00989338131045
 
 
 
 
 
 

 من ص 232 الى ص 308 

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الميزان في تفسير القرآن (الجزء الثاني عشر)   ||   تأليف : العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي (قده)

و كيف كان فقوله: ﴿لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ وَ مِنْ أَوْزَارِ اَلَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ اللام للغاية و هي متعلقة بقوله: ﴿قَالُوا أَسَاطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ و في قوله: ﴿يُضِلُّونَهُمْ دلالة على أن حملهم لأوزار غيرهم إنما هو من جهة إضلالهم فيعود الإضلال غاية و الحمل غاية الغاية، و التقدير قالوا أساطير الأولين ليضلوهم و هم أنفسهم ضالون فيحملوا أوزار أنفسهم كاملة و من أوزار أولئك الذين يضلونهم بغير علم.

و في تقييد قوله: ﴿لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ بقوله ﴿كَامِلَةً دفع لتوهم التقسيم و التبعيض بأن يحملوا بعضا من أوزار أنفسهم و بعضا من أوزار الذين يضلونهم فيعود الجميع أوزارا كاملة بل يحملون أوزار أنفسهم كاملة ثم من أوزار الذين يضلونهم.

و قوله: ﴿وَ مِنْ أَوْزَارِ اَلَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ من تبعيضية لأنهم لا يحملون جميع أوزارهم بل أوزارهم التي ترتبت على إضلالهم خاصة بشهادة السياق فالتبعيض إنما هو لتمييز الأوزار المترتبة على الإضلال من غيرها لا للدلالة على تبعيض كل وزر من أوزار الإضلال و حمل بعضه على هذا و بعضه على ذاك و لا تقسيم مجموع أوزار الإضلال و حمل قسم منه على هذا و قسم منه على ذاك مع تعريته عن القسم الآخر فإن أمثال قوله تعالى: ﴿وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ: الزلزال: ٨ تنافي ذلك فافهم.

و مما تقدم يظهر وهن ما استفاده بعضهم من قوله: ﴿لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ أن مقتضاه أنه لم ينقص منها شي‏ء و لم تكفر بنحو بلية تصيبهم في الدنيا أو طاعة مقبولة فيها كما تكفر بذلك أوزار المؤمنين.

و كذا ما استفاده بعض آخر أن في الآية دلالة على أنه تعالى قد يسقط بعض العقاب عن المؤمنين إذ لو كان هذا المعنى حاصلا للكل لم يكن لتخصيص هؤلاء الكفار به فائدة.

وجه الوهن أن ما ذكراه من خزي الكافرين و إكرام المؤمنين و إن كان حقا في نفسه كما تدل عليه الآيات الدالة على خزي الكفار بما يصيبهم في الدنيا و حبط أعمالهم و شمول المغفرة و الشفاعة لطائفة من المؤمنين، لكن هذه الآية ليست ناظرة إلى شي‏ء من ذلك بل العناية فيها إنما هي بالفرق بين أوزار أنفسهم و أوزار غيرهم الذين أضلوهم و أن الطائفة الثانية يلحقهم بعضها و هي التي ترتبت من الأوزار على الإضلال بخلاف

 

 

 

 الطائفة الأولى فهي لهم أنفسهم.

و أوهن منهما ما ذكره بعضهم أن ﴿مِنْ في قوله ﴿وَ مِنْ أَوْزَارِ اَلَّذِينَ إلخ زائدة أو بيانية، و هو كما ترى.

و تقييده سبحانه قوله: ﴿يُضِلُّونَهُمْ بقوله: ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ للدلالة على أن الذين أضلهم هؤلاء المشركون الذين قالوا: أساطير الأولين إنما ضلوا باتباعهم لهم تقليدا و بغير علم فالقائلون أئمة الضلال و هؤلاء الضلال أتباعهم و مقلدوهم ثم ختم سبحانه الآية بذمهم و تقبيح أمرهم جميعا فقال: ﴿أَلاَ سَاءَ مَا يَزِرُونَ.

قوله تعالى: ﴿قَدْ مَكَرَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اَللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ اَلْقَوَاعِدِ إلخ، إتيانه تعالى بنيانهم من القواعد هو حضور أمره تعالى عنده بعد ما لم يكن حاضرا، و هذا شائع في الكلام و خرور السقف سقوطه على الأرض و انهدامه.

و الظاهر كما يشعر به السياق أن قوله: ﴿فَأَتَى اَللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ اَلْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ اَلسَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ كناية عن إبطال كيدهم و إفساد مكرهم من حيث لا يتوقعون كمن يتقي أمامه و يراقبه فيأتيه العدو من خلفه فالله سبحانه يأتي بنيان مكرهم من ناحية قواعده و هم مراقبون سقفه مما يأتيه من فوق فينهدم عليهم السقف لا بهادم يهدمه من فوقه بل بانهدام القواعد.

و على هذا فقوله: ﴿وَ أَتَاهُمُ اَلْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ عطف تفسيري يفسر قوله: ﴿فَأَتَى اَللَّهُ بُنْيَانَهُمْ إلخ و المراد بالعذاب العذاب الدنيوي.

و في الآية تهديد للمشركين الذين كانوا يمكرون بالله و رسوله بتذكيرهم ما فعل الله بالماكرين من قبلهم من مستكبري الأمم الماضية حيث رد مكرهم إلى أنفسهم فكانوا هم الممكورين.

قوله تعالى: ﴿ثُمَّ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَ يَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ اَلَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ الإخزاء من الخزي و هو على ما ذكره الراغب الذل الذي يستحيي منه، و المشاقة من الشق و هو قطع بعض الشي‏ء و فصله منه فهي المخاصمة و المعاداة و الاختلاف ممن من شأنه أن يأتلف و يتفق فمشاقة المشركين في شركائهم هو اختلافهم مع أهل التوحيد و هم أمة واحدة فطرهم الله جميعا على التوحيد و دين الحق و مخاصمتهم

 

 

 

لهم و انفصالهم عنهم.

و المعنى: أن الله سبحانه سيخزيهم يوم القيامة و يضرب عليهم الذلة و الهوان بقوله: أين شركائي الذين كنتم تشاقون أهل الحق فيهم و تخاصمونهم و توجدون الاختلاف في دين الله.

قوله تعالى: ﴿قَالَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ إِنَّ اَلْخِزْيَ اَلْيَوْمَ وَ اَلسُّوءَ عَلَى اَلْكَافِرِينَ الخزي ذلة الموقف و السوء العذاب على ما يفيده السياق.

و هؤلاء الذين وصفهم الله بأنهم أوتوا العلم و أخبر أنهم يتكلمون بكذا هم الذين رزقوا العلم بالله و انكشفت لهم حقيقة التوحيد فإن ذلك هو الذي يعطيه السياق من جهة المقابلة بينهم مع وصفهم بالعلم و بين المشركين الذين ينكشف لهم يومئذ أنهم ما كانوا يعبدون إلا أسماء سموها و سرابا توهموه.

على أن الله سبحانه يخبر عنهم أنهم يتكلمون يومئذ و يقولون كذا و قد قال في وصف اليوم: ﴿لاَ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ اَلرَّحْمَنُ وَ قَالَ صَوَاباً: النبأ: ٣٨ و القول لا يكون صوابا بحق المعنى إلا مع كون قائله مصونا من خطأه و لغوه و باطله، و لا يكون مصونا في قوله إلا إذا كان مصونا في فعله و في علمه فهؤلاء قوم لا يرون إلا الحق و لا يفعلون إلا الحق و لا ينطقون إلا بالحق.

فإن قلت: فالذين أوتوا العلم بناء على ما فسر، هم أهل العصمة لكن تدفعه كثرة ورود هذه اللفظة في كلامه تعالى و إرادة غيرهم كقوله: ﴿وَ قَالَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اَللَّهِ خَيْرٌ: القصص: ٨٠ و قوله: ﴿وَ لِيَعْلَمَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ أَنَّهُ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ: الحج: ٥٤ إلى غير ذلك من الموارد الظاهر فيها عدم إرادة العصمة من إيتاء العلم.

قلت: ما ذكرناه إنما هو استفادة بمئونة المقام لا أنه مدلول اللفظ كلما أطلق في كلامه تعالى.

و أما قولهم: إن المراد بالذين أوتوا العلم هم الأنبياء فقط أو الأنبياء و المؤمنون الذين علموا في الدنيا بدلائل التوحيد أو المؤمنون فحسب أو الملائكة فلا دليل في كلامه تعالى على واحد منها بخصوصه.

 

 

 

 قوله تعالى: ﴿اَلَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ اَلْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا اَلسَّلَمَ إلى آخر الآية الظاهر أنه تفسير للكافرين الواقع في آخر الآية السابقة كما أن قوله الآتي: ﴿اَلَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ اَلْمَلاَئِكَةُ طَيِّبِينَ إلخ، تفسير للمتقين الواقع في آخر الآية التي قبله، و لا يستلزم كونه بيانا للكافرين كونه من تمام قول الذين أوتوا العلم حتى يختل نظم الكلام بقولهم: ﴿إِنَّ اَلْخِزْيَ اَلْيَوْمَ إلخ، ثم بيانهم بقولهم: ﴿اَلَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ اَلْمَلاَئِكَةُ إلخ دون أن يقولوا: الذين توفاهم الملائكة كما لا يخفى.

و قوله: ﴿فَأَلْقَوُا اَلسَّلَمَ أي الاستسلام‏ و هو الخضوع و الانقياد، و ضمير الجمع للكافرين و المعنى الكافرون هم الذين تتوفاهم الملائكة و يقبضون أرواحهم و الحال أنهم ظالمون لأنفسهم بكفرهم بالله فألقوا السلم و قدموا الخضوع و الانقياد مظهرين بذلك أنهم ما كانوا يعملون من سوء، فيرد عليهم قولهم و يكذبون و يقال لهم: بلى قد فعلتم و عملتم إن الله عليم بما كنتم تعملون قبل ورودكم هذا المورد و هو الموت.

قوله تعالى: ﴿فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى اَلْمُتَكَبِّرِينَ الخطاب للمجموع كما كان قوله: ﴿إِنَّ اَلْخِزْيَ اَلْيَوْمَ وَ اَلسُّوءَ عَلَى اَلْكَافِرِينَ و كذا قوله: ﴿اَلَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ اَلْمَلاَئِكَةُ إلخ، ناظرا إلى جماعة الكافرين دون كل واحد واحد منهم.

و على هذا يعود معناه إلى مثل قولنا ليدخل كل واحد منكم بابا من جهنم يناسب عمله و موقفه من الكفر لا أن يدخل كل واحد منهم جميع الأبواب أو أكثر من واحد منها، و قد تقدم الكلام في معنى أبواب جهنم في تفسير قوله تعالى: ﴿لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ: الحجر: ٤٤.

و المتكبرون هم المستكبرون بحسب المصداق و إن كانت العناية اللفظية مختلفة فيهما كالمسلم و المستسلم فالمستكبر هو الذي يطلب الكبر لنفسه بإخراجه من القوة إلى الفعل و إظهاره لغيره و المتكبر هو الذي يقبله لنفسه و يأخذه صفة.

قوله تعالى: ﴿وَ قِيلَ لِلَّذِينَ اِتَّقَوْا مَا ذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْراً إلى آخر الآية.

أخذ المسئول عنهم هم الذين اتقوا أي الذين شأنهم في الدنيا أنهم تلبسوا بالتقوى و هم المتصفون به المستمرون بدليل إعادة ذكرهم بعد بلفظ المتقين مرتين فيكون المسئول

 

 

 

 عنهم من هذه الطائفة خيارهم الكاملين في الإيمان كما كان المسئول عنهم في الطائفة الأخرى شرارهم الكاملين في الكفر و هم المستكبرون.

فقول بعضهم: إن المراد بالذين اتقوا مطلق المؤمنين الذين اتقوا الشرك أو الشرك و المعاصي في الجملة. ليس في محله.

و قوله: ﴿قَالُوا خَيْراً أي أنزل خيرا لأنه أنزل قرآنا يتضمن معارف و شرائع في أخذها و العمل بها خير الدنيا و الآخرة و في قولهم: ﴿خَيْراً اعتراف بكون القرآن نازلا من عنده تعالى مضافا إلى وصفهم له بالخيرية و في ذلك إظهار منهم المخالفة للمستكبرين حيث أجابوا بقولهم: ﴿أَسَاطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ أي هو أساطير و لو قال المتقون:

خير بالرفع لم يكن فيه اعتراف بالنزول كما أنه لو قال المستكبرون: أساطير الأولين بالنصب كان فيه اعتراف بالنزول. كذا قيل.

و قوله: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ اَلدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَ لَدَارُ اَلْآخِرَةِ خَيْرٌ ظاهر السياق أنه بيان لقولهم: ﴿خَيْراً و هل هو تتمة قولهم أو بيان منه تعالى؟ ظاهر قوله:

﴿وَ لَنِعْمَ دَارُ اَلْمُتَّقِينَ جَنَّاتُ عَدْنٍ إلى آخر الآية أنه كلام منه تعالى يبين به وجه الخيرية فيما أنزله إليهم فإنه أشبه بكلام الرب تعالى منه بكلام المربوب و خاصة المتقين الذين لا يجترءون على أمثال هذه الاقتراحات.

و المراد بالحسنة المثوبة الحسنة و ذلك لأنهم بالإحسان الذي هو العمل بما يتضمنه الكتاب يرزقون مجتمعا صالحا يحكم فيه العدل و الإحسان و عيشة طيبة مبنية على الرشد و السعادة ينالون ذلك جزاء دنيويا لإحسانهم لقوله: «لهم في الدنيا و لدار الحياة الآخرة خير جزاء لأن فيها بقاء بلا فناء و نعمة من غير نقمة و سعادة ليس معها شقاء.

و معنى الآية: و قيل للمتقين من المؤمنين ما ذا أنزل ربكم من الكتاب و ما شأنه؟ قالوا أنزل خيرا، و كونه خيرا هو أن للذين أحسنوا أي عملوا بما فيه فوضع الإحسان موضع الأخذ و العمل بما في الكتاب إيماء إلى أن الذي يأمر به الكتاب أعمال حسنة في هذه الدنيا مثوبة حسنة و لدار الآخرة خير لهم جزاء.

ثم مدح دارهم ليكون تأكيدا للقول فقال: ﴿وَ لَنِعْمَ دَارُ اَلْمُتَّقِينَ ثم بين دار المتقين بقوله: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاؤُنَ

 

 

 

 كَذَلِكَ يَجْزِي اَللَّهُ اَلْمُتَّقِينَ و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ﴿اَلَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ اَلْمَلاَئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ اُدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ بيان للمتقين كما كان قوله: ﴿اَلَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ اَلْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ إلخ بيانا للمستكبرين.

و الطيب‏ تعري الشي‏ء مما يختلط به فيكدره و يذهب بخلوصه و محوضته يقال:

طاب لي العيش أي خلص و تعرى مما يكدره و ينقصه و القول الطيب ما كان عاريا من اللغو و الشتم و الخشونة و سائر ما يوجب فيه غضاضة و الفرق بين الطيب و الطهارة أن الطهارة كون الشي‏ء على طبعه الأصلي بحيث يخلو عما يوجب التنفر عنه و الطيب كونه على أصله من غير أن يختلط به ما يكدره و يفسد أمره سواء تنفر عنه أم لا و لذلك قوبل الطيب بالخبيث المشتمل على الخبث الزائد، قال تعالى: ﴿اَلْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَ اَلْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَ اَلطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَ اَلطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ: النور: ٢٦ و قال: ﴿وَ اَلْبَلَدُ اَلطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَ اَلَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً:

الأعراف: ٥٨.

و على هذا فالمراد بكون المتقين طيبين في حال توفيهم خلوصهم من خبث الظلم في مقابل المستكبرين الذين وصفهم بالظلم حال التوفي في قوله السابق: ﴿اَلَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ اَلْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ و يكون معنى الآية أن المتقين هم الذين تتوفاهم الملائكة متعرين عن خبث الظلم الشرك و المعاصي يقولون لهم سلام عليكم و هو تأمين قولي لهم ﴿ اُدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ و هو هداية لهم إليها .

فالآية كما ترى تصف المتقين بالتخلص عن التلبس بالظلم و تعدهم الأمن و الاهتداء إلى الجنة فيعود مضمونها إلى معنى قوله: ﴿اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ اَلْأَمْنُ وَ هُمْ مُهْتَدُونَ: الأنعام: ٨٢.

و ذكر بعض المفسرين أن المراد بالطيب في الآية الطهارة عن دنس الشرك و فسره بعضهم بكون أقوالهم و أفعالهم زاكية، و الأكثر على تفسيره بالطهارة عن قذارة الذنوب و أنت بالتأمل فيما تقدم تعرف أن شيئا مما ذكروه لا يخلو عن تسامح.

قوله تعالى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ اَلْمَلاَئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ

 

 

 

 اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ إلخ، رجوع إلى حديث المستكبرين من المشركين و ذكر بعض أحوالهم و أقوالهم و قياسهم ممن سبقهم من طغاة الأمم الماضين و ما آل إليه أمرهم.

و قوله: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ اَلْمَلاَئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ سياق الآية و خاصة ما في الآية التالية من حديث العذاب ظاهر في أنها مسوقة للتهديد فالمراد بإتيان الملائكة نزولهم لعذاب الاستئصال و ينطبق على مثل قوله: ﴿مَا نُنَزِّلُ اَلْمَلاَئِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ مَا كَانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ: الحجر: ٨ و المراد بإتيان أمر الرب تعالى قيام الساعة و فصل القضاء و الانتقام الإلهي منهم.

و أما كون المراد بإتيان الأمر ما تقدم في أول السورة من قوله: ﴿أَتى‏َ أَمْرُ اَللَّهِ و قد قربنا هناك أن المراد به مجي‏ء النصر و ظهور الإسلام على الشرك فلا يلائم اللحن الشديد الذي في الآية تلك الملاءمة، و أيضا سيأتي في ذيل الآيات ذكر إنكارهم للبعث و إصرارهم على نفيه و الرد عليهم، و هو يؤيد كون المراد بإتيان الأمر قيام الساعة.

و قد أضاف الرب إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال: ﴿أَمْرُ رَبِّكَ و لم يقل: أمر الله أو أمر ربهم ليدل به على أن فيه انتصارا له (ص) و قضاء له عليهم.

و قوله: ﴿كَذَلِكَ فَعَلَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ تأكيد للتهديد و تأييد بالنظير أي فعل الذين من قبلهم مثل فعلهم من الجحود و الاستهزاء مما فيه بحسب الطبع انتظار عذاب الله ﴿فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا إلخ.

و قوله: ﴿وَ مَا ظَلَمَهُمُ اَللَّهُ وَ لَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ معترضة يبين بها أن الذي نزل بهم من العذاب لم يستوجبه إلا الظلم، غير أن هذا الظلم كان هو ظلمهم أنفسهم لا ظلما منه تعالى و تقدس، و لم يعذبهم الله سبحانه عن ظلم وقع منهم مرة أو مرتين بل أمهلهم إذ ظلموا حتى استمروا في ظلمهم و أصروا عليه كما يدل عليه قوله:

﴿كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ فعند ذلك أنزل عليهم العذاب، ففي قوله: ﴿وَ مَا ظَلَمَهُمُ اَللَّهُ إلخ، إثبات الاستمرار على الظلم عليهم و نفي أصل الظلم عن الله سبحانه.

قوله تعالى: ﴿فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَ حَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ﴿حَاقَ بِهِمْ أي حل بهم، و قيل: معناه نزل بهم و أصابهم، و الذي كانوا به يستهزءون هو العذاب الذي كانت رسلهم ينذرونهم به و معنى الآية ظاهر.

 

 

 

قوله تعالى: ﴿وَ قَالَ اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اَللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ نَحْنُ وَ لاَ آبَاؤُنَا وَ لاَ حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ إلخ، الذي تورده الآية شبهة على النبوة من الوثنيين المنكرين لها، و لذلك عرفهم بنعتهم الصريح حيث قال: ﴿وَ قَالَ اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا و لم يكتف بالضمير و لم يقل: و قالوا كما في الآيات السابقة ليعلم أن الشبهة لهم بعينهم.

و قوله: ﴿لَوْ شَاءَ اَللَّهُ مَا عَبَدْنَا جملة شرطية حذف فيها مفعول ﴿شَاءَ لدلالة الجزاء عليه، و التقدير لو شاء الله أن لا نعبد من دونه شيئا ما عبدنا إلخ.

و قول بعضهم: إن الإرادة و المشية لا تتعلق بالعدم و إنما تتعلق بالوجود، فلا معنى لمشية عدم العبادة فالأولى أن يقدر متعلق المشية أمرا وجوديا ملازما لعدم العبادة كالتوحيد مثلا و يكون التقديم لو شاء الله أن نوحده أو أن نعبده وحده ما عبدنا من دونه من شي‏ء، و استدل‏ بقوله (ص): «ما شاء الله كان و ما لم يشأ لم يكن» حيث علق عدم الكون على عدم المشية لا على مشية العدم.

و فيه أن ما ذكره حق بالنظر إلى حقيقة الأمر، إلا أن العنايات اللفظية و التوسعات الكلامية لا تدور دائما مدار الحقائق الكونية و الأنظار الفلسفية و أن الأفهام البسيطة و لم تكن أفهام أولئك الوثنيين بأرقى منها كما تجيز ترتب الفعل الوجودي على المشية تجيز تعلق عدمه بها، و في كلامه (ص) جريا على هذه العناية الظاهرية: «اللهم إن شئت أن لا تعبد لم تعبد».

على أنهم يشيرون بقولهم: ﴿لَوْ شَاءَ اَللَّهُ مَا عَبَدْنَا إلخ، إلى قول الرسل لهم:

لا تشركوا بالله و لا تعبدوا غير الله و لا تحرموا ما أحل الله و هي نواه و مدلول النهي طلب الترك.

على أن الوثنيين لا ينكرون توحيده تعالى في الألوهية بمعنى الصنع و الإيجاد، و إنما يشركون في العبادة بمعنى أنهم يخصونه تعالى بالصنع و الإيجاد و يخصون آلهتهم بالعبادة فلهم آلهة كثيرون أحدهم إله موجد غير معبود و هو الله سبحانه، و الباقون شفعاء معبودون غير موجدين فهم لا يعبدون الله أصلا لا أنهم يعبدونه تعالى و آلهتهم جميعا، و حينئذ لو كان التقدير «لو شاء الله أن نوحده في العبادة أو أن نعبده وحده»

 

 

 

 لكان الأهم أن يقع في الجزاء توحيدهم له في العبادة أو عبادتهم له وحده لا نفي عبادتهم لغيره أو كان نفي عبادة الغير كناية عن توحيد عبادته أو عبادته وحده، فافهم ذلك.

و إن كان و لا بد من تقدير متعلق المشية أمرا وجوديا فليكن التقدير: لو شاء الله أن نكف عن عبادة غيره ما عبدنا «إلخ» حتى يتحد الشرط و الجزاء بحسب الحقيقة في عين أنهما يختلفان في النفي و الإثبات.

و قوله: ﴿مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ لفظة من الأولى بيانية و الثانية زائدة لتأكيد الاستغراق في النفي، و المعنى ما عبدنا شيئا دونه، و نظير ذلك قوله: ﴿وَ لاَ حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ.

و قوله: ﴿نَحْنُ وَ لاَ آبَاؤُنَا بيان لضمير التكلم في ﴿عَبَدْنَا للدلالة على أنهم يتكلمون عنهم و عن آبائهم جميعا لأنهم كانوا يقتدون في عبادة الأصنام بآبائهم، و قد تكرر في القرآن حكاية مثل قولهم: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلى‏َ أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلى‏َ آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ: الزخرف: ٢٣.

و قوله: ﴿وَ لاَ حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ عطف على قوله: ﴿عَبَدْنَا إلخ أي و لو شاء الله أن لا نحرم من دونه من شي‏ء أو نحل ما حرمناه ما حرمنا إلخ، و المراد البحيرة و السائبة و غيرهما مما حرموه.

ثم إن قولهم: ﴿لَوْ شَاءَ اَللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ إلخ، ظاهر من جهة تعليق نفي العبادة على نفس مشيته تعالى في أنهم أرادوا بالمشية إرادته التكوينية التي لا تتخلف عن المراد البتة و لو أرادوا غيرها لقالوا: لو شاء الله كذا لأطعناه و استجبنا دعوته أو ما يفيد هذا المعنى.

فكأنهم يقولون: لو كانت الرسالة حقة و كان ما جاء به الرسل من النهي عن عبادة الأصنام و الأوثان و النهي عن تحريم البحيرة و السائبة و الوصيلة و غيرها نواهي لله سبحانه كان الله سبحانه شاء أن لا نعبد شيئا غيره و أن لا نحرم من دونه شيئا، و لو شاء الله سبحانه أن لا نعبد غيره و لا نحرم شيئا لم نعبد و لم نحرم لاستحالة تخلف مراده عن إرادته لكنا نعبد غيره و نحرم أشياء فليس يشاء شيئا من ذلك فلا نهي و لا أمر منه تعالى و لا شريعة و لا رسالة من قبله.

 

 

 

 هذا تقرير حجتهم على ما يعطيه السياق، و مغزى مرادهم أن عبادتهم لغير الله و تحريمهم لما حرموه و بالجملة عامة أعمالهم لم تتعلق بها مشية من الله بنهي و لو تعلقت لم يعملوها ضرورة.

