و قد ختم الآية بتقبيح اتخاذهم إياهم أولياء من دون الله الذي معناه اتخاذهم إبليس بدلا منه سبحانه فقال: ﴿بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً﴾ و ما أقبح ذلك فلا يقدم عليه ذو مسكة، و هو السر في الالتفات الذي في قوله: ﴿مِنْ دُونِي﴾ فلم يقل: من دوننا على سياق قوله: ﴿وَ إِذْ قُلْنَا﴾ ليزيد في وضوح القبح كما أنه السر أيضا في الالتفات السابق في قوله: ﴿عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ﴾ و لم يقل: عن أمرنا.
و للمفسرين هاهنا أبحاث في معنى شمول أمر الملائكة لإبليس، و في معنى كونه من الجن و في معنى، و قد قدمنا بعض القول في ذلك في تفسير سورة الأعراف.
قوله تعالى: ﴿مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَ مَا كُنْتُ مُتَّخِذَ اَلْمُضِلِّينَ عَضُداً﴾ ظاهر السياق كون ضميري الجمع لإبليس و ذريته و المراد بالإشهاد الإحضار و الاعلام عيانا كما أن الشهود هو المعاينة حضورا، و العضد ما بين المرفق و الكتف من الإنسان و يستعار للمعين كاليد و هو المراد هاهنا.
و قد اشتملت الآية في نفي ولاية التدبير عن إبليس و ذريته على حجتين إحداهما:
أن ولاية تدبير أمور شيء من الأشياء تتوقف على الإحاطة العلمية بتمام معنى الكلمة بتلك الأمور من الجهة التي تدبر فيها و بما لذلك الشيء و تلك الأمور من الروابط الداخلية و الخارجية بما يبتدئ منه و ما يقارنه و ما ينتهي إليه و الارتباط الوجودي سار بين أجزاء الكون؛ و هؤلاء و هم إبليس و ذريته لم يشهدهم الله سبحانه خلق السماوات و الأرض و لا خلق أنفسهم فلا كانوا شاهدين إذ قال للسماوات و الأرض:
كن فكانت و لا إذ قال لهم: كونوا فكانوا فهم جاهلون بحقيقة السماوات و الأرض و ما في أوعية وجوداتها من أسرار الخلقة حتى بحقيقة صنع أنفسهم فكيف يسعهم أن يلوا تدبير أمرها أو تدبير أمر شطر منها فيكونوا آلهة و أربابا من دون الله و هم جاهلون بحقيقة خلقتها و خلقة أنفسهم.
و أما أنهم لم يشهدوا خلقها فلأن كلا منهم شيء محدود لا سبيل له إلى ما وراء نفسه فغيره في غيب منه مضروب عليه الحجاب، و هذا بين و قد أنبأ الله سبحانه عنه في مواضع من كلامه؛ و كذا كل منهم مستور عنه شأن الأسباب التي تسبق وجوده و اللواحق التي ستلحق وجوده.
و هذه حجة برهانية غير جدلية عند من أجاد النظر و أمعن في التدبر حتى لا يختلط عنده هذه الألعوبة الكاذبة التي نسميها تدبيرا بالتدبير الكوني الذي لا يلحقه خطأ و لا ضلال، و كذا الظنون و المزاعم الواهية التي نتداولها و نركن إليها بالعلم العياني الذي هو حقيقة العلم و كذا العلم بالأمور الغائبة بالظفر على أماراتها الأغلبية بالعلم بالغيب الذي يتبدل به الغيب شهادة.
و الثانية أن كل نوع من أنواع المخلوقات متوجه بفطرته نحو كماله المختص بنوعه و هذا ضروري عند من تتبعها و أمعن النظر في حالها فالهداية الإلهية عامة للجميع كما قال: ﴿اَلَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى﴾: طه: ٥٠ و الشياطين أشرار مفسدون مضلون فتصديهم تدبير شيء من السماوات و الأرض أو الإنسان - و لن يكون إلا بإذن من الله سبحانه - مؤد إلى نقضه السنة الإلهية من الهداية العامة أي توسله تعالى إلى الإصلاح بما ليس شأنه إلا الإفساد و إلى الهداية بما خاصته الإضلال و هو محال.
و هذا معنى قوله سبحانه: ﴿وَ مَا كُنْتُ مُتَّخِذَ اَلْمُضِلِّينَ عَضُداً﴾ الظاهر في أن سنته تعالى أن لا يتخذ المضلين عضدا فافهم.
و في قوله: ﴿مَا أَشْهَدْتُهُمْ﴾ و قوله: ﴿وَ مَا كُنْتُ﴾ و لم يقل: ما شهدوا و ما كانوا دلالة على أنه سبحانه هو القاهر المهيمن عليهم على كل حال، و القائلون بإشراك الشياطين أو الملائكة أو غيرهم بالله في أمر التدبير لم يقولوا باستقلالهم في ذلك بل بأن أمر التدبير مملوك لهم بتمليك من الله تعالى مفوض إليهم بتفويض منه و أنهم أرباب و آلهة و الله رب الأرباب و إله الآلهة.
و ما تقدم من معنى الآية مبني على حمل الإشهاد على معناه الحقيقي و إرجاع الضميرين في ﴿مَا أَشْهَدْتُهُمْ﴾ و ﴿أَنْفُسِهِمْ﴾ إلى إبليس و ذريته كما هو الظاهر المتبادر من السياق، و للمفسرين أقوال أخر:.
منها قول بعضهم: إن المراد من الإشهاد في خلقها المشاورة مجازا فإن أدنى مراتب الولاية على شيء أن يشاوره في أمره، و المراد بنفي الاعتضاد نفي سائر مراتب الاستعانة المؤدية إلى الولاية و السلطة على المولى عليه بوجه ما فكأنه قيل ما شاورتهم
في أمر خلقها و لا استعنت بهم بشيء من أنواع الاستعانة فمن أين يكونون أولياء لهم؟.
و فيه أنه لا قرينة على هذا المجاز و لا مانع من الحمل على المعنى الحقيقي على أنه لا رابطة بين الإشارة بالشيء و الولاية عليه حتى تعد المشاورة من مراتب التولية أو الإشارة من درجات الولاية، و قد وجه بعضهم هذا المعنى بأن المراد بالإشهاد المشاورة كناية و لازم المشاورة أن يخلق كما شاءوا أي أن يخلقهم كما أحبوا أي أن يخلقهم كاملين فالمراد بنفي إشهاد الشياطين خلق أنفسهم نفي أن يكونوا كاملين في الخلقة حتى يسع لهم ولاية تدبير الأمور.
و فيه مضافا إلى أنه يرد عليه ما أورد على سابقه أولا أن ذلك يرجع إلى إطلاق الشيء و إرادة لازمه بخمس مراتب من اللزوم فالمشاورة لازم الإشهاد على ما يدعيه و خلق ما يشاؤه المشير لازم المشاورة و خلق ما يحبه لازم خلق ما يشاؤه، و كمال الخلقة لازم خلق ما يحبه، و صحة الولاية لازم كمال الخلقة فإطلاق الإشهاد و إرادة كمال الخلقة أو صحة الولاية من قبيل التكنية عن لازم المعنى من وراء لزومات أربع أو خمس، و الكتاب المبين يجل عن أمثال هذه الألغازات.
و ثانيا: أنه لو صح فإنما يصح في إشهادهم خلق أنفسهم دون إشهادهم خلق السماوات و الأرض فلازمه التفكيك بين الإشهادين.
و ثالثا: أن لازمه صحة ولاية من كان كاملا في خلقه كالملائكة المقربين ففيه اعتراف بإمكان ولايتهم و جواز ربوبيتهم و القرآن يدفع ذلك بأصرح البيان فأين الممكن المفتقر لذاته إلى الله سبحانه من الاستقلال في تدبير نفسه أو تدبير غيره؟ و أما نحو قوله تعالى: ﴿فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً﴾: النازعات: ٥ فسيجيء توضيح معناه إن شاء الله.
و منها قول بعضهم: إن المراد بالإشهاد حقيقة معناه و الضميران للشياطين لكن المراد من إشهادهم خلق أنفسهم إشهاد بعضهم خلق بعض لا إشهاد كل خلق نفسه.
و فيه أن المراد بنفي الإشهاد استنتاج انتفاء الولاية، و لم يقل أحد من المشركين بولاية بعض الشياطين لبعض و لا تعلق الغرض بنفيها حتى يحمل لفظ الآية على إشهاد بعضهم خلق بعض.
و منها قول بعضهم: إن أول الضميرين للشياطين و الثاني للكفار أو لهم و لغيرهم من الناس. و المعنى ما أشهدت الشياطين خلق السماوات و الأرض و لا خلق الكفار أو الناس حتى يكونوا أولياء لهم.
و فيه أن فيه تفكيك الضميرين.
و منها قول بعضهم: برجوع الضميرين إلى الكفار قال الإمام الرازي في تفسيره، و الأقرب عندي عودهما يعني الضميرين على الكفار الذين قالوا للرسول (ص): إن لم تطرد عن مجلسك هؤلاء الفقراء لم نؤمن بك فكأنه تعالى قال: إن هؤلاء الذين أتوا بهذا الاقتراح الفاسد و التعنت الباطل ما كانوا شركائي في تدبير العالم بدليل أني ما أشهدتهم خلق السماوات و الأرض و لا خلق أنفسهم و لا اعتضدت بهم في تدبير الدنيا و الآخرة بل هم كسائر الخلق فلم أقدموا على هذا الاقتراح الفاسد؟ و نظيره أن من اقترح عليك اقتراحات عظيمة فإنك تقول له: لست بسلطان البلد حتى نقبل منك هذه الاقتراحات الهائلة فلم تقدم عليها؟.
و يؤكده أن الضمير يجب عوده على أقرب المذكورات و هو في الآية أولئك الكفار لأنهم المراد بالظالمين في قوله تعالى: ﴿بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً﴾ انتهى.
و فيه أن فيه خرق السياق بتعليق مضمون الآية بما تعرض به في قوله: ﴿وَ لاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا﴾ بنحو الإشارة قبل ثلاث و عشرين آية و قد تحول وجه الكلام بالانعطاف على أول السورة مرة بعد مرة بالتمثيل بعد التمثيل و التذكير بعد التذكير فما احتمله من المعنى في غاية البعد.
على أن ما ذكره من اقتراحهم على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): «إن لم تطرد هؤلاء الفقراء من مجلسك لم نؤمن بك» ليس باقتراح فيه مداخلة في تدبير أمر العالم حتى يرد عليهم بمثل قوله ﴿مَا أَشْهَدْتُهُمْ﴾ إلخ بل اشتراط لإيمانهم بطرد أولئك من غير أن يبتني على دعوى ترد بمثل ذلك، نعم لو قيل: اطرد عن مجلسك هؤلاء الفقراء و اكتفي به لكان لما قاله بعض الوجه.
و كأن التنبه لهذه النكتة دعا بعضهم إلى توجيه معنى الآية على تقدير رجوع
الضميرين إلى الكفار بأن المراد أنهم جاهلون بما جرى عليه القلم في الأزل من أمر السعادة و الشقاء إذ لم يشهدوا الخلقة فكيف يقترحون عليك أن تقربهم إليك و تطرد الفقراء.
و مثله قول آخرين: إن المراد أني ما أطلعتهم على أسرار الخلقة و لم يختصوا مني بما يمتازون به من غيرهم حتى يكونوا قدوة يقتدي بهم الناس في الإيمان بك فلا تطمع في نصرتهم فلا ينبغي لي أن أعتضد لديني بالمضلين.
و كلا الوجهين أبعد مما ذكره الإمام من الوجه فأين الآية من الدلالة على ما اختلقاه من المعنى؟.
و منها أن الضميرين للملائكة و المعنى ما أشهدت الملائكة خلق العالم و لا خلق أنفسهم حتى يعبدوا من دوني، و ينبغي أن يضاف إليه أن قوله: ﴿وَ مَا كُنْتُ مُتَّخِذَ اَلْمُضِلِّينَ عَضُداً﴾ أيضا متعرض لنفي ولاية الشياطين فتدل الآية حينئذ بصدرها و ذيلها على نفي ولاية الفريقين جميعا و إلا دفعه ذيل الآية.
و فيه أن الآية السابقة إنما خاطبت الكفار في قولهم بولاية الشياطين ثم ذكرتهم بضمير الجمع في قولها: ﴿وَ هُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ﴾ و لم يتعرض لشيء من أمر الملائكة فإرجاع الضميرين إلى الملائكة دون الشياطين تفكيك، و الاشتغال بنفي ولاية الملائكة تعرض لما لم يحوج إليه السياق و لا اقتضاه المقام.
قوله تعالى: ﴿وَ يَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ اَلَّذِينَ زَعَمْتُمْ﴾ إلى آخر الآية هذا تذكير ثالث يذكر فيه ظهور بطلان الرابطة بين المشركين و بين شركائهم يوم القيامة و يتأكد بذلك أنهم ليسوا على شيء مما يدعيه لهم المشركون.
فقوله: ﴿وَ يَوْمَ يَقُولُ﴾ إلخ الضمير له تعالى بشهادة السياق، و المعنى و اذكر لهم يوم يقول الله لهم نادوا شركائي الذين زعمتم أنهم لي شركاء فدعوهم فلم يستجيبوا لهم و بان أنهم ليسوا لي شركاء و لو كانوا لاستجابوا.
و قوله: ﴿وَ جَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً﴾ الموبق بكسر الباء اسم مكان من وبق وبوقا بمعنى هلك، و المعنى جعلنا بين المشركين و شركائهم محل هلاك و قد فسر القوم هذا
الموبق و المهلك بالنار أو بمحل من النار يهلك فيه الفريقان المشركون و شركاءهم لكن التدبر في كلامه تعالى لا يساعد عليه فإن الآية قد أطلقت الشركاء و فيهم و لعلهم الأكثر الملائكة و بعض الأنبياء و الأولياء، و أرجع إليهم ضمير أولي العقل مرة بعد مرة، و لا دليل على اختصاصهم بمردة الجن و الإنس و كون جعل الموبق بينهم دليلا على الاختصاص أول الكلام.
فلعل المراد من جعل موبق بينهم إبطال الرابطة و رفعها من بينهم و قد كانوا يرون في الدنيا أن بينهم و بين شركائهم رابطة الربوبية و المربوبية أو السببية و المسببية فكني عن ذلك بجعل موبق بينهم يهلك فيه الرابطة و العلقة من غير أن يهلك الطرفان، و يومئ إلى ذلك بلطيف الإشارة تعبيره عن دعوتهم أولا بالنداء حيث قال: ﴿نَادُوا شُرَكَائِيَ﴾ و النداء إنما يكون في البعيد فهو دليل على بعد ما بينهما.
و إلى مثل هذا المعنى يشير قوله تعالى في موضع آخر من كلامه: ﴿وَ مَا نَرى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ اَلَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَ ضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ﴾: الأنعام: ٩٤، و قوله تعالى: ﴿ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَ شُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَ قَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ﴾: يونس: ٢٨.
قوله تعالى: ﴿وَ رَأَى اَلْمُجْرِمُونَ اَلنَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَ لَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً﴾ في أخذ المجرمين مكان المشركين دلالة على أن الحكم عام لجميع أهل الاجرام، و المراد بالظن هو العلم على ما قيل و يشهد به قوله: ﴿وَ لَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً﴾.
و المراد بمواقعة النار الوقوع فيها على ما قيل و لا يبعد أن يكون المراد حصول الوقوع من الجانبين فهم واقعون في النار بدخولهم فيها و النار واقعة فيهم باشتعالهم بها.
و قوله: ﴿وَ لَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً﴾ المصرف بكسر الراء اسم مكان من الصرف أي لم يجدوا محلا ينصرفون إليه و يعدلون عن النار و لا مناص.
قوله تعالى: ﴿وَ لَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا اَلْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَ كَانَ اَلْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً﴾ قد مر الكلام في نظير صدر الآية في سورة أسرى آية ٨٩ و الجدل الكلام
على سبيل المنازعة و المشاجرة و الآية إلى تمام ست آيات مسوقة للتهديد بالعذاب بعد التذكيرات السابقة.
قوله تعالى: ﴿وَ مَا مَنَعَ اَلنَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ اَلْهُدى وَ يَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ﴾ و ﴿يَسْتَغْفِرُوا﴾ عطف على قوله: ﴿يُؤْمِنُوا﴾ أي و ما منعهم من الإيمان و الاستغفار حين مجيء الهدى.
و قوله: ﴿إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ اَلْأَوَّلِينَ﴾ أي إلا طلب أن تأتيهم السنة الجارية في الأمم الأولين و هي عذاب الاستئصال، و قوله: ﴿أَوْ يَأْتِيَهُمُ اَلْعَذَابُ قُبُلاً﴾ عطف على سابقه أي أو طلب أن يأتيهم العذاب مقابلة و عيانا و لا ينفعهم الإيمان حينئذ لأنه إيمان بعد مشاهدة البأس الإلهي قال تعالى: ﴿فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اَللَّهِ اَلَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ﴾: المؤمن: ٨٥.
فمحصل المعنى أن الناس لا يطلبون إيمانا ينفعهم و الذي يريدونه أن يأخذهم عذاب الاستئصال على سنة الأولين فيهلكوا و لا يؤمنوا أو يقابلهم العذاب عيانا فيؤمنوا اضطرارا فلا ينفعهم الإيمان.
و هذا المنع و الاقتضاء في الآية أمر ادعائي يراد به أنهم معرضون عن الحق لسوء سريرتهم فلا جدوى للإطناب الذي وقع في التفاسير في صحة ما مر من التوجيه و التقدير إشكالا و دفعا.
قوله تعالى: ﴿وَ مَا نُرْسِلُ اَلْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ﴾ إلخ تعزية للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن لا يضيق صدره من إنكار المنكرين و إعراضهم عن ذكر الله فما كانت وظيفة المرسلين إلا التبشير و الإنذار و ليس عليهم وراء ذلك من بأس ففيه انعطاف إلى مثل ما مر في قوله في أول السورة: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا اَلْحَدِيثِ أَسَفاً﴾ و في الآية أيضا نوع تهديد للكفار المستهزءين.
و الدحض الهلاك و الإدحاض الإهلاك و الإبطال، و الهزوء: الاستهزاء و المصدر بمعنى اسم المفعول و معنى الآية ظاهر.
قوله تعالى: ﴿وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَ نَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ﴾ إعظام و تكبير لظلمهم و الظلم يعظم و يكبر بحسب متعلقه و إذا كان هو الله سبحانه بآياته فهو أكبر من كل ظلم.
و المراد بنسيان ما قدمت يداه عدم مبالاته بما يأتيه من الإعراض عن الحق و الاستهزاء به و هو يعلم أنه حق، و قوله: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَ فِي آذَانِهِمْ وَقْراً﴾كأنه تعليل لإعراضهم عن آيات الله أو له و لنسيانهم ما قدمت أيديهم، و قد تقدم الكلام في معنى جعل الأكنة على قلوبهم و الوقر في آذانهم في الكتاب مرارا.
و قوله: ﴿وَ إِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى اَلْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً﴾ إياس من إيمانهم بعد ما ضرب الله الحجاب على قلوبهم و آذانهم فلا يسعهم بعد ذلك أن يهتدوا بأنفسهم بتعقل الحق و لا أن يسترشدوا بهداية غيرهم بالسمع و الاتباع، و الدليل على هذا المعنى قوله:
﴿وَ إِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى اَلْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً﴾ حيث دل على تأييد النفي و قيده بقوله: ﴿إِذاً﴾ و هو جزاء و جواب.
قال في روح المعاني،: و استدلت الجبرية بهذه الآية على مذهبهم و القدرية بالآية التي قبلها. قال الإمام: و قل ما تجد في القرآن آية لأحد هذين الفريقين إلا و معها آية للفريق الآخر، و ما ذاك إلا امتحان شديد من الله تعالى ألقاه الله على عباده ليتميز العلماء الراسخون من المقلدين. انتهى.
أقول: و كلتا الآيتين حق و لازم ذلك ثبوت الاختيار للعباد في أعمالهم و انبساط سلطنته تعالى في ملكه حتى على أعمال العباد و هو مذهب أئمة أهل لبيت (عليه السلام).
قوله تعالى: ﴿وَ رَبُّكَ اَلْغَفُورُ ذُو اَلرَّحْمَةِ﴾ إلى آخر الآية، الآيات كما سمعت مسرودة لتهديدهم بالعذاب و هم فاسدون في أعمالهم فسادا لا يرجى منهم صلاح و هذا مقتض لنزول العذاب و أن يكون معجلا لا يمهلهم إذ لا أثر لبقائهم إلا الفساد لكن الله سبحانه لم يعجل لهم العذاب و إن قضى به قضاء حتم بل أخره إلى أجل مسمى عينه بعلمه.
فقوله: ﴿وَ رَبُّكَ اَلْغَفُورُ ذُو اَلرَّحْمَةِ﴾ صدرت به الآية المتضمنة لصريح القضاء في تهديدهم ليعدل به بواسطة اشتماله على الوصفين: الغفور ذي الرحمة ما يقتضي العذاب المعجل فيقضي و يمضي أصل العذاب أداء لحق مقتضيه و هو عملهم، و يؤخر وقوعه لأن الله غفور ذو رحمة.
فالجملة أعني قوله: ﴿اَلْغَفُورُ ذُو اَلرَّحْمَةِ﴾ مع قوله: ﴿لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ اَلْعَذَابَ﴾ بمنزلة متخاصمين متنازعين يحضران عند القاضي، و قوله: ﴿بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً﴾ أي ملجأ يلجئون منه إليه بمنزلة الحكم الصادر عنه بما فيه إرضاء الجانبين و مراعاة الحقين فأعطي وصف الانتقام الإلهي باستدعاء مما كسبوا أصل العذاب، و أعطيت صفة المغفرة و الرحمة أن يؤجل العذاب و لا يعجل؛ و عند ذلك أخذت المغفرة الإلهية تمحو أثر العمل الذي هو استعجال العذاب، و الرحمة تفيض عليهم حياة معجلة.
و محصل المعنى: لو يؤاخذهم ربك لعجل لهم العذاب لكن لم يعجل لأنه الغفور ذو الرحمة بل حتم عليهم العذاب بجعله لهم موعدا لا ملجأ لهم يلجئون منه إليه. فقوله:
﴿بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ﴾ إلخ كلمة قضاء و ليس بحكاية محضة و إلا قيل: بل جعل لهم موعدا إلخ فافهم ذلك.
و الغفور صيغة مبالغة تدل على كثرة المغفرة، و ذو الرحمة و لامه للجنس صفة تدل على شمول الرحمة لكل شيء فهي أشمل معنى من الرحمن و الرحيم الدالين على الكثرة أو الثبوت و الاستمرار فالغفور بمنزلة الخادم لذي الرحمة فإنه يصلح المورد لذي الرحمة بإمحاء ما عليه من وصمة الموانع فإذا صلح شمله ذو الرحمة، فللغفور السعي و كثرة العمل و لذي الرحمة الانبساط و الشمول على ما لا مانع عنده، و لهذه النكتة جيء في المغفرة بالغفور و هو صيغة مبالغة و في الرحمة بذي الرحمة الحاوي لجنس الرحمة فافهم ذلك و دع عنك ما أطنبوا فيه من الكلام في الاسمين.
قوله تعالى: ﴿وَ تِلْكَ اَلْقُرى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَ جَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً﴾ المراد بالقرى أهلها مجازا بدليل الضمائر الراجعة إليها، و المهلك بكسر اللام اسم زمان.
و معنى الآية ظاهر و هي مسوقة لبيان أن تأخير مهلكهم و تأجيله ليس ببدع منا
بل السنة الإلهية في الأمم الماضين الذين أهلكهم الله لما ظلموا كانت جارية على ذلك فكان الله يهلكهم و يجعل لمهلكهم موعدا.
و من هنا يظهر أن العذاب و الهلاك الذي تتضمنه الآيات ليس بعذاب يوم القيامة بل عذاب دنيوي و هو عذاب يوم بدر إن كان المراد تهديد صناديد قريش أو عذاب آخر الزمان إن كان المراد تهديد الأمة كما مر في تفسير سورة يونس.
(بحث روائي)
في تفسير العياشي،: في قوله تعالى: ﴿يَا وَيْلَتَنَا مَا لِهَذَا اَلْكِتَابِ﴾ الآية: عن خالد بن نجيح عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا كان يوم القيامة دفع للإنسان كتابه ثم قيل له: اقرأ. قلت: فيعرف ما فيه؟ فقال: إنه يذكره فما من لحظة و لا كلمة و لا نقل قدم و لا شيء فعله إلا ذكره كأنه فعله تلك الساعة. و لذلك قالوا: ﴿يَا وَيْلَتَنَا مَا لِهَذَا اَلْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَ لاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا﴾. أقول: و الرواية كما ترى تجعل ما يذكره الإنسان هو ما عرفه من ذلك الكتاب فمذكوره هو المكتوب فيه، و لو لا حضور ما عمله لم تتم عليه الحجة و لأمكنه أن ينكره.
و في تفسير القمي، :في قوله تعالى: ﴿وَ لاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً﴾ قال: يجدون كل ما عملوا مكتوبا.
