروا امرأته بإسحاق و يعقوب ثم أخبروه بأنهم مرسلون لإهلاك قوم لوط، و القصة مفصلة في سورة هود و غيرها.

و قوله: ﴿قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هَذِهِ اَلْقَرْيَةِ أي قالوا لإبراهيم، و في الإتيان بلفظ الإشارة القريبة هذه القرية دلالة على قربها من الأرض التي كان إبراهيم (عليه السلام) نازلا بها، و هي الأرض المقدسة.

و قوله: ﴿إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ تعليل لإهلاكهم بأنهم ظالمون قد استقرت فيهم رذيلة الظلم، و قد كان مقتضى الظاهر أن يقال: إنهم كانوا ظالمين فوضع المظهر موضع المضمر للإشارة إلى أن ظلمهم ظلم خاص بهم يستوجب الهلاك و ليس من مطلق الظلم الذي كان الناس مبتلين به يومئذ كأنه قيل: إن أهلها بما أنهم أهلها ظالمون.

قوله تعالى: ﴿قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَ أَهْلَهُ إِلاَّ اِمْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ اَلْغَابِرِينَ ظاهر السياق أنه (عليه السلام) كان يريد بقوله: ﴿إِنَّ فِيهَا لُوطاً أن يصرف العذاب بأن فيها لوطا و إهلاك أهلها يشمله فأجابوه بأنهم لا يخفى عليهم ذلك بل معه غيره ممن لا يشمله العذاب و هم أهله إلا امرأته.

لكنه (عليه السلام) لم يكن ليجهل أن الله سبحانه لا يعذب لوطا و هو نبي مرسل، و إن شمل العذاب جميع من سواه من أهل قريته و لا أنه يخوفه و يزعره و يفزعه بقهره عليهم بل كان (عليه السلام) يريد بقوله: ﴿إِنَّ فِيهَا لُوطاً أن يصرف العذاب عن أهل القرية كرامة للوط لا أن يدفعه عن لوط، فأجيب بأنهم مأمورون بإنجائه و إخراجه من بين أهل القرية و معه أهله إلا امرأته كانت من الغابرين.

 

 

 و الدليل على هذا الذي ذكرنا قوله تعالى في سورة هود في هذا الموضع من القصة:

﴿فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ اَلرَّوْعُ وَ جَاءَتْهُ اَلْبُشْرى‏َ يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَ إِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ: هود: ٧٦ فالآيات أظهر ما يكون في أن إبراهيم (عليه السلام) كان يدافع عن قوم لوط لا عن لوط نفسه.

فظاهر كلامه (عليه السلام) في الآية التي نحن فيها الدفاع عن لوط و على ذلك جاراه الرسل فأبقوا كلامه على ظاهره و أجابوا بأنهم ما كانوا ليجهلوا ذلك فهم أعلم بمن فيها و عالمون بأن فيها لوطا و معه أهله ممن لا ينبغي أن يعذب لكنهم سينجونه و أهله إلا امرأته، لكن الذي أراده إبراهيم (عليه السلام) بكلامه دفع العذاب عن أهل القرية فأجيب بأنه من الأمر المحتوم على ما تشير إليه آيات سورة هود.

و للقوم في قوله: ﴿إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ، و قوله: ﴿قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً مشاجرات طويلة أعرضنا عن التعرض لها لعدم الجدوى، من أراد الوقوف عليها فليراجع المطولات.

قوله تعالى: ﴿وَ لَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِي‏ءَ بِهِمْ وَ ضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَ قَالُوا لاَ تَخَفْ وَ لاَ تَحْزَنْ إلى آخر الآية، ضميرا الجمع في ﴿سِي‏ءَ بِهِمْ وَ ضَاقَ بِهِمْ للرسل و الباء للسببية أي أخذته المساءة و هي سوء الحال بسببهم و ضاقت طاقته بسببهم لكونهم في صور شبان حسان مرد يخاف عليهم من القوم ثم قصد القوم إياهم بالسوء و ضعف لوط من أن يدفعهم عنهم و هم ضيف له نازلون بداره.

و قوله: ﴿وَ قَالُوا لاَ تَخَفْ وَ لاَ تَحْزَنْ أي لا خطر محتملا يهددك و لا مقطوعا يقع عليك فإن الخوف إنما هو في المكروه الممكن و الحزن في المكروه الواقع.

و قوله: ﴿إِنَّا مُنَجُّوكَ وَ أَهْلَكَ إِلاَّ اِمْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ اَلْغَابِرِينَ أي الباقين في العذاب تعليل لنفي الخوف و الحزن.

قوله تعالى: ﴿إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى‏َ أَهْلِ هَذِهِ اَلْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ اَلسَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ بيان لما يشير إليه قوله: ﴿إِنَّا مُنَجُّوكَ وَ أَهْلَكَ من العذاب، و الرجز العذاب.

قوله تعالى: ﴿وَ لَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ضمير التأنيث للقرية ـ

 

 

و الترك الإبقاء أي أبقينا من القرية علامة واضحة لقوم يعقلون ليعتبروا بها فيتقوا الله و هي الآثار الباقية منها بعد خرابها بنزول العذاب.

و هي اليوم مجهولة المحل لا أثر منها و ربما يقال: إن الماء غمرها بعد و هي بحر لوط، لكن الآية ظاهرة - كما ترى - أنها كانت ظاهرة معروفة في زمن نزول القرآن و أوضح منها قوله تعالى: ﴿وَ إِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ: الحجر: ٧٦ و قوله: ﴿وَ إِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَ بِاللَّيْلِ أَ فَلاَ تَعْقِلُونَ: الصافات: ١٣٨.

قوله تعالى: ﴿وَ إِلى‏َ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً فَقَالَ يَا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللَّهَ وَ اُرْجُوا اَلْيَوْمَ اَلْآخِرَ وَ لاَ تَعْثَوْا فِي اَلْأَرْضِ مُفْسِدِينَ يدعوهم إلى عبادة الله و هو التوحيد و إلى رجاء اليوم الآخر و هو الاعتقاد بالمعاد و أن لا يفسدوا في الأرض و كانت عمدة إفسادهم فيها على ما ذكر في قصتهم في مواضع أخر نقص الميزان و المكيال.

قوله تعالى: ﴿فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ اَلرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ الرجفة الاضطراب الشديد على ما ذكره الراغب، و الجثم و الجثوم‏ في المكان القعود فيه أو البروك على الأرض و هو كناية عن الموت و المعنى: فكذبوا شعيبا فأخذهم الاضطراب الشديد أو الزلزلة الشديدة فأصبحوا في دارهم ميتين لا حراك بهم.

و قال في قصتهم في موضع آخر: ﴿وَ أَخَذَتِ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا اَلصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ: هود: ٩٤ و يستظهر من ذلك أنهم أهلكوا بالصيحة و الرجفة.

قوله تعالى: ﴿وَ عَاداً وَ ثَمُودَ وَ قَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ إلى آخر الآية غير السياق تفننا فبدأ بذكر عاد و ثمود و كذا في الآية التالية بدأ بذكر قارون و فرعون و هامان بخلاف قصص الأمم المذكورين سابقا حيث بدأ بذكر أنبيائهم كنوح و إبراهيم و لوط و شعيب. و قوله: ﴿وَ عَاداً وَ ثَمُودَ منصوبان بفعل مقدر تقديره و اذكر عادا و ثمود.

و قوله: ﴿وَ زَيَّنَ لَهُمُ اَلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ اَلسَّبِيلِ وَ كَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ تزيين الشيطان لهم أعمالهم كناية استعارية عن تحبيب أعمالهم السيئة إليهم و تأكيد تعلقهم بها و صده إياهم عن السبيل صرفهم عن سبيل الله التي هي سبيل الفطرة، و لذا قال بعضهم: إن المراد بكونهم مستبصرين أنهم كانوا قبل ذلك على الفطرة الساذجة.

 

 

 لكن الظاهر كما تقدم في تفسير قوله: ﴿كَانَ اَلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اَللَّهُ اَلنَّبِيِّينَ: البقرة: ٢١٣ أن عهد الفطرة الساذجة كان قبل بعثة نوح (عليه السلام) و عاد و ثمود كانوا بعد نوح فكونهم مستبصرين قبل انصدادهم عن السبيل هو كونهم يعيشون على عبادة الله و دين التوحيد و هو دين الفطرة.

قوله تعالى: ﴿وَ قَارُونَ وَ فِرْعَوْنَ وَ هَامَانَ وَ لَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسى‏َ بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي اَلْأَرْضِ وَ مَا كَانُوا سَابِقِينَ السبق استعارة كنائية من الغلبة، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ﴿فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ إلى آخر الآية أي كل واحدة من الأمم المذكورين أخذناها بذنبها ثم أخذ في التفصيل فقال: ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً و الحاصب‏ الحجارة و قيل: الريح التي ترمي بالحصى و على الأول فهم قوم لوط، و على الثاني قوم عاد ﴿وَ مِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ اَلصَّيْحَةُ و هم قوم ثمود و قوم شعيب ﴿وَ مِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ اَلْأَرْضَ و هو قارون ﴿وَ مِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا و هم قوم نوح و فرعون و هامان و قومهما.

ثم عاد سبحانه إلى كافة القصص المذكورة و ما انتهى إليه أمر تلك الأمم من الأخذ و العذاب فبين ببيان عام أن الذي أوقعهم فيما وقعوا لم يكن بظلم منه سبحانه بل بظلم منهم لأنفسهم فقال: ﴿وَ مَا كَانَ اَللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَ لَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ أي فيجازيهم الله على ظلمهم لأن الدار دار الفتنة و الامتحان و هي السنة الإلهية التي لا معدل عنها فمن اهتدى فقد اهتدى لنفسه و من ضل فعليها.

 (بحث روائي)

 في الكافي، بإسناده عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله (عليه السلام): في حديث يذكر فيه معاني الكفر قال: و الوجه الخامس من الكفر كفر البراءة قال تعالى: ﴿وَ قَالَ إِنَّمَا اِتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اَللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَ يَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً يعني يتبرأ بعضكم من بعض الحديث.

أقول: و روي هذا المعنى في التوحيد، عن علي (عليه السلام) : في حديث طويل يجيب فيه عما سئل عنه من تهافت الآيات و فيه: و الكفر في هذه الآية البراءة يقول: يتبرأ

 

 

 بعضهم من بعض، و نظيرها في سورة إبراهيم قول الشيطان: ﴿إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ و قول إبراهيم خليل الرحمن: ﴿كَفَرْنَا بِكُمْ أي تبرأنا».

و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن جابر : أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) نهى عن الخذف‏[1]

و هو قول الله: ﴿وَ تَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ اَلْمُنْكَرَ.

 أقول: و روي هذا المعنى أيضا عن عدة من أصحاب الجوامع عن أم هاني بنت أبي طالب و لفظ الحديث: قالت: سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) عن قول الله: ﴿وَ تَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ اَلْمُنْكَرَ قال: كانوا يجلسون بالطريق فيخذفون ابن السبيل و يسخرون منهم. و في الكافي، بإسناده عن أبي زيد الحماد عن أبي عبد الله (عليه السلام): في حديث نزول الملائكة على إبراهيم بالبشرى قال: فقال لهم إبراهيم: لما ذا جئتم؟ قالوا: في إهلاك قوم لوط. فقال لهم: إن كان فيها مائة من المؤمنين أ تهلكونهم؟ فقال جبرئيل: لا.

قال: فإن كان فيها خمسون؟ قال: لا. قال: فإن كان فيها ثلاثون؟ قال: لا. قال:

فإن كان فيها عشرون؟ قال: لا. قال: فإن كان فيها عشرة؟ قال: لا. قال: فإن كان فيها خمسة؟ قال: لا. قال: فإن كان فيها واحد؟ قال: لا. قال: فإن فيها لوطا؟ قالوا: نحن أعلم بمن فيها لننجينه و أهله إلا امرأته كانت من الغابرين. قال الحسن بن علي (عليه السلام): لا أعلم هذا القول إلا و هو يستبقيهم و هو قول الله عز و جل: ﴿يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ.

