00989338131045
 
 
 
 
 
 

 من ص 165 الى ص 246 

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الميزان في تفسير القرآن (الجزء الثالث عشر)   ||   تأليف : العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي (قده)

و قال مادحا لعبادتهم و تذللهم لربهم: ﴿وَ هُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ: الأنبياء - ٢٨ و قال: ﴿فَإِنِ اِسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَ اَلنَّهَارِ وَ هُمْ لاَ يَسْأَمُونَ: حم السجدة - ٣٨ و قال: ﴿وَ اُذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ إلى أن قال - ﴿وَ لاَ تَكُنْ مِنَ اَلْغَافِلِينَ إِنَّ اَلَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَ يُسَبِّحُونَهُ وَ لَهُ يَسْجُدُونَ: الأعراف: ٢٠٦ فأمر نبيه ص أن يذكره كذكرهم و يعبده كعبادتهم.

و حق الأمر أن كون العمل جائز الفعل و الترك و وقوف الإنسان في موقف استواء النسبة ليس في نفسه ملاك أفضلية طاعته بل بما يكشف ذلك عن صفاء طينته و حسن سريرته و الدليل على ذلك أن لا قيمة للطاعة مع العلم بخباثة نفس المطيع و قبح سريرته و إن بلغ في تصفية العمل و بذل المجهود فيه ما بلغ كطاعة المنافق و مريض القلب الحابط عمله عند الله الممحوة حسنته عن ديوان الأعمال فصفاء نفس المطيع و جمال ذاته و خلوصه في عبوديته الذي يكشف عنه انتزاعه من العصية إلى الطاعة و تحمله المشاق في ذلك هو الموجب لنفاسة عمله و فضل طاعته.

و على هذا فذوات الملائكة و لا قوام لها إلا الطهارة و الكرامة و لا يحكم في أعمالهم إلا ذل العبودية و خلوص النية أفضل من ذات الإنسان المتكدرة بالهوى المشوبة بالغضب و الشهوة و أعماله التي قلما تخلو عن خفايا الشرك و شامة النفس و دخل الطبع.

فالقوام الملكي أفضل من القوام الإنساني و الأعمال الملكية الخالصة لوجه الله أفضل من أعمال الإنسان و فيها لون قوامه و شوب من ذاته، و الكمال الذي يتوخاه الإنسان لذاته في طاعته و هو الثواب أوتيه الملك في أول وجوده كما تقدمت الإشارة إليه.

نعم لما كان الإنسان إنما ينال الكمال الذاتي تدريجا بما يحصل لذاته من الاستعداد سريعا أو بطيئا كان من المحتمل أن ينال عن استعداده مقاما من القرب و موطنا من الكمال فوق ما قد ناله الملك ببهاء ذاته في أول وجوده، و ظاهر كلامه تعالى يحقق هذا الاحتمال.

كيف و هو سبحانه يذكر في قصة جعل الإنسان خليفة في الأرض فضل الإنسان و احتماله لما لا يحتمله الملائكة من العلم بالأسماء كلها، و أنه مقام من الكمال لا يتداركه

 

 

 

 تسبيحهم بحمده و تقديسهم له، و يطهره مما سيظهر منه من الفساد في الأرض و سفك الدماء كما قال: ﴿وَ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي اَلْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَ تَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَ يَسْفِكُ اَلدِّمَاءَ وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ إلى آخر الآيات: البقرة: ٣٠ ٣٣ و قد فصلنا القول في ذلك في ذيل الآيات في الجزء الأول من الكتاب.

ثم ذكر سبحانه أمر الملائكة بالسجود لآدم ثم سجودهم له جميعا فقال: ﴿فَسَجَدَ اَلْمَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ: الحجر: ٣٠ و قد أوضحنا في تفسير الآيات في القصة في سورة الأعراف أن السجدة إنما كان خضوعا منهم لمقام الكمال الإنساني و لم يكن آدم (عليه السلام) إلا قبلة لهم ممثلا للإنسانية قبال الملائكة. فهذا ما يفيده ظاهر كلامه تعالى، و في الأخبار ما يؤيده، و للبحث جهة عقلية يرجع فيها إلى مظانه.

قوله تعالى: ﴿يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ اليوم يوم القيامة و الظرف متعلق بمقدر أي اذكر يوم كذا، و الإمام المقتدى و قد سمى الله سبحانه بهذا الاسم أفرادا من البشر يهدون الناس بأمر الله كما في قوله: ﴿قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً: البقرة: ١٢٤ و قوله: ﴿وَ جَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا: الأنبياء: ٧٣ و أفرادا آخرين يقتدى بهم في الضلال كما في قوله: ﴿فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ اَلْكُفْرِ: التوبة: ١٢ و سمى به أيضا التوراة كما في قوله: ﴿وَ مِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسى إِمَاماً وَ رَحْمَةً: هود: ١٧، و ربما استفيد منه أن الكتب السماوية المشتملة على الشريعة ككتاب نوح و إبراهيم و عيسى و محمد (عليه السلام) جميعا أئمة.

و سمى به أيضا اللوح المحفوظ كما هو ظاهر قوله تعالى: ﴿وَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ: يس: ١٢ و لما كان ظاهر الآية أن لكل طائفة من الناس إماما غير ما لغيرها فإنه المستفاد من إضافة الإمام إلى الضمير الراجع إلى كل أناس لم يصلح أن يكون المراد بالإمام في الآية اللوح لكونه واحدا لا اختصاص له بأناس دون أناس.

و أيضا ظاهر الآية أن هذه الدعوة تعم الناس جميعا من الأولين و الآخرين و قد

 

 

 

 تقدم في تفسير قوله تعالى: ﴿كَانَ اَلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اَللَّهُ اَلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ اَلْكِتَابَ: البقرة: ٢١٣ أن أول الكتب السماوية المشتملة على الشريعة هو كتاب نوح (عليه السلام) و لا كتاب قبله في هذا الشأن و بذلك يظهر عدم صلاحية كون الإمام في الآية مرادا به الكتاب و إلا خرج من قبل نوح من شمول الدعوة في الآية.

فالمتعين أن يكون المراد بإمام كل أناس من يأتمون به في سبيلي الحق و الباطل كما تقدم أن القرآن يسميهما إمامين أو إمام الحق خاصة و هو الذي يجتبيه الله سبحانه في كل زمان لهداية أهله بأمره نبيا كان كإبراهيم و محمد (عليه السلام) أو غير نبي، و قد تقدم تفصيل الكلام فيه في تفسير قوله: ﴿وَ إِذِ اِبْتَلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي اَلظَّالِمِينَ: البقرة: ١٢٤.

لكن المستفاد من مثل قوله في فرعون و هو من أئمة الضلال: ﴿يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ اَلنَّارَ: هود: ٩٨، و قوله: ﴿لِيَمِيزَ اَللَّهُ اَلْخَبِيثَ مِنَ اَلطَّيِّبِ وَ يَجْعَلَ اَلْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ: الأنفال: ٣٧ و غيرهما من الآيات و هي، كثيرة أن أهل الضلال لا يفارقون أولياءهم المتبوعين يوم القيامة، و لازم ذلك أن يصاحبوهم في الدعوة و الإحضار.

على أن قوله: ﴿بِإِمَامِهِمْ مطلق لم يقيد بالإمام الحق الذي جعله الله إماما هاديا بأمره، و قد سمى مقتدى الضلال إماما كما سمى مقتدى الهدى إماما و سياق ذيل الآية و الآية الثانية أيضا مشعر بأن الإمام المدعو به هو الذي اتخذه الناس إماما و اقتدوا به في الدنيا لا من اجتباه الله للإمامة و نصبه للهداية بأمره سواء اتبعه الناس أو رفضوه.

فالظاهر أن المراد بإمام كل أناس في الآية من ائتموا به سواء كان إمام حق أو إمام باطل، و ليس كما يظن أنهم ينادون بأسماء أئمتهم فيقال: يا أمة إبراهيم و يا أمة محمد و يا آل فرعون و يا آل فلان فإنه لا يلائمه ما في الآية من التفريع أعني قوله:

﴿فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ﴿وَ مَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمى إلخ إذ لا تفرع بين الدعوة بالإمام بهذا المعنى و بين إعطاء الكتاب باليمين أو العمى.

بل المراد بالدعوة على ما يعطيه سياق الذيل هو الإحضار فهم محضرون

 

 

 

 بإمامهم ثم يأخذ من اقتدى بإمام حق كتابه بيمينه و يظهر عمى من عمي عن معرفة الإمام الحق في الدنيا و اتباعه، هذا ما يعطيه التدبر في الآية.

و للمفسرين في تفسير الإمام في الآية مذاهب شتى مختلفة:

منها: أن المراد بالإمام الكتاب الذي يؤتم به كالتوراة و الإنجيل و القرآن فينادي يوم القيامة يا أهل التوراة و يا أهل الإنجيل و يا أهل القرآن، و قد تقدم بيانه و بيان ما يرد عليه.

و منها: أن المراد بالإمام النبي لمن كان على الحق و الشيطان و إمام الضلال لمبتغي الباطل فيقال: هاتوا متبعي إبراهيم هاتوا متبعي موسى هاتوا متبعي محمد فيقوم أهل الحق الذين اتبعوهم فيعطون كتب أعمالهم بأيمانهم ثم يقال: هاتوا متبعي الشيطان هاتوا متبعي رؤساء الضلال.

و فيه أنه مبني على أخذ الإمام في الآية بمعناه العرفي و هو من يؤتم به من العقلاء، و لا سبيل إليه مع وجود معنى خاص له في عرف القرآن و هو الذي يهدي بأمر الله و المؤتم به في الضلال.

و منها: أن المراد كتاب أعمالهم فيقال: يا أصحاب كتاب الخير و يا أصحاب كتاب الشر و وجه كونه إماما بأنهم متبعون لما يحكم به من جنة أو نار.

و فيه أنه لا معنى لتسمية كتاب الأعمال إماما و هو يتبع عمل الإنسان من خير أو شر فإن يسمى تابعا أولى به من أن يسمى متبوعا، و أما ما وجه به أخيرا ففيه أن المتبع من الحكم ما يقضي به الله سبحانه بعد نشر الصحف و السؤال و الوزن و الشهادة و أما الكتاب فإنما يشتمل على متون أعمال الخير و الشر من غير فصل القضاء.

و منه يظهر أن ليس المراد بالإمام اللوح المحفوظ و لا صحيفة عمل الأمة و هي التي يشير إليها قوله: ﴿كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتَابِهَا: الجاثية: ٢٨ لعدم ملائمته قوله ذيلا:

﴿فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ الظاهر في الفرد دون الجماعة.

و منها: أن المراد به الأمهات بجعل إمام جمعا لأم فيقال: يا ابن فلانة و لا يقال يا ابن فلان، و قد رووا فيه رواية.

 

 

 

و فيه أنه لا يلائم لفظ الآية فقد قيل: ﴿نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ و لم يقل ندعو الناس بإمامهم أو ندعو كل إنسان بأمه و لو كان كما قيل لتعين أحد التعبيرين الأخيرين و ما أشير إليه من الرواية على تقدير صحتها و قبولها رواية مستقلة غير واردة في تفسير الآية.

على أن جمع الأم بالإمام لغة نادرة لا يحمل على مثلها كلامه تعالى و قد عد في الكشاف هذا القول من بدع التفاسير.

و منها: أن المراد به المقتدى به و المتبع عاقلا كان أو غيره حقا كان أو باطلا كالنبي و الولي و الشيطان و رؤساء الضلال و الأديان الحقة و الباطلة و الكتب السماوية و كتب الضلال و السنن الحسنة و السيئة، و لعل دعوة كل أناس بإمامهم على هذا الوجه كناية عن ملازمة كل تابع يوم القيامة لمتبوعه، و الباء للمصاحبة.

و فيه ما أوردناه على القول بأن المراد به الأنبياء و رؤساء الضلال فالحمل على المعنى اللغوي إنما يحسن فيما لم يكن للقرآن فيه عرف، و قد عرفت أن الإمام في عرف القرآن هو الذي يهدي بأمر الله أو المقتدى في الضلال و من الممكن أن يكون الباء في ﴿بِإِمَامِهِمْ للآلة فافهم ذلك.

على أن هداية الكتاب و السنة و الدين و غير ذلك بالحقيقة ترجع إلى هداية الإمام و كذا النبي إنما يهدي بما أنه إمام يهدي بأمر الله، و أما من حيث إنبائه عن معارف الغيب أو تبليغه ما أرسل به فإنما هو نبي أو رسول و ليس بإمام، و كذا إضلال المذاهب الباطلة و كتب الضلال و السنن المبتدعة بالحقيقة إضلال مؤسسيها و المبتدعين بها.

بيان‏

قوله تعالى: ﴿فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتَابَهُمْ وَ لاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً الفتيل‏ هو المفتول الذي في شق النواة، و قيل‏: الفتيل‏ هو الذي في بطن النواة و النقير في ظهرها و القطمير شق النواة.

و تفريع التفصيل على دعوتهم بإمامهم دليل على أن ائتمامهم هو الموجب لانقسامهم إلى قسمين و تفرقهم فريقين: من أوتي كتابه بيمينه و من كان أعمى و أضل سبيلا فالإمام إمامان: إمام هدى و إمام ضلال، و هذا هو الذي قدمناه أن تفريع التفصيل يشهد بكون المراد بالإمام أعم من إمام الهدى.

 

 

 

 و يشهد به أيضا تبديل إيتاء الكتاب بالشمال أو من وراء الظهر كما وقع في غير هذا الموضع من قوله: ﴿وَ مَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي اَلْآخِرَةِ أَعْمى إلخ.

و المعنى بإعانة من السياق فيتفرقون حينئذ فريقين فالذين أعطوا صحيفة أعمالهم بأيمانهم فأولئك يقرءون كتابهم فرحين مستبشرين مسرورين بالسعادة و لا يظلمون مقدار فتيل بل يوفون أجورهم تامة كاملة.

قوله تعالى: ﴿وَ مَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي اَلْآخِرَةِ أَعْمى وَ أَضَلُّ سَبِيلاً المقابلة بين قوليه: ﴿فِي هَذِهِ و ﴿فِي اَلْآخِرَةِ دليل على أن الإشارة بهذه إلى الدنيا كما أن كون الآية مسوقة لبيان التطابق بين الحياة الدنيا و الآخرة دليل على أن المراد بعمى الآخرة عمى البصيرة كما أن المراد بعمى الدنيا ذلك قال تعالى: ﴿فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى اَلْأَبْصَارُ وَ لَكِنْ تَعْمَى اَلْقُلُوبُ اَلَّتِي فِي اَلصُّدُورِ و يؤيد ذلك أيضا تعقيب عمى الآخرة بقوله:

﴿وَ أَضَلُّ سَبِيلاً.

و المعنى: و من كان في هذه الحياة الدنيا لا يعرف الإمام الحق و لا يسلك سبيل الحق فهو في الحياة الآخرة لا يجد السعادة و الفلاح و لا يهتدي إلى المغفرة و الرحمة.

و بما تقدم يتبين ما في قول بعضهم: إن الإشارة بقوله: ﴿فِي هَذِهِ إلى النعم المذكورة و المعنى و من كان في هذه النعم التي رزقها أعمى لا يعرفها و لا يشكر الله على ما أنعمها فهو في الآخرة أعمى.

و كذا ما ذكره بعضهم أن المراد بعمى الدنيا عمى البصيرة و بعمى الآخرة عمى البصر، و قد تقدم وجه الفساد على أن عمى البصر في الآخرة ربما رجع إلى عمى البصيرة لقوله تعالى: ﴿يَوْمَ تُبْلَى اَلسَّرَائِرُ.

و ظاهر بعض المفسرين أن الأعمى الثاني في الآية تفيد معنى التفضيل حيث فسره أنه في الآخرة أشد عمى و أضل سبيلا و السياق يساعده على ذلك.

(بحث روائي‏)

في أمالي الشيخ، بإسناده عن زيد بن علي عن أبيه (عليه السلام): في قوله: ﴿وَ لَقَدْ كَرَّمْنَا

 

 

 

 بَنِي آدَمَ يقول: فضلنا بني آدم على سائر الخلق ﴿وَ حَمَلْنَاهُمْ فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ يقول:

على الرطب و اليابس ﴿وَ رَزَقْنَاهُمْ مِنَ اَلطَّيِّبَاتِ يقول: من طيبات الثمار كلها ﴿وَ فَضَّلْنَاهُمْ يقول: ليس من دابة و لا طائر إلا هي تأكل و تشرب بفيها لا ترفع يدها إلى فيها طعاما و لا شرابا غير ابن آدم فإنه يرفع إلى فيه بيده طعامه فهذا من التفضيل.

 و في تفسير العياشي، عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام): ﴿وَ فَضَّلْنَاهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً قال: خلق كل شي‏ء منكبا غير الإنسان خلق منتصبا.

أقول: و ما في الروايتين من قبيل ذكر بعض المصاديق و الدليل عليه قوله في آخر الرواية الأولى: فهذا من التفضيل.

 و فيه، عن الفضيل قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله: ﴿يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ قال: يجي‏ء رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) في قومه، و علي (عليه السلام) في قومه و الحسن في قومه و الحسين في قومه و كل من مات بين ظهراني إمام جاء معه.

 و في تفسير البرهان، عن ابن شهرآشوب عن الصادق (عليه السلام): أ لا تحمدون الله؟ أنه إذا كان يوم القيامة يدعى كل قوم إلى من يتولونه، و فزعنا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و فزعتم أنتم إلينا:

أقول: و رواه في المجمع، عنه (عليه السلام) و فيه دلالة على أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) إمام الأئمة كما أنه شهيد الشهداء و أن حكم الدعوة بالإمام جار بين الأئمة أنفسهم.

 و في مجمع البيان، روى الخاص و العام عن علي بن موسى الرضا (عليه السلام) بالأسانيد الصحيحة أنه روى عن آبائه عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أنه قال فيه: يدعى كل أناس بإمام زمانهم و كتاب ربهم و سنة نبيهم:

أقول: و رواه في تفسير البرهان، عن ابن شهرآشوب عنه عن آبائه عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بلفظه و قد أسنده أيضا إلى رواية الخاص و العام.

 و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن علي قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): ﴿يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ قال: يدعى كل قوم بإمام زمانهم و كتاب ربهم و سنة نبيهم.

 و في تفسير العياشي، عن عمار الساباطي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لا يترك الأرض

 

 

 

 بغير إمام يحل حلال الله و يحرم حرامه، و هو قول الله: ﴿يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ثم قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية. الحديث.

أقول: و وجه الاحتجاج بالآية عموم الدعوة فيها لجميع الناس.

 و فيه، عن إسماعيل بن همام عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله: ﴿يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ قال: إذا كان يوم القيامة قال الله: أ ليس العدل من ربكم أن يولوا كل قوم من تولوا؟ قالوا: بلى قال: فيقول: تميزوا فيتميزون.

 أقول: و فيه تأييد لما قدمنا أن المراد بالدعوة بالإمام إحضارهم معه دون النداء بالاسم، و الروايات في المعاني السابقة كثيرة.

 و في تفسير القمي ":في قوله تعالى: ﴿وَ لاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً قال: قال: الجلدة التي في ظهر النواة. و في تفسير العياشي، عن المثنى عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سأله أبو بصير و أنا أسمع فقال له: رجل له مائة ألف فقال: العام أحج العام أحج حتى يجيئه الموت فحجبه البلاء و لم يحج حج الإسلام فقال: يا با بصير أ و ما سمعت قول الله. ﴿مَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي اَلْآخِرَةِ أَعْمى وَ أَضَلُّ سَبِيلاً؟ عمي عن فريضة من فرائض الله.

[سورة الإسراء (١٧): الآیات ٧٣ الی ٨١]﴿وَ إِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ اَلَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَ إِذاً لاَتَّخَذُوكَ خَلِيلاً ٧٣ وَ لَوْ لاَ أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً ٧٤ إِذاً لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ اَلْحَيَاةِ وَ ضِعْفَ اَلْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً ٧٥ وَ إِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ اَلْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَ إِذاً لاَ يَلْبَثُونَ خِلاَفَكَ إِلاَّ قَلِيلاً ٧٦ سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَ لاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً ٧٧ أَقِمِ اَلصَّلاَةَ لِدُلُوكِ اَلشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اَللَّيْلِ وَ قُرْآنَ اَلْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ اَلْفَجْرِ كَانَ

 

 

 

﴿مَشْهُوداً ٧٨ وَ مِنَ اَللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ٧٩ وَ قُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَ أَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَ اِجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً ٨٠ وَ قُلْ جَاءَ اَلْحَقُّ وَ زَهَقَ اَلْبَاطِلُ إِنَّ اَلْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً ٨١

بيان‏

تذكر الآيات بعض مكر المشركين بالقرآن و بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بعد ما ذمتهم على تماديهم في إنكار التوحيد و المعاد و احتجت عليهم في ذلك حيث أرادوا أن يفتنوا النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عن بعض ما أوحي إليه ليداهنهم فيه بعض المداهنة، و أرادوا أن يخرجوه من مكة.

و قد أوعد الله النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أشد الوعيد إن مال إلى الركون إليهم بعض الميل، و أوعدهم أن أخرجوا النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بالهلاك.

و في الآيات إيصاء النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بالصلوات و الالتجاء بربه في مدخله و مخرجه و إعلام ظهور الحق.

قوله تعالى: ﴿وَ إِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ اَلَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَ إِذاً لاَتَّخَذُوكَ خَلِيلاً إن مخففة بدليل اللام في ﴿لَيَفْتِنُونَكَ و الفتنة الإزلال و الصرف، و الخليل‏ من الخلة بمعنى الصداقة و ربما قيل: هو من الخلة بمعنى الحاجة و هو بعيد.

و ظاهر السياق أن المراد بالذي أوحينا إليك القرآن بما يشتمل عليه من التوحيد و نفي الشريك و السيرة الصالحة و هذا يؤيد ما ورد في بعض أسباب النزول أن المشركين سألوا النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يكف عن ذكر آلهتهم بسوء و يبعد عن نفسه عبيدهم المؤمنين به و السقاط حتى يجالسوه و يسمعوا منه فنزلت الآيات.

 

 

 

 و المعنى: و إن المشركين اقتربوا أن يزلوك و يصرفوك عما أوحينا إليك لتتخذ من السيرة و العمل ما يخالفه فيكون في ذلك افتراء علينا لانتسابه بعملك إلينا و إذا لاتخذوك صديقا.

قوله تعالى: ﴿وَ لَوْ لاَ أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً التثبيت كما يفيده السياق هو العصمة الإلهية و جعل جواب لو لا قوله: ﴿لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ دون نفس الركون و الركون‏ هو الميل أو أدنى الميل كما قيل دليل على أنه (ص) لم يركن و لم يكد، و يؤكده إضافة الركون إليهم دون إجابتهم إلى ما سألوه.

و المعنى: و لو لا أن ثبتناك بعصمتنا دنوت من أن تميل إليهم قليلا لكنا ثبتناك فلم تدن من أدنى الميل إليهم فضلا من أن تجيبهم إلى ما سألوا فهو (ص) لم يجبهم إلى ما سألوا و لا مال إليهم شيئا قليلا و لا كاد أن يميل.

قوله تعالى: ﴿إِذاً لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ اَلْحَيَاةِ وَ ضِعْفَ اَلْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً سياق الآية سياق توعد فالمراد بضعف الحياة و الممات المضاعف من عذاب الحياة و الممات، و المعنى لو قارنت أن تميل إليهم بعض الميل لأذقناك الضعف من العذاب الذي نعذب به المجرمين في حياتهم و الضعف مما نعذبهم به في مماتهم أي ضعف عذاب الدنيا و الآخرة.

و نقل في المجمع، عن أبان بن تغلب أن المراد بالضعف العذاب المضاعف ألمه و المعنى لأذقناك عذاب الدنيا و عذاب الآخرة، و أنشد قول الشاعر:

لمقتل مالك إذ بان. مني *** أبيت الليل في ضعف أليم‏

أي في عذاب أليم.

و ما في ذيل الآية من قوله: ﴿ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً تشديد في الإيعاد أي إن العذاب واقع حينئذ لا مخلص منه.

قوله تعالى: ﴿وَ إِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ اَلْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَ إِذاً لاَ يَلْبَثُونَ خِلاَفَكَ إِلاَّ قَلِيلاً الاستفزاز الإزعاج و التحريك بخفة و سهولة، و اللام في

 

 

 

﴿اَلْأَرْضِ للعهد و المراد بها مكة، و الخلاف بمعنى بعد، و المراد بالقليل اليسير من الزمان.