و في تفسير البرهان، عن ابن بابويه بإسناده عن أبي معمر السعدان عن علي (عليه السلام) قال: قوله: ﴿وَ رَأَى اَلْمُجْرِمُونَ اَلنَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا﴾ أي أيقنوا أنهم داخلوها.
و في الدر المنثور، أخرج أحمد و أبو يعلى و ابن جرير و ابن حبان و الحاكم و صححه و ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: ينصب الكافر يوم
القيامة مقدار خمسين ألف سنة كما لم يعمل في الدنيا، و إن الكافر يرى جهنم و يظن أنها مواقعته من مسيرة أربعين سنة. أقول: و هو يؤيد ما تقدم أن المواقعة في الآية مأخوذة بين الاثنين.
[سورة الكهف (١٨): الآیات ٦٠ الی ٨٢ ]
﴿وَ إِذْ قَالَ مُوسى لِفَتَاهُ لاَ أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ اَلْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً ٦٠ فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي اَلْبَحْرِ سَرَباً ٦١ فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً ٦٢ قَالَ أَ رَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى اَلصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ اَلْحُوتَ وَ مَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ اَلشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَ اِتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي اَلْبَحْرِ عَجَباً ٦٣ قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثَارِهِمَا قَصَصاً ٦٤ فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَ عَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً ٦٥ قَالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً ٦٦ قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً ٦٧ وَ كَيْفَ تَصْبِرُ عَلى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً ٦٨ قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اَللَّهُ صَابِراً وَ لاَ أَعْصِي لَكَ أَمْراً ٦٩ قَالَ فَإِنِ اِتَّبَعْتَنِي فَلاَ تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً ٧٠ فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي اَلسَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَ خَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً ٧١ قَالَ أَ لَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً ٧٢ قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَ لاَ﴾
﴿تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً ٧٣ فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاَماً فَقَتَلَهُ قَالَ أَ قَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً ٧٤ قَالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً ٧٥ قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً ٧٦ فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اِسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً ٧٧ قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَ بَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً ٧٨ أَمَّا اَلسَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي اَلْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَ كَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً ٧٩ وَ أَمَّا اَلْغُلاَمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَ كُفْراً ٨٠ فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَ أَقْرَبَ رُحْماً ٨١ وَ أَمَّا اَلْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي اَلْمَدِينَةِ وَ كَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَ كَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَ يَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَ مَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً ٨٢﴾
(بيان)
قصة موسى و العالم الذي لقيه بمجمع البحرين و كان يعلم تأويل الحوادث ذكر الله سبحانه
بها نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) و هو التذكير الرابع من التذكيرات الواقعة إثر ما أمره في صدر السورة بالصبر و المضي على تبليغ رسالته و السلوة فيما يشاهده من إعراض الناس عن ذكر الله و إقبالهم على الدنيا و بين أن الذي هم مشتغلون به زينة معجلة و متاع إلى حين فلا يشقن عليه ما يجده عندهم من ظاهر تمتعهم بالحياة و فوزهم بما يشتهون فيها فإن وراء هذا الظاهر باطنا و فوق سلطتهم على المشتهيات سلطنة إلهية.
فالتذكير بقصة موسى و العالم كأنه للإشارة إلى أن لهذه الوقائع و الحوادث التي تجري على مشتهى أهل الدنيا تأويلا سيظهر لهم إذا بلغ الكتاب أجله فأذن الله لهم أن ينتبهوا من نومة الغفلة و بعثوا لنشأة غير النشأة يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل لقد جاءت رسل ربنا بالحق.
و موسى الذي ذكر في القصة هو ابن عمران الرسول النبي أحد أولي العزم (عليه السلام) على ما وردت به الرواية من طرق الشيعة و أهل السنة.
و قيل: هو أحد أسباط يوسف بن يعقوب (عليه السلام) و هو موسى بن ميشا بن يوسف و كان من أنبياء بني إسرائيل و يبعده أن القرآن قد أكثر ذكر اسم موسى حتى بلغ مائة و نيفا و ثلاثين و هو يريد ابن عمران (عليه السلام) فلو أريد بما في هذه القصة غيره لضم إليه قرينة صارفة.
و قيل إن القصة أسطورة تخييلية صورت لغاية أن كمال المعرفة يورد الإنسان مشرعة عين الحياة و يسقيه ماءها و هو الحياة الخالدة التي لا موت بعدها أبدا و السعادة السرمدية التي لا سعادة فوقها قط. و فيه أنه تقدير من غير دليل و ظاهر الكتاب العزيز يدفعه و لا خبر في القصة التي يقصها القرآن عن عين الحياة هذه إلا ما ورد في أقاويل بعض المفسرين و القصاصين من أهل التاريخ من غير أصل قرآني يستند إليه أو وجدان حسي لعين هذه صفتها في صقع من أصقاع الأرض.
و الفتى الذي ذكره الله و أضافه إلى موسى قيل هو يوشع بن نون وصيه، و به وردت الرواية قيل: سمي فتى لأنه كان يلازمه سفرا و حضرا أو لأنه كان يخدمه.
و العالم الذي لقيه موسى و وصفه الله وصفا جميلا بقوله: ﴿عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ
رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَ عَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً﴾ و لم يسمه ورد في الروايات أن اسمه الخضر و كان نبيا من الأنبياء معاصر لموسى (عليه السلام) و في بعضها أن الله رزقه طول الحياة فهو حي لم يمت بعد، و هذا المقدار لا بأس به إذ لم يرد عقل أو نقل قطعي بخلافه و قد طال البحث عن شخصية الخضر بين القوم كما في مطولات التفاسير و تكاثرت القصص و الحكايات في رؤيته و مع ذلك لا تخلو الأخبار و القصص عن أساطير موضوعة أو مدسوسة.
قوله تعالى: ﴿وَ إِذْ قَالَ مُوسى لِفَتَاهُ لاَ أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ اَلْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً﴾ الظرف متعلق بمقدر، و الجملة معطوفة على ما عطف عليه التذكيرات الثلاثة المذكورة سابقا، و قوله: ﴿لاَ أَبْرَحُ﴾ بمعنى لا أزال و هو من الأفعال الناقصة حذف خبره إيجازا لدلالة قوله: ﴿حَتَّى أَبْلُغَ﴾ عليه و التقدير لا أبرح أمشي أو أسير، و مجمع البحرين قيل: هو الذي ينتهي إليه بحر الروم من الجانب الشرقي و بحر الفرس من الجانب [1]الغربي، و الحقب الدهر و الزمان و تنكيره يدل على وصف محذوف و التقدير حقبا طويلا.
و المعنى و الله أعلم و اذكر إذ قال موسى لفتاه لا أزال أسير حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي دهرا طويلا.
قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي اَلْبَحْرِ سَرَباً﴾ الظاهر أن قوله: ﴿مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا﴾ من إضافة الصفة إلى الموصوف و أصله بين البحرين الموصوف بأنه مجمعهما.
و قوله: ﴿نَسِيَا حُوتَهُمَا﴾ الآيتان التاليتان تدلان على أنه كان حوتا مملوحا أو مشويا حملاه ليرتزقا به في المسير و لم يكن حيا و إنما حي هناك و اتخذ سبيله في البحر و رآه الفتى و هو حي يغوص في البحر و نسي أن يذكر ذلك لموسى و نسي موسى أن يسأله عنه أين هو ؟ و على هذا فمعنى ﴿نَسِيَا حُوتَهُمَا﴾ بنسبة النسيان إليهما معا: نسيا حال حوتهما فموسى نسي
كونه في المكتل فلم يتفقده و الفتى نسيه إذ لم يخبر موسى بعجيب ما رأى من أمره.
هذا ما ذكروه.
و اعلم أن الآيات غير صريحة في حياة الحوت بعد ما كان ميتا بل ظاهر قوله:
﴿نَسِيَا حُوتَهُمَا﴾ و كذا قوله: ﴿نَسِيتُ اَلْحُوتَ﴾ أن يكونا وضعاه في مكان من الصخرة مشرف على البحر فيسقط في البحر أو يأخذه البحر بمد و نحوه فيغيب فيه و يغور في أعماقه بنحو عجيب كالدخول في السرب و يؤيده ما في بعض الروايات أن العلامة كانت هي افتقاد الحوت لا حياته و الله أعلم.
و قوله: ﴿فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي اَلْبَحْرِ سَرَباً﴾ السرب المسلك و المذهب و السرب و النفق الطريق المحفور في الأرض لا نفاذ فيه كأنه شبه السبيل الذي اتخذه الحوت داخل الماء بالسرب الذي يسلكه السالك فيغيب فيه.
قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً﴾ قال في المجمع،: النصب و الوصب و التعب نظائر، و هو الوهن الذي يكون عن كد انتهى، و المراد بالغداء ما يتغدى به و فيه دلالة على أن ذلك كان في النهار.
و المعنى: و لما جاوزا مجمع البحرين أمر موسى فتاه أن يأتي بالغداء و هو الحوت الذي حملاه ليتغديا به و لقد لقيا من سفرهما تعبا.
قوله تعالى: ﴿قَالَ أَ رَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى اَلصَّخْرَةِ﴾ إلى آخر الآية يريد حال بلوغهم مجمع البحرين و مكثهم هناك فقد كانت الصخرة هناك و الدليل عليه قوله: ﴿وَ اِتَّخَذَ سَبِيلَهُ﴾ إلخ و قد ذكر في ما مر أنه كان بمجمع البحرين، يقول لموسى: لا غداء عندنا نتغدى به فإن غداءنا و هو الحوت حي و دخل البحر و ذهب حينما بلغنا مجمع البحرين و أوينا إلى الصخرة التي كانت هناك و إني نسيت أن أخبرك بذلك.
فقوله: ﴿أَ رَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى اَلصَّخْرَةِ﴾ يذكره حال أويهما إلى الصخرة و نزولهما عندها ليستريحا قليلا، و قوله: ﴿فَإِنِّي نَسِيتُ اَلْحُوتَ﴾ أي نسيت حال الحوت التي شاهدتها منه فلم أذكرها لك، و الدليل على هذا المعنى - كما قيل - قوله: ﴿وَ مَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ اَلشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ﴾ فإن ﴿أَنْ أَذْكُرَهُ﴾ بدل من ضمير ﴿أَنْسَانِيهُ﴾
و التقدير «و ما أنساني ذكر الحوت لك إلا الشيطان فهو لم ينس نفس الحوت و إنما نسي أن يذكر حاله التي شاهد منه لموسى.
و لا ضير في نسبة الفتى نسيانه إلى تصرف من الشيطان بناء على أنه كان يوشع بن نون النبي و الأنبياء في عصمة إلهية من الشيطان لأنهم معصومون مما يرجع إلى المعصية و أما مطلق إيذاء الشيطان فيما لا يرجع إلى معصية فلا دليل يمنعه قال تعالى: ﴿وَ اُذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ اَلشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَ عَذَابٍ﴾: ص: ٤١.
و قوله: ﴿وَ اِتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي اَلْبَحْرِ عَجَباً﴾ أي اتخاذا عجبا فعجبا وصف قام مقام موصوفه على المفعولية المطلقة، و قيل: إن قوله: ﴿وَ اِتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي اَلْبَحْرِ﴾ قول الفتى و قوله: ﴿عَجَباً﴾ من قول موسى، و السياق يدفعه.
و اعلم أن ما تقدم من الاحتمال في قوله: ﴿نَسِيَا حُوتَهُمَا﴾ إلخ جار هاهنا و الله أعلم.
قوله تعالى: ﴿قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثَارِهِمَا قَصَصاً﴾ البغي الطلب، و الارتداد العود على بدء، و المراد بالآثار آثار أقدامهما، و القصص اتباع الأثر و المعنى قال موسى: ذلك الذي وقع من أمر الحوت هو الذي كنا نطلبه فرجعا على آثارهما يقصانها قصصا و يتبعانها اتباعا.
و قوله: ﴿ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا﴾ يكشف عن أن موسى كان مأمورا من طريق الوحي أن يلقى العالم في مجمع البحرين و كان علامة المحل الذي يجده و يلقاه فيه ما وقع من أمر الحوت إما خصوص قضية حياته و ذهابه في البحر أو بنحو الإبهام و العموم كفقد الحوت أو حياته أو عود الميت حيا و نحو ذلك، و لذلك لما سمع موسى من فتاه ما سمع من أمر الحوت قال ما قال، و رجعا إلى المكان الذي فارقاه فوجدا عبدا «إلخ».
قوله تعالى: ﴿فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا﴾ إلخ . كل نعمة فإنها رحمة منه تعالى لخلقه لكن منها ما تتوسط فيه الأسباب الكونية و تعمل فيه كالنعم الظاهرية بأنواعها، و منها ما لا يتوسط فيه شيء منها كالنعم الباطنية من النبوة و الولاية بشعبها و مقاماتها، و تقييد الرحمة بقوله: ﴿مِنْ عِنْدِنَا﴾ الظاهر في أنها من موهبته لا صنع لغيره فيها يعطي أنها من القسم الثاني أعني النعم الباطنية ثم اختصاص الولاية بحقيقتها به تعالى كما قال: ﴿فَاللَّهُ هُوَ اَلْوَلِيُّ﴾: الشورى: ٩، و كون النبوة مما للملائكة
الكرام فيه عمل كالوحي و نحوه يؤيد أن يكون المراد بقوله: ﴿رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا﴾ حيث جيء بنون العظمة و لم يقل: من عندي هو النبوة دون الولاية، و بهذا يتأيد تفسير من فسر الكلمة بالنبوة و الله أعلم.
و أما قوله: ﴿وَ عَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً﴾ فهو أيضا كالرحمة التي من عنده علم لا صنع فيه للأسباب العادية كالحس و الفكر حتى يحصل من طريق الاكتساب و الدليل على ذلك قوله: «من لدنا» فهو علم وهبي غير اكتسابي يختص به أولياءه و آخر الآيات يدل على أنه كان علما بتأويل الحوادث.
قوله تعالى: ﴿قَالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً﴾ الرشد خلاف الغي و هو إصابة الصواب، و هو في الآية مفعول له أو مفعول به، و المعنى قال له موسى هل أتبعك اتباعا مبنيا على هذا الأساس و هو أن تعلمني مما علمت لأرشد به أو تعلمني مما علمت أمرا ذا رشد.
قوله تعالى: ﴿قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً﴾ نفي مؤكد لصبره (عليه السلام) على شيء مما يشاهده منه في طريق التعليم و الدليل عليه تأكيد الكلام بأن، و إيراد الصبر نكرة في سياق النفي الدال على إرادة العموم، و نفي الصبر بنفي الاستطاعة التي هي القدرة فهو آكد من أن يقال: لن تصبر، و إيراد النفي بلن و لم يقل: لا تصبر و للفعل توقف على القدرة فهو نفي الفعل بنفي أحد أسبابه ثم نفي الصبر بنفي سبب القدرة عليه و هو إحاطة الخبر و العلم بحقيقة الواقعة و تأويلها حتى يعلم أنها يجب أن تجري على ما جرت عليه.
و قد نفى صبره على مظاهر علمه من الحوادث حيث قال: ﴿لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ﴾ و لم ينف صبره على نفس علمه فلم يقل: لن تصبر على ما أعلمه و لن تتحمله و لم يتغير عليه موسى (عليه السلام) حينما أخبره بتأويل ما رأى منه و إنما تغير عليه عند مشاهدة نفس أفعاله التي أراه إياها في طريق التعليم، فللعلم حكم و لمظاهره حكم و نظير ذلك أن موسى (عليه السلام) لما رجع من الميقات إلى قومه و شاهد أنهم عبدوا العجل من بعده امتلأ غيظا و ألقى الألواح و أخذ برأس أخيه يجره إليه و قد كان الله أخبره بذلك و هو في الميقات فلم يأت بشيء من ذلك و قول الله أصدق من الحس و القصة في سورة الأعراف.
فقوله: ﴿إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ﴾ إلخ إخبار بأنه لا يطيق الطريق الذي يتخذه في تعليمه أن اتبعه لا أنه لا يتحمل العلم.
قوله تعالى: ﴿وَ كَيْفَ تَصْبِرُ عَلى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً﴾ الخبر العلم و هو تمييز و المعنى لا يحيط به خبرك.
قوله تعالى: ﴿قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اَللَّهُ صَابِراً وَ لاَ أَعْصِي لَكَ أَمْراً﴾ وعده الصبر لكن قيده بالمشية فلم يكذب إذ لم يصبر، و قوله: ﴿وَ لاَ أَعْصِي﴾ إلخ عطف على ﴿صَابِراً﴾ لما فيه من معنى الفعل فعدم المعصية الذي وعده أيضا مقيد بالمشية و لم يخلف الوعد إذ لم ينتهي بنهيه عن السؤال.
قوله تعالى: ﴿قَالَ فَإِنِ اِتَّبَعْتَنِي فَلاَ تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً﴾ الظاهر أن ﴿مِنْهُ﴾ متعلق بقوله: ﴿ذِكْراً﴾ و إحداث الذكر من الشيء الابتداء به من غير سابقة و المعنى فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء تشاهده من أمري تشق عليك مشاهدته حتى أبتدئ أنا بذكر منه، و فيه إشارة إلى أنه سيشاهد منه أمورا تشق عليه مشاهدتها و هو سيبينها له لكن لا ينبغي لموسى أن يبتدئه بالسؤال و الاستخبار بل ينبغي أن يصبر حتى يبتدئه هو بالإخبار.
و قد أتى موسى (عليه السلام) من الخلق و الأدب البارع الحري بالمتعلم المستفيد قبال الخضر على ما تحكيه هذه الآيات - بأمر عجيب و هو كليم الله موسى بن عمران الرسول النبي أحد أولي العزم صاحب التوراة.
فكلامه موضوع على التواضع من أوله إلى آخره، و قد تأدب معه أولا فلم يورد طلبه منه التعليم في صورة الأمر بل في صورة الاستفهام هضما لنفسه، و سمي مصاحبته اتباعا منه له، ثم لم يورد التعليم في صورة الاشتراط بل قال: على أن تعلمن إلخ، ثم عد نفسه متعلما، ثم أعظم قدر علمه إذ جعله منتسبا إلى مبدإ غير معلوم لم يعينه باسم أو نعت فقال:
﴿عُلِّمْتَ﴾ و لم يقل: تعلم، ثم مدحه بقوله: ﴿رُشْداً﴾ ثم جعل ما يتعلمه بعض علمه فقال: ﴿مِمَّا عُلِّمْتَ﴾ و لم يقل: ما علمت ثم رفع قدره إذ جعل ما يشير عليه به أمرا يأمره و عد نفسه لو خالفه فيما يأمر عاصيا ثم لم يسترسل معه بالتصريح بالوعد بل كنى عنه بمثل قوله: ﴿سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اَللَّهُ صَابِراً وَ لاَ أَعْصِي لَكَ أَمْراً﴾.
و قد تأدب الخضر معه إذ لم يصرح بالرد أولا بل أشار إليه بنفي استطاعته على الصبر ثم لما وعده موسى بالصبر إن شاء الله لم يأمره بالاتباع بل خلى بينه و بين ما يريد فقال: ﴿فَإِنِ اِتَّبَعْتَنِي﴾: ثم لم ينهه عن السؤال نهيا مطلقا في صورة المولوية المحضة بل علقه على اتباعه فقال: ﴿فَإِنِ اِتَّبَعْتَنِي فَلاَ تَسْئَلْنِي﴾ حتى يفيد أنه لا يقترح عليه بالنهي بل هو أمر يقتضيه الاتباع.
قوله تعالى: ﴿فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي اَلسَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَ خَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً﴾ الإمر بكسر الهمزة الداهية العظيمة، و قوله: ﴿فَانْطَلَقَا﴾ تفريع على ما تقدمه، و المنطلقان هما موسى و الخضر و هو ظاهر في أن موسى لم يصحب فتاه في سيره مع الخضر، و اللام في قوله: ﴿لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا﴾ للغاية فإن الغرق و إن كان عاقبة للخرق و لم يقصده الخضر البتة لكن العاقبة الضرورية ربما تؤخذ غاية مقصودة ادعاه لوضوحها كما يقال: أ تفعل كذا لتهلك نفسك؟ و المعنى ظاهر.
قوله تعالى: ﴿قَالَ أَ لَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً﴾ إنكار لسؤال موسى و تذكير لما قاله من قبل: ﴿إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ﴾ إلخ.
قوله تعالى: ﴿قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَ لاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً﴾ الرهق الغثيان بالقهر و الإرهاق التكليف، و المعنى لا تؤاخذني بنسياني الوعد و غفلتي عنه و لا تكلفني عسرا من أمري، و ربما يفسر النسيان بمعنى الترك، و الأول أظهر و الكلام اعتذار على أي حال.
قوله تعالى: ﴿فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاَماً فَقَتَلَهُ قَالَ أَ قَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً﴾ في الكلام بعض الحذف للإيجاز و التقدير: فخرجا من السفينة و انطلقا.
و في قوله: ﴿حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاَماً فَقَتَلَهُ قَالَ﴾ إلخ ﴿فَقَتَلَهُ﴾ معطوف على الشرط بفاء التفريع و ﴿قَالَ﴾ جزاء ﴿إِذَا﴾ على ما هو ظاهر الكلام: و بذلك يظهر أن العمدة في الكلام ذكر اعتراض موسى لا ذكر القتل، و نظيرته الآية اللاحقة ﴿فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ ﴾ إلى قوله ﴿قَالَ لَوْ شِئْتَ﴾ إلخ بخلاف الآية السابقة:
﴿فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي اَلسَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ﴾ فإن جزاء ﴿إِذَا﴾ فيها ﴿خَرَقَهَا﴾ و قوله: ﴿قَالَ﴾ كلام مفصول مستأنف.
و على هذا فالآيات مسرودة في صورة قصة واحدة اعترض فيها موسى على الخضر (عليه السلام) ثلاث مرات واحدة بعد أخرى لا في صورة ثلاث قصص اعترض فيها ثلاث اعتراضات كأنه قيل: وقع كذا و كذا فاعترض عليه ثم اعترض ثم اعترض فالقصة قصة اعتراضاته فهي واحدة لا قصة أعمال هذا و اعتراضات ذاك حتى تكون ثلاثا.
و من هنا يتبين وجه الفرق بين الآيات الثلاث حيث جعل ﴿خَرَقَهَا﴾ جواب إذا في الآية الأولى، و لم يجعل ﴿فَقَتَلَهُ﴾ و ﴿فَوَجَدَا﴾ أو ﴿فَأَقَامَهُ﴾ جوابا في الثانية و الثالثة بل جزءا من الشرط معطوفا عليه فافهم ذلك.
و قوله: ﴿أَ قَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً﴾ الزكية الطاهرة، و المراد طهارتها من الذنوب لعدم البلوغ كما يشعر به قوله: ﴿غُلاَماً﴾ و الاستفهام للإنكار، و القائل موسى.
و قوله: ﴿بِغَيْرِ نَفْسٍ﴾ أي بغير قتل منها لنفس قتلا مجوزا لقتلها قصاصا و قودا فإن غير البالغ لا يتحقق منه القتل الموجب للقصاص، و ربما استفيد من قوله: ﴿بِغَيْرِ نَفْسٍ﴾ أنه كان شابا بالغا، و لا دلالة في إطلاق الغلام عليه على عدم بلوغه لأن الغلام يطلق على البالغ و غيره فالمعنى أ قتلت بغير قصاص نفسا بريئة من الذنوب المستوجبة للقتل؟ إذ لم يظهر لهما من الغلام شيء يستوجبه.
و قوله: ﴿لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً﴾ أي منكرا يستنكره الطبع و لا يعرفه المجتمع و قد عد خرق السفينة إمرا أي داهية يستعقب مصائب لم يقع شيء منها بعد و قتل النفس نكرا أو منكرا و هو أفظع و أفجع عند الناس من الخرق الذي يستوجب عادة هلاك النفوس لكن لا بالمباشرة فعلا.
قوله تعالى: ﴿قَالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً﴾ معناه ظاهر و زيادة ﴿لَكَ﴾ نوع تقريع له أنه لم يصغ إلى وصيته و إيماء إلى كونه كأنه لم يسمع قوله له أول مرة: ﴿إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً﴾ أو سمعه و حسب أنه لا يعنيه بل يقصد به غيره كأنه يقول: إنما عنيت بقولي: إنك لن تستطيع «إلخ» إياك دون غيرك.
قوله تعالى: ﴿قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً﴾ الضمير في ﴿بَعْدَهَا﴾ راجع إلى هذه المرة أو المسألة أي إن سألتك بعد هذه المرة أو هذه المسألة فلا تصاحبني أي يجوز لك أن لا تصاحبني.
و قوله: ﴿قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً﴾ أي بلغت عذرا و وجدته كائنا ذلك من لدني إذ بلغ عذرك النهاية من عندي.
قوله تعالى: ﴿فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اِسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا﴾ إلى آخر الآية الكلام في قوله: ﴿فَانْطَلَقَا﴾ ﴿فَأَبَوْا﴾ ﴿فَوَجَدَا﴾ ﴿فَأَقَامَهُ﴾ كالكلام في قوله في الآية السابقة: ﴿فَانْطَلَقَا﴾ ﴿فَقَتَلَهُ﴾.