[سورة العنكبوت (٢٩): الآیات ٤١ الی ٥٥]

﴿مَثَلُ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اَللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ اَلْعَنْكَبُوتِ اِتَّخَذَتْ بَيْتاً وَ إِنَّ أَوْهَنَ اَلْبُيُوتِ لَبَيْتُ اَلْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ٤١ إِنَّ اَللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ ٤٢

 

 

﴿وَ تِلْكَ اَلْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَ مَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ اَلْعَالِمُونَ ٤٣ خَلَقَ اَللَّهُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ٤٤ اُتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ اَلْكِتَابِ وَ أَقِمِ اَلصَّلاَةَ إِنَّ اَلصَّلاَةَ تَنْهى‏ عَنِ اَلْفَحْشَاءِ وَ اَلْمُنْكَرِ وَ لَذِكْرُ اَللَّهِ أَكْبَرُ وَ اَللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ٤٥ وَ لاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ اَلْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَ قُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَ أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَ إِلَهُنَا وَ إِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ٤٦ وَ كَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ اَلْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ اَلْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ مِنْ هَؤُلاَءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَ مَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ اَلْكَافِرُونَ ٤٧ وَ مَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَ لاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَرْتَابَ اَلْمُبْطِلُونَ ٤٨ بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ وَ مَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ اَلظَّالِمُونَ ٤٩ وَ قَالُوا لَوْ لاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا اَلْآيَاتُ عِنْدَ اَللَّهِ وَ إِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ٥٠ أَ وَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ اَلْكِتَابَ يُتْلى‏ عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَ ذِكْرى‏ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ٥١ قُلْ كَفى‏ بِاللَّهِ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَ كَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ اَلْخَاسِرُونَ ٥٢ وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ

 

 

بِالْعَذَابِ وَ لَوْ لاَ أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ اَلْعَذَابُ وَ لَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَ هُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ٥٣ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ٥٤ يَوْمَ يَغْشَاهُمُ اَلْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَ يَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ٥٥

(بيان)

تتضمن الآيات تذييلا لقصص أولئك الأمم الماضية الهالكة بمثل ضربه الله سبحانه لاتخاذهم أولياء من دون الله فبين فيه أن بناءهم ذلك أوهن البناء ينادي ببطلانه و فساده خلق السماوات و الأرض و أنهم ليس لهم من دونه من ولي كما يذكره هذا الكتاب.

و من هنا ينتقل إلى أمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بتلاوة هذا الكتاب الذي أوحي إليه و إقامة الصلاة و دعوة أهل الكتاب بقول لين و مجادلة حسناء و يجيب عن اقتراح المشركين على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يأتيهم بآيات غير القرآن و أن يعجلهم بالعذاب الذي ينذرهم به.

قوله تعالى: ﴿مَثَلُ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اَللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ اَلْعَنْكَبُوتِ اِتَّخَذَتْ بَيْتاً إلى آخر الآية، العنكبوت معروف و يطلق على الواحد و الجمع و يذكر و يؤنث.

العناية في قوله: ﴿مَثَلُ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا إلخ، باتخاذ الأولياء من دون الله و لذا جي‏ء بالموصول و الصلة كما أن العناية في قوله: ﴿كَمَثَلِ اَلْعَنْكَبُوتِ اِتَّخَذَتْ بَيْتاً إلى اتخاذها البيت فيئول المعنى إلى أن صفة المشركين في اتخاذهم من دون الله أولياء كصفة العنكبوت في اتخاذها بيتا له نبأ، و هو الوصف الذي يدل عليه تنكير ﴿بَيْتاً.

و يكون قوله: ﴿إِنَّ أَوْهَنَ اَلْبُيُوتِ لَبَيْتُ اَلْعَنْكَبُوتِ بيانا لصفة البيت الذي أخذته العنكبوت و لم يقل: إن أوهن البيوت لبيتها كما هو مقتضى الظاهر أخذا للجملة بمنزلة المثل السائر الذي لا يتغير.

و المعنى: أن اتخاذهم من دون الله أولياء و هم آلهتهم الذين يتولونهم و يركنون

 

 

 إليهم كاتخاذ العنكبوت بيتا هو أوهن البيوت إذ ليس له من آثار البيت إلا اسمه لا يدفع حرا و لا بردا و لا يكن شخصا و لا يقي من مكروه كذلك ليس لولاية أوليائهم إلا الاسم فقط لا ينفعون و لا يضرون و لا يملكون موتا و لا حياة و لا نشورا.

و مورد المثل هو اتخاذ المشركين آلهة من دون الله، فتبديل الآلهة من الأولياء لكون السبب الداعي لهم إلى اتخاذ الآلهة زعمهم أن لهم ولاية لأمرهم و تدبيرا لشأنهم من جلب الخير إليهم و دفع الشر عنهم و الشفاعة في حقهم.

و الآية - مضافا إلى إيفاء هذه النكتة - تشمل بإطلاقها كل من اتخذ في أمر من الأمور و شأن من الشئون وليا من دون الله يركن إليه و يراه مستقلا في أثره الذي يرجوه منه و إن لم يعد من الأصنام إلا أن يرجع ولايته إلى ولاية الله كولاية الرسول و الأئمة و المؤمنين كما قال تعالى: ﴿وَ مَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَ هُمْ مُشْرِكُونَ: يوسف: ١٠٦.

و قوله: ﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أي لو كانوا يعلمون أن مثلهم كمثل العنكبوت ما اتخذوهم أولياء. كذا قيل.

قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ يمكن أن يكون ﴿مَا في ﴿مَا يَدْعُونَ موصولة أو نافية أو استفهامية أو مصدرية و ﴿مِنْ في ﴿مِنْ شَيْ‏ءٍ على الاحتمال الثاني زائدة للتأكيد و على الباقي للتبيين و أرجح الاحتمالات الأولان و أرجحهما أولهما.

و المعنى: على الثاني أن الله يعلم أنهم ليسوا يدعون من دونه شيئا أي إن الذي يعبدونه من الآلهة لا حقيقة له فيكون كما قال صاحب الكشاف توكيدا للمثل و زيادة عليه حيث لم يجعل ما يدعونه شيئا.

و المعنى: على الأول أن الله يعلم الشي‏ء الذي يدعون من دونه و لا يجهل ذلك فيكون كناية عن أن المثل الذي ضربه في محله، و ليس لأوليائهم من الولاية إلا اسمها.

و يؤكد هذا المعنى الاسمان الكريمان: العزيز الحكيم في آخر الآية فهو تعالى العزيز الذي لا يغلبه شي‏ء فلا يشاركه في تدبير ملكه أحد كما لا يشاركه في الخلق و الإيجاد أحد، الحكيم الذي يأتي بالمتقن من الفعل و التدبير فلا يفوض تدبير خلقه إلى أحد، و هذا كالتمهيد لما سيبين في قوله: ﴿خَلَقَ اَللَّهُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ بِالْحَقِّ.

 

 

قوله تعالى: ﴿وَ تِلْكَ اَلْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَ مَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ اَلْعَالِمُونَ يشير إلى أن الأمثال المضروبة في القرآن على أنها عامة تقرع أسماع عامة الناس، لكن الإشراف على حقيقة معانيها و لب مقاصدها خاصة لأهل العلم ممن يعقل حقائق الأمور و لا ينجمد على ظواهرها.

و الدليل على هذا المعنى قوله: ﴿وَ مَا يَعْقِلُهَا دون أن يقول: و ما يؤمن بها أو ما في معناه.

فالأمثال المضروبة في كلامه تعالى يختلف الناس في تلقيها باختلاف أفهامهم فمن سامع لا حظ له منها إلا تلقي ألفاظها و تصور مفاهيمها الساذجة من غير تعمق فيها و سبر لأغوارها، و من سامع يتلقى بسمعه ما يسمعه هؤلاء ثم يغور في مقاصدها العميقة و يعقل حقائقها الأنيقة.

و فيه تنبيه على أن تمثيل اتخاذهم أولياء من دون الله باتخاذ العنكبوت بيتا هو أوهن البيوت ليس مجرد تمثيل شعري و دعوى خالية من البينة بل متك على حجة برهانية و حقيقة حقة ثابتة و هي التي تشير إليه الآية التالية.

قوله تعالى: ﴿خَلَقَ اَللَّهُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ المراد بكون خلق السماوات و الأرض بالحق نفي اللعب في خلقها، كما قال تعالى: ﴿وَ مَا خَلَقْنَا اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ: الدخان: ٣٩.

فخلق السماوات و الأرض على نظام ثابت لا يتغير و سنة إلهية جارية لا تختلف و لا تتخلف، و الخلق و التدبير لا يختلفان حقيقة و لا ينفك أحدهما عن الآخر[2]، و إذ كان الخلق و الصنع ينتهي إليه تعالى انتهاء ضروريا و لا محيص فالتدبير أيضا له و لا محيص و ما من شي‏ء غيره تعالى إلا و هو مخلوقة القائم به المملوك له لا يملك لنفسه نفعا و لا ضرا، و من المحال قيامه بشي‏ء من تدبير أمر نفسه أو غيره بحيث يستقل به مستغنيا

 في أمره عنه تعالى هذا هو الحق الذي لا لعب فيه و الجد الذي لا هزل فيه.

فلما تولى بعض خلقه أمر بعض لم يكن ذلك منه ولاية حق لكونه لا يملك شيئا بحقيقة معنى الملك بل كان ذلك منه جاريا على اللعب و تفويضه تعالى أمر التدبير إليه لعبا منه تعالى و تقدس إذ ليس إلا فرضا لا حقيقة له و وهما لا واقع له و هو معنى اللعب.

و منه يظهر أن ولاية من يدعون ولايته ليس لها إلا اسم الولاية من غير مسمى كما أن بيت العنكبوت كذلك.

و قوله: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ تخصيص المؤمنين بالذكر مع عموم الآية لهم و لغيرهم لكون المنتفعين بها هم المؤمنون دون غيرهم.

قوله تعالى: ﴿اُتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ اَلْكِتَابِ وَ أَقِمِ اَلصَّلاَةَ إِنَّ اَلصَّلاَةَ تَنْهى‏َ عَنِ اَلْفَحْشَاءِ وَ اَلْمُنْكَرِ وَ لَذِكْرُ اَللَّهِ أَكْبَرُ إلخ، لما ذكر إجمال قصص الأمم و ما انتهى إليه شركهم و ارتكابهم الفحشاء و المنكر من الشقاء اللازم و الخسران الدائم انتقل من ذلك مستأنفا للكلام إلى أمره (ص) بتلاوة ما أوحي إليه من الكتاب لكونه خير رادع عن الشرك و ارتكاب الفحشاء و المنكر بما فيه من الآيات البينات التي تتضمن حججا نيرة على الحق و تشتمل على القصص و العبر و المواعظ و التبشير و الإنذار و الوعد و الوعيد يرتدع بتلاوة آياته تاليه و من سمعه.

و شفعه بالأمر بإقامة الصلاة التي هي خير العمل و علل ذلك بقوله: ﴿إِنَّ اَلصَّلاَةَ تَنْهى‏َ عَنِ اَلْفَحْشَاءِ وَ اَلْمُنْكَرِ و السياق يشهد أن المراد بهذا النهي ردع طبيعة العمل عن الفحشاء و المنكر بنحو الاقتضاء دون العلية التامة.

فلطبيعة هذا التوجه العبادي إذ أتى به العبد و هو يكرره كل يوم خمس مرات و يداوم عليه و خاصة إذا زاول عليه في مجتمع صالح يؤتى فيه بمثل ما أتى به و يهتم فيه بما اهتم به أن يردعه عن كل معصية كبيرة يستشنعه الذوق الديني كقتل النفس عدوانا و أكل مال اليتيم ظلما و الزنا و اللواط، و عن كل ما ينكره الطبع السليم و الفطرة المستقيمة ردعا جامعا بين التلقين و العمل.

و ذلك أنه يلقنه أولا بما فيه من الذكر الإيمان بوحدانيته تعالى و الرسالة و جزاء يوم الجزاء و أن يخاطب ربه بإخلاص العبادة و الاستعانة به و سؤال الهداية إلى صراطه

 

 

 المستقيم متعوذا من غضبه و من الضلال، و يحمله ثانيا على أن يتوجه بروحه و بدنه إلى ساحة العظمة و الكبرياء و يذكر ربه بحمده و الثناء عليه و تسبيحه و تكبيره ثم السلام على نفسه و أترابه و جميع الصالحين من عباد الله.

مضافا إلى حمله إياه على التطهر من الحدث و الخبث في بدنه و الطهارة في لباسه و التحرز عن الغصب في لباسه و مكانه و استقبال بيت ربه فالإنسان لو داوم على صلاته مدة يسيرة و استعمل في إقامتها بعض الصدق أثبت ذلك في نفسه ملكة الارتداع عن الفحشاء و المنكر البتة، و لو أنك وكلت على نفسك من يربيها تربية صالحة تصلح بها لهذا الشأن و تتحلى بأدب العبودية لم يأمرك بأزيد مما تأمرك به الصلاة و لا روضك بأزيد مما تروضك به.

و قد استشكل على الآية بأنا كثيرا ما نجد من المصلين من لا يبالي ارتكاب الكبائر و لا يرتدع عن المنكرات فلا تنهاه صلاته عن الفحشاء و المنكر.

و لذلك ذكر بعضهم أن الصلاة في الآية بمعنى الدعاء و المراد الدعوة إلى أمر الله و المعنى: أقم الدعوة إلى أمر الله فإن ذلك يردع الناس عن الفحشاء و المنكر. و فيه أنه صرف الكلام عن ظاهره.