و ليسوا يعنون بها أن مشية الله تعلقت بعبادتهم و تحريمهم فصارت ضرورية الوجود و هم ملجئون في فعلها مجبرون في الإتيان بها فلا معنى لنهي الرسل عنها بعد الإلجاء و ذلك أن ﴿لَوْ تفيد امتناع الجزاء لامتناع الشرط فيكون مفهوم الشرطية ﴿لَوْ شَاءَ اَللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ أنه لم يشأ ذلك فعبدنا غيره، و إن شئت قلت: لكنا عبدنا غيره فانكشف أنه لم يشأ ذلك، و أما مثل قولنا: لكنه شاء أن نعبد غيره فعبدنا غيره أو قولنا: لكنه شاء أن لا نوحده فعبدنا غيره فهو أجنبي عن مفهوم الشرطية و منطوقها جميعا.

على أنهم لو عنوا ذلك و كان غرضهم رد النبوة بإثبات الإلجاء في أفعالهم بما أقاموه من الحجة كانوا بذلك معترفين على الضلال مسلمين له غير أنهم معتذرون عن اتباع الهدى الذي أتاهم به الرسل بالإلجاء و الإجبار و أن الله شاء منهم ما هم عليه من الضلال و الشقاء بعبادة غير الله و تحريم ما أحل الله و أجبرهم على ذلك فليسوا يقدرون على تركه و لا يستطيعون التخلف عنه.

لكنهم مدعون للاهتداء مصرون على هذه المزعمة مصرحون بها كما حكى الله سبحانه ذلك عنهم بعد ذكر عبادتهم للملائكة إذ قال: ﴿وَ قَالُوا لَوْ شَاءَ اَلرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ إلى أن قال ﴿بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلى‏َ أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلى‏َ آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ: الزخرف: ٢٢ و قد تكرر في كلامه حكاية تعليلهم عبادة الأصنام بأنها سنة قومية قدسها سلفهم قبل خلفهم فمن الواجب أن يقدسها و يجري عليها خلفهم بعد سلفهم و أين هذا من الاعتراف بالضلال و الشقاء.؟ و كذا ليسوا يعنون بهذه الحجة أن أعمالهم مخلوقة لأنفسهم غير مرتبطة بالمشية الإلهية و لا أنه خالقها إذ الأعمال و الأفعال على هذا التقدير بمعزل من أن تتعلق بها الإرادة الإلهية، و إنما يتسبب تعالى لعدم فعل من الأفعال بإيجاد المانع عنه فكان الأنسب حينئذ أن يقولوا: لو شاء الله لصرفنا عن عبادة غيره و تحريم ما حرمناه و هو

 

 

 

مدفوع بظاهر الكلام أو يقولوا: لو شاء الله شيئا من أعمالنا لبطل و خرج عن كونه عملا لنا و نحن مستقلون به.

على أنه لو كان معنى قولهم: ﴿لَوْ شَاءَ اَللَّهُ مَا عَبَدْنَا هو أنه لو شاء لصرفنا كان حقا فلم يكن معنى لقوله تعالى في آية الزخرف السابقة: ﴿وَ قَالُوا لَوْ شَاءَ اَلرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ: الزخرف: ٢٠.

فالحق أنهم أرادوا بقولهم: ﴿لَوْ شَاءَ اَللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ أن يستدلوا بعبادتهم لها على أن المشية الإلهية لم تتعلق بتركها من غير تعرض لتعلق المشية بفعل العبادة أو لكون المشية مستحيلة التعلق بعبادتهم إلا بالصرف.

قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ فَعَلَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى اَلرُّسُلِ إِلاَّ اَلْبَلاَغُ اَلْمُبِينُ، خطاب للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بأمره أن يبلغ رسالته بلاغا مبينا و لا يعتني بما لفقوه من الحجة فإنها داحضة و الحجة تامة عليهم بالبلاغ و فيه إشارة إجمالية إلى دحض حجتهم.

فقوله: ﴿كَذَلِكَ فَعَلَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي على هذا الطريق الذي سلكه هؤلاء سلك الذين من قبلهم فعبدوا غير الله و حرموا ما لم يحرمه الله ثم إذا جاءتهم رسلهم ينهونهم عن ذلك قالوا: ﴿لَوْ شَاءَ اَللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ نَحْنُ وَ لاَ آبَاؤُنَا وَ لاَ حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ فالجملة كقوله تعالى: ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اَللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اَللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ: الأنفال: ٥٢.

و قوله: ﴿فَهَلْ عَلَى اَلرُّسُلِ إِلاَّ اَلْبَلاَغُ اَلْمُبِينُ أي بلغهم الرسالة بلاغا مبينا تتم به الحجة عليهم فإنما وظيفة الرسل البلاغ المبين و ليس من وظيفتهم أن يلجئوا الناس إلى ما يدعونهم إليه و ينهونهم عنه و لا أن يحملوا معهم إرادة الله الموجبة التي لا تتخلف عن المراد و لا أمره الذي إذا أراد شيئا قال له كن فيكون حتى يحولوا بذلك الكفر إلى الإيمان و يضطروا العاصي على الإطاعة.

فإنما الرسول بشر مثلهم و الرسالة التي بعث بها إنذار و تبشير و هي مجموعة قوانين اجتماعية أوحاها إليه الله فيها صلاح الناس في دنياهم و آخرتهم صورتها صورة الأوامر و النواهي المولوية و حقيقتها الإنذار و التبشير، قال تعالى: ﴿قُلْ لاَ أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي

 

 

 

 خَزَائِنُ اَللَّهِ وَ لاَ أَعْلَمُ اَلْغَيْبَ وَ لاَ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ: الأنعام: ٥٠ فهذا ما أمر به نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يبلغهم و قد أمر به نوحا و من بعده من الرسل (عليه السلام) أن يبلغوه أممهم كما في سورة هود و غيرها.

و قال أيضا مخاطبا نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم): ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى‏َ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَ لاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً: الكهف: ١١٠.

فهذا هو الذي يشير إليه على سبيل الإجمال بقوله: ﴿كَذَلِكَ فَعَلَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى اَلرُّسُلِ إِلاَّ اَلْبَلاَغُ اَلْمُبِينُ فإن ظاهره كما أشرنا إليه سابقا أن هذه حجة دائرة بينهم قديما و حديثا، و على هذا ليس من شأن الرسول إجبار الناس و إلجائهم على الإيمان و الطاعة بل البلاغ المبين بالإنذار و التبشير و حجتهم لا تدفع ذلك فبلغ ما أرسلت به بلاغا مبينا و لا تطمع في هداية من ضل منهم، و ستفصل الآيتان التاليتان ما أجملته هذه الآية و توضحانها.

قوله تعالى: ﴿وَ لَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اُعْبُدُوا اَللَّهَ وَ اِجْتَنِبُوا اَلطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اَللَّهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ اَلضَّلاَلَةُ إلخ، الطاغوت‏ في الأصل مصدر كالطغيان و هو تجاوز الحد بغير حق، و اسم المصدر منه الطغوى، قال الراغب:

الطاغوت‏ عبارة عن كل متعد و كل معبود من دون الله، و يستعمل في الواحد و الجمع، قال تعالى: ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ ﴿وَ اِجْتَنِبُوا اَلطَّاغُوتَ ﴿أَوْلِيَاؤُهُمُ اَلطَّاغُوتُ. انتهى.

و قوله: ﴿وَ لَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً إشارة إلى أن بعث الرسول أمر لا يختص به أمة دون أمة بل هو سنة إلهية جارية في جميع الناس بما أنهم في حاجة إليه و هو يدركهم أينما كانوا كما أشار إلى عمومه في الآية السابقة إجمالا بقوله: ﴿كَذَلِكَ فَعَلَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ.

و قوله: ﴿أَنِ اُعْبُدُوا اَللَّهَ وَ اِجْتَنِبُوا اَلطَّاغُوتَ بيان لبعث الرسول على ما يعطيه السياق أي ما كانت حقيقة بعث الرسول إلا أن يدعوهم إلى عبادة الله و اجتناب الطاغوت لأن الأمر و كذا النهي من البشر و خاصة إذا كان رسولا ليس إلا دعوة عادية

 

 

 

 لا إلجاء و اضطرارا تكوينيا، و لا أن للرسول أن يدعي ذلك حتى يرد عليه أنه لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شي‏ء و إذ لم يشأ فلا معنى للرسالة.

و من هنا يظهر أن قول بعضهم إن التقدير ليقول لهم: اعبدوا الله و اجتنبوا الطاغوت. ليس في محله.

و قوله: ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اَللَّهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ اَلضَّلاَلَةُ أي كانت كل من هذه الأمم مثل هذه الأمة منقسمة إلى طائفتين فبعضهم هو من هداه الله إلى ما دعاهم إليه الرسول من عبادة الله و اجتناب الطاغوت.

و ذلك أن الهداية من الله سبحانه لا يشاركه فيها غيره و لا تنسب إلى أحد دونه إلا بالتبع كما قال: ﴿إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لَكِنَّ اَللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ: القصص:

 ٥٦ و سنشير إليه في الآية التالية: ﴿إِنْ تَحْرِصْ عَلى‏َ هُدَاهُمْ فَإِنَّ اَللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ و الآيات في حصر الهداية فيه تعالى كثيرة، و لا يستلزم ذلك كونها أمرا اضطراريا لا صنع فيه للعبد أصلا فإنها اختيارية بالمقدمة كما يشير إليه قوله: ﴿وَ اَلَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَ إِنَّ اَللَّهَ لَمَعَ اَلْمُحْسِنِينَ: العنكبوت: ٦٩ يفيد أن للهداية الإلهية طريقا ميسرا للإنسان و هو الإحسان في العمل و إن الله لمع المحسنين لا يدعهم يضلون.

و بعض هذه الأمم الطائفة الثانية منهم هو من حقت عليه الضلالة أي ثبتت و لزمت، و هذه الضلالة هي التي من قبل العبد بسوء اختياره و ليس بالتي تتبعها مجازاة من الله فإن الله يصفها بقوله: ﴿حَقَّتْ ثم يضيفها في الآية التالية إلى نفسه إذ يقول: ﴿فَإِنَّ اَللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ فقد كانت هناك ضلالة ثم حقت و ثبتت بإثبات الله مجازاة فصارت هي التي من قبل الله سبحانه مجازاة، فتبصر.

و لم ينسب الله سبحانه في كلامه إلى نفسه إضلالا إلا ما كان مسبوقا بظلم من العبد أو فسق أو كفر و تكذيب أو نظائرها كقوله: ﴿وَ اَللَّهُ لاَ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظَّالِمِينَ: الجمعة: ٥ و عدم الهداية هو الإضلال، و قوله: ﴿وَ يُضِلُّ اَللَّهُ اَلظَّالِمِينَ وَ يَفْعَلُ اَللَّهُ مَا يَشَاءُ: إبراهيم:

 ٢٧ و قوله: ﴿وَ مَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ اَلْفَاسِقِينَ: البقرة: ٢٦ و قوله: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ ظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اَللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ: النساء: ١٦٨ و قوله: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اَللَّهُ قُلُوبَهُمْ: الصف: ٥ إلى غير ذلك من الآيات.

 

 

 

و لم يقل سبحانه: فمنهم من هدى الله و منهم من أضله مع كون ضلالهم ضلال مجازاة لا مانع من إضافته إليه تعالى دفعا لإيهام نسبة أصل الضلال إليه بل ذكر أولا من هداه ثم قابله بمن كان من حقه أن يضل و هو الذي اختار الضلالة على الهدى أي اختار أن لا يهتدي فلم يهده الله و حق له ذلك.

و توضيحه ببيان آخر: أن خلاصة الفرق بين الضلال الابتدائي و نسبته إلى العبد و الضلال مجازاة و نسبته إليه تعالى و نسبة الهداية ابتداء و مجازاة إلى الله سبحانه هي أن الله أودع في الإنسان إمكان الرشد و استعداد الاهتداء فإن جرى على سلامة الفطرة و لم يبطل الاستعداد باتباع الهوى و المعصية أو أصلحه بالندامة و التوبة بعد المعصية هداه الله، و هذه هداية مجازاة من الله سبحانه بعد الهداية الأولى الفطرية.

و إن اتبع هواه و عصى ربه بطل استعداده للاهتداء فلم يفض عليه الهدى و هو ضلاله بسوء اختياره فإن لم يندم و لم يراجع أثبته الله على حاله و حقت عليه الضلالة و هو الضلال مجازاة.

و ربما توهم متوهم أن الإمكان و الاستعداد لا يكون إلا ذا طرفين فالذي يمكنه الهدى يمكنه الضلال و الإنسان لا يزال مترددا بين آثار وجودية و أفعال مثبتة و الجميع منه تعالى حتى الاستعداد و الإمكان الأول.

و هو من أوهن التوهم فإن عد إمكان الضلال و ما يترتب عليه الضلال أمرا وجوديا و عطاء ربانيا يفسد معنى الضلال و يبطله فإن الضلال إنما هو ضلال لكونه عدم الهداية فلو عاد أمرا ثبوتيا لم يكن ضلالا بل صار الهدى و الضلال كلاهما أمرين وجوديين و عطاءين إلهيين نظير ما يترتب على الجماد مثلا من الآثار الوجودية الخارجة عن الهدى و الضلال.

و بعبارة أخرى: الضلال إنما يكون ضلالا إذا كان مقيسا إلى الهدى و من الواجب حينئذ أن يكون عدم الهدى و إذا أخذ أمرا وجوديا لم يكن ضلالا فلم ينقسم الموضوع إلى مهتد و ضال و لا حاله إلى هدى و ضلال فلا مفر من أخذ الضلال أمرا عدميا، و نسبة الضلال الأول إلى نفس العبد. فأحسن التأمل فيه فلا تزل قدم بعد ثبوتها.

و قوله: ﴿فَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ اَلْمُكَذِّبِينَ ظاهر السياق

 

 

 

 أن الخطاب للذين أشركوا القائلين: ﴿لَوْ شَاءَ اَللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ و الالتفات إلى خطابهم لكونه أشد تأثيرا في تثبيت القول و إتمام الحجة.

و الكلام متفرع على ما بين جوابا لحجتهم إجمالا و تفصيلا و محصل المعنى أن الرسالة و الدعوة النبوية ليست من الإرادة التكوينية الملجئة إلى ترك عبادة الأصنام و تحريم ما لم يحرمه الله حتى يستدلوا بعدم وجود الإلجاء على عدم وجود الرسالة و كذب مدعيها بل هي دعوة عادية بعث الله سبحانه بها رسلا يدعونكم إلى عبادة الله و اجتناب الطاغوت و حقيقته الإنذار و التبشير، و من الدليل على ذلك آثار الأمم الماضية الظالمة التي تحكي عن نزول العذاب عليهم فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين حتى يتبين لكم أن الدعوة النبوية التي هي إنذار حق و أن الرسالة ليست كما تزعمون.

قوله تعالى: ﴿إِنْ تَحْرِصْ عَلى‏َ هُدَاهُمْ فَإِنَّ اَللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَ مَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ لما بين أن الأمم الماضين انقسموا طائفتين و كانت إحدى الطائفتين هم الذين حقت عليهم الضلالة و كانت هؤلاء الذين أشركوا و قالوا ما قالوا كالذين من قبلهم منهم بين في هذه الآية أن ثبوت الضلالة في حقهم إنما هو ثبوت لا زوال معه و تحتم لا يقبل التغيير فإنه لا هادي بالحقيقة إلا الله فإن جاز هداهم كان الله هو هاديهم لكنه لا يهديهم فإنه يضلهم و لا يجتمع الهدى و الضلال معا، و ليس هناك ناصر ينصرهم على الله فيقهره على هداهم فليؤيس منهم.

ففي الآية تعزية للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و إرشاد له أن لا يحرص في هداهم و إعلام له أن القضاء قد مضى في حقهم و ما يبدل القول لديه و ما هو بظلام للعبيد.

فقوله: ﴿إِنْ تَحْرِصْ عَلى‏َ هُدَاهُمْ إلخ، في تقدير إن تحرص على هداهم لم ينفعهم حرصك شيئا فليسوا ممن يمكن له الاهتداء فإن الله هو الذي يهدي من اهتدى، و هو لا يهديهم فإنه يضلهم و لا يناقض تعالى فعل نفسه، و ليس لهم ناصرون ينصرونهم عليه.

و في هذه الآيات الثلاث مشاجرات طويلة بين المجبرة و المفوضة و كل يفسرها بما يقتضيه مذهبه حتى قال الإمام الرازي: إن المشركين أرادوا بقولهم: ﴿لَوْ شَاءَ اَللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ إلخ، أنه لما كان الكل من التوحيد و الشرك و الهدى و الضلال

 

 

 

 من الله كانت بعثة الأنبياء عبثا فنقول: هذا اعتراض على الله و جار مجرى طلب العلة في أحكامه و أفعاله تعالى و ذلك باطل فلا يقال له: لم فعلت هذا و لم لم تفعل ذلك؟.

قال: فثبت أن الله تعالى إنما ذم هؤلاء القائلين لأنهم اعتقدوا أن كون الأمر كذلك يمنع عن جواز بعثة الرسل لا لأنهم كذبوا في قولهم ذلك. انتهى ملخصا.

و قال الزمخشري إن المشركين فعلوا ما فعلوا من القبيح ثم نسبوه إلى ربهم و قالوا لو شاء الله إلى آخره و هذا مذهب المجبرة بعينه كذلك فعل أسلافهم فهل على الرسل إلا أن يبلغوا الحق و أن الله لا يشاء الشرك و المعاصي بالبيان و البرهان، و يطلعوا على بطلان الشرك و قبحه، و براءة الله من أفعال العباد، و أنهم فاعلوها بقصدهم و إرادتهم و اختيارهم، و أن الله باعثهم على جميلها و موفقهم له و زاجرهم عن قبيحها و موعدهم عليه، انتهى موضع الحاجة و قد أطالوا البحث عن ذلك من الجانبين.

و قد عرفت أن الآيات تروم غرضا وراء ذلك، و أن مرادهم بقولهم: ﴿لَوْ شَاءَ اَللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ إلخ، إبطال الرسالة بأن ما أتى به الرسل من النهي عن عبادة غير الله و تحريم ما لم يحرمه الله لو كان حقا لكان الله مريدا لتركهم عبادة غيره و تحريم ما لم يحرمه و لو كان مريدا ذلك لم يتحقق منهم و ليس كذلك، و أما أن الإرادة الإلهية تعلقت بفعلهم فوجب أو أنها لم تتعلق و من المحال أن تتعلق و ليست أفعالهم إلا مخلوقة لأنفسهم من غير أن يكون لله سبحانه فيها صنع فإنما ذلك أمر خارج عن مدلول كلامهم أجنبي عن الحجة التي أقاموها على ما يستفاد من السياق كما تقدم.

و في قوله: ﴿وَ مَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ دلالة على أن لغيرهم ناصرين كثيرين و ذلك أن السياق يدل على أنه ليس لهم ناصر أصلا لا واحد و لا كثير فنفي الناصرين بصيغة الجمع يكشف عن عناية زائدة بذلك أي أن هناك ناصرين لكنهم ليسوا لهم بل لغيرهم و ليس إلا من يهتدي بهدى الله، و نظير الآية ما حكاه الله سبحانه عن المجرمين يوم القيامة: ﴿فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ: الشعراء: ١٠٠.

و هؤلاء الناصرون هم الملائكة الكرام و سائر أسباب التوفيق و الهداية و الله سبحانه من ورائهم محيط، قال تعالى: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ يَوْمَ يَقُومُ اَلْأَشْهَادُ: المؤمن: ٥١.

 

 

 

 قوله تعالى: ﴿وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اَللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى‏َ إلى آخر الآية، قال في المفردات: الجهد بفتح الجيم و ضمها الطاقة، و المشقة أبلغ من الجهد بالفتح، قال: و قال تعالى: ﴿وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ أي حلفوا و اجتهدوا في الحلف أن يأتوا به على أبلغ ما في وسعهم. انتهى.

و قال في المجمع في معنى قوله: ﴿وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ أي بلغوا في القسم كل مبلغ. انتهى.

و قولهم: ﴿لاَ يَبْعَثُ اَللَّهُ مَنْ يَمُوتُ إنكار للحشر، و الجملة كناية عن أن الموت فناء فلا يتعلق به بعده خلق جديد، و هذا لا ينافي قول كلهم أو جلهم بالتناسخ فإنه قول بتعلق النفس بعد مفارقتها البدن ببدن آخر إنساني أو غير إنساني و عيشها في الدنيا، و هو قولهم بالتولد بعد التولد.

و قوله: ﴿بَلى‏َ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا أي ليس الأمر كما يقولون بل يبعث الله من يموت وعده وعدا ثابتا عليه حقا أي إن الله سبحانه أوجبه على نفسه بالوعد الذي وعد عباده، و أثبته إثباتا فلا يتخلف و لا يتغير.

و قوله: ﴿وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ أي لا يعلمون أنه من الوعد الذي لا يخلف و القضاء الذي لا يتغير لإعراضهم عن الآيات الدالة عليه الكاشفة عن وعده و هي خلق السماوات و الأرض و اختلاف الناس بالظلم و الطغيان و العدل و الإحسان و التكليف النازل في الشرائع الإلهية.

قوله تعالى: ﴿لِيُبَيِّنَ لَهُمُ اَلَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَ لِيَعْلَمَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ اللام للغاية و الغرض أي يبعث الله من يموت ليبين لهم إلخ، و الغايتان في الحقيقة غاية واحدة فإن الثانية من متفرعات الأولى و لوازمها فإن الكافرين إنما يعلمون أنهم كانوا كاذبين في نفي المعاد من جهة تبين الاختلاف الذي ظهر بينهم و بين الرسل بسبب إثبات المعاد و نفيه و ظهور المعاد لهم عيانا.

و تبين ما اختلف فيه الناس من شئون يوم القيامة، و قد تكرر في كلامه هذا التعبير و ما في معناه تكرارا صح معه جعل تبيين الاختلاف معرفا لهذا اليوم الذي ثقل في السماوات و الأرض و على ذلك يتفرع ما قصه الله سبحانه في كلامه من تفاصيل ـ

 

 

 

ما يجري فيه من المرور على الصراط و تطاير الكتب و وزن الأعمال و السؤال و الحساب و فصل القضاء.

و من المعلوم و خاصة من سياق آيات القيامة أن المراد بالاختلاف ليس ما يوجد بينهم بحسب الخلقة بنحو ذكورة و أنوثة و طول و قصر و بياض و سواد بل ما يوجد في دين الحق من الاختلاف في اعتقاد أو عمل. و قد بين الله ذلك لهم في هذه النشأة الدنيوية في كتبه المنزلة و بلسان أنبيائه بكل طريق ممكن كما يقول بعد عدة آيات: ﴿وَ مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ اَلْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ اَلَّذِي اِخْتَلَفُوا فِيهِ: الآية: ٦٤ من السورة.

و من هنا يظهر للمتدبر أن البيان الذي يخبر تعالى عنه و يخصه بيوم القيامة نوع آخر من الظهور و الوضوح غير ما يتمشى من الكتاب و النبوة في هذه الدنيا من البيان بالحكمة و الموعظة و الجدال بالتي هي أحسن، و ليس إلا العيان الذي لا يتطرق إليه شك و ارتياب و لا يهجس معه خطور نفساني بالخلاف كما يشير إليه قوله تعالى: ﴿لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ اَلْيَوْمَ حَدِيدٌ: ق: ٢٢ و قوله:

﴿يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اَللَّهُ دِينَهُمُ اَلْحَقَّ وَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلْحَقُّ اَلْمُبِينُ: النور: ٢٥.

فيومئذ يشاهدون حقائق ما اختلفوا فيه من المعارف الدينية الحقة و الأعمال الصالحة و ما أخلدوا إليه من الباطل و يفصل بينهم بظهور الحق و انجلائه.

قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْ‏ءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ هو نظير قوله في موضع آخر: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ: يس: ٨٢ و منه يعلم أنه تعالى يسمي أمره قولا كما يسمي أمره و قوله من حيث قوته و إحكامه و خروجه عن الإبهام و كونه مرادا حكما و قضاء، قال تعالى: ﴿وَ مَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اَللَّهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِنِ اَلْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ: يوسف: ٦٧ و قال: ﴿وَ قَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ اَلْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاَءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ: الحجر: ٦٦ و قال: ﴿وَ إِذَا قَضى‏َ أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ: البقرة: ١١٧ و كما يسمي قوله الخاص كلمة، قال تعالى: ﴿وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا اَلْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ اَلْمَنْصُورُونَ: الصافات: ١٧٢ و قال: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسى‏َ عِنْدَ اَللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ: آل عمران

 

 

 

 ٥٩، ثم قال في عيسى (عليه السلام): ﴿وَ كَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلى‏َ مَرْيَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ: النساء: ١٧١.

فتحصل من ذلك كله أن إيجاده تعالى أعني ما يفيضه على الأشياء من الوجود من عنده و هو بوجه نفس وجود الشي‏ء الكائن هو أمره و قوله حسب ما يسميه القرآن و كلمته لكن الظاهر أن الكلمة هي القول باعتبار خصوصيته و تعينه.