و المعنى و إن المشركين قاربوا أن يزعجوك من أرض مكة لإخراجك منها و لو كان منهم و خرجت منها لم يمكثوا بعدك فيها إلا قليلا فهم هالكون لا محالة.

و قيل: هؤلاء الذين كادوا يستفزونه هم اليهود أرادوا أن يخرجوه من المدينة و قيل: المراد المشركون و اليهود أرادوا جميعا أن يخرجوه من أرض العرب.

و يبعد ذلك أن السورة مكية و الآيات ذات سياق واحد و ابتلاء النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) باليهود إنما كان بالمدينة بعد الهجرة.

قوله تعالى: ﴿سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَ لاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً التحويل‏ نقل الشي‏ء من حال، إلى حال، و قوله: ﴿سُنَّةَ أي كسنة من قد أرسلنا و هو متعلق بقوله: ﴿لاَ يَلْبَثُونَ أي لا يلبثون بعدك إلا قليلا كسنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا.

و هذه السنة و هي إهلاك المشركين الذين أخرجوا رسولهم من بلادهم و طردوه من بينهم سنة لله سبحانه، و إنما نسبها إلى رسله لأنها مسنونة لأجلهم بدليل قوله بعد: ﴿وَ لاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً و قد قال تعالى: ﴿وَ قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ اَلظَّالِمِينَ: إبراهيم: ١٣.

و المعنى: و إذا نهلكهم لسنتنا التي سنناها لأجل من قد أرسلنا قبلك من رسلنا و أجريناها و لست تجد لسنتنا تحويلا و تبديلا.

قوله تعالى: ﴿أَقِمِ اَلصَّلاَةَ لِدُلُوكِ اَلشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اَللَّيْلِ وَ قُرْآنَ اَلْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ اَلْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً قال في مجمع البيان،: الدلوك‏ الزوال، و قال المبرد: دلوك الشمس من لدن زوالها إلى غروبها، و قيل: هو الغروب و أصله من الدلك فسمي الزوال دلوكا لأن الناظر إليها يدلك عينيه لشدة شعاعها، و سمي الغروب دلوكا لأن الناظر يدلك عينيه ليثبتها. انتهى.

و قال فيه: غسق الليل ظهور ظلامه يقال: غسقت القرحة إذا انفجرت فظهر

 

 

 

ما فيها. انتهى، و في المفردات،: غسق الليل شدة ظلمته. انتهى.

و قد اختلف المفسرون في تفسير صدر الآية و المروي عن أئمة أهل البيت (عليه السلام) من طرق الشيعة تفسير دلوك الشمس بزوالها و غسق الليل بمنتصفه، و سيجي‏ء الإشارة إلى الروايات في البحث الروائي الآتي إن شاء الله.

و عليه فالآية تشمل من الوقت ما بين زوال الشمس و منتصف الليل، و الواقع في هذا المقدار من الوقت من الفرائض اليومية أربع صلاة الظهر و العصر و المغرب و العشاء الآخرة. و بانضمام صلاة الصبح المدلول عليها بقوله: ﴿وَ قُرْآنَ اَلْفَجْرِ إلخ إليها تتم الصلوات الخمس اليومية.

و قوله: ﴿وَ قُرْآنَ اَلْفَجْرِ معطوف على الصلاة أي و أقم قرآن الفجر و المراد به صلاة الصبح لما تشتمل عليه من القرائة و قد اتفقت الروايات على أن صلاة الصبح هي المراد بقرآن الفجر.

و كذا اتفقت الروايات من طرق الفريقين على تفسير قوله ذيلا: ﴿إِنَّ قُرْآنَ اَلْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً بأنه يشهده ملائكة الليل و ملائكة النهار، و سنشير إلى بعض هذه الروايات عن قريب إن شاء الله.

قوله تعالى: ﴿وَ مِنَ اَللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً التهجد من الهجود و هو النوم في الأصل و معنى التهجد التيقظ و السهر بعد النوم على ما ذكره غير واحد منهم، و الضمير في ﴿بِهِ للقرآن أو للبعض المفهوم من قوله: ﴿وَ مِنَ اَللَّيْلِ و النافلة من النفل و هو الزيادة، و ربما قيل: إن قوله: ﴿وَ مِنَ اَللَّيْلِ من قبيل الإغراء نظير قولنا: عليك بالليل، و الفاء في قوله: ﴿فَتَهَجَّدْ بِهِ نظير قوله: ﴿فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ: النحل: ٥١.

و المعنى: و أسهر بعض الليل بعد نومتك بالقرآن و هو الصلاة حال كونها صلاة زائدة لك على الفريضة.

و قوله: ﴿عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً من الممكن أن يكون المقام مصدرا ميميا و هو البعث فيكون مفعولا مطلقا ليبعثك من غير لفظه، و المعنى عسى أن يبعثك ربك بعثا محمودا، و من الممكن أن يكون اسم مكان و البعث بمعنى الإقامة أو مضمنا معنى الإعطاء و نحوه، و المعنى عسى أن يقيمك ربك في مقام محمود أو يبعثك معطيا لك مقاما محمودا أو يعطيك باعثا مقاما محمودا.

 

 

 

 و قد وصف سبحانه مقامه بأنه محمود و أطلق القول من غير تقييد و هو يفيد أنه مقام يحمده الكل و لا يثني عليه الكل إلا إذا استحسنه الكل و انتفع به الجميع و لذا فسروا المقام المحمود بأنه المقام الذي يحمده عليه جميع الخلائق و هو مقام الشفاعة الكبرى له (ص) يوم القيامة و قد اتفقت على هذا التفسير الروايات من طرق الفريقين عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و أئمة أهل البيت (عليه السلام).

قوله تعالى: ﴿وَ قُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَ أَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَ اِجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً المدخل‏ بضم الميم و فتح الخاء مصدر ميمي بمعنى الإدخال و نظيره المخرج‏ بمعنى الإخراج، و العناية في إضافة الإدخال و الإخراج إلى الصدق أن يكون الدخول و الخروج في كل أمر منعوتا بالصدق جاريا على الحقيقة من غير أن يخالف ظاهره باطنه أو يضاد بعض أجزائه بعضا كأن يدعو الإنسان بلسانه إلى الله و هو يريد بقلبه أن يسود الناس أو يخلص في بعض دعوته لله و يشرك في بعضها غيره.

و بالجملة هو أن يرى الصدق في كل مدخل منه و مخرج و يستوعب وجوده فيقول ما يفعل و يفعل ما يقول و لا يقول و لا يفعل إلا ما يراه و يعتقد به، و هذا مقام الصديقين.

و يرجع المعنى إلى نحو قولنا: اللهم تول أمري كما تتولى أمر الصديقين.

و قوله: ﴿وَ اِجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً أي سلطنة بنصرتي على ما أهم به من الأمور و أشتغل به من الأعمال فلا أغلب في دعوتي بحجة باطلة، و لا أفتتن بفتنة أو مكر يمكرني به أعداؤك و لا أضل بنزغ شيطان و وسوسته.

و الآية كما ترى مطلقة تأمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يسأل ربه أن يتولى أمره في كل مدخل و مخرج بالصدق و يجعل له سلطانا من عنده ينصره فلا يزيغ في حق و لا يظهر بباطل فلا وجه لما ذكره بعض المفسرين أن المراد بالدخول و الخروج دخول المدينة بالهجرة و الخروج منها إلى مكة للفتح أو أن المراد بهما دخول القبر بالموت و الخروج منه بالبعث.

نعم لما كانت الآية بعد قوله: ﴿وَ إِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ ﴿وَ إِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ و في سياقهما، لوحت إلى أمره (ص) أن يلتجئ إلى ربه في كل أمر يهم به أو يشتغل

 

 

 

 به من أمور الدعوة، و في الدخول و الخروج في كل مكان يسكنه أو يدخله أو يخرج منه و هو ظاهر.

قوله تعالى: ﴿وَ قُلْ جَاءَ اَلْحَقُّ وَ زَهَقَ اَلْبَاطِلُ إِنَّ اَلْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً قال في المجمع،:

الزهوق‏ هو الهلاك و البطلان يقال: زهقت نفسه إذا خرجت فكأنها قد خرجت إلى الهلاك. انتهى و المعنى ظاهر.

و في الآية أمره (ص) بإعلام ظهور الحق و هو لوقوع الآية في سياق ما مر من قوله: «و إن كادوا ليفتنونك» إلى آخر الآيات أمر بإياس المشركين من نفسه و تنبيههم أن يوقنوا أن لا مطمع لهم فيه (ص).

و في الآية دلالة على أن الباطل لا دوام له كما قال تعالى في موضع آخر: ﴿وَ مَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اُجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ اَلْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ: إبراهيم: ٢٦.

بحث روائي‏

في المجمع، ":في سبب نزول قوله تعالى: ﴿وَ إِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ اَلَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ الآيات أنهم قالوا له: كف عن شتم آلهتنا و تسفيه أحلامنا و اطرد هؤلاء العبيد و السقاط الذين رائحتهم رائحة الصنان حتى نجالسك و نسمع منك فطمع في إسلامهم فنزلت الآية:

أقول: و روي في الدر المنثور، عن ابن أبي حاتم عن سعيد بن نفير ما يقرب منه:. و أما ما روي عن ابن عباس" :أن أمية بن خلف و أبا جهل بن هشام و رجالا من قريش أتوا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقالوا: تعال فاستلم آلهتنا و ندخل معك في دينك و كان رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يشتد عليه فراق قومه و يحب إسلامهم فرق لهم فأنزل الله: ﴿وَ إِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ إلى قوله ﴿نَصِيراً فلا يلائم ظاهر الآيات حيث تنفي عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يقارب الركون فضلا عن الركون.

 

 

 

 و كذا ما رواه الطبري و ابن مردويه عن ابن عباس :أن ثقيفا قالوا للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) :

أجلنا سنة حتى يهدي لآلهتنا فإذا قبضنا الذي يهدي للآلهة أحرزناه ثم أسلمنا و كسرنا الآلهة فهم أن يؤجلهم فنزلت: ﴿وَ إِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ الآية. و كذا ما في تفسير العياشي، عن أبي يعقوب عن أبي عبد الله (عليه السلام): في الآية قال:

لما كان يوم الفتح أخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) أصناما من المسجد و كان منها صنم على المروة فطلبت إليه قريش أن يتركه و كان مستحيا ثم أمر بكسره فنزلت هذه الآية.

و نظيرهما أخبار أخر تقرب منها معنى فهذه روايات لا تلائم ظاهر الكتاب و حاشا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يهم بمثل هذه البدع و الله سبحانه ينفي عنه المقارنة من الركون و الميل اليسير فضلا أن يهم بالعمل.

على أن هذه القضايا من الحوادث الواقعة بعد الهجرة و السورة مكية. و في العيون، بإسناده عن علي بن محمد بن الجهم عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام): مما سأله المأمون فقال له:

أخبرني عن قول الله: ﴿عَفَا اَللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ قال الرضا (عليه السلام) هذا مما نزل بإياك أعني و اسمعي يا جارة خاطب الله بذلك نبيه و أراد به أمته، و كذلك قوله:

﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَ لَتَكُونَنَّ مِنَ اَلْخَاسِرِينَ و قوله تعالى: ﴿وَ لَوْ لاَ أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً قال: صدقت يا بن رسول الله.

 و في المجمع، عن ابن عباس" :في قوله تعالى: ﴿إِذاً لَأَذَقْنَاكَ الآية قال: إنه لما نزلت هذه الآية قال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبدا.

 و في تفسير العياشي، عن سعيد بن المسيب عن علي بن الحسين (عليه السلام) قال: قلت له:

متى فرضت الصلاة على المسلمين على ما هم اليوم عليه؟ قال: بالمدينة حين ظهرت الدعوة و قوي الإسلام فكتب الله على المسلمين الجهاد، و زاد في الصلاة رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) سبع ركعات في الظهر ركعتين، و في العصر ركعتين، و في المغرب ركعة، و في العشاء ركعتين، و أقر الفجر على ما فرضت عليه بمكة لتعجيل نزول ملائكة النهار إلى الأرض و تعجيل عروج ملائكة الليل إلى السماء فكان ملائكة الليل و ملائكة النهار يشهدون مع رسول الله الفجر فلذلك قال الله: ﴿وَ قُرْآنَ اَلْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ اَلْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً يشهد المسلمون و يشهد ملائكة الليل و النهار

 

 

 

 و في المجمع، ":في قوله تعالى: ﴿أَقِمِ اَلصَّلاَةَ لِدُلُوكِ اَلشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اَللَّيْلِ وَ قُرْآنَ اَلْفَجْرِ قال: ففي الآية بيان وجوب الصلوات الخمس و بيان أوقاتها: و يؤيد ذلك ما رواه العياشي بالإسناد عن عبيدة بن زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام) في هذه الآية.

قال: إن الله افترض أربع صلوات أول وقتها من زوال الشمس إلى انتصاف الليل منها صلاتان أول وقتهما من عند زوال الشمس إلى غروبها إلا أن هذه قبل هذه، و منها صلاتان أول وقتهما من غروب الشمس إلى انتصاف الليل إلا أن هذه قبل هذه.

 و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير عن ابن مسعود قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): أتاني جبريل لدلوك الشمس حين زالت فصلى بي الظهر.

و فيه، أخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول و ابن جرير و الطبراني و ابن مردويه عن أبي الدرداء قال: قرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ﴿إِنَّ قُرْآنَ اَلْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً قال:

يشهده الله و ملائكة الليل و ملائكة النهار.

أقول: تفسير كون قرآن الفجر مشهودا في روايات الفريقين بشهادة ملائكة الليل و ملائكة النهار يكاد يبلغ حد التواتر، و قد أضيف إلى ذلك في بعضها شهادة الله كما في هذه الرواية، و في بعضها شهادة المسلمين كما فيما تقدم.

 و في تفسير العياشي، عن عبيد بن زرارة قال: سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن المؤمن هل له شفاعة؟ قال: نعم فقال له رجل من القوم: هل يحتاج المؤمن إلى شفاعة محمد (صلى الله عليه وآله و سلم)؟ قال: نعم للمؤمنين خطايا و ذنوب و ما من أحد إلا و يحتاج إلى شفاعة محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) يومئذ قال: و سأله رجل عن قول رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): أنا سيد ولد آدم و لا فخر قال:

نعم يأخذ حلقة من باب الجنة فيفتحها فيخر ساجدا فيقول: الله: ارفع رأسك اشفع تشفع اطلب تعط فيرفع رأسه ثم يخر ساجدا فيقول الله: ارفع رأسك اشفع تشفع و اطلب تعط ثم يرفع رأسه فيشفع يشفع (فيشفع) و يطلب فيعطى.

 و فيه، عن سماعة بن مهران عن أبي إبراهيم (عليه السلام): في قول الله ﴿عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً قال: يقوم الناس يوم القيامة مقدار أربعين يوما و تؤمر الشمس

 

 

 

 فنزلت على رءوس العباد و يلجم العرق و تؤمر الأرض لا تقبل من عرقهم شيئا فيأتون آدم فيشفعون له فيدلهم على نوح و يدلهم نوح على إبراهيم، و يدلهم إبراهيم على موسى و يدلهم موسى على عيسى، و يدلهم عيسى على محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) فيقول: عليكم بمحمد خاتم النبيين، فيقول محمد (صلى الله عليه وآله و سلم): أنا لها فينطلق حتى يأتي باب الجنة فيدق فيقال له: من هذا؟ و الله أعلم فيقول محمد:

افتحوا فإذا فتح الباب استقبل ربه فخر ساجدا فلا يرفع رأسه حتى يقال له تكلم و سل تعط و اشفع تشفع - فيرفع رأسه فيستقبل ربه فيخر ساجدا فيقال له مثلها فيرفع رأسه حتى أنه ليشفع من قد أحرق بالنار فما أحد من الناس يوم القيامة في جميع الأمم أوجه من محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) و هو قول الله تعالى: ﴿عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً. أقول: و قوله: «حتى أنه ليشفع من قد أحرق بالنار» أي بعض من أدخل النار، و في معنى هذه الرواية عدة روايات من طرق أهل السنة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم).

- و في الدر المنثور، أخرج البخاري و ابن جرير و ابن مردويه عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يقول: إن الشمس لتدنو حتى يبلغ العرق نصف الإذن - فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم (عليه السلام) فيقول: لست بصاحب ذلك ثم موسى (عليه السلام) فيقول مثل ذلك ثم محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) - فيشفع فيقضي الله بين الخلائق فيمشي - حتى يأخذ بحلقة باب الجنة فيومئذ يبعثه الله مقاما. - و فيه، أخرج ابن جرير و البيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: المقام المحمود الشفاعة. - و فيه، أخرج ابن مردويه عن سعد بن أبي الوقاص قال: سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) عن المقام المحمود فقال: هو الشفاعة. أقول: و الروايات في المضامين السابقة كثيرة.

[سورة الإسراء (١٧): الآیات ٨٢ الی ١٠٠]﴿وَ نُنَزِّلُ مِنَ اَلْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لاَ يَزِيدُ اَلظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً ٨٢ وَ إِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى اَلْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَ نَأى

 

 

 

﴿بِجَانِبِهِ وَ إِذَا مَسَّهُ اَلشَّرُّ كَانَ يَؤُساً ٨٣ قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً ٨٤ وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلرُّوحِ قُلِ اَلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَ مَا أُوتِيتُمْ مِنَ اَلْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ٨٥ وَ لَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً ٨٦ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً ٨٧ قُلْ لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ اَلْإِنْسُ وَ اَلْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا اَلْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ٨٨ وَ لَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا اَلْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ اَلنَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً ٨٩ وَ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ اَلْأَرْضِ يَنْبُوعاً ٩٠ أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَ عِنَبٍ فَتُفَجِّرَ اَلْأَنْهَارَ خِلاَلَهَا تَفْجِيراً ٩١ أَوْ تُسْقِطَ اَلسَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَ اَلْمَلاَئِكَةِ قَبِيلاً ٩٢ أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي اَلسَّمَاءِ وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً ٩٣ وَ مَا مَنَعَ اَلنَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ اَلْهُدى إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَ بَعَثَ اَللَّهُ بَشَراً رَسُولاً ٩٤ قُلْ لَوْ كَانَ فِي اَلْأَرْضِ مَلاَئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً ٩٥ قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً ٩٦ وَ مَنْ يَهْدِ اَللَّهُ فَهُوَ اَلْمُهْتَدِ وَ مَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَ نَحْشُرُهُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَ بُكْماً وَ صُمًّا مَأْوَاهُمْ

 

 

 

﴿جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً ٩٧ ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَ قَالُوا أَ إِذَا كُنَّا عِظَاماً وَ رُفَاتاً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً ٩٨ أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اَللَّهَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ قَادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَ جَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَ رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى اَلظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً ٩٩ قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ اَلْإِنْفَاقِ وَ كَانَ اَلْإِنْسَانُ قَتُوراً ١٠٠ 

بيان‏

رجوع بعد رجوع إلى حديث القرآن و كونه آية للنبوة و ما يصحبه من الرحمة و البركة، و قد افتتح الكلام فيه بقوله فيما تقدم: ﴿إِنَّ هَذَا اَلْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ثم رجع إليه بقوله: ﴿وَ لَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا اَلْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا إلخ و قوله ﴿وَ إِذَا قَرَأْتَ اَلْقُرْآنَ إلخ و قوله: ﴿وَ مَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إلخ.

فبين في هذه الآيات أن القرآن شفاء و رحمة و بعبارة أخرى مصلح لمن صلحت نفسه و مخسر للظالمين و أنه آية معجزة للنبوة ثم ذكر ما كانوا يقترحونه على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من الآيات و الجواب عنه و ما يلحق بذلك من الكلام.

و في الآيات ذكر سؤالهم عن الروح و الجواب عنه.

قوله تعالى: ﴿وَ نُنَزِّلُ مِنَ اَلْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لاَ يَزِيدُ اَلظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً من بيانية تبين الموصول أعني قوله: ﴿مَا هُوَ شِفَاءٌ إلخ أي و ننزل ما هو شفاء و رحمة و هو القرآن.

و عد القرآن شفاء و الشفاء إنما يكون عن مرض دليل على أن للقلوب أحوالا نسبة القرآن إليها نسبة الدواء الشافي إلى المرض، و هو المستفاد من كلامه سبحانه حيث ذكر

 

 

 

 أن الدين الحق فطري للإنسان فكما أن للبنية الإنسانية التي سويت على الخلقة الأصلية قبل أن يلحق بها أحوال منافية و آثار مغايرة للتسوية الأولية استقامة طبيعية تجري عليها في أطوار الحياة كذلك لها بحسب الخلقة الأصلية عقائد حقة في المبدإ و المعاد و ما يتفرع عليهما من أصول المعارف، و أخلاق فاضلة زاكية تلائمها و يترتب عليها من الأحوال و الأعمال ما يناسبها.

فللإنسان صحة و استقامة روحية معنوية كما أن له صحة و استقامة جسمية صورية، و له أمراض و أدواء روحية باختلال أمر الصحة الروحية كما أن له أمراضا و أدواء جسمية باختلال أمر الصحة الجسمية و لكل داء دواء و لكل مرض شفاء.

و قد ذكر الله سبحانه في أناس من المؤمنين أن في قلوبهم مرضا و هو غير الكفر و النفاق الصريحين كما يدل عليه قوله: ﴿لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ اَلْمُنَافِقُونَ وَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ اَلْمُرْجِفُونَ فِي اَلْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ: الأحزاب: ٦٠ و قوله: ﴿وَ لِيَقُولَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ اَلْكَافِرُونَ مَا ذَا أَرَادَ اَللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً: المدثر: ٣١.

و ليس هذا المسمى مرضا إلا ما يختل به ثبات القلب و استقامة النفس من أنواع الشك و الريب الموجبة لاضطراب الباطن و تزلزل السر و الميل إلى الباطل و اتباع الهوى مما يجامع إيمان عامة المؤمنين من أهل أدنى مراتب الإيمان و مما هو معدود نقصا و شركا بالإضافة إلى مراتب الإيمان العالية، و قد قال تعالى: ﴿وَ مَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَ هُمْ مُشْرِكُونَ: يوسف: ١٠٦ و قال: ﴿فَلاَ وَ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً: النساء: ٦٥.

و القرآن الكريم يزيل بحججه القاطعة و براهينه الساطعة أنواع الشكوك و الشبهات المعترضة في طريق العقائد الحقة و المعارف الحقيقية و يدفع بمواعظه الشافية و ما فيه من القصص و العبر و الأمثال و الوعد و الوعيد و الإنذار و التبشير و الأحكام و الشرائع عاهات الأفئدة و آفاتها فالقرآن شفاء للمؤمنين.

و أما كونه رحمة للمؤمنين و الرحمة إفاضة ما يتم به النقص و يرتفع به الحاجة فلأن القرآن ينور القلوب بنور العلم و اليقين بعد ما يزيل عنها ظلمات الجهل و العمى و الشك و الريب و يحليها بالملكات الفاضلة و الحالات الشريفة الزاكية بعد ما يغسل عنها أوساخ

 

 

 

 الهيآت الردية و الصفات الخسيسة.

فهو بما أنه شفاء يزيل عنها أنواع الأمراض و الأدواء، و بما أنه رحمة يعيد إليها ما افتقدته من الصحة و الاستقامة الأصلية الفطرية فهو بكونه شفاء يطهر المحل من الموانع المضادة للسعادة و يهيئها لقبولها، و بكونه رحمة يلبسه لباس السعادة و ينعم عليه بنعمة الاستقامة.

فالقرآن شفاء و رحمة للقلوب المريضة كما أنه هدى و رحمة للنفوس غير الأمنة من الضلال، و بذلك يظهر النكتة في ترتب الرحمة على الشفاء في قوله: ﴿مَا هُوَ شِفَاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ فهو كقوله: ﴿هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ: يوسف: ١١١ و قوله:

﴿وَ مَغْفِرَةً وَ رَحْمَةً: النساء: ٩٦.

فمعنى قوله: ﴿وَ نُنَزِّلُ مِنَ اَلْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ و ننزل إليك أمرا يشفي أمراض القلوب و يزيلها و يعيد إليها حالة الصحة و الاستقامة فتتمتع من نعمة السعادة و الكرامة.

و قوله: ﴿وَ لاَ يَزِيدُ اَلظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً السياق دال على أن المراد به بيان ما للقرآن من الأثر في غير المؤمنين قبال ما له من الأثر الجميل في المؤمنين فالمراد بالظالمين غير المؤمنين و هم الكفار دون المشركين خاصة كما يظهر من بعض المفسرين و إنما علق الحكم بالوصف أعني الظلم ليشعر بالتعليل أي أن القرآن إنما يزيدهم خسارا لمكان ظلمهم بالكفر.