و ذكر آخرون أن الصلاة في الآية في معنى النكرة و المعنى أن بعض أنواع الصلاة أو أفرادها يوجب الانتهاء عن الفحشاء و المنكر و هو كذلك و ليس المراد الاستغراق حتى يرد الإشكال.

و ذكر قوم أن المراد نهيها عن الفحشاء و المنكر ما دامت قائمة و المصلي في صلاته كأنه قيل: إن المصلي ما دام مصليا في شغل من معصية الله بإتيان الفحشاء و المنكر.

و قال بعضهم: إن الآية على ظاهرها و الصلاة بمنزلة من ينهى و يقول: لا تفعل كذا و لا تقترف كذا لكن النهي لا يستوجب الانتهاء فليس نهي الصلاة بأعظم من نهيه تعالى كما في قوله: ﴿إِنَّ اَللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ اَلْإِحْسَانِ وَ إِيتَاءِ ذِي اَلْقُرْبى‏َ وَ يَنْهى‏َ عَنِ اَلْفَحْشَاءِ وَ اَلْمُنْكَرِ: النحل: ٩٠ و نهيه تعالى لا يستوجب الانتهاء و ليس الإشكال إلا مبنيا على توهم استلزام النهي للانتهاء و هو توهم باطل.

و عن بعضهم في دفع الإشكال أن الصلاة تقام لذكر الله كما قال تعالى: ﴿أَقِمِ

 

 

 اَلصَّلاَةَ لِذِكْرِي و من كان ذاكرا لله تعالى منعه ذلك عن الإتيان بما يكرهه و كل من تراه يصلي و يأتي بالفحشاء و المنكر فهو بحيث لو لم يصل لكان أشد إتيانا فقد أثرت الصلاة في تقليل فحشائه و منكره.

و أنت خبير بأن شيئا من هذه الأجوبة لا يلائم سياق الحكم و التعليل في الآية فإن الذي يعطيه السياق أن الأمر بإقامة الصلاة إنما علل بقوله: ﴿إِنَّ اَلصَّلاَةَ تَنْهى‏َ عَنِ اَلْفَحْشَاءِ وَ اَلْمُنْكَرِ ليفيد أن الصلاة عمل عبادي يورث إقامته صفة روحية في الإنسان تكون رادعة له عن الفحشاء و المنكر فتتنزه النفس عن الفحشاء و المنكر و تتطهر عن قذارة الذنوب و الآثام.

فالمراد به التوسل إلى ملكة الارتداع التي هي من آثار طبيعة الصلاة بنحو الاقتضاء لا أنها أثر بعض أفراد طبيعة الصلاة كما في الجواب الثاني، و لا أنها أثر الاشتغال بالصلاة ما دام مشتغلا بها كما في الجواب الثالث، و لا أن المراد هو التوسل إلى تلقي نهي الصلاة فحسب من غير نظر إلى الانتهاء عن نهيها كأنه قيل أقم الصلاة لتسمع نهيها كما في الجواب الرابع، و لا أن المراد أقم الصلاة لينهاك الذكر الذي تشتمل عليه عن الفحشاء و المنكر كما في الجواب الخامس.

فالحق في الجواب أن الردع أثر طبيعة الصلاة التي هي توجه خاص عبادي إلى الله سبحانه و هو بنحو الاقتضاء دون الاستيجاب و العلية التامة فربما تخلف عن أثرها لمقارنة بعض الموانع التي تضعف الذكر و تقربه من الغفلة و الانصراف عن حاق الذكر فكلما قوي الذكر و كمل الحضور و الخشوع و تمحض الإخلاص زاد أثر الردع عن الفحشاء و المنكر و كلما ضعف ضعف الأثر.

و أنت إذا تأملت حال بعض من تسمى بالإسلام من الناس و هو تارك الصلاة وجدته يضيع بإضاعة الصلاة فريضة الصوم و الحج و الزكاة و الخمس و عامة الواجبات الدينية و لا يفرق بين طاهر و نجس و حلال و حرام فيذهب لوجهه لا يلوي على شي‏ء ثم إذا قست إليه حال من يأتي بأدنى مراتب الصلاة مما يسقط به التكليف، وجدته مرتدعا عن كثير مما يقترفه تارك الصلاة غير مكترث به ثم إذا قست إليه من هو فوقه في الاهتمام بأمر الصلاة وجدته أكثر ارتداعا منه و على هذا القياس.

 

 

 و قوله: ﴿وَ لَذِكْرُ اَللَّهِ أَكْبَرُ قال الراغب في المفردات:، الذكر تارة يقال و يراد به هيئة للنفس بها يمكن للإنسان أن يحفظ ما يقتنيه من المعرفة و هو كالحفظ إلا أن الحفظ يقال اعتبارا بإحرازه و الذكر يقال اعتبارا باستحضاره. و تارة يقال لحضور الشي‏ء القلب أو القول و لذلك قيل: الذكر ذكران ذكر عن نسيان و ذكر لا عن نسيان بل عن إدامة الحفظ، و كل قول يقال له ذكر. انتهى.

و الظاهر أن الأصل في معناه هو المعنى الأول و تسمية اللفظ ذكرا إنما هو لاشتماله على المعنى القلبي و الذكر القلبي بالنسبة إلى اللفظي كالأثر المترتب على سببه و الغاية المقصودة من الفعل.

و الصلاة تسمى ذكرا لاشتمالها على الأذكار القولية من تهليل و تحميد و تنزيه و هي باعتبار آخر مصداق من مصاديق الذكر لأنها بمجموعها ممثل لعبودية العبد لله سبحانه كما قال: ﴿إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ اَلْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى‏َ ذِكْرِ اَللَّهِ: الجمعة: ٩ و هي باعتبار آخر أمر يترتب عليه الذكر ترتب الغاية على ذي الغاية يشير إليه قوله تعالى:

﴿وَ أَقِمِ اَلصَّلاَةَ لِذِكْرِي: طه: ١٤.

و الذكر الذي هو غاية مترتبة على الصلاة أعني الذكر القلبي بمعنى استحضار المذكور في ظرف الإدراك بعد غيبته نسيانا أو إدامة استحضاره، أفضل عمل يتصور صدوره عن الإنسان و أعلاه كعبا و أعظمه قدرا و أثرا فإنه السعادة الأخيرة التي هيئت للإنسان و مفتاح كل خير.

ثم إن الظاهر من سياق قوله: ﴿وَ أَقِمِ اَلصَّلاَةَ إِنَّ اَلصَّلاَةَ تَنْهى‏َ عَنِ اَلْفَحْشَاءِ وَ اَلْمُنْكَرِ إن قوله: ﴿وَ لَذِكْرُ اَللَّهِ أَكْبَرُ متصل به مبين لأثر آخر للصلاة و هو أكبر مما بين قبله، فيقع قوله: ﴿وَ لَذِكْرُ اَللَّهِ أَكْبَرُ موقع الإضراب و الترقي و يكون المراد الذكر القلبي الذي يترتب على الصلاة ترتب الغاية على ذي الغاية فكأنه قيل: أقم الصلاة لتردعك عن الفحشاء و المنكر بل الذي تفيده من ذكر الله الحاصل بها أكبر من ذلك أي من النهي عن الفحشاء و المنكر لأنه أعظم ما يناله الإنسان من الخير و هو مفتاح كل خير و النهي عن الفحشاء و المنكر بعض الخير.

و من المحتمل أن يراد بالذكر ما تشتمل عليه الصلاة من الذكر أو نفس الصلاة.

 

 

و الجملة أيضا واقعة موقع الإضراب، و المعنى: بل الذي تشتمل عليه الصلاة من ذكر الله أو نفس الصلاة التي هي ذكر الله أكبر من هذا الأثر الذي هو النهي عن الفحشاء و المنكر لأن النهي أثر من آثارها الحسنة و ﴿لَذِكْرُ اَللَّهِ على الاحتمالين جميعا من المصدر المضاف إلى مفعوله و المفضل عليه لقوله: ﴿أَكْبَرُ هو النهي عن الفحشاء و المنكر.

و لهم في معنى الذكر و كون المضاف إليه فاعلا أو مفعولا للمصدر و كون المفضل عليه خاصا أو عاما أقوال أخر.

فقيل: معنى الآية: ذكر الله العبد أكبر من ذكر العبد لله تعالى و ذلك أن الله تعالى يذكر من ذكره لقوله: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ: البقرة: ١٥٢ و قيل: المعنى:

ذكر الله تعالى العبد أكبر من الصلاة، و قيل: المعنى: لذكر الله العبد أكبر من كل شي‏ء.

و قيل: المعنى: لذكر العبد لله في الصلاة أكبر من سائر أركان الصلاة، و قيل:

المعنى: لذكر العبد لله في الصلاة أكبر من ذكره خارج الصلاة، و قيل: المعنى: لذكر العبد لله أكبر من سائر أعماله، و قيل: المعنى: للصلاة أكبر من سائر الطاعات و قيل: المعنى: لذكر العبد لله عند الفحشاء و المنكر و ذكر نهيه عنهما أكبر من زجر الصلاة و ردعها، و قيل: إن قوله: ﴿أَكْبَرُ معرى من معنى التفضيل لا يحتاج إلى مفضل عليه كقوله: ﴿مَا عِنْدَ اَللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اَللَّهْوِ.

فهذه أقوال لهم متفرقة أغمضنا عن البحث عما فيها إيثارا للاختصار، و التدبر في الآية يكفي مئونة البحث على أن التحكم في بعضها ظاهر لا يخفى.

و قوله: ﴿وَ اَللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ أي ما تفعلونه من خير أو شر فعليكم أن تراقبوه و لا تغفلوا عنه ففيه حث و تحريض على المراقبة و خاصة على القول الأول.

قوله تعالى: ﴿وَ لاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ اَلْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ لما أمر في قوله: ﴿اُتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ إلخ، بالتبليغ و الدعوة من طريق تلاوة الكتاب عقبه ببيان كيفية الدعوة فنهى عن مجادلة أهل الكتاب و هم على ما يقتضيه الإطلاق اليهود و النصارى و يلحق بهم المجوس و الصابئون إلا بالمجادلة التي هي أحسن المجادلة.

و المجادلة إنما تحسن إذا لم تتضمن إغلاظا و طعنا و إهانة، فمن حسنها أن تقارن

 

 

 رفقا و لينا في القول لا يتأذى به الخصم و أن يقترب المجادل من خصمه و يدنو منه حتى يتفقا و يتعاضدا لإظهار الحق من غير لجاج و عناد فإذا اجتمع فيها لين الكلام و الاقتراب بوجه زادت حسنا على حسن فكانت أحسن.

و لهذا لما نهى عن مجادلتهم إلا بالتي هي أحسن استثنى منه الذين ظلموا منهم، فإن المراد بالظلم بقرينة السياق كون الخصم بحيث لا ينفعه الرفق و اللين و الاقتراب في المطلوب بل يتلقى حسن الجدال نوع مذلة و هوان للمجادل و يعتبره تمويها و احتيالا لصرفه عن معتقده فهؤلاء الظالمون لا ينجح معهم المجادلة بالأحسن.

و لهذا أيضا عقب الكلام ببيان كيفية الاقتراب معهم و بناء المجادلة على كلمة يجتمع فيها الخصمان فيتقاربان معه و يتعاضدان على ظهور الحق فقال: ﴿وَ قُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَ أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَ إِلَهُنَا وَ إِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ﴿وَ كَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ اَلْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ اَلْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ مِنْ هَؤُلاَءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَ مَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ اَلْكَافِرُونَ أي على تلك الصفة و هي الإسلام لله و تصديق كتبه و رسله أنزلنا إليك القرآن.

و قيل: المعنى: مثل ما أنزلنا إلى موسى و عيسى الكتاب أنزلنا إليك الكتاب و هو القرآن.

فقوله: ﴿فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ اَلْكِتَابَ إلخ، تفريع على نحو نزول الكتاب أي لما كان القرآن نازلا في الإسلام لله و تصديق كتبه و رسله فأهل الكتاب يؤمنون به بحسب الطبع لما عندهم من الإيمان بالله و تصديق كتبه و رسله، و من هؤلاء و هم المشركون من عبدة الأوثان من يؤمن به و ما يجحد بآياتنا و لا ينكرها من أهل الكتاب و هؤلاء المشركين إلا الكافرون و هم الساترون للحق بالباطل.

و قد احتمل أن يكون المراد بالذين آتيناهم الكتاب المسلمين و المشار إليه بهؤلاء أهل الكتاب و هو بعيد، و مثله في البعد إرجاع الضمير في «يؤمن به» إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) .

و في قوله: ﴿وَ مِنْ هَؤُلاَءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ نوع استقلال لمن آمن به من المشركين.