و يتبين بذلك أن إرادته و قضاءه واحد، و أنه بحسب الاعتبار متقدم على القول و الأمر فهو سبحانه يريد شيئا و يقضيه ثم يأمره و يقول له كن فيكون، و قد علل عدم تخلف الأشياء عن أمره بألطف التعليل إذ قال: ﴿وَ هُوَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَ يَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ اَلْحَقُّ: الأنعام: ٧٣ فأفاد أن قوله هو الحق الثابت بحقيقة معنى الثبوت أي نفس العين الخارجية التي هي فعله فلا معنى لفرض التخلف فيه و عروض الكذب أو البطلان عليه فمن الضروري أن الواقع لا يتغير عما هو عليه فلا يخطئ و لا يغلط في فعله، و لا يرد أمره، و لا يكذب قوله و لا يخلف في وعده.

و قد تبين أيضا من هذه الآية و من قوله: ﴿وَ قَالَ اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اَللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ إلخ، أن لله سبحانه إرادتين إرادة تكوين لا يتخلف عنها المراد، و إرادة تشريع يمكن أن تعصى و تطاع، و سنستوفي هذا البحث بعض الاستيفاء إن شاء الله.

(بحث روائي)

 في تفسير القمي، بإسناده عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: ﴿قَدْ مَكَرَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اَللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ اَلْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ اَلسَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ أَتَاهُمُ اَلْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ قال: بيت مكرهم أي ماتوا و أبقاهم الله في النار و هو مثل لأعداء آل محمد.

 أقول: و ظاهره أن قوله: ﴿فَأَتَى اَللَّهُ بُنْيَانَهُمْ إلخ كناية عن بطلان مكرهم.

 و في تفسير العياشي، عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: ﴿فَأَتَى اَللَّهُ

 

 

 

 بُنْيَانَهُمْ مِنَ اَلْقَوَاعِدِ قال: كان بيت غدر يجتمعون فيه إذا أرادوا الشر.

 و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: ﴿قَالَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ الآية قال: قال (عليه السلام):

الذين أوتوا العلم الأئمة يقولون لأعدائهم: أين شركاؤكم و من أطعتموهم في الدنيا؟ ثم قال: قال: فهم أيضا الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ﴿فَأَلْقَوُا اَلسَّلَمَ سلموا لما أصابهم من البلاء ثم يقولون: ﴿مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ فرد الله عليهم فقال:

﴿بَلىَ، إلخ.

 و في أمالي الشيخ، بإسناده عن أبي إسحاق الهمداني عن أمير المؤمنين (عليه السلام): فيما كتبه إلى أهل مصر قال: يا عباد الله إن أقرب ما يكون العبد من المغفرة و الرحمة حين يعمل بطاعته و ينصح في توبته. عليكم بتقوى الله فإنها يجمع الخير و لا خير غيرها و يدرك بها من خير الدنيا و خير الآخرة، قال عز و جل: ﴿وَ قِيلَ لِلَّذِينَ اِتَّقَوْا مَا ذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ اَلدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَ لَدَارُ اَلْآخِرَةِ خَيْرٌ وَ لَنِعْمَ دَارُ اَلْمُتَّقِينَ.

 و في تفسير العياشي، عن ابن مسكان عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: ﴿وَ لَنِعْمَ دَارُ اَلْمُتَّقِينَ قال الدنيا.

 و في تفسير القمي،: في قوله: ﴿اَلَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ اَلْمَلاَئِكَةُ طَيِّبِينَ قال: قال (عليه السلام) هم المؤمنون الذين طابت مواليدهم في الدنيا.

أقول: و هو بالنظر إلى ما يقابله من قوله: ﴿اَلَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ اَلْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ الآية لا يخلو عن خفاء و الرواية ضعيفة.

 و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال ":اجتمعت قريش فقالوا:

إن محمدا رجل حلو اللسان إذا كلمه الرجل ذهب بعقله فانظروا أناسا من أشرافكم المعدودين المعروفة أنسابهم فابعثوهم في كل طريق من طرق مكة على رأس كل ليلة أو ليلتين فمن جاء يريده فردوه عنه .

فخرج ناس منهم في كل طريق فكان إذا أقبل الرجل وافدا لقومه ينظر ما يقول محمد؟ فينزل بهم قالوا له: أنا فلان بن فلان فيعرفه بنسبه و يقول: أنا أخبرك بمحمد فلا يريد أن يعني إليه هو رجل كذاب لم يتبعه على أمره إلا السفهاء و العبيد و من لا خير فيه و أما شيوخ قومه و خيارهم فمفارقون له فيرجع أحدهم فذلك قوله:

 

 

 

﴿وَ إِذَا قِيلَ لَهُمْ مَا ذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ.

فإذا كان الوافد ممن عزم الله له على الرشاد فقالوا له مثل ذلك في محمد قال: بئس الوافد أنا لقومي إن كنت جئت حتى بلغت إلا مسيرة يوم رجعت قبل أن ألقى هذا الرجل و أنظر ما يقول و آتي قومي ببيان أمره فيدخل مكة فيلقى المؤمنين فيسألهم:

ما ذا يقول محمد؟ فيقولون: خيرا للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة يقول مال و لدار الآخرة خير و هي الجنة. أقول: و الاعتبار يساعد على القصة و ما في آخرها من تفسير الحسنة بالمال غير مرضي.

 و في الكافي، بإسناده عن صفوان بن يحيى قال: قلت لأبي الحسن (عليه السلام): أخبرني عن الإرادة من الله و من الخلق. قال: فقال: الإرادة من الخلق الضمير و ما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل، و أما من الله تعالى فإرادته إحداثه لا غير ذلك لأنه لا يروي و لا يهم و لا يتفكر، و هذه الصفات منفية عنه و هي صفات الخلق فإرادة الله الفعل لا غير ذلك يقول له كن فيكون بلا لفظ و لا نطق بلسان و لا همة و لا تفكر و لا كيف لذلك كما أنه لا كيف له.

 و في الدر المنثور، أخرج أحمد و الترمذي و حسنه و ابن أبي حاتم و ابن مردويه و البيهقي في شعب الإيمان و اللفظ له عن أبي ذر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: يقول الله:

يا بن آدم كلكم مذنب إلا من عافيت فاستغفروني أغفر لكم و كلكم فقراء إلا من أغنيت فسلوني أعطكم، و كلكم ضال إلا من هديت فسلوني الهدى أهدكم و من استغفرني و هو يعلم أني ذو قدرة على أن أغفر له غفرت له و لا أبالي .

و لو أن أولكم و آخركم و حيكم و ميتكم و رطبكم و يابسكم اجتمعوا على قلب أشقى واحد منكم ما نقص ذلك من سلطاني مثل جناح بعوضة، و لو أن أولكم و آخركم و حيكم و ميتكم و رطبكم و يابسكم اجتمعوا على قلب أتقى واحد منكم ما زادوا في سلطاني مثل جناح بعوضة، و لو أن أولكم و آخركم و حيكم و ميتكم و رطبكم و يابسكم سألوني حتى تنتهي مسألة كل واحد منهم فأعطيتهم ما سألوني ما نقص ذلك مما عندي كغرز إبرة لو غمسها أحدكم في البحر .

 

 

 

و ذلك أني جواد ماجد واحد عطائي كلام و عذابي كلام إنما أمري لشي‏ء إذا أردته أن أقول له كن فيكون.

[ سورة النحل (١٦): الآیات ٤١ الی ٦٤ ]

﴿وَ اَلَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اَللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي اَلدُّنْيَا حَسَنَةً وَ لَأَجْرُ اَلْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ٤١اَلَّذِينَ صَبَرُوا وَ عَلى‏ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ٤٢وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ اَلذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ٤٣بِالْبَيِّنَاتِ وَ اَلزُّبُرِ وَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ اَلذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ٤٤أَ فَأَمِنَ اَلَّذِينَ مَكَرُوا اَلسَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اَللَّهُ بِهِمُ اَلْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ اَلْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ ٤٥أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ ٤٦أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى‏ تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ ٤٧أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلى‏ مَا خَلَقَ اَللَّهُ مِنْ شَيْ‏ءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلاَلُهُ عَنِ اَلْيَمِينِ وَ اَلشَّمَائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَ هُمْ دَاخِرُونَ ٤٨وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَ اَلْمَلاَئِكَةُ وَ هُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ ٤٩يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ يَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ٥٠وَ قَالَ اَللَّهُ لاَ تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اِثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ٥١وَ لَهُ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لَهُ اَلدِّينُ وَاصِباً

 

 

 

﴿أَ فَغَيْرَ اَللَّهِ تَتَّقُونَ ٥٢وَ مَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اَللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ اَلضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ ٥٣ثُمَّ إِذَا كَشَفَ اَلضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ٥٤لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ٥٥وَ يَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ ٥٦وَ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ اَلْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَ لَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ ٥٧وَ إِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى‏ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَ هُوَ كَظِيمٌ ٥٨يَتَوَارى‏ مِنَ اَلْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَ يُمْسِكُهُ عَلى‏ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي اَلتُّرَابِ أَلاَ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ٥٩لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ اَلسَّوْءِ وَ لِلَّهِ اَلْمَثَلُ اَلْأَعْلى‏َ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ ٦٠وَ لَوْ يُؤَاخِذُ اَللَّهُ اَلنَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَ لَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى‏ أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَ لاَ يَسْتَقْدِمُونَ ٦١وَ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَ تَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ اَلْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ اَلْحُسْنى‏َ لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ اَلنَّارَ وَ أَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ ٦٢تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلى‏ أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ اَلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ اَلْيَوْمَ وَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ٦٣وَ مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ اَلْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ اَلَّذِي اِخْتَلَفُوا فِيهِ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ٦٤

 

 

 

 (بيان)

الآيتان الأوليان تذكران الهجرة و تعدان المهاجرين في الله وعدا حسنا في الدنيا و الآخرة، و باقي الآيات تعقب حديث شركهم بالله و تشريعهم بغير إذن الله، و هي بحسب المعنى تفصيل القول في الجواب عن عد المشركين الدعوة النبوية إلى ترك عبادة الآلهة و تحريم ما لم يحرمه الله أمرا محالا كما أشير إليه في قوله: ﴿وَ قَالَ اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا إلخ.

قوله تعالى: ﴿وَ اَلَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اَللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي اَلدُّنْيَا حَسَنَةً وَ لَأَجْرُ اَلْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ وعد جميل للمهاجرين و قد كانت من المؤمنين هجرتان عن مكة: إحداهما إلى حبشة هاجرتها عدة من المؤمنين بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بإذن من الله و رسوله إليها و لبثوا فيها حينا في أمن و راحة من أذى مشركي مكة و عذابهم و فتنتهم.

و الثانية هجرتهم من مكة إلى المدينة بعد مهاجرة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و الظاهر أن المراد بالهجرة في الآية هي الهجرة الثانية فسياق الآيتين أكثر ملاءمة لها من الأولى و هو ظاهر.

و قوله: ﴿فِي اَللَّهِ متعلق بهاجروا، و المراد بكون المهاجرة في الله أن يكون طلب مرضاته محيطا بهم في مهاجرتهم لا يخرجون منه إلى غرض آخر كما يقال: سافر في طلب العلم و خرج في طلب المعيشة أي لا غاية له إلا طلب العلم و لا بغية له إلا طلب المعيشة، و السياق يعطي أن قوله: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا أيضا مقيد بذلك معنى، و التقدير: و الذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا فيه، و إنما حذف اختصارا و إنما اكتفى به قيدا للمهاجرة لأنها محل الابتلاء فتخصيصه بإيضاح الحال أولى.

و قوله: ﴿لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي اَلدُّنْيَا حَسَنَةً قيل: أي بلدة حسنة بدلا مما تركوه من وطنهم كمكة و حواليها بدليل قوله: ﴿لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فإنه من بوأت له مكانا أي سويت و أقررته فيه.

و قيل: أي حالة حسنة من الفتح و الظفر و نحو ذلك فيكون قوله: ﴿لَنُبَوِّئَنَّهُمْ

 

 

 

إلخ، من الاستعارة بالكناية.

و الوجهان متحدان مآلا فإنهم إنما كانوا يهاجرون ليعقدوا مجتمعا إسلاميا طيبا لا يعبد فيه إلا الله، و لا يحكم فيه إلا العدل و الإحسان أو ليدخلوا في مجتمع هذا شأنه فلو رجعوا في مهاجرهم غاية حسنة أو وعدوا بغاية حسنة كان ذلك هذا المجتمع الصالح، و لو حمدوا البلدة التي يهاجرون إليها لكان حمدهم للمجتمع الإسلامي المستقر فيها لا لمائها أو هوائها فالغاية الحسنة التي يعدهم الله في الدنيا هي هذا المجتمع سواء أريد بالحسنة البلدة أو الغاية.

و قوله: ﴿وَ لَأَجْرُ اَلْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ تتميم للوعد و إشارة إلى أن أجر الآخرة أفضل من هذا الأجر الدنيوي لو كانوا يعلمون ما أعد الله لهم فيها من النعم فإن فيها سعادة من غير شقاء و خلودا من غير فناء و لذة غير مشوبة بألم و جوار رب العالمين.

قوله تعالى: ﴿اَلَّذِينَ صَبَرُوا وَ عَلى‏َ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ لا يبعد أن يستفاد من سياق الآيتين أن جملة العناية فيهما إلى وعد المهاجرين في الله وعدا حسنا في الدنيا و الآخرة من غير نظر إلى الإخبار بتحقق المهاجرة قبل حال الخطاب فيكون الكلام في معنى الاشتراط: من يهاجر في الله فله كذا و كذا، و تكون العناية في قوله: ﴿اَلَّذِينَ صَبَرُوا إلخ بتوصيف المهاجرين بالصبر و التوكل من غير نظر إلى ما تحقق منهم من ذلك أيام توقفهم في أوطانهم بين المشركين قبال أذاهم و فتنتهم.

و العناية بالتوصيف إنما هي لكون كلتا الصفتين دخيلتين في الغاية الحسنة التي وعدوا بها إذ لو لم يصبروا على مر الجهاد و أظهروا الجزع عند هجوم العظائم و لم يتأيدوا بالتوكل على الله و اعتمدوا على أنفسهم الضعيفة أحيط بهم و لم يتهيأ لهم المستقر و فرقهم العدو المصر على عداوته بددا و تلاشى المجتمع الصالح الذي أقاموه في مهاجرهم هذا في الدنيا، و أما أمر الآخرة ففساده بفساد المجتمع أو تلاشيه أوضح.

و لو كان المراد وعد المهاجرين الذين تحقق منهم الهجرة قبل نزول الآية تطييبا لنفوسهم و تسلية لهم عما أخرجوا من ديارهم و أموالهم و قاسوا الفتن و المحن كان قوله:

﴿اَلَّذِينَ صَبَرُوا وَ عَلى‏َ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ مدحا لهم بما ظهر منهم أيام إقامتهم بمكة

 

 

 

 و غيرها من الصبر في الله على أذى المشركين و التوكل على الله فيما عزموا عليه من الإسلام لله.

قوله تعالى: ﴿وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ اَلذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ رجوع ثان إلى بيان كيفية إرسال الرسل و إنزال الكتب حتى يتضح للمشركين أنه لم تكن الدعوة الدينية إلا دعوة عادية من رجال يوحى إليهم من البشر يندبون إلى ما فيه صلاح الناس في دنياهم و عقباهم.

و أنه لم يدع أحد من الرسل و لا ادعي في كتاب من كتب الشرائع أن الدعوة الدينية ظهور للقدرة الغيبية القاهرة لكل شي‏ء و الإرادة التكوينية لهدم النظام الجاري و نقض سنة الاختيار و إبطالها حتى يقول القائل منهم: ﴿لَوْ شَاءَ اَللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ إلخ.

و على هذا فقوله سبحانه: ﴿وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مسوق لحصر الرسالة على البشر العادي من رجال يوحى إليهم قبال ما ادعاه المشركون أنها لو كانت لكانت نقضا لنظام الطبيعة و إبطالا للاختيار و الاستطاعة.

و به يظهر عدم استقامة ما ذكره غير واحد منهم أن الآية مسوقة لرد المشركين من قريش حيث كانوا يزعمون أن البشر لا يصلح للرسالة و أنها لو كانت فهي من شأن الملائكة فالآية تخبر أن السنة الإلهية جرت حسب ما اقتضته الحكمة على أن لا يبعث للدعوة الدينية إلا رجالا من البشر يوحي إليهم المعارف و الأوامر و النواهي.

و ذلك أن سياق الآيات لا يساعد على ذلك، و لم يتقدم في الكلام ذكر لقولهم ذلك أو لاقتراحهم بعثة الملائكة للرسالة حتى يوجه الكلام إلى ذلك.

و إنما الذي تقدم هو قول المشركين: ﴿لَوْ شَاءَ اَللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ إلخ و كان مسوقا لإثبات استحالة النبوة لا لكونها من شأن الملائكة.

و استدل بعضهم بالآية على أن الله سبحانه لم يرسل صبيا و لا امرأة، و استشكل بنبوة عيسى (عليه السلام) في المهد و أجيب بأن النبوة أعم من الرسالة و الذي أثبته عيسى لنفسه بقوله: ﴿إِنِّي عَبْدُ اَللَّهِ آتَانِيَ اَلْكِتَابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا: مريم: ٣٠ هي النبوة دون الرسالة.

 

 

 

و فيه أن الاستدلال المذكور بالآية إنما هو بقوله: ﴿وَ مَا أَرْسَلْنَا و هذا الفعل كما يتعلق في القرآن بالرسول كذلك يتعلق بالنبي غير الرسول قال تعالى: ﴿وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لاَ نَبِيٍّ الآية فلو تم الاستدلال المذكور لدل على حرمان الأطفال و النساء عن الرسالة و النبوة جميعا، و قد حكى الله عن عيسى (عليه السلام) قوله: ﴿إِنِّي عَبْدُ اَللَّهِ آتَانِيَ اَلْكِتَابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا: مريم: ٣٠ و قال في يحيى (عليه السلام): ﴿وَ آتَيْنَاهُ اَلْحُكْمَ صَبِيًّا: مريم: ١٢.

و الحق أن الآية: ﴿وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً إنما هي في مقام بيان أن الرسل كانوا رجالا من البشر العادي من غير عناية بكونهم أول ما بعثوا للرسالة أفرادا بالغين مبلغ الرجال فالغرض أن نوحا و إبراهيم و موسى و عيسى و يحيى (عليه السلام) و هم رسل كانوا رجالا يوحى إليهم و لم يكونوا أشخاصا مجهزين بقدرة قاهرة غيبية و إرادة إلهية تكوينية.

و يقرب من الآية قوله تعالى: في موضع آخر: ﴿وَ مَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ اَلذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ وَ مَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لاَ يَأْكُلُونَ اَلطَّعَامَ وَ مَا كَانُوا خَالِدِينَ: الأنبياء: ٨.

و قوله: ﴿فَسْئَلُوا أَهْلَ اَلذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ الظاهر أنه خطاب للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و لقومه، و قد كان الخطاب في سابق الكلام للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) خاصة و المعنى موجه إلى الجميع فهو تعميم الخطاب للجميع ليتخذ كل من المخاطبين سبيله فمن كان لا يعلم ذلك كبعض المشركين راجع أهل الذكر و سألهم و من كان يعلم ذلك كالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و المؤمنين به كان في غنى عن الرجوع و السؤال.

و قيل: إن الخطاب في الآية للمشركين فإنهم هم المنكرون فليرجعوا و ليسألوا و فيه أن لازم ذلك كون الجملة التفاتا من خطاب الفرد إلى خطاب الجميع و لا نكتة ظاهرة تصحح ذلك و الله أعلم.

و الذكر حفظ معنى الشي‏ء أو استحضاره، و يقال لما به يحفظ أو يستحضر قال الراغب في المفردات: الذكر تارة يقال و يراد به هيئة للنفس بها يمكن للإنسان أن يحفظ

 

 

 

 ما يقتنيه من المعرفة و هو كالحفظ إلا أن الحفظ يقال اعتبارا بإحرازه و الذكر يقال اعتبارا باستحضاره، و تارة يقال لحضور الشي‏ء في القلب أو القول و لذلك قيل:

الذكر ذكران: ذكر بالقلب، و ذكر باللسان، و كل واحد منهما ضربان: ذكر عن نسيان و ذكر لا عن نسيان بل عن إدامة الحفظ، انتهى موضع الحاجة.

و الظاهر أن الأصل فيه ما هو للقلب و إنما يسمى اللفظ ذكرا اعتبارا بإفادته المعنى و إلقائه إياه في الذهن، و على هذا المعنى جرى استعماله في القرآن غير أن مورده فيه ذكر الله تعالى فالذكر إذا أطلق فيه و لم يتقيد بشي‏ء هو ذكره.

و بهذه العناية أيضا سمي القرآن وحي النبوة و الكتب المنزلة على الأنبياء ذكرا، و الآيات في ذلك كثيرة لا حاجة إلى إيرادها في هذا الموضع. و قد سمى الله سبحانه في الآية التالية القرآن ذكرا.

فالقرآن الكريم ذكر كما أن كتاب نوح و صحف إبراهيم و توراة موسى و زبور داود و إنجيل عيسى (عليه السلام) و هي الكتب السماوية المذكورة في القرآن كلها ذكر، و أهلها المتعاطون لها المؤمنين بها أهل الذكر.

و لما كان أهل الشي‏ء و خاصته أعرف بحاله و أبصر بأخباره كان على من يريد التبصر في أمره أن يرجع إلى أهله، و أهل الكتب السماوية القائمون على دراستها و تعلمها و العمل بشرائعها هم أهل الخبرة بها و العالمون بأخبار الأنبياء الجائين بها فعلى من أراد الاطلاع على شي‏ء من أمرهم أن يراجعهم و يسألهم.

لكن المشركين المخاطبين بمثل قوله: ﴿فَسْئَلُوا أَهْلَ اَلذِّكْرِ لما كانوا لا يسلمون للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) النبوة و لا يصدقونه في دعواه و يستهزءون بالقرآن ذي الذكر كما يذكره تعالى في قوله: ﴿وَ قَالُوا يَا أَيُّهَا اَلَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ اَلذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ: الحجر: ٦ لم ينطبق قوله: ﴿فَسْئَلُوا أَهْلَ اَلذِّكْرِ بحسب المورد إلا على أهل التوراة، و خاصة من حيث كونهم أعداء للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) رادين لنبوته و كانت نفوس المشركين طيبة بهم لذلك، و قد قالوا في المشركين: ﴿هَؤُلاَءِ أَهْدى‏َ مِنَ اَلَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً: النساء: ٥١.

و قال بعضهم: المراد بأهل الذكر أهل العلم بأخبار من مضى من الأمم سواء أ كانوا مؤمنين أم كفارا؟ و سمي العلم ذكرا لأن العلم بالمدلول يحصل غالبا من تذكر الدليل فهو من

 

 

 

 قبيل تسمية المسبب باسم السبب.

و فيه أنه من المجاز من غير قرينة موجبة للحمل عليه على أن المعهود من الموارد التي ورد فيها الذكر في القرآن الكريم غير هذا المعنى.

و قال بعضهم: المراد بأهل الذكر أهل القرآن لأن الله سماه ذكرا و أهله النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و أصحابه و خاصة المؤمنين. و فيه أن كون القرآن ذكرا و أهله أهله لا ريب فيه لكن إرادة ذلك من الآية خاصة لا تلائم تمام الحجة فإن أولئك لم يكونوا مسلمين لنبوة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فكيف يقبلون من أتباعه من المؤمنين؟.

و كيف كان فالآية إرشاد إلى أصل عام عقلائي و هو وجوب رجوع الجاهل إلى أهل الخبرة، و ليس ما تتضمنه من الحكم حكما تعبديا، و لا أمر الجاهل بالسؤال عن العالم و لا بالسؤال عن خصوص أهل الذكر أمرا مولويا تشريعيا و هو ظاهر.

قوله تعالى: ﴿بِالْبَيِّنَاتِ وَ اَلزُّبُرِ متعلق بمقدر يدل عليه ما في الآية السابقة من قوله: ﴿وَ مَا أَرْسَلْنَا أي أرسلناهم بالبينات و الزبر و هي الآيات الواضحة الدالة على رسالتهم و الكتب المنزلة عليهم.

و ذلك أن العناية في الآية السابقة إنما هي ببيان كون الرسل بشرا على العادة فحسب فكأنه لما ذكر ذلك اختلج في ذهن السامع أنهم بما ذا أرسلوا؟ فأجيب عنه فقيل: بالبينات و الزبر أما البينات فلإثبات رسالتهم و أما الزبر فلحفظ تعليماتهم.

و قيل: هو متعلق بقوله: ﴿وَ مَا أَرْسَلْنَا أي و ما أرسلنا بالبينات و الزبر إلا رجالا نوحي إليهم. و فيه أنه لا بأس به في نفسه لكنه مفوت لما تقدم من النكتة.

قوله تعالى: ﴿وَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ اَلذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ لا شك أن تنزيل الكتاب على الناس و إنزال الذكر على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) واحد بمعنى أن تنزيله على الناس هو إنزاله إليه ليأخذوا به و يوردوه مورد العمل كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً: النساء: ١٧٤ و قال: ﴿لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَ فَلاَ تَعْقِلُونَ: الأنبياء: ١٠.