و الخسار هو النقص في رأس المال فللكفار رأس مال بحسب الأصل و هو الدين الفطري تلهم به نفوسهم الساذجة ثم إنهم بكفرهم بالله و آياته خسروا فيه و نقصوا.

ثم إن كفرهم بالقرآن و إعراضهم عنه بظلمهم يزيدهم خسارا على خسار و نقصا على نقص إن كانت عندهم بقية من موهبة الفطرة، و إلى هذه النكتة يشير سياق النفي و الاستثناء حيث قيل: ﴿وَ لاَ يَزِيدُ اَلظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً و لم يقل: و يزيد الظالمين خسارا.

و به يظهر أن محصل معنى الآية أن القرآن يزيد المؤمنين صحة و استقامة على صحتهم و استقامتهم بالإيمان و سعادة على سعادتهم و إن زاد الكافرين شيئا فإنما يزيدهم نقصا و خسارا.

 

 

 

 و للمفسرين في معنى صدر الآية و ذيلها وجوه أخر أغمضنا عنها من أراد الوقوف عليها فليراجع مسفوراتهم.

و مما ذكروه فيها أن المراد بالشفاء في الآية أعم من شفاء الأمراض الروحية من الجهل و الشبهة و الريب و الملكات النفسانية الرذيلة و شفاء الأمراض الجسمية بالتبرك بآياته الكريمة قراءة و كتابة هذا.

و لا بأس به لكن لو صح التعميم فليصح في الصدر و الذيل جميعا فإنه كما يستعان به على دفع الأمراض و العاهات بقراءة أو كتابة كذلك يستعان به على دفع الأعداء و رفع ظلم الظالمين و إبطال كيد الكافرين فيزيد بذلك الظالمين خسارا كما يفيد المؤمنين شفاء هذا، و نسبة زيادة خسارهم إلى القرآن مع أنها مستندة بالحقيقة إلى سوء اختيارهم و شقاء أنفسهم إنما هي بنوع من المجاز.

قوله تعالى: ﴿وَ إِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى اَلْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَ نَأى بِجَانِبِهِ وَ إِذَا مَسَّهُ اَلشَّرُّ كَانَ يَؤُساً قال في المفردات،: العرض‏ خلاف الطول و أصله أن يقال في الأجسام ثم يستعمل في غيرها إلى أن قال و أعرض أظهر عرضه أي ناحيته فإذا قيل: أعرض لي كذا أي بدا عرضه فأمكن تناوله، و إذا قيل: أعرض عني فمعناه ولى مبديا عرضه. انتهى موضع الحاجة.

و النأي‏ البعد و نأى بجانبه أي اتخذ لنفسه جهة بعيدة منا، و مجموع قوله:

﴿أَعْرَضَ وَ نَأى بِجَانِبِهِ يمثل حال الإنسان في تباعده و انقطاعه من ربه عند ما ينعم عليه. كمن يحول وجهه عن صاحبه و يتخذ لنفسه موقفا بعيدا منه، و ربما ذكر بعض المفسرين أن قوله. ﴿نَأى بِجَانِبِهِ كناية عن الاستكبار و الاستعلاء.

و قوله: ﴿وَ إِذَا مَسَّهُ اَلشَّرُّ كَانَ يَؤُساً أي و إذا أصابه الشر أصابة خفيفة كالمس كان آيسا منقطع الرجاء عن الخير و هو النعمة، و لم ينسب الشر إليه تعالى كما نسب النعمة تنزيها له تعالى من أن يسند إليه الشر، و لأن وجود الشر أمر نسبي لا نفسي فما يتحقق من الشر في العالم كالموت و المرض و الفقر و النقص و غير ذلك إنما هو شر بالنسبة إلى مورده، و أما بالنسبة إلى غيره و خاصة النظام العام الجاري في الكون فهو من الخير الذي لا مناص عنه في التدبير الكلي فما كان من الخير فهو مما تعلقت به بعينه

 

 

 

 العناية الإلهية و هو مراد بالذات، و ما كان من الشر فهو مما تعلقت به العناية لغيره و هو مقضي بالعرض.

فالمعنى أنا إذا أنعمنا على الإنسان هذا الموجود الواقع في مجرى الأسباب اشتغل بظواهر الأسباب و أخلد إليها فنسينا فلم يذكرنا و لم يشكرنا، و إذا ناله شي‏ء يسير من الشر فسلب منه الخير و زالت عنه أسبابه و رأى ذلك كان شديد اليأس من الخير لكونه متعلقا بأسبابه و هو يرى بطلان أسبابه و لا يرى لربه في ذلك صنعا.

و الآية تصف حال الإنسان العادي الواقع في المجتمع الحيوي الذي يحكم فيه العرف و العادة فهو إذا توالت عليه النعم الإلهية من المال و الجاه و البنين و غيرها و وافقته على ذلك الأسباب الظاهرية اشتغل بها و تعلق قلبه بها فلم تدع له فراغا يشتغل فيه بذكر ربه و شكره بما أنعم عليه، و إذا مسه الشر و سلب عنه بعض النعم الموهوبة أيس من الخير و لم يتسل بالرجاء لأنه لا يرى للخير إلا الأسباب الظاهرية التي لا يجد وقتئذ شيئا منها في الوجود.

و هذه الحال غير حال الإنسان الفطري غير المشوب ذهنه بالرسوم و الآداب و لا الحاكم فيه العرف و العادة إما بتأييد إلهي يلازمه و يسدده و إما بعروض اضطرار ينسيه الأسباب الظاهرية فيرجع إلى سذاجة فطرته و يدعو ربه و يسأله كشف ضره فللإنسان حالان حال فطرية تهديه إلى الرجوع إلى ربه عند مس الضر و نزول الشر و حال عادية تحول فيها الأسباب بينه و بين ربه فتشغله و تصرفه عن الرجوع إليه بالذكر و الشكر، و الآية تصف حاله الثانية دون الأولى.

و من هنا يظهر أن لا منافاة بين هذه الآية و الآيات الدالة على أن الإنسان إذا مسه الضر رجع إلى ربه كقوله تعالى فيما تقدم: ﴿وَ إِذَا مَسَّكُمُ اَلضُّرُّ فِي اَلْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ الآية و قوله: ﴿وَ إِذَا مَسَّ اَلْإِنْسَانَ اَلضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً الآية: يونس: ١٢ إلى غير ذلك.

و يظهر أيضا وجه اتصال الآية بما قبلها و أنها متصلة بالآية السابقة من جهة ذيلها أعني قوله: ﴿وَ لاَ يَزِيدُ اَلظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً و المحصل أن هذا الخسار غير بعيد منهم ـ

 

 

 

فإن من حال الإنسان أن يشغله الأسباب الظاهرية عند نزول النعم الإلهية فينصرف عن ربه و يعرض و ينأى بجانبه، و ييأس عند مس الشر.

بحث فلسفي في تعلق القضاء بالشرور

ذكروا أن الشرور داخلة في القضاء الإلهي بالعرض، و قد أوردوا في بيانه ما يأتي:

نقل عن أفلاطون أن الشر عدم و قد بين ذلك بالأمثلة فإن في القتل بالسيف مثلا شرا و ليس هو في قدرة الضارب على مباشرة الضرب و لا في شجاعته و لا في قوة عضلات يده فإن ذلك كله كمال له، ليس من الشر في شي‏ء، و ليس هو في حدة السيف و دقة ذبابه و كونه قطاعا فإن ذلك من كماله و حسنه، و ليس هو في انفعال رقبة المقتول عن الآلة القطاعة فإن من كماله أن يكون كذلك فلا يبقى للشر إلا زهاق روح المقتول و بطلان حياته و هو عدمي، و على هذا سائر الأمثلة فالشر عدم.

ثم إن الشرور التي في العالم لما كانت مرتبطة بالحوادث الواقعة مكتنفة بها كانت أعداما مضافة لا عدما مطلقا فلها حظ من الوجود و الوقوع كأنواع الفقد و النقص و الموت و الفساد الواقعة في الخارج الداخلة في النظام العام الكوني، و لذلك كان لها مساس بالقضاء الإلهي الحاكم في الكون لكنها داخلة في القضاء بالعرض لا بالذات.

و ذلك أن الذي تتصوره من العدم إما عدم مطلق و هو عدم النقيض للوجود و إما مضاف إلى ملكة و هو عدم كمال الوجود عما من شأنه ذلك كالعمى الذي هو عدم البصر مما من شأنه أن يكون بصيرا.

و القسم الأول إما عدم شي‏ء مأخوذ بالنسبة إلى ماهيته كعدم زيد مثلا مأخوذا بالنسبة إلى ماهية نفسه، و هذا اعتبار عقلي ليس من وقوع الشر في شي‏ء إذ لا موضوع مشترك بين النقيضين نعم ربما يقيد العدم فيقاس إلى الشي‏ء فيكون من الشر كعدم زيد بعد وجوده، و هو راجع في الحقيقة إلى العدم المضاف إلى الملكة الآتي حكمه.

و إما عدم شي‏ء مأخوذ بالنسبة إلى شي‏ء آخر كفقدان الماهيات الإمكانية كمال الوجود الواجبي و كفقدان كل ماهية وجود الماهية الأخرى الخاص بها مثل فقدان

 

 

 

 النبات وجود الحيوان و فقدان البقر وجود الفرس، و هذا النوع من العدم من لوازم الماهيات و هي اعتبارية غير مجعولة.

و القسم الثاني و هو العدم المضاف إلى الملكة فقدان أمر ما شيئا من كمال وجوده الذي من شأنه أن يوجد له و يتصف به كأنواع الفساد العارضة للأشياء و النواقص و العيوب و العاهات و الأمراض و الأسقام و الآلام الطارئة عليها، و هذا القسم من الشرور إنما يتحقق في الأمور المادية و يستند إلى قصور الاستعدادات على اختلاف مراتبها لا إلى إفاضة مبدإ الوجود فإن علة العدم عدم كما أن علة الوجود وجود.

فالذي تعلقت به كلمة الإيجاد و الإرادة الإلهية و شمله القضاء بالذات في الأمور التي يقارنها شي‏ء من الشر إنما هو القدر الذي تلبس به من الوجود حسب استعداده و مقدار قابليته و أما العدم الذي يقارنه فليس إلا مستندا إلى عدم قابليته و قصور استعداده نعم ينسب إليه الجعل و الإفاضة بالعرض لمكان نوع من الاتحاد بينه و بين الوجود الذي يقارنه هذا.

و ببيان آخر الأمور على خمسة أقسام: ما هو خير محض، و ما خيره أكثر من شره، و ما يتساوى خيره و شره، و ما شره أكثر من خيره، و ما هو شر محض، و لا يوجد شي‏ء من الثلاثة الأخيرة لاستلزامه الترجيح من غير مرجح أو ترجيح المرجوح على الراجح، و من الواجب بالنظر إلى الحكمة الإلهية المنبعثة عن القدرة و العلم الواجبيين و الجود الذي لا يخالطه بخل أن يفيض ما هو الأصلح في النظام الأتم و أن يوجد ما هو خير محض و ما خيره أكثر من شره لأن في ترك الأول شرا محضا و في ترك الثاني شرا كثيرا.

فما يوجد من الشر نادر قليل بالنسبة إلى ما يوجد من الخير و إنما وجد الشر القليل بتبع الخير الكثير.

و عن الإمام الرازي أنه لا محل لهذا البحث منهم بناء على ما ذهبوا إليه من كونه تعالى علة تامة للعالم و استحالة انفكاك العلة التامة عن معلولها فهو موجب في فعله لا مختار، فعليه أن يوجد ما هو علة له من خير أو شر من غير خيرة في الترجيح.

و قد خفي عليه أن هذا الوجوب إنما هو قائم بالمعلول تلقاه من قبل العلة مثل ما

 

 

 

 يتلقى وجوده من قبله، و من المحال أن يعود ما يفيضه العلة فيقهر العلة فيضطرها على الفعل و يغلبها بتحديده.

و لقد أنصف صاحب روح المعاني حيث أشار أولا إلى نظير ما تقدم من البحث فقال:

و لا يخفى أن هذا إنما يتم على القول بأنه تعالى لا يمكن أن تكون إرادته متساوية النسبة إلى الشي‏ء و مقابله بلا داع و مصلحة كما هو مذهب الأشاعرة و إلا فقد يقال:

إن الفاعل للكل إذا كان مختارا فله أن يختار أيما شاء من الخيرات و الشرور لكن الحكماء و أساطين الإسلام قالوا: إن اختياره تعالى أرفع من هذا النمط، و أمور العالم منوطة بقوانين كلية، و أفعاله تعالى مربوطة بحكم و مصالح جلية و خفية.

ثم قال: و قول الإمام: «إن الفلاسفة لما قالوا بالإيجاب و الجبر في الأفعال فخوضهم في هذا المبحث من جملة الفضول و الضلال لأن السؤال بلم عن صدورها غير وارد كصدور الإحراق من النار لأنه يصدر عنها لذاتها».

ناش من التعصب لأن محققيهم يثبتون الاختيار، و ليس صدور الأفعال من الله تعالى عندهم صدور الإحراق من النار، و بعد فرض التسليم بحثهم عن كيفية وقوع الشر في هذا العالم لأجل أن الباري تبارك اسمه خير محض بسيط عندهم و لا يجوزون الشر عما لا جهة شرية فيه أصلا فيلزم عليهم في بادئ النظر ما افترته الثنوية من مبدأين خيري و شري فتخلصوا عن ذلك البحث فهو فضل لا فضول. انتهى.

بيان‏

قوله تعالى: ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى‏ شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً المشاكلة على ما في المفردات، من الشكل و هو تقييد الدابة، و يسمى ما يقيد به شكالا بكسر الشين، و الشاكلة هي السجية سمي بها لتقييدها الإنسان أن يجري على ما يناسبها و تقتضيه.

و في المجمع،: الشاكلة الطريقة و المذهب يقال: هذا طريق ذو شواكل أي ينشعب منه طرق جماعة انتهى. و كأن تسميتهما بها لما فيها من تقييد العابرين و المنتحلين بالتزامهما و عدم التخلف عنهما و قيل: الشاكلة من الشكل بفتح الشين بمعنى المثل و قيل: إنها من الشكل‏ بكسر الشين بمعنى الهيأة.

و كيف كان فالآية الكريمة ترتب عمل الإنسان على شاكلته بمعنى أن العمل يناسبها

 

 

 

 و يوافقها فهي بالنسبة إلى العمل كالروح السارية في البدن الذي يمثل بأعضائه و أعماله هيأت الروح المعنوية و قد تحقق بالتجارب و البحث العلمي أن بين الملكات و الأحوال النفسانية و بين الأعمال رابطة خاصة فليس يتساوى عمل الشجاع الباسل و الجبان إذا حضرا موقفا هائلا، و لا عمل الجواد الكريم و البخيل اللئيم في موارد الإنفاق و هكذا، و أن بين الصفات النفسانية و نوع تركيب البنية الإنسانية رابطة خاصة فمن الأمزجة ما يسرع إليه الغضب و حب الانتقام بالطبع و منها ما تغلي و تفور فيه شهوة الطعام أو النكاح أو غير ذلك بحيث تتوق نفسه بأدنى سبب يدعوه و يحركه، و منها غير ذلك فيختلف انعقاد الملكات بحسب ما يناسب المورد سرعة و بطءا.

و مع ذلك كله فليس يخرج دعوة المزاج المناسب لملكة من الملكات أو عمل من الأعمال من حد الاقتضاء إلى حد العلية التامة بحيث يخرج الفعل المخالف لمقتضى الطبع عن الإمكان إلى الاستحالة و يبطل الاختيار فالفعل باق على اختياريته و إن كان في بعض الموارد صعبا غاية الصعوبة.

و كلامه سبحانه يؤيد ما تقدم على ما يعطيه التدبر فهو سبحانه القائل: ﴿وَ اَلْبَلَدُ اَلطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَ اَلَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً: الأعراف: ٥٨ و انضمام الآية إلى الآيات الدالة على عموم الدعوة كقوله: ﴿لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ: الأنعام: ١٩ يفيد أن تأثير البنى الإنسانية في الصفات و الأعمال على نحو الاقتضاء دون العلية التامة كما هو ظاهر.

كيف و هو تعالى يعد الدين فطريا تهتف به الخلقة التي لا تبديل لها و لا تغيير قال:

﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اَللَّهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللَّهِ ذَلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ: الروم: ٣٠ و قال: ﴿ثُمَّ اَلسَّبِيلَ يَسَّرَهُ: عبس: ٢٠ و لا تجامع دعوة الفطرة إلى الدين الحق و السنة المعتدلة دعوة الخلقة إلى الشر و الفساد و الانحراف عن الاعتدال بنحو العلية التامة.

و قول القائل: إن السعادة و الشقاوة ذاتيتان لا تتخلفان عن ملزومهما كزوجية الأربعة و فردية الثلاثة أو مقضيتان بقضاء أزلي لازم و إن الدعوة لإتمام الحجة لا لإمكان التغيير و رجاء التحول من حال إلى حال فالأمر مفروغ عنه قال تعالى:

 

 

 

﴿لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ.

مدفوع بأن صحة إقامة الحجة بعينها حجة على عدم كون سعادة السعيد و شقاوة الشقي لازمة ضرورية فإن السعادة و الشقاوة لو كانتا من لوازم الذوات لم تحتاجا في لحوقهما إلى حجة إذ لا حجة في الذاتيات فتلغو الحجة، و كذا لو كانتا لازمتين للذوات بقضاء لازم أزلي لا لاقتضاء ذاتي من الذوات كانت الحجة للناس على الله سبحانه فتلغو الحجة منه تعالى فصحة إقامة الحجة من قبله سبحانه تكشف عن عدم ضرورية شي‏ء من السعادة و الشقاوة بالنظر إلى ذات الإنسان مع قطع النظر عن أعماله الحسنة و السيئة و اعتقاداته الحقة و الباطلة.

على أن توسل الإنسان بالفطرة إلى مقاصد الحياة بمثل التعليم و التربية و الإنذار و التبشير و الوعد و الوعيد و الأمر و النهي و غير ذلك أوضح دليل على أن الإنسان في نفسه على ملتقى خطين و منشعب طريقين: السعادة و الشقاوة و في إمكانه أن يختار أيا منهما شاء و أن يسلك أيا منهما أراد و لكل سعي جزاء يناسبه قال تعالى: ﴿وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعى وَ أَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى ثُمَّ يُجْزَاهُ اَلْجَزَاءَ اَلْأَوْفى.: النجم: ٤١ فهذا نوع من الارتباط مستقر بين الأعمال و الملكات و بين الذوات، و هناك نوع آخر من الارتباط مستقر بين الأعمال و الملكات و بين الأوضاع و الأحوال و العوامل الخارجة عن الذات الإنسانية المستقرة في ظرف الحياة و جو العيش كالآداب و السنن و الرسوم و العادات التقليدية فإنها تدعو الإنسان إلى ما يوافقها و تزجره عن مخالفتها و لا تلبث دون أن تصوره صورة جديدة ثانية تنطبق أعماله على الأوضاع و الأحوال المحيطة به المجتمعة المؤتلفة في ظرف حياته.

و هذه الرابطة على نحو الاقتضاء غالبا غير أنها ربما يستقر استقرارا لا مطمع في زوالها من جهة رسوخ الملكات الرذيلة أو الفاضلة في نفس الإنسان، و في كلامه تعالى ما يشير إلى ذلك كقوله: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اَللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ عَلى سَمْعِهِمْ وَ عَلى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ: البقرة: ٧ إلى غير ذلك.

و لا يضر ذلك صحة إقامة الحجة عليهم بالدعوة و الإنذار و التبشير لأن امتناع تأثير الدعوة فيهم مستند إلى سوء اختيارهم و الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.

 

 

 

فقد تبين بما قدمناه على طوله أن للإنسان شاكلة بعد شاكلة فشاكلة يهيؤها نوع خلقته و خصوصية تركيب بنيته، و هي شخصية خلقية متحصلة من تفاعل جهازاته البدنية بعضها مع بعض كالمزاج الذي هو كيفية متوسطة حاصلة من تفاعل الكيفيات المتضادة بعضها في بعض.

و شاكلة أخرى ثانية و هي شخصية خلقية متحصلة من وجوه تأثير العوامل الخارجية في النفس الإنسانية على ما فيها من الشاكلة الأولى إن كانت.

و الإنسان على أي شاكلة متحصلة و على أي نعت نفساني و فعلية داخلية روحية كان فإن عمله يجري عليها و أفعاله تمثلها و تحكيها كما أن المتكبر المختال يلوح حاله في تكلمه و سكوته و قيامه و قعوده و حركته و سكونه، و الذليل المسكين ظاهر الذلة و المسكنة في جميع أعماله و كذا الشجاع و الجبان و السخي و البخيل و الصبور و الوقور و العجول و هكذا: و كيف لا و الفعل يمثل فاعله و الظاهر عنوان الباطن و الصورة دليل المعنى.

و كلامه سبحانه يصدق ذلك و يبني عليه حججه في موارد كثيرة كقوله تعالى:

﴿وَ مَا يَسْتَوِي اَلْأَعْمى وَ اَلْبَصِيرُ وَ لاَ اَلظُّلُمَاتُ وَ لاَ اَلنُّورُ وَ لاَ اَلظِّلُّ وَ لاَ اَلْحَرُورُ وَ مَا يَسْتَوِي اَلْأَحْيَاءُ وَ لاَ اَلْأَمْوَاتُ: فاطر: ٢٢ و قوله: ﴿اَلْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَ اَلْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَ اَلطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَ اَلطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ: النور: ٣٦ إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.

و قوله تعالى: ﴿كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شَاكِلَتِهِ محكم في معناه على أي معنى حملنا الشاكلة غير أن اتصال الآية بقوله: ﴿وَ نُنَزِّلُ مِنَ اَلْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لاَ يَزِيدُ اَلظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً و وقوعها في سياق أن الله سبحانه يربح المؤمنين و يشفيهم بالقرآن الكريم و الدعوة الحقة و يخسر به الظالمين لظلمهم يقرب كون المراد بالشاكلة الشاكلة بالمعنى الثاني و هي الشخصية الخلقية الحاصلة للإنسان من مجموع غرائزه و العوامل الخارجية الفاعلة فيه.

كأنه تعالى لما ذكر استفادة المؤمنين من كلامه الشفاء و الرحمة و حرمان الظالمين من ذلك و زيادتهم في خسارهم اعترضه معترض في هذه التفرقة و أنه لو سوى بين

 

 

 

 الفريقين في الشفاء و الرحمة كان ذلك أوفى لغرض الرسالة و أنفع لحال الدعوة فأمر رسوله (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يجيبهم في ذلك.

فقال: ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شَاكِلَتِهِ أي إن أعمالكم تصدر على طبق ما عندكم من الشاكلة و الفعلية الموجودة فمن كانت عنده شاكلة عادلة سهل اهتداؤه إلى كلمة الحق و العمل الصالح و انتفع بالدعوة الحقة، و من كانت عنده شاكلة ظالمة صعب عليه التلبس بالقول الحق و العمل الصالح و لم يزد من استماع الدعوة الحقة إلا خسارا، و الله الذي هو ربكم العليم بسرائركم المدبر لأمركم أعلم بمن عنده شاكلة عادلة و هو أهدى سبيلا و أقرب إلى الانتفاع بكلمة الحق، و الذي علمه و أخبر به أن المؤمنين أهدى سبيلا فيختص بهم الشفاء و الرحمة بالقرآن الذي ينزله، و لا يبقى للكافرين أهل الظلم إلا مزيد الخسار إلا أن ينتزعوا عن ظلمهم فينتفعوا به.

و من هنا يظهر النكتة في التعبير بصيغة التفضيل في قوله: ﴿أَهْدى سَبِيلاً و ذلك لما تقدم أن الشاكلة غير ملزمة في الدعوة إلى ما يلائمها فالشاكلة الظالمة و إن كانت مضلة داعية إلى العمل الطالح غير أنها لا تحتم الضلال ففيها أثر من الهدى و إن كان ضعيفا، و الشاكلة العادلة أهدى منها فافهم.

و ذكر الإمام الرازي في تفسيره، ما ملخصه: أن الآية تدل على كون النفوس الناطقة الإنسانية مختلفة بالماهية و ذلك أنه تعالى بين في الآية المتقدمة أن القرآن بالنسبة إلى بعض النفوس يفيد الشفاء و الرحمة و بالنسبة إلى بعض آخر يفيد الخسار و الخزي ثم أتبعه بقوله: ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شَاكِلَتِهِ و معناه أن اللائق بتلك النفوس الطاهرة أن يظهر فيها من القرآن آثار الذكاء و الكمال، و بتلك النفوس الكدرة أن يظهر فيها منه آثار الخزي و الضلال كما أن الشمس تعقد الملح و تلين الدهن و تبيض ثوب القصار و يسود وجهه.