و قوله: ﴿اِسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا﴾ صفة لقرية و لم يقل: «استطعماهم» لرداءة قولنا: قرية استطعماهم بخلاف مثل قولنا: أتى قرية على إرادة أتى أهل قرية لأن للقرية نصيبا من الإتيان فيجوز وضعها موضع أهلها مجازا بخلاف الاستطعام لأنه لأهلها خاصة، و على هذا فليس قوله: ﴿أَهْلَهَا﴾ من وضع الظاهر موضع المضمر.
و لم يقل: حتى إذا أتيا قرية استطعما أهلها لأن القرية كانت تتمحض حينئذ في معناها الحقيقي و الغرض العمدة - كما عرفت - متعلق بالجزاء أعني قوله: ﴿قَالَ لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً﴾ و فيه ذكر أخذ الأجر و هو إنما يكون من أهلها لا منها فقوله:
﴿أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ﴾ دليل على أن إقامة الجدار كانت بحضور من أهل القرية و هو الذي أغنى أن يقال: لو شئت لاتخذت عليه منهم أو من أهلها أجرا فافهم ذلك.
و المراد بالاستطعام طلب الطعام بالإضافة و لذا قال: ﴿فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا﴾ و قوله ﴿فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ﴾ الانقضاض السقوط، و إرادة الانقضاض مجاز عن الإشراف على السقوط و الانهدام، و قوله: ﴿فَأَقَامَهُ﴾ أي أثبته الخضر بإصلاح شأنه و لم يذكر سبحانه كيف أقامه؟ بنحو خرق العادة أم ببناء أو ضرب دعامة؟ غير أن قول موسى: ﴿لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً﴾ مشعر بأنه كان بعمل غير خارق فإن المعهود من أخذ الأجر، ما كان على العاديات.
و قوله: ﴿قَالَ لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ[2] عَلَيْهِ أَجْراً﴾ تخذ و أخذ بمعنى واحد، و ضمير
﴿عَلَيْهِ﴾ للإقامة المفهومة من ﴿فَأَقَامَهُ﴾ و هو مصدر جائز الوجهين، و السياق يشهد أنهما كانا جائعين فذكره موسى أخذ الأجرة على عمله إذ لو كان أخذ أجرا أمكنهما أن يشتريا به شيئا من الطعام يسدان به جوعهما.
قوله تعالى: ﴿قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَ بَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً﴾ الإشارة بهذا إلى قول موسى أي هذا القول سبب فراق بيني و بينك أو إلى الوقت أي هذا الوقت وقت فراق بيني و بينك كما قيل، و يمكن أن تكون الإشارة إلى نفس الفراق، و المعنى هذا الفراق قد حضر كأنه كان أمرا غائبا فحضر عند قول موسى: ﴿لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ﴾ إلخ و قوله: ﴿بَيْنِي وَ بَيْنِكَ﴾ و لم يقل بيننا للتأكيد، و إنما قال الخضر هذا القول بعد الاعتراض الثالث لأن موسى كان قبل ذلك يعتذر إليه كما في الأول أو يستمهله كما في الثاني، و أما الفراق بعد الاعتراض الثالث فقد أعذره موسى فيه إذ قال بعد الاعتراض الثاني: ﴿إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي﴾ إلخ و الباقي ظاهر.
قوله تعالى: ﴿أَمَّا اَلسَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ﴾ إلخ شروع في تفصيل ما وعد إجمالا بقوله: ﴿سَأُنَبِّئُكَ﴾ إلخ و قوله: ﴿أَنْ أَعِيبَهَا﴾ أي أجعلها معيبة و هذه قرينة على أن المراد بكل سفينة كل سفينة غير معيبة.
و قوله: ﴿وَ كَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ﴾ وراء بمعنى الخلف و هو الظرف المقابل للظرف الآخر الذي يواجهه الإنسان و يسمى قدام و أمام لكن ربما يطلق على الظرف الذي يغفل عنه الإنسان و فيه من يريده بسوء أو مكروه و إن كان قدامه أو فيه ما يعرض عنه الإنسان أو فيه ما يشغل الإنسان بنفسه عن غيره كأن الإنسان ولى وجهه إلى جهة تخالف جهته قال تعالى: ﴿فَمَنِ اِبْتَغى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ اَلعَادُونَ﴾: المؤمنون: ٧، و قال: ﴿وَ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اَللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ﴾: الشورى: ٥١، و قال: ﴿وَ اَللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ﴾: البروج: ٢٠.
و محصل المعنى: أن السفينة كانت لعدة من المساكين يعملون بها في البحر و يتعيشون به و كان هناك ملك جبار أمر بغصب السفن فأردت بخرقها أن أحدث فيها عيبا فلا يطمع فيها الجبار و يدعها لهم.
قوله تعالى: ﴿وَ أَمَّا اَلْغُلاَمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَ كُفْراً﴾ ـ
الأظهر من سياق الآية و ما سيأتي من قوله: ﴿وَ مَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي﴾ أن يكون المراد بالخشية التحذر عن رأفة و رحمة مجازا لا معناه الحقيقي الذي هو التأثر القلبي الخاص المنفي عنه تعالى و عن أنبيائه كما قال: ﴿وَ لاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اَللَّهَ﴾: الأحزاب: ٣٩، و أن يكون المراد بقوله: ﴿أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَ كُفْراً﴾ أن يغشيهما ذلك أي يحمل والديه على الطغيان و الكفر بالإغواء و التأثير الروحي لمكان حبهما الشديد له لكن قوله في الآية التالية: ﴿وَ أَقْرَبَ رُحْماً﴾ لا تخلو من تأييد لكون ﴿طُغْيَاناً وَ كُفْراً﴾ تميزين عن الإرهاق أي وصفين للغلام دون أبويه.
قوله تعالى: ﴿فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَ أَقْرَبَ رُحْماً﴾ المراد بكونه خيرا منه زكاة كونه خيرا منه صلاحا و إيمانا بقرينة مقابلته الطغيان و الكفر في الآية السابقة، و أصل الزكاة فيما قيل الطهارة، و المراد بكونه أقرب منه رحما كونه أوصل للرحم و القرابة فلا يرهقهما، و أما تفسيره بكونه أكثر رحمة بهما فلا يناسبه قوله ﴿أَقْرَبَ﴾ منه تلك المناسبة، و هذا - كما عرفت - يؤيد كون المراد من قوله:
﴿يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَ كُفْراً﴾ في الآية السابقة إرهاقه إياهما بطغيانه و كفره لا تكليفه إياهما الطغيان و الكفر و إغشاؤهما ذلك.
و الآية على أي حال تلوح إلى أن إيمان أبويه كان ذا قدر عند الله و يستدعي ولدا مؤمنا صالحا يصل رحمهما و قد كان المقضي في الغلام خلاف ذلك فأمر الله الخضر بقتله ليبدلهما خيرا منه زكاة و أقرب رحما.
قوله تعالى: ﴿وَ أَمَّا اَلْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي اَلْمَدِينَةِ وَ كَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَ كَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً﴾ لا يبعد أن يستظهر من السياق أن المدينة المذكورة في هذه الآية غير القرية التي وجدا فيها الجدار فأقامه، إذ لو كانت هي هي لم يكن كثير حاجة إلى ذكر كون الغلامين اليتيمين فيها فكان العناية متعلقة بالإشارة إلى أنهما و من يتولى أمرهما غير حاضرين في القرية.
و ذكر يتم الغلامين و وجود كنز لهما تحت الجدار و لو انقض لظهر و ضاع و كون أبيهما صالحا كل ذلك توطئة و تمهيد لقوله: ﴿فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَ يَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا﴾ و قوله: ﴿رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ﴾ تعليل للإرادة.
فرحمته تعالى سبب لإرادة بلوغهما و استخراجهما كنزهما، و كان يتوقف على قيام الجدار فأقامه الخضر، و كان سبب انبعاث الرحمة صلاح أبيهما و قد عرض أن مات و أيتم الغلامين و ترك كنزا لهما.
و قد طال البحث في التوفيق بين صلاح أبيهما و وجود كنز لهما تحت الجدار الظاهر في كون أبيهما هو الكانز له بناء على ذم الكنز كما يدل عليه قوله تعالى: ﴿وَ اَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ اَلذَّهَبَ وَ اَلْفِضَّةَ وَ لاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اَللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾: التوبة: ٣٤.
لكن الآية لا تتعرض بأكثر من أن تحته كنز لهما من غير دلالة على أن أباهما هو الذي دفنه و كنزه، على أن وصف أبيهما بالصلاح دليل على كون هذا الكنز أيا ما كان أمرا غير مذموم على تقدير تسليم كون الكانز هو الأب، على أن من الجائز أن يكون أبوهما الصالح كنزه لهما لتأويل يسوغه فما هو بأعظم من خرق السفينة و قتل النفس المحترمة الواردين في القصة و قد جوزهما التأويل بأمر إلهي و هنا بعض روايات ستوافيك في البحث الروائي الآتي إن شاء الله.
و في الآية دلالة على أن صلاح الإنسان ربما ورث أولاده أثرا جميلا و أعقب فيهم السعادة و الخير فهذه الآية في جانب الخير نظيرة قوله تعالى: ﴿وَ لْيَخْشَ اَلَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ﴾: النساء: ٩.
و قوله: ﴿وَ مَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي﴾ كناية عن أنه إنما فعل ما فعل عن أمر غيره و هو الله سبحانه لا عن أمر أمرته به نفسه.
و قوله: ﴿ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً﴾ أي ما لم تستطع عليه صبرا من اسطاع يسطيع بمعنى استطاع يستطيع و قد تقدم في أول تفسير سورة آل عمران أن التأويل في عرف القرآن هي الحقيقة التي يتضمنها الشيء و يؤول إليها و يبتني عليها كتأويل الرؤيا و هو تعبيرها، و تأويل الحكم و هو ملاكه و تأويل الفعل و هو مصلحته و غايته الحقيقية، و تأويل الواقعة و هو علتها الواقعية و هكذا.
فقوله: ﴿ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ﴾ إلخ إشارة منه إلى أن الذي ذكره للوقائع الثلاث و أعماله فيها هو السبب الحقيقي لها لا ما حسبه موسى من العناوين المترائية من
أعماله كالتسبب إلى هلاك الناس في خرق السفينة و القتل من غير سبب موجب في قتل الغلام و سوء تدبير المعاش في إقامة الجدار.
و ذكر بعضهم: أن من الأدب الجميل الذي استعمله الخضر مع ربه في كلامه أن ما كان من الأعمال التي لا تخلو عن نقص ما نسبه إلى نفسه كقوله: فأردت أن أعيبها و ما جاز انتسابه إلى ربه و إلى نفسه أتى فيه بصيغة المتكلم مع الغير كقوله: ﴿فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا﴾، ﴿فَخَشِينَا﴾ و ما يختص به تعالى لتعلقه بربوبيته و تدبيره ملكه نسبه إليه كقوله: ﴿فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا﴾.
بحث تاريخي في فصلين
١ - قصة موسى و الخضر في القرآن:
أوحى الله سبحانه إلى موسى أن هناك عبدا من عباده عنده من العلم ما ليس عند موسى و أخبره أنه إن انطلق إلى مجمع البحرين وجده هناك، و هو بالمكان الذي يحيى فيه الحوت الميت. (أو يفتقد فيه الحوت).
فعزم موسى أن يلقى العالم و يتعلم منه بعض ما عنده إن أمكن و أخبر فتاه عما عزم عليه فخرجا قاصدين مجمع البحرين و قد حملا معهما حوتا ميتا و ذهبا حتى بلغا مجمع البحرين و قد تعبا و كانت هناك صخرة على شاطئ البحر فأويا إليها ليستريحا هنيئة و قد نسيا حوتهما و هما في شغل منه.
و إذا بالحوت اضطرب و وقع في البحر حيا، أو وقع فيه و هو ميت، و غار فيه و الفتى يشاهده و يتعجب من أمره غير أنه نسي أن يذكره لموسى حتى تركا الموضع و انطلقا حتى جاوزا مجمع البحرين و قد نصبا فقال له موسى: آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا. فذكر الفتى ما شاهده من أمر الحوت و قال لموسى: إنا إذ أوينا إلى الصخرة حي الحوت و وقع في البحر يسبح فيه حتى غار و كنت أريد أن أذكر لك أمره لكن الشيطان أنسانيه (أو إني نسيت الحوت عند الصخرة فوقع في البحر و غار فيه).
قال موسى: ذلك ما كنا نبغي و نطلب فلنرجع إلى هناك فارتدا على آثارهما قصصا فوجدا عبدا من عباد الله آتاه الله رحمة من عنده و علمه علما من لدنه فعرض عليه
موسى و سأله أن يتبعه فيعلمه شيئا ذا رشد مما علمه الله. قال العالم: إنك لن تستطيع معي صبرا على ما تشاهده من أعمالي التي لا علم لك بتأويلها، و كيف تصبر على ما لم تحط به خبرا؟ فوعده موسى أن يصبر و لا يعصيه في أمر إن شاء الله فقال له العالم بانيا على ما طلبه منه و وعده به: فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا.
فانطلق موسى و العالم حتى ركبا سفينة و فيها ناس من الركاب و موسى خالي الذهن عما في قصد العالم فخرق العالم السفينة خرقا لا يؤمن معه الغرق فأدهش ذلك موسى و أنساه ما وعده فقال للعالم: أ خرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا قال له العالم:
أ لم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا؟ فاعتذر إليه موسى بأنه نسي ما وعده من الصبر قائلا: لا تؤاخذني بما نسيت و لا ترهقني من أمري عسرا.
فانطلقا فلقيا غلاما فقتله العالم فلم يملك موسى نفسه دون أن تغير و أنكر عليه ذلك قائلا: أ قتلت نفسا زكية بغير نفس؟ لقد جئت شيئا نكرا. قال له العالم ثانيا: أ لم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا؟ فلم يكن عند موسى ما يعتذر به و يمتنع به عن مفارقته و نفسه غير راضية بها فاستدعى منه مصاحبة مؤجلة بسؤال آخر إن أتى به كان له فراقه و استمهله قائلا: إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا و قبله العالم.
فانطلقا حتى أتيا قرية و قد بلغ بهما الجوع فاستطعما أهلها فلم يضيفهما أحد منهم و إذا بجدار فيها يريد أن ينقض و يتحذر منه الناس فأقامه العالم. قال له موسى: لو شئت لاتخذت على عملك منهم أجرا فتوسلنا به إلى سد الجوع فنحن في حاجة إليه و القوم لا يضيفوننا.
فقال له العالم: هذا فراق بيني و بينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا ثم قال: أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر و يتعيشون بها و كان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا فخرقتها لتكون معيبة لا يرغب فيها.
و أما الغلام فكان كافرا و كان أبواه مؤمنين، و لو أنه عاش لأرهقهما بكفره
و طغيانه فشملتهما الرحمة الإلهية فأمرني أن أقتله ليبدلهما ولدا خيرا منه زكاة و أقرب رحما فقتلته.
و أما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة و كان تحته كنز لهما و كان أبوهما صالحا فشملتهما الرحمة الإلهية لصلاح أبيهما فأمرني أن أقيمه فيستقيم حتى يبلغا أشدهما و يستخرجا كنزهما و لو انقض لظهر أمر الكنز و انتهبه الناس.
قال: و ما فعلت الذي فعلت عن أمري بل عن أمر من الله، و تأويلها ما أنبأتك به ثم فارق موسى.
٢ - قصة الخضر (عليه السلام)
لم يرد ذكره في القرآن إلا ما في قصة رحلة موسى إلى مجمع البحرين، و لا ذكر شيء من جوامع أوصافه إلا ما في قوله تعالى. ﴿فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَ عَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً﴾: الآية - ٦٥ من السورة و الذي يتحصل من الروايات النبوية أو الواردة من طرق أئمة أهل البيت في قصته
ففي رواية[3] محمد بن عمارة عن الصادق (عليه السلام): أن الخضر كان نبيا مرسلا بعثه الله تبارك و تعالى إلى قومه فدعاهم إلى توحيده و الإقرار بأنبيائه و رسله و كتبه، و كان آيته أنه لا يجلس على خشبة يابسة و لا أرض بيضاء إلا أزهرت خضراء و إنما سمي خضرا لذلك، و كان اسمه تاليا بن مالك بن عابر بن أرفخشد بن سام بن نوح الحديث و يؤيد ما ذكر من وجه تسميته ما
في الدر المنثور، عن عدة من أرباب الجوامع عن ابن عباس و أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: إنما سمي الخضر خضرا لأنه صلى على فروة بيضاء فاهتزت خضراء. و في بعض الأخبار كما فيما رواه العياشي عن بريد عن أحدهما (عليه السلام) : الخضر و ذو القرنين كانا عالمين و لم يكونا نبيين الحديث لكن الآيات النازلة في قصته مع موسى لا تخلو عن ظهور في كونه نبيا كيف؟ و فيها نزول الحكم عليه.
و يظهر من أخبار متفرقة عن أئمة أهل البيت (عليه السلام) أنه حي لم يمت بعد و ليس بعزيز على الله سبحانه أن يعمر بعض عباده عمرا طويلا إلى أمد بعيد و لا أن هناك برهانا عقليا يدل على استحالة ذلك.
و قد ورد في سبب ذلك في بعض الروايات[4] من طرق العامة أنه ابن آدم لصلبه و نسيء له في أجله حتى يكذب الدجال، و في بعضها[5] أن آدم (عليه السلام) دعا له بالبقاء إلى يوم القيامة، و في عدة روايات من طرق الفريقين أنه شرب من عين الحياة التي هي في الظلمات حين دخلها ذو القرنين في طلبها و كان الخضر في مقدمته فرزقه الخضر و لم يرزقه ذو القرنين، و هذه و أمثالها آحاد غير قطعية من الأخبار لا سبيل إلى تصحيحها بكتاب أو سنة قطعية أو عقل.
و قد كثرت القصص و الحكايات و كذا الروايات في الخضر بما لا يعول عليها ذو لب كرواية خصيف :[6]أربعة من الأنبياء أحياء اثنان في السماء: عيسى و إدريس، و اثنان في الأرض الخضر و إلياس فأما الخضر فإنه في البحر و أما صاحبه فإنه في البر. و رواية[7] العقيلي عن كعب قال :الخضر على منبر بين البحر الأعلى و البحر الأسفل، و قد أمرت دواب البحر أن تسمع له و تطيع، و تعرض عليه الأرواح غدوة و عشية. و رواية[8] كعب الأحبار :أن الخضر بن عاميل ركب في نفر من أصحابه حتى بلغ بحر الهند و هو بحر الصين فقال لأصحابه: يا أصحابي ادلوني فدلوه في البحر أياما و ليالي ثم صعد فقالوا: يا خضر ما رأيت؟ فلقد أكرمك الله و حفظ لك نفسك في لجة هذا البحر فقال استقبلني ملك من الملائكة فقال لي: أيها الآدمي الخطاء إلى أين؟ و من أين؟ فقلت: إني أردت أن أنظر عمق هذا البحر. فقال لي: كيف؟ و قد أهوى رجل من زمان داود (عليه السلام) لم يبلغ ثلث قعره حتى الساعة؛ و ذلك منذ ثلاث مائة سنة، إلى غير ذلك من الروايات المشتملة على نوادر القصص.
«بحث روائي»
في تفسير البرهان، عن ابن بابويه بإسناده عن جعفر بن محمد بن عمارة عن أبيه عن جعفر بن محمد (عليه السلام) في حديث: أن موسى لما كلمه الله تكليما، و أنزل عليه التوراة، و كتب له في الألواح من كل شيء موعظة و تفصيلا لكل شيء، و جعل آية في يده و عصاه، و في الطوفان و الجراد و القمل و الضفادع و الدم و فلق البحر و غرق الله فرعون و جنوده عملت البشرية فيه حتى قال في نفسه: ما أرى الله عز و جل خلق خلقا أعلم مني فأوحى الله إلى جبرئيل: أدرك عبدي قبل أن يهلك، و قل له: أن عند ملتقى البحرين رجلا عابدا فاتبعه و تعلم منه.
فهبط جبرئيل على موسى بما أمره به ربه عز و جل فعلم موسى أن ذلك لما حدثته به نفسه فمضى هو و فتاه يوشع بن نون حتى انتهيا إلى ملتقى البحرين فوجدا هناك الخضر يعبد الله عز و جل كما قال الله في كتابه: ﴿فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَ عَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً﴾ الحديث.
أقول: و الحديث طويل يذكر فيه صحبته للخضر و ما جرى بينهما مما ذكره الله في كتابه في القصة.
و روى القصة العياشي في تفسيره، بطريقين و القمي في تفسيره، بطريقين مسندا و مرسلا، و رواه في الدر المنثور، بطرق كثيرة من أرباب الجوامع كالبخاري و مسلم و النسائي و الترمذي و غيرهم عن ابن عباس عن أبي بن كعب عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم):
و الأحاديث متفقة في معنى ما نقلناه من صدر حديث محمد بن عمارة، و في أن الحوت الذي حملاه حي عند الصخرة و اتخذ سبيله في البحر سربا لكنها تختلف في أمور كثيرة إضافتها إلى ما في القرآن من أصل القصة.
منها ما يتحصل من رواية ابن بابويه و القمي :أن مجمع البحرين من أرض الشامات و فلسطين بقرينة ذكرهما أن القرية التي ورداها هي الناصرة التي تنسب إليها النصارى، و في بعضها أن الأرض كانت آذربيجان :و هو يوافق ما في الدر المنثور عن السدي :أن
البحرين هما الكر و الرس حيث يصبان في البحر و أن القرية كانت تسمى باجروان و كان أهلها لئاما و روي عن أبي :أنه إفريقية، و عن القرظي أنه طنجة، و عن قتادة أنه ملتقى بحر الروم و فارس. و منها ما في بعض الروايات أن الحوت كان مشويا و في أكثرها أنه كان مملوحا.
و منها ما في مرسلة القمي و روايات الشيخين و النسائي و الترمذي و غيرهم :أنه كانت عند الصخرة عين الحياة حتى في رواية مسلم و غيره أن الماء كان ماء الحياة من شرب منه خلد و لا يقاربه شيء ميت إلا حي فلما نزلا و مس الحوت الماء حي. الحديث و في غيرها أن فتى موسى توضأ من الماء فقطرت منه قطرة على الحوت فحي، و في غيرها أنه شرب منه و لم يكن له ذلك فأخذه الخضر و طابقه في سفينة و تركها في البحر فهو بين أمواجها حتى تقوم الساعة و في بعضها أنه كانت عند الصخرة عين الحياة التي كان يشرب منها الخضر و بقية الروايات خالية عن ذكرها.
و منها ما في رواية الصحاح الأربع و غيرها :أن الحوت سقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سربا فأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق الحديث، و في بعض هذه الروايات أن موسى بعد ما رجع أبصر أثر الحوت فأخذ أثر الحوت يمشيان على الماء حتى انتهيا إلى جزيرة من جزائر العرب، و في حديث الطبري عن ابن عباس في القصة: فرجع يعني موسى حتى أتى الصخرة فوجد الحوت فجعل الحوت يضرب في البحر و يتبعه موسى يقدم عصاه يفرج بها عنه الماء و يتبع الحوت و جعل الحوت لا يمس شيئا من البحر إلا يبس حتى يكون صخرة، الحديث و بعضها خال عن ذلك.
و منها ما في أكثرها أن موسى لقي الخضر عند الصخرة، و في بعضها أنه ذهب من سرب الحوت أو على الماء حتى وجده في جزيرة من جزائر البحر، و في بعضها وجده على سطح الماء جالسا أو متكئا.
و منها اختلافها في أن الفتى هل صحبهما أو تركاه و ذهبا.
و منها اختلافها في كيفية خرق السفينة و في كيفية قتل الغلام و في كيفية إقامة الجدار و في الكنز الذي تحته لكن أكثر الروايات أنه كان لوحا من ذهب مكتوبا
فيه مواعظ، و في الأب الصالح فظاهر أكثرها أنه أبوهما الأقرب، و في بعضها أنه أبوهما العاشر و في بعضها السابع، و في بعضها بينهما و بينه سبعون أبا و في بعضها كان بينهما و بينه سبعمائة سنة، إلى غير ذلك من جهات الاختلاف.
و في تفسير القمي، عن محمد بن علي بن بلال عن يونس في كتاب كتبوه إلى الرضا (عليه السلام): يسألونه عن العالم الذي أتاه موسى أيهما كان أعلم؟ و هل يجوز أن يكون على موسى حجة في وقته؟ فكتب في الجواب: أتى موسى العالم فأصابه في جزيرة من جزائر البحر إما جالسا و إما متكئا فسلم عليه موسى فأنكر السلام إذ كان الأرض ليس بها سلام.
قال: من أنت؟ قال: أنا موسى بن عمران. قال: أنت موسى بن عمران الذي كلمه الله تكليما؟ قال: نعم. قال: فما حاجتك؟ قال: جئت لتعلمني مما علمت رشدا. قال: إني وكلت بأمر لا تطيقه، و وكلت بأمر لا أطيقه الحديث.
أقول: و هذا المعنى مروي في أخبار أخر من طرق الفريقين.