فيكون محصل المعنى أن القصد بنزول هذا الذكر إلى عامة البشر و أنك و الناس في ذلك سواء، و إنما اخترناك لتوجيه الخطاب و إلقاء القول لا لنحملك قدرة غيبية

 

 

 

 و إرادة تكوينية إلهية فنجعلك مسيطرا عليهم و على كل شي‏ء بل لأمرين:

أحدهما: أن تبين للناس ما نزل تدريجا إليهم لأن المعارف الإلهية لا ينالها الناس بلا واسطة فلا بد من بعث واحد منهم للتبيين و التعليم، و هذا هو غرض الرسالة ينزل إليه الوحي فيحمله ثم يؤمر بتبليغه و تعليمه تبيينه.

و الثاني: رجاء أن يتفكروا فيك فيتبصروا أن ما جئت به حق من عند الله فإن الأوضاع المحيطة بك و الحوادث و الأحوال الواردة عليك في مدى حياتك من اليتم و خمود الذكر و الحرمان من التعلم و الكتابة و فقدان مرب صالح و الفقر و الاحتباس بين قوم جهلة أخساء صفر الأيدي من مزايا المدنية و فضائل الإنسانية كانت جميعا أسبابا قاطعة أن لا تذوق من عين الكمال قطرة، و لا تقبض من عرى السعادة على مسكة، لكن الله سبحانه أنزل إليك ذكرا تتحدى به على الجن و الإنس مهيمنا على سائر الكتب السماوية تبيانا لكل شي‏ء و هدى و رحمة و برهانا و نورا مبينا.

فالتفكر فيك نعم الدليل الهادي إلى أن ليس لك فيما جئت به صنع و لا لك من الأمر شي‏ء و إن الله أنزله بعلمه و أيدك لذلك بقدرته من غير أن يداخله من الأسباب العادية شي‏ء.

هذا ما تفيده الآية الكريمة نظرا إلى سياقها و سياق ما قبلها و محصله أن قوله:

﴿لِتُبَيِّنَ إلخ، غاية للإنزال لا لنفسه بل من حيث تعلقه بشخص النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و أن متعلق ﴿يَتَفَكَّرُونَ المحذوف هو نحو قولنا: فيك لا قولنا: في الذكر.

لكن القوم ذكروا أن قوله: ﴿لِتُبَيِّنَ غاية للإنزال و أن المراد بالتفكر التفكر في الذكر ليعلم بذلك أنه حق و معنى الآية على هذا: ﴿وَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ اَلذِّكْرَ أي القرآن لتبين للناس كافة ما نزل إليهم في ذلك الذكر من أصول المعارف و الأحكام و الشرائع و أحوال الأمم الماضية و ما جرى فيهم من سنة الله تعالى، و لرجاء أن يتفكروا في الذكر فيهتدوا إلى أنه حق من عند الله أو يتفكروا فيما تبينه لهم.

و أنت خبير بأن لازم ذلك أولا شبه تحصيل الحاصل في إنزاله إليه ليبين لهم ما نزل إليهم، و الإنزال واحد، و لا مدفع له إلا أن يغير النظم إلى مثل قولنا: و أنزلنا إليك الذكر لتبينه لهم.

 

 

 

 و ثانيا: كون قوله: ﴿إِلَيْكَ مستدركا مستغنى عنه و خاصة بالنظر إلى قوله:

﴿وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ و ذلك أن الإنزال غايته التبيين و لا أثر في ذلك لكونه (ص) هو المنزل إليه دون غيره، و كذلك التفكر في الذكر غاية مرجوة للعلم بأنه حق من عند الله من غير نظر إلى من أنزل إليه، و لازم ذلك كون قوله: ﴿إِلَيْكَ زائدا في الكلام لا حاجة إليه.

و ثالثا: انقطاع الآية بسياقها عن سياق الآية السابقة عليها: ﴿وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ و الآيات المتقدمة عليها.

و هاهنا وجه آخر يمكن أن يندفع به بعض الإشكالات السابقة و هو كون المراد بالذكر المنزل لفظ القرآن الكريم و بما نزل إليهم معاني الأحكام و الشرائع و غيرها، و يكون قوله: ﴿لِتُبَيِّنَ غاية للإنزال، و قوله: ﴿وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ معطوفا على مقدر و غاية للتبيين لا للإنزال، و هو خلاف ظاهر الآية، و عليك بإجادة التدبر فيها.

و من لطيف التعبير في الآية قوله: ﴿وَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ و ﴿مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ بتفريق الفعلين بالأفعال الدال على اعتبار الجملة و الدفعة و التفعيل الدال على اعتبار التدريج، و لعل الوجه في ذلك أن العناية في قوله: ﴿وَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ بتعلق الإنزال بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فقط من غير نظر إلى خصوصية نفس الإنزال، و لذلك أخذ الذكر جملة واحدة فعبر عن نزوله من عنده تعالى بالإنزال.

و أما الناس فإن الذي لهم من ذلك هو الأخذ و التعلم و العمل، و قد كان تدريجيا و لذلك عني به و عبر عن نزوله إليهم بالتنزيل.

و في الآية دلالة على حجية قول النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في بيان الآيات القرآنية، و أما ما ذكره بعضهم أن ذلك في غير النص و الظاهر من المتشابهات أو فيما يرجع إلى أسرار كلام الله و ما فيه من التأويل فمما لا ينبغي أن يصغي إليه.

هذا في نفس بيانه (ص) و يلحق به بيان أهل بيته لحديث الثقلين المتواتر و غيره و أما سائر الأمة من الصحابة أو التابعين أو العلماء فلا حجية لبيانهم لعدم شمول الآية و عدم نص معتمد عليه يعطي حجية بيانهم على الإطلاق.

 

 

 

و أما قوله تعالى: ﴿فَسْئَلُوا أَهْلَ اَلذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ فقد تقدم أنه إرشاد إلى حكم العقلاء بوجوب رجوع الجاهل إلى العالم من غير اختصاص الحكم بطائفة دون طائفة.

هذا كله في نفس بيانهم المتلقى بالمشافهة، و أما الخبر الحاكي له فما كان منه بيانا متواترا أو محفوفا بقرينة قطعية و ما يلحق به فهو حجة لكونه بيانهم، و أما ما كان مخالفا للكتاب أو غير مخالف لكنه ليس بمتواتر و لا محفوفا بالقرينة فلا حجية فيه لعدم كونه بيانا في الأول و عدم إحراز البيانية في الثاني و للتفصيل محل آخر.

قوله تعالى: ﴿أَ فَأَمِنَ اَلَّذِينَ مَكَرُوا اَلسَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اَللَّهُ بِهِمُ اَلْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ اَلْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ هذه الآية و الآيتان بعدها إنذار و تهديد للمشركين و هم الذين يعبدون غير الله سبحانه و يشرعون لأنفسهم سننا يستنون بها في الحياة فما يعملون من الأعمال مستقلين فيها بأنفسهم معرضين عن شرائع الله النازلة من طريق النبوة استنادا إلى حجج داحضة اختلقوها لأنفسهم كلها سيئات و ما يتقلبون فيها مدى حياتهم من حركة أو سكون و أخذ أو رد و فعل أو ترك و هم على ما هم عليه من استكبار و غرور، كلها ذنوب يقترفونها مكرا بالله ربهم و برسله الداعين إلى الأخذ بدين الله و لزوم سبيله.

فقوله: ﴿اَلسَّيِّئَاتِ مفعول ﴿مَكَرُوا بتضمينه بمعنى عملوا أي عملوا السيئات ماكرين، و ما احتمله بعضهم من كون السيئات وصفا سادا مسد المفعول المطلق و التقدير: يمكرون المكرات السيئات بعيد من السياق.

و بالجملة الكلام لتهديد المشركين و إنذارهم بالعذاب الإلهي و يدخل فيهم مشركو مكة، و الكلام متفرع على ما تقدم كما يدل عليه قوله: ﴿أَ فَأَمِنَ بفاء التفريع.

و المعنى و الله أعلم فإذا دلت الآيات البينات على أن الله هو ربهم لا شريك له في ربوبيته و أن الرسالة ليست بأمر محال بل هي دعوة إلى ما فيه صلاح معاشهم و معادهم و خير دنياهم و أخراهم من رجال هم أمثالهم يبعثهم الله و يوحي إليهم بما تشتمل عليه الدعوة، فهؤلاء الذين يعرضون عن ذلك و يمكرون بالله و رسله بالتشبث بهذه الحجج الواهية لتسوية الطريق إلى ترك دين الله و تشريع ما يوافق أهواءهم و يعملون

 

 

 

 السيئات هل أمنوا أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب و هم لا يشعرون، أي يفاجئهم من غير أن يتنبهوا بتوجهه إليهم قبل نزوله.

قوله تعالى: ﴿أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ الفاعل هو الله سبحانه و قد كثرت في القرآن نسبة الأخذ إليه، و قيل: الضمير للعذاب، و التقلب هو التحول من حال إلى حال و المراد به تحول المشركين في مقاصدهم و أعمالهم السيئة و انتقالهم من نعمة إلى نعمة أخرى من نعم الحياة الدنيا، قال تعالى: ﴿لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فِي اَلْبِلاَدِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ اَلْمِهَادُ: آل عمران: ١٩٧.

فالمراد بأخذهم في تقلبهم أن يأخذهم في عين ما يتقلبون فيه من السيئات مكرا بالله و رسله بالعذاب أو المعنى يعذبهم بنفس ما يتقلبون فيه فيعود النعمة نقمة، و هذا أنسب بالنظر إلى قوله: ﴿فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ.

و قوله: ﴿فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ في مقام التعليل لأخذهم في تقلبهم و مكرهم السيئات أي لأنهم ليسوا بمعجزين لله فيما أراد بالتغلب عليه أو بالفرار من حكمه، و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ﴿أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى‏َ تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ التخوف تمكن الخوف من النفس و استقراره فيها فالأخذ على تخوف هو العذاب مبنيا على المخافة بأن يشعروا بالعذاب فيتقوه و يحذروه بما استطاعوا من توبة و ندامة و نحوهما فيكون الأخذ على تخوف مقابلا لإتيان العذاب من حيث لا يشعرون.

و ربما قيل: إن الأخذ على تخوف هو العذاب بما يخاف منه من غير هلاك كالزلزلة و الطوفان و غيرهما.

و ربما قيل: إن معنى التخوف التنقص بأن يأخذهم الله بنقص النعم واحدة بعد واحدة تدريجيا كأخذ الأمن ثم الأمطار ثم الرخص ثم الصحة و هكذا.

و قوله: ﴿فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ في مقام التعليل أي يأخذهم على تخوف و يتنزل في عذابهم إلى هذا النوع من العذاب الذي هو أهون الأنواع المعدودة لأنه رءوف رحيم، و في التعبير بقوله: ﴿رَبَّكُمْ إشارة إلى ذلك، و كونه في مقام التعليل بالنسبة إلى الوجهين الأولين ظاهر، و أما بالنسبة إلى الثالث فلأن الأخذ بالنقص لا يخلو من

 

 

 

 مهلة و فرصة يتنبه فيها من تنبه فيأخذ بالحذر بتوبة أو غيرها.

و الكلام في تعداد أنواع العذاب المذكورة ليس مسوقا للحصر كما نبه به بعضهم بل إحصاء لأنواع منه.

قوله تعالى: ﴿أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلى‏َ مَا خَلَقَ اَللَّهُ مِنْ شَيْ‏ءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلاَلُهُ عَنِ اَلْيَمِينِ وَ اَلشَّمَائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَ هُمْ دَاخِرُونَ المراد بالرؤية الرؤية البصرية و النظر الحسي إلى الأشياء الجسمانية لأن المطلوب إلفات النظر إلى الأجسام ذوات الأظلال.

و التفيؤ من الفي‏ء و هو الظل راجعا، و لذا قيل: إن الظل هو ما في أول النهار إلى زوال الشمس و الفي‏ء هو ما يكون بعد زوال الشمس إلى آخر النهار، و الظاهر أن الظل أعم من الفي‏ء كما تقدم و تؤيده الآية. فالتفيؤ رجوع الظل بعد زواله.

و الشمائل‏ جمع شمأل و هو خلاف اليمين، و جمعه باعتبار أخذ كل سمت مفروض خلف الشي‏ء و عن يساره جهة شمال على حدة فهي شمائل تقابل اليمين كما أن عد كل شي‏ء ذا أظلال بهذه العناية أخذا للظل بالنسبة إلى كل جهة من اليمين و الشمائل ظلا غيره بالنسبة إلى جهة أخرى لا لأن الشي‏ء المذكور جمع بحسب المعنى و إن كان مفردا بحسب اللفظ. و الدخور هو الخضوع و الصغار.

و كون المراد بالرؤية الرؤية البصرية قرينة على أن المراد بما خلق الله من شي‏ء - و من شي‏ء بيان لما خلق الله - هو الأشياء المرئية، و ما تعقبه من حديث تفيؤ الظلال يحصرها في الأجسام الكثيفة التي لها ظلال كالجبال و الأشجار و الأبنية و الأجسام القائمة على الأرض فلا يرد أن ما خلق الله و خاصة بعد بيانه بالشي‏ء لا يلازمه الظل كالأجرام العلوية المضيئة و الأجسام الشفافة و أعراض الأجسام.

و لدفع هذا الإشكال جعل بعضهم قوله: ﴿يَتَفَيَّؤُا ظِلاَلُهُ إلخ، وصفا لشي‏ء حتى يخص البيان بالأشياء المخلوقة التي لها أفياء و أظلال و لا يخلو من وجه.

و الآية تهدي المشركين و هم منكرون للتوحيد و النبوة إلى النظر في حال الأجسام التي لها أظلال تدور عن يمينها و عن شمائلها فإنها تمثل سجودها لله و خضوعها له و صغارها قبال عظمته و كبريائه، و كذا سجود ما في السماوات و الأرض من دابة و الملائكة.

فهي جميعا ساجدة لله وحده لانقيادها الذاتي لأمره ممثلة للخضوع و الصغار بهذا

 

 

 

 النسك الوجودي و العبادة التكوينية.

و هذا من أوضح الدليل على أن في العالم إلها معبودا واحدا هو الله سبحانه و أن من حقه أن يسجد له و يخضع لأمره، و هذا هو التوحيد و النبوة اللذان ينكرونهما فهل التوحيد إلا الإذعان بكونه سبحانه هو الإله الذي يجب الخضوع له و التوجه بالذلة و الصغار إليه؟ و هل الدين الذي تتضمنه دعوة الأنبياء و الرسل إلا الخضوع لله سبحانه و الانقياد لأمره فيما أراد؟ فما بالهم ينكرون ذلك؟ و هم يرون و يعلمون أن ما على الأرض من أظلال الأجسام الكثيفة يسجد له، و ما في السماوات و الأرض من الملائكة و الذوات ساجدة له منقادة لأمره حتى أرباب أصنامهم الذين يتخذونهم آلهة دون الله فإنهم إما من الملائكة و إما من الجن و إما من كملي البشر، و هم جميعا داخرون له منقادون لأمره.

فمعنى الآية و الله أعلم ﴿أَ وَ لَمْ يَرَوْا هؤلاء المشركون المنكرون لتوحيد الربوبية و لدعوة النبوة أ و لم ينظروا ﴿إِلى‏َ مَا خَلَقَ اَللَّهُ مِنْ شَيْ‏ءٍ من هذه الأجسام القائمة على بسيط الأرض من جبل أو بناء أو شجر أو أي جسم منتصب ﴿يَتَفَيَّؤُا و يرجع و يدور ﴿ظِلاَلُهُ عَنِ اَلْيَمِينِ وَ اَلشَّمَائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ واقعة على الأرض تذللا و تعبدا له سبحانه ﴿وَ هُمْ دَاخِرُونَ خاضعون صاغرون.

و قد تقدم الكلام في معنى سجدة الظلال ذيل قوله تعالى: ﴿وَ ظِلاَلُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَ اَلْآصَالِ: الرعد: ١٥ في الجزء الحادي عشر من الكتاب.

قوله تعالى: ﴿وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَ اَلْمَلاَئِكَةُ إلى آخر الآيتين. ذكرت الآية السابقة سجود الظلال و هو معنى مشهود فيها يمثل معنى السجود لله، و تذكر هذه الآية سجود ما في السماوات و الأرض من دابة و الدابة ما يدب و يتحرك بالانتقال من مكان إلى مكان بحقيقة السجود التي هي نهاية التذلل و التواضع قبال العظمة و الكبرياء فإن صورة السجدة التي هي خرور الإنسان و وقوعه على وجهه على الأرض إنما تعد عبادة إذا أريد بها تمثيل هذا المعنى فحقيقة السجدة هي التذلل المذكور.

و يدخل في عموم الدابة الإنسان و كذا الجن لأنه سبحانه يصفهم في كلامه بما يفيد ـ

 

 

 

أن لهم دبيبا كما لسائر الدواب من الإنسان و الحيوان، و لم يدخل سبحانه الملائكة في عموم الدابة و أفردهم بالذكر، و في ذلك من التلويح إلى أن ما نسب إليهم في كلامه تعالى من النزول و الصعود و الذهاب و المجي‏ء مما ظاهره النقلة و الحركة المكانية ليس من نوع ما للدواب من الدبيب و الانتقال المكاني ما لا يخفى.

فقوله: ﴿وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ أي له يخضع و ينقاد خضوعا و انقيادا ذاتيا هي حقيقة السجود فمن حقه تعالى أن يعبد و يسجد له.

و في الآية دلالة على أن في غير الأرض من السماوات شيئا من الدواب يسكنها و يعيش فيها.

و قوله: ﴿وَ اَلْمَلاَئِكَةُ وَ هُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ الاستكبار و التكبر من الإنسان أن يعد نفسه كبيرا و يضعه موضع الكبر و ليس به و لذلك يعد في الرذائل لكن التكبر ربما يطلق على ما لله سبحانه من الكبرياء بالحق و هو الكبير المتعال فهو تعالى كبير متكبر و ليس يقال: مستكبر و لعل ذلك كذلك اعتبارا باللفظ فإن الاستكبار بحسب أصل هيئته طلب الكبر و لازمه أن لا يكون ذلك حاصلا للطالب من نفسه و إنما يطلب الكبر و العلو على غيره دعوى فكان مذموما، و أما التكبر فهو الظهور بالكبرياء سواء كانت له في نفسه كما لله سبحانه و هو التكبر الحق أو لم يكن له إلا دعوى و غرورا كما في غيره.

فتبين بذلك أن الاستكبار مذموم دائما أما استكبار المخلوق على مخلوق آخر فلأن الفقر و الحاجة قد استوعبهما جميعا و شي‏ء منهما لا يملك لنفسه نفعا و لا ضرا و لا لغيره فاستكبار أحدهما على الآخر خروج منه عن حده و تجاوز عن طوره و ظلم و طغيان.

و أما استكبار المخلوق على الخالق فلا يتم إلا مع دعوى المخلوق الاستقلال و الغنى لنفسه و ذهوله عن مقام ربه فإن النسبة بين العبد و ربه نسبة الذلة و العزة و الفقر و الغنى فما لم يغفل العبد عن هذه النسبة و لم يذهل عن مشاهدة مقام ربه لم يعقل استكباره على ربه فإن الصغير الوضيع القائم أمام الكبير المتعالي و هو يشاهد صغار نفسه و ذلته و كبرياء من هو أمامه و عزته لا يتيسر له أن يرى لنفسه كبرياء و عزة إلا أن

 

 

 

 يأخذه غفلة و ذهول.

و إذ كان الكبرياء و العلو لله جميعا فدعواه الكبرياء و العلو تغلب منه على ربه و غصب منه لمقامه و استكبار و استعلاء عليه دعوى، و هذا هو الاستكبار بحسب الذات و يتبعه الاستكبار بحسب الفعل و هو أن لا يأتمر بأمره و لا ينتهي عن نهيه فإنه ما لم ير لنفسه إرادة مستقلة قبال الإرادة الإلهية مغايرة لها لم ير لنفسه أن يخالفه في أمره و نهيه.

و على هذا فقوله: ﴿وَ هُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ في تعريف الملائكة و الكلام في سياق العبودية دليل على أنهم لا يستكبرون على ربهم فلا يغفلون عنه تعالى و لا يذهلون عن الشعور بمقامه و مشاهدته.

و قد أطلق نفي الاستكبار من غير أن يقيده بما بحسب الذات أو بحسب الفعل فأفاد أنهم لا يستكبرون عليه في ذات و لا فعل أي لا يغفلون عنه سبحانه و لا يستنكفون عن عبادته و لا يخالفون عن أمره، و لبيان هذا الإطلاق و الشمول عقبه بيانا له بقوله: ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ يَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ و أشار بذلك إلى نفي الاستكبار عنهم ذاتا و فعلا.

توضيح ذلك أن قوله: ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ يثبت لهم الخوف من ربهم و الله سبحانه ليس عنده إلا الخير و لا شر عنده و لا سبب شر يخاف منه إلا أن يكون الشر و سببه عند العبد و قد أخذ متعلق الخوف هو ربهم لا عذابه تعالى أو عصيان أمره كما في قوله: ﴿وَ يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَ يَخَافُونَ عَذَابَهُ: إسراء: ٥٧.

فهذه المخافة هي المخافة منه تعالى و هو و إن لم يكن عنده إلا الخير، و الخوف إنما يكون من شر مترقب إلا أن حقيقته التأثر و الانكسار و الصغار و تأثر الضعيف قبال القوي الظاهر بقوته، و انكسار الصغير الوضيع أمام الكبير المتعال القاهر بكبريائه و تعاليه ضروري فمخافتهم هي تأثرهم الذاتي عما يشاهدونه من مقام ربهم و لا يغفلون عنه قط.

و يؤيد ما ذكرناه تقييد قوله: ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُمْ بقوله ﴿مِنْ فَوْقِهِمْ فإن فيه إشارة إلى أن كونه تعالى فوقهم قاهرا لهم متعاليا بالنسبة إليهم هو السبب في

 

 

 

 مخافتهم، و ليس هذا إلا الخوف من مقامه تعالى لا من عذابه فهو خوف ذاتي و يرجع إلى نفي الاستكبار عن ذواتهم.

و أما قوله: ﴿وَ يَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ فإشارة إلى عدم استكبارهم في مقام الفعل و قد تقدم أنه إذا لم يستكبر عليه تعالى في ذات لم يستكبر عليه في فعل فهم لا يعصون الله سبحانه في أمر بل يفعلون ما يؤمرون، و في إتيان قوله: ﴿يُؤْمَرُونَ مبنيا للمجهول من التعظيم و التفخيم لمقامه سبحانه ما لا يخفى.

فتبين أن الملائكة نوع من خلق الله تعالى لا تأخذهم غفلة عن مقام ربهم و لا يطرأ عليهم ذهول و لا سهو و لا نسيان عن ذلك و لا يشغلهم عنه شاغل، و هم لا يريدون إلا ما يريده الله سبحانه.

و إنما خص سبحانه الملائكة من بين الساجدين المذكورين في الآية بذكر شأنهم و تعريف أوصافهم و تفصيل عبوديتهم لأن أكثر آلهة الوثنيين من الملائكة كإله السماء و إله الأرض و إله الرزق و إله الجمال و غيرهم، و للدلالة على أنهم بالرغم من زعم الوثنيين أمعن خلق الله تعالى في عبوديته و عبادته.

و من عجيب الاستدلال ما استدل به بعضهم بالآية على أن الملائكة مكلفون مدارون بين الخوف و الرجاء كمثلنا أما دلالتها على التكليف فلمكان الأمر، و أما إدارتهم بين الخوف و الرجاء فلأن الآية ذكرت خوفهم و الخوف يستلزم الرجاء.

و هو ظاهر الفساد أما الأمر فقد ورد في كلامه تعالى في موارد لا تكليف فيها قطعا كالسماء و الأرض و غيرهما قال تعالى: ﴿فَقَالَ لَهَا وَ لِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ: حم السجدة: ١١ و قال: ﴿وَ يَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ.

و أما استلزام الخوف للرجاء فإنما الملازمة ما بين الخوف من نزول العذاب و أصابة المكروه و بين الرجاء، و قد تقدم أن الذي في الآية إنما هو خوف مهابة و إجلال بمعنى تأثر الضعيف من القوي و انكسار الصغير الحقير قبال العظيم الكبير الظاهر عليه بعظمته و كبريائه و لا مقابلة بين الخوف بهذا المعنى و بين الرجاء.

و قد استدل بالآية أيضا على أن الملائكة أفضل من البشر، و فيه أن من الممكن استظهار أفضليتهم من عصاة البشر و كفارهم ممن يفقد الصفات المذكورة لكونها

 

 

 

 مسوقة في مقام المدح و أما غيرهم فلا تعرض للآية لهم إثباتا و نفيا و سيأتي تفصيل القول في الملائكة في موضع يليق به إن شاء الله.

قوله تعالى: ﴿وَ قَالَ اَللَّهُ لاَ تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اِثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ الرهبة الخوف و تقابل الرغبة كما أن الخوف يقابل به الرجاء.

و الكلام معطوف على قوله: ﴿وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ و قيل: معطوف على قوله: ﴿وَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ اَلذِّكْرَ و قيل: على قوله: ﴿مَا خَلَقَ اَللَّهُ على طريقة قوله: (علفتها تبنا و ماء باردا) أي و سقيتها ماء باردا، و التقدير في الآية أ و لم يروا إلى ما خلق الله من شي‏ء و أ لم يسمعوا إلى ما قال الله ﴿لاَ تَتَّخِذُوا إلخ؟ و الأول هو الوجه.