و هذا إنما يتم إذا كانت الأرواح و النفوس مختلفة بماهياتها فبعضها مشرقة صافية يظهر فيها من القرآن نور على نور، و بعضها كدرة ظلمانية يظهر فيها منه ضلال على ضلال و نكال على نكال. انتهى.

و فيه أنه لو أقام الحجة على اختلاف ماهيات النفوس بعد رسوخ ملكاتها و تصورها

 

 

 

 بصورها لكان له وجه، و أما النفوس الساذجة قبل رسوخ الملكات فلا تختلف بالآثار اختلافا ضروريا حتى تجري فيها الحجة، و قد عرفت أن الآية إنما تتعرض لحال الإنسان بعد حصول شاكلته و شخصيته الخلقية الحاصلة من مجموع غرائزه و العوامل الخارجية الفاعلة فيه الداعية إلى نوع من العمل دعوة على نحو الاقتضاء فتبصر.

بحث فلسفي كلام في سنخية الفعل و فاعله

ذكر الحكماء أن بين الفعل و فاعله و يعنون به المعلول و علته الفاعلة سنخية وجودية و رابطة ذاتية يصير بها وجود الفعل كأنه مرتبة نازلة من وجود فاعله و وجود الفاعل كأنه مرتبة عالية من وجود فعله بل الأمر على ذلك بناء على أصالة الوجود و تشكيكه.

و بينوا ذلك بأنه لو لم يكن بين الفعل المعلول و علته الفاعلة له مناسبة ذاتية و خصوصية واقعية بها يختص أحدهما بالآخر كانت نسبة الفاعل إلى فعله كنسبته إلى غيره كما كانت نسبة الفعل إلى فاعله كنسبته إلى غيره فلم يكن لاستناد صدور الفعل إلى فاعله معنى، و نظير البرهان يجري في المعلول بالنسبة إلى سائر العلل و يثبت الرابطة بينه و بينها غير أن العلة الفاعلة لما كانت هي المقتضية لوجود المعلول و معطي الشي‏ء غير فاقده كانت العلة الفاعلة واجدة لكمال وجود المعلول و المعلول ممثلا لوجودها في مرتبة نازلة.

و قد بين ذلك صدر المتألهين بوجه أدق و ألطف و هو أن المعلول مفتقر في وجوده إلى العلة الفاعلة متعلق الذات بها، و ليس من الجائز أن يتأخر هذا الفقر و التعلق عن مرتبة ذاته و يكون هناك ذات ثم فقر و تعلق و إلا استغنى بحسب ذاته عن العلة و استقل بنفسه عنها فلم يكن معلولا هف فذاته عين الفقر و التعلق فليس له من الوجود إلا الرابط غير المستقل و ما يتراءى فيه من استقلال الوجود المفروض معه أولا إنما هو استقلال علته فوجود المعلول يحاكي وجود علته و يمثله في مرتبته التي له من الوجود.

تعقيب البحث السابق من جهة القرآن‏

التدبر في الآيات القرآنية لا يدع ريبا في أن القرآن الكريم يعد الأشياء على

 

 

 

 اختلاف وجوهها و تشتت أنواعها آيات له تعالى دالة على أسمائه و صفاته فما من شي‏ء إلا و هو آية في وجوده و في أي جهة مفروضة في وجوده له تعالى مشيرة إلى ساحة عظمته و كبريائه، و الآية و هي العلامة الدالة من حيث إنها آية وجودها مرآتي فإن في ذي الآية الذي هو مدلولها غير مستقلة دونه إذ لو استقلت في وجوده أو في جهة من جهات وجوده لم تكن من تلك الجهة مشيرة إليه دالة عليه آية له هف.

فالأشياء بما هي مخلوقة له تعالى أفعاله، و هي تحاكي بوجودها و صفات وجودها وجوده سبحانه و كرائم صفاته و هو المراد بمسانخة الفعل لفاعله لا أن الفعل واجد لهوية الفاعل مماثل لحقيقة ذاته فإن الضرورة تدفعه.

(بيان‏)

قوله تعالى: ﴿وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلرُّوحِ قُلِ اَلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَ مَا أُوتِيتُمْ مِنَ اَلْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً الروح‏ على ما يعرف في اللغة هو مبدأ الحياة الذي به يقوى الحيوان على الإحساس و الحركة الإرادية و لفظه يذكر و يؤنث، و ربما يتجوز فيطلق على الأمور التي يظهر بها آثار حسنة مطلوبة كما يعد العلم حياة للنفوس قال تعالى: ﴿أَ وَ مَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ: الأنعام: ١٢٢ أي بالهداية إلى الإيمان و على هذا المعنى حمل جماعة مثل قوله: ﴿يُنَزِّلُ اَلْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ: النحل: ٢ أي بالوحي و قوله: ﴿وَ كَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا: الشورى: ٥٢ أي القرآن الذي هو وحي فذكروا أنه تعالى سمى الوحي أو القرآن روحا لأن به حياة النفوس الميتة كما أن الروح المعروف به حياة الأجساد الميتة.

و كيف كان فقد تكرر في كلامه تعالى ذكر الروح في آيات كثيرة مكية و مدنية، و لم يرد في جميعها المعنى الذي نجده في الحيوان و هو مبدأ الحياة الذي يتفرع عليه الإحساس و الحركة الإرادية كما في قوله: ﴿يَوْمَ يَقُومُ اَلرُّوحُ وَ اَلْمَلاَئِكَةُ صَفًّا: النبأ: ٣٨، و قوله: ﴿تَنَزَّلُ اَلْمَلاَئِكَةُ وَ اَلرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ: القدر: ٤ و لا ريب أن المراد به في الآية غير الروح الحيواني و غير الملائكة و قد تقدم الحديث عن علي (عليه السلام) أنه احتج بقوله تعالى: ﴿يُنَزِّلُ اَلْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ: النحل:

 ٢ على أن الروح غير الملائكة، و قد وصفه تارة بالقدس و تارة بالأمانة كما سيأتي لطهارته

 

 

 

 عن الخيانة و سائر القذارات المعنوية و العيوب و العاهات التي لا تخلو عنها الأرواح الإنسية.

و هو و إن كان غير الملائكة غير أنه يصاحبهم في الوحي و التبليغ كما يظهر من قوله: ﴿يُنَزِّلُ اَلْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ الآية فقد قال تعالى:

﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اَللَّهِ: البقرة: ٩٧ فنسب تنزيل القرآن على قلبه (ص) إلى جبريل ثم قال: ﴿نَزَلَ بِهِ اَلرُّوحُ اَلْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ اَلْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ: الشعراء: ١٩٥ و قال: ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ اَلْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ: النحل: ١٠٢ فوضع الروح و هو غير الملائكة بوجه مكان جبريل و هو من الملائكة فجبريل ينزل بالروح و الروح يحمل هذا القرآن المقرو المتلو.

و بذلك تنحل العقدة في قوله تعالى: ﴿وَ كَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا: الشورى: ٥٢ و يظهر أن المراد من وحي الروح في الآية هو إنزال روح القدس إليه (ص) و إنزاله إليه هو الوحي القرآن إليه لكونه يحمله على ما تبين فلا موجب لما ذكره بعضهم على ما نقلناه آنفا أن المراد بالروح في الآية هو القرآن.

و أما نسبة الوحي و هو الكلام الخفي إلى الروح بهذا المعنى و هو من الموجودات العينية و الأعيان الخارجية فلا ضير فيه فإن هذه الموجودات الطاهرة كما أنها موجودات مقدسة من خلقه تعالى كذلك هي كلمات منه تعالى كما قال في عيسى بن مريم (عليه السلام):

﴿وَ كَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلى مَرْيَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ: النساء: ١٧١ فعد الروح كلمة دالة على المراد فمن الجائز أن يعد الروح وحيا كما عد كلمة و إنما سماه كلمة منه لأنه إنما كان عن كلمة الإيجاد من غير أن يتوسط فيه السبب العادي في كينونة الناس بدليل قوله:

﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اَللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ: آل عمران: ٥٩ و قد زاد سبحانه في إيضاح حقيقة الروح حيث قال: ﴿قُلِ اَلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي و ظاهر ﴿مِنْ أنها لتبيين الجنس كما في نظائرها من الآيات ﴿يُلْقِي اَلرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ: المؤمن: ١٥ ﴿يُنَزِّلُ اَلْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ﴿أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا ﴿تَنَزَّلُ اَلْمَلاَئِكَةُ وَ اَلرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ فالروح من سنخ الأمر.

 

 

 

 ثم عرف أمره في قوله: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ اَلَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ: يس: ٨٤ فبين أولا أن أمره هو قوله للشي‏ء:

«كن» و هو كلمة الإيجاد التي هي الإيجاد و الإيجاد هو وجود الشي‏ء لكن لا من كل جهة بل من جهة استناده إليه تعالى و قيامه به فقوله فعله.

و من الدليل على أن وجود الأشياء قول له تعالى من جهة نسبته إليه مع إلغاء الأسباب الوجودية الأخر قوله تعالى: ﴿وَ مَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ»:

القمر: ٥٠ حيث شبه أمره بعد عده واحدة بلمح بالبصر و هذا النوع من التشبيه لنفي التدريج و به يعلم أن في الأشياء المكونة تدريجا الحاصلة بتوسط الأسباب الكونية المنطبقة على الزمان و المكان جهة معراة عن التدريج خارجة عن حيطة الزمان و المكان هي من تلك الجهة أمره و قوله و كلمته، و أما الجهة التي هي بها تدريجية مرتبطة بالأسباب الكونية منطبقة على الزمان و المكان فهي بها من الخلق قال تعالى: ﴿أَلاَ لَهُ اَلْخَلْقُ وَ اَلْأَمْرُ: الأعراف: ٥٤ فالأمر هو وجود الشي‏ء من جهة استناده إليه تعالى وحده و الخلق هو ذلك من جهة استناده إليه مع توسط الأسباب الكونية فيه.

و يستفاد ذلك أيضا من قوله: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اَللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ الآية حيث ذكر أولا خلق آدم و ذكر تعلقه بالتراب و هو من الأسباب ثم ذكر وجوده و لم يعلقه بشي‏ء إلا بقوله: ﴿كُنْ فافهم ذلك و نظيره قوله: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا اَلنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا اَلْعَلَقَةَ مُضْغَةً إلى أن قال ﴿ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ: المؤمنون: ١٤ فعد إيجاده المنسوب إلى نفسه من غير تخلل الأسباب الكونية إنشاء خلق آخر.

فظهر بذلك كله أن الأمر هو كلمة الإيجاد السماوية و فعله تعالى المختص به الذي لا تتوسط فيه الأسباب، و لا يتقدر بزمان أو مكان و غير ذلك.

ثم بين ثانيا أن أمره في كل شي‏ء هو ملكوت ذلك الشي‏ء و الملكوت أبلغ من الملك فلكل شي‏ء ملكوت كما أن له أمرا قال تعالى: ﴿أَ وَ لَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ: الأعراف: ١٨٥ و قال: ﴿وَ كَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ: الأنعام: ٧٥ و قال: ﴿تَنَزَّلُ اَلْمَلاَئِكَةُ وَ اَلرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ الآية: القدر: ٤.

 

 

 

فقد بان بما مر أن الأمر هو كلمة الإيجاد و هو فعله تعالى الخاص به الذي لا يتوسط فيه الأسباب الكونية بتأثيراتها التدريجية و هو الوجود الأرفع من نشأة المادة و ظرف الزمان، و أن الروح بحسب وجوده من سنخ الأمر من الملكوت.

و قد وصف تعالى أمر الروح في كلامه وصفا مختلفا فأفرده بالذكر في مثل قوله:

﴿يَوْمَ يَقُومُ اَلرُّوحُ وَ اَلْمَلاَئِكَةُ صَفًّا: النبأ: ٣٨، و قوله: ﴿تَعْرُجُ اَلْمَلاَئِكَةُ وَ اَلرُّوحُ إِلَيْهِ الآية: المعارج: ٤.

و يظهر من كلامه أن منه ما هو مع الملائكة كقوله في الآيات المنقولة آنفا: ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ ﴿نَزَلَ بِهِ اَلرُّوحُ اَلْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ اَلْقُدُسِ و قوله: ﴿فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيًّا: مريم: ١٧.

و منه ما هو منفوخ في الإنسان عامة قال تعالى: ﴿ثُمَّ سَوَّاهُ وَ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ: الم السجدة: ٩ و قال: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي: الحجر: ٢٩ - ص: ٧٢.

و منه ما هو مع المؤمنين كما يدل عليه قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ اَلْإِيمَانَ وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ: المجادلة: ٢٢ و يشعر به بل يدل عليه أيضا قوله: ﴿أَ وَ مَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَ جَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي اَلنَّاسِ: الأنعام: ١٢٢ فإن المذكور في الآية حياة جديدة و الحياة فرع الروح.

و منه ما نزل إلى الأنبياء (عليه السلام) كما يدل عليه قوله: ﴿يُنَزِّلُ اَلْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا الآية: النحل: ٢ و قوله: ﴿وَ آتَيْنَا عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ اَلْبَيِّنَاتِ وَ أَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ اَلْقُدُسِ: البقرة: ٨٧ و قوله: ﴿وَ كَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا: الشورى: ٥٢ إلى غير ذلك.

و من الروح ما تشعر به الآيات التي تذكر أن في غير الإنسان من الحيوان حياة و أن في النبات حياة، و الحياة متفرعة على الروح ظاهرا.

فقد تبين بما قدمناه على طوله معنى قوله تعالى: ﴿يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلرُّوحِ قُلِ اَلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي و أن السؤال إنما هو عن حقيقة مطلق الروح الوارد في كلامه سبحانه، و أن الجواب مشتمل على بيان حقيقة الروح و أنه من سنخ الأمر بالمعنى الذي تقدم

 

 

 

 و أما قوله: ﴿وَ مَا أُوتِيتُمْ مِنَ اَلْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً أي ما عندكم من العلم بالروح الذي آتاكم الله ذلك قليل من كثير فإن له موقعا من الوجود و خواص و آثارا في الكون عجيبة بديعة أنتم عنها في حجاب.

و للمفسرين في المراد من الروح المسئول عنه و المجاب عنه أقوال:

فقال بعضهم: إن المراد بالروح المسئول عنه هو الروح الذي يذكره الله في قوله:

﴿يَوْمَ يَقُومُ اَلرُّوحُ وَ اَلْمَلاَئِكَةُ صَفًّا و قوله: ﴿تَعْرُجُ اَلْمَلاَئِكَةُ وَ اَلرُّوحُ إِلَيْهِ الآية، و لا دليل لهم على ذلك.

و قال بعضهم: إن المراد به جبريل فإن الله سماه روحا في قوله: ﴿نَزَلَ بِهِ اَلرُّوحُ اَلْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ و فيه أن مجرد تسميته روحا في بعض كلامه لا يستلزم كونه هو المراد بعينه أينما ذكر على أن لهذه التسمية معنى خاصا أومأنا إليه في سابق الكلام، و لو لا ذلك لكان عيسى و جبريل واحدا لأن الله سمى كلا منهما روحا.

و قال بعضهم: إن المراد به القرآن لأن الله سماه روحا في قوله: ﴿وَ كَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا الآية فيكون محصل السؤال و الجواب أنهم يسألونك عن القرآن أ هو من الله أو من عندك؟ فأجبهم أنه من أمر ربي لا يقدر على الإتيان بمثله غيره فهو آية معجزة دالة على صحة رسالتي و ما أوتيتم من العلم به إلا قليلا من غير أن تحيطوا به فتقدروا على الإتيان بمثله قالوا: و الآية التالية: ﴿وَ لَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ يؤيد هذا المعنى.

و فيه أن تسميته في بعض كلامه روحا لا تستلزم كونه هو المراد كلما أطلق كما تقدم آنفا. على أنك قد عرفت ما في دعوى هذه التسمية. على أن الآية التالية لا تتعين تأييدا لهذا الوجه بل تلائم بعض الوجوه الآخر أيضا.

و قال بعضهم: إن المراد به الروح الإنساني فهو المتبادر من إطلاقه و قوله: ﴿قُلِ اَلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ترك للبيان و نهي عن التوغل في فهم حقيقة الروح فإنه من أمر الله الذي استأثر بعلمه و لم يطلع على حقيقته أحدا ثم اختلفوا في حقيقته بين قائل بأنه جسم هوائي متردد في مخارق البدن، و قائل بأنه جسم هوائي في هيئة البدن حال فيه

 

 

 

 و خروجه موته، و قائل بأنه أجزاء أصلية في القلب و قائل بأنه عرض في البدن، و قائل بأنه نفس البدن إلى غير ذلك.

و فيه أن التبادر في كلامه تعالى ممنوع، و التدبر في الآيات المتعرضة لأمر الروح كما قدمناه يدفع جميع ما ذكروه.

و قال بعضهم: إن المراد به مطلق الروح الواقع في كلامه و السؤال إنما هو عن كونه قديما أو محدثا فأجيب بأنه يحدث عن أمره و فعله تعالى، و فعله محدث لا قديم.

و فيه أن تعميم الروح لجميع ما وقع منه في كلامه تعالى و إن كان في محله لكن إرجاع السؤال إلى حدوث الروح و قدمه و توجيه الجواب بما يناسبه دعوى لا دليل عليها من جهة اللفظ.

ثم إن لهم اختلافا في معنى قوله: ﴿اَلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي أ هو جواب مثبت أو ترك للجواب و صرف عن السؤال على قولين، و الوجوه المتقدمة في معنى الروح مختلفة في المناسبة مع هذين القولين فالمتعين في بعضها القول الأول و في بعضها الثاني، و قد أشرنا إلى مفي ضمن الأقوال.

ثم إن لهم اختلافا آخر في المخاطبين بقوله: ﴿وَ مَا أُوتِيتُمْ مِنَ اَلْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً أ هم اليهود أو قريش لو كانوا هم السائلين بتعليم من اليهود أو هم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و غير النبي من الناس؟ و الأنسب بالسياق أن يكون الخطاب متوجها إلى السائلين و الكلام من تمام قول النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)، و أن السائلين هم اليهود لأنهم كانوا معروفين يومئذ بالعلم و في الكلام إثبات علم ما لهم دون قريش و كفار العرب و قد عبر تعالى عنهم في بعض كلامه‏[1]

بالذين لا يعلمون.

قوله تعالى: ﴿وَ لَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً الكلام متصل بما قبله فإن الآية السابقة و إن كانت متعرضة لأمر مطلق الروح و هو ذو مراتب مختلفة إلا أن الذي ينطبق عليه منه بحسب سياق الآيات السابقة المسوقة في أمر القرآن هو الروح السماوي النازل على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) الملقي إليه القرآن.

 

 

 

 

 فالمعنى و الله أعلم الروح النازل عليك الملقي بالقرآن إليك من أمرنا غير خارج من قدرتنا، و أقسم لئن شئنا لنذهبن بهذا الروح الذي هو كلمتنا الملقاة إليك ثم لا تجد أحدا يكون وكيلا به لك علينا يدافع عنك و يطالبنا به و يجبرنا على رد ما أذهبنا به.

و بذلك يظهر أولا: أن المراد بالذي أوحينا إليك الروح الإلهي الذي هي كلمة ملقاة من الله إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) على حد قوله: ﴿وَ كَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا: الشورى: ٥٤.

و ثانيا: أن المراد بالوكيل للمطالبة و الرد لما أذهبه الله دون الوكيل في حفظ القرآن و تلاوته على ما فسره بعض المفسرين و هو مبني على تفسير قوله: ﴿بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ بالقرآن دون الروح النازل به كما قدمنا.

قوله تعالى: ﴿إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً استثناء من محذوف يدل عليه السياق، و التقدير فما اختصصت بما اختصصت به و لا أعطيت ما أعطيت من نزول الروح و ملازمته إياك إلا رحمة من ربك، ثم علله بقوله: ﴿إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً و هو وارد مورد الامتنان.

قوله تعالى: ﴿قُلْ لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ اَلْإِنْسُ وَ اَلْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا اَلْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً الظهير هو المعين مأخوذ من الظهر كالرئيس من الرأس، و قوله: ﴿بِمِثْلِهِ من وضع الظاهر موضع المضمر و ضميره عائد إلى القرآن.

و في الآية تحد ظاهر، و هي ظاهرة في أن التحدي بجميع ما للقرآن من صفات الكمال الراجعة إلى لفظه و معناه لا بفصاحته و بلاغته وحدها فإن انضمام غير أهل اللسان إليهم لا ينفع في معارضة البلاغة شيئا و قد اعتنت الآية باجتماع الثقلين و إعانة بعضهم لبعض.

على أن الآية ظاهرة في دوام التحدي و قد انقرضت العرب العرباء أعلام الفصاحة و البلاغة اليوم فلا أثر منهم، و القرآن باق على إعجازه متحد بنفسه كما كان.

قوله تعالى: ﴿وَ لَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا اَلْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ اَلنَّاسِ إِلاَّ

 

 

 

 كُفُوراً تصريف الأمثال ردها و تكرارها و تحويلها من بيان إلى بيان و من أسلوب إلى أسلوب، و المثل هو وصف المقصود بما يمثله و يقربه من ذهن السامع، و ﴿مِنْ في قوله: ﴿مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لابتداء الغاية، و المراد من كل مثل يوضح لهم سبيل الحق و يمهد لهم طريق الإيمان و الشكر بقرينة قوله: ﴿فَأَبى أَكْثَرُ اَلنَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً و الكلام مسوق للتوبيخ و الملامة.

و في قوله: ﴿أَكْثَرُ اَلنَّاسِ وضع الظاهر موضع المضمر و الأصل أكثرهم و لعل الوجه فيه الإشارة إلى أن ذلك مقتضى كونهم ناسا كما مر في قوله: ﴿وَ كَانَ اَلْإِنْسَانُ كَفُوراً: أسرى: ٦٧.

و المعنى: و أقسم لقد كررنا للناس في هذا القرآن من كل مثل يوضح لهم الحق و يدعوهم إلى الإيمان بنا و الشكر لنعمنا فأبى أكثر الناس إلا أن يكفروا و لا يشكروا.

قوله تعالى: ﴿وَ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ اَلْأَرْضِ يَنْبُوعاً إلى قوله ﴿كِتَاباً نَقْرَؤُهُ الفجر الفتح و الشق و كذلك التفجير إلا أنه يفيد المبالغة و التكثير، و الينبوع‏ العين التي لا ينضب ماؤها، و خلال‏ الشي‏ء وسطه و أثناؤه، و الكسف‏ جمع كسفة كقطع جمع قطعة وزنا و معنى، و القبيل‏ هو المقابل كالعشير و المعاشر، و الزخرف الذهب، و الرقي‏ الصعود و الارتقاء.

و الآيات تحكي الآيات المعجزة التي اقترحتها قريش على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و علقوا إيمانهم به عليها مستهينة بالقرآن الذي هو معجزة خالدة.

و المعنى ﴿وَ قَالُوا أي قالت قريش ﴿لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ يا محمد ﴿حَتَّى تَفْجُرَ و تشق ﴿لَنَا مِنَ اَلْأَرْضِ أرض مكة لقلة مائها ﴿يَنْبُوعاً عينا لا ينضب ماؤها ﴿أَوْ تَكُونَ بالإعجاز ﴿لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَ عِنَبٍ فَتُفَجِّرَ اَلْأَنْهَارَ أي تشقها أو تجريها ﴿خِلاَلَهَا أي وسط تلك الجنة و أثناءها ﴿تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ اَلسَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ أي مماثلا لما زعمت يشيرون‏[2] به إلى قوله تعالى: ﴿أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ اَلسَّمَاءِ: السبا: ٩ ﴿عَلَيْنَا كِسَفاً و قطعا ﴿أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَ اَلْمَلاَئِكَةِ قَبِيلاً مقابلا نعاينهم و نشاهدهم

 

﴿أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ و ذهب ﴿أَوْ تَرْقى و تصعد ﴿فِي اَلسَّمَاءِ وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ و صعودك ﴿حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا منها ﴿كِتَاباً نَقْرَؤُهُ و نتلوه.