قوله تعالى: ﴿وَ مَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَ لاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَرْتَابَ اَلْمُبْطِلُونَ التلاوة هي القراءة سواء كانت عن حفظ أو عن كتاب مخطوط و المراد به

 

 

 في الآية الثاني بقرينة المقام، و الخط الكتابة، و المبطلون جمع مبطل و هو الذي يأتي بالباطل من القول، و يقال أيضا للذي يبطل الحق أي يدعي بطلانه، و الأنسب في الآية المعنى الثاني و إن جاز أن يراد المعنى الأول.

و ظاهر التعبير في قوله: ﴿وَ مَا كُنْتَ تَتْلُوا إلخ، نفي العادة أي لم يكن من عادتك أن تتلو و تخط كما يدل عليه قوله في موضع آخر: ﴿فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ: يونس: ١٦.

و قيل المراد به نفي القدرة أي ما كنت تقدر أن تتلو و تخط من قبله و الوجه الأول أنسب بالنسبة إلى سياق الحجة و قد أقامها لتثبيت حقية القرآن و نزوله من عنده.

و تقييد قوله: ﴿وَ لاَ تَخُطُّهُ بقوله: ﴿بِيَمِينِكَ نوع من التمثيل يفيد التأكيد كقول القائل: رأيته بعيني و سمعته بأذني.

و المعنى: و ما كان من عادتك قبل نزول القرآن أن تقرأ كتابا و لا كان من عادتك أن تخط كتابا و تكتبه - أي ما كنت تحسن القراءة و الكتابة لكونك أميا و لو كان كذلك لارتاب هؤلاء المبطلون الذين يبطلون الحق بدعوى أنه باطل لكن لما لم تحسن القراءة و الكتابة و استمرت على ذلك و عرفوك على هذه الحال لمخالطتك لهم و معاشرتك معهم لم يبق محل ريب لهم في أمر القرآن النازل إليك أنه كلام الله تعالى و ليس تلفيقا لفقته من كتب السابقين و نقلته من أقاصيصهم و غيرهم حتى يرتاب المبطلون و يعتذروا به.

قوله تعالى: ﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ وَ مَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ اَلظَّالِمُونَ إضراب عن مقدر يستفاد من الآية السابقة كأنه لما نفى عنه (ص) التلاوة و الخط معا تحصل من ذلك أن القرآن ليس بكتاب مؤلف مخطوط فأضرب عن هذا المقدر بقوله: ﴿بَلْ هُوَ أي القرآن ﴿آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ.

و قوله: ﴿وَ مَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ اَلظَّالِمُونَ المراد بالظلم بقرينة المقام الظلم لآيات الله بتكذيبها و الاستكبار عن قبولها عنادا و تعنتا.

قوله تعالى: ﴿وَ قَالُوا لَوْ لاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا اَلْآيَاتُ عِنْدَ اَللَّهِ وَ إِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ لما ذكر الكتاب و أمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يتلوه و يدعوهم إليه به و أن منهم

 

 

 من يؤمن به و منهم من لا يؤمن به و هم الكافرون الظالمون أشار في هذه الآية و الآيتين بعدها إلى عدم اعتنائهم بالقرآن الذي هو آية النبوة و اقتراحهم على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يأتيهم بآيات غيره و الجواب عنه.

فقوله: ﴿وَ قَالُوا لَوْ لاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ اقتراح منهم أن يأتيهم بآيات غير القرآن تعريضا منهم أنه ليس بآية و زعما منهم أن النبي يجب أن يكون ذا قوة إلهية غيبية يقوى على كل ما يريد، و في قولهم: لو لا أنزل عليه، دون أن يقولوا: لو لا يأتينا بآيات نوع سخرية كقولهم: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ اَلذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلاَئِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصَّادِقِينَ: الحجر: ٧.

و قوله: ﴿قُلْ إِنَّمَا اَلْآيَاتُ عِنْدَ اَللَّهِ جواب عن زعمهم أن من يدعي الرسالة يدعي قوة غيبية يقدر بها على كل ما أراد بأن الآيات عند الله ينزلها متى ما أراد و كيفما شاء لا يشاركه في القدرة عليها غيره فليس إلى النبي شي‏ء إلا أن يشاء الله ثم زاده بيانا بقصر شأن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في الإنذار فحسب بقوله: ﴿إِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ.

قوله تعالى: ﴿أَ وَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ اَلْكِتَابَ يُتْلى‏َ عَلَيْهِمْ إلى آخر الآية توطئة و تمهيد للجواب عن تعريضهم بالقرآن أنه ليس بآية، و الاستفهام للإنكار و الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أي يكفيهم آية هذا الكتاب الذي أنزلناه عليك و هو يتلى عليهم فيسمعونه و يعرفون مكانته من الإعجاز و هو مملو رحمة و تذكرة للمؤمنين.

قوله تعالى: ﴿قُلْ كَفى‏َ بِاللَّهِ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ شَهِيداً إلقاء جواب إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ليجيبهم به و هو أن الله سبحانه شهيد بيني و بينكم فيما نتخاصم فيه و هو أمر الرسالة فإنه سبحانه يشهد في كلامه الذي أنزله علي برسالتي و هو تعالى يعلم ما في السماوات و الأرض من غير أن يجهل شيئا و كفى بشهادته لي دليلا على دعواي.

و ليس لهم أن يقولوا إنه ليس بكلام الله لمكان تحديه مرة بعد مرة في خلال الآيات و منه يعلم أن قوله: ﴿قُلْ كَفى‏َ بِاللَّهِ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ شَهِيداً ليس دعوى مجردة أو كلاما خطابيا بل هو بيان استدلالي و حجة قاطعة على ما عرفت.

و قوله: ﴿وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَ كَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ اَلْخَاسِرُونَ قصر الخسران فيهم لعدم إيمانهم بالله بالكفر بكتابه الذي فيه شهادته على الرسالة و هم بكفرهم بالله

 

 

 الحق يؤمنون بالباطل و لذلك خسروا في إيمانهم.

قوله تعالى: ﴿وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَ لَوْ لاَ أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ اَلْعَذَابُ وَ لَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَ هُمْ لاَ يَشْعُرُونَ إشارة إلى قولهم كقول متقدميهم: ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين، و قد حكى الله عنهم استعجالهم في قوله: ﴿وَ لَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ اَلْعَذَابَ إِلى‏َ أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ: هود: ٨.

و المراد بالأجل المسمى هو الذي قضاه لبني آدم حين أهبط آدم إلى الأرض فقال:

﴿وَ لَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتَاعٌ إِلى‏َ حِينٍ: البقرة: ٣٦ و قال: ﴿وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَ لاَ يَسْتَقْدِمُونَ: الأعراف: ٣٤.

و هذا العذاب الذي يحول بينه و بينهم الأجل المسمى هو الذي يستحقونه لمطلق أعمالهم السيئة كما قال عز من قائل: ﴿وَ رَبُّكَ اَلْغَفُورُ ذُو اَلرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ اَلْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً: الكهف: ٥٨ و لا ينافي ذلك تعجيل العذاب بنزول الآيات المقترحة على الرسول من غير إمهال و إنظار، قال تعالى: ﴿وَ مَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا اَلْأَوَّلُونَ: إسراء: ٥٩.

قوله تعالى: ﴿يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ يَوْمَ يَغْشَاهُمُ اَلْعَذَابُ إلى آخر الآية، تكرار ﴿يَسْتَعْجِلُونَكَ للدلالة على كمال جهلهم و فساد فهمهم و أن استعجالهم استعجال لأمر مؤجل لا معجل أولا و استعجال لعذاب واقع لا صارف له عنهم لأنهم مجزيون بأعمالهم التي لا تفارقهم ثانيا.

و الغشاوة و الغشاية التغطية بنحو الإحاطة، و قوله: ﴿يَوْمَ يَغْشَاهُمُ ظرف لقوله:

﴿لَمُحِيطَةٌ و الباقي ظاهر.

(بحث روائي)

في المجمع،: في قوله تعالى: ﴿وَ مَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ اَلْعَالِمُونَ: روى الواحدي بالإسناد عن جابر قال: تلا النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) هذه الآية و قال: العالم الذي يعقل عن الله فعمل بطاعته و اجتنب سخطه.

 

 

 و فيه،: في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَلصَّلاَةَ تَنْهىَ عَنِ اَلْفَحْشَاءِ وَ اَلْمُنْكَرِ: روى أنس بن مالك عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : من لم تنهه صلاته عن الفحشاء و المنكر لم يزدد من الله إلا بعدا:

أقول: و رواه في الدر المنثور، عن عمران بن الحصين و ابن مسعود و ابن عباس و ابن عمر عنه (ص) و رواه القمي في تفسيره مضمرا مرسلا.

 و فيه، و أيضا عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : لا صلاة لمن لم تطع الصلاة و طاعة الصلاة أن تنتهي عن الفحشاء و المنكر:

أقول: و رواه في الدر المنثور، عن ابن مسعود و غيره. و فيه، و روى أنس: أن فتى من الأنصار كان يصلي الصلوات مع رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و يرتكب الفواحش فوصف ذلك لرسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال: إن صلاته تنهاه يوما ما.

و فيه، روى أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : من أحب أن يعلم قبلت صلاته أم لم تقبل، فلينظر هل منعته صلاته عن الفحشاء و المنكر فبقدر ما منعته قبلت صلاته.

 و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: ﴿وَ لَذِكْرُ اَللَّهِ أَكْبَرُ: في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: ﴿وَ لَذِكْرُ اَللَّهِ أَكْبَرُ يقول: ذكر الله لأهل الصلاة أكبر من ذكرهم إياه أ لا ترى أنه يقول: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ.

 أقول: و هذا أحد المعاني التي تقدم نقلها.

و في نور الثقلين، عن مجمع البيان، و روى أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ذكر الله عند ما أحل و حرم.

 و فيه، عن معاذ بن جبل قال: سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: أن تموت و لسانك رطب من ذكر الله عز و جل.

 و فيه، و قال (ص): يا معاذ إن السابقين الذين يسهرون بذكر الله عز و جل و من أحب أن يرتع في رياض الجنة فليكثر من ذكر الله عز و جل.

 و في الكافي، بإسناده عن العبدي عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز و جل: ﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ قال: هم الأئمة.

 أقول: و هذا المعنى مروي في الكافي، و في بصائر الدرجات، بعدة طرق: و هو من الجري بمعنى انطباق الآية على أكمل المصاديق بدليل الرواية الآتية.

 

 

 و في البصائر، بإسناده عن بريد بن معاوية عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت له:

﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ فقال: أنتم هم من عسى أن يكونوا؟.

 و في الدر المنثور، أخرج الإسماعيلي في معجمه و ابن مردويه من طريق يحيى بن جعدة عن أبي هريرة قال *: كان ناس من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يكتبون من التوراة فذكروا ذلك لرسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال: إن أحمق الحمق و أضل الضلالة قوم رغبوا عما جاء به نبيهم إلى نبي غير نبيهم و إلى أمة غير أمتهم ثم أنزل الله: ﴿أَ وَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ اَلْكِتَابَ يُتْلى‏ عَلَيْهِمْ الآية. و فيه، أخرج ابن عساكر عن ابن أبي مليكة قال ":أهدى عبد الله بن عامر بن كريز إلى عائشة هدية فظنت أنه عبد الله بن عمر فردتها و قالت: يتتبع الكتب و قد قال الله: ﴿أَ وَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ اَلْكِتَابَ يُتْلىَ عَلَيْهِمْ فقيل لها: إنه عبد الله بن عامر فقبلها. أقول: ظاهر الروايتين و خاصة الأولى الآية في بعض الصحابة و سياق الآيات يأبى ذلك.

[سورة العنكبوت (٢٩): الآیات ٥٦ الی ٦٠]

﴿يَا عِبَادِيَ اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ ٥٦ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ اَلْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ٥٧ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ اَلْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ اَلْعَامِلِينَ ٥٨ اَلَّذِينَ صَبَرُوا وَ عَلى‏ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ٥٩ وَ كَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لاَ تَحْمِلُ رِزْقَهَا اَللَّهُ يَرْزُقُهَا وَ إِيَّاكُمْ وَ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ ٦٠

 

 

 (بيان)

لما استفرغ الكلام في توبيخ من ارتد عن دينه من المؤمنين خوف الفتنة عطف الكلام على بقية المؤمنين ممن استضعفه المشركون بمكة و كانوا يهددونهم بالفتنة و العذاب فأمرهم أن يصبروا و يتوكلوا على ربهم و أن يهاجروا منها إن أشكل عليهم أمر الدين و إقامة فرائضه، و أن لا يخافوا أمر الرزق فإن الرزق على الله سبحانه و هو يرزقهم إن ارتحلوا و هاجروا كما كان يرزقهم في مقامهم.

قوله تعالى: ﴿يَا عِبَادِيَ اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ توجيه للخطاب إلى المؤمنين الذين وقعوا في أرض الكفر لا يقدرون على التظاهر بالدين الحق و الاستنان بسنته و يدل على ذلك ذيل الآية.