و في الدر المنثور، أخرج الحاكم و صححه عن أبي أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: لما لقي موسى الخضر جاء طير فألقى منقاره في الماء - فقال الخضر لموسى: تدري ما يقول هذا الطائر؟ قال: و ما يقول؟ قال: يقول: ما علمك و علم موسى في علم الله إلا كما أخذ منقاري من الماء. أقول: و قصة هذا الطائر وارد في أغلب روايات القصة.
و في تفسير العياشي، عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان موسى أعلم من الخضر.
و فيه، عن أبي حمزة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كان وصي موسى يوشع بن نون، و هو فتاه الذي ذكره في كتابه.
و فيه، عن عبد الله بن ميمون القداح عن أبي عبد الله عن أبيه (عليه السلام) قال:
بينما موسى قاعد في ملإ من بني إسرائيل إذ قال له رجل: ما أرى أحدا أعلم بالله منك قال موسى: ما أرى فأوحى الله إليه بلى عبدي الخضر فسأل السبيل إليه و كان
له الحوت آية إن افتقده، و كان من شأنه ما قص الله.
أقول: و ينبغي أن يحمل اختلاف الروايات في علمهما على اختلاف نوع العلم.
و فيه، عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله: ﴿فَخَشِينَا﴾ خشي إن أدرك الغلام أن يدعو أبويه إلى الكفر فيجيبانه من فرط حبهما له.
و فيه، عن عثمان عن رجل عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله: ﴿فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَ أَقْرَبَ رُحْماً﴾ قال: إنه ولدت لهما جارية فولدت غلاما فكان نبيا.
أقول: و في أكثر الروايات أنها ولد منها سبعون نبيا و المراد ثبوت الواسطة.
و فيه، عن إسحاق بن عمار قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن الله ليصلح بصلاح الرجل المؤمن ولده و ولد ولده و يحفظه في دويرته و دويرات حوله فلا يزالون في حفظ الله لكرامته على الله. ثم ذكر الغلامين فقال: ﴿وَ كَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً﴾ أ لم تر أن الله شكر صلاح أبويهما لهما؟.
و فيه، عن مسعدة بن صدقة عن جعفر بن محمد عن آبائه (عليه السلام) أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: إن الله ليخلف العبد الصالح بعد موته في أهله و ماله و إن كان أهله أهل سوء ثم قرأ هذه الآية إلى آخرها ﴿وَ كَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً﴾.
و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن جابر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): إن الله يصلح بصلاح الرجل الصالح ولده و ولد ولده و أهل دويرات حوله فما يزالون في حفظ الله ما دام فيهم.
أقول: و الروايات في هذا المعنى كثيرة مستفيضة.
و في الكافي، بإسناده عن صفوان الجمال قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل ﴿وَ أَمَّا اَلْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي اَلْمَدِينَةِ وَ كَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا﴾ فقال:
أما إنه ما كان ذهبا و لا فضة، و إنما كان أربع كلمات: لا إله إلا الله، من أيقن بالموت لم يضحك، و من أيقن بالحساب لم يفرح قلبه، و من أيقن بالقدر لم يخش إلا الله.
أقول: و قد تكاثرت الروايات من طرق الشيعة و أهل السنة أن الكنز الذي كان
تحت الجدار كان لوحا مكتوبا فيه الكلمات، و في أكثرها أنه كان لوحا من ذهب، و لا ينافيه قوله في هذه الرواية: «ما كان ذهبا و لا فضة» لأن المراد به نفي الدينار و الدرهم كما هو المتبادر. و الروايات مختلفة في تعيين الكلمات التي كانت مكتوبة على اللوح لكن أكثرها متفقة في كلمة التوحيد و مسألتي الموت و القدر.
و قد جمع في بعضها بين الشهادتين كما رواه في الدر المنثور، عن البيهقي في شعب الإيمان عن علي بن أبي طالب: في قول الله عز و جل: ﴿وَ كَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا﴾ قال: كان لوحا من ذهب مكتوب فيه: لا إله إلا الله محمد رسول الله عجبا لمن يذكر أن الموت حق كيف يفرح؟ و عجبا لمن يذكر أن النار حق كيف يضحك؟ و عجبا لمن يذكر أن القدر حق كيف يحزن؟ و عجبا لمن يرى الدنيا و تصرفها بأهلها حالا بعد حال كيف يطمئن إليها؟.
[سورة الكهف (١٨): الآیات ٨٣ الی ١٠٢]
﴿وَ يَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي اَلْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً ٨٣ إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي اَلْأَرْضِ وَ آتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً ٨٤ فَأَتْبَعَ سَبَباً ٨٥ حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ اَلشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَ وَجَدَ عِنْدَهَا قَوْماً قُلْنَا يَا ذَا اَلْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَ إِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً ٨٦ قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُكْراً ٨٧ وَ أَمَّا مَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاءً اَلْحُسْنى وَ سَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً ٨٨ ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً ٨٩ حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ اَلشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْراً ٩٠ كَذَلِكَ وَ قَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً ٩١ ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً ٩٢ حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ اَلسَّدَّيْنِ﴾
﴿وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْماً لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً ٩٣ قَالُوا يَا ذَا اَلْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَ مَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي اَلْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَ بَيْنَهُمْ سَدًّا ٩٤ قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ رَدْماً ٩٥ آتُونِي زُبَرَ اَلْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوى بَيْنَ اَلصَّدَفَيْنِ قَالَ اُنْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً ٩٦ فَمَا اِسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَ مَا اِسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً ٩٧ قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَ كَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا ٩٨ وَ تَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَ نُفِخَ فِي اَلصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً ٩٩ وَ عَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضاً ١٠٠ اَلَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَ كَانُوا لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً ١٠١ أَ فَحَسِبَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً ١٠٢﴾
بيان
الآيات تشتمل على قصة ذي القرنين، و فيها شيء من ملاحم القرآن:
قوله تعالى: ﴿وَ يَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي اَلْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً﴾ أي يسألونك عن شأن ذي القرنين. و الدليل على ذلك جوابه عن السؤال بذكر شأنه لا تعريف شخصه حتى اكتفى بلقبه فلم يتعد منه إلى ذكر اسمه.
و الذكر إما مصدر بمعنى المفعول و المعنى قل سأتلو عليكم منه أي من ذي القرنين شيئا مذكورا، و إما المراد بالذكر القرآن و قد سماه الله في مواضع من كلامه بالذكر و المعنى قل سأتلو عليكم منه أي من ذي القرنين أو من الله قرآنا و هو ما يتلو هذه الآية من قوله: ﴿إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ﴾ إلى آخر القصة، و المعنى الثاني أظهر.
قوله تعالى: ﴿إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي اَلْأَرْضِ وَ آتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً﴾ التمكين الإقدار يقال: مكنته و مكنت له أي أقدرته فالتمكن في الأرض القدرة على التصرف فيه بالملك كيفما شاء و أراد. و ربما يقال: إنه مصدر مصوغ من المكان بتوهم أصالة الميم فالتمكين إعطاء الاستقرار و الثبات بحيث لا يزيله عن مكانه أي مانع مزاحم.
و السبب الوصلة و الوسيلة فمعنى إيتائه سببا من كل شيء أن يؤتى من كل شيء يتوصل به إلى المقاصد الهامة الحيوية ما يستعمله و يستفيد منه كالعقل و العلم و الدين و قوة الجسم و كثرة المال و الجند و سعة الملك و حسن التدبير و غير ذلك و هذا امتنان منه تعالى على ذي القرنين و إعظام لأمره بأبلغ بيان، و ما حكاه تعالى من سيرته و فعله و قوله المملوءة حكمة و قدرة يشهد بذلك.
قوله تعالى: ﴿فَأَتْبَعَ سَبَباً﴾ الإتباع اللحوق أي لحق سببا و اتخذ وصلة وسيلة يسير بها نحو مغرب الشمس.
قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ اَلشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَ وَجَدَ عِنْدَهَا قَوْماً﴾ تدل ﴿حَتَّى﴾ على فعل مقدر و تقديره «فسار حتى إذا بلغ» و المراد بمغرب الشمس آخر المعمورة يومئذ من جانب الغرب بدليل قوله: ﴿وَ وَجَدَ عِنْدَهَا قَوْماً﴾.
و ذكروا أن المراد بالعين الحمئة العين ذات الحمأة و هي الطين الأسود و أن المراد بالعين البحر فربما تطلق عليه، و أن المراد بوجدان الشمس تغرب في عين حمئة موقف على ساحل بحر لا مطمع في وجود بر وراءه فرأى الشمس كأنها تغرب في البحر لمكان انطباق الأفق عليه قيل: و ينطبق هذه العين الحمئة على المحيط الغربي
و فيه الجزائر الخالدات التي كانت مبدأ الطول سابقا ثم غرقت.
و قرئ «في عين حامية» أي حارة، و ينطبق على النقاط القريبة من خط الاستواء من المحيط الغربي المجاورة لإفريقية و لعل ذا القرنين في رحلته الغربية بلغ سواحل إفريقية.
قوله تعالى: ﴿قُلْنَا يَا ذَا اَلْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَ إِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً﴾ القول المنسوب إليه تعالى في القرآن يستعمل في الوحي النبوي و في الإبلاغ بواسطة الوحي كقوله تعالى: ﴿وَ قُلْنَا يَا آدَمُ اُسْكُنْ﴾: البقرة: ٣٥ و قوله: ﴿وَ إِذْ قُلْنَا اُدْخُلُوا هَذِهِ اَلْقَرْيَةَ﴾: البقرة: ٥٨، و يستعمل في الإلهام الذي ليس من النبوة كقوله ﴿وَ أَوْحَيْنَا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ﴾: القصص: ٧.
و به يظهر أن قوله: ﴿قُلْنَا يَا ذَا اَلْقَرْنَيْنِ﴾ إلخ لا يدل على كونه نبيا يوحى إليه لكون قوله تعالى أعم من الوحي المختص بالنبوة و لا يخلو قوله: ﴿ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ﴾ إلخ حيث أورد في سياق الغيبة بالنسبة إليه تعالى من إشعار بأن مكالمته كانت بتوسط نبي كان معه فملكه نظير ملك طالوت في بني إسرائيل بإشارة من نبيهم و هدايته.
و قوله: ﴿إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَ إِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً﴾ أي إما أن تعذب هؤلاء القوم و إما أن تتخذ فيهم أمرا ذا حسن، فحسنا مصدر بمعنى الفاعل قائم مقام موصوفه أو هو وصف للمبالغة، و قد قيل: إن في مقابلة العذاب باتخاذ الحسن إيماء إلى ترجيحه و الكلام ترديد خبري بداعي الإباحة فهو إنشاء في صورة الإخبار، و المعنى لك أن تعذبهم و لك أن تعفو عنهم كما قيل، لكن الظاهر أنه استخبار عما سيفعله بهم من سياسة أو عفو، و هو الأوفق بسياق الجواب المشتمل على التفصيل بالتعذيب و الإحسان ﴿أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ﴾ إلخ إذ لو كان قوله: ﴿إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ﴾ إلخ حكما تخييريا لكان قوله: ﴿أَمَّا مَنْ ظَلَمَ﴾ إلخ تقريرا له و إيذانا بالقبول و لا كثير فائدة فيه.
و محصل المعنى: استخبرناه ما ذا تريد أن تفعل بهم من العذاب و الإحسان و قد غلبتهم و استوليت عليهم؟ فقال: نعذب الظالم منهم ثم يرد إلى ربه فيعذبه العذاب النكر، و نحسن إلى المؤمن الصالح و نكلفه بما فيه يسر.
و لم يذكر المفعول في قوله: ﴿إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ﴾ بخلاف قوله: ﴿إِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً﴾ لأن جميعهم لم يكونوا ظالمين، و ليس من الجائز تعميم العذاب لقوم هذا شأنهم
بخلاف تعميم الإحسان لقوم فيهم الصالح و الطالح.
قوله تعالى: ﴿أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُكْراً﴾ النكر و المنكر غير المعهود أي يعذبه عذابا لا عهد له به، و لا يحتسبه و يترقبه.
و قد فسر الظلم بالإشراك. و التعذيب بالقتل فمعنى ﴿أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ﴾ أما من أشرك و لم يرجع عن شركه فسوف نقتله، و كأنه مأخوذ من مقابلة ﴿مَنْ ظَلَمَ﴾ بقوله: ﴿مَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صَالِحاً﴾ لكن الظاهر من المقابلة أن يكون المراد بالظالم أعم ممن أشرك و لم يؤمن بالله أو آمن و لم يشرك لكنه لم يعمل صالحا بل أفسد في الأرض، و لو لا تقييد مقابله بالإيمان لكان ظاهر الظلم هو الإفساد من غير نظر إلى الشرك لأن المعهود من سيرة الملوك إذا عدلوا أن يطهروا أرضهم من فساد المفسدين، و كذا لا دليل على تخصيص التعذيب بالقتل.
قوله تعالى: ﴿وَ أَمَّا مَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاءً اَلْحُسْنى﴾ إلخ ﴿صَالِحاً﴾ وصف أقيم مقام موصوفه و كذا الحسنى، و ﴿جَزَاءً﴾ حال أو تمييز أو مفعول مطلق و التقدير:
و أما من آمن و عمل عملا صالحا فله المثوبة الحسنى حال كونه مجزيا أو من حيث الجزاء أو نجزيه جزاء.
و قوله: ﴿وَ سَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً﴾ اليسر بمعنى الميسور وصف أقيم مقام موصوفه و الظاهر أن المراد بالأمر الأمر التكليفي و تقدير الكلام و سنقول له قولا ميسورا من أمرنا أي نكلفه بما يتيسر له و لا يشق عليه.
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ اَلشَّمْسِ﴾ إلخ أي ثم هيأ سببا للسير فسار نحو المشرق حتى إذا بلغ الصحراء من الجانب الشرقي فوجد الشمس تطلع على قوم بدويين لم نجعل لهم من دونها سترا.
و المراد بالستر ما يستتر به من الشمس، و هو البناء و اللباس أو خصوص البناء أي كانوا يعيشون على الصعيد من غير أن يكون لهم بيوت يأوون إليها و يستترون بها من الشمس و عراة لا لباس عليهم، و إسناد ذلك إلى الله سبحانه في قوله: ﴿لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ﴾ إلخ إشارة إلى أنهم لم يتنبهوا بعد لذلك و لم يتعلموا بناء البيوت و اتخاذ الخيام و نسج الأثواب و خياطتها.
قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ وَ قَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً﴾ الظاهر أن قوله: ﴿كَذَلِكَ﴾ إشارة إلى وصفهم المذكور في الكلام، و تشبيه الشيء بنفسه مبنيا على دعوى المغايرة يفيد نوعا من التأكيد، و قد قيل في المشار إليه بذلك وجوه أخر بعيدة عن الفهم.
و قوله: ﴿وَ قَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً﴾ الضمير لذي القرنين، و الجملة حالية و المعنى أنه اتخذ وسيلة السير و بلغ مطلع الشمس و وجد قوما كذا و كذا في حال أحاط فيها علمنا و خبرنا بما عنده من عدة و عدة و ما يجريه أو يجري عليه، و الظاهر أن إحاطة علمه تعالى بما عنده كناية عن كون ما اختاره و أتى به بهداية من الله و أمر، فما كان يرد و لا يصدر إلا عن هداية يهتدي بها و أمر يأتمره كما أشار إلى مثل هذا المعنى عند ذكر مسيره إلى المغرب بقوله: ﴿قُلْنَا يَا ذَا اَلْقَرْنَيْنِ﴾ إلخ.
فالآية أعني قوله: ﴿وَ قَدْ أَحَطْنَا﴾ إلخ في معناها الكنائي نظيرة قوله: ﴿وَ اِصْنَعِ اَلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَ وَحْيِنَا﴾: هود: ٣٧، و قوله: ﴿أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ﴾: النساء: ١٦٦، و قوله:
﴿وَ أَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ﴾: الجن: ٢٨.
و قيل: إن الآية لإفادة تعظيم أمره و أنه لا يحيط بدقائقه و جزئياته إلا الله أو لتهويل ما قاساه ذو القرنين في هذا المسير و أن ما تحمله من المصائب و الشدائد في علم الله لم يكن ليخفى عليه، أو لتعظيم السبب الذي أتبعه، و ما قدمناه أوجه.
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ اَلسَّدَّيْنِ﴾ إلى آخر الآية. السد الجبل و كل حاجز يسد طريق العبور و كأن المراد بهما الجبلان، و قوله: ﴿وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْماً﴾ أي قريبا منهما، و قوله: ﴿لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً﴾ كناية عن بساطتهم و سذاجة فهمهم، و ربما قيل: كناية عن غرابة لغتهم و بعدها عن اللغات المعروفة عندهم، و لا يخلو عن بعد.
قوله تعالى: ﴿قَالُوا يَا ذَا اَلْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَ مَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ﴾ إلخ الظاهر أن القائلين هم القوم الذين وجدهم من دون الجبلين، و يأجوج و مأجوج جيلان من الناس كانوا يأتونهم من وراء الجبلين فيغيرون عليهم و يعمونهم قتلا و سببا و نهبا و الدليل عليه السياق بما فيه من ضمائر أولي العقل و عمل السد بين الجبلين و غير ذلك.
و قوله: ﴿فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً﴾ الخرج ما يخرج من المال ليصرف في شيء من الحوائج عرضوا عليه أن يعطوه مالا على أن يجعل بينهم و بين يأجوج و مأجوج سدا يمنع من تجاوزهم و تعديهم عليهم.
قوله تعالى: ﴿قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ رَدْماً﴾ أصل ﴿مَكَّنِّي﴾ مكنني ثم أدغمت إحدى النونين في الأخرى، و الردم السد و قيل السد القوي، و على هذا فالتعبير بالردم في الجواب و قد سألوه سدا إجابة و وعد بما هو فوق ما استدعوه و أملوه.
و قوله: ﴿قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ﴾ استغناء من ذي القرنين عن خرجهم الذي عرضوه عليه على أن يجعل لهم سدا يقول: ما مكنني فيه و أقرني عليه ربي من السعة و القدرة خير من المال الذي تعدونني به فلا حاجة لي إليه.
و قوله: ﴿فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ﴾ إلخ القوة ما يتقوى به على الشيء و الجملة تفريع على ما يتحصل من عرضهم و هو طلبهم منه أن يجعل لهم سدا، و محصل المعنى أما الخرج فلا حاجة لي إليه، و أما السد فإن أردتموه فأعينوني بما أتقوى به على بنائه كالرجال و ما يستعمل في بنائه و قد ذكر منها زبر الحديد و القطر و النفخ بالمنافخ أجعل لكم سدا قويا.
و بهذا المعنى يظهر أن مرادهم بما عرضوا عليه من الخرج الأجر على عمل السد.
قوله تعالى: ﴿آتُونِي زُبَرَ اَلْحَدِيدِ﴾ إلى آخر الآية، الزبر بالضم فالفتح جمع زبرة كغرف و غرفة و هي القطعة، و ﴿سَاوى﴾ بمعنى سوى على ما قيل و قرئ «سوى» و ﴿اَلصَّدَفَيْنِ﴾ تثنية الصدف و هو أحد جانبي الجبل ذكر بعضهم أنه لا يقال إلا إذا كان هناك جبل آخر يوازيه بجانبه فهو من الأسماء المتضائفة كالزوج و الضعف و غيرهما و القطر النحاس أو الصفر المذاب و إفراغه صبه على الثقب و الخلل و الفرج.
و قوله: ﴿آتُونِي زُبَرَ اَلْحَدِيدِ﴾ أي أعطوني إياها لأستعملها في السد و هي من القوة التي استعانهم فيها، و لعله خصها بالذكر و لم يذكر الحجارة و غيرها من لوازم البناء لأنها الركن في استحكام بناء السد فجملة ﴿آتُونِي زُبَرَ اَلْحَدِيدِ﴾ بدل البعض من الكل من جملة
﴿فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ﴾ أو الكلام بتقدير قال، و هو كثير في القرآن.
و قوله: ﴿حَتَّى إِذَا سَاوى بَيْنَ اَلصَّدَفَيْنِ قَالَ اُنْفُخُوا﴾ في الكلام إيجاز بالحذف و التقدير فأعانوه بقوة و آتوه ما طلبه منهم فبنى لهم السد و رفعه حتى إذا سوى بين الصدفين قال: انفخوا.
و قوله: ﴿قَالَ اُنْفُخُوا﴾ الظاهر أنه من الإعراض عن متعلق الفعل للدلالة على نفس الفعل و المراد نصب المنافخ على السد لإحماء ما وضع فيه من الحديد و إفراغ القطر على خلله و فرجه.
و قوله: ﴿حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ﴾ إلخ في الكلام حذف و إيجاز، و التقدير فنفخ حتى إذا جعله أي المنفوخ فيه أو الحديد نارا أي كالنار في هيئته و حرارته فهو من الاستعارة.
و قوله: ﴿قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً﴾ أي آتوني قطرا أفرغه و أصبه عليه ليسد بذلك خلله و يصير السد به مصمتا لا ينفذ فيه نافذ.
قوله تعالى: ﴿فَمَا اِسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَ مَا اِسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً﴾ اسطاع و استطاع واحد، و الظهور العلو و الاستعلاء، و النقب الثقب، قال الراغب في المفردات،: النقب في الحائط و الجلد كالثقب في الخشب انتهى و ضمائر الجمع ليأجوج و مأجوج. و في الكلام حذف و إيجاز، و التقدير فبنى السد فما استطاع يأجوج و مأجوج أن يعلوه لارتفاعه و ما استطاعوا أن ينقبوه لاستحكامه.
قوله تعالى: ﴿قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَ كَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا﴾ الدكاء الدك و هو أشد الدق مصدر بمعنى اسم المفعول، و قيل: المراد الناقة الدكاء و هي التي لا سنام لها و هو على هذا من الاستعارة و المراد به خراب السد كما قالوا.
و قوله: ﴿قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي﴾ أي قال ذو القرنين بعد ما بنى السد هذا أي السد رحمة من ربي أي نعمة و وقاية يدفع به شر يأجوج و مأجوج عن أمم من الناس.
و قوله: ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ﴾ في الكلام حذف و إيجاز و التقدير
و تبقى هذه الرحمة إلى مجيء وعد ربي فإذا جاء وعد ربي جعله مدكوكا و سوى به الأرض.
و المراد بالوعد إما وعد منه تعالى خاص بالسد أنه سيندك عند اقتراب الساعة فيكون هذا ملحمة أخبر بها ذو القرنين، و إما وعده تعالى العام بقيام الساعة الذي يدك الجبال و يخرب الدنيا، و قد أكد القول بجملة ﴿وَ كَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا﴾.
قوله تعالى: ﴿وَ تَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ﴾ إلخ ظاهر السياق أن ضمير الجمع للناس و يؤيده رجوع ضمير ﴿فَجَمَعْنَاهُمْ﴾ إلى الناس قطعا لأن حكم الجمع عام.
و في قوله: ﴿بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ﴾ استعارة، و المراد أنهم يضطربون يومئذ من شدة الهول اضطراب البحر باندفاع بعضه إلى بعض فيرتفع من بينهم النظم و يحكم فيهم الهرج و المرج و يعرض عنهم ربهم فلا يشملهم برحمته، و لا يصلح شأنهم بعنايته.
فالآية بمنزلة التفصيل للإجمال الذي في قول ذي القرنين: ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ﴾ و نظيره قوله تعالى في موضع آخر: ﴿حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَ مَأْجُوجُ وَ هُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ وَ اِقْتَرَبَ اَلْوَعْدُ اَلْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ﴾: الأنبياء: ٩٧. و هي على أي حال من الملاحم.
و قد بان مما مر أن الترك في الآية بمعناه المتبادر منه و هو خلاف الأخذ و لا موجب لما ذكره بعضهم: أن الترك بمعنى الجعل و هو من الأضداد انتهى.
و الآية من كلام الله سبحانه و ليست من تمام كلام ذي القرنين و الدليل عليه تغيير السياق من الغيبة إلى التكلم مع الغير الذي هو سياق كلامه السابق ﴿إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ﴾ ﴿قُلْنَا يَا ذَا اَلْقَرْنَيْنِ﴾، و لو كان من تمام كلام ذي القرنين لقيل: و ترك بعضهم على حذاء قوله: ﴿جَعَلَهُ دَكَّاءَ﴾.
و قوله: ﴿وَ نُفِخَ فِي اَلصُّورِ﴾ إلخ هي النفخة الثانية التي فيها الإحياء بدليل قوله ﴿فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً وَ عَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضاً﴾.
قوله تعالى: ﴿اَلَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَ كَانُوا لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً﴾
تفسير للكافرين و هؤلاء هم الذين ضرب الله بينهم و بين ذكره سدا حاجزا و بهذه المناسبة تعرض لحالهم بعد ذكر سد يأجوج و مأجوج فجعل أعينهم في غطاء عن ذكره و أخذ استطاعة السمع عن آذانهم فانقطع الطريق بينهم و بين الحق و هو ذكر الله.