قوله تعالى: ﴿قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً فيه أمره (ص) أن يجيب عما اقترحوه عليه و ينبههم على جهلهم و مكابرتهم فيما لا يخفى على ذي نظر فإنهم سألوه أمورا عظاما لا يقوى على أكثرها إلا القدرة الغيبية الإلهية و فيها ما هو مستحيل بالذات كالإتيان بالله و الملائكة قبيلا، و لم يرضوا بهذا المقدار و لم يقنعوا به دون أن جعلوه هو المسئول المتصدي لذلك المجيب لما سألوه فلم يقولوا لن نؤمن لك حتى تسأل ربك أن يفعل كذا و كذا بل قالوا: ﴿لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ إلخ ﴿أَوْ تَكُونَ لَكَ إلخ ﴿أَوْ تُسْقِطَ اَلسَّمَاءَ إلخ ﴿أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ إلخ ﴿أَوْ يَكُونَ لَكَ إلخ ﴿أَوْ تَرْقى فِي اَلسَّمَاءِ وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَؤُهُ.

فإن أرادوا منه ذلك بما أنه بشر فأين البشر من هذه القدرة المطلقة غير المتناهية المحيطة حتى بالمحال الذاتي، و إن أرادوا منه ذلك بما أنه يدعي الرسالة فالرسالة لا تقتضي إلا حمل ما حمله الله من أمره و بعثه لتبليغه بالإنذار و التبشير لا تفويض القدرة الغيبية إليه و إقداره أن يخلق كل ما يريد، و يوجد كل ما شاءوا، و هو (ص) لا يدعي لنفسه ذلك فاقتراحهم ما اقترحوه مع ظهور الأمر من عجيب الاقتراح.

و لذلك أمره (ص) أن يبادر في جوابهم أولا إلى تنزيه ربه مما يلوح إليه اقتراحهم هذا من المجازفة و تفويض القدرة إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)، و لا يبعد أن يستفاد منه التعجب فالمقام صالح لذلك.

و ثانيا: إلى الجواب بقوله في صورة الاستفهام: ﴿هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً و هو يؤيد كون قوله: ﴿سُبْحَانَ رَبِّي واقعا موقع التعجب أي إن كنتم اقترحتم على هذه الأمور و طلبتموها مني بما أنا محمد فإنما أنا بشر و لا قدرة للبشر على شي‏ء من هذه الأمور، و إن كنتم اقترحتموها لأني رسول أدعي الرسالة فلا شأن للرسول إلا حمل الرسالة و تبليغها لا تقلد القدرة الغيبية المطلقة.

و قد ظهر بهذا البيان أن كلا من قوله: ﴿بَشَراً و ﴿رَسُولاً دخيل في استقامة الجواب عن اقتراحهم أما قوله: ﴿بَشَراً فليرد به اقتراحهم عليه أن يأتي بهذه

 

 

 

 الآيات عن قدرته في نفسه، و أما قوله: ﴿رَسُولاً فليرد به اقتراح إيتائها عن قدرة مكتسبة من ربه.

و ذكر بعضهم ما محصله أن معتمد الكلام هو قوله: ﴿رَسُولاً و قوله: ﴿بَشَراً توطئة له ردا لما أنكروه من جواز كون الرسول بشرا، و دلالة على أن من قبله من الرسل كانوا كذلك، و المعنى على هذا هل كنت إلا بشرا رسولا كسائر الرسل و كانوا لا يأتون إلا بما أجراه على أيديهم من غير أن يفوض إليهم أو يتحكموا على ربهم بشي‏ء.

قال: و جعل ﴿بَشَراً و ﴿رَسُولاً كليهما معتمدين مخالف لما يظهر من الآثار أولا فإن الذي ورد في الآثار أنهم سألوا النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يسأل ربه أن يفعل كذا و كذا، و لم يسألوه أن يأتيهم بشي‏ء من قبل نفسه حتى يشار إلى رده بإثبات بشريته، و مستلزم لكون رسولا خبرا بعد خبر و كونهما خبرين لكان يأباه الذوق السليم.

انتهى محصلا.

و فيه أولا: أن أخذ قوله: ﴿بَشَراً ردا على زعمهم عدم جواز كون الرسول بشرا مع عدم اشتمال الآيات على مزعمتهم هذه لا تصريحا و لا تلويحا تحميل من غير دليل.

و ثانيا: أن الذي ذكره في معنى الآية «هل كنت إلا بشرا رسولا كسائر الرسل و كانوا لا يأتون إلا كذا و كذا» معتمد الكلام فيه هو التشبيه الذي في قوله: «كسائر الرسل» لا قوله: ﴿رَسُولاً و في حذف معتمد الكلام إفساد السياق فافهم ذلك.

و ثالثا: أن اشتمال الآثار على أنهم إنما سألوا النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يسأل ربه الإتيان بتلك الآيات من غير أن يسألوه نفسه أن يأتي بها، لا يعارض نص الكتاب بخلافه، و الذي حكاه الله عنهم أنهم قالوا: ﴿لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا إلخ‏﴿ فَتُفَجِّرَ اَلْأَنْهَارَ «إلخ» ﴿أَوْ تُسْقِطَ اَلسَّمَاءَ «إلخ» و هذا من عجيب المغالاة في حق الآثار و تحكيمها على كتاب الله و تقديمها عليه حتى في صورة المخالفة.

و رابعا: أن إباء الذوق السليم عن تجويز كون ﴿رَسُولاً خبرا بعد خبر لا يظهر له وجه.

قوله تعالى: ﴿وَ مَا مَنَعَ اَلنَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ اَلْهُدى إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَ بَعَثَ اَللَّهُ بَشَراً رَسُولاً

 

 

 

الاستفهام في قوله: ﴿أَ بَعَثَ اَللَّهُ بَشَراً رَسُولاً للإنكار، و جملة ﴿قَالُوا أَ بَعَثَ اَللَّهُ «إلخ» حكاية حالهم بحسب الاعتقاد و إن لم يتكلموا بهذه الكلمة بعينها.

و إنكار النبوة و الرسالة مع إثبات الإله من عقائد الوثنية، و هذه قرينة على أن المراد بالناس الوثنيون، و المراد بالإيمان الذي منعوه هو الإيمان بالرسول.

فمعنى الآية و ما منع الوثنيين و كانت قريش و عامة العرب يومئذ منهم أن يؤمنوا بالرسالة أو برسالتك إلا إنكارهم لرسالة البشر، و لذلك كانوا يردون على رسلهم دعوتهم كما حكاه الله بمثل قولهم: ﴿لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلاَئِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ: حم السجدة: ١٤.

قوله تعالى: ﴿قُلْ لَوْ كَانَ فِي اَلْأَرْضِ مَلاَئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً أمر سبحانه رسوله (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يرد عليهم قولهم و إنكارهم لرسالة البشر و نزول الوحي بأن العناية الإلهية قد تعلقت بهداية أهل الأرض و لا يكون ذلك إلا بوحي سماوي لا من عند أنفسهم فالبشر القاطنون في الأرض لا غنى لهم عن وحي سماوي بنزول ملك رسول إليهم و يختص بذلك نبيهم.

و هذه خاصة الحياة الأرضية و العيشة المادية المفتقرة إلى هداية إلهية لا سبيل إليها إلا بنزول الوحي من السماء حتى لو أن طائفة من الملائكة سكنوا الأرض و أخذوا يعيشون عيشة أرضية مادية لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا كما ننزل على البشر ملكا رسولا.

و العناية في الآية الكريمة. كما ترى متعلقة بجهتين إحداهما كون الحياة أرضية مادية، و الأخرى كون الهداية الواجبة بالعناية الإلهية بوحي نازل من السماء برسالة ملك من الملائكة.

و الأمر على ذلك فهاتان الجهتان أعني كون حياة النوع أرضية مادية و وجوب هدايتهم بواسطة سماوية و ملك علوي هما المقدمتان الأصليتان في البرهان على وجود الرسالة و لزومها.

و أما ما أصر عليه المفسرون من تقييد معنى الآية بوجوب كون الرسول من جنس

 

 

 

 المرسل إليهم و من أنفسهم كالإنسان للإنسان و الملك للملك فليس بتلك الأهمية، و لذلك لم يصرح به في الآية الكريمة.

و ذلك أن كون الرسول إلى البشر و هو الذي يعلمهم و يربيهم من أنفسهم من لوازم كون حياتهم أرضية، و كون الوحي النازل عليهم بواسطة الملك السماوي فإن اختلاف أفراد النوع المادية بالسعادة و الشقاء و الكمال و النقص و طهارة الباطن و قذارته ضروري و الملك الملقي للوحي و ما تحمله منه طاهر زكي لا يمسه إلا المطهرون، فالملك النازل بالوحي و إن نزل على النوع لكن لا يمسه إلا آحاد منهم مطهرون من قذارات المادة و ألواثها مقدسون من مس الشيطان و هم الرسل (ص).

و توضيح المقام: أن مقتضى العناية الإلهية هداية كل نوع من أنواع الخليقة إلى كماله و سعادته، و الإنسان الذي هو أحد هذه الأنواع غير مستثنى من هذه الكلية، و لا تتم سعادته في الحياة إلا بأن يعيش عيشة اجتماعية تحكم فيها قوانين و سنن تضمن سعادة حياته في الدنيا و بعدها، و ترفع الاختلافات الضرورية الناشئة بين الأفراد، و إذ كانت حياته حياة شعورية فلا بد أن يجهز بما يتلقى به هذه القوانين و السنن و لا يكفي في ذلك ما جهز به من العقل المميز بين خيره و شره فإن العقل بعينه يهديه إلى الاختلاف فلا بد أن يجهز بشعور آخر يتلقى به ما يفيضه الله من المعارف و القوانين الرافعة للاختلاف الضامنة لسعادته و كماله و هو شعور الوحي و الإنسان المتلبس به هو النبي.

و هذا برهان عقلي تام مأخوذ من كلامه و قد أوردناه و فصلنا القول فيه في مباحث النبوة من الجزء الثاني و في ضمن قصص نوح في الجزء العاشر من الكتاب.

و أما الآية التي نحن فيها أعني قوله: ﴿قُلْ لَوْ كَانَ فِي اَلْأَرْضِ مَلاَئِكَةٌ إلخ فإنها تزيد على ما مر من معنى البرهان بشي‏ء و هو أن إلقاء الوحي إلى البشر يجب أن يكون بنزول ملك من السماء إليهم.

و ذلك أن محصل مضمون الآية و ما قبلها هو أن الذي يمنع الناس أن يؤمنوا برسالتك أنهم يحيلون رسالة البشر من جانب الله سبحانه. و قد أخطئوا في ذلك

 

 

 

 فإن مقتضى الحياة الأرضية و عناية الله بهداية عباده أن ينزل إلى بعضهم ملكا من السماء رسولا حتى أن الملائكة لو كانوا كالإنسان عائشين في الأرض لنزل الله إلى بعضهم و هو رسولهم ملكا من السماء رسولا حاملا لوحيه.

و هذا كما ترى يعطي أولا: معنى الرسالة البشرية و هو أن الرسول إنسان ينزل عليه ملك من السماء بدين الله ثم هو يبلغه الناس بأمر الله.

و يشير ثانيا: إلى برهان الرسالة أن حياة الإنسان الأرضية و العناية الربانية متعلقة بهداية عباده و إيصالهم إلى غاياتهم لا غنى لها عن نزول دين سماوي عليهم، و الملائكة وسائط نزول البركات السماوية إلى الأرض فلا محالة ينزل الدين على الناس بوساطة الملك و هو رسالته، و الذي يشاهده و يتلقى ما ينزل به و لا يكون إلا بعض الناس لا جميعهم لحاجته إلى طهارة باطنية و روح من أمر الله هو الرسول البشري.

و كان المترقب من السياق أن يقال: «لبعث الله فيهم ملكا رسولا» بحذاء قولهم المحكي في الآية السابقة: ﴿أَ بَعَثَ اَللَّهُ بَشَراً رَسُولاً لكنه عدل إلى مثل قوله‏﴿

لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً ليكون أولا أحسم للشبهة و أقطع للتوهم فإن عامة الوثنيين من البرهمانية و البوذية و الصابئة كما يشهد به ما في كتبهم المقدسة لا يتحاشون ذاك التحاشي عن النبوة بمعنى انبعاث بشر كامل لتكميل الناس و يعبرون عنه بظهور المنجي أو المصلح و نزول الإله إلى الأرض و ظهوره على أهلها في صورة موجود أرضي و كان بوذه و يوذاسف على ما يقال منهم و المعبود عندهم على أي حال هو الملك أو الجن أو الإنسان المستغرق فيه دون الله سبحانه.

و إنما يمتنعون كل الامتناع عن رسالة الملك و هو من الآلهة المعبودين عندهم إلى البشر بدين يعبد فيه الله وحده و هو إله غير معبود عندهم ففي التصريح برسالة الملك السماوي إلى البشر الأرضي من عند الله النص على كمال المخالفة لهم.

و ليكون ثانيا إشارة إلى أن رسالة الملك بالحقيقة إلى عامة الإنسان غير أن الذي يصلح لتلقي الوحي منه هو الرسول منهم، و أما غيره فهم محرومون عن ذلك لعدم استعدادهم لذلك فالفيض عام و إن كان المستفيض خاصا قال تعالى: ﴿وَ مَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً: أسرى: ٢٠، و قال: ﴿قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ

 

 

 

 رُسُلُ اَللَّهِ اَللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ: الأنعام: ١٢٤.

و الآية بما تعطي من معنى الرسالة يؤيد ما ورد عن أئمة أهل البيت (عليه السلام) في الفرق بين الرسول و النبي أن الرسول هو الذي يرى الملك و يسمع منه و النبي يرى المنام و لا يعاين، و قد أوردنا بعض هذه الأخبار في خلال أبحاث النبوة في الجزء الثاني من الكتاب.

و من ألطف التعبير في الآية و أوجزه تعبيره عن الحياة الأرضية بقوله: ﴿فِي اَلْأَرْضِ مَلاَئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ فإن الانتقال المكاني على الأرض مع الوقوع تحت الجاذبة الأرضية من أوضح خواص الحياة المادية الأرضية.

قوله تعالى: ﴿قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً لما احتج عليهم بما احتج و بين لهم ما بين في أمر معجزة رسالته و هي القرآن الذي تحدى به و هم على عنادهم و جحودهم و عنتهم لا يعتنون به و يقترحون عليه بأمور جزافية أخرى و لا يحترمون لحق و لا ينقطعون عن باطل أمر أن يرجع الأمر إلى شهادة الله فهو شهيد بما وقع منه و منهم فقد بلغ ما أرسل به و دعا و احتج و أعذر و قد سمعوا و تمت عليهم الحجة و استكبروا و عتوا فالكلام في معنى إعلام قطع المحاجة و ترك المخاصمة و رد الأمر إلى مالك الأمر فليقض ما هو قاض.

و قيل المراد بالآية الاستشهاد بالله سبحانه على حقية الدعوة و صحة الرسالة كأنه يقول: كفاني حجة أن الله شهيد على رسالتي فهذا كلامه يصرح بذلك فإن قلتم: ليس بكلامه بل مما افتريته فأتوا بمثله و لن تأتوا بمثله و لو كان الثقلان أعوانا لكم و أعضادا يمدونكم.

و هذا في نفسه جيد غير أن ذيل الآية كما قيل لا يلائمه أعني قوله: ﴿بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ و قوله: ﴿إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً بل كان الأقرب أن يقال: شهيدا لي عليكم أو على رسالتي أو نحو ذلك.

و هذه الآية و الآيتان قبلها مسجعة بقوله: ﴿رَسُولاً و هو المورد الوحيد في القرآن الذي اتفقت فيه ثلاث آيات متوالية في سجع واحد على ما نذكر.

 

 

 

 قوله تعالى: ﴿وَ مَنْ يَهْدِ اَللَّهُ فَهُوَ اَلْمُهْتَدِ وَ مَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ إلخ هو على ما يشعر به السياق من تتمة الخطاب الأخير للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بقوله: ﴿قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ فهو كناية عن أنه تمت عليهم الحجة و حقت عليهم الضلالة فلا مطمع في هدايتهم.

و محصل المعنى: خاطبهم بإعلام قطع المحاجة فإن الهداية لله تعالى لا يشاركه فيها أحد فمن هداه فهو المهتدي لا غير و من أضله و لم يهده فلن تجد يا محمد له أولياء من دونه يهدونه و الله لا يهدي هؤلاء فانقطع عنهم و لا تكلف نفسك في دعوتهم رجاء أن يؤمنوا.

و من هنا يظهر أن قول بعضهم: إن الآية كلام مبتدأ غير داخل في حيز «قل» في غير محله.

و إنما أتى بأولياء بصيغة الجمع مع كون المفرد أبلغ و أشمل إشارة إلى أنه لو كان له ولي من دون الله لكان ذلك إما آلهتهم و هي كثيرة و إما سائر الأسباب الكونية و هي أيضا كثيرة.

و في قوله: ﴿وَ مَنْ يَهْدِ اَللَّهُ فَهُوَ اَلْمُهْتَدِ إلخ التفات من التكلم بالغير إلى الغيبة فقد كان السياق سياق التكلم بالغير و لعل الوجه فيه أنه لو قيل: و من نهد و من نضل على التكلم بالغير أوهم تشريك الملائكة في أمر الهداية و الإضلال فأوهم التناقض في قوله:

﴿فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ فإن الأولياء عندهم الملائكة و هم يتخذونهم آلهة و يعبدونهم.

قوله: ﴿وَ نَحْشُرُهُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ إلى آخر الآيتين العمى و البكم و الصم جمع أعمى و أبكم و أصم، و خبو النار و خبوها سكون لهبها، و السعير لهب النار، و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ﴿أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اَللَّهَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ قَادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ إلى آخر الآية، الكفور الجحود، احتجاج منه تعالى على البعث بعد الموت فقد كان قولهم: ﴿أَ إِذَا كُنَّا عِظَاماً وَ رُفَاتاً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً استبعادا مبنيا على إحالة أن يعود هذا البدن الدنيوي بعد تلاشيه و صيرورته عظاما و رفاتا إلى ما كان ـ

 

 

 

عليه بخلق جديد فاحتج عليهم بأن خلق البدن أولا يثبت القدرة عليه و على مثله الذي هو الخلق الجديد للبعث فحكم الأمثال واحد.

فالمماثلة إنما هي من جهة مقايسة البدن الجديد من البدن الأول مع قطع النظر عن النفس التي هي الحافظة لوحدة الإنسان و شخصيته، و لا ينافي ذلك كون الإنسان الأخروي عين الإنسان الدنيوي لا مثله لأن ملاك الوحدة و الشخصية هي النفس الإنسانية و هي محفوظة عند الله سبحانه غير باطلة و لا معدومة، و إذا تعلقت بالبدن المخلوق جديدا كان هو الإنسان الدنيوي كما أن الإنسان في الدنيا واحد شخصي باق على وحدته الشخصية مع تغير البدن بجميع أجزائه حينا بعد حين.

و الدليل على أن النفس التي هي حقيقة الإنسان محفوظة عند الله مع تفرق أجزاء البدن و فساد صورته قوله تعالى: ﴿وَ قَالُوا أَ إِذَا ضَلَلْنَا فِي اَلْأَرْضِ أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ اَلْمَوْتِ اَلَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ: الم السجدة: ١١ حيث استشكلوا في المعاد بأنه تجديد للخلق بعد فناء الإنسان بتفرق أجزاء بدنه فأجيب عنه بأن ملك الموت يتوفى الإنسان و يأخذه تاما كاملا فلا يضل و لا يتلاشى، و إنما الضال بدنه و لا ضير في ذلك فإن الله يجدده.

و الدليل على أن الإنسان المبعوث هو عين الإنسان الدنيوي لا مثله جميع آيات القيامة الدالة على رجوع الإنسان إليه تعالى و بعثه و سؤاله و حسابه و مجازاته بما عمل.

فهذا كله يشهد على أن المراد بالمماثلة ما ذكرناه، و إنما تعرض لأمر البدن حتى ينجر إلى ذكر المماثلة محاذاة لمتن ما استشكلوا به من قولهم: ﴿أَ إِذَا كُنَّا عِظَاماً وَ رُفَاتاً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً فلم يضمنوا قولهم إلا شئون البدن لا النفس المتوفاة منه، و إذا قطع النظر عن النفس كان البدن مماثلا للبدن، و إن كان مع اعتبارها عينا.

و ذكر بعضهم: أن المراد بمثلهم نفسهم فهو من قبيل قولهم: مثلك لا يفعل هذا أي أنت لا تفعله. و للمناقشة إليه سبيل و الظاهر أن العناية في هذا التركيب أن مثلك لاشتماله على مثل ما فيك من الصفة لا يفعل هذا فأنت لا تفعله لمكان صفتك ففيه نفي الفعل بنفي سببه على سبيل الكناية، و هو آكد من قولنا: أنت لا تفعله.

و قوله: ﴿وَ جَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَ رَيْبَ فِيهِ الظاهر أن المراد بالأجل هو زمان الموت

 

 

 

 فإن الأجل إما مجموع مدة الحياة الدنيا و هي محدودة بالموت و إما آخر زمان الحياة و يقارنه الموت و كيف كان فالتذكير بالموت الذي لا ريب فيه ليعتبروا به و يكفوا عن الجرأة على الله و تكذيب آياته فهو قادر على بعثهم و الانتقام منهم بما صنعوا.

فقوله: ﴿وَ جَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَ رَيْبَ فِيهِ ناظر إلى قوله في صدر الآية السابقة:

﴿ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا فهو نظير قوله: ﴿وَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ إلى أن قال ﴿أَ وَ لَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ إلى أن قال ﴿وَ أَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اِقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ: الأعراف: ١٨٥.

و جوز بعضهم أن يكون المراد بالأجل هو يوم القيامة، و هو لا يلائم السياق فإن سابق الكلام يحكي إنكارهم للبعث ثم يحتج عليهم بالقدرة فلا يناسبه أخذ البعث مسلما لا ريب فيه.

و نظيره تقرير بعضهم قوله: ﴿وَ جَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَ رَيْبَ فِيهِ حجة أخرى مسوقة لإثبات يوم القيامة على كل من تقديري كون المراد بالأجل هو يوم الموت أو يوم القيامة، و هو تكلف لا يعود إلى جدوى البتة فلا موجب للاشتغال به.

قوله تعالى: ﴿قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ اَلْإِنْفَاقِ وَ كَانَ اَلْإِنْسَانُ قَتُوراً فسر القتور بالبخيل المبالغ في الإمساك و قال في المجمع،: القتر التضييق و القتور فعول منه للمبالغة، و يقال: قتر يقتر و تقتر و أقتر و قتر إذا قدر في النفقة انتهى.

و هذا توبيخ لهم على منعهم رسالة البشر المنقول عنهم سابقا بقوله: ﴿وَ مَا مَنَعَ اَلنَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ اَلْهُدى إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَ بَعَثَ اَللَّهُ بَشَراً رَسُولاً و معنى الآية ظاهر.

بحث روائي

 في تفسير العياشي، عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إنما الشفاء في علم

 

 

 

 القرآن لقوله: ﴿مَا هُوَ شِفَاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ الحديث.

 و في الكافي، بإسناده عن سفيان بن عيينة عن أبي عبد الله (عليه السلام): قال: قال:

النية أفضل من العمل ألا و إن النية هي العمل ثم قرأ قوله عز و جل: ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شَاكِلَتِهِ يعني على نيته.

 أقول: و قوله: إن النية هي العمل يشير إلى اتحادهما اتحاد العنوان و معنونه.

 و فيه، بإسناده عن أبي هاشم قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إنما خلد أهل النار في النار لأن نياتهم كانت في الدنيا أن لو خلدوا فيها أن يعصوا الله أبدا و إنما خلد أهل الجنة في الجنة لأن نياتهم كانت في الدنيا أن لو بقوا فيها أن يطيعوا الله أبدا فبالنيات خلد هؤلاء و هؤلاء. ثم تلا قوله تعالى: ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شَاكِلَتِهِ قال: على نيته.

 أقول: إشارة إلى رسوخ الملكات بحيث يبطل في النفس استعداد ما يقابلها و روى الرواية العياشي أيضا في تفسيره، عن أبي هاشم عنه (عليه السلام).

و في الدر المنثور، ":في قوله تعالى: ﴿يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلرُّوحِ الآية" :أخرج أحمد و الترمذي و صححه و النسائي و ابن المنذر و ابن حبان و أبو الشيخ في العظمة، و الحاكم و صححه و ابن مردويه و أبو نعيم و البيهقي كلاهما في الدلائل، عن ابن عباس قال ":قالت قريش لليهود: أعطونا شيئا نسأل هذا الرجل فقالوا: سلوه عن الروح فسألوه فنزلت: ﴿يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلرُّوحِ قُلِ اَلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَ مَا أُوتِيتُمْ مِنَ اَلْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً قالوا: أوتينا علما كثيرا أوتينا التوراة و من أوتي التوراة فقد أوتي خيرا كثيرا فأنزل الله: ﴿قُلْ لَوْ كَانَ اَلْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ اَلْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَ لَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً.