و قوله: ﴿إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ الذي يظهر من السياق أن المراد بالأرض هذه الأرض التي نعيش عليها و إضافتها إلى ضمير التكلم للإشارة إلى أن جميع الأرض لا فرق عنده في أن يعبد في أي قطعة منها كانت، و وسعة الأرض كناية عن أنه إن امتنع في ناحية من نواحيها أخذ الدين الحق و العمل به فهناك نواح غيرها لا يمتنع فيها ذلك فعبادته تعالى وحده ليست بممتنعة على أي حال.

و قوله: ﴿فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ الفاء الأولى للتفريع على سعة الأرض أي إذا كان كذلك فاعبدوني وحدي و الفاء الثانية فاء الجزاء للشرط المحذوف المدلول عليه بالكلام و الظاهر أن تقديم «إياي» لإفادة الحصر فيكون قصر قلب و المعنى: لا تعبدوا غيري بل اعبدوني، و قوله: ﴿فَاعْبُدُونِ قائم مقام الجزاء.

و محصل المعنى: أن أرضي واسعة إن امتنع عليكم عبادتي في ناحية منها تسعكم لعبادتي أخرى منها فإذا كان كذلك فاعبدوني وحدي و لا تعبدوا غيري فإن لم يمكنكم عبادتي في قطعة منها فهاجروا إلى غيرها و اعبدوني وحدي فيها.

قوله تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ اَلْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ الآية تأكيد للأمر السابق في قوله: ﴿فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ و كالتوطئة لقوله الآتي: ﴿اَلَّذِينَ صَبَرُوا إلخ.

و قوله: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ اَلْمَوْتِ من الاستعارة بالكناية و المراد أن كل نفس

 

 

 ستموت لا محالة، و الالتفات في قوله: ﴿ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ من سياق التكلم وحده إلى سياق التكلم مع الغير للدلالة على العظمة.

و محصل المعنى: أن الحياة الدنيا ليست إلا أياما قلائل و الموت وراءه ثم الرجوع إلينا للحساب فلا يصدنكم زينة الحياة الدنيا و هي زينة فانية عن التهيؤ للقاء الله بالإيمان و العمل ففيه السعادة الباقية و في الحرمان منه هلاك مؤبد مخلد.

قوله تعالى: ﴿وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ اَلْجَنَّةِ غُرَفاً إلخ، بيان لأجر الإيمان و العمل الصالح بعد الموت و الرجوع إلى الله و فيه حث و ترغيب للمؤمنين على الصبر في الله و التوكل على الله، و التبوئة الإنزال على وجه الإقامة، و الغرف‏ جمع غرفة و هي في الدار، العلية العالية.

و قد بين تعالى أولا ثواب الذين آمنوا و عملوا الصالحات ثم سماهم عاملين إذ قال:

﴿نِعْمَ أَجْرُ اَلْعَامِلِينَ ثم فسر العاملين بقوله: ﴿اَلَّذِينَ صَبَرُوا وَ عَلى‏َ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ فعاد بذلك الصبر و التوكل سمة خاصة للمؤمنين فدل بذلك كله أن المؤمن إنما يرضى عن إيمانه إذا صبر في الله و توكل عليه، فعلى المؤمن أن يصبر في الله على كل أذى و جفوة ما يجد إلى العيشة الدينية سبيلا فإذا تعذرت عليه إقامة مراسم الدين في أرضه فليخرج و ليهاجر إلى أرض غيرها و ليصبر على ما يصيبه من التعب و العناء في الله.

قوله تعالى: ﴿اَلَّذِينَ صَبَرُوا وَ عَلى‏َ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ وصف للعالمين، و الصبر أعم من الصبر عند المصيبة و الصبر على الطاعة و الصبر على المعصية، و إن كان المورد مورد الصبر عند المصيبة فهو المناسب لحال المؤمنين بمكة المأمورين بالهجرة.

قوله تعالى: ﴿وَ كَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لاَ تَحْمِلُ رِزْقَهَا اَللَّهُ يَرْزُقُهَا وَ إِيَّاكُمْ وَ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ كأين للتكثير، و حمل الرزق‏ هو ادخاره كما يفعله الإنسان و النمل و الفأر و النحل من سائر الحيوان.

و في الآية تطييب لنفس المؤمنين و تقوية لقلوبهم أنهم لو هاجروا في الله أتاهم رزقهم أينما كانوا و لا يموتون جوعا فرازقهم ربهم دون أوطانهم، يقول: و كثير من

 

 

 الدواب لا رزق مدخر لها يرزقها الله و يرزقكم معاشر الآدميين الذين يدخرون الأرزاق و هو السميع العليم.

و في تذييل الآية بالاسمين الكريمين السميع العليم إشارة إلى الحجة على مضمونها و هو أن الإنسان و سائر الدواب محتاجون إلى الرزق يسألون الله ذلك بلسان حاجتهم إليه و الله سبحانه سميع للدعاء عليم بحوائج خلقه و مقتضى الاسمين الكريمين أن يرزقهم.

(بحث روائي)

 في تفسير القمي، و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله تعالى:

﴿يَا عِبَادِيَ اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ يقول: لا تطيعوا أهل الفسق من الملوك فإن خفتموهم أن يفتنوكم عن دينكم فإن أرضي واسعة، و هو يقول: ﴿فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي اَلْأَرْضِ فقال: ﴿أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اَللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا.

 و في المجمع:، و قال أبو عبد الله (عليه السلام): معناه إذا عصي الله في أرض أنت بها فاخرج منها إلى غيرها.

 و في العيون، بإسناده إلى الرضا (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): لما نزلت ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ قلت: يا رب أ يموت الخلائق كلهم و يبقى الأنبياء؟ فنزلت ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ اَلْمَوْتِ:

أقول: و رواه أيضا في الدر المنثور، عن ابن مردويه عن علي، و لا يخلو متنه عن شي‏ء فإن قوله: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ يخبر عن موته (ص) و موت سائر الناس، و كان (ص) يعلم أن الأنبياء المتقدمين عليه ماتوا فلا معنى لقوله: أ يموت الخلائق كلهم و يبقى الأنبياء.

 و في الجمع، عن عطاء عن ابن عمر قال: خرجنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) حتى دخلنا بعض حيطان الأنصار فجعل يلتقط من التمر و يأكل فقال لي: يا ابن عمر ما لك لا تأكل؟ فقلت: لا أشتهيه يا رسول الله. قال: أنا أشتهيه و هذه صبح رابعة منذ لم أذق طعاما و لو شئت لدعوت ربي فأعطاني مثل ملك كسرى و قيصر فكيف بك يا ابن عمر

 

 

 إذا بقيت مع قوم يخبئون رزق سنتهم لضعف اليقين فوالله ما برحنا حتى نزلت ﴿وَ كَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لاَ تَحْمِلُ رِزْقَهَا اَللَّهُ يَرْزُقُهَا وَ إِيَّاكُمْ وَ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ أقول: و قد روى الرواية في الدر المنثور، و ضعف سندها و هي مع ذلك لا تلائم وقوع الآية في سياق ما تقدمها.

[سورة العنكبوت (٢٩): الآیات ٦١ الی ٦٩]

﴿وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ سَخَّرَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اَللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ٦١ اَللَّهُ يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَ يَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اَللَّهَ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ ٦٢ وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ اَلْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اَللَّهُ قُلِ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ٦٣ وَ مَا هَذِهِ اَلْحَيَاةُ اَلدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَ لَعِبٌ وَ إِنَّ اَلدَّارَ اَلْآخِرَةَ لَهِيَ اَلْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ٦٤ فَإِذَا رَكِبُوا فِي اَلْفُلْكِ دَعَوُا اَللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى اَلْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ٦٥ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَ لِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ٦٦ أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَ يُتَخَطَّفُ اَلنَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَ فَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَ بِنِعْمَةِ اَللَّهِ يَكْفُرُونَ ٦٧ وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ اِفْتَرى‏ عَلَى اَللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكَافِرِينَ ٦٨ وَ اَلَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَ إِنَّ اَللَّهَ لَمَعَ اَلْمُحْسِنِينَ ٦٩

 

 

(بيان)

الآيات تصرف الخطاب عن المؤمنين إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و هو في المعنى خطاب عام يشمل الجميع و إن كان في اللفظ خاصا به (ص) لأن الحجج المذكورة فيها مما يناله الجميع.

و الآيات تذكر مناقضات في آراء المشركين فيما ألقي في الفصل السابق على المؤمنين فآمنوا به فإنهم يعترفون أن خالق السماوات و الأرض و مدبر الشمس و القمر و عليهما مدار الأرزاق هو الله و أن منزل الماء من السماء و محيي الأرض بعد موتها هو الله سبحانه ثم يدعون غيره ليرزقهم و هم يعبدونه تعالى إذا ركبوا البحر ثم إذا أنجاهم عبدوا غيره و يقيمون في حرم آمن و هو نعمة لهم فيؤمنون بالباطل و يجحدون الحق و يكفرون بنعمة الله.

و ما ختمت به السورة من قوله: ﴿وَ اَلَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا يلائم ما في مفتتح السورة ﴿أَ حَسِبَ اَلنَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لاَ يُفْتَنُونَ إلى أن قال ﴿وَ مَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إلخ.

قوله تعالى: ﴿وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ سَخَّرَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اَللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾.

خلق السماوات و الأرض من الإيجاد و تسخير الشمس و القمر و ذلك بتحويل حالاتهما بالطلوع و الغروب و القرب و البعد من الأرض من التدبير الذي يتفرع عليه كينونة أرزاق الإنسان و سائر الحيوان و هذا الخلق و التدبير لا ينفك أحدهما عن الآخر فمن اعترف بأحدهما فليعترف بالآخر.

و إذا كان الله هو الخالق و بيده تدبير السماوات و يتبعه تدبير الأرض و كينونة الأرزاق كان هو الذي يجب أن يدعى للرزق و سائر التدبير فمن العجب حينئذ أن يصرف عنه الإنسان إلى غيره ممن لا يملك شيئا و هو قوله: ﴿فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ أي فإذا كان الخلق و تدبير الشمس و القمر إليه تعالى فكيف يصرف هؤلاء إلى دعوة غيره من الأصنام و عبادته.

قوله تعالى: ﴿اَللَّهُ يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَ يَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اَللَّهَ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ

 

 

 عَلِيمٌ في الآية تصريح بما تلوح إليه الآية السابقة، و القدر التضييق و يقابله البسط و المراد به لازم معناه و هو التوسعة، و وضع الظاهر موضع المضمر في قوله: ﴿إِنَّ اَللَّهَ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ للدلالة على تعليل الحكم، و المعنى: و هو بكل شي‏ء عليم لأنه الله.

و المعنى: الله يوسع الرزق على من يشاء من عباده و يضيقه على من يشاء و لا يشاء إلا على طبق المصلحة لأنه بكل شي‏ء عليم لأنه الله الذي هو الذات المستجمع لجميع صفات الكمال.

قوله تعالى: ﴿وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ اَلْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا إلى قوله ﴿لاَ يَعْقِلُونَ المراد بإحياء الأرض بعد موتها إنبات النبات في الربيع.

و قوله: ﴿قُلِ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ أي احمد الله على تمام الحجة عليهم باعترافهم بأن الله هو المدبر لأمر خلقه فلزمهم أن يعبدوه دون غيره من الأصنام و أرباب الأصنام.

و قوله: ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ أي لا يتدبرون الآيات و لا يحكمون العقول حتى يعرفوا الله و يميزوا الحق من الباطل فهم لا يعقلون حق التعقل.

قوله تعالى: ﴿وَ مَا هَذِهِ اَلْحَيَاةُ اَلدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَ لَعِبٌ وَ إِنَّ اَلدَّارَ اَلْآخِرَةَ لَهِيَ اَلْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ اللهو ما يلهيك و يشغلك عما يهمك فالحياة الدنيا من اللهو لأنها تلهي الإنسان و تشغله بزينتها المزوقة الفانية عن الحياة الخالدة الباقية.

و اللعب‏ فعل أو أفعال منتظمة انتظاما خياليا لغاية خيالية كملاعب الصبيان و الحياة الدنيا لعب لأنها فانية سريعة البطلان كلعب الصبيان يجتمعون عليه و يتولعون به ساعة ثم يتفرقون و سرعان ما يتفرقون.

على أن عامة المقاصد التي يتنافس فيها المتنافسون و يتكالب عليه الظالمون أمور وهمية سرابية كالأموال و الأزواج و البنين و أنواع التقدم و التصدر و الرئاسة و المولوية و الخدم و الأنصار و غيرها فالإنسان لا يملك شيئا منها إلا في ظرف الوهم و الخيال.

و أما الحياة الآخرة التي يعيش فيها الإنسان بكماله الواقعي الذي اكتسبه بإيمانه و عمله الصالح فهي المهمة التي لا لهو في الاشتغال بها و الجد الذي لا لعب فيها و لا لغو و لا تأثيم، و البقاء الذي لا فناء معه، و اللذة التي لا ألم، عندها و السعادة التي لا شقاء دونها، فهي الحياة بحقيقة معنى الكلمة.