فإن الحق إنما ينال إما من طريق البصر بالنظر إلى آيات الله سبحانه و الاهتداء إلى ما تدل عليه و تهدي إليه، و إما من طريق السمع باستماع الحكمة و الموعظة و القصص و العبر، و لا بصر لهؤلاء و لا سمع.
قوله تعالى: ﴿أَ فَحَسِبَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ﴾ إلخ الاستفهام للإنكار قال في المجمع،: معناه أ فحسب الذين جحدوا توحيد الله أن يتخذوا من دوني أربابا ينصرونهم و يدفعون عقابي عنهم قال: و يدل على هذا المحذوف قوله:
﴿إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً﴾ انتهى.
و هناك وجه ثان منقول عن ابن عباس و هو أن المعنى أ فحسب الذين كفروا أن يتخذوا من دوني آلهة و أنا لا أغضب لنفسي عليهم و لا أعاقبهم.
و وجه ثالث: و هو أن ﴿أَنْ يَتَّخِذُوا﴾ إلخ مفعول أول لحسب بمعنى ظن و مفعوله الثاني محذوف، و التقدير أ فحسب الذين كفروا اتخاذهم عبادي من دوني أولياء نافعا لهم أو دافعا للعقاب عنهم، و الفرق بين هذا الوجه و الوجهين السابقين أن ﴿أَنْ﴾ و صلته قائمة مقام المفعولين فيهما و المحذوف بعض الصلة فيهما بخلاف الوجه الثالث فأن و صلته فيه مفعول أول لحسب، و المفعول الثاني محذوف.
و وجه رابع: و هو أن يكون أن و صلته سادة مسد المفعولين و عناية الكلام متوجهة إلى إنكار كون الاتخاذ اتخاذا حقيقة على معنى أن ذلك ليس من الاتخاذ في شيء إذ الاتخاذ إنما يكون من الجانبين و المتخذون متبرئون منهم لقولهم: ﴿سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ﴾.
و الوجوه الأربعة مترتبة في الوجاهة و أوجهها أولها و سياق هذه الآيات يساعد عليه فإن هذه الآيات بل عامة آيات السورة مسوقة لبيان أنهم فتنوا بزينة الحياة الدنيا و اشتبه عليهم الأمر فاطمأنوا إلى ظاهر الأسباب فاتخذوا غيره تعالى أولياء من دونه
فهم يظنون أن ولايتهم تكفيهم و تنفعهم و تدفع عنهم الضر و الحال أن ما سيلقونه بعد النفخ و الجمع يناقض ذلك فالآية تنكر عليهم هذا الظن و الحسبان بعد ما كان مآل أمرهم ذلك. ثم إن إمكان قيام أن و صلته مقام مفعولي حسب و قد ورد في كلامه تعالى كثيرا كقوله: ﴿أَمْ حَسِبَ اَلَّذِينَ اِجْتَرَحُوا اَلسَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا﴾: الجاثية - ٢١ و غيره يغني عن تقدير مفعول ثان محذوف و قد منع عنه بعض النحاة.
و تؤيده الآيات التالية: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً﴾ إلخ و كذا القراءة المنسوبة إلى علي (عليه السلام) و عدة منهم، أ فحسب» بسكون السين و ضم الباء و المعنى أ فاتخاذ عبادي من دوني أولياء كاف لهم.
و المراد بالعباد في قوله: ﴿أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ﴾ كل من يعبده الوثنيون من الملائكة و الجن و الكملين من البشر.
و أما ما ذكره المفسرون أن المراد بهم المسيح (عليه السلام) و الملائكة و نحوهم من المقربين دون الشياطين لأن الأكثر في مثل هذا اللفظ ﴿عِبَادِي﴾ أن تكون الإضافة لتشريف المضاف.
ففيه أولا أن المقام لا يناسب التشريف. و هو ظاهر. و ثانيا أن قيد ﴿مِنْ دُونِي﴾ في الكلام صريح في أن المراد بالذين كفروا هم الوثنيون الذين لا يعبدون الله مع الاعتراف بألوهيته و إنما يعبدون الشركاء الشفعاء؟ و أما أهل الكتاب مثلا النصارى في اتخاذهم المسيح وليا فإنهم لا ينفون ولاية الله بل يثبتون الولايتين معا ثم يعدونهما واحدا فافهم ذلك فالحق أن قوله: ﴿عِبَادِي﴾ لا يعم المسيح و من كان مثله من البشر بل يختص بآلهة الوثنيين و المراد بقوله ﴿اَلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ الوثنيون فحسب.
و قوله: ﴿إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً﴾ أي شيئا يتمتعون به عند أول نزولهم الدار الآخرة شبه الدار الآخرة بالدار ينزلها الضيف و جهنم بالنزل الذي يكرم به الضيف النزيل لدى أول وروده، و يزيد هذا التشبيه لطفا و جمالا ما سيأتي بعد آيتين أنهم لا يقام لهم وزن يوم القيامة فكأنهم لا يلبثون دون أن يدخلوا النار، و في الآية من التهكم ما لا يخفى، و كأنما قوبل به ما سيحكى من تهكمهم في الدنيا بقوله:
﴿وَ اِتَّخَذُوا آيَاتِي وَ رُسُلِي هُزُواً﴾.
بحث روائي
في تفسير القمي، ":فلما أخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بخبر موسى و فتاه و الخضر قالوا له فأخبرنا عن طائف طاف الأرض: المشرق و المغرب من هو؟ و ما قصته؟ فأنزل الله:
﴿وَ يَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي اَلْقَرْنَيْنِ﴾ الآيات. أقول: و قد تقدم في الكلام على قصة أصحاب الكهف تفصيل هذه الرواية و روي أيضا ما في معناه في الدر المنثور، عن ابن أبي حاتم عن السدي و عن عمر مولى غفرة.
و اعلم أن الروايات المروية من طرق الشيعة و أهل السنة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و من طرق الشيعة عن أئمة أهل البيت (عليه السلام) و كذا الأقوال المنقولة عن الصحابة و التابعين و يعامل معها أهل السنة معاملة الأحاديث الموقوفة في قصة ذي القرنين مختلفة اختلافا عجيبا متعارضة متهافتة في جميع خصوصيات القصة و كافة أطرافها و هي مع ذلك مشتملة على غرائب يستوحش منها الذوق السليم أو يحيلها العقل و ينكرها الوجود لا يرتاب الباحث الناقد إذا قاس بعضها إلى بعض و تدبر فيها أنها غير سليمة عن الدس و الوضع و مبالغات عجيبة في وصف القصة و أغربها ما روي عن علماء اليهود الذين أسلموا كوهب بن منبه و كعب الأحبار أو ما يشعر القرائن أنه مأخوذ منهم فلا يجدينا و الحال هذه نقلها بالاستقصاء على كثرتها و طولها، و إنما نشير بعض الإشارة إلى وجوه اختلافها، و نقتصر على نقل ما يسلم عن الاختلاف في الجملة.
فمن الاختلاف اختلافها في نفسه فمعظم الروايات على أنه كان بشرا، و قد ورد[9]
في بعضها أنه كان ملكا سماويا أنزله الله إلى الأرض و آتاه من كل شيء سببا. و في خطط المقريزي عن الجاحظ في كتاب الحيوان، أن ذا القرنين كانت أمه آدمية و أبوه من الملائكة.
و من ذلك الاختلاف في سمته ففي أكثر الروايات أنه كان عبدا صالحا أحب الله
فأحبه و ناصح الله فناصحه، و في بعضها[10] أنه كان محدثا يأتيه الملك فيحدثه و في بعضها[11] أنه كان نبيا.
و من ذلك الاختلاف في اسمه ففي بعضها أن اسمه[12] عياش، و في بعضها[13]
إسكندر، و في بعضها[14] مرزيا بن مرزبة اليوناني من ولد يونن بن يافث بن نوح، و في بعضها[15] مصعب بن عبد الله من قحطان و في بعضها[16] صعب بن ذي المراثد أول التبابعة و كأنه التبع أبو كرب، و في بعضها[17] عبد الله بن ضحاك بن معد إلى غير ذلك و هي كثيرة.
و من ذلك الاختلاف في وجه تسميته بذي القرنين ففي بعضها[18] أنه دعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه الأيمن فغاب عنهم زمانا ثم جاءهم و دعاهم إلى الله ثانيا فضربوه على قرنه الأيسر فغاب عنهم زمانا ثم آتاه الله الأسباب فطاف شرق الأرض و غربها فسمي بذلك ذا القرنين، و في بعضها[19] أنهم قتلوه بالضربة الأولى ثم أحياه الله
فجاءهم و دعاهم فضربوه و قتلوه ثانيا ثم أحياه الله و رفعه إلى السماء الدنيا ثم أنزله إلى الأرض و آتاه من كل شيء سببا.
و في بعضها[20] أنه نبت له بعد الإحياء الثاني قرنان في موضعي الشجتين و سخر الله له النور و الظلمة ثم لما نزل إلى الأرض سار فيها و دعا إلى الله و كان يزأر كالأسد و يبرق و يرعد قرناه و إذا استكبر عن دعوته قوم سلط عليهم الظلمة فأعيتهم حتى اضطروا إلى إجابتها.
و في بعضها[21] أنه كان له قرنان في رأسه و كان يتعمم عليهما يواريهما بذلك و هو أول من تعمم و قد كان يخفيهما عن الناس و لم يكن يطلع على ذلك أحد إلا كاتبه و قد نهاه أن يخبر به أحدا فضاق صدر الكاتب بذلك فأتى الصحراء فوضع فمه بالأرض ثم نادى ألا إن للملك قرنين فأنبت الله من كلمته قصبتين فمر بهما راع فأعجبهما فقطعهما و اتخذهما مزمارا فكان إذا زمر خرج من القصبتين: ألا إن للملك قرنين فانتشر ذلك في المدينة فأرسل إلى الكاتب و استنطقه و هدده بالقتل إن لم يصدق فقص عليه القصة فقال ذو القرنين هذا أمر أراد الله أن يبديه فوضع العمامة عن رأسه.
و قيل:[22] سمي ذا القرنين لأنه ملك قرني الأرض و هما المشرق و المغرب و قيل:[23]
لأنه رأى في المنام أنه أخذ بقرني الشمس فعبر له بملك الشرق و الغرب و سمي بذي القرنين، و قيل:[24] لأنه كان له عقيصتان في رأسه، و قيل[25] لأنه ملك الروم و فارس، و قيل[26]: لأنه كان له في رأسه شبه قرنين، و قيل[27] لأنه كان على تاجه
قرنان من الذهب إلى غير ذلك مما قيل.
و من ذلك اختلافها في سيره إلى المغرب و المشرق و فيه أشد الاختلاف فقد روي[28]
أنه سخر له السحاب فكان يركب السحاب و يسير في الأرض غربا و شرقا. و روي[29]
أنه بلغ جبل قاف و هو جبل أخضر محيط بالدنيا منه خضرة السماء. و روي[30] أنه طلب عين الحياة فأشير عليه أنها في الظلمات فدخلها و في مقدمته الخضر فلم يرزق ذو القرنين أن يشرب منها و شرب الخضر و اغتسل منها فكان له البقاء المؤبد و في هذه الروايات أن الظلمات في جانب المشرق.
و من ذلك اختلافها في موضع السد الذي بناها ففي بعضها أنه في[31] المشرق و في بعضها[32] أنه في الشمال، و قد بلغ من مبالغة بعض الروايات أن ذكرت[33] أن طول السد و هو مسافة ما بين الجبلين مائة فرسخ و عرضه خمسون فرسخا و ارتفاعه ارتفاع الجبلين و قد حفر له أساسا حتى بلغ الماء و قد جعل حشوه الصخور و طينه النحاس ثم علاه بزبر الحديد و النحاس المذاب و جعل خلاله عرقا من نحاس أصفر فصار كأنه برد محبر.
و من ذلك اختلافها في وصف يأجوج و مأجوج فروي[34] أنهم من الترك و من ولد يافث بن نوح كانوا يفسدون في الأرض فضرب السد دونهم. و روي[35] أنهم من غير ولد آدم و في[36] عدة من الروايات أنهم قوم ولود لا يموت الواحد منهم من ذكر أو أنثى
حتى يولد له ألف من الأولاد و أنهم أكثر عددا من سائر البشر حتى عدوا في[37] بعض الروايات تسعة أضعاف البشر، و روي[38] أنهم من الشدة و البأس بحيث لا يمرون ببهيمة أو سبع أو إنسان إلا افترسوه و أكلوه و لا على زرع أو شجر إلا رعوه و لا على ماء نهر إلا شربوه و نشفوه، و روي[39] أنهم أمتان كل منهما أربع مائة ألف أمة كل أمة لا يحصي عددهم إلا الله سبحانه.
و روي[40] أنهم طوائف ثلاث فطائفة كالأرز و هو شجر طوال، و طائفة يستوي طولهم و عرضهم: أربعة أذرع في أربعة أذرع و طائفة و هم أشدهم للواحد منهم أذنان يفترش بإحداهما و يلتحف بالأخرى يشتو في إحداهما لابسا له و هي وبرة ظهرها و بطنها و يصيف في الأخرى و هي زغبة ظهرها و بطنها، و هم صلب على أجسادهم من الشعر ما يواريها، و روي أن الواحد[41] منهم شبر أو شبران أو ثلاثة، و روي[42] أن الذين كانوا يقاتلونهم كان وجوههم وجوه الكلاب.
و من ذلك اختلافها في زمان ملكه ففي بعضها[43] أنه كان بعد نوح، و روي[44]
أنه كان في زمن إبراهيم و معاصره و قد حج البيت و لقيه و صافحه و هي أول مصافحة على وجه الأرض، و روي[45] أنه كان في زمن داود.
و من ذلك اختلافها في مدة ملكه فروي[46] ثلاثون سنة و روي[47] اثنتا عشرة سنة إلى غير ذلك من جهات الاختلاف التي يعثر عليها من راجع أخبار القصة من جوامع الحديث و خاصة الدر المنثور، و البحار، و البرهان، و نور الثقلين،.
و في كتاب كمال الدين، بإسناده عن الأصبغ بن نباتة قال ":قام ابن الكواء إلى علي (عليه السلام) و هو على المنبر فقال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن ذي القرنين أ نبيا كان أم ملكا؟ و أخبرني عن قرنيه أ من ذهب أم من فضة؟ فقال له: لم يكن نبيا و لا ملكا، و لم يكن قرناه من ذهب و لا فضة و لكن كان عبدا أحب الله فأحبه الله و نصح الله فنصحه الله، و إنما سمي ذا القرنين لأنه دعا قومه إلى الله عز و جل فضربوه على قرنه فغاب عنهم حينا ثم عاد إليهم فضرب على قرنه الآخر، و فيكم مثله.
أقول: الظاهر أن «الملك» في الرواية بفتح اللام لا بكسرها لاستفاضة الروايات عنه و عن غيره (عليه السلام) بملك ذي القرنين فنفيه (عليه السلام) أن يكون ذو القرنين نبيا أو ملكا بفتح اللام إنكار منه لصحة ما ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في بعض الروايات أنه كان نبيا و في بعضها الآخر أنه كان ملكا من الملائكة و به كان يقول عمر بن الخطاب كما تقدمت الإشارة إليه.
و قوله: «و فيكم مثله» أي مثل ذي القرنين في شجتيه يشير (عليه السلام) إلى نفسه فإنه أصيب بضربة من عمرو بن عبد ود و بضربة من عبد الرحمن بن ملجم لعنه الله فاستشهد بها، و لرواية مستفيضة عنه (عليه السلام) روته عنه الشيعة و أهل السنة بألفاظ مختلفة، و أبسط ألفاظها ما أوردناه، و قد لعبت به يد النقل بالمعنى فأظهرته في صور عجيبة و بلغ بها التحريف غايته.
و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن سالم بن أبي الجعد قال: سئل علي عن ذي القرنين أ نبي هو؟ فقال سمعت نبيكم (صلى الله عليه وآله و سلم) يقول: هو عبد ناصح الله فنصحه. و في احتجاج الطبرسي، عن الصادق (عليه السلام) في حديث طويل: و فيه قال السائل
أخبرني عن الشمس أين تغيب؟ قال: إن بعض العلماء قال: إذا انحدرت أسفل القبة دار بها الفلك إلى بطن السماء صاعدة أبدا إلى أن تنحط إلى موضع مطلعها.
يعني أنها تغيب في عين حمئة ثم تخرق الأرض راجعة إلى موضع مطلعها فتحير تحت العرش حتى يؤذن لها بطلوع و يسلب نورها كل يوم و تتجلل نورا أحمر. أقول: قوله: «إذا انحدرت أسفل القبة إلى قوله: مطلعها» بيان لسير الشمس من حين غروبها إلى إبان طلوعها في مدارها السماوي على ما تفرضه هيئة بطليموس الدائرة في تلك الأعصار المبنية على سكون الكرة الأرضية و حركة الأجرام السماوية حولها، و لذا نسبه (عليه السلام) إلى بعض العلماء.
و قوله: «يعني أنها تغيب في عين حمئة ثم تخرق الأرض راجعة إلى موضع مطلعها» من كلام بعض رواة الخبر لا من كلامه (عليه السلام) فالراوي لقصور منه في الفهم فسر قوله تعالى: ﴿تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ﴾ بسقوط القرص في العين و غيبوبته فيها ثم سبحه فيها كالسمكة في الماء و خرقه الأرض حتى يبلغ المطلع ثم ذهابه إلى تحت العرش و هو على زعمه سماء فوق السماوات السبع أو جسم نوراني كأعظم ما يكون موضوع فوق السماء السابعة و مكثه هناك حتى يؤذن له في الطلوع فيكسى نورا أحمر و يطلع.
و الراوي يشير بقوله: «فتحير تحت العرش حتى يؤذن لها إلخ إلى رواية أخرى مأثورة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن الملائكة تذهب بالشمس بعد غروبها فتوقفها تحت العرش و هي مسلوبة النور فتمكث هناك و هي لا تدري ما تؤمر به غدا حتى تكسى نورا و تؤمر بالطلوع، الرواية. و قد ارتكب فهمه في تفسير العرش هناك نظير ما ارتكبه في تفسير الغروب هاهنا فزاد عن الحق بعدا على بعد.
و لم يرد تفسير العرش في كتاب و لا سنة قابلة للاعتماد بالفلك التاسع أو بجسم نوراني علوي كهيئة السرير التي اختلقها فهمه و قد قدمنا معظم روايات العرش في أوائل الجزء الثامن من هذا الكتاب.
و في التسمية أعني قوله: «قال بعض العلماء بعض الإشارة إلى أن هذا القول لم يكن مرضيا عنده (عليه السلام) و مع ذلك لم يسعه أن يسمح بحق القول في المسألة كيف؟
و إذا ساقتهم سذاجة الفهم في فرضية سهلة التصور عند أهله في تلك الأعصار هذا المساق فما ظنك بهم لو ألقي إليهم ما لا يصدقه ظاهر حسهم و لا يسعه ظرف فكرهم.
و في الدر المنثور، أخرج عبد الرزاق و سعيد بن منصور و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم من طريق عثمان بن أبي حاضر :أن ابن عباس ذكر له أن معاوية بن أبي سفيان قرأ الآية التي في سورة الكهف «تغرب في عين حامية» قال ابن عباس:
فقلت لمعاوية: ما نقرؤها إلا حمئة فسأل معاوية عبد الله بن عمر و كيف تقرؤه؟ فقال عبد الله: كما قرأتها.
قال ابن عباس: فقلت لمعاوية: في بيتي نزل القرآن فأرسل إلى كعب فقال له:
أين تجد الشمس تغرب في التوراة؟ فقال له كعب: سل أهل العربية فإنهم أعلم بها، و أما أنا فإني أجد الشمس تغرب في التوراة في ماء و طين، و أشار بيده إلى المغرب. قال ابن أبي حاضر: لو أني عندكما أيدتك بكلام تزداد به بصيرة في حمئة. قال ابن عباس:
و ما هو؟ قلت: فيما نأثر قول تبع فيما ذكر به ذا القرنين في كلفه بالعلم و اتباعه إياه:
قد كان ذو القرنين عمر مسلما *** ملكا تدين له الملوك و تحشد
فأتى المشارق و المغارب يبتغي *** أسباب ملك من حكيم مرشد
فرأى مغيب الشمس عند غروبها *** في عين ذي خلب و ثأط حرمد
فقال ابن عباس: ما الخلب؟ قلت: الطين بكلامهم. قال: فما الثأط؟ قلت:
الحمأة. قال: فما الحرمد؟ قلت: الأسود فدعا ابن عباس غلاما فقال له: اكتب ما يقول هذا الرجل. أقول: و الحديث لا يلائم ما ذهبوا إليه من تواتر القراءات تلك الملائمة و عن التيجان لابن هشام الحديث و فيه أن ابن عباس أنشد هذه الأشعار لمعاوية و أن معاوية سأله عن معنى الخلب و الثأط و الحرمد قال: الخلب الحمأة و الثأط ما تحتها من الطين و الحرمد ما تحته من الحصى و الحجر، و قد أورد القصيدة، و هذا الاختلاف يؤذن بشيء في الرواية.
في تفسير العياشي، عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام): في قول الله عز و جل: ﴿لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْراً﴾ قال: لم يعلموا صنعة البيوت.
و في تفسير القمي، :في الآية قال: لم يعلموا صنعة الثياب.
و في الدر المنثور، أخرج ابن المنذر عن ابن عباس :في قوله: ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ اَلسَّدَّيْنِ﴾ قال: الجبلين أرمينية و آذربيجان.
و في تفسير العياشي، عن المفضل قال: سألت الصادق (عليه السلام) عن قوله. ﴿أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ رَدْماً﴾ قال: التقية «فما استطاعوا أن يظهروه و ما استطاعوا له نقبا» إذا عملت بالتقية لم يقدروا لك على حيلة، و هو الحصن الحصين، و صار بينك و بين أعداء الله سدا لا يستطيعون له نقبا.
و فيه، أيضا عن جابر عنه (عليه السلام) في الآية قال: التقية. أقول: الروايتان من الجري و ليستا بتفسير.
و في تفسير العياشي، عن الأصبغ بن نباتة عن علي (عليه السلام): ﴿وَ تَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ﴾ يعني يوم القيامة.
أقول: ظاهر الآية بحسب السياق أنه من أشراط الساعة، و لعله المراد بيوم القيامة فربما تطلق على ظهور مقدماتها.
و فيه، عن محمد بن حكيم قال: كتبت رقعة إلى أبي عبد الله (عليه السلام) فيها: أ تستطيع النفس المعرفة؟ قال: فقال لا فقلت: يقول الله: ﴿اَلَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَ كَانُوا لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً﴾ قال: هو كقوله: ﴿مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ اَلسَّمْعَ وَ مَا كَانُوا يُبْصِرُونَ﴾ قلت: فعابهم؟ قال: لم يعبهم بما صنع هو بهم و لكن عابهم بما صنعوا، و لو لم يتكلفوا لم يكن عليهم شيء.
أقول: يعني أنهم تسببوا لهذا الحجاب فرجع إليهم تبعته.
و في تفسير القمي، ":في الآية قال: كانوا لا ينظرون إلى ما خلق الله من الآيات و السماوات و الأرض.
أقول: و في العيون، عن الرضا (عليه السلام): تطبيق الآية على منكري الولاية و هو من الجري
(كلام حول قصة ذي القرنين)
و هو بحث قرآني و تاريخي في فصول:
١ - قصة ذي القرنين في القرآن:
لم يعترض لاسمه و لا لتأريخ زمان ولادته و حياته و لا لنسبه و سائر مشخصاته على ما هو دأبه في ذكر قصص الماضين بل اكتفى على ذكر ثلاث رحلات منه فرحلة أولى إلى المغرب حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة (أو حامية) و وجد عندها قوما، و رحلة ثانية إلى المشرق حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم يجعل الله لهم من دونها سترا، و رحلة ثالثة حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا فشكوا إليه إفساد يأجوج و مأجوج في الأرض و عرضوا عليه أن يجعلوا له خرجا على أن يجعل بين القوم و بين يأجوج و مأجوج سدا فأجابهم إلى بناء السد و وعدهم أن يبني لهم فوق ما يأملون و أبى أن يقبل خرجهم و إنما طلب منهم أن يعينوه بقوة و قد أشير منها في القصة إلى الرجال و زبر الحديد و المنافخ و القطر.
و الخصوصيات و الجهات الجوهرية التي تستفاد من القصة هي أولا أن صاحب القصة كان يسمى قبل نزول قصته في القرآن بل حتى في زمان حياته بذي القرنين كما يظهر في سياق القصة من قوله: ﴿يَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي اَلْقَرْنَيْنِ﴾ ﴿قُلْنَا يَا ذَا اَلْقَرْنَيْنِ﴾ و ﴿قَالُوا يَا ذَا اَلْقَرْنَيْنِ﴾.
و ثانيا: أنه كان مؤمنا بالله و اليوم الآخر و متدينا بدين الحق كما يظهر من قوله:
﴿هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَ كَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا﴾ و قوله: ﴿أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُكْراً وَ أَمَّا مَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صَالِحاً﴾ إلخ و يزيد في كرامته الدينية أن قوله تعالى: ﴿قُلْنَا يَا ذَا اَلْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَ إِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً﴾ يدل على تأييده بوحي أو إلهام أو نبي من أنبياء الله كان عنده يسدده بتبليغ الوحي.