أقول: و روي بطرق أخرى عن عبد الله بن مسعود و عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أم الحكم" :أن السؤال إنما كان من اليهود بالمدينة و بها نزلت الآية و كون السورة مكية و اتحاد سياق آياتها لا يلائم ذلك.

 و فيه، أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن الأنباري في كتاب الأضداد، و أبو الشيخ في العظمة، و البيهقي في الأسماء و الصفات، عن علي بن أبي طالب: في قوله

 

 

 

﴿وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلرُّوحِ قال: هو ملك من الملائكة له سبعون ألف وجه لكل وجه منها سبعون ألف لسان لكل لسان منها سبعون ألف لغة يسبح الله تعالى بتلك اللغات كلها يخلق الله تعالى من كل تسبيحة ملكا يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة. أقول: كون الروح من الملائكة لا يوافق ظاهر عدة من آيات الكتاب كقوله:

﴿يُنَزِّلُ اَلْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ: النحل: ٢ و غيره من الآيات، و قد تقدم في ذيل قوله تعالى: ﴿يُنَزِّلُ اَلْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ من سورة النحل حديث علي (عليه السلام) و فيه إنكاره أن يكون الروح ملكا و احتجاجه على ذلك بالآية فالعبرة في أمر الروح بما يأتي.

 و في الكافي، بإسناده عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: ﴿يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلرُّوحِ قُلِ اَلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي قال: خلق أعظم من جبرائيل و ميكائيل كان مع رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و هو مع الأئمة و هو من الملكوت.

 أقول: و في معناه روايات أخر، و الرواية توافق ما تقدم توضيحه من مدلول الآيات.

 و في تفسير العياشي، عن زرارة و حمران عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام):

 عن قوله ﴿يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلرُّوحِ قال: إن الله تبارك و تعالى أحد صمد و الصمد الشي‏ء الذي ليس له جوف فإنما الروح خلق من خلقه له بصر و قوة و تأييد يجعله في قلوب الرسل و المؤمنين.

 أقول: و إنما تعرض في صدر الرواية بما تعرض دفعا لما يتوهم من مثل قوله تعالى:

﴿وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي أن هناك جوفا و نفسا منفوخا.

و فيه، عن أبي بصير عن أحدهما (عليه السلام) قال: سألته عن قوله ﴿وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلرُّوحِ قُلِ اَلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ما الروح؟ قال: التي في الدواب و الناس قلت: و ما هي؟ قال: من الملكوت من القدرة.

أقول: و هذه الروايات تؤيد ما تقدم في بيان الآية أن الروح المسئول عنه حقيقة وسيعة ذات مراتب مختلفة و أيضا ظاهر هذه الرواية كون الروح الحيواني مجردا من الملكوت.

 

 

 

 و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن إسحاق و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن ابن عباس: أن عتبة و شيبة ابني ربيعة و أبا سفيان بن حرب و رجلا من بني عبد الدار و أبا البختري أخا بني أسد و الأسود بن المطلب و ربيعة بن الأسود و الوليد بن المغيرة و أبا جهل بن هشام و عبد الله بن أبي أمية و أمية بن خلف و العاص بن وائل و نبيها و منبها ابني الحجاج السهميين اجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد و كلموه و خاصموه حتى تعذروا فيه.

فبعثوا إليه أن أشراف قومك قد اجتمعوا إليك ليكلموك فجاءهم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) سريعا و هو يظن أنهم قد بدا لهم في أمره بدء، و كان عليهم حريصا يحب رشدهم و يعز عليه عنتهم حتى جلس إليهم.

فقالوا: يا محمد إنا قد بعثنا إليك لنعذرك، و إنا و الله ما نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك لقد شتمت الآباء، و عبت الدين، و سفهت الأحلام و شتمت الآلهة و فرقت الجماعة فما بقي من قبيح إلا و قد جئت فيما بيننا و بينك فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا و إن كنت تطلب الشرف فينا سودناك علينا، و إن كنت تريد ملكا ملكناك علينا و إن كان هذا الذي يأتيك بما يأتيك رئيا تراه قد غلب عليك و كانوا يسمون التابع من الجن الرئي فربما كان ذلك بذلنا أموالنا في طلب الطب حتى نبرئك منه و نعذر فيك.

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ما بي ما تقولون ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم و لا فيئكم و لا الملك عليكم و لكن الله بعثني إليكم رسولا، و أنزل علي كتابا، و أمرني أن أكون لكم بشيرا و نذيرا فبلغتكم رسالة ربي و نصحت لكم فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا و الآخرة و إن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني و بينكم.

فقالوا: يا محمد فإن كنت غير قابل منا ما عرضنا عليك فقد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق بلادا و لا أقل مالا و لا أشد عيشا منا فاسأل ربك الذي بعثك بما بعثك به فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا و ليبسط لنا بلادنا و ليجر فيها أنهارا كأنهار الشام و العراق، و ليبعث لنا من قد مضى من آبائنا و ليكن فيمن

 

 

 

يبعث لنا منهم قصي بن كلاب فإنه كان شيخا صدوقا فنسألهم عما تقول حق هو أم باطل؟ فإن صنعت ما سألناك و صدقوك صدقناك و عرفنا به منزلتك عند الله و أنه بعثك رسولا.

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): ما بهذا بعثت إنما جئتكم من عند الله بما بعثني به فقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا و الآخرة، و إن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني و بينكم.

قالوا: فإن لم تفعل لنا هذا فخر لنفسك فاسأل ربك أن يبعث ملكا يصدقك بما تقول و يراجعنا عنك، و تسأله أن يجعل لك جنانا و كنوزا و قصورا من ذهب و فضة و يغنيك بها عما نراك تبتغي فإنك تقوم بالأسواق و تلتمس المعاش كما نلتمس حتى نعرف منزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم.

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): ما أنا بفاعل ما أنا بالذي يسأل ربه هذا، و ما بعثت إليكم بهذا و لكن الله بعثني بشيرا و نذيرا فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا و الآخرة و إن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني و بينكم.

قالوا: فأسقط السماء كما زعمت أن ربك إن شاء فعل فإنا لن نؤمن لك إلا أن تفعل فقال رسول الله ذلك إلى الله إن شاء فعل بكم ذلك.

قالوا: يا محمد قد علم ربك أنا سنجلس معك و نسألك عما سألناك عنه و نطلب منك ما نطلب فيتقدم إليك و يعلمك ما تراجعنا به و يخبرك بما هو صانع في ذلك بنا إذا لم نقبل منك ما جئتنا به فقد بلغنا أنه إنما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له الرحمن و إنا و الله لن نؤمن بالرحمن أبدا فقد أعذرنا إليك يا محمد أ ما و الله لا نتركك و ما فعلت بنا حتى نهلكك أو تهلكنا، و قال قائلهم: لن نؤمن لك حتى تأتي بالله و الملائكة قبيلا.

فلما قالوا ذلك قام رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) عنهم و قام معهم عبد الله بن أبي أمية فقال: يا محمد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم ثم سألوك لأنفسهم أمورا ليعرفوا بها منزلتك عند الله فلم تفعل ذلك ثم سألوك أن تعجل ما تخوفهم به من العذاب فوالله ما

 

 

 

 أؤمن بك أبدا حتى تتخذ إلى السماء سلما ثم ترقى فيه و أنا أنظر حتى تأتيها و تأتي معك بنسخة منشورة معك أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول و أيم الله لو فعلت ذلك لظننت أني لا أصدقك.

ثم انصرف عن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و انصرف رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى أهله حزينا أسفا - لما فاته مما كان طمع فيه من قومه حين دعوه و لما رأى من متابعتهم إياه و أنزل عليه فيما قال له عبد الله بن أبي أمية: ﴿وَ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ إلى قوله ﴿بَشَراً رَسُولاً الحديث.

أقول: و الذي ذكر في الرواية من محاورتهم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و سؤالاتهم لا ينطبق على ظاهر الآيات و لا ما فيها من الجواب على ظاهر ما فيها من الجواب. و قد تقدمت الإشارة إلى ذلك في بيان الآيات.

و قد تكررت الرواية من طرق الشيعة و أهل السنة أن الذي ألقى إليه (ص) القول من بين القوم و سأله هذه المسائل هو عبد الله بن أبي أمية المخزومي أخو أم سلمة زوج النبي (صلى الله عليه وآله و سلم).

 و في الدر المنثور،: في قوله تعالى: ﴿وَ نَحْشُرُهُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ: أخرج أحمد و البخاري و مسلم و النسائي و ابن جرير و ابن أبي حاتم و الحاكم و أبو نعيم في المعرفة، و ابن مردويه و البيهقي في الأسماء و الصفات، عن أنس قال: قيل: يا رسول الله كيف يحشر الناس على وجوههم؟ قال: الذي أمشاهم على أرجلهم قادر أن يمشيهم على وجوههم.

 أقول: و في معناه روايات أخر.

[سورة الإسراء (١٧): الآیات ١٠١ الی ١١١]

﴿وَ لَقَدْ آتَيْنَا مُوسى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسى مَسْحُوراً ١٠١

 

 

 

﴿قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاَءِ إِلاَّ رَبُّ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ بَصَائِرَ وَ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً ١٠٢ فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ اَلْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَ مَنْ مَعَهُ جَمِيعاً ١٠٣ وَ قُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اُسْكُنُوا اَلْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ اَلْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً ١٠٤ وَ بِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَ بِالْحَقِّ نَزَلَ وَ مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً ١٠٥ وَ قُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى اَلنَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَ نَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً ١٠٦ قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُوا إِنَّ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً ١٠٧ وَ يَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً ١٠٨ وَ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَ يَزِيدُهُمْ خُشُوعاً ١٠٩ قُلِ اُدْعُوا اَللَّهَ أَوِ اُدْعُوا اَلرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ اَلْأَسْمَاءُ اَلْحُسْنى وَ لاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَ لاَ تُخَافِتْ بِهَا وَ اِبْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً ١١٠ وَ قُلِ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي اَلْمُلْكِ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ اَلذُّلِّ وَ كَبِّرْهُ تَكْبِيراً ١١١   

بيان

في الآيات تنظير ما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من معجزة النبوة و هو القرآن و إعراض المشركين عنه و اقتراحهم آيات أخرى جزافية بما جاء به موسى (عليه السلام) من آيات النبوة و إعراض فرعون عنها و رميه إياه بأنه مسحور ثم عود إلى وصف القرآن و السبب في نزوله مفرقة أجزاؤه و ما يلحق بها من المعارف.

 

 

 

 قوله تعالى: ﴿وَ لَقَدْ آتَيْنَا مُوسى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسى مَسْحُوراً الذي أوتي موسى (عليه السلام) من الآيات على ما يقصه القرآن أكثر من تسع غير أن الآيات التي أتى بها لدعوة فرعون فيما يذكره القرآن تسع و هي: العصا و اليد و الطوفان و الجراد و القمل و الضفدع و الدم و السنون و نقص من الثمرات فالظاهر أنها هي المرادة بالآيات التسع المذكورة في الآية و خاصة مع ما فيها من محكي قول موسى لفرعون: ﴿لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاَءِ إِلاَّ رَبُّ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ بَصَائِرَ و أما غير هذه الآيات كالبحر و الحجر و إحياء المقتول بالبقرة و إحياء من أخذته الصاعقة من قومه و نتق الجبل فوقهم و غير ذلك فهي خارجة عن هذه التسع المذكورة في الآية.

و لا ينافي ذلك كون الآيات إنما ظهرت تدريجا فإن هذه المحاورة مستخرجة من مجموع ما تخاصم به موسى و فرعون طول دعوته.

فلا عبرة بما ذكره بعض المفسرين مخالفا لما عددناه لعدم شاهد عليه و في التوراة أن التسع هي العصا و الدم و الضفادع و القمل و موت البهائم و برد كنار أنزل مع نار مضطرمة أهلكت ما مرت به من نبات و حيوان و الجراد و الظلمة و موت عم كبار الآدميين و جميع الحيوانات.

و لعل مخالفة التوراة لظاهر القرآن في الآيات التسع هي الموجبة لترك تفصيل الآيات التسع في الآية ليستقيم الأمر بالسؤال من اليهود لأنهم مع صريح المخالفة لم يكونوا ليصدقوا القرآن بل كانوا يبادرون إلى التكذيب قبل التصديق.

و قوله: ﴿إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسى مَسْحُوراً أي سحرت فاختل عقلك و هذا في معنى قوله المنقول في موضع آخر: ﴿إِنَّ رَسُولَكُمُ اَلَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ: الشعراء: ٢٧ و قيل: المراد بالمسحور الساحر نظير الميمون و المشئوم بمعنى اليامن و الشائم و أصله استعمال وزن الفاعل في النسبة و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: ﴿قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاَءِ إِلاَّ رَبُّ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ بَصَائِرَ وَ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً المثبور الهالك و هو من الثبور بمعنى الهلاك، و المعنى قال موسى مخاطبا لفرعون: لقد علمت يا فرعون ما أنزل هؤلاء الآيات البينات إلا رب

 

 

 

 السموات و الأرض أنزلها بصائر يتبصر بها لتمييز الحق من الباطل و إني لأظنك يا فرعون هالكا بالآخرة لعنادك و جحودك.

و إنما أخذ الظن دون اليقين لأن الحكم لله و ليوافق ما في كلام فرعون: ﴿إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسى إلخ و من الظن ما يستعمل في مورد اليقين.

قوله تعالى: ﴿فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ اَلْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَ مَنْ مَعَهُ جَمِيعاً الاستفزاز الإزعاج و الإخراج بعنف، و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: ﴿وَ قُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اُسْكُنُوا اَلْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ اَلْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً المراد بالأرض التي أمروا أن يسكنوها هي الأرض المقدسة التي كتبها الله لهم بشهادة قوله: ﴿اُدْخُلُوا اَلْأَرْضَ اَلْمُقَدَّسَةَ اَلَّتِي كَتَبَ اَللَّهُ لَكُمْ: المائدة: ٢١، و غير ذلك كما أن المراد بالأرض في الآية السابقة مطلق الأرض أو أرض مصر بشهادة السياق.

و قوله: ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ اَلْآخِرَةِ أي وعد الكرة الآخرة أو الحياة الآخرة و المراد به على ما ذكره المفسرون يوم القيامة، و قوله: ﴿جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً أي مجموعا ملفوفا بعضكم ببعض.

و المعنى: و قلنا من بعد غرق فرعون لبني إسرائيل اسكنوا الأرض المقدسة - و كان فرعون يريد أن يستفزهم من الأرض - فإذا كان يوم القيامة جئنا بكم ملتفين مجتمعين للحساب و فصل القضاء.

و ليس ببعيد أن يكون المراد بوعد الآخرة ما ذكره الله سبحانه في أول السورة فيما قضى إلى بني إسرائيل بقوله: ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ اَلْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَ لِيَدْخُلُوا اَلْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ لِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً و إن لم يذكره جمهور المفسرين فينعطف بذلك ذيل الكلام في السورة إلى صدره، و يكون المراد أنا أمرناهم بعد غرق فرعون أن اسكنوا الأرض المقدسة التي كان يمنعكم منها فرعون و البثوا فيها حتى إذا جاء وعد الآخرة التي يلتف بكم فيها البلاء بالقتل و الأسر و الجلاء جمعناكم منها و جئنا بكم لفيفا، و ذلك إسارتهم و إجلاؤهم إلى بابل.

 

 

 

 و يتضح على هذا الوجه نكتة تفرع قوله: ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ اَلْآخِرَةِ إلخ على قوله:

﴿وَ قُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اُسْكُنُوا اَلْأَرْضَ على خلاف الوجه السابق الذي لا يترتب فيه على التفريع نكتة ظاهرة.

قوله تعالى: ﴿وَ بِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَ بِالْحَقِّ نَزَلَ وَ مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً لما فرغ من التنظير رجع إلى ما كان عليه من بيان حال القرآن و ذكر أوصافه فذكر أنه أنزله إنزالا مصاحبا للحق و قد نزل هو من عنده نزولا مصاحبا للحق فهو مصون من الباطل من جهة من أنزله فليس من لغو القول و هذره و لا داخله شي‏ء يمكن أن يفسده يوما و لا شاركه فيه أحد حتى ينسخه في وقت من الأوقات و ليس النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) إلا رسولا منه تعالى يبشر به و ينذر و ليس له أن يتصرف فيه بزيادة أو نقيصة أو يتركه كلا أو بعضا باقتراح من الناس أو هوى من نفسه أو يعرض عنه فيسأل الله آية أخرى فيها هواه أو هوى الناس أو يداهنهم فيه أو يسامحهم في شي‏ء من معارفه و أحكامه كل ذلك لأنه حق صادر عن مصدر حق، و ما ذا بعد الحق إلا الضلال.

فقوله: ﴿وَ مَا أَرْسَلْنَاكَ إلخ متمم للكلام السابق، و محصله أن القرآن آية حقة ليس لأحد أن يتصرف فيه شيئا من التصرف و النبي و غيره في ذلك سواء.

قوله تعالى: ﴿وَ قُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى اَلنَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَ نَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً معطوف على ما قبله أي أنزلناه بالحق و فرقناه قرآنا، قال في المجمع،: معنى فرقناه فصلناه و نزلناه آية آية و سورة سورة و يدل عليه قوله: ﴿عَلى مُكْثٍ و المكث بضم الميم و المكث بفتحها لغتان. انتهى.

فاللفظ بحسب نفسه يعم نزول المعارف القرآنية التي هي عند الله في قالب الألفاظ و العبارات التي لا تتلقى إلا بالتدريج و لا تتعاطى إلا بالمكث و التؤدة ليسهل على الناس تعقله و حفظه على حد قوله: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ اَلْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ: الزخرف: ٤.

و نزول الآيات القرآنية نجوما مفرقة سورة سورة و آية آية بحسب بلوغ الناس في استعداد تلقي المعارف الأصلية للاعتقاد و الأحكام الفرعية للعمل و اقتضاء المصالح ذلك ليقارن العلم العمل و لا يجمح عنه طباع الناس بأخذ معارفه و أحكامه واحدا بعد

 

 

 

واحد كما لو نزل دفعة و قد نزلت التوراة دفعة فلم يتلقها اليهود بالقبول إلا بعد نتق الجبل فوقهم كأنه ظلة.

لكن الأوفق بسياق الآيات السابقة و فيها مثل قولهم المحكي: ﴿حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَؤُهُ الظاهر في اقتراح نزول القرآن دفعة هو أن يكون المراد بتفريق القرآن إنزاله سورة سورة و آية آية حسب تحقق أسباب النزول تدريجا و قد تكرر من الناس اقتراح أن ينزل القرآن جملة واحدة كما في: ﴿وَ قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ اَلْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً: الفرقان: ٣٢، و قوله حكاية عن أهل الكتاب: ﴿يَسْئَلُكَ أَهْلُ اَلْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ اَلسَّمَاءِ: النساء: ١٥٣.

و يؤيده تذييل الآية بقوله: ﴿وَ نَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً فإن التنزيل و هو إنزال الشي‏ء تدريجا أمس بالاعتبار الثاني منه بالأول.

و مع ذلك فالاعتبار الثاني و هو تفصيل القرآن و تفريقه بحسب النزول بإنزال بعضه بعد بعض من دون أن ينزل جملة واحدة يستلزم الاعتبار الأول و هو تفصيله و تفريقه إلى معارف و أحكام متبوعة مختلفة بعد ما كان الجميع مندمجة في حقيقة واحدة منطوية مجتمعة الأعراق في أصل واحد فارد.

و لذلك فصل الله سبحانه كتابه سورا و آيات بعد ما ألبسه لباس اللفظ العربي ليسهل على الناس فهمه كما قال: ﴿لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ثم نوعها أنواعا و رتبها ترتيبا فنزلها واحدة بعد واحدة عند قيام الحاجة إلى ذلك و على حسب حصول استعدادات الناس المختلفة و تمام قابليتهم بكل واحد منها و ذلك في تمام ثلاث و عشرين سنة ليشفع التعليم بالتربية و يقرن العلم بالعمل.

و سنعود إلى البحث عن بعض ما يتعلق بالآية و السورة في كلام مستقل إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: ﴿قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُوا إلى آخر الآيات الثلاث المراد بالذين أوتوا العلم من قبله هم الذين تحققوا بالعلم بالله و آياته من قبل نزول القرآن سواء كانوا من اليهود أو النصارى أو غيرهم فلا موجب للتخصيص اللهم إلا أن يقال: إن السياق

 

 

 

 يفيد كون هؤلاء من أهل الحق و الدين غير المنسوخ يومئذ هو دين المسيح (عليه السلام) فهم أهل الحق من علماء النصرانية الذين لم يزيغوا و لم يبدلوا.

و على أي حال المراد من كونهم أوتوا العلم من قبله أنهم استعدوا لفهم كلمة الحق و قبولها لتجهزهم بالعلم بحقيقة معناه و إيراثه إياهم وصف الخشوع فيزيدهم القرآن المتلو عليهم خشوعا.

و قوله: ﴿يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً الأذقان‏ جمع ذقن و هو مجمع اللحيين من الوجه، و الخرور للأذقان السقوط على الأرض على أذقانهم للسجدة كما يبينه قوله: ﴿سُجَّداً و إنما اعتبرت الأذقان لأن الذقن أقرب أجزاء الوجه من الأرض عند الخرور عليها للسجدة، و ربما قيل: المراد بالأذقان الوجوه إطلاقا للجزء على الكل مجازا.

و قوله: ﴿وَ يَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً أي ينزهونه تعالى عن كل نقص و عن خلف الوعد خاصة و يعطي سياق الآيات السابقة أن المراد بالوعد وعده سبحانه بالبعث و هذا في قبال إصرار المشركين على نفي البعث و إنكار المعاد كما تكرر في الآيات السابقة.

و قوله: ﴿وَ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَ يَزِيدُهُمْ خُشُوعاً تكرار الخرور للأذقان و إضافته إلى البكاء لإفادة معنى الخضوع‏ و هو التذلل الذي يكون بالبدن كما أن الجملة الثانية لإفادة معنى الخشوع‏ و هو التذلل الذي يكون بالقلب فمحصل الآية أنهم يخضعون و يخشعون.

و في الآية إثبات خاصة المؤمنين لهم و هي التي أشير إليها بقوله سابقا: ﴿وَ نُنَزِّلُ مِنَ اَلْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ كما أن في الآية نفي خاصة المشركين عنهم و هي إنكار البعث.

و في هذه الآيات الثلاث بيان أن القرآن في غنى عن إيمانهم لا لأن إيمان الذين أوتوا العلم من قبله يرفع حاجة له إلى إيمان غيرهم بل لأن إيمانهم به يكشف عن أنه كتاب حق أنزل بالحق لا حاجة له في حقيته و لا افتقار في كماله إلى إيمان مؤمن و تصديق مصدق فإن آمنوا به فلأنفسهم و إن كفروا به فعليها لا له و لا عليه.

 

 

 

 فقد ذكر سبحانه إعراضهم عن القرآن و كفرهم به و عدم اعتنائهم بكونه آية و اقتراحهم آيات أخرى ثم بين له من نعوت الكمال و دلائل الإعجاز في لفظه و معناه و غزارة الأثر في النفوس و كيفية نزوله ما استبان به أنه حق لا يعتريه بطلان و لا فساد أصلا ثم بين في هذه الآيات أنه في غنى عن إيمانهم فهم و ما يختارونه من الإيمان و الكفر.

قوله تعالى: ﴿قُلِ اُدْعُوا اَللَّهَ أَوِ اُدْعُوا اَلرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ اَلْأَسْمَاءُ اَلْحُسْنى لفظة أو للتسوية و الإباحة فالمراد بقوله ﴿اَللَّهَ و ﴿اَلرَّحْمَنَ الاسمان الدالان على المسمى دون المسمى، و المعنى ادعوا باسم الله أو باسم الرحمن فالدعاء دعاؤه.

و قوله: ﴿أَيًّا مَا تَدْعُوا شرط و ﴿مَا صلة للتأكيد نظير قوله: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اَللَّهِ: آل عمران: ١٥٩. و قوله: ﴿عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ: المؤمنون: ٤٠ و ﴿أَيًّا شرطية و هي مفعول ﴿تَدْعُوا.