 

 

و هذا معنى قوله سبحانه: ﴿وَ مَا هَذِهِ اَلْحَيَاةُ اَلدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَ لَعِبٌ وَ إِنَّ اَلدَّارَ اَلْآخِرَةَ لَهِيَ اَلْحَيَوَانُ.

و في الآية كما ترى قصر الحياة الدنيا في اللهو و اللعب و الإشارة إليها بهذه المفيدة للتحقير و قصر الحياة الآخرة في الحيوان و هو الحياة و تأكيده بأدوات التأكيد كان و اللام و ضمير الفصل و الجملة الاسمية.

و قوله: ﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أي لو كانوا يعلمون لعلموا أن الأمر كما وصفنا.

قوله تعالى: ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي اَلْفُلْكِ دَعَوُا اَللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى اَلْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ تفريع على ما تحصل من الآيات السابقة من شأنهم و هو أنهم يؤفكون و أن كثيرا منهم لا يعقلون أي لما كانوا يؤفكون و يصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره و أكثرهم لا يعقلون و يناقضون أنفسهم بالاعتراف و الجحد ﴿فَإِذَا رَكِبُوا «إلخ».

و الركوب‏ الاستعلاء بالجلوس على الشي‏ء المتحرك و هو متعد بنفسه و تعديته في الآية بفي لتضمنه معنى الاستقرار أو ما يشبهه، و المعنى: فإذا ركبوا مستقرين في الفلك أو استقروا في الفلك راكبين، و معنى الآية ظاهر و هي تحكي عنهم تناقضا آخر و كفرانا للنعمة.

قوله تعالى: ﴿لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَ لِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ اللام في ﴿لِيَكْفُرُوا و ﴿لِيَتَمَتَّعُوا لام الأمر و أمر الآمر بما لا يرتضيه تهديد و إنذار كقولك لمن تهدده: «افعل ما شئت»، قال تعالى: ﴿اِعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» : حم السجدة: ٤٠.

و احتمل كون اللام للغاية، و المعنى: أنهم يأتون بهذه الأعمال لتنتهي بهم إلى كفران النعمة التي آتيناهم و إلى التمتع، و أول الوجهين أوفق لقوله في ذيل الآية:

﴿فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ، و يؤيده قوله في موضع آخر: ﴿لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ: الروم: ٣٤ و لذا قرأه من قرأ ﴿وَ لِيَتَمَتَّعُوا بسكون اللام إذ لا يسكن غير لام الأمر.

قوله تعالى: ﴿أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَ يُتَخَطَّفُ اَلنَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ الحرم الأمن‏ هو مكة و ما حولها و قد جعله الله مأمنا بدعاء إبراهيم (عليه السلام) و التخطف‏

 

 

 كالخطف استلاب الشي‏ء بسرعة و اختلاسه و قد كانت العرب يومئذ تعيش في التغاور و التناهب و لا يزالون يغير بعضهم على بعض بالقتل و السبي و النهب لكنهم يحترمون الحرم و لا يتعرضون لمن أقام بها فيها.

و المعنى: أ و لم ينظروا أنا جعلنا حرما آمنا لا يتعرض لمن فيه بقتل أو سبي أو نهب و الحال أن الناس يختلسون من حولهم خارج الحرم.

و قوله: ﴿أَ فَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَ بِنِعْمَةِ اَللَّهِ يَكْفُرُونَ توبيخ آخر لهم حيث يقابلون هذه النعمة و هي نعمة عظيمة بالكفران لكنهم يؤمنون بالأصنام و هي باطلة ليس لها إلا الاسم.

قوله تعالى: ﴿وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ اِفْتَرى‏َ عَلَى اَللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكَافِرِينَ تهديد لهم بالنار بتوسيمهم بأشد الظلم و أعظمه و هو افتراء الكذب على الله بالقول بالآلهة و أن الله اتخذهم شركاء لنفسه، و تكذيب الإنسان بالحق لما جاءه و الوصفان جميعا موجودان فيهم فقد عبدوا الأصنام و كذبوا بالقرآن لما جاءهم فهم كافرون و مثوى الكافرين و محل إقامتهم في الآخرة جهنم.

قوله تعالى: ﴿وَ اَلَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَ إِنَّ اَللَّهَ لَمَعَ اَلْمُحْسِنِينَ الجهد الوسع و الطاقة و المجاهدة استفراغ الوسع في مدافعة العدو و الجهاد ثلاثة أضرب:

مجاهدة العدو الظاهر، و مجاهدة الشيطان، و مجاهدة النفس كذا ذكره الراغب.

و قوله: ﴿جَاهَدُوا فِينَا أي استقر جهادهم فينا و هو استعارة كنائية عن كون جهده مبذولا فيما يتعلق به تعالى من اعتقاد عمل، فلا ينصرف عن الإيمان به و الائتمار بأوامره و الانتهاء عن نواهيه بصارف يصرفه.

و قوله: ﴿لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا أثبت لنفسه سبلا و هي أيا ما كانت تنتهي إليه تعالى فإنما السبيل سبيل لتأديته إلى ذي السبيل و هو غايتها فسبله هي الطرق المقربة منه و الهادية إليه تعالى، و إذ كانت نفس المجاهدة من الهداية كانت الهداية إلى السبل هداية على هداية فتنطبق على مثل قوله تعالى: ﴿وَ اَلَّذِينَ اِهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً: محمد: ١٧.

و مما تقدم يظهر أن لا حاجة في قوله: ﴿فِينَا إلى تقدير مضاف كشأن و التقدير في شأننا.

 

 

 و قوله: ﴿وَ إِنَّ اَللَّهَ لَمَعَ اَلْمُحْسِنِينَ قيل أي معية النصرة و المعونة و تقدم الجهاد المحتاج إليهما قرينة قوية على إرادة ذلك. انتهى. و هو وجه حسن و أحسن منه أن يفسر بمعية الرحمة و العناية فيشمل معية النصرة و المعونة و غيرهما من أقسام العنايات التي له سبحانه بالمحسنين من عباده لكمال عنايته بهم و شمول رحمته لهم، و هذه المعية أخص من معية الوجود الذي ينبئ عنه قوله تعالى: ﴿وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ: الحديد: ٤.

و قد تقدمت الإشارة إلى أن الآية خاتمة للسورة منعطفة على فاتحتها.

(بحث روائي)

 في الدر المنثور، أخرج ابن أبي الدنيا و البيهقي في شعب الإيمان عن أبي جعفر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): يا عجبا كل العجب للمصدق بدار الحيوان و هو يسعى لدار الغرور. و فيه، أخرج جويبر عن الضحاك عن ابن عباس أنهم قالوا: يا محمد ما يمنعنا أن ندخل في دينك إلا مخافة أن يتخطفنا الناس لقلتنا و العرب أكثر منا فمتى بلغهم أنا قد دخلنا في دينك اختطفنا فكنا أكلة رأس فأنزل الله: ﴿أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً الآية.

و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: ﴿وَ اَلَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَ إِنَّ اَللَّهَ لَمَعَ اَلْمُحْسِنِينَ: في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: هذه الآية لآل محمد (عليه السلام) و لأشياعهم.

 

 

(٣٠) (سورة الروم مكية، و هي ستون آية) (٦٠)

[سورة الروم (٣٠): الآیات ١ الی ١٩]

﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ الم ١ غُلِبَتِ اَلرُّومُ ٢ فِي أَدْنَى اَلْأَرْضِ وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ٣ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ اَلْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ وَ يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ اَلْمُؤْمِنُونَ ٤ بِنَصْرِ اَللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلرَّحِيمُ ٥ وَعْدَ اَللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اَللَّهُ وَعْدَهُ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ٦ يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ هُمْ عَنِ اَلْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ٧ أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اَللَّهُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ اَلنَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ ٨ أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ أَثَارُوا اَلْأَرْضَ وَ عَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اَللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَ لَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ٩ ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ اَلَّذِينَ أَسَاؤُا اَلسُّواى‏ أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اَللَّهِ وَ كَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُنَ ١٠ اَللَّهُ يَبْدَؤُا اَلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ١١ وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسَّاعَةُ يُبْلِسُ اَلْمُجْرِمُونَ ١٢

 

 

وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَ كَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ ١٣ وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ ١٤ فَأَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ ١٥ وَ أَمَّا اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَ لِقَاءِ اَلْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي اَلْعَذَابِ مُحْضَرُونَ ١٦ فَسُبْحَانَ اَللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَ حِينَ تُصْبِحُونَ ١٧ وَ لَهُ اَلْحَمْدُ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ عَشِيًّا وَ حِينَ تُظْهِرُونَ ١٨ يُخْرِجُ اَلْحَيَّ مِنَ اَلْمَيِّتِ وَ يُخْرِجُ اَلْمَيِّتَ مِنَ اَلْحَيِّ وَ يُحْيِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَ كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ ١٩

(بيان)

تفتتح السورة بوعد من الله و هو أن الروم ستغلب الفرس في بضع سنين بعد انهزامهم أيام نزول السورة عن الفرس ثم تنتقل منه إلى ذكر ميعاد أكبر و هو الوعد بيوم يرجع الكل فيه إلى الله و تقيم الحجة على المعاد ثم تنعطف إلى ذكر آيات الربوبية و تصف صفاته تعالى الخاصة به ثم تختتم السورة بوعد النصر للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و تؤكد القول فيه إذ تقول: ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اَللَّهِ حَقٌّ وَ لاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ اَلَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ و قد قيل قبيل ذلك: ﴿وَ كَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ اَلْمُؤْمِنِينَ.

فغرض السورة هو الوعد القطعي منه تعالى بنصرة دينه و قد قدم عليه نصر الروم على الفرس في بضع سنين من حين النزول ليستدل بإنجاز هذا الوعد على إنجاز ذلك الوعد، و كذا يحتج به و من طريق العقل على أنه سينجز وعده بيوم القيامة لا ريب فيه.

 

 

قوله تعالى: ﴿غُلِبَتِ اَلرُّومُ فِي أَدْنَى اَلْأَرْضِ الروم‏ جيل من الناس على ساحل البحر الأبيض بالمغرب كانت لهم إمبراطورية وسيعة منبسطة إلى الشامات وقعت بينهم و بين الفرس حرب عوان في بعض نواحي الشام قريبا من الحجاز فغلبت الفرس و انهزمت الروم، و الظاهر أن المراد بالأرض أرض الحجاز و اللام للعهد.

قوله تعالى: ﴿وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ ضمير الجمع الأول للروم و كذا الثالث و أما الثاني فقد قيل إنه للفرس و المعنى: و الروم من بعد غلبة الفرس سيغلبون، و يمكن أن يكون الغلب من المصدر المبني للمفعول و الضمير للروم كالضميرين قبلها و بعدها فلا تختلف الضمائر و المعنى: و الروم من بعد مغلوبيتهم سيغلبون. و البضع‏ من العدد من ثلاثة إلى تسعة.

قوله تعالى: ﴿لِلَّهِ اَلْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ قبل و بعد مبنيان على الضم فهناك مضاف إليه مقدر و التقدير لله الأمر من قبل أن غلبت الروم و من بعد أن غلبت يأمر بما يشاء فينصر من يشاء و يخذل من يشاء.

و قيل: المعنى لله الأمر من قبل كونهم غالبين و هو وقت كونهم مغلوبين و من بعد كونهم مغلوبين و هو وقت كونهم غالبين أي وقت كونهم مغلوبين و وقت كونهم غالبين و المعنى الأول أرجح إن لم يكن راجحا متعينا.

قوله تعالى: ﴿وَ يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ اَلْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اَللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلرَّحِيمُ الظرف متعلق بيفرح و كذا قوله ﴿يَنْصُرُ و المعنى: و يوم إذ يغلب الروم يفرح المؤمنون بنصر الله الروم، ثم استأنف و قال: ﴿يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ تقريرا لقوله: ﴿لِلَّهِ اَلْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ.

و قوله: ﴿وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلرَّحِيمُ أي عزيز يعز بنصره من يشاء رحيم يخص برحمته من يشاء.

و في الآية وجوه أخر ضعيفة ذكروها:

منها: أن قوله ﴿وَ يَوْمَئِذٍ عطف على قوله: ﴿مِنْ قَبْلُ و المراد به شمول سلطنته تعالى لجميع الأزمنة الثلاثة: الماضي و المستقبل و الحال كأنه قيل: لله الأمر من قبل و من بعد و يومئذ ثم ابتداء و قيل: يفرح المؤمنون بنصر الله. و فيه أنه يبطل

 

 

انسجام الآية و ينقطع به آخرها عن أولها.

و منها: أن قوله: ﴿بِنَصْرِ متعلق بقوله: ﴿اَلْمُؤْمِنُونَ دون ﴿يَفْرَحُ و يدل بالملازمة المقامية أن غلبة الروم بنصر من الله.