و ثالثا: أنه كان ممن جمع الله له خير الدنيا و الآخرة، أما خير الدنيا فالملك العظيم الذي بلغ به مغرب الشمس و مطلعها فلم يقم له شيء و قد ذلت له الأسباب، و أما خير الآخرة فبسط العدل و إقامة الحق و الصفح و العفو و الرفق و كرامة النفس و بث الخير و دفع الشر، و هذا كله مما يدل
عليه قوله تعالى: ﴿إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي اَلْأَرْضِ وَ آتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً﴾ مضافا إلى ما يستفاد من سياق القصة من سيطرته الجسمانية و الروحانية.
و رابعا: أنه صادف قوما ظالمين بالمغرب فعذبهم.
و خامسا: أن الردم الذي بناه هو في غير مغرب الشمس و مطلعها فإنه بعد ما بلغ مطلع الشمس أتبع سببا حتى إذا بلغ بين السدين. و من مشخصات ردمه مضافا إلى كونه واقعا في غير المغرب و المشرق أنه واقع بين جبلين كالحائطين، و أنه ساوى بين صدفيهما و أنه استعمل في بنائه زبر الحديد و القطر، و لا محالة هو في مضيق هو الرابط بين ناحيتين من نواحي الأرض المسكونة.
٢ - ذكرى ذي القرنين و السد و يأجوج و مأجوج:
في أخبار الماضين، لم يذكر القدماء من المؤرخين في أخبارهم ملكا يسمى في عهده بذي القرنين أو ما يؤدي معناه من غير اللفظ العربي و لا يأجوج و مأجوج بهذين اللفظين و لا سدا ينسب إليه باسمه نعم ينسب إلى بعض ملوك حمير من اليمنيين أشعار في المباهاة يذكر فيها ذا القرنين و أنه من أسلافه التبابعة و فيها ذكر سيره إلى المغرب و المشرق و سد يأجوج و مأجوج و سيوافيك نبذة منها في بعض الفصول الآتية.
و ورد ذكر «مأجوج» و «جوج و مأجوج» في مواضع من كتب العهد العتيق ففي الإصلاح[48] العاشر من سفر التكوين من التوراة، ": «و هذه مواليد بني نوح: سام و حام و يافث و ولد لهم بنون بعد الطوفان. بنو يافث جومر و مأجوج و ماداي و بأوان و نوبال و ماشك و نبراس.
و في كتاب حزقيال،[49] الإصحاح الثامن و الثلاثون :و كان إلى كلام الرب قائلا:
يا بن آدم اجعل وجهك على جوج أرض مأجوج رئيس روش ماشك و نوبال، و تنبأ عليه و قل: هكذا قال السيد الرب: ها أنا ذا عليك يأجوج رئيس روش و ماشك و نوبال و أرجعك و أضع شكائم في فكيك و أخرجك أنت و كل جيشك خيلا و فرسانا
كلهم لابسين أفخر لباس جماعة عظيمة مع أتراس و مجان كلهم ممسكين السيوف.
فارس و كوش و فوط معهم كلهم بمجن و خوذة، و جومر و كل جيوشه و بيت نوجرمه من أقاصي الشمال مع كل جيشه شعوبا كثيرين معك».
قال: لذلك تنبأ يا بن آدم و قل لجوج: هكذا قال السيد الرب في ذلك اليوم عند سكنى شعب إسرائيل آمنين أ فلا تعلم و تأتي من موضعك من أقاصي الشمال» إلخ.
و قال في الإصحاح التاسع و الثلاثين ماضيا في الحديث السابق :و أنت يا بن آدم تنبأ على جوج و قل هكذا قال السيد الرب ها أنا ذا عليك يأجوج رئيس روش ماشك و نوبال و أردك و أقودك و أصعدك من أقاصي الشمال. و آتي بك على جبال إسرائيل و أضرب قوسك من يدك اليسرى و أسقط سهامك من يدك اليمني فتسقط على جبال إسرائيل أنت و كل جيشك و الشعوب الذين معك أ بذلك مأكلا للطيور الكاسرة من كل نوع و لوحوش الحفل، على وجه الحفل تسقط لأني تكلمت بقول السيد الرب، و أرسل نارا على مأجوج و على الساكنين في الجزائر آمنين - فيعلمون أني أنا الرب» إلخ.
و في رؤيا يوحنا في الإصحاح العشرين : «و رأيت ملاكا نازلا من السماء معه مفتاح الهاوية و سلسلة عظيمة على يده فقبض على التنين الحية القديمة الذي هو إبليس و الشيطان، و قيده ألف سنة، و طرحه في الهاوية و أغلق عليه و ختم عليه لكيلا يضل الأمم فيما بعد حتى تتم الألف سنة، و بعد ذلك لا بد أن يحل زمانا يسيرا.
قال: «ثم متى تمت الألف سنة لن يحل الشيطان من سجنه و يخرج ليضل الأمم الذين في أربع زوايا الأرض جوج و مأجوج- ليجمعهم للحرب الذين عددهم مثل رمل البحر فصعدوا على عرض الأرض، و أحاطوا بمعسكر القديسين و بالمدينة المحبوبة فنزلت نار من عند الله من السماء و أكلتهم، و إبليس الذي كان يضلهم طرح في بحيرة النار و الكبريت حيث الوحش و النبي الكذاب و سيعذبون نهارا و ليلا إلى أبد الآبدين». و يستفاد منها أن «مأجوج» أو «جوج و مأجوج» أمة أو أمم عظيمة كانت قاطنة في أقاصي شمال آسيا من معمورة الأرض يومئذ و أنهم كانوا أمما حربية معروفة بالمغازي و الغارات.
و يقرب حينئذ أن يحدس أن ذا القرنين هذا هو أحد الملوك العظام الذين سدوا الطريق على هذه الأمم المفسدة في الأرض، و أن السد المنسوب إليه يجب أن يكون فاصلا بين منطقة شمالية من قارة آسيا و جنوبها كحائط الصين أو سد باب الأبواب أو سد «داريال» أو غير هذه.
و قد تسلمت تواريخ الأمم اليوم من أن ناحية الشمال الشرقي من آسيا و هي الأحداب و المرتفعات في شمال الصين كانت موطنا لأمة كبيرة بدوية همجية لم تزل تزداد عددا و تكثر سوادا فتكر على الأمم المجاورة لها كالصين و ربما نسلت من أحدابها و هبطت إلى بلاد آسيا الوسطى و الدنيا و بلغت إلى شمال أوربة فمنهم من قطن في أراض أغار عليها كأغلب سكنة أوربة الشمالية فتمدين بها و اشتغل بالزراعة و الصناعة، و منهم من رجع ثم عاد و عاد[50].
و هذا أيضا مما يؤيد ما استقربناه آنفا أن السد الذي نبحث عنه هو أحد الأسداد الموجودة في شمال آسيا الفاصلة بين الشمال و جنوبه.
٣ - من هو ذو القرنين؟ و أين سدة؟
للمؤرخين و أرباب التفسير في ذلك أقوال بحسب اختلاف أنظارهم في تطبيق القصة:.
أ - ينسب إلى بعضهم أن السد المذكور في القرآن هو حائط الصين، و هو حائط طويل يحول بين الصين و بين منغوليا بناه «شينهوانكتى» أحد ملوك الصين لصد هجمات المغول عن الصين، طوله ثلاثة آلاف كيلو متر في عرض تسعة أمتار و ارتفاع خمسة عشر مترا و قد بنى بالأحجار شرع في بنائه سنة ٢٦٤ ق م و قد تم بناؤه في عشر أو عشرين و على هذا فذو القرنين هو الملك المذكور.
و يدفعه أن الأوصاف و المشخصات المذكورة في القرآن لذي القرنين و سدة لا تنطبق على هذا الملك و حائط الصين الكبير فلم يذكر من هذا الملك أنه سار من أرضه إلى المغرب
الأقصى، و السد الذي يذكره القرآن يصفه بأنه ردم بين جبلين و قد استعمل فيه زبر الحديد و القطر و هو النحاس المذاب و الحائط الكبير يمتد ثلاثة آلاف كيلو متر يمر في طريقه على السهول و الجبال، و ليس بين جبلين و هو مبني بالحجارة لم يستعمل فيه حديد و لا قطر.
ب - نسب إلى بعضهم أن الذي بنى السد هو أحد ملوك آشور[51] و قد كان يهجم في حوالي القرن السابع قبل الميلاد أقوام[52] سيت من مضيق جبال قفقاز إلى أرمينستان ثم غربي إيران و ربما بلغوا بلاد آشور و عاصمتها نينوا فأحاطوا بهم قتلا و سبيا و نهبا فبنى ملك آشور السد لصدهم، و كأن المراد به سد باب الأبواب المنسوب تعميره أو ترميمه إلى كسرى أنوشيروان من ملوك الفرس هذا. و لكن الشأن في انطباق خصوصيات القصة عليه.
ج - قال في روح المعاني:، و قيل: هو يعني ذا القرنين فريدون بن أثفيان بن جمشيد خامس ملوك الفرس الفيشدادية، و كان ملكا عادلا مطيعا لله تعالى، و في كتاب صور الأقاليم، لأبي زيد البلخي: أنه كان مؤيدا بالوحي و في عامة التواريخ أنه ملك الأرض و قسمها بين بنيه الثلاثة: إيرج و سلم و تور فأعطى إيرج العراق و الهند و الحجاز و جعله صاحب التاج، و أعطى سلم الروم و ديار مصر و المغرب، و أعطى تور الصين و الترك و المشرق، و وضع لكل قانونا يحكم به، و سميت القوانين الثلاثة «سياسة» و هي معربة «سي أيسا» أي ثلاثة قوانين.
و وجه تسميته ذا القرنين أنه ملك طرفي الدنيا أو طول أيام سلطنته فإنها كانت على ما في روضة الصفا، خمسمائة سنة، أو عظم شجاعته و قهره الملوك انتهى.
و فيه أن التاريخ لا يعترف بذلك.
د - و قيل: إن ذا القرنين هو الإسكندر المقدوني و هو المشهور في الألسن و سد
الإسكندر كالمثل السائر بينهم و قد ورد ذلك في بعض الروايات كما في رواية قرب الإسناد، عن موسى بن جعفر (عليه السلام) و رواية عقبة بن عامر عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و رواية وهب بن منبه المرويتين في الدر المنثور،.
و به قال بعض قدماء المفسرين من الصحابة و التابعين كمعاذ بن جبل على ما في مجمع البيان، و قتادة على ما رواه في الدر المنثور، و وصفه الشيخ أبو علي بن سينا عند ما ذكره في كتاب الشفاء، بذي القرنين، و أصر على ذلك الإمام الرازي في تفسيره الكبير،.
قال فيه ما ملخصه: إن القرآن دل على أن ملك الرجل بلغ إلى أقصى المغرب و أقصى المشرق و جهة الشمال، و ذلك تمام المعمورة من الأرض و مثل هذا الملك يجب أن يبقى اسمه مخلدا، و الملك الذي اشتهر في كتب التواريخ أن ملكه بلغ هذا المبلغ ليس إلا الإسكندر.
و ذلك أنه بعد موت أبيه جمع ملوك الروم و المغرب و قهرهم و انتهى إلى البحر الأخضر ثم إلى مصر، و بنى الإسكندرية ثم دخل الشام و قصد بني إسرائيل و ورد بيت المقدس، و ذبح في مذبحه. ثم انعطف إلى أرمينية و باب الأبواب، و دان له العراقيون و القبط و البربر، و استولى على إيران، و قصد الهند و الصين و غزا الأمم البعيدة و رجع إلى خراسان و بنى المدن الكثيرة ثم رجع إلى العراق و مات في شهرزور أو رومية المدائن و حمل إلى إسكندرية و دفن بها، و عاش ثلاثا و ثلاثين سنة، و مدة ملكه اثنتا عشرة سنة.
فلما ثبت بالقرآن أن ذا القرنين ملك أكثر المعمورة، و ثبت بالتواريخ أن الذي هذا شأنه هو الإسكندر وجب القطع بأن المراد بذي القرنين هو الإسكندر. انتهى.
و فيه أولا: أن الذي ذكره من انحصار ملك معظم المعمورة في الإسكندر المقدوني غير مسلم في التاريخ ففي الملوك من يماثله أو يزيد عليه ملكا.
و ثانيا: أن الذي يذكره القرآن من أوصاف ذي القرنين لا يتسلمه التاريخ للإسكندر أو ينفيه عنه فقد ذكر القرآن أن ذا القرنين كان مؤمنا بالله و اليوم الآخر و هو دين التوحيد و كان الإسكندر وثنيا من الصابئين كما يحكى أنه ذبح ذبيحته للمشتري، و ذكر
القرآن أن ذا القرنين كان من صالحي عباد الله ذا عدل و رفق و التاريخ يقص للإسكندر خلاف ذلك.
و ثالثا: أنه لم يرد في شيء من تواريخهم أن الإسكندر المقدوني بنى سد يأجوج و مأجوج على ما يذكره القرآن.
و قال في البداية، و النهاية، في خبر ذي القرنين: و قال إسحاق بن بشر عن سعيد بن بشير عن قتادة قال: إسكندر هو ذو القرنين و أبوه أول القياصرة، و كان من ولد سام بن نوح. فأما ذو القرنين الثاني فهو إسكندر بن فيلبس (و ساق نسبه إلى عيص بن إسحاق بن إبراهيم) المقدوني اليوناني المصري باني إسكندرية الذي يؤرخ بأيامه الروم، و كان متأخرا عن الأول بدهر طويل.
و كان هذا قبل المسيح بنحو من ثلاثمائة سنة، و كان أرسطاطاليس الفيلسوف وزيره، و هو الذي قتل دارا بن دارا، و أذل ملوك الفرس و أوطأ أرضهم.
قال: و إنما نبهنا عليه لأن كثيرا من الناس يعتقد أنهما واحد و أن المذكور في القرآن هو الذي كان أرسطاطاليس وزيره فيقع بسبب ذلك خطأ كبير، و فساد عريض طويل كثير فإن الأول كان عبدا مؤمنا صالحا، و ملكا عادلا، و كان وزيره الخضر و قد كان نبيا على ما قررناه قبل هذا، و أما الثاني فكان مشركا، و قد كان وزيره فيلسوفا، و قد كان بين زمانيهما، أزيد من ألفي سنة فأين هذا من هذا لا يستويان و لا يشتبهان إلا على غبي لا يعرف حقائق الأمور انتهى.
و فيه تعريض بالإمام الرازي في مقاله السابق لكنك لو أمعنت فيما نقلنا من كلامه ثم راجعت كتابه فيما ذكره من قصة ذي القرنين وجدته لا يرتكب من الخطإ أقل مما ارتكبه الإمام الرازي فلا أثر في التاريخ عن ملك كان قبل المسيح بأكثر من ألفين و ثلاثمائة سنة ملك الأرض من أقصى المغرب إلى أقصى المشرق و جهة الشمال و بنى السد و كان مؤمنا صالحا بل نبيا و وزيره الخضر و دخل الظلمات في طلب ماء الحياة سواء كان اسمه الإسكندر أو غير ذلك.
هـ - ذكر جمع من المؤرخين أن ذا القرنين أحد التبابعة[53] الأذواء اليمنيين من ملوك حمير باليمن كالأصمعي في تاريخ العرب قبل الإسلام، و ابن هشام في السيرة، و التيجان و أبي ريحان البيروني في الآثار الباقية، و نشوان بن سعيد الحميري في شمس العلوم، على ما نقل عنهم و غيرهم.
و قد اختلفوا في اسمه فقيل اسمه مصعب بن عبد الله، و قيل: صعب بن ذي المرائد و هو أول التبابعة، و هو الذي حكم لإبراهيم في بئر السبع، و قيل: تبع الأقرن و اسمه حسان، و ذكر الأصمعي أنه أسعد الكامل الرابع من التبابعة بن حسان الأقرن ملكي كرب تبع الثاني ابن الملك تبع الأول، و قيل: اسمه «شمر يرعش.
و قد ورد ذكر ذي القرنين و الافتخار به في عدة من أشعار الحميريين و بعض شعراء الجاهلية ففي البداية، و النهاية،: أنشد ابن هشام للأعشى:
و الصعب ذو القرنين أصبح ثاويا *** بالجنو في جدث أشم مقيما
و قد مر في البحث الروائي السابق أن عثمان بن أبي الحاضر أنشد لابن عباس قول بعض الحميريين:
قد كان ذو القرنين جدي مسلما *** ملكا تدين له الملوك و تحشد
بلغ المشارق و المغارب يبتغي *** أسباب أمر من حكيم مرشد
فرأى مغيب الشمس عند غروبها *** في عين ذي خلب و ثأط حرمد
قال المقريزي في الخطط،: اعلم أن التحقيق عند علماء الأخبار أن ذا القرنين الذي ذكره الله في كتابه العزيز فقال: ﴿وَ يَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي اَلْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي اَلْأَرْضِ وَ آتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً﴾ الآيات عربي قد كثر ذكره في أشعار العرب.
و أن اسمه الصعب بن ذي مرائد بن الحارث الرائش بن الهمال ذي سدد بن عاد ذي منح بن عار الملطاط بن سكسك بن وائل بن حمير بن سبإ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن هود بن عابر بن شالح بن أرفخشد بن سام بن نوح (عليه السلام).
و أنه ملك من ملوك حمير و هم العرب[54] العاربة، و يقال لهم أيضا العرب العرباء، و كان ذو القرنين تبعا متوجا، و لما ولي الملك تجبر ثم تواضع لله، و اجتمع بالخضر، و قد غلط من ظن أن الإسكندر بن فيلبس هو ذو القرنين الذي بنى السد فإن لفظة ذو عربية، و ذو القرنين من ألقاب العرب ملوك اليمن، و ذاك رومي يوناني.
قال أبو جعفر الطبري: و كان الخضر في أيام أفريدون الملك بن الضحاك في قول عامة علماء أهل الكتاب الأول، و قيل: موسى بن عمران (عليه السلام)، و قيل: إنه كان على مقدمة ذي القرنين الأكبر الذي كان على أيام إبراهيم الخليل (عليه السلام) و إن الخضر بلغ مع ذي القرنين أيام مسيره في البلاد نهر الحياة فشرب من مائه و هو لا يعلم به ذو القرنين و لا من معه فخلد و هو حي عندهم إلى الآن، و قال آخرون إن ذا القرنين الذي كان على عهد إبراهيم الخليل (عليه السلام) هو أفريدون بن الضحاك و على مقدمته كان الخضر.
و قال أبو محمد عبد الملك بن هشام في كتاب التيجان، في معرفة ملوك الزمان بعد ما ذكر نسب ذي القرنين الذي ذكرناه: و كان تبعا متوجا لما ولي الملك تجبر ثم تواضع و اجتمع بالخضر ببيت المقدس، و سار معه مشارق الأرض و مغاربها و أوتي من كل شيء سببا كما أخبر الله تعالى، و بنى السد على يأجوج و مأجوج و مات بالعراق.
و أما الإسكندر فإنه يوناني، و يعرف بالإسكندر المجدوني (و يقال المقدوني)
: سئل ابن عباس عن ذي القرنين: ممن كان؟ فقال: من حمير و هو الصعب بن ذي مرائد الذي مكنه الله في الأرض و آتاه من كل شيء سببا فبلغ قرني الشمس و رأس الأرض و بنى السد على يأجوج و مأجوج. قيل له: فالإسكندر؟ قال: كان رجلا صالحا روميا حكيما بنى على البحر في إفريقية منارا، و أخذ أرض رومة، و أتى بحر العرب، و أكثر عمل الآثار في العرب من المصانع و المدن.
":و سئل كعب الأحبار عن ذي القرنين فقال: الصحيح عندنا من أحبارنا و أسلافنا أنه من حمير و أنه الصعب بن ذي مرائد، و الإسكندر كان رجلا من يونان من ولد عيصو بن إسحاق بن إبراهيم الخليل (عليه السلام)، و رجال الإسكندر[55] أدركوا المسيح بن مريم منهم جالينوس و أرسطاطاليس.
و قال الهمداني في كتاب الأنساب،: و ولد كهلان بن سبإ زيدا، فولد زيد عريبا و مالكا و غالبا و عميكرب، و قال الهيثم: عميكرب بن سبإ أخو حمير و كهلان فولد عميكرب أبا مالك فدرحا و مهيليل ابني عميكرب، و ولد غالب جنادة بن غالب و قد ملك بعد مهيليل بن عميكرب بن سبإ، و ولد عريب عمرا، فولد عمرو زيدا و الهميسع و يكنى أبا الصعب و هو ذو القرنين الأول، و هو المساح و البناء، و فيه يقول النعمان بن بشير.
فمن ذا يعادونا من الناس معشرا *** كراما فذو القرنين منا و حاتم
و فيه يقول الحارثي:
سموا لنا واحدا منكم فنعرفه *** في الجاهلية لاسم الملك محتملا
كالتبعين و ذي القرنين يقبله *** أهل الحجى فأحق القول ما قبلا
و فيه يقول ابن أبي ذئب الخزائي:
و منا الذي بالخافقين تغربا *** و أصعد في كل البلاد و صوبا
فقد نال قرن الشمس شرقا و مغربا *** و في ردم يأجوج بنى ثم نصبا
و ذلك ذو القرنين تفخر حمير *** بعسكر فيل ليس يحصى فيحسبا
قال الهمداني: و علماء همدان تقول: ذو القرنين الصعب بن مالك بن الحارث الأعلى بن ربيعة بن الحيار بن مالك، و في ذي القرنين أقاويل كثيرة. انتهى كلام المقريزي.
و هو كلام جامع، و يستفاد منه أولا أن لقب ذي القرنين تسمى به أكثر من واحد من ملوك حمير و أن هناك ذا القرنين الأول (الكبير) و غيره.
و ثانيا: أن ذا القرنين الأول و هو الذي بنى سد يأجوج و مأجوج قبل الإسكندر المقدوني بقرون كثيرة سواء كان معاصرا للخليل (عليه السلام) أو بعده كما هو مقتضى ما نقله ابن هشام من ملاقاته الخضر ببيت المقدس المبني بعد إبراهيم بعدة قرون في زمن داود و سليمان (عليه السلام) فهو على أي حال قبله مع ما في تاريخ ملوك حمير من الإبهام.
و يبقى الكلام على ما ذكره و اختاره من جهتين:
أحدهما: أنه أين موضع هذا السد الذي بناه تبع الحميري؟.
و ثانيهما: أنه من هم هذه الأمة المفسدة في الأرض التي بنى السد لصدهم فهل هذا السد أحد الأسداد المبنية في اليمن أو ما والاها كسد مأرب و غيره فهي أسداد مبنية لادخار المياه للشرب و السقي لا للصد على أنها لم يعمل فيها زبر الحديد و القطر كما ذكره الله في كتابه، أو غيرها؟ و هل كان هناك أمة مفسدة مهاجمة، و ليس فيما يجاورهم إلا أمثال القبط و الآشور و كلدان و غيرهم و هم أهل حضارة و مدنية؟.
و ذكر بعض أجلة المحققين[56] من معاصرينا في تأييد هذا القول ما محصله: أن ذا القرنين المذكور في القرآن قبل الإسكندر المقدوني بمئات من السنين فليس هو هو بل هو أحد الملوك الصالحين من التبابعة الأذواء من ملوك اليمن، و كان من شيمة طائفة منهم التسمي بذي كذي همدان و ذي غمدان و ذي المنار و ذي الإذعار و ذي يزن و غيرهم.
و كان مسلما موحدا و عادلا حسن السيرة و قويا ذا هيبة و شوكة سار في جيش كثيف نحو المغرب فاستولى على مصر و ما وراءها ثم لم يزل يسير على سواحل البحر
الأبيض حتى بلغ ساحل المحيط الغربي فوجد الشمس تغيب في عين حمئة أو حامية.
ثم رجع سائرا نحو المشرق و بنى في مسيره «إفريقية[57] و كان شديد الولع و ذا خبرة في البناء و العمارة، و لم يزل يسير حتى مر بشبه جزيرة و براري آسيا الوسطى و بلغ تركستان و حائط الصين و وجد هناك قوما لم يجعل الله لهم من دون الشمس سترا.
ثم مال إلى الجانب الشمالي حتى بلغ مدار السرطان، و لعله الذي شاع في الألسن أنه دخل الظلمات، فسأله أهل تلك البلاد أن يبني لهم سدا يصد عنهم يأجوج و مأجوج لما أن اليمنيين و ذو القرنين منهم كانوا معروفين بعمل السد و الخبرة فيه فبنى لهم السد.
فإن كان هذا السد هو الحائط الكبير الحائل بين الصين و منغوليا فقد كان ذلك ترميما منه لمواضع تهدمت من الحائط بمرور الأيام و إلا فأصل الحائط إنما بناه بعض ملوك الصين قبل ذلك، و إن كان سدا آخر غير الحائط فلا إشكال. و مما بناه ذو القرنين و اسمه الأصلي «شمر يرعش» في تلك النواحي مدينة سمرقند[58] على ما قيل.
و أيد ذلك بأن كون ذي القرنين ملكا عربيا صالحا يسأل عنه الأعراب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)، و يذكره القرآن الكريم للتذكر و الاعتبار أقرب للقبول من أن يذكر قصة بعض ملوك الروم أو العجم أو الصين، و هم من الأمم البعيدة التي لم يكن للأعراب هوى في أن يسمعوا أخبارهم أو يعتبروا بآثارهم، و لذا لم يتعرض القرآن لشيء من أخبارهم. انتهى ملخصا.