و قوله: ﴿لاَ تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اِثْنَيْنِ أريد به و الله أعلم النهي عن التعدي عن الإله الواحد باتخاذ غيره معه فيشمل الاثنين و ما فوقه من العدد و يؤيده تأكيده بقوله: ﴿إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ و ﴿اِثْنَيْنِ صفة ﴿إِلَهَيْنِ كما أن ﴿وَاحِدٌ﴾ صفة ﴿إِلَهٌ جي‏ء بهما للإيضاح و التبيين.

و بعبارة أخرى العناية متعلقة بالنهي عن اتخاذ غيره معه سواء كان واحدا أو أكثر من واحد لكن لما كان كل عدد اختاروه في الإله فوق الاثنين يجب أن يسلكوا إليه من الاثنين إذ لا يتحقق عدد هو فوق الاثنين إلا بعد تحقق الاثنين نهى عن اتخاذ الاثنين و اكتفى به عن النهي عن كل عدد فوق الواحد.

و يمكن أن يكون اعتبار الاثنين نظرا إلى ما عليه دأبهم و سنتهم فإنهم يعتقدون من الإله بإله الصنع و الإيجاد و هو الذي له الخلق فحسب و هو إله الآلهة و موجد الكل، و بإله العبادة و هو الذي له الربوبية و التدبير، و هذا المعنى أنسب بما يتلوه من الجمل.

و على هذا فالمعنى ﴿لاَ تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اِثْنَيْنِ: إله الخلق و إله التدبير الذي له العبادة إنما هو أي الإله إله واحد له الخلق و التدبير جميعا لأن كل تدبير ينتهي إلى الإيجاد، و إذ كنت أنا الخالق الموجد فأنا المدبر الذي تجب عبادته فإياي فارهبون و إياي فاعبدون.

و من هنا يظهر وجه تفرع قوله: ﴿فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ على ما تقدمه و أنه من لطيف الاستدلال، و الجملة تفيد الحصر بتقديم المفعول على سبيل الاشتغال، و القصر

 

 

 

قصر قلب لا قصر إفراد كما يفيده كلامهم فإن الوثنيين لا يعبدون الله و آلهتهم غير الله، و إنما يعبدون آلهتهم فحسب معتذرين بأن الله سبحانه لا يحيط به علم و لا يناله فهم فلا يمكن التوجه إليه بالعبادة فمن الواجب أن يعبد الكرام أو الأقوياء من خلقه كالملائكة و الكاملين من البشر و الجن فهم المدبرون لأمر العالم ينال بالعبادة خيرهم و يتقى بها شرهم و هذا معنى التقرب إلى الله بشفاعتهم.

و الظاهر أن الأمر بالرهبة كناية عن الأمر بالعبادة و إنما اختصت الرهبة بالذكر ليوافق ما تقدم في حديث سجدة الكل التي هي الأصل في تشريع العبادة من خوف الملائكة، و على هذا فالظاهر أن المراد بالرهبة ما هي رهبة إجلال و مهابة لا ما هي رهبة مؤاخذة و عذاب، فافهم ذلك.

قوله تعالى: ﴿وَ لَهُ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لَهُ اَلدِّينُ وَاصِباً أَ فَغَيْرَ اَللَّهِ تَتَّقُونَ قال في المفردات: الوصب‏ السقم اللازم و قد وصب فلان فهو وصب و أوصبه كذا فهو يتوصب نحو يتوجع، قال تعالى: ﴿وَ لَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ ﴿وَ لَهُ اَلدِّينُ وَاصِباً فتوعد لمن اتخذ إلهين و تنبيه أن جزاء من فعل ذلك عذاب لازم شديد.

و يكون الدين هاهنا الطاعة، و معنى الواصب الدائم أي حق الإنسان أن يطيعه دائما في جميع أحواله كما وصف به الملائكة حيث قال: ﴿لاَ يَعْصُونَ اَللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ و يقال: وصب وصوبا دام، و وصب الدين وجب، و مفازة واصبة بعيدة لا غاية لها. انتهى.

و الآية و ما بعدها تحتج على وحدانيته تعالى في الألوهية بمعنى المعبودية بالحق و أن الدين له وحده ليس لأحد أن يشرع من ذلك شيئا و لا أن يطاع فيما شرع فالآية و ما بعدها في مقام التعليل لقوله: ﴿وَ قَالَ اَللَّهُ لاَ تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اِثْنَيْنِ إلى آخر الآية، و احتجاج على مضمونها و عود بعد عود إلى ما تقدم بيانه من التوحيد و النبوة اللذين ينكرهما المشركون.

فقوله: ﴿وَ لَهُ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ احتجاج على توحده تعالى في الربوبية فإن ما في السماوات و الأرض من شي‏ء فهو مملوك له بحقيقة معنى الملك إذ ما في العالم المشهود من شي‏ء فهو بما له من الصفات و الأفعال، قائم به تعالى موجود بإيجاده

 

 

 

 و ظاهر بإظهاره لا يسعه أن ينقطع منه و لا لحظة فالأشياء قائمة به قيام الملك بمالكه مملوكة له ملكا حقيقيا لا يقبل تغييرا و لا انتقالا كما هو خاصة الملك الحقيقي كملك الإنسان لسمعه و بصره مثلا.

و إذا كان كذلك كان هو تعالى المدبر لأمر العالم إذ لا معنى لكون العالم مملوكا له بهذا الملك ثم يستقل غيره بتدبير أمره و التصرف فيه و ينعزل هو تعالى عما خلقه و ملكه، و إذا كان هو المدبر لأمره كان هو الرب له إذ الرب هو المالك المدبر، و إذا كان هو الرب كان هو الذي يجب أن يتقى و يخضع له بالعبادة.

و قوله: ﴿وَ لَهُ اَلدِّينُ وَاصِباً أي دائما لازما، و ذلك أنه لما كان تعالى هو الرب الذي يملك الأشياء و يدبر أمرها و من واجب التدبير أن يستن العالم الإنساني بسنة يبلغ به الجري عليها غايته و يهديه إلى سعادته و هذه السنة و الطريقة هي التي يسميها القرآن دينا كان من الواجب أن يكون تعالى هو القائم على وضع هذه السنة و تشريع هذه الطريقة فهو تعالى المالك للدين كما قال: ﴿وَ لَهُ اَلدِّينُ وَاصِباً و عليه أن يشرع ما يصلح به التدبير كما قال فيما مر: ﴿وَ عَلَى اَللَّهِ قَصْدُ اَلسَّبِيلِ الآية.

و قيل: المراد بالدين الطاعة، و قيل: الملك، و قيل: الجزاء، و لكل منها وجه غير خفي على المتأمل، و الأوجه هو ما قدمناه لأنه أوفق و أنسب بسياق ما يحفها من الآيات السابقة و اللاحقة الباحثة عن توحيد الربوبية و تشريع الدين من طريق الوحي و الرسالة.

و قوله: ﴿أَ فَغَيْرَ اَللَّهِ تَتَّقُونَ استفهام إنكاري متفرع على الجملتين جميعا على الظاهر، و المعنى: و إذا كان كذلك فهل غيره تعالى تتقون و تعبدون؟ و ليس يملك شيئا و لا يدبر أمرا حتى يعبد، و ليس من حقه أن يشرع دينا فيطاع فيما وضعه و شرعه.

قوله تعالى: ﴿وَ مَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اَللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ اَلضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ بيان آخر لوحدانيته تعالى في الربوبية يفرع سبحانه عليه ذمهم و توبيخهم على شركهم بالله و على تشريعهم أمورا من عند أنفسهم من غير إذن منه و رضى و يجري الكلام في هذا المجرى إلى تمام بضع آيات.

و المراد بالضر سوء الحال من جهة فقدان النعمة التي تصلح بها الحال، و الجؤار

 

 

 

 بضم الجيم صوت الوحوش أستعير لرفع الصوت بالدعاء و التضرع و الاستغاثة تشبيها له به.

و قوله: ﴿وَ مَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اَللَّهِ الكلام مسوق للعموم و ليس مجرد دعوى غير مستدل فقد بين ذلك في الآيات السابقة. على أن السامعين يسلمون ذلك و يقولون به و يدل عليه جؤارهم و استغاثتهم إليه عند مسيس الضر بفقدان نعمة من النعم.

فالمعنى: أن جميع النعم التي عندكم من إنعامه تعالى عليكم و أنتم تعلمون ذلك ثم إذا حل بكم شي‏ء من الضر و سوء حال يسير رفعتم أصواتكم بالتضرع و جأرتم إليه لا إلى غيره و لو كان لغيره صنيعة عندكم لتوجهتم إليه فهو سبحانه منعم النعمة و كاشف الضر فما بالكم لا تخصونه بالعبادة و لا تطيعونه.

و الاستغاثة به تعالى و التضرع إليه عند حلول المصائب و هجوم الشدائد التي ينقطع عندها الرجاء عن الأسباب الظاهرية ضرورية لا يرتاب فيها فإن الإنسان و لو لم ينتحل إلى دين و لم يؤمن بالله سبحانه فإنه لا ينقطع رجاؤه عند الشدائد إذا رجع إلى ما يجده من نفسه، و لا رجاء إلا و هناك مرجو منه فمن الضروري أن تحقق ما لا يخلو من معنى التعلق كالحب و البغض و الإرادة و الكراهة و الجذب و نظائرها في الخارج لا يمكن إلا مع تحقق طرف تعلقها في الخارج فلو لم يكن في الخارج مراد لم تتحقق إرادة من مريد، و لو لم يكن هناك مطلوب لم يكن طلب و لو لم يكن جاذب يجذب لم يتصور مجذوب ينجذب، و هذا حال جميع المعاني الموجودة التي لا تخلو كينونتها عن نسبة.

فتعلق الرجاء من الإنسان بالتخلص من البلية عند انقطاع الأسباب دليل على أنه يرى أن هناك سببا فوق هذه الأسباب المنقطع عنها لا تعجزه عظائم الحوادث و داهمات الرزايا و لا ينقطع عنه الإنسان، و لا يزول و لا يفنى و لا يسهو و لا ينسى قط.

هذا شي‏ء يجده الإنسان من نفسه و تقضي به فطرته و إن ألهاه عنه الاشتغال بالأسباب الظاهرة و جذبته إلى نفسها أمتعة الحياة و زخارف المادة المحسوسة لكنه إذا أحاطت به البلية و أعيته الحيلة و سدت عليه طرق النجاة و انهزمت الأسباب الظاهرة عن آخرها و طارت الموانع عن نظره و لم يبق هناك مله يلهيه و لا شاغل يشغله ظهر له ما أخفته الأسباب و عاين ما كان على غفلة منه فتعلقت نفسه به، و هو السبب الذي فوق كل سبب و هو الله عز اسمه.

 

 

 

 قوله تعالى: ﴿ثُمَّ إِذَا كَشَفَ اَلضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ شروع في ذمهم و توبيخهم و ينتهي إلى إيعادهم و حق لهم ذلك لأن الذي يستدعيه كشف الضر عن استغاثتهم و رجوعهم الفطري إلى ربهم أن يوحدوه بالربوبية بعد ما انكشفت لهم الحقيقة باندفاع البلية و نزول الرحمة لكن فريقا منهم تفاجئهم الشقوة فيعودون إلى التعلق بالأسباب فينتبه عندئذ الراقد من رذائل ملكاتهم فيثير لهم الأهواء و يشركون بربهم غيره، و منه الأسباب التي يتعلقون بها، و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: ﴿لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ اللام للغاية أي إنهم إنما يشركون بربهم ليكفروا بما أعطيناهم من النعمة بكشف الضر عنهم و لا يشكروه.

و جعل الكفر بالنعمة غاية للشرك إنما هو بدعوى أنهم لا غاية لهم في مسير حياتهم إلا الكفر بنعمة الله و عدم شكره على ما أولى فإن اشتغالهم بالحس و المادة أورثهم في قلوبهم ملكة التعلق بالأسباب الظاهرة و إسناد النعم الإلهية إليها و ضربهم إياها حجابا ثخينا على عرفان الفطرة فأنساهم ذلك توحيد ربهم في ربوبيته فصاروا يذكرون عند كل نعمة أسبابها الظاهرة دون الله، و يتعلقون بها و يخشون انقطاعها و يخضعون لها دون الله فكأنهم بل إنهم لا غاية لهم إلا كفر نعمة الله و عدم شكرها.

فالكفر بالله سبحانه هو غايتهم العامة في كل شأن أبدوه و كل عمل أتوا به فإذا أشركوا بربهم بعد كشف الضر بالخضوع لسائر الأسباب فإنما أشركوا ليكفروا بما آتاهم من النعمة.

و لما كان كفرانهم هذا و هو كفر دائم يصرون عليه و استكبار على الله، و قد قال تعالى: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ: إبراهيم: ٧ أثار ذكر ذلك الغضب الإلهي فعدل عن خطاب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و هم على نعت الغيبة إلى خطابهم و إيعادهم من غير توسيط فقال: ﴿فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ.

و لم يذكر ما يتمتعون به ليفيد بالإطلاق أن كل ما تمتعوا به سيؤاخذون عليه و لا ينفعهم شي‏ء منه، و لم يذكر ما يعلمونه و هو لا محالة أمر يسوؤهم ليكونوا على جهل منه حتى يحل بهم مفاجأة و يبدو لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون و فيه تشديد

 

 

 

 للإيعاد.

و ذكر بعضهم: أن اللام في قوله: ﴿لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ لام الأمر و المراد به الإيعاد على نحو التعجيز و هو تكلف.

قوله تعالى: ﴿وَ يَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ ذكروا أنه معطوف على سائر جناياتهم التي دلت عليها الآيات السابقة و التقدير أنهم يفعلون ما قصصناه من جناياتهم و يجعلون لما لا يعلمون نصيبا و الظاهر أن ﴿لِمَا في ﴿لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ موصولة و المراد به آلهتهم و ضمير الجمع يعود إلى المشركين و مفعول ﴿لاَ يَعْلَمُونَ محذوف و المعنى و يجعل المشركون لآلهتهم التي لا يعلمون من حالها أنها تضر و تنفع نصيبا مما رزقناهم.

و المراد من هذا الجعل ما ذكره سبحانه في سورة الأنعام بقوله: ﴿وَ جَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ اَلْحَرْثِ وَ اَلْأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَ هَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اَللَّهِ وَ مَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى‏َ شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ: الأنعام: ١٣٦ هذا ما ذكروه و لا يخلو عن تكلف.

و يمكن أن يكون معطوفا على ما مر من قوله: ﴿يُشْرِكُونَ و التقدير إذا فريق منكم بربهم يشركون و يجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم، و المراد بما لا يعلمون الأسباب الظاهرة التي ينسبون إليها الآثار على سبيل الاستقلال و هم جاهلون بحقيقة حالها و لا علم لهم جازما أنها تضر و تنفع مع ما يرون من تخلفها عن التأثير أحيانا.

و إنما نسب إليهم أنهم يجعلون لها نصيبا من رزقهم مع أنهم يسندون الرزق إليها بالاستقلال من غير أن يذكروا الله معها و مقتضاه نفي التأثير عنه تعالى رأسا لا إشراكه معها لأن لهم علما فطريا بأن الله سبحانه له تأثير في الأمر و قد ذكر عنهم آنفا أنهم يجأرون إليه عند مس الضر و إذا اعتبر اعترافهم هذا مع إسنادهم التأثير إلى الأسباب أنتج ذلك أن الأسباب عندهم شركاء لله في الرزق و لها نصيب فيه ثم أوعدهم بقوله:

﴿تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ.

قوله تعالى: ﴿وَ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ اَلْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَ لَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ عتاب آخر لهم في حكم حكموا به جهلا من غير علم فاحترموا لأنفسهم و أساءوا الأدب مجترئين على الله ـ

 

 

 

سبحانه حيث اختاروا لأنفسهم البنين و كرهوا البنات لكنهم نسبوها إلى الله سبحانه.

فقوله: ﴿وَ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ اَلْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ هو أخذهم الآلهة دون الله أو بعض الآلهة إناثا، و قولهم: إنهن بنات الله، و قد قيل: إن خزاعة و كنانة كانوا يقولون:

إن الملائكة بنات الله.

و كانت الوثنية البرهمية و البوذية و الصابئة يثبتون آلهة كثيرة من الملائكة و الجن إناثا و هن بنات الله، و في القرآن الكريم: ﴿وَ جَعَلُوا اَلْمَلاَئِكَةَ اَلَّذِينَ هُمْ عِبَادُ اَلرَّحْمَنِ إِنَاثاً: الزخرف: ١٩ و قال تعالى: ﴿وَ جَعَلُوا بَيْنَهُ وَ بَيْنَ اَلْجِنَّةِ نَسَباً: الصافات: ١٥٨.

و قال الإمام في تفسيره في وجه ذلك: أظن أنهم سموها بنات لاستتارها عن العيون كالنساء كما أنهم أخذوا الشمس مؤنثا لاستتار قرصها بنورها الباهر و ضوئها عن العيون كالمخدرات من النساء و لا يلزم الاطراد في التسمية حتى يلزم مثل ذلك في الجن لاستتارهم عن العيون مع عدم التأنيث. انتهى ملخصا.

و ذكر بعضهم: أن الوجه في التأنيث كونها مستترة عن العيون مع كونها في محل لا يصل إليه الأغيار فهي كالبنات التي يغار عليهن الرجل فيسكنهن في محل أمين و مكان مكين، و الجن و إن كانوا مستترين عن العيون لكنه على غير هذه الصورة انتهى.

و هذان الوجهان لا يتعديان طور الاستحسان و أنت لو راجعت آراء الوثنية على اختلافهم و قد تقدم شطر منها في الجزء العاشر من هذا الكتاب عرفت أن العرب لم تكن مبتكرة في هذه العقيدة بل لها أصل قديم في آراء قدماء الوثنية في الهند و مصر و بابل و اليونان و الروم.

و الإمعان في أصول آرائهم يعطي أنهم كانوا يتخذون الملائكة الذين ينتهي إليهم وجوه الخير في العالم و الجن الذين يرجع إليهم الشرور آلهة يعبدونهم رغبا و رهبا، و هذه المبادئ العالية و القوى الكلية التي هم يحملونها، و بعبارة أخرى هم مظاهر لها تنقسم إلى فاعلة و منفعلة و هم يعتبرون اجتماع الفاعل و المنفعل منها نكاحا و ازدواجا و الفاعل منها أبا و المنفعل منها أما، و المتحصل من اجتماعهما ولدا و ينقسم الأولاد إلى بنين و بنات فمن الآلهة ما هن أمهات و بنات و منها ما هم آباء و بنون.

فلئن كان بعض وثنية العرب قالت: إن الملائكة جميعا بنات الله فقول أرادوا

 

 

 

 أن يقلدوا فيه من قبلهم جهلا و من غير تثبت.

و قوله: ﴿وَ لَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ ظاهر السياق أنه معطوف على ﴿لِلَّهِ اَلْبَنَاتِ و التقدير و يجعلون لهم ما يشتهون، أي يثبتون لله سبحانه البنات باعتقاد أن الملائكة بناته و يثبتون لأنفسهم ما يشتهون و هم البنون بقتل البنات و وأدها و المحصل أنهم يرضون لله بما لا يرضون به لأنفسهم.

و قيل: إن ﴿مَا يَشْتَهُونَ مبتدأ مؤخر و ﴿لَهُمْ خبر مقدم و الجملة معطوفة على ﴿يَجْعَلُونَ و على هذا فالجملة مسوقة للتقريع أو الاستهزاء.

و قد وجهوا ذلك بأن عطف الجملة على ﴿لِلَّهِ اَلْبَنَاتِ غير جائز لمخالفته القاعدة و هي أن الفعل المتعدي إلى المفعول بنفسه أو بحرف جر إذا كان فاعله ضميرا متصلا مرفوعا فإنه لا يتعدى إلى نفس هذا الضمير بنفسه أو بحرف جر إلا بفاصل مثلا إذا ضرب زيد نفسه لم يقل: زيد ضربه و أنت ضربتك و إذا غضب على نفسه لم يقل:

زيد غضب عليه، و إنما يقال: زيد ضرب نفسه أو ما ضرب إلا إياه، و زيد غضب على نفسه أو ما غضب إلا عليه إلا في باب ظن و ما ألحق به من فقد و عدم فيجوز أن يقال: زيد ظنه قويا أي نفسه.

و على هذا فلو كان قوله: ﴿وَ لَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ معطوفا على قوله: ﴿لِلَّهِ اَلْبَنَاتِ كان من الواجب أن يقال: «و لأنفسهم ما يشتهون» انتهى محصلا.

و الحق أن التزام هذه القاعدة إنما هو لدفع اللبس و أن تخلل حرف الجر بين الضميرين من الفصل، و في القرآن الكريم: ﴿وَ هُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ اَلنَّخْلَةِ: مريم: ٢٥ ﴿وَ اُضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ: القصص: ٣٢ و منهم من رد القاعدة من رأس لانتقاضها بالآيتين، و أجابوا أيضا بوجوه أخر لا حاجة بنا إلى ذكرها من أرادها فليراجع التفاسير.

قوله تعالى: ﴿وَ إِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى‏َ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَ هُوَ كَظِيمٌ اسوداد الوجه كناية عن الغضب، و الكظيم‏ هو الذي يتجرع الغيظ، و الجملة حالية أي ينسبون إلى ربهم البنات و الحال أنهم إذا بشر أحدهم بالأنثى فقيل: ولدت لك بنت اسود وجهه من الغيظ و هو يتجرع غيظه.

قوله تعالى: ﴿يَتَوَارى‏َ مِنَ اَلْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ إلى آخر الآية، التواري‏

 

 

 

 الاستخفاء و التخفي و هو مأخوذ من الوراء، و الهون‏ الذلة و الخزي، و الدس‏ الإخفاء.

و المعنى: يستخفي هذا المبشر بالبنت من القوم من سوء ما بشر به على عقيدته و يتفكر في أمره: أ يمسك ما بشر به و هي البنت على ذلة من إمساكه و حفظه أم يخفيه في التراب كما كان ذلك عادتهم في المواليد من البنات كما قيل: إن أحدهم كان يحفر حفيرة صغيرة فإذا كان المولود أنثى جعلها في الحفيرة و حثا عليها التراب حتى تموت تحته و كانوا يفعلون ذلك مخافة الفقر عليهن فيطمع غير الأكفاء فيهن.

و أول ما بدا لهم ذلك أن بني تميم غزوا كسرى فهزمهم و سبى نساءهم و ذراريهم فأدخلهن دار الملك و اتخذ البنات جواري و سرايا ثم اصطلحوا بعد برهة و استردوا السبايا فخيرن في الرجوع إلى أهلهن فامتنعت عدة من البنات فأغضب ذلك رجال بني تميم فعزموا لا تولد لهم أنثى إلا وأدوها و دفنوها حية ثم تبعهم في ذلك بعض من دونهم فشاع بينهم وأد البنات.

و قوله: ﴿أَلاَ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ هو حكمهم أن له البنات و لهم البنون لا لهوان البنات و كرامة البنين في نفس الأمر بل معنى هذا الحكم عندهم أن يكون لله ما يكرهون و لهم ما يحبون، و قيل: المراد بالحكم حكمهم بوجوب وأد البنات و كون إمساكهن هونا، و أول الوجهين أوفق و أنسب للآية التالية.

قوله تعالى: ﴿لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ اَلسَّوْءِ وَ لِلَّهِ اَلْمَثَلُ اَلْأَعْلى‏َ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ المثل‏ هو الصفة و منه سمي المثل السائر مثلا لأنه صفة تسير في الألسن و تجري في كل موضع تناسبه و تشابهه.

و السوء - بالفتح و السكون - مصدر ساء يسوء كما أن السوء بالضم اسمه و إضافة المثل إلى السوء تفيد التنويع فإن الأشياء إنما توصف إما من جهة حسنها و إما من جهة سوئها و قبحها فالمثل مثلان: مثل الحسن و مثل السوء.

و الحسن و القبح ربما كانا من جهة الخلقة لا صنع للإنسان و لا مدخل لاختياره فيهما كحسن الوجه و دمامة الخلقة، و ربما لحقا من جهة الأعمال الاختيارية كحسن العدل و قبح الظلم، و إنما يحمد و يذم العقل ما كان من القسم الثاني دون القسم الأول فيدور الحمد و الذم بحسب الحقيقة مدار العمل بما تستحسنه و تأمر به الفطرة الإنسانية

 

 

 

 من الأعمال التي توصله إلى ما فيه سعادة حياته و ترك العمل بها و هو الذي يتضمنه الدين الحق من أحكام الفطرة.

و من المعلوم أن الطبع الإنساني لا رادع له عن اقتراف العمل السيئ إلا أليم المؤاخذة و شديد العقاب و إذعانه بإيقاعه و إنجازه، و أما الذم فإنه يتبدل مدحا إذا شاع الفعل و خرج بذلك عن كونه منكرا غير معروف.

و من هنا يظهر أن الإيمان بالآخرة و الإذعان بالحساب و الجزاء هو الأصل الوحيد الذي يضمن حفظ الإنسان عن اقتراف الأعمال السيئة و يجيره من لحوق أي ذم و خزي و هو المنشأ الذي يقوم أعمال الإنسان تقويما يحمله على ملازمة طريق السعادة، و لا يؤثر أثره أي شي‏ء آخر من المعارف الأصلية حتى التوحيد الذي إليه ينتهي كل أصل.