و فيه أن لازمه أن يفرح المؤمنون يوم غلبة الفرس و يوم غلبة الروم جميعا فإن في الغلبة نصرا و كل نصر من الله قال تعالى: ﴿وَ مَا اَلنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ اَلْعَزِيزِ اَلْحَكِيمِ» : آل عمران: ١٢٦ فقصر فرح المؤمنين بالنصر بيوم غلبة الروم ترجيح بلا مرجح فافهمه.

و منها: أن المراد بنصر الله نصر المؤمنين على المشركين يوم بدر دون نصر الروم على الفرس و إن توافق النصران زمانا فكأنه قيل: إن الروم سيغلبون في بضع سنين و يوم يغلبون يغلب المؤمنون المشركين فيفرحون بنصر الله إياهم.

و فيه أن هذا المعنى لا يلائم قوله بعد: ﴿يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ.

و منها: أن المراد بالنصر نصر المؤمنين بصدق إخبارهم بغلبة الروم، و قيل: النصر هو استيلاء بعض الكفار على بعض و تفرق كلمتهم و انكسار شوكتهم. و هذان و ما يشبههما وجوه لا يعبأ بها.

قوله تعالى: ﴿وَعْدَ اَللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اَللَّهُ وَعْدَهُ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ﴿وَعْدَ اَللَّهِ مفعول مطلق محذوف العامل و التقدير وعد الله وعدا و إخلاف الوعد خلاف إنجازه و قوله: ﴿وَعْدَ اَللَّهِ تأكيد و تقرير للوعد السابق في قوله: ﴿سَيَغْلِبُونَ و ﴿يَفْرَحُ اَلْمُؤْمِنُونَ كما أن قوله: ﴿لاَ يُخْلِفُ اَللَّهُ وَعْدَهُ تأكيد و تقرير لقوله: ﴿وَعْدَ اَللَّهِ.

و قوله: ﴿لاَ يُخْلِفُ اَللَّهُ وَعْدَهُ كقوله: ﴿إِنَّ اَللَّهَ لاَ يُخْلِفُ اَلْمِيعَادَ: الرعد: ٣١ و خلف الوعد و إن لم يكن قبيحا بالذات لأنه ربما يحسن عند الاضطرار لكنه سبحانه لا يضطره ضرورة فلا يحسن منه خلف الوعد في حال.

على أن خلف الوعد يلازم النقص دائما و يستحيل النقص عليه تعالى.

على أنه تعالى أخبر في كلامه بأنه لا يخلف الميعاد و هو أصدق الصادقين و هو القائل عز من قائل: ﴿وَ اَلْحَقَّ أَقُولُ﴾ - ص: ٨٤.

و قوله: ﴿وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ أي هم جهلاء بشئونه تعالى لا يثقون بوعده و يقيسونه إلى أمثالهم ممن يصدق و يكذب و ينجز و يخلف.

 

 

 قوله تعالى: ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ هُمْ عَنِ اَلْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ جملة ﴿يَعْلَمُونَ على ما ذكره في الكشاف، بدل من قوله: ﴿لاَ يَعْلَمُونَ و في هذا الإبدال من النكتة أنه أبدله منه و جعله بحيث يقوم مقامه و يسد مسده ليعلمك أنه لا فرق بين عدم العلم الذي هو الجهل و بين وجود العلم الذي لا يتجاوز الدنيا انتهى.

و قيل: الجملة استثنائية لبيان موجب جهلهم بأن وعد الله حق و أن لله الأمر من قبل و من بعد و أنه ينصر المؤمنين على الكافرين. انتهى و هذا أظهر.

و تنكير ﴿ظَاهِراً للتحقير و ظاهر الحياة الدنيا ما يقابل باطنها و هو الذي يناله حواسهم الظاهرة من زينة الحياة فيرشدهم إلى اقتنائها و العكوف عليها و الإخلاد إليها و نسيان ما وراءها من الحياة الآخرة و المعارف المتعلقة بها و الغفلة عما فيه خيرهم و نفعهم بحقيقة معنى الكلمة.

و قيل: الظهور في الآية بمعنى الزوال و استشهد بقوله:

و عيرها الواشون أني أحبها و تلك شكاة ظاهر عنك عارها

و المعنى: يعلمون أمرا زائلا لا بقاء له لكنه معنى شاذ الاستعمال.

قوله تعالى: ﴿أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اَللَّهُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى إلخ المراد من خلق السماوات و الأرض و ما بينهما و ذلك جملة العالم المشهود بالحق أنها لم تخلق عبثا لا غاية لها وراءها بأن يوجد و يعدم ثم يوجد ثم يعدم من غير غرض و غاية فهو تعالى إنما خلقها لغاية تترتب عليها.

ثم إن العالم بأجزائها ليس بدائم الوجود غير منقطع الآخر حتى يحتمل كون كل جزء لاحق غاية للجزء السابق و كل آت خلفا لماضيه بل هو بأجزائه فان بائد فهناك غاية مقصودة من خلق العالم ستظهر بعد فناء العالم و هذا المعنى هو المراد بتقييد قوله:

﴿مَا خَلَقَ اَللَّهُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا بقوله: ﴿وَ أَجَلٍ مُسَمًّى بعد تقييده بقوله: ﴿إِلاَّ بِالْحَقِّ.

فقوله: ﴿أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ الاستفهام للتعجيب، و كونهم في أنفسهم استعارة كنائية عن فراغ البال و حضور الذهن كأنهم عند اشتغالهم بأمور الدنيا و سعيهم للمعيشة و تشوش البال يغيبون عن أنفسهم فيكونون عند حضور الذهن حاضرين مستقرين

 

 

 في أنفسهم فيكون تفكرهم حينئذ مجتمعا غير متفرق فيهديهم إلى الحق و يرشدهم إلى الواقع.

و قيل: المراد بتفكرهم في أنفسهم أن يتفكروا في خلق أنفسهم و أن الواحد منهم محدث و المحدث - بالفتح - يحتاج إلى محدث - بالكسر - قديم حي قادر عليم حكيم فلا يخلق ما يخلق عبثا بل لغاية مطلوبة و ليست تعود إليه نفسه لغناء المطلق بل إلى الخلق و هو الثواب و لا يكون إلا لصالح العمل فلا بد من دين مشرع يميز العمل الصالح من السيئ فلا بد من دار يمتحنون فيها و هي الدنيا و دار يثابون فيها و هي الآخرة.

و فيه أن الجملة أعني قوله: ﴿أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ صالح في نفسه لأن يراد منها هذا المعنى لكن اتصال قوله: ﴿مَا خَلَقَ اَللَّهُ اَلسَّمَاوَاتِ إلخ، بها يأباه لاستلزامه بطلان الاتصال لعدم الارتباط بين صدر الآية و ذيلها على هذا التقدير.

و قوله: ﴿مَا خَلَقَ اَللَّهُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى هو الفكر الذي يجب عليهم أن يمعنوا فيه النظر في أنفسهم و تقريره على ما تقدم أن الله سبحانه ما خلق هذا العالم كلا و لا بعضا إلا خلقا ملابسا للحق أو مصاحبا للحق أي لغاية حقيقية لا عبثا لا غاية له و لا إلى أجل معين فلا يبقى شي‏ء منها إلى ما لا نهاية له بل يفنى و ينقطع و إذا كان كل من أجزائه و المجموع مخلوقا ذا غاية تترتب عليها و ليس شي‏ء منها دائم الوجود كانت غايته مترتبة عليه بعد انقطاع وجوده و فنائه، و هذا هو الآخرة التي ستظهر بعد انقضاء الدنيا و فنائها.

و قوله: ﴿وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ اَلنَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ مسوق سوق التعجيب كما بدأت الآية باستفهام التعجيب، و المراد بلقاء الله هو الرجوع إليه في المعاد، و قد عبر عنه باللقاء ليزداد كفرهم به عجبا فكيف يمكن أن يبتدءوا منه ثم لا ينتهوا إليه، و لذلك أكده بإن إشارة إلى أن الكفر بالمعاد من شأنه في نفسه أن لا يصدق به.

قوله تعالى: ﴿أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ إلى آخر الآية، لما ذكر كفر كثير من الناس بالمعاد و ذلك أمر يلغو معه الدين الحق ذكرهم حال الأمم الكافرة و ما انتهت إليه من سوء العذاب لعلهم يعتبرون بها فيرجعوا عما هم عليه من الكفر. و إثارة الأرض قلبها ظهر البطن للحرث و التعمير و نحو ذلك.

 

 

 و قوله: ﴿وَ لَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ أي بالكفر و المعاصي.

قوله تعالى: ﴿ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ اَلَّذِينَ أَسَاؤُا اَلسُّواى‏َ أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اَللَّهِ وَ كَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُنَ بيان لما انتهى إليه أمر أولئك الظالمين و لذا عبر بثم، و ﴿عَاقِبَةَ بالنصب خبر كان و اسمه ﴿اَلسُّواى‏َ قدم الخبر عليه لإفادة الحصر و ﴿أَسَاؤُا مقطوع عن المتعلق بمعنى عملوا السوء، و السوآى‏ الخلة التي يسوء صاحبها و المراد بها سوء العذاب و ﴿أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اَللَّهِ بحذف لام التعليل و التقدير لتكذيبهم بآيات الله و استهزائهم بها.

و المعنى: ثم كان سوء العذاب هو الذي انتهى إليه أمر أولئك الذين عملوا السوء لم تكن لهم عاقبة غيرها لتكذيبهم بآيات الله و استهزائهم بها.

و قيل: إن ﴿اَلسُّواى‏َ مفعول لقوله: ﴿أَسَاؤُا و خبر كان هو قوله: ﴿أَنْ كَذَّبُوا إلخ، و المراد أن المعاصي ساقتهم إلى الكفر بتكذيب آيات الله و الاستهزاء بها.

و فيه: أنه في نفسه معنى صحيح لكن المناسب للمقام هو المعنى الأول لأن المقام مقام الاعتبار و الإنذار و المناسب له بيان انتهاء معاصيهم إلى سوء العذاب لا انتهاء معاصيهم المتفرقة إلى التكذيب و الاستهزاء الذي هو أعظمها.

قوله تعالى: ﴿اَللَّهُ يَبْدَؤُا اَلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ بعد ما ذكر الحجة و تكذيب كثير من الناس لخص القول في نتيجتها و هو أن البدء و العود بيده سبحانه و سيرجع إليه الجميع، و المراد بالخلق المخلوقون، و لذا أرجع إليه ضمير الجمع في ترجعون.

قوله تعالى: ﴿وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسَّاعَةُ يُبْلِسُ اَلْمُجْرِمُونَ ذكر حال المجرمين بعد قيام الساعة و هي ساعة الرجوع إليه تعالى للحساب و الجزاء، و الإبلاس‏ اليأس من الله و فيه كل الشقاء.

قوله تعالى: ﴿وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَ كَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ يريد أنهم على يأسهم من الرحمة من ناحية أعمالهم أنفسهم آيسون من آلهتهم الذين اتخذوهم شركاء لله فعبدوهم ليشفعوا لهم عند الله كما كانوا يقولون في الدنيا: هؤلاء شفعاؤنا عند الله و كانوا بعبادة شركائهم كافرين ساترين.

قوله تعالى: ﴿وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ إلى قوله ﴿مُحْضَرُونَ قال

 

 

 في المجمع: الروضة البستان المتناهي منظرا و طيبا. انتهى. و قال في المفردات: الحبر الأثر المستحسن إلى أن قال و قوله عز و جل: ﴿فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ أي يفرحون حتى يظهر عليهم حبار نعيمهم. انتهى.

و المراد بتفرق الخلق يومئذ تميز المؤمنين الصالحين من المجرمين و دخول هؤلاء النار و دخول أولئك الجنة على ما يشير إليه الآيتان التاليتان.

و لزوم هذا التميز و التفرق في الوجود هو الذي أخذه الله سبحانه حجة على ثبوت المعاد حيث قال: ﴿أَمْ حَسِبَ اَلَّذِينَ اِجْتَرَحُوا اَلسَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَ مَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ: الجاثية: ٢١.

قوله تعالى: ﴿فَسُبْحَانَ اَللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَ حِينَ تُصْبِحُونَ وَ لَهُ اَلْحَمْدُ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ عَشِيًّا وَ حِينَ تُظْهِرُونَ لما ذكر أنه يبدأ الخلق ثم يعيدهم و يرجعهم للقائه فيفرقهم طائفتين: أهل الجنة و النعمة و أهل النار و العذاب، أما أهل الجنة فهم المؤمنون العاملون للصالحات و أما أهل النار فهم الكفار المكذبون لآيات الله و قد ذكر أنهم كانوا في الدنيا أهل قوة و نعمة لكنهم نسوا الآخرة و كذبوا بآيات الله و استهزءوا بها حتى انتهى بهم الأمر إلى سوء العذاب عذاب الاستئصال جزاء لظلمهم أنفسهم و ما ظلمهم الله و لكن كانوا أنفسهم يظلمون.