و الذي يبقى عليه أن كون حائط الصين هو سد ذي القرنين لا سبيل إليه فإن ذا القرنين قبل الإسكندر بعدة قرون على ما ذكره و قد بنى حائط الصين بعد الإسكندر بما يقرب من نصف قرن و أما غير الحائط الكبير ففي ناحية الشمال الغربي من الصين بعض أسداد أخر لكنها مبنية من الحجارة على ما يذكر لا أثر فيها من زبر الحديد و القطر.
و قال في تفسير الجواهر بعد ذكر مقدمة ملخصها أن المعروف من دول اليمن بمعونة من النقوش المكشوفة في خرائب اليمن ثلاث دول:.
دولة معين و عاصمتها قرناء و قد قدر العلماء أن آثار دولة معين تبتدئ من القرن الرابع عشر قبل الميلاد إلى القرن السابع أو الثامن قبله، و قد عثروا على بعض ملوك هذه الدولة و هم ستة و عشرون ملكا مثل «أب يدع» و «أب يدع ينيع» أي المنقد.
و دولة سبإ و هم من القحطانيين كانوا أولا أذواء فأقيالا، و الذي نبغ منهم «سبأ» صاحب قصر صرواح شرقي صنعاء فاستولى على الجميع، و يبتدئ ملكهم من ٨٥٠ ق م إلى ١١٥ ق م و المعروف من ملوكهم سبعة و عشرون ملكا خمسة عشر منهم يسمى مكربا كالمكرب «يثعمر» و المكرب «ذمر على»، و اثنا عشرة منهم يسمى ملكا فقط كالملك «ذرح» و الملك «يريم أيمن».
و دولة الحميريين و هم طبقتان الأولى ملوك سبإ و ريدان من سنة ١١٥ ق م إلى سنة ٢٧٥ ق م و هؤلاء ملوك فقط، و الطبقة الثانية ملوك سبإ و ريدان و حضرموت و غيرها، و هؤلاء أربعة عشر ملكا أكثرهم تبابعة أولهم «شمر يرعش» و ثانيهم «ذو القرنين» و ثالثهم «عمرو» زوج بلقيس[59] و ينتهي إلى ذي جدن و يبتدئ ملكهم من سنة ٢٧٥ م إلى سنة ٥٢٥.
ثم قال: فقد ظهرت صلة الاتصاف بلقب «ذي» بملوك اليمن و لا نجد في غيرهم كملوك الروم مثلا من يلقب بذي، فذو القرنين من ملوك اليمن، و قد تقدم من ملوكهم من يسمى بذي القرنين، و لكن هل هذا هو ذو القرنين المذكور في القرآن؟.
نحن نقول: كلا لأن هذا مذكور في ملوك قريبي العهد منا جدا، و لم ينقل ذلك عنهم اللهم إلا في روايات ذكرها القصاصون في التاريخ مثل أن «شمر يرعش» وصل إلى بلاد العراق و فارس و خراسان و الصغد، و بنى مدينة سمرقند و أصله شمركند، و أن
أسعد أبو كرب غزا أذربيجان، و بعث حسانا ابنه إلى الصغد، و ابنه يعفر إلى الروم، و ابن أخيه إلى الفرس، و أن من الحميريين من بقوا في الصين لهذا العهد بعد غزو ذلك الملك لها.
و كذب ابن خالدون و غيره هذه الأخبار، و وسموها بأنها مبالغ فيها، و نقضوها بأدلة جغرافية و أخرى تاريخية.
إذن يكون ذو القرنين من أمة العرب و لكنه في تاريخ قديم قبل التاريخ المعروف. انتهى ملخصا.
و و قيل: إن ذا القرنين هو كورش أحد ملوك الفرس الهخامنشيين (٥٣٩ - ٥٦٠ ق م) و هو الذي أسس الإمبراطورية الإيرانية، و جمع بين مملكتي الفارس و ماد، و سخر بابل و أذن في رجوع اليهود من بابل إلى أورشليم و ساعد في بناء الهيكل و سخر مصر ثم اجتاز إلى يونان فغلبهم و بلغ المغرب ثم سار إلى أقاصي المعمورة في المشرق.
ذكره بعض من قارب[60] عصرنا ثم بذل الجهد في إيضاحه و تقريبه بعض محققي[61]
الهند في هذه الأواخر بيان ذلك إجمالا أن الذي ذكره القرآن من وصف ذي القرنين منطبق على هذا الملك العظيم فقد كان مؤمنا بالله بدين التوحيد عادلا في رعيته سائرا بالرأفة و الرفق و الإحسان سائسا لأهل الظلم و العدوان، و قد آتاه الله من كل شيء سببا فجمع بين الدين و العقل و فضائل الأخلاق و العدة و القوة و الثروة و الشوكة و مطاوعة الأسباب.
و قد سار كما ذكره الله في كتابه مرة نحو المغرب حتى استولى على ليديا و حواليها ثم سار ثانيا نحو المشرق حتى بلغ مطلع الشمس و وجد عنده قوما بدويين همجيين يسكنون في البراري ثم بنى السد و هو على ما يدل عليه الشواهد السد المعمول في مضيق داريال بين جبال قفقاز بقرب «مدينة تفليس» هذا إجمال الكلام و دونك التفصيل.
إيمانه بالله و اليوم الآخر: يدل على ذلك ما في كتب العهد العتيق ككتاب عزرا،
(الإصحاح ١) و كتاب دانيال، (الإصحاح ٦) و كتاب أشعيا، (الإصحاح ٤٤ و ٤٥) من تجليله و تقديسه حتى سماه في كتاب الأشعياء «راعي الرب» و قال في الإصحاح الخامس و الأربعين: «هكذا يقول الرب لمسيحه لكورش الذي أمسكت بيمينه لأدوس أمامه أمما و أحقاء ملوك أحل لأفتح أمامه المصراعين و الأبواب لا تغلق. أنا أسير قدامك و الهضاب أمهد أكسر مصراعي النحاس و مغاليق الحديد أقصف. و أعطيك ذخائر الظلمة و كنوز المخابي. لكي تعرف أني أنا الرب الذي يدعوك باسمك. لقبتك و أنت لست تعرفني».
و لو قطع النظر عن كونه وحيا فاليهود على ما بهم من العصبية المذهبية لا يعدون رجلا مشركا مجوسيا أو وثنيا لو كان كورش كذلك مسيحا إلهيا مهديا مؤيدا و راعيا للرب.
على أن النقوش و الكتابات المخطوطة بالخط المسماري المأثور عن داريوش الكبير و بينهما من الفصل الزماني ثماني سنين ناطقة بكونه موحدا غير مشرك، و ليس من المعقول أن يتغير ما كان عليه كورش في هذا الزمن القصير.
و أما فضائله النفسانية فيكفي في ذلك الرجوع إلى المحفوظ من أخباره و سيرته و ما قابل به الطغاة و الجبابرة الذين خرجوا عليه أو حاربهم كملوك «ماد» و «ليديا» و «بابل» و «مصر» و طغاة البدو في أطراف «بكتريا» و هو البلخ و غيرهم، و كان كلما ظهر على قوم عفا عن مجرميهم، و أكرم كريمهم و رحم ضعيفهم و ساس مفسدهم و خائنهم.
و قد أثنى عليه كتب العهد القديم، و اليهود يحترمه أعظم الاحترام لما نجاهم من إسارة بابل و أرجعهم إلى بلادهم و بذل لهم الأموال لتجديد بناء الهيكل و رد إليهم نفائس الهيكل المنهوبة المخزونة في خزائن ملوك بابل، و هذا في نفسه مؤيد آخر لكون ذي القرنين هو كورش فإن السؤال عن ذي القرنين إنما كان بتلقين من اليهود على ما في الروايات.
و قد ذكره مؤرخو يونان القدماء كهرودت و غيره فلم يسعهم إلا أن يصفوه
بالمروة و الفتوة و السماحة و الكرم و الصفح و قلة الحرص و الرحمة و الرأفة و يثنوا عليه بأحسن الثناء.
و أما تسميته بذي القرنين:
فالتواريخ و إن كانت خالية عما يدل على شيء في ذلك لكن اكتشاف تمثاله الحجري أخيرا في مشهد مرغاب في جنوب إيران يزيل الريب في اتصافه بذي القرنين فإنه مثل فيه ذا قرنين نابتين من أم رأسه من منبت واحد أحد القرنين مائل إلى قدام و الآخر آخذ جهة الخلف. و هذا قريب من قول من قال من القدماء في وجه تسمية ذي القرنين أنه كان له تاج أو خوذة فيه قرنان.
و قد ورد في كتاب دانيال، ذكر رؤيا رأى كورش فيه في صورة كبش ذي قرنين قال فيه[62]:
«في السنة الثالثة من ملك «بيلشاصر» الملك ظهرت لي أنا دانيال رؤيا بعد التي ظهرت لي في الابتداء. فرأيت في الرؤيا و كأن في رؤياي و أنا في «شوشن» القصر الذي في ولاية عيلام. و رأيت في الرؤيا و أنا عند نهر «أولاي» فرفعت عيني و إذا بكبش واقف عند النهر و له قرنان و القرنان عاليان و الواحد أعلى من الآخر و الأعلى طالع أخيرا. رأيت الكبش ينطح غربا و شمالا و جنوبا فلم يقف حيوان قدامه و لا منفذ من يده و فعل كمرضاته و عظم.
و بينما كنت متأملا إذا بتيس من المعز جاء من المغرب على وجه كل الأرض و لم يمس الأرض و للتيس قرن معتبر بين عينيه. و جاء إلى الكبش صاحب القرنين الذي رأيته واقفا عند النهر و ركض إليه بشدة قوته و رأيته قد وصل جانب الكبش فاستشاط عليه و ضرب الكبش و كسر قرنيه فلم تكن للكبش قوة على الوقوف أمامه و طرحه على الأرض و داسه و لم يكن للكبش منفذ من يده. فتعظم تيس المعز جدا».
ثم ذكر بعد تمام الرؤيا أن جبرئيل تراءى له و عبر رؤياه بما ينطبق فيه الكبش ذو القرنين على كورش، و قرناه مملكتا الفارس و ماد، و التيس ذو القرن الواحد على
الإسكندر المقدوني.
و أما سيره نحو المغرب و المشرق فسيره نحو المغرب كان لدفع طاغية «ليديا» و قد سار بجيوشه نحو كورش ظلما و طغيانا من غير أي عذر يجوز له ذلك فسار إليه و حاربه و هزمه ثم عقبه حتى حاصره في عاصمة ملكه ثم فتحها و أسره ثم عفا عنه و عن سائر أعضاده و أكرمه و إياهم و أحسن إليهم و كان له أن يسوسهم و يبيدهم و انطباق القصة على قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ اَلشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ﴾ و لعلها الساحل الغربي من آسيا الصغرى ﴿وَ وَجَدَ عِنْدَهَا قَوْماً قُلْنَا يَا ذَا اَلْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَ إِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً﴾ و ذلك لاستحقاقهم العذاب بطغيانهم و ظلمهم و فسادهم.
ثم إنه سار نحو الصحراء الكبير بالمشرق حوالي بكتريا لإخماد غائلة قبائل بدوية همجية انتهضوا هناك للمهاجمة و الفساد و انطباق قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ اَلشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْراً﴾ عليه ظاهر.
و أما بناؤه السد:
فالسد الموجود في مضيق جبال قفقاز الممتدة من بحر الخزر إلى البحر الأسود، و يسمى المضيق «داريال»[63] و هو واقع بلدة «تفليس» و بين «ولادي كيوكز».
و هذا السد واقع في مضيق بين جبلين شاهقين يمتدان من جانبيه و هو وحدة الفتحة الرابطة بين جانبي الجبال الجنوبي و الشمالي و الجبال مع ما ينضم إليها من بحر الخزر و البحر الأسود حاجز طبيعي في طول ألوف من الكيلومترات يحجز جنوب آسيا من شمالها.
و كان يهجم في تلك الأعصار أقوام شريرة من قاطني الشمال الشرقي من آسيا من مضيق جبال قفقاز إلى ما يواليها من الجنوب فيغيرون على ما دونها من أرمينستان ثم إيران حتى الآشور و كلدة، و هجموا في حوالي المائة السابعة قبل الميلاد فعمموا البلاد قتلا و سبيا و نهبا حتى بلغوا نينوى عاصمة الآشور و كان ذلك في القرن السابق على عهد
كورش تقريبا.
و قد ذكر المؤرخون من القدماء كهرودوت اليوناني سير كورش إلى شمال إيران لإخماد نوائر فتن اشتعلت هناك، و الظاهر أنه بنى السد في مضيق داريال في مسيره هذا لاستدعاء من أهل الشمال و تظلم منهم، و قد بناه بالحجارة و الحديد و هو الردم الوحيد الذي استعمل فيه الحديد، و هو بين سدين جبلين، و انطباق قوله تعالى:
﴿فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ رَدْماً آتُونِي زُبَرَ اَلْحَدِيدِ﴾ الآيات عليه ظاهر.
و مما أيد به هذا المدعى وجود نهر بالقرب منه يسمى «سايروس» و هو اسم كورش عند الغربيين، و نهر آخر يمر بتفليس يسمى «كر» و قد ذكر هذا السد «يوسف» اليهودي المؤرخ عند ذكر رحلته إلى شمال قفقاز و ليس هو الحائط الموجود في باب الأبواب على ساحل بحر الخزر فإن التاريخ ينسب بناءه إلى كسرى أنوشيروان و كان يوسف قبله[64].
على أن سد باب الأبواب غير سد ذي القرنين المذكور في القرآن قطعا إذ لم يستعمل فيه حديد قط.
و أما يأجوج و مأجوج
فالبحث عن التطورات الحاكمة على اللغات يهدينا إلى أنهم المغول فإن الكلمة بالتكلم الصيني «منكوك» أو «منجوك» و لفظتا يأجوج و مأجوج كأنهما نقل عبراني و هما في التراجم اليونانية و غيرها للعهد العتيق «كوك» و «مأكوك» و الشبه الكامل بين «مأكوك» و «منكوك» يقضي بأن الكلمة متطورة من التلفظ الصيني «منكوك» كما اشتق منه «منغول» و «مغول» و لذلك في باب تطورات الألفاظ نظائر لا تحصى.
فيأجوج و مأجوج هما المغول و كانت هذه الأمة القاطنة بالشمال الشرقي من آسيا من أقدم الأعصار أمة كبيرة مهاجمة تهجم برهة إلى الصين و برهة من طريق داريال قفقاز إلى أرمينستان و شمال إيران و غيرها و برهة و هي بعد بناء السد إلى شمال أوربة و تسمى
عندهم بسيت و منهم الأمة الهاجمة على الروم و قد سقطت في هذه الكرة دولة رومان، و قد تقدم أيضا أن المستفاد من كتب العهد العتيق أن هذه الأمة المفسدة من سكنة أقاصي الشمال.
هذه جملة ما لخصناه من كلامه، و هو و إن لم يخل عن اعتراض ما في بعض أطرافه لكنه أوضح انطباقا على الآيات و أقرب إلى القبول من غيره.
ز و مما قيل في ذي القرنين ما سمعته عن بعض مشايخي أنه من أهل بعض الأدوار السابقة على هذه الدورة الإنسانية و هو غريب و لعله لتصحيح ما ورد في الأخبار من عجائب حالات ذي القرنين و غرائب ما وقع منه من الوقائع كموته و حياته مرة بعد مرة و رفعه إلى السماء و نزوله إلى الأرض و قد سخر له السحاب يسير به إلى المغرب و المشرق، و تسخير النور و الظلمة و الرعد و البرق له، و من المعلوم أن تاريخ هذه الدورة لا يحفظ شيئا من ذلك فلا بد أن يكون ذلك في بعض الأدوار السابقة هذا، و قد بالغ في حسن الظن بتلك الأخبار.
٤ - معنى صيرورة السد دكاء كما أخبر به القرآن
٤ - أمعن أهل التفسير و المؤرخون في البحث حول القصة، و أشبعوا الكلام في أطرافها، و أكثرهم على أن يأجوج و مأجوج أمة كبيرة في شمال آسيا، و قد طبق جمع منهم ما أخبر به القرآن من خروجهم في آخر الزمان و إفسادهم في الأرض على هجوم التتر في النصف الأول من القرن السابع الهجري على غربي آسيا، و إفراطهم في إهلاك الحرث و النسل بهدم البلاد و إبادة النفوس و نهب الأموال و فجائع لم يسبقهم إليها سابق.
و قد أخضعوا أولا الصين ثم زحفوا إلى تركستان و إيران و العراق و الشام و قفقاز إلى آسيا الصغرى، و أفنوا كل ما قاومهم من المدن و البلاد و الحصون كسمرقند و بخارا و خوارزم و مرو و نيسابور و الري و غيرها؛ فكانت المدينة من المدن تصبح و فيها مات الألوف من النفوس، و تمسي و لم يبق من عامة أهلها نافخ نار، و لا من هامة أبنيتها حجر على حجر.
ثم رجعوا إلى بلادهم ثم عادوا و حملوا على الروس و دمروا أهل بولونيا و بلاد المجر
و حملوا على الروم و ألجئوهم على الجزية كل ذلك في فجائع يطول شرحها.
لكنهم أهملوا البحث عن أمر السد من جهة خروجهم منه و حل مشكلته فإن قوله تعالى: ﴿فَمَا اِسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَ مَا اِسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَ كَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا وَ تَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ﴾ الآيات ظاهره على ما فسروه أن هذه الأمة المفسدة محبوسون فيما وراءه لا مخرج لهم إلى سائر الأرض ما دام معمورا قائما على ساقه حتى إذا جاء وعد الله سبحانه جعله دكاء مثلما أو منهدما فخرجوا منه إلى الناس و ساروا بالفساد و الشر.
فكان عليهم على هذا أن يقرروا للسد وصفه هذا فإن كانت هذه الأمة المذكورة هي التتر و قد ساروا من شمال الصين إلى إيران و العراق و الشام و قفقاز إلى آسيا الصغرى فأين كان هذا السد الموصوف في القرآن الذي وطئوه ثم طلعوا منه إلى هذه البلاد و جعلوا عاليها سافلها؟.
و إن لم تكن هي التتر أو غيرها من الأمم المهاجمة في طول التاريخ فأين هذا السد المشيد بالحديد و من صفته أنه يحبس أمة كبيرة منذ ألوف من السنين من أن تهجم على سائر أقطار الأرض و لا مخرج لهم إلى سائر الدنيا دون السد المضروب دونهم و قد ارتبطت اليوم بقاع الأرض بعضها ببعض بالخطوط البرية و البحرية و الهوائية و ليس يحجز حاجز طبيعي كجبل أو بحر أو صناعي كسد أو سور أو خندق أمة من أمة فأي معنى لانصداد قوم عن الدنيا بسد بين جبلين بأي وصف وصف و على أي نحو فرض؟.
و الذي أرى في دفع هذا الإشكال و الله أعلم أن قوله: ﴿دَكَّاءَ﴾ من الدك بمعنى الذلة، قال في لسان العرب: و جبل دك: ذليل. انتهى. و المراد بجعل السد دكاء جعله ذليلا لا يعبأ بأمره و لا ينتفع به من جهة اتساع طرق الارتباط و تنوع وسائل الحركة و الانتقال برا و بحرا و جوا.
فحقيقة هذا الوعد هو الوعد برقي المجتمع البشري في مدنيته، و اقتراب شتى أممه إلى حيث لا يسده سد و لا يحوطه حائط عن الانتقال من أي صقع من أصقاع الأرض إلى غيره و لا يمنعه من الهجوم و الزحف إلى أي قوم شاءوا.
و يؤيد هذا المعنى سياق قوله تعالى في موضع آخر يذكر فيه هجوم يأجوج و مأجوج
﴿حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَ مَأْجُوجُ وَ هُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ﴾ حيث عبر بفتح يأجوج و مأجوج و لم يذكر السد.
و للدك معنى آخر و هو الدفن بالتراب ففي الصحاح:، دككت الركي و هو البئر دفنته بالتراب انتهى، و معنى آخر و هو صيرورة الجبل رابية من طين، قال في الصحاح، و تدكدكت الجبال أي صارت روابي من طين واحدتها دكاء انتهى. فمن الممكن أن يحتمل أن السد من جملة أبنية العهود القديمة التي ذهبت مدفونة تحت التراب عن رياح عاصفة أو غريقة بانتقال البحار أو اتساع بعضها على ما تثبتها الأبحاث الجيولوجية، و بذلك يندفع الإشكال لكن الوجه السابق أوجه و الله أعلم.
[سورة الكهف (١٨): الآیات ١٠٣ الی ١٠٨ ]
﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً ١٠٣ اَلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ١٠٤ أُولَئِكَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَ لِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ وَزْناً ١٠٥ ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَ اِتَّخَذُوا آيَاتِي وَ رُسُلِي هُزُواً ١٠٦ إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ اَلْفِرْدَوْسِ نُزُلاً ١٠٧ خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً ١٠٨﴾
بيان
الآيات الست في منزلة الاستنتاج مما تقدم من آيات السورة الشارحة لافتنان المشركين بزينة الحياة الدنيا و اطمئنانهم بأولياء من دون الله و ابتلائهم بما ابتلوا به من غشاوة الأبصار و وقر الأذان و ما يتعقب ذلك من سوء العاقبة، و تمهيد لما سيأتي من قوله
في آخر السورة: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾ الآية.
قوله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً﴾ ظاهر السياق أن الخطاب للمشركين و هو مسوق سوق الكناية و هم المعنيون بالتوصيف و سيقترب من التصريح في قوله: ﴿أُولَئِكَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَ لِقَائِهِ﴾ فالمنكرون للنبوة و المعاد هم المشركون.
قيل: و لم يقل: بالأخسرين عملا، مع أن الأصل في التمييز أن يأتي مفردا و المصدر شامل للقليل و الكثير للإيذان بتنوع أعمالهم و قصد شمول الخسران لجميعها.
قوله تعالى: ﴿اَلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً﴾ إنباء بالأخسرين أعمالا و هم الذين عرض في الآية السابقة على المشركين أن ينبئهم بهم و يعرفهم إياهم فعرفهم بأنهم الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا، و ضلال السعي خسران ثم عقبه بقوله: ﴿وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً﴾ و بذلك تم كونهم أخسرين.
بيان ذلك: أن الخسران و الخسار في المكاسب و المساعي المأخوذة لغاية الاسترباح إنما يتحقق إذا لم يصب الكسب و السعي غرضه و انتهى إلى نقص في رأس المال أو ضيعة السعي و هو المعبر عنه في الآية بضلال السعي كأنه ضل الطريق فانتهى به السير إلى خلاف غرضه. و الإنسان ربما يخسر في كسبه و سعيه لعدم تدرب في العمل أو جهل بالطريق أو لعوامل أخر اتفاقية و هي خسران يرجى زواله فإن من المرجو أن يتنبه به صاحبه ثم يستأنف العمل فيتدارك ما ضاع منه و يقضي ما فات، و ربما يخسر و هو يذعن بأنه يربح، و يتضرر و هو يعتقد أن ينتفع لا يرى غير ذلك و هو أشد الخسران لا رجاء لزواله.
ثم الإنسان في حياته الدنيا لا شأن له إلا السعي لسعادته و لا هم له فيما وراء ذلك فإن ركب طريق الحق و أصاب الغرض و هو حق السعادة فهو، و إن أخطأ الطريق و هو لا يعلم بخطإه فهو خاسر سعيا لكنه مرجو النجاة، و إن أخطأ الطريق و أصاب غير الحق و سكن إليه فصار كلما لاح له لائح من الحق ضربت عليه نفسه بحجاب الإعراض و زينت له ما هو فيه من الاستكبار و عصبية الجاهلية فهو أخسر عملا و أخيب سعيا لأنه خسران لا يرجى زواله و لا مطمع في أن يتبدل يوما سعادة، و هو قوله تعالى في تفسير الأخسرين أعمالا: ﴿اَلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً﴾.
و حسبانهم عملهم حسنا مع ظهور الحق و تبين بطلان أعمالهم لهم إنما هو من جهة انجذاب نفوسهم إلى زينات الدنيا و زخارفها و انغمارهم في الشهوات فيحبسهم ذلك عن الميل إلى اتباع الحق و الإصغاء إلى داعي الحق و منادي الفطرة قال تعالى: ﴿وَ جَحَدُوا بِهَا وَ اِسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ﴾: النمل: ١٤ و قال: ﴿وَ إِذَا قِيلَ لَهُ اِتَّقِ اَللَّهَ أَخَذَتْهُ اَلْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ﴾: البقرة: ٢٠٦ فاتباعهم هوى أنفسهم و مضيهم على ما هم عليه من الإعراض عن الحق عنادا و استكبارا و الانغمار في شهوات النفس ليس إلا رضى منهم بما هم عليه و استحسانا منهم لصنعهم.
قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَ لِقَائِهِ﴾ تعريف ثان و تفسير بعد تفسير للأخسرين أعمالا، و المراد بالآيات - على ما يقتضيه إطلاق الكلمة آياته تعالى في الآفاق و الأنفس و ما يأتي به الأنبياء و الرسل من المعجزات لتأييد رسالتهم فالكفر بالآيات كفر بالنبوة، على أن النبي نفسه من الآيات، و المراد بلقاء الله الرجوع إليه و هو المعاد.