و إلى ذلك يشير قوله تعالى: ﴿وَ لاَ تَتَّبِعِ اَلْهَوى‏َ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ إِنَّ اَلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ اَلْحِسَابِ: ص: ٢٦.

فعدم الإيمان بالآخرة و استخفاف أمر الحساب و الجزاء هو مصدر كل عمل سيئ و مورده، و بالمقابلة الإيمان بالآخرة هو منشأ كل حسنة و منبع كل خير و بركة.

فكل مثل سوء و صفة قبح يلزم الإنسان و يلحقه فإنما يأتيه من قبل نسيان الآخرة كما أن كل مثل حسن و صفة حمد بالعكس من ذلك.

و بما تقدم يظهر النكتة في قوله: ﴿لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ اَلسَّوْءِ فقد كان يصفهم في الآيات السابقة بالشرك فلما أراد بيان أن لهم مثل السوء بدل ذلك من وصفهم بعدم إيمانهم بالآخرة.

فالذين لا يؤمنون بالآخرة هم الأصل في عروض كل مثل سوء و صفة قبح فإن ملاكه و هو إنكار الآخرة نعتهم اللازم لهم. و لو لحق بعض المؤمنين بالآخرة شي‏ء من مثل السوء فإنما يلحقه لنسيان ما ليوم الحساب و المنكرون هم الأصل في ذلك.

هذا في صفات السوء التي يستقبحها العقل و يذمها و هناك صفات سوء لا يستقبحها العقل و إنما يكرهها الطبع كالأنوثة عند قوم و إيلاد البنات عند آخرين و الفقر المالي و المرض و كالموت و الفناء و العجز و الجهل تشترك بين المؤمن و الكافر و صفات أخرى تحليلية كالفقر و الحاجة و النقص و العدم و الإمكان لا تختص بالإنسان بل هي مشتركة

 

 

 

 بين جميع الممكنات سارية في عامة الخلق، و الكافر يتصف بها كما يتصف بها غيره فالكافر في معرض الاتصاف بكل مثل سوء منها ما يختص به و منها ما يشترك بينه و بين غيره كما بين تفصيلا.

و الله سبحانه منزه من أن يتصف بشي‏ء من هذه الصفات التي هي أمثال السوء أما أمثال السوء التي تتحصل من ناحية سيئات الأعمال مما يستقبحه العقل و يذمه و يجمعها الظلم فلأنه لا يظلم شيئا قال تعالى: ﴿وَ لاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً: الكهف: ٤٩ و قال:

﴿وَ هُوَ اَلْحَكِيمُ اَلْعَلِيمُ: الزخرف: ٨٤ فما قضاه من حكم أو فعله من شي‏ء فهو المتعين في الحكمة لا يصلح بالنظر إلى النظام الجاري في الوجود إلا ذاك.

و أما أمثال السوء مما يستكرهه الطبع أو يحلله العقل فلا سبيل لها إليه تعالى فإنه عزيز مطلق يمتنع جانبه من أن تسرب إليه ذلة فإن له كل القدرة لا يعرضه عجز، و له العلم كله فلا يطرأ عليه جهل، و له محض الحياة لا يهدده موت و لا فناء منزه عن كل نقص و عدم فلا يتصف بصفات الأجسام مما فيه نقص أو فقد أو قصور أو فتور، و الآيات في هذه المعاني كثيرة ظاهرة لا حاجة إلى إيرادها.

فهو سبحانه ذو علو و نزاهة من أن يتصف بشي‏ء من أمثال السوء التي يتصف بها غيره، و لا هذا المقدار من التنزه و التقدس فحسب بل منزه من أن يتصف بشي‏ء من الأمثال الحسنة و الصفات الجميلة الكريمة بمعانيها التي يتصف بها غيره كالحياة و العلم و القدرة و العزة و العظمة و الكبرياء و غيرها، فإن الذي يوجد من هذه الصفات الحسنة الكمالية في الممكنات محدودة متناه مشوب بالفقر و الحاجة مخلوط بالفقدان و النقيصة لكن الذي له سبحانه من الصفات محض الكمال و حقيقته غير محدودة و لا متناه و لا مشوب بنقص و عدم، فله حياة لا يهددها موت، و قدرة لا يعتريها عي و عجز، و علم لا يقارنه جهل، و عزة ليس معها ذلة.

فله المثل الأعلى و الصفة الحسنى، قال تعالى: ﴿وَ لَهُ اَلْمَثَلُ اَلْأَعْلى‏َ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ: الروم: ٢٧ و قال: ﴿لَهُ اَلْأَسْمَاءُ اَلْحُسْنى‏َ: طه: ٨ فالأمثال منها دانية و منها عالية و العالية منها أعلى و منها غيره، و الأعلى مثله تعالى و الأسماء سيئة و حسنة و الحسنة منها أحسن و غيره و لله منها ما هو أحسن فافهم ذلك.

 

 

 

فقد تبين بما تقدم معنى كون مثله أعلى، و أن قوله: ﴿وَ لِلَّهِ اَلْمَثَلُ اَلْأَعْلى‏َ مسوق للحصر أي لله المثل الذي هو أعلى دون المثل الذي هو سيئ دان و دون المثل الذي هو حسن عال من صفات الكمال الذي تتصف به الممكنات و ليس بأعلى.

و تبين أيضا أن المثل الأعلى الذي يظهر له تعالى من البيان السابق هو انتفاء جميع الصفات السيئة عنه كما قال: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ: الشورى: ١١ و من الصفات الثبوتية كل صفة حسنة منفيا عنه الحدود و النواقص.

و قوله: ﴿وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ مسوق لإفادة الحصر و تعليل ما تقدمه أي و هو الذي له كل العزة فلا تعتريه ذلة أصلا لأن كل ذلة فهو فقد عزة ما و ليس يفقد عزة ما، و له كل الحكمة فلا يعرضه جهالة لأنها فقد حكمة ما و ليس يفقد شيئا من الحكمة.

و إذ لا سبيل لذلة و لا جهالة إليه فلا يتصف بشي‏ء من صفات النقص، و لا ينعت بشي‏ء من نعوت الذم و أمثال السوء، لكن الكافر ذليل في ذاته جهول في نفسه فتلحقه و تلازمه صفات النقص و يتصف بصفات الذم و أمثال السوء فللذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء.

و المؤمن و إن كان ذليلا في ذاته جهولا في نفسه كالكافر إلا أنه لدخوله في ولاية الله أعزه ربه بعزته و أظهره على الجهالة بتأييده بروح منه قال تعالى: ﴿وَ اَللَّهُ وَلِيُّ اَلْمُؤْمِنِينَ: آل عمران: ٦٨ و قال: ﴿وَ لِلَّهِ اَلْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ: المنافقون: ٨ و قال: ﴿أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ اَلْإِيمَانَ وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ: المجادلة: ٢٢.

قوله تعالى: ﴿وَ لَوْ يُؤَاخِذُ اَللَّهُ اَلنَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ إلى آخر الآية. ضمير ﴿عَلَيْهَا عائد إلى الأرض لدلالة ﴿اَلنَّاسَ عليها.

و لا يبعد أن يدعى أن السياق يدل على كون المراد بالدابة الإنسان فقط من جهة كونه يدب و يتحرك، و المعنى و لو أخذ الله الناس بظلمهم مستمرا على المؤاخذة ما ترك على الأرض من إنسان يدب و يتحرك، أما جل الناس فإنهم يهلكون بظلمهم و أما الأشذ الأندر و هم الأنبياء و الأئمة المعصومون من الظلم فهم لا يوجدون لهلاك آبائهم و أمهاتهم من قبل.

و القوم أخذوا الدابة في الآية بإطلاق معناها و هو كل ما يدب على الأرض من

 

 

 

 إنسان و حيوان فعاد معنى الآية إلى أنه لو يؤاخذهم بظلمهم لأهلك البشر و كل حيوان على الأرض فتوجه إليه: أن هذا هو الإنسان يهلك بظلمه فما بال سائر الحيوان يهلك و لا ظلم له أو يهلك بظلم من الإنسان؟.

و أوجه ما أجيب به عنه قول بعضهم بإصلاح منا: إن الله تعالى لو أخذهم بظلمهم بكفر أو معصية لهلك عامة الناس بظلمهم إلا المعصومين منهم و أما المعصومون على شذوذهم و قلة عددهم فإنهم لا يوجدون لهلاك آبائهم و أمهاتهم من قبل، و إذا هلك الناس و بطل النسل هلكت الدواب من سائر الحيوان لأنها مخلوقة لمنافع العباد و مصالحهم كما يشعر به قوله تعالى: ﴿خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً: البقرة: ٢٩.

و لهم وجوه أخر في الذب عن الآية على تقدير عموم الدابة فيها لا جدوى في نقلها من أرادها فليراجع مطولات التفاسير.

و احتج بعضهم بالآية على عدم عصمة الأنبياء (عليه السلام)، و فيه أن الآية لا تدل على أزيد من أنه تعالى لو أخذ بالظلم لهلك جميع الناس و انقرض النوع، و أما أن كل من يهلك فإنما هلك عن ظلمه فلا دلالة لها عليه فمن الجائز أن يهلك الأكثرون بظلمهم و يفنى الأقلون بفناء آبائهم و أمهاتهم كما تقدم فلا دلالة في الآية على استغراق الظلم الأفراد حتى الأنبياء و المعصومين و إنما تدل على استغراق الفناء.

و ربما قيل في الجواب إن المراد بالناس الظالمون منهم بقرينة قوله: ﴿بِظُلْمِهِمْ فلا يشمل المعصومين من رأس.

و ربما أجيب: أن المراد بالظلم أعم من المعصية التي هي مخالفة الأمر المولوي و ترك الأولى الذي هو مخالفة الأمر الإرشادي و ربما صدر عن الأنبياء (عليه السلام) كما حكى عن آدم و زوجه: ﴿قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا: الأعراف: ٢٣ و غيره من الأنبياء فحسنات الأبرار سيئات المقربين و حينئذ فلا يدل عموم الظلم في الآية للأنبياء على عدم عصمة الأنبياء عن المعصية بمعنى مخالفة الأمر المولوي.

و ربما أجيب بأن إهلاك جميع الناس إنما هو بأن الله يمسك عن إنزال المطر على الأرض لظلم الظالمين من الناس فيهلك به الظالمون و الأولياء و الدواب فإن العذاب إذا نزل لم يفرق بين الشقي و السعيد فيكون على العدو نقمة و نكالا و على غيره محنة و مزيد أجر.

 

 

 

 و الأجوبة الثلاثة غير تامة جميعا:

أما الأول: فإن اختصاص الناس بالظالمين يوجب اختصاص الهلاك بهم كما ادعي فلا يعم الهلاك المعصومين، و لا موجب حينئذ لهلاك سائر الدواب المخلوقة للإنسان فلا يستقيم قوله: ﴿مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ كما لا يخفى.

و أما الثاني: فلأن الآيات بما لها من السياق تبحث عن الظلم بمعنى الشرك و سائر المعاصي المولوية فتعميم الظلم في الآية لترك الأولى و خاصة بالنظر إلى ذيل الآية ﴿وَ لَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى‏َ أَجَلٍ مُسَمًّى الظاهر في الإيعاد لا يلائم السياق.

و أما الثالث: فلعدم دليل من جهة اللفظ على ما ذكر فيه.

و قوله: ﴿وَ لَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى‏َ أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَ لاَ يَسْتَقْدِمُونَ استدراك عن مقدر يدل عليه الجملة الشرطية في صدر الآية و التقدير:

فلا يعاجل في مؤاخذتهم و لكن يؤخرهم إلى أجل مسمى و الأجل المسمى بالنسبة إلى الفرد من الإنسان موته المحتوم، و بالنسبة إلى الأمة يوم انقراضها و بالنسبة إلى عامة البشر نفخ الصور و قيام الساعة، و لكل منها ذكر في كلامه تعالى قال: ﴿وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَ لِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى: المؤمن: ٦٧ و قال: ﴿وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَ لاَ يَسْتَقْدِمُونَ: الأعراف: ٣٤ و قال: ﴿وَ لَوْ لاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى‏َ أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ: الشورى: ١٤.

قوله تعالى: ﴿وَ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَ تَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ اَلْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ اَلْحُسْنى‏َ إلى آخر الآية، عود إلى نسبة المشركين إليه تعالى البنات و اختيارهم لأنفسهم البنين و هم يكرهون البنات و يحبون البنين و يستحسنونهم.

فقوله: ﴿وَ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ يعني البنات و قوله: ﴿وَ تَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ اَلْكَذِبَ أي تخبر ألسنتهم الخبر الكاذب و هو ﴿أَنَّ لَهُمُ اَلْحُسْنى‏َ أي العاقبة الحسنى من الحياة و هي أن يخلفهم البنون، و قيل المراد بالحسنى الجنة على تقدير صحة البعث و صدق الأنبياء فيما يخبرون به كما حكاه عنهم في قوله: ﴿وَ لَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَ مَا أَظُنُّ اَلسَّاعَةَ قَائِمَةً وَ لَئِنْ رُجِعْتُ إِلى‏َ رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى‏َ: حم السجدة: ٥٠ و هذا الوجه لا بأس به لو لا ذيل الآية بما سيجي‏ء

 

 

 

 من معناه.

و قوله: ﴿لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ اَلنَّارَ وَ أَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ أي المقدمون إلى عذاب النار يقال فرط و أفرط أي تقدم و الإفراط الإسراف في التقدم كما أن التفريط التقصير فيه، و الفرط بفتحتين هو الذي يسبق السيارة لتهيئة المسكن و الماء، و يقال: أفرطه أي قدمه.

و لما كان قولهم كذبا و افتراء إن لله ما يكرهون و لهم الحسنى في معنى دعوى أنهم سبقوا ربهم إلى الحسنى و تركوا له ما يكرهون أوعدهم بحقيقة هذا الزعم جزاء لكذبهم و هو أن لهم النار و أنهم مقدمون إليها حقا و ذلك قوله: ﴿لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ اَلنَّارَ إلخ.

قوله تعالى: ﴿تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلى‏َ أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ اَلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ اَلْيَوْمَ وَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ظاهر السياق أن المراد باليوم يوم نزول الآية و المراد بكون الشيطان وليا لهم يومئذ اتفاقهم على الضلال في زمان الوحي و المراد بالعذاب الموعود عذاب يوم القيامة كما هو ظاهر غالب الآيات التي توعد بالعذاب.

و المعنى: تالله لقد أرسلنا رسلنا إلى أمم من قبلك كاليهود و النصارى و المجوس ممن لم ينقرضوا كعاد و ثمود فزين لهم الشيطان أعمالهم فاتبعوه و أعرضوا عن رسلنا فهو وليهم اليوم و هم متفقون على الضلال و لهم يوم القيامة عذاب أليم.

و جوز الزمخشري على هذا الوجه أن يكون ضمير ﴿وَلِيُّهُمُ لقريش و المعنى أن الشيطان زين للأمم الماضين أعمالهم و هو اليوم ولي قريش و يبعده لزوم اختلاف الضمائر.

و يمكن أن يكون المراد بالأمم الأمم الماضين و الهالكين فولاية الشيطان لهم اليوم كونهم من أولياء الشيطان في البرزخ و لهم هناك عذاب أليم.

و قيل: المراد باليوم مدة الدنيا فهي يوم الولاية و العذاب يوم القيامة.

و قيل: المراد به يوم القيامة فهناك ولاية الشيطان لهم و لهم هناك عذاب أليم.

و قيل: المراد يوم تزيين الشيطان أعمالهم و هو من قبيل حكاية الحال الماضية.

و أقرب الوجوه أولها ثم التالي فالتالي و الله أعلم.

 

 

 

قوله تعالى: ﴿وَ مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ اَلْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ اَلَّذِي اِخْتَلَفُوا فِيهِ إلخ ضمير لهم للمشركين و المراد بالذي اختلفوا فيه هو الحق من اعتقاد و عمل فيكون المراد بالتبين الإيضاح و الكشف لإتمام الحجة، و الدليل على هذا الذي ذكرنا تفريق أمر المؤمنين منهم و إفرادهم بالذكر في قوله: ﴿وَ هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ.

و المعنى: هذا حال الناس في الاختلاف في المعارف الحقة و الأحكام الإلهية و ما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتكشف لهؤلاء المختلفين الحق الذي اختلف فيه فيتم لهم الحجة، و ليكون هدى و رحمة لقوم يؤمنون يهديهم الله به إلى الحق و يرحمهم بالإيمان به و العمل.

(بحث روائي)

في الكافي، بإسناده عن عبد الرحمن بن كثير قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ﴿فَسْئَلُوا أَهْلَ اَلذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ قال: الذكر محمد و نحن أهله المسئولون‏ الحديث.

أقول: يشير (عليه السلام) إلى قوله تعالى: ﴿قَدْ أَنْزَلَ اَللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولاً: الطلاق:

 ١١ و في معناه روايات كثيرة.

 و في تفسير البرهان، عن البرقي بإسناده عن عبد الكريم بن أبي الديلم عن أبي عبد الله (عليه السلام): قال جل ذكره: ﴿فَسْئَلُوا أَهْلَ اَلذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ قال: الكتاب الذكر و أهله آل محمد (عليه السلام) أمر الله عز و جل بسؤالهم و لم يأمر بسؤال الجهال و سمى الله عز و جل القرآن ذكرا فقال تبارك و تعالى ﴿وَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ اَلذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ و قال تعالى: ﴿وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَ لِقَوْمِكَ وَ سَوْفَ تُسْئَلُونَ.

أقول: و هذا احتجاج على كونهم أهل الذكر بأن الذكر هو القرآن و أنهم أهله لكونهم قوم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و الآيتان في آخر الكلام للاستشهاد على ذلك كما صرح بذلك في غيره من الروايات، و في معنى الحديث أحاديث أخر.

 و في تفسير العياشي، عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت له إن من عندنا يزعمون أن قول الله تعالى: ﴿فَسْئَلُوا أَهْلَ اَلذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ أنهم اليهود و النصارى فقال: إذا يدعونكم إلى دينهم قال ثم قال: بيده إلى صدره: نحن أهل

 

 

 

 الذكر و نحن المسئولون. قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): الذكر القرآن.

 أقول: و روي نظير هذا البيان عن الرضا (عليه السلام) في مجلس المأمون.

و قد مر أن الخطاب في الآية على ما يفيده السياق للمشركين من الوثنيين المحيلين للرسالة أمروا أن يسألوا أهل الذكر و هم أهل الكتب السماوية: هل بعث الله للرسالة رجالا من البشر يوحي إليهم؟ و من المعلوم أن المشركين لما كانوا لا يقبلون من النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لم يكن معنى لإرجاعهم إلى غيره من أهل القرآن لأنهم لم يكونوا يقرون للقرآن أنه ذكر من الله فتعين أن يكون المسئول عنه بالنظر إلى مورد الآية هم أهل الكتاب و خاصة اليهود.

و أما إذا أخذ قوله: ﴿فَسْئَلُوا أَهْلَ اَلذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ في نفسه مع قطع النظر عن المورد و من شأن القرآن ذلك و من المعلوم أن المورد لا يخصص بنفسه كان القول عاما من حيث السائل و المسئول و المسئول عنه ظاهرا فالسائل كل من يمكن أن يجهل شيئا من المعارف حقيقية و المسائل من المكلفين، و المسئول عنه جميع المعارف و المسائل التي يمكن أن يجهله جاهل، و أما المسئول فإنه و إن كان بحسب المفهوم عاما فهو بحسب المصداق خاص و هم أهل بيت النبي (عليه السلام).

و ذلك أن المراد بالذكر إن كان هو النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كما في آية الطلاق فهم أهل الذكر، و إن كان هو القرآن كما في آية الزخرف فهو ذكر للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و لقومه و هم قومه أو المتيقن من قومه فهم أهله و خاصته و هم المسئولون و قد قارنهم (ص) بالقرآن‏

و أمر الناس بالتمسك بهما في حديث الثقلين المتواتر قائلا: إنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض‏ الحديث.

و من الدليل على أن كلامهم (عليه السلام) من الجهة التي ذكرناها عدم تعرضهم لشي‏ء من خصوصيات مورد الآية.

و مما قدمناه يظهر فساد ما أورده بعضهم على الأحاديث أن المشركين الذين أمروا بالسؤال ما كانوا يقبلون من النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فكيف يقبلون من أهل بيته؟.

 و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن جابر قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): لا ينبغي للعالم أن يسكت على علمه، و لا ينبغي للجاهل أن يسكت على جهله و قد قال الله

 

 

 

﴿فَسْئَلُوا أَهْلَ اَلذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ فينبغي للمؤمن أن يعرف عمله على هدى أم على خلافه. و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: ﴿أَ فَأَمِنَ اَلَّذِينَ مَكَرُوا اَلسَّيِّئَاتِ إلى قوله ﴿بِمُعْجِزِينَ قال: قال (عليه السلام): إذا جاءوا و ذهبوا في التجارات فيأخذهم في تلك الحالة ﴿أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلىَ تَخَوُّفٍ قال: قال: على تيقظ.

و في تفسير العياشي، عن سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألت عن قول الله: ﴿وَ لَهُ اَلدِّينُ وَاصِباً قال: واجبا.

 و في المعاني، بإسناده عن حنان بن سدير عن الصادق (عليه السلام) في حديث قال (عليه السلام): ﴿وَ لِلَّهِ اَلْمَثَلُ اَلْأَعْلى‏َ الذي لا يشبهه شي‏ء و لا يوصف و لا يتوهم‏

و في الدر المنثور،: في قوله: ﴿وَ لَوْ يُؤَاخِذُ اَللَّهُ اَلنَّاسَ بِظُلْمِهِمْ الآية أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): لو أن الله يؤاخذني و عيسى بن مريم بذنوبنا و في لفظ: بما جنت هاتان الإبهام و التي تليها لعذبنا ما يظلمنا شيئا. أقول: و الحديث مخالف لما يثبته الكتاب و السنة من عصمة الأنبياء (عليه السلام) و لا وجه لحملة على إرادة ترك الأولى من الذنوب إذ لا عذاب عليه.

 [سورة النحل (١٦): الآیات ٦٥ الی ٧٧]

﴿وَ اَللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ٦٥وَ إِنَّ لَكُمْ فِي اَلْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَ دَمٍ لَبَناً خَالِصاً سَائِغاً لِلشَّارِبِينَ ٦٦وَ مِنْ ثَمَرَاتِ اَلنَّخِيلِ وَ اَلْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ٦٧وَ أَوْحى‏ رَبُّكَ إِلَى اَلنَّحْلِ أَنِ اِتَّخِذِي مِنَ اَلْجِبَالِ بُيُوتاً وَ مِنَ اَلشَّجَرِ وَ مِمَّا يَعْرِشُونَ ٦٨ثُمَّ كُلِي

 

 

 

﴿مِنْ كُلِّ اَلثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ٦٩وَ اَللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى‏ أَرْذَلِ اَلْعُمُرِ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اَللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ٧٠وَ اَللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى‏ بَعْضٍ فِي اَلرِّزْقِ فَمَا اَلَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى‏َ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَ فَبِنِعْمَةِ اَللَّهِ يَجْحَدُونَ ٧١وَ اَللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَ حَفَدَةً وَ رَزَقَكُمْ مِنَ اَلطَّيِّبَاتِ أَ فَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَ بِنِعْمَتِ اَللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ ٧٢وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ شَيْئاً وَ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ٧٣فَلاَ تَضْرِبُوا لِلَّهِ اَلْأَمْثَالَ إِنَّ اَللَّهَ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ٧٤ضَرَبَ اَللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لاَ يَقْدِرُ عَلى‏شَيْ‏ءٍ وَ مَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَ جَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ٧٥وَ ضَرَبَ اَللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلى‏ شَيْ‏ءٍ وَ هُوَ كَلٌّ عَلى‏َ مَوْلاَهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَ مَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ هُوَ عَلى‏ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ٧٦وَ لِلَّهِ غَيْبُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مَا أَمْرُ اَلسَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ اَلْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اَللَّهَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ٧٧

 

 

 

 (بيان)

رجوع بعد رجوع إلى عد النعم و الآلاء الإلهية و استنتاج التوحيد و البعث منها و الإشارة إلى مسألة التشريع و هي النبوة.

قوله تعالى: ﴿وَ اَللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إلخ، يريد إنبات الأرض بعد ما انقطعت عنه بحلول الشتاء بماء السماء الذي هو المطر فتأخذ أصول النباتات و بذورها في النمو بعد سكونها، و هي حياة من سنخ الحياة الحيوانية و إن كانت أضعف منها، و قد اتضح بالأبحاث الحديثة أن للنبات من جراثيم الحياة ما للحيوان و إن اختلفتا صورة و أثرا.

و قوله: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ المراد بالسمع قبول ما من شأنه أن يقبل من القول فإن العاقل الطالب للحق إذا سمع ما يتوقع فيه الحق أصغى و استمع إليه ليعيه و يحفظه، قال تعالى: ﴿اَلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ اَلْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ اَلَّذِينَ هَدَاهُمُ اَللَّهُ وَ أُولَئِكَ هُمْ أُولُوا اَلْأَلْبَابِ: الزمر: ١٨.

فإذا ذكر من فيه قريحة قبول الحق حديث إنزال الله المطر و إحيائه الأرض بعد موتها كان له في ذلك آية للبعث و أن الذي أحياها لمحيي الموتى.