و قوله: ﴿فَلَهُ اَلْأَسْمَاءُ اَلْحُسْنى جواب الشرط، و هو من وضع السبب موضع المسبب و المعنى أي اسم من الاسمين تدعوه فهو اسم أحسن له لأن الأسماء الحسنى كلها له فالأسماء الدالة على المسميات منها حسنة تدل على ما فيه حسن و منها قبيحة بخلافها و لا سبيل للقبيح إليه تعالى، و الأسماء الحسنة منها ما هو أحسن لا شوب نقص و قبح فيه كالغنى الذي لا فقر معه و الحياة التي لا موت معها و العزة التي لا ذلة دونها و منها ما هو حسن يغلب عليه الحسن من غير محوضة و لله سبحانه الأسماء الحسنى، و هي كل اسم هو أحسن الأسماء في معناه كما يدل عليه قول أئمة الدين: إن الله تعالى غني لا كالأغنياء، حي لا كالأحياء، عزيز لا كالأعزة عليم لا كالعلماء و هكذا أي له من كل كمال صرفه و محضه الذي لا يشوبه خلافه.

و الضمير في قوله: ﴿أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ اَلْأَسْمَاءُ اَلْحُسْنى عائد إلى الذات المتعالية من كل اسم و رسم، و ليس براجع إلى شي‏ء من الاسمين: الله و الرحمن لأن المراد بهما - كما تقدم - الاسمان دون الذات المتعالية التي هي مسماة بهما و لا معنى لأن يقال: أيا من الاسمين تدعوا فإن لذلك الاسم جميع الأسماء الحسنى أو باقي الأسماء الحسنى بل المعنى أيا من أسمائه تدعوا فلا مانع منه لأنها جميعا أسماؤه لأنها أسماء حسنى و له

 

 

 

 الأسماء الحسنى فهي طرق دعوته و دعوتها دعوته فإنها أسماؤه و الاسم مرآة المسمى و عنوانه فافهم ذلك.

و الآية من غرر الآيات القرآنية تنير حقيقة ما يراه القرآن الكريم من توحيد الذات و توحيد العبادة قبال ما يراه الوثنية من توحيد الذات و تشريك العبادة.

فإن الوثنية - على ما تقدم جملة من آرائهم في الجزء العاشر من الكتاب - ترى أنه سبحانه ذات متعالية من كل حد و نعت ثم تعينت بأسماء اسما بعد اسم و تسمي ذلك تولدا، و ترى الملائكة و الجن مظاهر عالية لأسمائه فهم أبناؤه المتصرفون في الكون، و ترى أن عبادة العابدين و توجه المتوجهين لا يتعدى طور الأسماء و لا يتجاوز مرتبة الأبناء الذين هم مظاهر أسمائه فإنا إنما نعبد فيما نعبد الإله أو الخالق أو الرازق أو المحيي أو المميت إلى غير ذلك، و هذه كلها أسماء مظاهرها الأبناء من الملائكة و الجن، و أما الذات المتعالية فهي أرفع من أن يناله حس أو وهم أو عقل، و أعلى من أن يتعلق به توجه أو طلب أو عبادة أو نسك.

فعندهم دعوة كل اسم هي عبادة ذلك الاسم أي الملك أو الجن الذي هو مظهر ذلك الاسم، و هو الإله المعبود بتلك العبادة فيتكثر الآلهة بتكثر أنواع الدعوات بأنواع الحاجات و لذلك لما سمع بعض المشركين دعاءه (ص) في صلاته: يا الله يا رحمن قال: انظروا إلى هذا الصابئ ينهانا أن نعبد إلهين و هو يدعو إلهين.

و الآية الكريمة ترد عليهم ذلك و تكشف عن وجه الخطإ في رأيهم بأن هذه الأسماء أسماء حسنى له تعالى فهي مملوكة له محضا لا تستقل دونه بنعت و لا تنحاز عنه في ذات أو صفة تملكه و تقوم به فليس لها إلا الطريقية المحضة، و يكون دعاؤها دعاءه و التوجه بها توجها إليه، و كيف يستقيم أن يحجب الاسم المسمى و ليس إلا طريقا دالا عليه هاديا إليه و وجها له يتجلى به لغيره، فدعاء الأسماء الكثيرة لا ينافي توحيد عبادة الذات كما يمتنع أن تقف العبادة على الاسم و لا يتعداه.

و يتفرع على هذا البيان ظهور الخطإ في عد الأسماء أو مظاهرها من الملائكة و الجن

 

 

 

 أبناء له تعالى فإن إطلاق الولد و الابن سواء كان على وجه الحقيقة أو التشريف يقتضي نوع مسانخة و اشتراك بين الولد و الوالد أو الابن و الأب في حقيقة الذات أو كمال من كمالاته و ساحة كبريائه منزهة من أن يشاركه شي‏ء غيره في ذات أو كمال فإن الذي له هو لنفسه، و الذي لغيره هو له لا لأنفسهم.

و كذا ظهور الخطإ في نسبة التصرف في الكون بأنواعه إليهم فإن هؤلاء الملائكة و كذا الأسماء التي هم مظاهر لها عندهم لا يملكون لأنفسهم شيئا و لا يستقلون دونه بشي‏ء بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول و هم بأمره يعملون، و كذا الجن فيما يعملون و بالجملة ما من سبب من الأسباب الفعالة في الكون إلا و هو تعالى الذي ملكه القدرة على ما يعمله، و هو المالك لما ملكه و القادر على ما عليه أقدره.

و هذا هو الذي تفيده الآية التالية ﴿وَ قُلِ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي اَلْمُلْكِ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ اَلذُّلِّ و سنكرر الإشارة إليه إن شاء الله.

و في الآية دلالة على أن لفظة الجلالة من الأسماء الحسنى فهو في أصله - الإله - وصف يفيد معنى المعبودية و إن عرضت عليه العلمية بكثرة الاستعمال كما يدل عليه صحة إجراء الصفات عليه يقال: الله الرحمن الرحيم و لا يقال: الرحمن الله الرحيم و في كلامه تعالى: ﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ.

قوله تعالى: ﴿وَ لاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَ لاَ تُخَافِتْ بِهَا وَ اِبْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً الجهر و الإخفات وصفان متضائفان، يتصف بهما الأصوات، و ربما يعتبر بينهما خصلة ثالثة هي بالنسبة إلى الجهر إخفات و بالنسبة إلى الإخفات جهر فيكون الجهر هو المبالغة في رفع الصوت، و الإخفات‏ هو المبالغة في خفضه و ما بينهما هو الاعتدال فيكون معنى الآية لا تبالغ في صلاتك في الجهر و لا في الإخفات بل اسلك فيما بينهما سبيلا و هو الاعتدال و تسميته سبيلا لأنه سنة يستن بها هو و من يقتدي به من أمته المؤمنين به.

هذا لو كان المراد بالصلاة في قوله: ﴿بِصَلاَتِكَ للاستغراق و المراد به كل صلاة

 

 

 

 صلاة و أما لو أريد المجموع و لعله الأظهر كان المعنى لا تجهر في صلواتك كلها و لا تخافت فيها كلها بل اتخذ سبيلا وسطا تجهر في بعض و تخافت في بعض، و هذا المعنى أنسب بالنظر إلى ما ثبت في السنة من الجهر في بعض الفرائض اليومية كالصبح و المغرب و العشاء و الإخفات في غيرها.

و لعل هذا الوجه أوفق بالنظر إلى اتصال ذيل الآية بصدرها فالجهر بالصلاة يناسب كونه تعالى عليا متعاليا و الإخفات يناسب كونه قريبا أقرب من حبل الوريد فاتخاذ الخصلتين جميعا في الصلوات أداء لحق أسمائه جميعا.

قوله تعالى: ﴿وَ قُلِ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي اَلْمُلْكِ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ اَلذُّلِّ وَ كَبِّرْهُ تَكْبِيراً معطوف على قوله في الآية السابقة: ﴿قُلِ اُدْعُوا اَللَّهَ أَوِ اُدْعُوا اَلرَّحْمَنَ و يرجع محصل الكلام إلى أن قل لهم إن ما تدعونها من الأسماء و تزعمون أنها آلهة معبودون غيره إنما هي أسماؤه و هي مملوكة له لا تملك أنفسها و لا شيئا لأنفسها فدعاؤها دعاؤه فهو المعبود على كل حال.

ثم أحمده و أثن عليه بما يتفرع على إطلاق ملكه فإنه لا يماثله شي‏ء في ذات و لا صفة حتى يكون ولدا له إن اشتق عنه في ذات أو صفة كما تقوله الوثنية و أهل الكتاب من النصارى و اليهود و قدماء المجوس في الملائكة أو الجن أو المسيح أو عزير و الأحبار، أو يكون شريكا إن شاركه في الملك من غير اشتقاق كما تقوله الوثنيون و الثنويون و غيرهم من عبدة الشيطان أو يكون وليا له إن شاركه في الملك و فاق عليه فأصلح من ملكه بعض ما لم يقدر هو على إصلاحه.

و بوجه آخر لا يجانسه شي‏ء حتى يكون ولدا إن كان دونه أو شريكا له إن كان مساويا له في مرتبته أو وليا له إن كان فائقا عليه في الملك.

و الآية في الحقيقة ثناء عليه تعالى بما له من إطلاق الملك الذي يتفرع عليه نفي الولد و الشريك و الولي، و لذلك أمره (ص) بالتحميد دون التسبيح مع أن المذكور فيها من نفي الولد و الشريك و الولي صفات سلبية و الذي يناسبها التسبيح دون التحميد فافهم ذلك.

 

 

 

 و ختم سبحانه الآية بقوله: ﴿وَ كَبِّرْهُ تَكْبِيراً و قد أطلق إطلاقا بعد التوصيف و التنزيه فهو تكبير من كل وصف، و لذا فسر «الله أكبر» بأنه أكبر من أن يوصف على ما ورد عن الصادق (عليه السلام)، و لو كان المعنى أنه أكبر من كل شي‏ء لم يخل من إشراك الأشياء به تعالى في معنى الكبر و هو أعز ساحة أن يشاركه شي‏ء في أمر.

و من لطيف الصنعة في السورة افتتاح أول آية منها بالتسبيح و اختتام آخر آية منها بالتكبير مع افتتاحها بالتحميد.

بحث روائي‏

 في الدر المنثور، أخرج سعيد بن منصور و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن علي أنه كان يقرأ: لقد علمت يعني بالرفع قال علي و الله ما علم عدو الله و لكن موسى هو الذي علم. أقول: و هي قراءة منسوبة إليه (عليه السلام).

 و في الكافي، عن علي بن محمد بإسناده قال: سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عمن بجبهته علة لا يقدر على السجود عليها قال: يضع ذقنه على الأرض إن الله عز و جل يقول ﴿يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً. أقول: و في معناه غيره.

 و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن مردويه عن ابن عباس قال :صلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بمكة ذات يوم فدعا الله فقال في دعائه: يا الله يا رحمان فقال المشركون: انظروا إلى هذا الصابئ ينهانا أن ندعو إلهين و هو يدعو إلهين فأنزل الله: ﴿قُلِ اُدْعُوا اَللَّهَ أَوِ اُدْعُوا اَلرَّحْمَنَ الآية. أقول: و في سبب نزول الآية روايات أخر تخالف هذه الرواية و تذكر أشياء غير ما ذكرته غير أن هذه الرواية أقربها انطباقا على مفاد الآية.

 و في التوحيد، مسندا و في الاحتجاج، مرسلا عن هشام بن الحكم قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن أسماء الله عز ذكره و اشتقاقها فقلت: الله مما هو مشتق؟ قال يا

 

 

 

هشام: الله مشتق من إله و إله يقتضي مألوها، و الاسم غير المسمى فمن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر و لم يعبد شيئا، و من عبد الاسم و المعنى فقد كفر و عبد اثنين، و من عبد المعنى دون الاسم فذلك التوحيد أ فهمت يا هشام؟ قال: فقلت: زدني فقال: إن لله تبارك و تعالى تسعة و تسعين اسما فلو كان الاسم هو المسمى لكان كل اسم منها إلها و لكن الله معنى يدل عليه بهذه الأسماء و كلها غيره يا هشام الخبز اسم المأكول و الماء اسم المشروب و الثوب اسم الملبوس و النار اسم المحرق. الحديث.

 و في التوحيد، بإسناده عن ابن رئاب عن غير واحد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من عبد الله بالتوهم فقد كفر، و من عبد الاسم و لم يعبد المعنى فقد كفر، و من عبد الاسم و المعنى فقد أشرك، و من عبد المعنى بإيقاع الأسماء عليه بصفاته التي يصف بها نفسه فعقد عليه قلبه و نطق به لسانه في سرائره و علانيته فأولئك أصحاب أمير المؤمنين‏ و في حديث آخر: أولئك هم المؤمنون حقا.

 و في توحيد البحار، في باب المغايرة بين الاسم و المعنى عن التوحيد بإسناده عن إبراهيم بن عمر عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله تبارك و تعالى خلق اسما بالحروف غير منعوت، و باللفظ غير منطق، و بالشخص غير مجسد، و بالتشبيه غير موصوف و باللون غير مصبوغ منفي عنه الأقطار، مبعد عنه الحدود، محجوب عنه حس كل متوهم، مستتر غير مستور فجعله كلمة تامة على أربعة أجزاء معا ليس منها واحد قبل الآخر فأظهر منها ثلاثة أشياء لفاقة الخلق إليها، و حجب واحدا منها و هو الاسم المكنون المخزون بهذه الأسماء الثلاثة التي أظهرت.

فالظاهر هو الله و تبارك و سبحان لكل اسم من هذه أربعة أركان فذلك اثنا عشر ركنا ثم خلق لكل ركن منها ثلاثين اسما و فعلا منسوبا إليها فهو الرحمن الرحيم الملك القدوس الخالق البارئ المصور الحي القيوم لا تأخذه سنة و لا نوم العليم الخبير السميع البصير الحكيم العزيز الجبار المتكبر العلي العظيم المقتدر القادر السلام المؤمن المهيمن البارئ المنشئ البديع الرفيع الجليل الكريم الرازق المحيي المميت الباعث الوارث.

فهذه الأسماء و ما كان من الأسماء الحسنى حتى تتم ثلاث مائة و ستين اسما فهي نسبة لهذه الأسماء الثلاثة و هذه الأسماء الثلاثة أركان و حجب للاسم الواحد المكنون

 

 

 

 المخزون بهذه الأسماء الثلاثة، و ذلك قوله عز و جل: ﴿قُلِ اُدْعُوا اَللَّهَ أَوِ اُدْعُوا اَلرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ اَلْأَسْمَاءُ اَلْحُسْنى:

أقول: و الحديث مروي في الكافي، أيضا عنه (عليه السلام). و قد تقدم في بحث الأسماء الحسنى في الجزء الثامن من الكتاب أن هذه الألفاظ المسماة بأسماء الله إنما هي أسماء الأسماء و أن ما تدل عليه و تشير إليه من المصداق أعني الذات مأخوذة بوصف ما هو الاسم بحسب الحقيقة، و على هذا فبعض الأسماء الحسنى عين الذات و هو المشتمل على صفة ثبوتية كمالية كالحي و العليم و القدير، و بعضها زائد على الذات خارج منها و هو المشتمل على صفة سلبية أو فعلية كالخالق و الرازق لا تأخذه سنة و لا نوم، هذا في الأسماء و أما أسماء الأسماء و هي الألفاظ الدالة على الذات المأخوذة مع وصف من أوصافها فلا ريب في كونها غير الذات، و أنها ألفاظ حادثة قائمة بمن يتلفظ بها.

إلا أن هاهنا خلافا من جهتين:

إحداهما: أن بعض الجهلة من متكلمي السلف خلطوا بين الأسماء و أسماء الأسماء فحسبوا أن المراد من عينية الأسماء مع الذات عينية أسماء الأسماء معها فذهبوا إلى أن الاسم هو المسمى و يكون على هذا عبادة الاسم و دعوته هو عين عبادة المسمى، و قد كان هذا القول سائغا في أوائل عصر العباسيين، و الروايتان السابقتان أعني روايتي التوحيد في الرد عليه.

و الثانية: ما عليه الوثنية و هو أن الله سبحانه لا يتعلق به التوجه العبادي و إنما يتعلق بالأسماء فالأسماء أو مظاهرها من الملائكة و الجن و الكمل من الإنس هم المدعوون و هم الآلهة المعبودون دون الله، و قد عرفت في البيان المتقدم أن قوله تعالى: ﴿قُلِ اُدْعُوا اَللَّهَ أَوِ اُدْعُوا اَلرَّحْمَنَ إلخ رد عليه.

و الرواية الأخيرة أيضا تكشف عن وجه انتشاء الأسماء عن الذات المتعالية التي هي أرفع من أن يحيط به علم أو يقيده وصف و نعت أو يحده اسم أو رسم، و هي بما في صدره و ذيله من البيان صريح في أن المراد بالأسماء فيها هي الأسماء دون أسماء الأسماء

 

 

 

 و قد شرحناها بعض الشرح في ذيل البحث عن الأسماء الحسنى في الجزء الثامن من الكتاب فراجعه إن شئت.

- و في تفسير العياشي، عن زرارة و حمران و محمد بن مسلم عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله تعالى: ﴿وَ لاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَ لاَ تُخَافِتْ بِهَا وَ اِبْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً قال:

كان رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) إذا كان بمكة جهر بصوته فيعلم بمكانه المشركون فكانوا يؤذونه فأنزلت هذه الآية عند ذلك.

أقول: و روي هذا المعنى في الدر المنثور، عن ابن مردويه عن ابن عباس، و روي أيضا عن عائشة :أنها نزلت في الدعاء، و لا بأس به لعدم معارضته، و روي عنها أيضا أنها نزلت في التشهد.

 و في الكافي، بإسناده عن سماعة قال: سألته عن قول الله تعالى: ﴿وَ لاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَ لاَ تُخَافِتْ بِهَا قال: المخافتة ما دون سمعك و الجهر أن ترفع صوتك شديدا. أقول: فيه تأييد المعنى الأول المتقدم في تفسير الآية.

 و فيه، بإسناده عن عبد الله بن سنان قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) على الإمام أن يسمع من خلفه و إن كثروا؟ فقال: ليقرأ وسطا يقول الله تبارك و تعالى: ﴿وَ لاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَ لاَ تُخَافِتْ بِهَا. و في الدر المنثور، أخرج أحمد و الطبراني عن معاذ بن أنس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): آية العز ﴿وَ قُلِ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً الآية كلها. و في تفسير القمي، :في قوله تعالى: ﴿وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ اَلذُّلِّ قال: قال: لم يذل فيحتاج إلى ولي ينصره.

«بحث آخر روائي و قرآني» في نزول القرآن نجوما في فصول‏

متعلق بقوله تعالى: ﴿وَ قُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى اَلنَّاسِ عَلى مُكْثٍ ثلاثة فصول:

١ - في انقسامات القرآن‏

إن للقرآن الكريم أجزاء يعرف بها كالجزء و الحزب و العشر و غير ذلك و الذي

 

 

 

 ينتهي اعتباره إلى عناية من نفس الكتاب العزيز اثنان منها و هما السورة و الآية فقد كرر الله سبحانه ذكرهما في كلامه كقوله: ﴿سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا: النور: ١ و قوله: ﴿قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ: يونس: ٣٨ و غير ذلك.

و قد كثر استعماله في لسان النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و الصحابة و الأئمة كثرة لا تدع ريبا في أن لها حقيقة في القرآن الكريم و هي مجموعة من الكلام الإلهي مبدوءة بالبسملة مسوقة لبيان غرض، و هو معرف للسورة مطرد غير منقوض إلا ببراءة و قد ورد[3] عن أئمة أهل البيت (عليه السلام) أنها آيات من سورة الأنفال، و إلا بما ورد[4] عنهم (عليه السلام) أن الضحى و أ لم نشرح سورة واحدة و أن الفيل و الإيلاف سورة واحدة.

و نظيره القول في الآية فقد تكرر في كلامه تعالى إطلاق الآية على قطعة من الكلام كقوله: ﴿وَ إِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً: الأنفال: ٢، و قوله: ﴿كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا: حم السجدة: ٣، و قد روي عن أم سلمة: أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كان يقف على رءوس الآي و صح أن سورة الحمد سبع آيات‏، و روي عنه (ص): أن سورة الملك ثلاثون آية إلى غير ذلك مما يدل على وقوع العدد على الآيات في كلام النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و آله.

و الذي يعطيه التأمل في انقسام الكلام العربي إلى قطع و فصول بالطبع و خاصة فيما كان من الكلام مسجعا ثم التدبر فيما ورد عن النبي و آله (ص) في أعداد الآيات أن الآية من القرآن هي قطعة من الكلام من حقها أن تعتمد عليها التلاوة بفصلها عما قبلها و عما بعدها.

و يختلف ذلك باختلاف السياقات و خاصة في السياقات المسجعة فربما كانت كلمة واحدة كقوله: ﴿مُدْهَامَّتَانِ: الرحمن: ٦٤ و ربما كانت كلمتين فصاعدا كلاما أو غير كلام كقوله: ﴿اَلرَّحْمَنُ عَلَّمَ اَلْقُرْآنَ خَلَقَ اَلْإِنْسَانَ عَلَّمَهُ اَلْبَيَانَ: الرحمن - ١ ٤

 

 

 

 و قوله: ﴿اَلْحَاقَّةُ مَا اَلْحَاقَّةُ وَ مَا أَدْرَاكَ مَا اَلْحَاقَّةُ: الحاقة - ١ ٣ و ربما طالت كآية الدين من سورة البقرة آية: ٢٨٢.

٢ - في عدد السور

أما عدد السور القرآنية فهي مائة و أربع عشرة سورة على ما جرى عليه الرسم في المصحف الدائر بيننا و هو مطابق للمصحف العثماني، و قد تقدم كلام أئمة أهل البيت (عليه السلام) فيه، و أنهم لا يعدون براءة سورة مستقلة و يعدون الضحى و أ لم نشرح سورة واحدة و يعدون الفيل و الإيلاف سورة واحدة.

و أما عدد الآي فلم يرد فيه نص متواتر يعرف الآي و يميز كل آية من غيرها و لا شي‏ء من الآحاد يعتمد عليه، و من أوضح الدليل على ذلك اختلاف أهل العدد فيما بينهم و هم المكيون و المدنيون و الشاميون و البصريون و الكوفيون.

فقد قال بعضهم: إن مجموع القرآن ستة آلاف آية، و قال بعضهم: ستة آلاف و مائتان و أربع آيات، و قيل: و أربع عشرة، و قيل: و تسع عشرة، و قيل: و خمس و عشرون، و قيل: و ست و ثلاثون.

و قد روى المكيون عددهم عن عبد الله بن كثير عن مجاهد عن ابن عباس عن أبي بن كعب، و للمدنيين عددان ينتهي أحدهما إلى أبي جعفر مرثد بن القعقاع و شيبة بن نصاح، و الآخر إلى إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري و روى أهل الشام عددهم عن أبي الدرداء، و ينتهي عدد أهل البصرة إلى عاصم بن العجاج الجحدري، و يضاف عدد أهل الكوفة إلى حمزة و الكسائي و خلف قال حمزة أخبرنا بهذا العدد ابن أبي ليلى عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي بن أبي طالب.

و بالجملة لما كانت الأعداد لا تنتهي إلى نص متواتر أو واحد يعبأ به و يجوز الركون إليه و يتميز به كل آية عن أختها لا ملزم للأخذ بشي‏ء منها فما كان منها بينا ظاهر الأمر فهو و إلا فللباحث المتدبر أن يختار ما أدى إليه نظره.

و الذي روي عن علي (عليه السلام) من عدد الكوفيين معارض بأن البسملة غير معدودة في شي‏ء من السور ما خلا فاتحة الكتاب من آياتها مع أن المروي عنه (عليه السلام) و عن غيره من أئمة أهل البيت (عليه السلام) أن البسملة آية من القرآن و هي جزء من كل سورة

 

 

 

 افتتحت بها و لازم ذلك زيادة العدد بعدد البسملات.

و هذا هو الذي صرفنا عن إيراد تفاصيل ما ذكروه من العدد هاهنا، و ذكر ما اتفقوا على عدده من السور القرآنية و هي أربعون سورة و ما اختلفوه في عدده أو في رءوس آية من السور و هي أربع و سبعون سورة و كذا ما اتفقوا على كونه آية تامة أو على عدم كونه آية مثل ﴿الر أينما وقع من القرآن و ما اختلف فيه، و على من أراد الاطلاع على تفصيل ذلك أن يراجع مظانه.

٣ - في ترتيب السور

في ترتيب السور نزولا: نقل في الإتقان عن ابن الضريس في فضائل القرآن قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن أبي جعفر الرازي أنبأنا عمرو بن هارون، حدثنا عثمان بن عطاء الخراساني عن أبيه عن ابن عباس قال ":كانت إذا نزلت فاتحة سورة بمكة - كتبت بمكة ثم يزيد الله فيها ما شاء.