فتحصل من ذلك أن في دار الخلقة تدبيرا إلهيا متقنا صالحا جميلا على أجمل ما يكون و أن للإنسان على توالي الأزمنة و الدهور آثاما و خطيئات من العقيدة السيئة في حق ربه و اتخاذ شركاء له و إنكار لقائه إلى سائر المعاصي.

ذيل الكلام بتسبيحه كلما تجدد حين بعد حين و تحميده على صنعه و تدبيره في السماوات و الأرض و هو مجموع العالم المشهود فهو سبحانه منزه عن هذه الاعتقادات الباطلة و الأعمال الردية و محمود في جميع ما خلقه و دبره في السماوات و الأرض.

و من هناك يظهر:

أولا: أن التسبيح و التحميد في الآيتين إنشاء تنزيه و ثناء منه تعالى لا من غيره حتى يكون المعنى: قولوا سبحان الله و قولوا الحمد لله فقد تكرر في كلامه تعالى تسبيحه و تحميده لنفسه كقوله: ﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ اَلْعِزَّةِ: الصافات: ١٨٠ و قوله:

﴿تَبَارَكَ اَلَّذِي نَزَّلَ اَلْفُرْقَانَ عَلى‏َ عَبْدِهِ: الفرقان: ١.

 

 

و ثانيا: أن المراد بالتسبيح و التحميد معناهما المطلق دون الصلوات اليومية المفروضة كما يقول به أكثر القائلين بكون القول مقدرا. و المعنى: قولوا سبحان الله و قولوا الحمد لله.

و ثالثا: أن قوله: ﴿وَ لَهُ اَلْحَمْدُ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ معترضة واقعة بين المعطوف و المعطوف عليه، و قوله: ﴿وَ عَشِيًّا وَ حِينَ تُظْهِرُونَ معطوفان على محل ﴿حِينَ تُمْسُونَ لا على قوله: ﴿فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ حتى يختص المساء و الصباح بالتسبيح و السماوات و الأرض و العشي و الظهيرة بالتحميد بل الأوقات و ما فيها للتسبيح و الأمكنة و ما فيها للتحميد.

فالسياق يشير إلى أن ما في السماوات و الأرض من خلق و أمر هو لله يستدعي بحسنه حمدا و ثناء لله سبحانه و أن للإنسان على مر الدهور و تغير الأزمنة و الأوقات من الشرك و المعصية ما يتنزه عنه ساحة قدسه تعالى و تقدس.

نعم هاهنا اعتبار آخر يتداخل فيه التحميد و التسبيح و هو أن الأزمنة و الأوقات على تغيرها و تصرمها من جملة ما في السماوات و الأرض فهي بوجودها يثني على الله تعالى، ثم كل ما في السماوات و الأرض بفقرها إليه تعالى و ذلتها دونه و نقصها بالنسبة إلى كماله تعالى تسبحه كما قال: ﴿وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ: إسراء: ٤٤ لكن هذا الاعتبار غير منظور إليه في الآيتين اللتين نحن فيهما.

و للمفسرين في الآيتين أقوال أخر متفرقة أشرنا إلى المهم منها في الوجوه التي قدمناها.

و تغيير السياق في قوله: ﴿وَ عَشِيًّا لكون العشي لم يبن منه فعل من باب الإفعال بخلاف المساء و الصباح و الظهيرة حيث بني منها الإمساء و الإصباح و الإظهار بمعنى الدخول في المساء و الصباح و الظهيرة كذا قيل.

و الخطاب الذي في الآيتين في قوله: ﴿تُمْسُونَ و ﴿تُصْبِحُونَ و ﴿تُظْهِرُونَ ليس من الالتفات في شي‏ء بل تعميم للخطاب الذي للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) منذ شرعت السورة، و المعنى:

 

 

 فإذا كان الأمر على هذه السبيل فالله منزه حينما دخلتم أنتم معاشر البشر في مساء و حينما دخلتم في صباح و في العشي و حينما دخلتم في ظهيرة و له الثناء الجميل في السماوات و الأرض.

و نظير هذا التعميم ما في قوله سابقا: ﴿ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ و لاحقا في قوله:

﴿وَ كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ.

قوله تعالى: ﴿يُخْرِجُ اَلْحَيَّ مِنَ اَلْمَيِّتِ وَ يُخْرِجُ اَلْمَيِّتَ مِنَ اَلْحَيِّ وَ يُحْيِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَ كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ ظاهر إخراج الحي من الميت و بالعكس خلق ذوي الحياة من الأرض الميتة ثم تبديل ذوي الحياة أرضا ميتة، و قد فسر بخلق المؤمن من الكافر و خلق الكافر من المؤمن فإنه يعد المؤمن حيا و الكافر ميتا، قال تعالى: ﴿أَ وَ مَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَ جَعَلْنَا لَهُ نُوراً: الأنعام: ١٢٢.

و أما إحياء الأرض بعد موتها فهو انتعاش الأرض و ابتهاجها بالنبات في الربيع و الصيف بعد خمودها في الخريف و الشتاء، و قوله: ﴿وَ كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ أي تبعثون و تخرجون من قبوركم بإحياء جديد كإحياء الأرض بعد موتها، و قد تقدم تفسير نظير صدر الآية و ذيلها مرارا.

(بحث روائي)

 في الدر المنثور، أخرج أحمد و الترمذي و حسنه و النسائي و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الطبراني في الكبير و الحاكم و صححه و ابن مردويه و البيهقي في الدلائل و الضياء عن ابن عباس ":في قوله: ﴿الم غُلِبَتِ اَلرُّومُ قال: غلبت و غلبت.

قال: كان المشركون يحبون أن يظهر فارس على الروم، لأنهم أصحاب أوثان، و كان المسلمون يحبون أن يظهر الروم على فارس لأنهم أصحاب كتاب، فذكروه لأبي بكر فذكره أبو بكر لرسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) -فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): أما إنهم سيغلبون فذكره أبو بكر لهم فقالوا: اجعل بيننا و بينك أجلا فإن ظهرنا كان لنا كذا و كذا و إن ظهرتم كان لكم كذا و كذا فجعل لهم خمس سنين فلم يظهروا فذكر ذلك أبو بكر لرسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال: أ لا جعلته أراه قال: دون العشر، فظهرت الروم بعد ذلك فذلك قوله: ﴿الم غُلِبَتِ اَلرُّومُ فغلبت ثم غلبت بعد.

 

 

 يقول الله: ﴿لِلَّهِ اَلْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ وَ يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ اَلْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اَللَّهِ قال سفيان: سمعت أنهم قد ظهروا يوم بدر. أقول: و في هذا المعنى روايات أخر مختلفة المضامين في الجملة ففي بعضها أن المقامرة كانت بين أبي بكر و أبي بن خلف و في بعضها أنها كانت بين المسلمين و المشركين و كان أبو بكر من قبل المسلمين و أبي من قبل المشركين، و في بعضها أنها كانت بين الطائفتين، و في بعضها بين أبي بكر و بين المشركين كما في هذه الرواية.

ثم الأجل المضروب في بعضها ثلاث سنين، و في بعضها خمس، و في بعضها ست، و في بعضها سبع سنين.

و في بعضها أن الأجل المضروب أولا انقضى بمكة و هو سبع سنين فمادهم أبو بكر سنتين بأمر من النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فغلبت الروم، و في بعضها خلافه.

ثم في بعضها أن الأجل الثاني انقضى بمكة و في بعضها أنه انقضى بعد الهجرة و كانت غلبة الروم يوم بدر، و في بعضها يوم الحديبية.

و في بعضها أن أبا بكر لما قمرهم بغلبة الروم أخذ منهم الخطر و هو مائة قلوص و جاء به إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال: إنه سحت تصدق به.

و الذي تتفق فيه الروايات أنه قامرهم فقمرهم و كان القمار بإشارة من النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و وجه ذلك بأنه كان قبل تحريم القمار فإنه حرم مع الخمر في سورة المائدة و قد نزلت في آخر عهد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) .

و قد تحقق بما قدمناه في تفسير آية الخمر و الميسر أن الخمر كانت محرمة من أول البعثة و كان من المعروف من الدين أنه يحرم الخمر و الزنا.

على أن الخمر و الميسر من الإثم بنص آية البقرة: ﴿يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْخَمْرِ وَ اَلْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ الآية: البقرة: ٢١٩ و الإثم محرم بنص آية الأعراف: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ اَلْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَ مَا بَطَنَ وَ اَلْإِثْمَ وَ اَلْبَغْيَ الآية: الأعراف: ٣٣ و الأعراف من العتائق النازلة بمكة فمن الممتنع أن يشير النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بالمقامرة.

و على تقدير تأخر الحرمة إلى آخر عهد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) يشكل قوله (ص) لأبي بكر لما أتى بالخطر إليه أنه سحت ثم قوله: تصدق به. فلا سبيل إلى تصحيح شي‏ء من ذلك

 

 

 بالموازين الفقهية و قد تكلفوا في توجيه ذلك بما لا يزيد إلا إشكالا.

ثم إن ما في الرواية أن الفرس كانوا عبدة الأوثان لا يوافق ما كان عليه القوم فإنهم و إن كانوا مشركين لكنهم كانوا لا يتخذون أوثانا.

و في تفسير القمي،" :في قوله: ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ هُمْ عَنِ اَلْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ قال: يرون حاضر الدنيا و يتغافلون عن الآخرة.

 و في الخصال،: و سئل الصادق (عليه السلام) عن قول الله تعالى: ﴿أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فقال: أ و لم ينظروا في القرآن.

 و في تفسير القمي، ":و قوله عز و جل: ﴿وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ قال:

إلى الجنة و النار.

[سورة الروم (٣٠): الآیات ٢٠ الی ٢٦]

﴿وَ مِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ ٢٠ وَ مِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ٢١ وَ مِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اِخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَ أَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ ٢٢ وَ مِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَ اَلنَّهَارِ وَ اِبْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ٢٣ وَ مِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ اَلْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ يُنَزِّلُ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ٢٤ وَ مِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ اَلسَّمَاءُ وَ اَلْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ اَلْأَرْضِ إِذَا

 

 

أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ ٢٥ وَ لَهُ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ٢٦

(بيان)

يذكر في هذا الفصل عدة من الآيات الدالة على وحدانيته تعالى في الربوبية و الألوهية، و يشار فيها إلى امتزاج الخلق و التدبير و تداخلهما ليتضح بذلك أن الربوبية بمعنى ملك التدبير و الألوهية بمعنى المعبودية بالحق لا يستحقهما إلا الله الذي خلق الأشياء و أوجدها، لا كما يزعم الوثني أن الخلق لله وحده و التدبير و العبادة لأرباب الأصنام ليكونوا شفعاء لهم عند الله، و ليس له سبحانه إلا أنه رب الأرباب و إله الآلهة.

قوله تعالى: ﴿وَ مِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ المراد بالخلق من تراب انتهاء خلقة الإنسان إلى الأرض فإن مراتب تكون الإنسان من مضغة أو علقة أو نطفة أو غيرها مركبات أرضية تنتهي إلى العناصر الأرضية.

و قوله: ﴿ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ إذا فجائية أي يفاجئكم أنكم أناسي تنتشرون في الأرض أي يخلقكم من تركيبات أرضية المترقب منها كينونة أرضية ميتة أخرى مثلها لكن يفاجئكم دفعة أنه يصير بشرا ذوي حياة و شعور عقلي ينتشرون في الأرض في سبيل تدمير أمر الحياة فقوله: ﴿ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ في معنى قوله: ﴿ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ: المؤمنون: ١٤.

فخلق الإنسان أي جمع أجزائه من الأرض و تأليفها آية و كينونة هذا المجموع إنسانا ذا حياة و شعور عقلي آية أو آيات أخر تدل على صانع حي عليم يدبر الأمر و يجري هذا النظام العجيب.

و قد ظهر بهذا المعنى أن ﴿ثُمَّ للتراخي الرتبي و الجملة معطوفة على قوله:

﴿خَلَقَكُمْ لا على قوله: ﴿أَنْ خَلَقَكُمْ.

قوله تعالى: ﴿وَ مِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا

 

 

[1]  الخذف بالحصاة و النواة الرمي بها من بين السبابتين.

[2]  و ذلك أن موطن التدبير الحوادث الجارية في الكون و معناه تعقيب حادث بحادث آخر على نظم و ترتيب يؤدي إلى غايات حقة و حقيقته خلق حادث بعد حادث فالتدبير هو الخلق و الإيجاد باعتبار قياس الشي‏ء إلى آخر مثله و انضمامه إليه فليس وراء الخلق و الإيجاد شي‏ء منه.




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 22215305

  • التاريخ : 3/02/2025 - 20:00

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net