قوله تعالى: ﴿وَ إِنَّ لَكُمْ فِي اَلْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً إلخ الفرث‏ هو الثفل الذي ينزل إلى الكرش و الأمعاء فإذا دفع فهو سرجين و ليس فرثا، و السائغ‏ اسم فاعل من السوغ يقال: ساغ الطعام و الشراب إذا جرى في الحلق بسهولة.

و قوله: ﴿وَ إِنَّ لَكُمْ فِي اَلْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً أي لكم في الإبل و البقر و الغنم لأمرا أمكنكم أن تعتبروا به و تتعظوا ثم بين ذلك الأمر بقوله: ﴿نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِإلخ، أي بطون ما ذكر من الأنعام أخذ الكثير شيئا واحدا.

و قوله: ﴿مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَ دَمٍ الفرث في الكرش و ألبان الأنعام مكانها مؤخر البطن بين الرجلين، و الدم مجراه الشرايين و الأوردة و هي محيطة بهما جميعا فأخذ اللبن شيئا هو بين الفرث و الدم كأنه باعتبار مجاورته لكل منهما و اجتماع الجميع في داخل الحيوان و هذا كما يقال، اخترت زيدا من بين القوم و دعوته و أخرجته من بينهم إذا

 

 

 

 اجتمع معهم في مكان واحد و جاورهم فيه و إن كان جالسا في حاشية القوم لا وسطهم، و المراد بذلك أني ميزته من بينهم و قد كان غير متميز.

و المعنى: نسقيكم مما في بطونه لبنا خارجا من بين فرث و دم خالصا غير مختلط و لا مشوب بهما و لا مستصحب لشي‏ء من طعمهما و رائحتهما سائغا للشاربين فذلك عبرة لمن اعتبر و ذريعة إلى العلم بكمال القدرة و نفوذ الإرادة، و أن الذي خلص اللبن من بين فرث و دم لقادر على أن يبعث الإنسان و يحييه بعد ما صار عظاما رميما و ضلت في الأرض أجزاؤه.

قوله تعالى: ﴿وَ مِنْ ثَمَرَاتِ اَلنَّخِيلِ وَ اَلْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حَسَناًإلى آخر الآية، قال في المفردات: السكر بضم السين حالة تعرض بين المرء و عقله إلى أن قال و السكر بفتحتين ما يكون منه السكر، قال تعالى: ﴿تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حَسَناً انتهى.

و قال في المجمع السكر في اللغة على أربعة أوجه: الأول ما أسكر من الشراب، و الثاني ما طعم من الطعام، قال الشاعر: «جعلت عيب الأكرمين سكرا» أي جعلت ذمهم طعما لك، و الثالث السكون و منه ليلة ساكرة أي ساكنة، قال الشاعر:

«و ليست بطلق و لا ساكرة» و يقال: سكرت الريح سكنت، قال: «و جعلت عين الحرور تسكر»، و الرابع المصدر من قولك: سكر سكرا و منه التسكير التحيير في قوله: «سكرت أبصارنا» انتهى. و الظاهر أن الأصل في معناه هو زوال العقل باستعمال ما يوجب ذلك، و سائر ما ذكره من المعاني مأخوذة منه بنوع من الاستعارة و التوسع.

و قوله‏﴿ وَ مِنْ ثَمَرَاتِ اَلنَّخِيلِ وَ اَلْأَعْنَابِ إما جملة اسمية معطوفة على قوله:

﴿وَ اَللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً كقوله في الآية السابقة: ﴿وَ إِنَّ لَكُمْ فِي اَلْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً و التقدير: و من ثمرات النخيل و الأعناب ما أو[1] شي‏ء - ﴿تَتَّخِذُونَ مِنْهُ إلخ، قالوا:

 

 

 

 

 و العرب ربما يضمر ما الموصولة كثيرا، و منه قوله تعالى: ﴿وَ إِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَ مُلْكاً كَبِيراً: الدهر: ٢٠، و التقدير رأيت ما ثم، أو التقدير و من ثمرات النخيل و الأعناب شي‏ء تتخذون منه، بناء على عدم جواز حذف الموصول و إبقاء الصلة على ما ذهب إليه البصريون من النحاة.

و إما جملة فعلية معطوفة على قوله: ﴿أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمَاءِ كما في الآية التالية:

﴿وَ أَوْحى‏َ رَبُّكَ و التقدير خلق لكم أو آتاكم من ثمرات النخيل و الأعناب، و قوله:

﴿تَتَّخِذُونَ مِنْهُ إلخ، بدل منه أو استئناف كأن قائلا يقول: ما ذا نستفيد منه فقيل:

﴿تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حَسَناً و إفراد ضمير ﴿مِنْهُ بتأويل المذكور كقوله:

﴿مِمَّا فِي بُطُونِهِ في الآية السابقة.

و قوله: ﴿تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حَسَناً أي تتخذون مما ذكر من ثمرات النخيل و الأعناب ما هو مسكر كالخمر بأنواعها ﴿وَ رِزْقاً حَسَناً كالتمر و الزبيب و الدبس و غير ذلك مما يقتات به.

و لا دلالة في الآية على إباحة استعمال السكر و لا على تحسين استعماله إن لم تدل على نوع من تقبيحه من جهة مقابلته بالرزق الحسن و إنما الآية تعد ما ينتفعون به من ثمرات النخيل و الأعناب و هي مكية تخاطب المشركين و تدعوهم إلى التوحيد.

و على هذا فالآية لا تتضمن حكما تكليفيا حتى تكون منسوخة أو غير منسوخة و به يظهر فساد القول بكونها منسوخة بآية المائدة كما نسب إلى قتادة.

و قد أغرب صاحب روح المعاني إذ قال: و تفسير السكر بالخمر هو المروي عن ابن مسعود و ابن عمر، و أبي رزين و الحسن و مجاهد و الشعبي و النخعي و ابن أبي ليلى و أبي ثور و الكلبي و ابن جبير مع خلق آخرين، و الآية نزلت في مكة و الخمر إذ ذاك كانت حلالا يشربها البر و الفاجر، و تحريمها إنما كان بالمدينة اتفاقا، و اختلفوا في أنه قبل أحد أو بعدها و الآية المحرمة لها: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا اَلْخَمْرُ وَ اَلْمَيْسِرُ وَ اَلْأَنْصَابُ وَ اَلْأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ على ما ذهب إليه جمع فما هنا منسوخ بها و روى ذلك غير واحد ممن تقدم كالنخعي و أبي ثور و ابن جبير.

و قيل: نزلت قبل و لا نسخ بناء على ما روي عن ابن عباس أن السكر هو الخل

 

 

 

 بلغة الحبشة أو على ما نقل عن أبي عبيدة أن السكر المطعوم المتفكه به كالنقل و أنشد:

«جعلت أعراض الكرام سكرا» إلى أن قال و إلى عدم النسخ ذهب الحنفيون و قالوا: المراد بالسكر ما لا يسكر من الأنبذة و استدلوا عليه بأن الله تعالى امتن على عباده بما خلق لهم من ذلك، و لا يقع الامتنان إلا بمحلل فيكون ذلك دليلا على جواز شرب ما دون المسكر من النبيذ فإذا انتهى إلى السكر لم يجز انتهى موضع الحاجة.

أما ما ذكره في الخمر فقد فصلنا القول في ذلك في ذيل آيات التحريم من سورة المائدة، و أقمنا الشواهد هناك على أن الخمر كانت محرمة قبل الهجرة و كان الإسلام معروفا بتحريمها و تحريم الزنا عند المشركين عامتهم، و أن تحريمها نزل في سورة الأعراف و قد نزلت قبل سورة النحل قطعا، و في سورتي البقرة و النساء و قد نزلتا قبل سورة المائدة.

و أن التي نزلت في المائدة إنما نزلت لتشديد الحرمة و زجر بعض المسلمين حيث كانوا يتخلفون عن حكم التحريم كما وقع في الروايات و هو الذي يشير إليه بقوله:

يشربها البر و الفاجر و في لفظ الآيات دلالة على ذلك إذ يقول: ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ.

و أما ما نقله عن ابن عباس أن السكر في لغة الحبشة بمعنى الخل فلا معول عليه، و استعمال اللفظ غير العربي و إن كان غير عزيز في القرآن كما قيل في إستبرق و جهنم و زقوم و غيرها لكنه إنما يجوز فيما لم يكن هناك مانع من لبس أو إبهام، و أما في مثل السكر و هو في اللغة العربية الخمر و في الحبشية الخل فلا و كيف يجوز أن ينسب إلى أبلغ الكلام أنه ترك الخل و هو عربي جيد و استعمل مكانه لفظة حبشية تفيد في العربية ضد معناها؟ و أما ما نسبه إلى أبي عبيدة فقد تقدم ما عليه في أول الكلام فراجع.

و أما ما نسبه إلى الحنفية من أن المراد بالسكر النبيذ و أن الآية تدل على جواز شرب القليل منه ما لم يصل إلى حد الإسكار لمكان الامتنان ففيه أن الآية لا تدل على أكثر من أنهم يتخذون منه سكرا، و أما الامتنان عليهم بذلك فبمعزل من دلالة الآية و إنما عد من النعم ثمرات النخيل و الأعناب لا كل ما عملوا منها من حلال و حرام و لو كان في ذلك امتنان لم يقابله بالرزق الحسن الدال بمقابلته على نوع من العتاب على اتخاذهم منه سكرا كما اعترف به البيضاوي و غيره.

 

 

 

على أن ما في الآية من لفظ السكر غير مقيد بكونه نبيذا أو خمرا و لا قليلا لا يبلغ حد الإسكار و لا غيره فلو كان اتخاذ السكر متعلقا للامتنان الدال على الجواز لكانت الآية صريحة في حلية الجميع ثم لم يقبل النسخ أصلا فإن لسان الامتنان لا يقبل أمدا يرتفع بعده، كيف يجوز أن يعد الله شيئا من نعمه و يمتن على الناس به ثم يعده بعد برهة رجسا و من عمل الشيطان كما في آية المائدة إلا بالبداء بمعناه المستحيل عليه تعالى.

ثم ختم سبحانه الآية بقوله: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ حثا على التعقل و الإمعان في أمر النبات و ثمراته.

قوله تعالى: ﴿وَ أَوْحى‏َ رَبُّكَ إِلَى اَلنَّحْلِ أَنِ اِتَّخِذِي مِنَ اَلْجِبَالِ بُيُوتاً إلى آخر الآيتين، الوحي كما قال الراغب الإشارة السريعة و ذلك يكون بالكلام على سبيل الرمز أو بصوت مجرد عن التركيب أو بإشارة و نحوها، و المحصل من موارد استعماله أنه إلقاء المعنى بنحو يخفى على غير من قصد إفهامه فالإلهام بإلقاء المعنى في فهم الحيوان من طريق الغريزة من الوحي و كذا ورود المعنى في النفس من طريق الرؤيا أو من طريق الوسوسة أو بالإشارة كل ذلك من الوحي، و قد استعمل في كلامه تعالى في كل من هذه المعاني كقوله: ﴿وَ أَوْحى‏َ رَبُّكَ إِلَى اَلنَّحْلِ الآية، و قوله: ﴿وَ أَوْحَيْنَا إِلى‏َ أُمِّ مُوسى‏َ: القصص: ٧، و قوله: ﴿إِنَّ اَلشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلى‏َ أَوْلِيَائِهِمْ: الأنعام: ١٢١، و قوله: ﴿فَأَوْحى‏َ إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَ عَشِيًّا: مريم: ١١، و من الوحي التكليم الإلهي لأنبيائه و رسله، قال تعالى: ﴿وَ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اَللَّهُ إِلاَّ وَحْياً: الشورى: ٥١، و قد قرر الأدب الديني في الإسلام أن لا يطلق الوحي على غير ما عند الأنبياء و الرسل من التكليم الإلهي.

قال في المجمع: و الذلل‏ جمع الذلول، يقال: دابة ذلول بين الذل و رجل ذلول بين الذل و الذلة. انتهى.

و قوله: ﴿وَ أَوْحى‏َ رَبُّكَ إِلَى اَلنَّحْلِ أي ألهمه من طريق غريزته التي أودعها في بنيته، و أمر النحل و هو زنبور العسل في حياته الاجتماعية و سيرته و صنعته لعجيب، و لعل بداعة أمره هو الموجب لصرف الخطاب عنهم إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) إذ قال:

﴿وَ أَوْحى‏َ رَبُّكَ.

 

 

 

و قوله: ﴿أَنِ اِتَّخِذِي مِنَ اَلْجِبَالِ بُيُوتاً وَ مِنَ اَلشَّجَرِ وَ مِمَّا يَعْرِشُونَ هذا من مضمون الوحي الذي أوحي إليه، و الظاهر أن المراد بما يعرشون هو ما يبنون لبيوت العسل.

و قوله: ﴿ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ اَلثَّمَرَاتِ الأمر بأن تأكل من كل الثمرات مع أنها تنزل غالبا على الأزهار إنما هو لأنها إنما تأكل من مواد الثمرات أول ما تتكون في بطون الأزهار و لما تكبر و تنضج.

و قوله: ﴿فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً تفريعه على الأمر بالأكل يؤيد أن المراد به رجوعها إلى بيوتها لتودع فيها ما هيأته من العسل المأخوذ من الثمرات و إضافة السبل إلى الرب للدلالة على أن الجميع بإلهام إلهي.

و قوله: ﴿يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ إلخ، استئناف بعد ذكر جملة ما أمرت به يبين فيه ما يترتب على مجاهدتها في امتثال أمر الله سبحانه ذللا و هو أنه يخرج من بطونها أي بطون النحل ﴿شَرَابٌ و هو العسل ﴿مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ بالبياض و الصفرة و الحمرة الناصعة و ما يميل إلى السواد ﴿فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ من غالب الأمراض.

و تفصيل القول في حياة النحلة هذه الحشرة الفطنة التي بنت حياتها على مدنية عجيبة فاضلة لا تكاد تحصى غرائبها و لا يحاط بدقائقها ثم الذي تهيئه ببالغ مجاهدتها و ما يشتمل عليه من الخواص خارج عن وسع هذا الكتاب فليراجع في ذلك مظان تحقيقه.

ثم ختم الآية بقوله: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ و قد اختلف التعبير بذلك في هذه الآيات فخص الآية في إحياء الأرض بعد موتها بقوم يسمعون، و في ثمرات النخيل و الأعناب بقوم يعقلون، و في أمر النحل بقوم يتفكرون.

و لعل الوجه في ذلك أن النظر في أمر الموت و الحياة بحسب طبعه من العبرة و الموعظة، و هي بالسمع أنسب، و النظر في الثمرات من حيث ما ينفع الإنسان في وجوده من السير البرهاني من مسلك اتصال التدبير و ارتباط الأنظمة الجزئية و رجوعها إلى نظام عام واحد لا يقوم إلا بمدبر واحد و هو للعقل أنسب، و أمر النحل في حياتها يتضمن دقائق عجيبة لا تنكشف للإنسان إلا بالإمعان في التفكر فهو آية للمتفكرين.

و قد أشرنا سابقا إلى ما في آيات السورة من مختلف الالتفاتات، و عمدتها في هذه الآيات ترجع إلى خطاب المشركين رحمة لهم و إشفاقا بحالهم و هم لا يعلمون، و الإعراض

 

 

 

 عن مخاطبتهم لكفرهم و جحودهم إلى خطاب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و هذا ظاهر مشهود في آيات السورة فلا يزال الخطاب فيها يتقلب بين النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و بين المشركين فيتحول منه إليهم و منهم إليه.

قوله تعالى: ﴿وَ اَللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى‏َ أَرْذَلِ اَلْعُمُرِ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إلخ، الأرذل‏ اسم تفضيل من الرذالة و هي الرداءة و الرذل‏ الدون و الردي‏ء، و المراد بأرذل العمر بقرينة قوله: ﴿لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ إلخ، سن الشيخوخة و الهرم التي فيها انحطاط قوى الشعور و الإدراك، و هي تختلف باختلاف الأمزجة و تبتدئ على الأغلب من الخمس و السبعين.

و المعنى: و الله خلقكم معشر الناس ثم يتوفاكم في عمر متوسط و منكم من يرد إلى سن الهرم فينتهي إلى أن لا يعلم بعد علم شيئا لضعف القوى، و هذا آية أن حياتكم و موتكم و كذا شعوركم و علمكم ليست بأيديكم و إلا اخترتم البقاء على الوفاة و العلم على عدمه بل ذلك على ما له من عجيب النظام منته إلى علمه و قدرته تعالى، و لهذا علله بقوله: ﴿إِنَّ اَللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ.

قوله تعالى: ﴿وَ اَللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى‏َ بَعْضٍ فِي اَلرِّزْقِ إلى آخر الآية، فضل بعض الناس على بعض في الرزق و هو ما تبقى به الحياة ربما كان من جهة الكمية كالغني المفضل بالمال الكثير على الفقير، و ربما كان من جهة الكيفية كأن يستقل بالتصرف فيه بعضهم و يتولى أمر الآخرين مثل ما يستقل المولى الحر بملك ما في يده و التصرف فيه بخلاف عبده الذي ليس له أن يتصرف في شي‏ء إلا بإذنه و كذا الأولاد الصغار بالنسبة إلى وليهم و الأنعام و المواشي بالنسبة إلى مالكها.

و قوله: ﴿فَمَا اَلَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى‏َ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ قرينة على أن المراد هو القسم الثاني من التفضيل و هو أن بعضهم فضل بالحرية و الاستقلال بملك ما رزق و ليس يختار أن يرد ما رزق باستقلاله و حريته إلى من يملكه و يملك رزقه، و لا أن يبذل له ما أوتيه من نعمة حتى يتساويا و يتشاركا فيبطل ملكه و يذهب سودده.

فهذه نعمة ليسوا بمغمضين عنها و لا برادين لها على غيرهم، و ليست إلا من الله سبحانه فإن أمر المولوية و الرقية و إن كان من الشئون الاجتماعية التي ظهرت عن آراء

 

 

 

الناس و السنن الاجتماعية الجارية في مجتمعاتهم لكن له أصول طبيعية تكوينية هي التي بعثت آراءهم على اعتباره كسائر الأمور الاجتماعية العامة.

و من الشاهد على ذلك أن الأمم الراقية منذ عهد طويل أعلنوا بإلغاء سنة الاسترقاق ثم اتبعتهم سائر الأمم من الشرقيين و غيرهم و هم لا يزالون يحترمون معناها إلى هذه الغاية و إن ألغوا صورتها، و يجرون مسماها و إن هجروا اسمها[2] و لن يزالوا كذلك فليس في وسع الإنسان أن يسد باب المغالبة، و قد قدمنا كلاما في هذا المعنى في آخر الجزء السادس من هذا الكتاب فليراجعه من شاء.

و كون هذا المعنى نعمة من الله إنما هو لأن من صلاح المجتمع الإنساني أن يتسلط بعضهم على بعض فيصلح القوي الضعيف بصالح التدبير و يكمله.

و على هذا فقوله: ﴿فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ متفرع على المنفي في قوله: ﴿فَمَا اَلَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ دون النفي، و المعنى: ليسوا برادي رزقهم على عبيدهم فيكونوا متساوين فيه متشاركين و في ذلك ذهاب مولويتهم، و يحتمل أن يكون جملة استفهامية حذفت منها أداة الاستفهام و فيها إنكار أن يكون المفضلون و المفضل عليهم في ذلك متساويين، و لو كانوا سواء لم يمتنع المفضل من أن يرد رزقه على من فضل عليه فإن في ذلك دلالة على أنها نعمة خصه الله بها.

و لذلك عقبه ثانيا بقوله: ﴿أَ فَبِنِعْمَةِ اَللَّهِ يَجْحَدُونَ و هو استفهام توبيخي كالمتفرع لما تقدمه من الاستفهام الإنكاري، و المراد بنعمة الله هذا التفضيل المذكور بعينه.

و المعنى و الله أعلم و الله فرق بينكم بأن فضل بعضكم على بعض في الرزق فبعضكم حر مستقل في التصرف فيه، و بعضكم عبد تبع له لا يتصرف إلا عن إذن فليس الذين فضلوا برادي رزقهم الذي رزقوه على سبيل الحرية و الاستقلال على ما ملكت أيمانهم حتى يكون هؤلاء المفضلون و المفضل عليهم في الرزق سواء فليسوا سواء بل هي نعمة تختص بالمفضلين أ فبنعمة الله يجحدون؟.

هذا ما يفيده ظاهر الآية بما احتفت به من القرائن، و السياق سياق تعداد النعم،

 

 

 

 و ربما قرر معنى الآية على وجه آخر فقيل: المعنى أنهم لا يشركون عبيدهم في أموالهم و أزواجهم حتى يكونوا في ذلك سواء و يرون ذلك نقصا لأنفسهم فكيف يشركون عبيدي في ملكي و سلطاني و يعبدونهم و يتقربون إليهم كما يعبدونني و يتقربون إلي، كما فعلوا في عيسى بن مريم (عليه السلام)؟.

قالوا: و الآية على شاكلة قوله تعالى: ﴿ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ: الروم: ٢٨ قالوا: و الآية نزلت في نصارى نجران.

و فيه أن سياق الآية هو سياق تعداد النعم لاستنتاج التوحيد لا المناقضة و التوبيخ فلا أثر فيها منه.

على أن الآية مما نزلت بمكة و أين ذاك من وفود نصارى نجران على المدينة سنة ست من الهجرة أو بعدها؟ و قياس هذه الآية من آية سورة الروم مع الفارق لاختلاف السياقين، فسياق هذه الآية سياق الاحتجاج بذكر النعمة و سياق آية الروم هو سياق التوبيخ على الشرك.

و قيل: إن المعنى فهؤلاء الذين فضلهم الله في الرزق من الأحرار لا يرزقون مماليكهم و عبيدهم بل الله تعالى هو رازق الملاك و المماليك فإن الذي ينفقه المولى على مملوكه إنما ينفقه مما رزقهم الله فالله رازقهم جميعا فهم فيه سواء.

و محصله أن قوله: ﴿فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ حال محل إضراب مقدر و التقدير أن الموالي ليسوا برادي رزق أنفسهم على عبيدهم فيما ينفقون عليهم بل الله يرزق العبيد بأيدي مواليهم و هم سواء في الرزق من الله.

و فيه أن ما قرر من المعنى مقتضاه أن يبطل التسوية أخيرا حكم التفضيل أولا، و لا يستقيم عليه مدلول قوله: ﴿أَ فَبِنِعْمَةِ اَللَّهِ يَجْحَدُونَ.

و قيل: المراد أن الموالي ليسوا برادي ما بأيديهم من الرزق على مواليهم حتى يستووا في التمتع منه.

و فيه أنه يعود حينئذ إلى أن الإنسان يمنع غيره من أن يتسلط على ما ملكه من

 

 

 

 الرزق، و حينئذ يكون تخصيص ذلك بالعبيد مستدركا زائدا، و لو وجه بأنه إنما لا يرده عليه لمكان تسلطه على عبيده رجع إلى ما قدمناه من المعنى، و لكانت النعمة المعدودة هي الفضل من جهة مالكية المولى لعبده و لما عنده من الرزق.

قوله تعالى: ﴿وَ اَللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَ حَفَدَةً إلى آخر الآية. قال في المفردات: «قال الله تعالى ﴿وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَ حَفَدَةً جمع حافد و هو المتحرك المسرع بالخدمة أقارب كانوا أو أجانب. قال المفسرون: هم الأسباط و نحوهم و ذلك أن خدمتهم أصدق إلى أن قال قال الأصمعي: أصل الحفد مداركة الخطو. انتهى.

و في المجمع: و أصل الحفد الإسراع في العمل إلى أن قال و منه قيل للأعوان حفدة لإسراعهم في الطاعة. انتهى. و المراد بالحفدة في الآية الأعوان الخدم من البنين لمكان قوله: ﴿وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ و لذا فسر بعضهم قوله: ﴿بَنِينَ وَ حَفَدَةً ﴾بصغار الأولاد و كبارهم، و بعضهم بالبنين و الأسباط و هم بنو البنين.

و المعنى: و الله جعل لكم من أنفسكم أزواجا تألفونها و تأنسون بها، و جعل لكم من أزواجكم بالإيلاد بنين و حفدة و أعوانا تستعينون بخدمتهم على حوائجكم و تدفعون بهم عن أنفسكم المكاره و رزقكم من الطيبات و هي ما تستطيبونه من أمتعة الحياة و تنالونه بلا علاج و عمل كالماء و الثمرات أو بعلاج و عمل كالأطعمة و الملابس و نحوها، و ﴿مِنْ في ﴿مِنَ اَلطَّيِّبَاتِ للتبعيض و هو ظاهر.

ثم وبخهم بقوله: ﴿أَ فَبِالْبَاطِلِ و هي الأصنام و الأوثان و من ذلك القول بالبنات لله، و الأحكام التي يشرعها لهم أئمتهم أئمة الضلال ﴿يُؤْمِنُونَ وَ بِنِعْمَتِ اَللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَو النعمة هي جعل الأزواج من أنفسهم و جعل البنين و الحفدة من أزواجهم فإن ذلك من أعظم النعم و أجلاها لكونه أساسا تكوينيا يبتني عليه المجتمع البشري، و يظهر به فيهم حكم التعاون و التعاضد بين الأفراد، و ينتظم به لهم أمر تشريك الأعمال و المساعي فيتيسر لهم الظفر بسعادتهم في الدنيا و الآخرة.