و كان أول ما أنزل من القرآن اقرأ باسم ربك، ثم ن، ثم يا أيها المزمل، ثم يا أيها المدثر، ثم تبت يدا أبي لهب، ثم إذا الشمس كورت، ثم سبح اسم ربك الأعلى، ثم و الليل إذا يغشى، ثم و الفجر، ثم و الضحى، ثم أ لم نشرح، ثم و العصر، ثم و العاديات ثم إنا أعطيناك، ثم ألهيكم التكاثر، ثم أ رأيت الذي يكذب، ثم قل يا أيها الكافرون، ثم أ لم تر كيف فعل ربك، ثم قل أعوذ برب الفلق، ثم قل أعوذ برب الناس، ثم قل هو الله أحد، ثم و النجم، ثم عبس، ثم إنا أنزلناه في ليلة القدر، ثم و الشمس و ضحاها، ثم و السماء ذات البروج، ثم التين، ثم لإيلاف قريش، ثم القارعة، ثم لا أقسم بيوم القيامة، ثم ويل لكل همزة، ثم و المرسلات، ثم ق، ثم لا أقسم بهذا البلد، ثم و السماء و الطارق، ثم اقتربت الساعة، ثم ص، ثم الأعراف، ثم قل أوحي ثم يس، ثم الفرقان، ثم الملائكة، ثم كهيعص، ثم طه، ثم الواقعة، ثم طسم الشعراء، ثم طس، ثم القصص، ثم بني إسرائيل، ثم يونس، ثم هود، ثم يوسف، ثم الحجر، ثم الأنعام، ثم الصافات، ثم لقمان، ثم سبأ، ثم الزمر، ثم حم المؤمن، ثم حم السجدة. ثم حمعسق، ثم حم الزخرف، ثم الدخان، ثم الجاثية، ثم الأحقاف ثم الذاريات، ثم الغاشية، ثم الكهف، ثم النحل، ثم إنا أرسلنا نوحا، ثم سورة إبراهيم، ثم الأنبياء، ثم المؤمنين، ثم تنزيل السجدة، ثم الطور، ثم تبارك الملك

 

 

 

 ثم الحاقة، ثم سأل، ثم عم يتساءلون، ثم النازعات، ثم إذا السماء انفطرت، ثم إذا السماء انشقت، ثم الروم، ثم العنكبوت، ثم ويل للمطففين فهذا ما أنزل الله بمكة.

ثم أنزل الله بالمدينة سورة البقرة، ثم الأنفال، ثم آل عمران، ثم الأحزاب، ثم الممتحنة، ثم النساء، ثم إذا زلزلت، ثم الحديد، ثم القتال، ثم الرعد، ثم الرحمن، ثم الإنسان، ثم الطلاق، ثم لم يكن، ثم الحشر، ثم إذا جاء نصر الله، ثم النور، ثم الحج، ثم المنافقون، ثم المجادلة، ثم الحجرات، ثم التحريم، ثم الجمعة ثم التغابن، ثم الصف، ثم الفتح، ثم المائدة، ثم براءة.

 و قد سقطت من الرواية سورة فاتحة الكتاب و ربما قيل: إنها نزلت مرتين مرة بمكة و مرة بالمدينة.

 و نقل فيه، عن البيهقي في دلائل النبوة، أنه روى بإسناده عن عكرمة و الحسين بن أبي الحسن قالا :أنزل الله من القرآن بمكة اقرأ باسم ربك‏ و ساقا الحديث نحو حديث عطاء السابق عن ابن عباس إلا أنه قد سقط منه الفاتحة و الأعراف و كهيعص مما نزل بمكة.

و أيضا ذكر فيه حم الدخان قبل حم السجدة ثم إذا السماء انشقت قبل إذا السماء انفطرت ثم ويل للمطففين قبل البقرة مما نزل بالمدينة ثم آل عمران قبل الأنفال ثم المائدة قبل الممتحنة.

ثم‏ روى البيهقي بإسناده عن مجاهد عن ابن عباس أنه قال :إن أول ما أنزل الله على نبيه من القرآن اقرأ باسم ربك‏ الحديث و هو مطابق لحديث عكرمة في الترتيب و قد ذكرت فيه السور التي سقطت من حديث عكرمة فيما نزل بمكة.

و فيه، عن كتاب الناسخ و المنسوخ، لابن حصار :أن المدني باتفاق عشرون سورة، و المختلف فيه اثنا عشرة سورة و ما عدا ذلك مكي باتفاق انتهى.

و الذي اتفقوا عليه من المدنيات البقرة و آل عمران و النساء و المائدة و الأنفال و التوبة و النور و الأحزاب و سورة محمد و الفتح و الحجرات و الحديد و المجادلة و الحشر و الممتحنة و المنافقون و الجمعة و الطلاق و التحريم و النصر.

 

 

 

و ما اختلفوا في مكيته و مدنيته سورة الرعد و الرحمن و الجن و الصف و التغابن و المطففين و القدر و البينة و الزلزال و التوحيد و المعوذتان.

و للعلم بمكية السور و مدنيتها ثم ترتيب نزولها أثر هام في الأبحاث المتعلقة بالدعوة النبوية و سيرها الروحي و السياسي و المدني في زمنه (ص) و تحليل سيرته الشريفة، و الروايات كما ترى لا تصلح أن تنهض حجة معتمدا عليها في إثبات شي‏ء من ذلك على أن فيما بينها من التعارض ما يسقطها عن الاعتبار.

فالطريق المتعين لهذا الغرض هو التدبر في سياق الآيات و الاستمداد بما يتحصل من القرائن و الأمارات الداخلية و الخارجية، و على ذلك نجري في هذا الكتاب و الله المستعان.

(١٨) سورة الكهف مكية و هي مائة و عشر آيات (١١٠)

[سورة الكهف (١٨): الآیات ١ الی ٨]

﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ ﴾﴿اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ اَلْكِتَابَ وَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً ١ قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَ يُبَشِّرَ اَلْمُؤْمِنِينَ اَلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً ٢ مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً ٣ وَ يُنْذِرَ اَلَّذِينَ قَالُوا اِتَّخَذَ اَللَّهُ وَلَداً ٤ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَ لاَ لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً ٥ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا اَلْحَدِيثِ أَسَفاً ٦ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى اَلْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ٧ وَ إِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً ٨

 

 

 

(بيان)‏

السورة تتضمن الدعوة إلى الاعتقاد الحق و العمل الصالح بالإنذار و التبشير كما يلوح إليه ما افتتحت به من الآيتين و ما اختتمت به من قوله تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَ لاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً.

و فيها مع ذلك عناية بالغة بنفي الولد كما يدل على ذلك تخصيص إنذار القائلين بالولد بالذكر ثانيا بعد ذكر مطلق الإنذار أولا أعني وقوع قوله: ﴿وَ يُنْذِرَ اَلَّذِينَ قَالُوا اِتَّخَذَ اَللَّهُ وَلَداً بعد قوله: ﴿لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ.

فوجه الكلام فيها إلى الوثنيين القائلين ببنوة الملائكة و الجن و المصلحين من البشر و النصارى القائلين ببنوة المسيح (عليه السلام) و لعل اليهود يشاركونهم فيه حيث يذكر القرآن عنهم أنهم قالوا: عزير ابن الله.

و غير بعيد أن يقال إن الغرض من نزول السورة ذكر القصص الثلاث العجيبة التي لم تذكر في القرآن الكريم إلا في هذه السورة و هي قصة أصحاب الكهف و قصة موسى و فتاه في مسيرهما إلى مجمع البحرين و قصة ذي القرنين ثم استفيد منها ما استفرغ في السورة من الكلام في نفي الشريك و الحث على تقوى الله سبحانه.

و السورة مكية على ما يستفاد من سياق آياتها و قد استثني منها قوله: ﴿وَ اِصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ الآية و سيجي‏ء ما فيه من الكلام.

قوله تعالى: ﴿اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ اَلْكِتَابَ وَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً العوج‏ بفتح العين و كسرها الانحراف، قال في المجمع،: العوج بالفتح فيما يرى كالقناة و الخشبة و بالكسر فيما لا يرى شخصا قائما كالدين و الكلام. انتهى.

و لعل المراد بما يرى و ما لا يرى ما يسهل رؤيته و ما يشكل كما ذكره الراغب في المفردات، بقوله: العوج بالفتح يقال فيما يدرك بالبصر سهلا كالخشب المنتصب و نحوه و العوج بالكسر يقال فيما يدرك بالفكر و البصيرة كما يكون في أرض بسيط يعرف تفاوته بالبصيرة و كالدين و المعاش انتهى. فلا يرد عليه ما في قوله تعالى: ﴿لاَ تَرى فِيهَا عِوَجاً بكسر العين ﴿وَ لاَ أَمْتاً: طه: ١٠٧ فافهم.

 

 

 

 و قد افتتح تعالى الكلام في السورة بالثناء على نفسه بما نزل على عبده قرآنا لا انحراف فيه عن الحق بوجه و هو قيم على مصالح عباده في حياتهم الدنيا و الآخرة فله كل الحمد فيما يترتب على نزوله من الخيرات و البركات من يوم نزل إلى يوم القيامة فلا ينبغي أن يرتاب الباحث الناقد أن ما في المجتمع البشري من الصلاح و السداد من بركات ما بثه الأنبياء الكرام من الدعوة إلى القول الحق و الخلق الحسن و العمل الصالح و أن ما يمتاز به عصر القرآن في قرونه الأربعة عشر عما تقدمه من الأعصار من رقي المجتمع البشري و تقدمه في علم نافع أو عمل صالح للقرآن فيه أثره الخاص و للدعوة النبوية فيه أياديها الجميلة فلله في ذلك الحمد كله.

و من هنا يظهر أن قول بعضهم في تفسير الآية: يعني قولوا الحمد لله الذي نزل «إلخ» ليس على ما ينبغي.

و قوله: ﴿وَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً الضمير للكتاب و الجملة حال عن الكتاب و قوله:

﴿قَيِّماً حال بعد حال على ما يفيده السياق فإنه تعالى في مقام حمد نفسه من جهة تنزيله كتابا موصوفا بأنه لا عوج له و أنه قيم على مصالح المجتمع البشري فالعناية متعلقة بالوصفين موزعة بينهما على السواء و هو مفاد كونهما حالين من الكتاب.

و قيل إن جملة ﴿وَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً معطوفة على الصلة و ﴿قَيِّماً حال من ضمير ﴿لِلَّهِ و المعنى و الذي لم يجعل للكتاب حال كونه قيما عوجا أو أن ﴿قَيِّماً منصوب بمقدر، و المعنى: و الذي لم يجعل له عوجا و جعله قيما، و لازم الوجهين انقسام العناية بين أصل النزول و بين كون الكتاب قيما لا عوج له. و قد عرفت أنه خلاف ما يستفاد من السياق.

و قيل: إن في الآية تقديما و تأخيرا، و التقدير نزل الكتاب قيما و لم يجعل له عوجا و هو أردأ الوجوه.

و قد قدم نفي العوج على إثبات القيمومة لأن الأول كمال الكتاب في نفسه و الثاني تكميله لغيره و الكمال مقدم طبعا على التكميل.

و وقوع ﴿عِوَجاً و هو نكرة في سياق النفي يفيد العموم فالقرآن مستقيم في جميع جهاته فصيح في لفظه، بليغ في معناه، مصيب في هدايته، حي في حججه و براهينه، ناصح في أمره و نهيه، صادق فيما يقصه من قصصه و أخباره، فاصل فيما يقضي به

 

 

 

 محفوظ من مخالطة الشياطين، لا اختلاف فيه، و لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه.

و القيم هو الذي يقوم بمصلحة الشي‏ء و تدبير أمره كقيم الدار و هو القائم بمصالحها و يرجع إليه في أمورها، و الكتاب إنما يكون قيما بما يشتمل عليه من المعاني، و الذي يتضمنه القرآن هو الاعتقاد الحق و العمل الصالح كما قال تعالى: ﴿يَهْدِي إِلَى اَلْحَقِّ وَ إِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ: الأحقاف: ٣٠، و هذا هو الدين و قد وصف تعالى دينه في مواضع من كتابه بأنه قيم قال: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ اَلْقَيِّمِ: الروم: ٤٣ و على هذا فتوصيف الكتاب بالقيم لما يتضمنه من الدين القيم على مصالح العالم الإنساني في دنياهم و أخراهم.

و ربما عكس الأمر فأخذ القيمومة وصفا للكتاب ثم للدين من جهته كما في قوله تعالى: ﴿وَ ذَلِكَ دِينُ اَلْقَيِّمَةِ: البينة: ٥ فالظاهر أن معناه دين الكتب القيمة و هو نوع تجوز.

و قيل: المراد بالقيم المستقيم المعتدل الذي لا إفراط فيه و لا تفريط، و قيل: القيم المدبر لسائر الكتب السماوية يصدقها و يحفظها و ينسخ شرائعها و تعقيب الكلمة بقوله:

﴿لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَ يُبَشِّرَ اَلْمُؤْمِنِينَ إلخ يؤيد ما قدمناه.

قوله تعالى: ﴿لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَ يُبَشِّرَ اَلْمُؤْمِنِينَ اَلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلصَّالِحَاتِ الآية أي لينذر الكافرين عذابا شديدا صادرا من عند الله كذا قيل و الظاهر بقرينة تقييد المؤمنين المبشرين بقوله: ﴿اَلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلصَّالِحَاتِ إن التقدير لينذر الذين لا يعملون الصالحات أعم ممن لا يؤمن أصلا أو يؤمن و يفسق في عمله.

و الجملة على أي حال بيان لتنزيله الكتاب على عبده مستقيما قيما إذ لو لا استقامته في نفسه و قيمومته على غيره لم يستقم إنذار و لا تبشير و هو ظاهر.

و المراد بالأجر الحسن الجنة بقرينة قوله في الآية التالية: ﴿مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ﴿وَ يُنْذِرَ اَلَّذِينَ قَالُوا اِتَّخَذَ اَللَّهُ وَلَداً و هم عامة الوثنيين القائلين بأن الملائكة أبناء أو بنات له و ربما قالوا بذلك في الجن و المصلحين من البشر و النصارى

 

 

 

 القائلين بأن المسيح ابن الله و قد نسب القرآن إلى اليهود أنهم قالوا: عزير ابن الله.

و ذكر إنذارهم خاصة ثانيا بعد ذكره على وجه العموم أولا بقوله: ﴿لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُلمزيد الاهتمام بشأنهم.

قوله تعالى: ﴿مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَ لاَ لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ كانت عامتهم يريدون بقولهم: اتخذ الله ولدا حقيقة التوليد كما يدل عليه قوله ﴿أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ: الأنعام: ١٠١.

و قد رد سبحانه قولهم عليهم أولا بأنه قول منهم جهلا بغير علم و ثانيا بقوله في آخر الآية: ﴿إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً.

و كان قوله: ﴿مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ شاملا لهم جميعا من آباء و أبناء لكنهم لما كانوا يحيلون العلم به إلى آبائهم قائلين إن هذه ملة آبائنا و هم أعلم منا و ليس لنا إلا أن نتبعهم و نقتدي بهم فرق تعالى بينهم و بين آبائهم فنفى العلم عنهم أولا و عن آبائهم الذين كانوا يركنون إليهم ثانيا ليكون إبطالا لقولهم و لحجتهم جميعا.

و قوله: ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ذم لهم و إعظام لقولهم: اتخذ الله ولدا لما فيه من عظيم الاجتراء على الله سبحانه بنسبة الشريك و التجسم و التركب و الحاجة إلى المعين و الخليفة إليه، تعالى عن ذلك علوا كبيرا.

و ربما وقع في كلام أوائلهم إطلاق الابن على بعض خلقه بعناية التشريف للدلالة على قربه منه و اختصاصه به نظير قول اليهود فيما حكاه القرآن: عزير ابن الله، و قولهم:

نحن أبناء الله و أحباؤه، و كذا وقع في كلام عدة من قدمائهم إطلاق الابن على بعض الخلق الأول بعناية صدوره منه كما يصدر الابن عن الأب و إطلاق الزوج و الصاحبة على وسائط الصدور و الإيجاد كما أن زوج الرجل واسطة لصدور الولد منه فأطلق على بعض الملائكة من الخلق الأول الزوج و على بعض آخر منهم الابن أو البنت.

و هذان الإطلاقان و إن لم يشتملا على مثل ما اشتمل عليه الإطلاق الأول لكونهما من التجوز بعناية التشريف و نحوه لكنهما ممنوعان شرعا و كفى ملاكا لحرمتهما سوقهما و سوق أمثالهما عامة الناس إلى الشقاء الدائم و الهلاك الخالد.

قوله تعالى: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا اَلْحَدِيثِ أَسَفاً

 

 

 

البخوع و البخع‏ القتل و الإهلاك و الآثار علائم أقدام المارة على الأرض، و الأسف‏ شدة الحزن و المراد بهذا الحديث القرآن.

و الآية و اللتان بعدها في مقام تعزية النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و تسليته و تطييب نفسه و الفاء لتفريع الكلام على كفرهم و جحدهم بآيات الله المفهوم من الآيات السابقة و المعنى يرجى منك أن تهلك نفسك بعد إعراضهم عن القرآن و انصرافهم عنك من شدة الحزن، و قد دل على إعراضهم و توليهم بقوله: ﴿عَلى آثَارِهِمْ و هو من الاستعارة.

قوله تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى اَلْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً إلى آخر الآيتين الزينة الأمر الجميل الذي ينضم إلى الشي‏ء فيفيده جمالا يرغب إليه لأجله و الصعيد ظهر الأرض و الجرز على ما في المجمع، الأرض التي لا تنبت كأنها تأكل النبت أكلا.

و لقد أتى في الآيتين ببيان عجيب في حقيقة حياة الإنسان الأرضية و هو أن النفوس الإنسانية و هي في أصل جوهرها علوية شريفة ما كانت لتميل إلى الأرض و الحياة عليها و قد قدر الله أن يكون كمالها و سعادتها الخالدة بالاعتقاد الحق و العمل الصالح فاحتالت العناية الإلهية إلى توقيفها موقف الاعتقاد و العمل و إيصالها إلى محك التصفية و التطهير و إسكانها الأرض إلى أجل معلوم بإلقاء التعلق و الارتباط بينها و بين ما على الأرض من أمتعة الحياة من مال و ولد و جاه و تحبيبه إلى قلوبهم فكان ما على الأرض و هو جميل عندهم محبوب في أنفسهم زينة للأرض و حلية تتحلى بها لكونه عليها فتعلقت نفوسهم على الأرض بسببه و اطمأنت إليها.

فإذا انقضى الأجل الذي أجله الله تعالى لمكثهم في الأرض بتحقق ما أراده من البلاء و الامتحان سلب الله ما بينهم و بين ما على الأرض من التعلق و محى ما له من الجمال و الزينة و صار كالصعيد الجرز الذي لا نبت فيه و لا نضارة عليه و نودي فيهم بالرحيل و هم فرادى كما خلقهم الله تعالى أول مرة.

و هذه سنة الله تعالى في خلق الإنسان و إسكانه الأرض و تزيينه ما عليها له ليمتحنه بذلك و يتميز به أهل السعادة من غيرهم فيأتي سبحانه بالجيل بعد الجيل و الفرد بعد الفرد فيزين له ما على وجه الأرض من أمتعة الحياة ثم يخليه و اختياره ليختبرهم بذلك

 

 

 

ثم إذا تم الاختبار قطع ما بينه و بين زخارف الدنيا المزينة و نقله من دار العمل إلى دار الجزاء قال تعالى: ﴿وَ لَوْ تَرى إِذِ اَلظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ اَلْمَوْتِ وَ اَلْمَلاَئِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ إلى أن قال ﴿وَ لَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ تَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَ مَا نَرى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ اَلَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَ ضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ: الأنعام: ٩٤.

فمحصل معنى الآية لا تتحرج و لا تأسف عليهم إذ أعرضوا عن دعوتك بالإنذار و التبشير و اشتغلوا بالتمتع من أمتعة الحياة فما هم بسابقين و لا معجزين و إنما حقيقة حياتهم هذه نوع تسخير إلهي أسكناهم الأرض ثم جعلنا ما على الأرض زينة يفتتن الناظر إليها لتتعلق به نفوسهم فنبلوهم أيهم أحسن عملا و إنا لجاعلون هذا الذي زين لهم بعينه كالصعيد الجرز الذي ليس فيه نبت و لا شي‏ء مما يرغب فيه النفس فالله سبحانه لم يشأ منهم الإيمان جميعا حتى يكون مغلوبا بكفرهم بالكتاب و تماديهم في الضلال و تبخع أنت نفسك على آثارهم أسفا و إنما أراد بهم الابتلاء و الامتحان و هو سبحانه الغالب فيما شاء و أراد.

و قد ظهر بما تقدم أن قوله: ﴿وَ إِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً من الاستعارة بالكناية، و المراد به قطع رابطة التعلق بين الإنسان و بين أمتعة الحياة الدنيا مما على الأرض.

و ربما قيل: إن المراد به حقيقة معنى الصعيد الجرز، و المعنى أنا سنعيد ما على الأرض من زينة ترابا مستويا بالأرض، و نجعله صعيدا أملس لا نبات فيه و لا شي‏ء عليه.

و قوله: ﴿مَا عَلَيْهَا من قبيل وضع الظاهر موضع المضمر و كان من طبع الكلام أن يقال: و إنا لجاعلوه، و لعل النكتة مزيد العناية بوصف كونه على الأرض.

بحث روائي‏

 في تفسير العياشي، عن البرقي رفعه عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام): ﴿لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ قال: البأس الشديد علي (عليه السلام) و هو من لدن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قاتل معه عدوه فذلك قوله: ﴿لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ:

 

 

 

أقول: و رواه ابن شهرآشوب عن الباقر و الصادق (عليه السلام): و هو من التطبيق و ليس بتفسير.

 و في تفسير القمي، في حديث أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ يقول: قاتل نفسك على آثارهم، و أما أسفا يقول حزنا.

 و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن مردويه و الحاكم في التاريخ، عن ابن عمر قال: تلا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) هذه الآية ﴿لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً فقلت ما معنى ذلك يا رسول الله؟ قال: ليبلوكم أيكم أحسن عقلا و أورع عن محارم الله و أسرعكم في طاعة الله.

 و في تفسير القمي، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: ﴿صَعِيداً جُرُزاً قال: لا نبات فيها.

[سورة الكهف (١٨): الآیات ٩ الی ٢٦]

﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ اَلْكَهْفِ وَ اَلرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً ٩ إِذْ أَوَى اَلْفِتْيَةُ إِلَى اَلْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَ هَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً ١٠ فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي اَلْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً ١١ ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ اَلْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً ١٢ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَ زِدْنَاهُمْ هُدىً ١٣ وَ رَبَطْنَا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً ١٤ هَؤُلاَءِ قَوْمُنَا 

 

 

 

﴾﴿اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لاَ يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ اِفْتَرى عَلَى اَللَّهِ كَذِباً ١٥ وَ إِذِ اِعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَ مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اَللَّهَ فَأْوُوا إِلَى اَلْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً ١٦ وَ تَرَى اَلشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَتَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ اَلْيَمِينِ وَ إِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ اَلشِّمَالِ وَ هُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اَللَّهِ مَنْ يَهْدِ اَللَّهُ فَهُوَ اَلْمُهْتَدِ وَ مَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً ١٧ وَ تَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَ هُمْ رُقُودٌ وَ نُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ اَلْيَمِينِ وَ ذَاتَ اَلشِّمَالِ وَ كَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اِطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَ لَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً ١٨ وَ كَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَائَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى اَلْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَ لْيَتَلَطَّفْ وَ لاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً ١٩ إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَ لَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً ٢٠ وَ كَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اَللَّهِ حَقٌّ وَ أَنَّ اَلسَّاعَةَ لاَ رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا اِبْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ اَلَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً ٢١ سَيَقُولُونَ ثَلاَثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَ يَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ    

 

 

 

[1]  سورة البقرة الآية ١١٨.

[2]  فالآية لا تخلو من دلالة على تقدم سورة سبأ على هذه السورة نزولا.

[3]  تقدم بعض ما يدل ما يدل عليه من الرواية في ذيل قوله: «إنا نحن نزلنا الذكر» الآية الحجر: ٨ في الجزء الثاني عشر من الكتاب.

[4]  رواه الشيخ في التهذيب بإسناده عن الشحام عن الصادق عليه السلام و نسبه المحقق في الشرائع و الطبرسي في مجمع البيان الى رواية أصحابنا.




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 22383933

  • التاريخ : 14/03/2025 - 10:09

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net