فآل تعريف الأخسرين أعمالا إلى أنهم المنكرون للنبوة و المعاد و هذا من خواص الوثنيين.
قوله تعالى: ﴿فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ وَزْناً﴾ وجه حبط أعمالهم أنهم لا يعملون عملا لوجه الله و لا يريدون ثواب الدار الآخرة و سعادة حياتها و لا أن الباعث لهم على العمل ذكر يوم الحساب و قد مر كلام في الحبط في مباحث الأعمال في الجزء الثاني من هذا الكتاب.
و قوله: ﴿فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ وَزْناً﴾ تفريع على حبط أعمالهم و الوزن يوم القيامة بثقل الحسنات على ما يدل عليه قوله تعالى: ﴿وَ اَلْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ اَلْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ وَ مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ اَلَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ﴾: الأعراف:
٩، و إذ لا حسنة للحبط فلا ثقل فلا وزن.
قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَ اِتَّخَذُوا آيَاتِي وَ رُسُلِي هُزُواً﴾ الإشارة إلى ما أورده من وصفهم و اسم الإشارة خبر لمبتدإ محذوف و التقدير: الأمر ذلك أي حالهم ما وصفناه و هو تأكيد و قوله: ﴿جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ﴾ كلام مستأنف ينبئ عن
عاقبة أمرهم. و قوله: ﴿بِمَا كَفَرُوا وَ اِتَّخَذُوا آيَاتِي وَ رُسُلِي هُزُواً﴾ في معنى بما كفروا و ازدادوا كفرا باستهزاء آياتي و رسلي.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ اَلْفِرْدَوْسِ نُزُلاً﴾ الفردوس يذكر و يؤنث قيل: هي البستان بالرومية، و قيل: الكرم بالنبطية و أصله فرداسا، و قيل: جنة الأعناب بالسريانية، و قيل الجنة بالحبشية، و قيل: عربية و هي الجنة الملتفة بالأشجار و الغالب عليه الكرم.
و قد استفاد بعضهم من عده جنات الفردوس نزلا و قد عد سابقا جهنم للكافرين نزلا أن وراء الجنة و النار من الثواب و العقاب ما لم يوصف بوصف و ربما أيده أمثال قوله تعالى: ﴿لَهُمْ مَا يَشَاؤُنَ فِيهَا وَ لَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾: ق: ٣٥ و قوله: ﴿فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾: الم السجدة: ١٧، و قوله: ﴿وَ بَدَا لَهُمْ مِنَ اَللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ﴾.
قوله تعالى: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً﴾ البغي الطلب، و الحول التحول، و الباقي ظاهر.
(بحث روائي)
في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن أبي الطفيل قال: سمعت علي بن أبي طالب و سأله ابن الكوا فقال: من ﴿هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً﴾ قال: فجرة قريش. و في تفسير العياشي، عن إمام بن ربعي قال: قال ابن الكوا إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: أخبرني عن قول الله: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ ﴾ إلى قوله ﴿صُنْعاً﴾ قال:
أولئك أهل الكتاب كفروا بربهم، و ابتدعوا في دينهم فحبطت أعمالهم و ما أهل النهر منهم ببعيد.
أقول: و روي أنهم النصارى، القمي عن أبي جعفر (عليه السلام) و الطبرسي في الاحتجاج، عن علي (عليه السلام): أنهم أهل الكتاب و في الدر المنثور، عن ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن
أبي خميصة عبد الله بن قيس عن علي (عليه السلام): أنهم الرهبان الذين حبسوا أنفسهم في السواري. و الروايات جميعا من قبيل الجري، و الآيتان واقعتان في سياق متصل وجه الكلام فيه مع المشركين، و الآية الثالثة ﴿أُولَئِكَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَ لِقَائِهِ﴾ الآية و هي تفسير الثانية أوضح انطباقا على الوثنيين منها على غيرهم كما مر فما عن القمي في تفسيره في ذيل الآية أنها نزلت في اليهود و جرت في الخوارج ليس بصواب.
في تفسير البرهان، عن محمد بن العباس بإسناده عن الحارث عن علي (عليه السلام) قال:
لكل شيء ذروة و ذروة الجنة الفردوس، و هي لمحمد و آل محمد (صلى الله عليه وآله و سلم).
و في الدر المنثور، أخرج البخاري و مسلم و ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه وسط الجنة و أعلى الجنة، و فوقه عرش الرحمن، و منه تفجر أنهار الجنة.
و في المجمع، روى عبادة بن الصامت عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء و الأرض، الفردوس أعلاها درجة، منها تفجر أنهار الجنة الأربعة فإذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس.
أقول: و في هذا المعنى روايات أخر.
في تفسير القمي، عن جعفر بن أحمد عن عبيد الله بن موسى عن الحسن بن علي بن أبي حمزة عن أبيه عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث قال: قلت قوله:
﴿إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ اَلْفِرْدَوْسِ نُزُلاً﴾ قال: نزلت في أبي ذر و سلمان و المقداد و عمار بن ياسر جعل الله لهم جنات الفردوس نزلا أي مأوى و منزلا.
أقول: و ينبغي أن يحمل على الجري أو المراد نزولها في المؤمنين حقا و إنما ذكر الأربعة لكونهم من أوضح المصاديق و إلا فالسورة مكية و سلمان رضي الله عنه ممن آمن بالمدينة. على أن سند الحديث لا يخلو عن وهن
[سورة الكهف (١٨): آیة ١٠٩]
﴿قُلْ لَوْ كَانَ اَلْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ اَلْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَ لَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً ١٠٩﴾
بيان
الآية بيان مستقل لسعة كلمات الله تعالى و عدم قبولها النفاد، و ليس من البعيد أن تكون نازلة وحدها لا في ضمن آيات السورة لكنها لو كانت نازلة في ضمن آياتها كانت مرتبطة بجميع ما بحثت عنه السورة.
و ذلك أن السورة أشارت في أولها إلى أن هناك حقائق إلهية و ذكرت أولا في تسلية النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عن حزنه من إعراضهم عن الذكر أن عامتهم في رقدة عن التنبه لها و سيستيقظون عن نومتهم، و أورد في ذلك قصة أصحاب الكهف ثم ذكر بأمور أورد في ذيلها قصة موسى و الخضر حيث شاهد موسى عنه أعمالا ذات تأويل لم يتنبه لتأويلها و أغفله ظاهرها عن باطنها حتى بينها له الخضر فسكن عند ذلك قلقه ثم أورد قصة ذي القرنين و السد الذي ضربه بأمر من الله في وجه المفسدين من يأجوج و مأجوج فحجزهم عن ورود ما وراءه و الإفساد فيه.
فهذه كما ترى أمور تحتها حقائق و أسرار و بالحقيقة كلمات تكشف عن مقاصد إلهية و بيانات تنبئ عن خبايا يدعو الذكر الحكيم الناس إليها، و الآية و الله أعلم تنبئ أن هذه الأمور و هي كلماته تعالى المنبئة عن مقاصده لا تنفد و الآية في وقوعها بعد استيفاء السورة ما استوفتها من البيان بوجه مثل قول القائل و قد طال حديثه:
ليس لهذا الحديث منتهى فلنكتف بما أوردناه.
قوله تعالى: ﴿قُلْ لَوْ كَانَ اَلْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي﴾ إلى آخر الآية، الكلمة تطلق على الجملة كما تطلق على المفرد و منه قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ اَلْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَ بَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اَللَّهَ﴾ الآيةآل عمران: ٦٤ و قد استعملت كثيرا في القرآن الكريم فيما قاله الله و حكم به كقوله: ﴿وَ تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ اَلْحُسْنى عَلى
بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا﴾: الأعراف: ١٣٧، و قوله: ﴿كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى اَلَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾: يونس: ٣٣، و قوله: ﴿وَ لَوْ لاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ﴾: يونس: ١٩ إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة جدا.
و من المعلوم أنه تعالى لا يتكلم بشق الفم و إنما قوله فعله و ما يفيضه من وجود كما قال: ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾: النحل: ٤٠ و إنما تسمى كلمة لكونها آية دالة عليه تعالى و من هنا سمي المسيح كلمة في قوله: ﴿إِنَّمَا اَلْمَسِيحُ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اَللَّهِ وَ كَلِمَتُهُ﴾: النساء: ١٧١.
و من هنا يظهر أنه ما من عين يوجد أو واقعة تقع إلا و هي من حيث كونها آية دالة عليه كلمة منه إلا أنها خصت في عرف القرآن بما دلالته ظاهرة لا خفاء فيها و لا بطلان و لا تغير كما قال: ﴿وَ اَلْحَقَّ أَقُولُ﴾: ص: ٨٤ و قال: ﴿مَا يُبَدَّلُ اَلْقَوْلُ لَدَيَّ﴾: ق: ٢٩ و ذلك كالمسيح (عليه السلام) و موارد القضاء المحتوم.
و من هنا يظهر أن حمل الكلمات في الآية على معلوماته أو مقدوراته تعالى أو مواعده لأهل الثواب و العقاب إلى غير ذلك مما ذكره المفسرون غير سديد.
فقوله: ﴿قُلْ لَوْ كَانَ اَلْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي﴾ أي فرقمت الكلمات و أثبتت من حيث دلالتها بذاك البحر المأخوذ مدادا لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي.
و قوله: ﴿وَ لَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً﴾ أي و لو أمددناه ببحر آخر لنفد أيضا قبل أن تنفد كلمات ربي.
و ذكر بعضهم: أن المراد بمثله جنس المثل لا مثل واحد، و ذلك لأن المثل كلما أضيف إلى الأصل لم يخرج عن التناهي، و كلماته يعني معلوماته غير متناهية و المتناهي لا يضبط غير المتناهي انتهى ملخصا.
و ما ذكره حق لكن لا لحديث التناهي و اللاتناهي و إن كانت الكلمات غير متناهية بل لأن الحقائق المدلول عليها و الكلمات من حيث دلالتها غالبة على المقادير كيف؟ و كل ذرة من ذرأت البحر و إن فرض ما فرض لا تفي بثبت دلالة نفسها في مدى وجودها على ما تدل عليه من جماله و جلاله تعالى فكيف إذا أضيف إليها غيرها؟.
و في تكرار ﴿اَلْبَحْرُ﴾ في الآية بلفظه و كذا ﴿رَبِّي﴾ وضع الظاهر موضع المضمر و النكتة فيه التثبيت و التأكيد و كذا في تخصيص الرب بالذكر و إضافته إلى ضمير المتكلم مع ما فيه من تشريف المضاف إليه.
(بحث روائي)
في تفسير القمي، بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): في الآية قال:
أخبرك أن كلام الله ليس له آخر و لا غاية و لا ينقطع أبدا. أقول: في تفسيره الكلمات بالكلام تأييد لما قدمناه.
[سورة الكهف (١٨): آیة ١١٠]
﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَ لاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ١١٠﴾
(بيان)
الآية خاتمة السورة و تلخص غرض البيان فيها و قد جمعت أصول الدين الثلاثة و هي التوحيد و النبوة و المعاد فالتوحيد ما في قوله: ﴿أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ و النبوة ما في قوله ﴿إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ﴾ و قوله: ﴿فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً﴾ إلخ و المعاد ما في قوله ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ﴾.
قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ القصر الأول قصره (ص) في البشرية المماثلة لبشرية الناس لا يزيد عليهم بشيء و لا يدعيه لنفسه قبال ما كانوا يزعمون أنه إذا ادعى النبوة فقد ادعى كينونة إلهية و قدرة غيبية و لذا كانوا يقترحون عليه بما لا يعلمه إلا الله و لا يقدر عليه إلا الله لكنه (ص) نفى ذلك كله بأمر الله عن نفسه و لم يثبت لنفسه إلا أنه يوحى إليه.
و القصر الثاني قصر الإله الذي هو إلههم في إله واحد و هو التوحيد الناطق بأن إله الكل إله واحد.
و قوله: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ﴾ إلخ مشتمل على إجمال الدعوة الدينية
و هو العمل الصالح لوجه الله وحده لا شريك له و قد فرعه على رجاء لقاء الرب تعالى و هو الرجوع إليه إذ لو لا الحساب و الجزاء لم يكن للأخذ بالدين و التلبس بالاعتقاد و العمل موجب يدعو إليه كما قال تعالى: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ اَلْحِسَابِ﴾: ص: ٢٦.
و قد رتب على الاعتقاد بالمعاد العمل الصالح و عدم الإشراك بعبادة الرب لأن الاعتقاد بالوحدانية مع الإشراك في العمل متناقضان لا يجتمعان فالإله تعالى لو كان واحدا فهو واحد في جميع صفاته و منها المعبودية لا شريك له فيها.
و قد رتب الأخذ بالدين على رجاء المعاد دون القطع به لأن احتماله كاف في وجوب التحذر منه لوجوب دفع الضرر المحتمل، و ربما قيل: إن المراد باللقاء لقاء الكرامة و هو مرجو لا مقطوع به.
و قد فرع رجاء لقاء الله على قوله: ﴿أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ لأن رجوع العباد إلى الله سبحانه من تمام معنى الألوهية فله تعالى كل كمال مطلوب و كل وصف جميل و منها فعل الحق و الحكم بالعدل و هما يقتضيان رجوع عباده إليه و القضاء بينهم قال تعالى: ﴿وَ مَا خَلَقْنَا اَلسَّمَاءَ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ اَلنَّارِ أَمْ نَجْعَلُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي اَلْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ اَلْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ﴾: ص: ٢٨.
(بحث روائي)
في الدر المنثور، أخرج ابن مندة و أبو نعيم في الصحابة، و ابن عساكر من طريق السدي الصغير عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال ":كان جندب بن زهير إذا صلى أو صام أو تصدق فذكر بخير ارتاح له فزاد في ذلك لمقالة الناس فلامه الله فنزل في ذلك ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَ لاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً﴾. أقول: و ورد نحو منه في عدة روايات أخر من غير ذكر الاسم و ينبغي أن يحمل على انطباق الآية على المورد فمن المستبعد أن ينزل خاتمة سورة من السور لسبب خاص بنفسها.
و فيه، عن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في الآية قال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): إن ربكم يقول: أنا
خير شريك فمن أشرك معي في عمله أحدا من خلقي تركت العمل كله له، و لم أقبل إلا ما كان لي خالصا ثم قرأ النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَ لاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً﴾.
و في تفسير العياشي، عن علي بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال الله تبارك و تعالى: أنا خير شريك من أشرك بي في عمله لم أقبله إلا ما كان لي خالصا.
قال العياشي: و في رواية أخرى عنه (عليه السلام) قال: إن الله يقول: أنا خير شريك من عمل لي و لغيري فهو لمن عمل له دوني.
و في الدر المنثور، أخرج أحمد و ابن أبي الدنيا و ابن مردويه و الحاكم و صححه و البيهقي عن شداد بن أوس قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يقول: من صلى يرائي فقد أشرك، و من صام يرائي فقد أشرك و من تصدق يرائي فقد أشرك ثم قرأ ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ﴾ الآية.
و في تفسير العياشي، عن زرارة و حمران عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) قالا: لو أن عبدا عمل عملا يطلب به رحمة الله و الدار الآخرة ثم أدخل فيه رضا أحد من الناس كان مشركا.
أقول: و الروايات في هذا الباب من طرق الشيعة و أهل السنة فوق حد الإحصاء و المراد بالشرك فيها الشرك الخفي غير المنافي لأصل الإيمان بل لكماله قال تعالى: ﴿وَ مَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَ هُمْ مُشْرِكُونَ﴾: يوسف: ١٠٦ فالآية تشمله بباطنها لا بتنزيلها.
و في الدر المنثور، أخرج الطبراني و ابن مردويه عن أبي حكيم قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): لو لم ينزل على أمتي إلا خاتمة سورة الكهف لكفتهم. أقول: تقدم وجهه في البيان السابق.
تم و الحمد لله.
فهرس بعض المواضيع المبحوث عنها في هذا الجزء
[1] - فمجمع البحرين على هذا ما بينهما سمي مجمعا بنوع من التوسع.
[2] قرئ، بالتشديد من «اتخذ» و بالتخفيف من «تخذ»
[3] - الآتية في البحث الروائي الآتي.
[4] الدر المنثور عن الدار قطني و ابن عساكر عن ابن عباس.
[5] الدر المنثور عن ابن عساكر عن ابن إسحاق.
[6] الدر المنثور عن ابن شاهين عنه.
[8] الدر المنثور عن أبي الشيخ في العظمة و أبي نعيم في الحلية عنه.
[9] رواه في الدر المنثور عن الأحوص بن حكيم عن أبيه عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و عن الشيرازي عن جبير بن نفير عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و عن عدة عن خالد بن معدان عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و عن عدة عن عمر بن الخطاب.
[10] رواه في الدر المنثور عن ابن أبي حاتم و أبي الشيخ عن الباقر ع و في البرهان عن جبرئيل بن أحمد عن الأصبغ بن نباتة عن علي ع و في نور الثقلين عن أصول الكافي عن الحارث ابن المغيرة عن أبي جعفر ع.
[11] رواه العياشي عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر ع و رواه في الدر المنثور عن أبي الشيخ عن أبي الورقاء عن علي ع و في هذا المعنى روايات أخرى.
[12] كما في تفسير العياشي عن الأصبغ بن نباتة عن علي ع، و في البرهان عن الثمالي عن الباقر ع.
[13] كما يظهر من رواية قرب الإسناد للحميري عن الكاظم ع و رواية الدر المنثور عن عدة عن عقبة بن عامر عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)، و روايته أيضا عن عدة عن وهب.
[14] في الدر المنثور عن ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبي الشيخ من طريق ابن إسحاق عن بعض من أسلم من أهل الكتاب.
[16] البداية و النهاية عن ابن هشام في التيجان.
[17] في الخصال عن محمد بن خالد مرفوعا، و في البداية و النهاية عن زبير بن بكار عن ابن عباس.
[18] في البرهان عن الصدوق عن الأصبغ عن علي ع، و في تفسير القمي عن أبي بصير عن الصادق ع و في الخصال عن أبي بصير عن الصادق ع.
[19] في تفسير العياشي عن الأصبغ عن علي ع و في الدر المنثور عن ابن مردويه من طريق أبي الطفيل عن علي ع و رواه العياشي أيضا و روي أيضا في روايات أخر.
[20] تفسير العياشي عن الأصبغ عن علي ع و في الدر المنثور عن عدة عن وهب بن منبه ما في معناه.
[21] في الدر المنثور عن أبي الشيخ عن وهب بن منبه.
[22] في الدر المنثور عن عدة عن أبي العالية و ابن شهاب.
[23] في نور الثقلين عن الخرائج و الحرائج عن العسكري ع عن علي ع.
[24] في الدر المنثور عن الشيرازي عن قتادة.
[25] في الدر المنثور عن عدة عن وهب.
[27] نقله في روح المعاني،
[28] في عدة من روايات العامة و الخاصة الموردة في الدر المنثور و البرهان و نور الثقلين و البحار.
[29] في البرهان عن جميل عن الصادق ع و في الدر المنثور عن عبد بن حميد و غيره عن عكرمة.
[30] في تفسير القمي عن علي ع و في تفسير العياشي عن هشام عن بعض آل محمد ع و في الدر المنثور عن ابن أبي حاتم و غيره عن الباقر ع.
[31] الدر المنثور عن ابن إسحاق و غيره عن وهب.
[32] الدر المنثور عن ابن المنذر عن ابن عباس.
[33] الدر المنثور عن ابن إسحاق و غيره عن وهب.
[34] الدر المنثور عن ابن المنذر عن علي ع و عن ابن أبي حاتم عن قتادة. و في نور الثقلين عن علل الشرائع عن العسكري.
[35] نور الثقلين عن روضة الكافي عن ابن عباس.
[36] الطبري عن عبد الله بن عمير، و عن عبد الله بن سلام، و في الدر المنثور عن النسائي و ابن مردويه عن أوس عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و فيه عن ابن أبي حاتم عن السدي عن علي ع.
[37] في الدر المنثور عن عبد الرزاق و غيره عن عبد الله بن عمر.
[38] الدر المنثور عن ابن إسحاق و غيره عن وهب.
[39] في الدر المنثور عن ابن المنذر و أبي الشيخ عن حسان بن عطية. و عن ابن أبي حاتم و غيره عن حذيفة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و قد بلغ من مبالغة الروايات في عددهم أنه روى عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يأجوج و مأجوج يعدل ألف ضعف للمسلمين (البداية و النهاية عن الصحيحين عن أبي سعيد عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)) و هو ذا يقال: إن المسلمين خمس أهل الأرض و لازمه أن يكون يأجوج و مأجوج مائتا ضعف أهل الأرض.
[40] في الدر المنثور عن ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن كعب الأحبار.
[41] في الدر المنثور عن ابن المنذر و الحاكم و غيرهما عن ابن عباس.
[42] في الدر المنثور عن عدة عن عقبة بن عامر عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم).
[43] في تفسير العياشي عن الأصبغ عن علي ع.
[44] الدر المنثور عن ابن مردويه و غيره عن عبيد بن عمير، و في نور الثقلين عن أمالي الشيخ عن الباقر ع و في العرائس لابن إسحاق.
[45] الدر المنثور عن ابن أبي حاتم و ابن عساكر عن مجاهد.
[46] البرهان عن البرقي عن موسى بن جعفر ع.
[47] الدر المنثور عن ابن أبي حاتم عن وهب.
[48] كتب العهدين مطبوعة بيروت سنة ١٨٧٠ و منها نقل سائر ما نقل في هذه الفصول.
[49] و كان بين اليهود أيام إسارتهم بابل.
[50] و ذكر بعضهم أن يأجوج و مأجوج هم الأمم الذين كانوا يشغلون الجزء الشمالي من آسيا تمتد بلادهم من التبت و الصين إلى المحيط المنجمد الشمالي و تنتهي غربا بما يلي بلاد تركستان و نقل ذلك عن فاكهة الخلفاء و تهذيب الأخلاق لابن مسكويه و رسائل إخوان الصفا.
[51] منقول عن، كتاب «كيهان شناخت» للحسن بن قطان المروزي بن قطان المروزي الطبيب المنجم المتوفى سنة ٥٤٨ هـ و ذكر فيه أن اسمه «بلينس» و سماه أيضا إسكندر.
[52] كانت هذه الأقوام يسمون على ما ذكروا عند الغربيين «سيت» و لهم ذكر في بعض النقوش الباقية من زمن «داريوش» و يسمون عند اليونانيين «ميكاك».
[53] كانت مملكة اليمن ينقسم إلى أربعة و ثمانين مخلافا، و المخلاف بمنزلة القضاء و المديرية في العرف الحاضر، و كل مخلاف يشتمل على عدة قلاع يسمى كل قلعة قصرا أو محفدا يسكنه جماعة من الأمة يحكم فيهم كبير لهم، و كان صاحب القصر الذي يتولى أمره يسمى بذي كذي غمدان و ذي معين أي صاحب غمدان و صاحب معين و الجمع أذواء و ذوين، و الذي يتولى أمر المخلاف يسمى القيل و الجمع أقيال، و الذي يتولى أمر مجموع المخاليف يسمى الملك: و الملك الذي يضم حضرموت و الشحر إلى اليمين و يحكم في الثلاث يسمى تبع أما إذا ملك اليمن فقط فملك و ليس بتبع.
و قد عثر على أسماء خمس و خمسين من الأذواء لكن الملوك منهم ثمانية أذواء هم من ملوك حمير و هم من ملوك الدولة الأخيرة من الدول الحاكمة في اليمن قبل، و قد عد منهم أربعة عشر ملكا، و الذي يتحصل من تاريخ ملوك اليمن من طريق النقل و الرواية مبهم جدا لا اعتماد على تفاصيله.
[54] العرب العاربة هم العرب قبل إسماعيل و أما إسماعيل و بنوه فهم العرب المستعربة.
[55] و هذا لا يوافق ما قطع به التاريخ أنه ملك ٣٥٦-٣٢٤ ق م.
[56] و هو العلامة السيد هبة الدين الشهرستاني.
[57] بناها التبع أقريقس الملك و يقال إنه ذو القرنين، و قيل إنه أبو ذي القرنين أو أخوه و به سميت القارة إفريقيا.
[58] يقال إنه مر بناحية تركستان فخرب «سند» و بنى «سمرقند» فقيل «شمركند» أي شمر قلع و خرب سند فبقي شمر اسما له كند ثم عربت الكلمة فصارت سمرقند.
[59] بلقيس هذه غير ملكة سبإ التي يقال إن سليمان بن داود ع تزوج بها بعد ما أحضرها من سبإ و هو سابق على الميلاد بما يقرب من ألف سنة.
[61] الباحث المحقق مولانا أبو الكلام آزاد.
[62] كتاب دانيال الإصحاح الثامن ١-٩.
[63] و لعله محرف «داريول» بمعنى المضيق بالتركية، و يسمى السد باللغة المحلية «دمير قابو» و معناه باب الحديد.
[64] فهو على ما يقال كان يعيش في القرن الأول الميلادي.
|