و لو أن الإنسان قطع هذا الرابط التكويني الذي أنعم الله به عليه و هجر هذا السبب الجميل، و إن توسل بأي وسيلة غيره لتلاشى جمعه و تشتت شمله و في ذلك

 

 

 

 هلاك الإنسانية.

قوله تعالى: ﴿وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ شَيْئاً وَ لاَ يَسْتَطِيعُونَ عطف على موضع الجملة السابقة و المعنى يكفرون بنعمة الله و يعبدون من دون الله ما لا يملك إلخ.

و قد ذكروا أن ﴿رِزْقاً مصدر و ﴿شَيْئاً مفعوله و المعنى لا يملك لهم أن يرزق شيئا و قيل: الرزق بمعنى المرزوق و ﴿شَيْئاً بدل منه، و قيل: إن ﴿شَيْئاً مفعول مطلق و التقدير: لا يملك شيئا من الملك. و خير الوجوه أوسطها.

و يمكن أن يقال: ﴿مِنَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ شَيْئاً بدل من ﴿رِزْقاً و هو من بدل الكل من البعض يفيد معنى الإضراب و الترقي، و المعنى و يعبدون ما لا يملك لهم رزقا بل لا يملك لهم في السماوات و الأرض شيئا.

و قوله: ﴿وَ لاَ يَسْتَطِيعُونَ أي و لا يستطيعون أن يملكوا رزقا و شيئا و يمكن أن يكون منسي المتعلق جاريا مجرى اللازم أي و لا استطاعة لهم أصلا.

و قد اجتمع في الآية رعاية الاعتبارين في الأصنام فإنها من جهة أنها معمولة من حجر أو خشب أو ذهب أو فضة غير عاقلة و بهذا الاعتبار قيل: ﴿مَا لاَ يَمْلِكُ إلخ، و من جهة أنهم يعدونها آلهة دون الله و يعبدونها و العبادة لا تكون إلا لعاقل منسلكة - على زعمهم - في سلك العقلاء، و بهذا الاعتبار قيل: ﴿وَ لاَ يَسْتَطِيعُونَ.

و في الآية رجوع إلى التخلص لبيان الغرض من تعداد النعم و هو التوحيد و إثبات النبوة بمعنى التشريع و المعاد يجري ذلك إلى تمام أربع آيات ينهى في أولاها عن ضربهم الأمثال لله سبحانه، و يضرب في الثانية مثلا تبين به وحدانيته تعالى في ربوبيته، و في الثالثة مثلا يتبين به أمر النبوة و التشريع، و يتعرض في الرابعة لأمر المعاد.

قوله تعالى: ﴿فَلاَ تَضْرِبُوا لِلَّهِ اَلْأَمْثَالَ إِنَّ اَللَّهَ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ الظاهر السابق إلى الذهن أن المراد بضرب الأمثال التوصيف المصطلح عليه بالاستعارة التمثيلية و هي إجراء الأوصاف عليه تعالى بضرب من التشبيه كقولهم: إن له بنات كالإنسان، و إن الملائكة بناته، و إن بينه و بين الجنة نسبا و صهرا، و إنه كيف يحيي العظام و هي

 

 

 

رميم إلى غير ذلك، و هذا هو المعنى المعهود من هذه الكلمة في كلامه تعالى، و قد تقدم في خلال الآيات السابقة قوله: ﴿لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ اَلسَّوْءِ وَ لِلَّهِ اَلْمَثَلُ اَلْأَعْلى‏َ.

فالمعنى: إذا كان الأمر على ما ذكر فلا تصفوه سبحانه بما تشبهونه بغيره و تقيسونه إلى خلقه لأن الله يعلم و أنتم لا تعلمون حقائق الأمور و كنهه تعالى.

و قيل: المراد بالضرب الجعل، و بالأمثال ما هو جمع المثل بمعنى الند، فقوله:

﴿فَلاَ تَضْرِبُوا لِلَّهِ اَلْأَمْثَالَ في معنى قوله في موضع آخر: ﴿فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً: البقرة:

 ٢٢، و هو معنى بعيد.

قوله تعالى: ﴿ضَرَبَ اَللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لاَ يَقْدِرُ عَلى‏َ شَيْ‏ءٍ إلى آخر الآية، ما في الآية من المثل المضروب يفرض عبدا مملوكا لا يقدر على شي‏ء، و آخر رزق من الله رزقا حسنا ينفق منه سرا و جهرا ثم يسأل هل يستويان) و اعتبار التقابل بين المفروضين يعطي أن كلا من الطرفين مقيد بخلاف ما في الآخر من الوصف مع تبيين الأوصاف بعضها لبعض.

فالعبد المفروض مملوك غير مالك لا لنفسه و لا لشي‏ء من متاع الحياة و هو غير قادر على التصرف في شي‏ء من المال، و الذي فرض قباله حر يملك نفسه و قد رزقه الله رزقا حسنا و هو ينفق منه سرا و جهرا على قدرة منه على التصرف بجميع أقسامه.

و قوله: ﴿هَلْ يَسْتَوُونَ سؤال عن تساويهما، و من البديهي أن الجواب هو نفي التساوي و يثبت به أن الله سبحانه و هو المالك لكل شي‏ء المنعم بجميع النعم لا يساوي شيئا من خلقه و هم لا يملكون لا أنفسهم و لا غيرهم و لا يقدرون على شي‏ء من التصرف فمن الباطل قولهم: إن مع الله آلهة غيره و هم من خلقه.

و التعبير بقوله: ﴿يَسْتَوُونَ دون أن يقال: يستويان للدلالة على أن المراد من ذلك الجنس من غير أن يختص بمولى و عبد معينين كما قيل.

و قوله: ﴿اَلْحَمْدُ لِلَّهِ أي له عز اسمه جنس الحمد و حقيقته و هو الثناء على الجميل الاختياري لأن جميل النعمة من عنده و لا يحمد إلا الجميل فله تعالى كل الحمد كما أن له جنسه فافهم ذلك.

 

 

 

 و الجملة من تمام الحجة و محصلها أنه لا يستوي المملوك الذي لا يقدر أن يتصرف في شي‏ء و ينعم بشي‏ء، و المالك الذي يملك الرزق و يقدر على التصرف فيه فيتصرف و ينعم كيف شاء، و الله سبحانه هو المحمود بكل حمد إذ ما من نعمة إلا و هي من خلقه فله كل صفة يحمد عليها كالخلق و الرزق و الرحمة و المغفرة و الإحسان و الإنعام و غيرها، فله كل ثناء جميل، و ما يعبدون من دونه مملوك لا يقدر على شي‏ء فهو سبحانه الرب وحده دون غيره.

و قد قيل: إن الحمد في الآية شكر على نعمه تعالى، و قيل: حمد على تمام الحجة و قوتها، و قيل: تلقين للعباد و معناه قالوا: الحمد لله الذي دلنا على توحيده و هدانا إلى شكر نعمه، و هي وجوه لا يعبأ بها.

و قوله: ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ أي أكثر المشركين لا يعلمون أن النعمة كلها لله لا يملك غيره شيئا و لا يقدر على شي‏ء بل يثبتون لأوليائهم شيئا من الملك و القدرة على سبيل التفويض فيعبدونهم طمعا و خوفا، هذا حال أكثرهم و أما أقلهم من الخواص فإنهم على علم من الحق لكنهم يحيدون عنه بغيا و عنادا.

و قد تبين مما تقدم أن الآية مثل مضروب في الله سبحانه و فيمن يزعمونه شريكا له في الربوبية، و قيل: إنها مثل تمثل به حال الكافر المخذول و المؤمن الموفق فإن الكافر لإحباط عمله و عدم الاعتداد بأعماله كالعبد المملوك الذي لا يقدر على شي‏ء فلا يعد له إحسان و إن أنفق و بالغ بخلاف المؤمن الذي يوفقه الله لمرضاته و يشكر مساعيه فهو ينفق مما عنده من الخير سرا و جهرا.

و فيه أنه لا يلائم سياق الاحتجاج الذي للآيات، و قد تقدم أن الآية إحدى الآيات الثلاث المتوالية التي تتعرض لغرض تعداد النعم الإلهية، و هي تذكر بالتوحيد بمثل يقيس حال من ينعم بجميع النعم من حال من لا يملك شيئا و لا يقدر على شي‏ء فيستنتج أن الرب هو المنعم لا غير.

قوله تعالى: ﴿وَ ضَرَبَ اَللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ إلى آخر الآية. قال في المجمع:، الأبكم‏ الذي يولد أخرس لا يفهم و لا يفهم، و قيل: الأبكم الذي لا يقدر أن يتكلم و الكل الثقل يقال: كل عن الأمر يكل كلا إذا ثقل عليه فلم ينبعث فيه.

 

 

 

 و كلت السكين كلولا إذا غلظت شفرتها، و كل لسانه إذا لم ينبعث في القول لغلظه و ذهاب حده فالأصل فيه الغلظ المانع من النفوذ، و التوجيه: الإرسال في وجه من الطريق، يقال: وجهته إلى موضع كذا فتوجه إليه. انتهى.

فقوله: ﴿وَ ضَرَبَ اَللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ مقايسة أخرى بين رجلين مفروضين متقابلين في أوصافهما المذكورة.

و قوله: ﴿أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلى‏َ شَيْ‏ءٍ أي محروم من أن يفهم الكلام و يفهم غيره بالكلام لكونه أبكم لا يسمع و لا ينطق فهو فاقد لجميع الفعليات و المزايا التي يكتسبها الإنسان من طريق السمع الذي هو أوسع الحواس نطاقا، به يتمكن الإنسان من العلم بأخبار من مضى و ما غاب عن البصر من الحوادث و ما في ضمائر الناس و يعلم العلوم و الصناعات، و به يتمكن من إلقاء ما يدركه من المعاني الجليلة و الدقيقة إلى غيره، و لا يقوى الأبكم على درك شي‏ء منها إلا النزر اليسير مما يساعد عليه البصر بإعانة من الإشارة.

فقوله: ﴿لاَ يَقْدِرُ عَلى‏َ شَيْ‏ءٍ مخصص عمومه بالأبكم أي لا يقدر على شي‏ء مما يقدر عليه غير الأبكم و هو جملة ما يحرمه الأبكم من تلقي المعلومات و إلقائها.

و قوله: ﴿وَ هُوَ كَلٌّ عَلى‏َ مَوْلاَهُ أي ثقل و عيال على من يلي و يدبر أمره فهو لا يستطيع أن يدبر أمر نفسه، و قوله: ﴿أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ أي إلى أي جهة أرسله مولاه لحاجة من حوائج نفسه أو حوائج مولاه لم يقدر على رفعها فهو لا يستطيع أن ينفع غيره كما لا ينفع نفسه، فهذا أعني قوله: ﴿أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلى‏َ شَيْ‏ءٍإلخ، مثل أحد الرجلين، و لم يذكر سبحانه مثل الآخر لحصول العلم به من قوله: ﴿هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَ مَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ إلخ، و فيه إيجاز لطيف.

و قوله: ﴿هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَ مَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ هُوَ عَلى‏َ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ فيه إشارة إلى وصف الرجل المفروض و سؤال عن استوائهما إذا قويس بينهما و عدمه.

أما الوصف فقد ذكر له منه آخر ما يمكن أن يتلبس به غير الأبكم من الخير و الكمال الذي يحلي نفسه و يعدو إلى غيره و هو العدل الذي هو التزام الحد الوسط في الأعمال و اجتناب الإفراط و التفريط فإن الأمر بالعدل إذا جرى على حقيقته كان لازمه

 

 

 

 أن يتمكن الصلاح من نفس الإنسان ثم ينبسط على أعماله فيلتزم الاعتدال في الأمور ثم يحب انبساطه على أعمال غيره من الناس فيأمرهم بالعدل و هو - كما عرفت - مطلق التجنب عن الإفراط و التفريط أي العمل الصالح أعم من العدل في الرعية.

ثم وصفه بقوله: ﴿وَ هُوَ عَلى‏َ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ و هو السبيل الواضح الذي يهدي سالكيه إلى غايتهم من غير عوج، و الإنسان الذي هو في مسير حياته على صراط مستقيم يجري في أعماله على الفطرة الإنسانية من غير أن يناقض بعض أعماله بعضا أو يتخلف عن شي‏ء مما يراه حقا و بالجملة لا تخلف و لا اختلاف في أعماله.

و توصيف هذا الرجل المفروض الذي يأمر بالعدل بكونه على صراط مستقيم يفيد أولا أن أمره بالعدل ليس من أمر الناس بالبر و نسيان نفسه بل هو مستقيم في أحواله و أعماله يأتي بالعدل كما يأمر به.

و ثانيا: أن أمره بالعدل ليس ببدع منه من غير أصل فيه يبتني عليه بل هو في نفسه على مستقيم الصراط و لازمه أن يحب لغيره ذلك فيأمرهم أن يلتزموا وسط الطريق و يجتنبوا حاشيتي الإفراط و التفريط.

و أما السؤال أعني ما في قوله: ﴿هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَ مَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ إلخ، فهو سؤال لا جواب له إلا النفي لا شك فيه و به يثبت أن ما يعبدونه من دون الله من الأصنام و الأوثان و هو مسلوب القدرة لا يستطيع أن يهتدي من نفسه و لا أن يهدي غيره لا يساوي الله تعالى و هو على صراط مستقيم في نفسه هاد لغيره بإرسال الرسل و تشريع الشرائع.

و منه يظهر أن هذا المثل المضروب في الآية في معنى قوله تعالى: ﴿أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى اَلْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لاَ يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى‏َ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ : يونس: ٣٥ فالله سبحانه على صراط مستقيم في صفاته و أفعاله، و من استقامة صراطه أن يجعل لما خلقه من الأشياء غايات تتوجه إليها فلا يكون الخلق باطلا، كما قال: ﴿وَ مَا خَلَقْنَا اَلسَّمَاءَ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً و أن يهدي كلا إلى غايته التي تخصه كما خلقها و جعل لها غاية كما قال: ﴿اَلَّذِي أَعْطى‏َ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى‏َ: طه: ٥٠ فيهدي الإنسان إلى سبيل قاصد كما قال‏﴿ وَ عَلَى اَللَّهِ قَصْدُ اَلسَّبِيلِ: النحل: ٩، و قال

 

 

 

﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ اَلسَّبِيلَ: الدهر: ٣.

و هذا أصل الحجة على النبوة و التشريع، و قد مر تمامه في أبحاث النبوة في الجزء الثاني و في قصص نوح في الجزء العاشر من الكتاب.

فقد تحصل أن الغرض من المثل المضروب في الآية إقامة حجة على التوحيد مع إشارة إلى النبوة و التشريع.

و قيل: إنه مثل مضروب فيمن يؤمل منه الخير و من لا يؤمل منه، و أصل الخير كله من الله تعالى فكيف يستوي بينه و بين شي‏ء سواه في العبادة.؟ و فيه أن المورد أخص من ذلك فهو مثل مضروب فيمن هو على خير في نفسه و هو يأمر بالعدل و هو شأنه تعالى دون غيره على أنهم لا يساوون بينه و بين غيره في العبادة بل يتركونه و يعبدون غيره.

و قيل: إنه مثل مضروب في المؤمن و الكافر فالأبكم هو الكافر، و الذي يأمر بالعدل هو المؤمن، و فيه أن صحة انطباق الآية على المؤمن و الكافر بل على كل من يأمر بالعدل و من يسكت عنه و جريها فيهما أمر، و مدلولها من جهة وقوعها في سياق تعداد النعم و الاحتجاج على التوحيد و ما يلحق به من الأصول أمر آخر، و الذي تفيده بالنظر إلى هذه الجهة أن مورد المثل هو الله سبحانه و ما يعبدون من دونه لا غير.

قوله تعالى: ﴿وَ لِلَّهِ غَيْبُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مَا أَمْرُ اَلسَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ اَلْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اَللَّهَ عَلى‏َ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ الغيب يقابل الشهادة في إطلاقات القرآن الكريم و قد تكرر فيه: ﴿عَالِمُ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهَادَةِ و قد تقدم مرارا أنهما أمران إضافيان فالأمر الواحد غيب و غائب بالنسبة إلى شي‏ء و شهادة و مشهود بالنسبة إلى آخر.

و إذ كان من الأشياء ما هو ذو وجوه يظهر ببعض منها لغيره و يخفى ببعض أعني أنه متضمن غيبا و شهادة كانت إضافة الغيب و الشهادة إلى الشي‏ء تارة بمعنى اللام فيكون مثلا غيب السماوات و الأرض ما هو غائب عنهما خارج من حدودهما، و يلحق بهذا الباب الإضافة لنوع من الاختصاص، كما في قوله: ﴿فَلاَ يُظْهِرُ عَلى‏َ غَيْبِهِ أَحَداً: الجن: ٢٦.

و تارة بمعنى «من» أو ما يقرب منه فيكون المراد بغيب السماوات و الأرض

 

 

 

الغيب الذي يشتملان عليه نوعا من الاشتمال قبال ما يشتملان عليه من الشهادة و بعبارة أخرى ما يغيب عن الأفهام من أمرهما قبال ما يظهر منهما.

و الساعة هي من غيب السماوات و الأرض بهذا المعنى الثاني:

أما أولا: فلأنه سبحانه يعدها في كلامه من الغيب، و ليست بخارج من أمر السماوات و الأرض فهو من الغيب بهذا المعنى.

و أما ثانيا: فلأن ما يصفها به من الأوصاف إنما يلائم هذا المعنى الثاني ككونها يوما ينبئهم الله بما كانوا فيه يختلفون و يوم تبلى السرائر و يوما يخاطب فيه الإنسان بمثل قوله: ﴿لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ اَلْيَوْمَ حَدِيدٌ و يوما يخاطبون ربهم بقولهم: ﴿رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَ سَمِعْنَا فَارْجِعْنَا و بالجملة هي يوم يظهر فيه ما استتر من الحقائق في هذه النشأة ظهور عيان، و من المعلوم أن هذه الحقائق غير خارجة من السماوات و الأرض بل هي معهما ثابتة.

كيف؟ و هو تعالى يقول: ﴿وَ لِلَّهِ غَيْبُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ فيثبته ملكا لنفسه و ليس ملكه من الملك الاعتباري يتعلق بكل أمر موهوم أو جزافي بل ملك حقيقي يتعلق بأمر ثابت فلها نوع من الثبوت و إن فرض جهلنا بحقيقة ثبوتها.

و الشواهد القرآنية على هذا الذي ذكرناه كثيرة. و قد عد سبحانه حياة هذه النشأة متاع الغرور و لعبا و لهوا، و كرر أن أكثر الناس لا يعلمون ما هو يوم القيامة، و ذكر أن الدار الآخرة هي الحيوان، و أنهم سيعلمون أن الله هو الحق المبين و سيبدو لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون، إلى غير ذلك مما يشتمل عليه الآيات على اختلاف ألسنتها.

و بالجملة الساعة من غيب السماوات و الأرض، و الآية أعني قوله: ﴿وَ لِلَّهِ غَيْبُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ تقرر ملكه تعالى لنفس هذا الغيب لا لعلمه فلم يقل: و لله علم غيب السماوات و الأرض، و سياق الآية يعطي أن الجملة أعني قوله: ﴿وَ لِلَّهِ غَيْبُ إلخ، توطئة و تمهيد لقوله: ﴿مَا أَمْرُ اَلسَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ اَلْبَصَرِ إلخ، فالجملة مسوقة للاحتجاج.

و على هذا يعود معنى الآية إلى أن الله سبحانه يملك غيب السماوات و الأرض ملكا له أن يتصرف فيه كيف يشاء كما يملك شهادتهما و كيف لا؟ و غيب الشي‏ء لا يفارق

 

 

 

 شهادته و هو موجود ثابت معه و له الخلق و الأمر، و الساعة الموعودة ليست بأمر محال حتى لا يتعلق بها قدرة بل هي من غيب السماوات و الأرض و حقيقتها المستورة عن الأفهام اليوم فهي مما استقر عليه ملكه تعالى، و له أن يتصرف فيه بالإخفاء يوما و بالإظهار آخر.

و ليست بصعبة عليه تعالى فإنما أمرها كلمح البصر أو أقرب من ذلك لأن الله على كل شي‏ء قدير.

و من هنا يظهر أن قوله: ﴿وَ مَا أَمْرُ اَلسَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ اَلْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اَللَّهَ عَلى‏َ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ مسوق لا لإثبات أصل الساعة أو إمكانها بل لنفي صعوبتها و المشقة في إقامتها و هوان أمرها عنده سبحانه.

فقوله: ﴿وَ مَا أَمْرُ اَلسَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ اَلْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ أي بالنسبة إليه و إلا فقد استعظم سبحانه أمرها بما يهون عنده كل أمر خطير و وصفها بأوصاف لا يعادلها فيها غيرها، قال تعالى: ﴿ثَقُلَتْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ: الأعراف: ١٨٧.

و تشبيه أمرها بلمح البصر إنما هو من جهة أن اللمحة و هي مد البصر و إرساله للرؤية أخف الأعمال عند الإنسان و أقصرها زمانا فهو تشبيه بحسب فهم السامع و لذلك عقبه بقوله: ﴿أَوْ هُوَ أَقْرَبُ فإن مثل هذا السياق يفهم منه الإضراب فكأنه تعالى يقول: «إن أمرها في خفة المؤنة و الهوان و السهولة بالنسبة إلينا يشبه لمح أحدكم ببصره، و إنما أشبهه به رعاية لحالكم و تقريبا إلى فهمكم و إلا فالأمر أقرب من ذلك، كما قال فيها: ﴿وَ يَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ: الأنعام: ٧٣، فأمر الساعة بالنسبة إلى قدرته و مشيته تعالى كأمر أيسر الخلق و أهونه.

و علل تعالى ذلك بقوله: ﴿إِنَّ اَللَّهَ عَلى‏َ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ فقدرته على كل شي‏ء توجب أن تكون الأشياء بالنسبة إليه سواء.

و إياك أن تتوهم أن عموم القدرة لا يستوجب ارتفاع الاختلاف من بين الأشياء من حيث النسبة، فقلة الأسباب المتوسطة بين الفاعل و فعله و الشرائط و الموانع و كثرتها لهما تأثير في ذلك لا محالة، فالإنسان مثلا قادر على التنفس و حمل ما يطيقه من الأثقال

 

 

 

 و ليسا سواء بالنسبة إليه و على هذا القياس.

فإن في ذلك غفلة عن معنى عموم القدرة، و توضيحه أن القدرة التي فينا قدرة مقيدة، فإن قدرة الإنسان مثلا على أكل الغذاء و هي أن له نسبة الفاعلية إليه و هي في تأثيرها مشروطة بتحقق غذاء في الخارج و كونه بين يديه و ممكن التناول و عدم ما يمنع من ذلك من إنسان أو غيره، و كون أدوات الفعل كاليد و الفم و غيرهما غير مصابة بآفة إلى غير ذلك، و الذي يملكه الإنسان هو الإرادة و الزائد على ذلك وسائط و شرائط و موانع خارجة عن قدرته بالحقيقة و قيد يقيدها، و إذا أراد الإنسان أن يعمل قدرته فيأكل كان عليه أن يهيئ تلك الأمور التي تتقيد بها قدرته في التأثير كتحصيل الغذاء و وضعه قريبا منه و رفع الموانع و إعمال الأدوات البدنية مثلا.

و من المعلوم أن قلة هذه الأمور و كثرتها و قربها و بعدها و ما أشبه ذلك من صفاتها توجب اختلاف الفعل في السهولة و عدمها و ضعف القدرة و قوتها فتقيد القدرة هو الموجب للاختلاف.

و أما قدرته تعالى فإنها عين ذاته التي يجب وجودها و يمتنع عدمها، و إذا كان كذلك فلو تقيدت بقيد من وجود سبب أو شرط أو عدم مانع لانعدمت بانعدام قيدها و هو محال فقدرته تعالى مطلقة غير محدودة بحد و لا مقيدة بقيد، عامة تتعلق بكل شي‏ء على حد سواء من غير أن يكون شي‏ء بالنسبة إليه أصعب من شي‏ء أو أسهل، و أقرب إليه من شي‏ء أو أبعد، و إنما الاختلاف بين الأشياء أنفسها بقياس بعضها إلى بعض.

و بتقريب آخر ما من شي‏ء إلا و هو يفتقر إليه سبحانه في وجوده، فإذا فرضنا كل أمر موجود بحيث لا يشذ عنها شاذ في جانب و نسبناها إليه تعالى كان الجميع متعلقا لقدرته، و ليس هناك أمر ثالث يكون قيدا لقدرته من سبب أو شرط أو عدم مانع و إلا لكان شريكا في التأثير تعالى عن ذلك.

و أما الذي بين الأشياء أنفسها من الأسباب المتوسطة و الشرائط و الموانع فإنها توجب تقيد بعضها ببعض لا تقيد القدرة العامة الإلهية التي تتعلق بها ثم تتعلق القدرة بالمقيد منها دون المطلق بمعنى أن متعلق القدرة هو زيد الذي أبوه فلان و أمه فلانة و هو في زمان كذا و مكان كذا و هكذا فوجود زيد بجميع روابطه وجود جميع العالم

 

 

 

[1]  الترديد مبني على المذهبين في حذف الموصول كما سيأتي.

[2]  و إنما نقلوا حكم الاسترقاق مما بين الفرد و الفرد إلى ما بين المجتمع و المجتمع و سموه بغير اسمه.




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 22215427

  • التاريخ : 3/02/2025 - 20:06

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net