الميزان في تفسير القرآن
الجزء الثاني عشر
تأليف : العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي قدس سرّه
تمتاز هذه الطبعه عن غیرها بالتحقیق و التصحیح الکامل
واضافات و تغییرات هامه من قبل المولف
(١٤) (سورة إبراهيم مكية و هي اثنتان و خمسون آية) (٥٢)
[سورة إبراهيم (١٤): الآیات ١ الی ٥]
﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ ﴾﴿الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ اَلنَّاسَ مِنَ اَلظُّلُمَاتِ إِلَى اَلنُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِرَاطِ اَلْعَزِيزِ اَلْحَمِيدِ ١اَللَّهِ اَلَّذِ ي لَهُ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ وَ وَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ٢اَلَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ اَلْحَيَاةَ اَلدُّنْيَا عَلَى اَلْآخِرَةِ وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ وَ يَبْغُونَهَا عِوَجاً أُولَئِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ ٣وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اَللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ ٤وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ اَلظُّلُمَاتِ إِلَى اَلنُّورِ وَ ذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اَللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ٥﴾
(بيان)
السورة الكريمة تصف القرآن النازل على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من حيث إنه آية رسالته يخرج به الناس من الظلمات إلى النور و يهديهم إلى صراط الله سبحانه الذي هو عزيز حميد أي غالب غير مغلوب و غني غير محتاج إلى الناس و جميل في فعله منعم عليهم، و إذا كان المنعم غالبا غنيا حميد الأفعال كان على المنعم عليهم أن يجيبوا دعوته و يلبوا نداءه حتى يسعدوا بما أفاض عليهم من النعم، و أن يخافوا سخطه و شديد عذابه فإنه قوي غير محتاج إلى أحد، له أن يستغني عنهم فيذهب بهم و يأتي بآخرين كما فعل بالذين كفروا بنعمته من الأمم الماضين فإن آيات السماوات و الأرض ناطقة بأن النعمة كلها له و هو رب العزة و ولي الحمد لا رب سواه.
و بهذا تختتم السورة إذ يقول عز من قائل: ﴿هَذَا بَلاَغٌ لِلنَّاسِ وَ لِيُنْذَرُوا بِهِ وَ لِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَ لِيَذَّكَّرَ أُولُوا اَلْأَلْبَابِ﴾.
و لعل ما ذكرنا هو مراد من قال: إن السورة مفتتحة ببيان الغرض من الرسالة و الكتاب يشير إلى قوله تعالى: ﴿لِتُخْرِجَ اَلنَّاسَ مِنَ اَلظُّلُمَاتِ إِلَى اَلنُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ﴾.
و السورة مكية على ما يدل عليه سياق آياتها، و نسب إلى ابن عباس و الحسن و قتادة :أنها مكية إلا آيتين منها نزلتا في قتلى بدر من المشركين: ﴿أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اَللَّهِ كُفْراً وَ أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ اَلْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَ بِئْسَ اَلْقَرَارُ﴾ و سيأتي أن الآيتين غير صريحتين و لا ظاهرتين في ذلك.
قوله تعالى: ﴿الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ اَلنَّاسَ مِنَ اَلظُّلُمَاتِ إِلَى اَلنُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ﴾ أي هذا كتاب أنزلناه إليك فهو خبر لمبتدإ محذوف على ما يعطيه السياق و قيل غير ذلك.
و قوله: ﴿لِتُخْرِجَ اَلنَّاسَ مِنَ اَلظُّلُمَاتِ إِلَى اَلنُّورِ﴾ ظاهر السياق عموم الناس لا
خصوص قومه (ص) و لا خصوص المؤمنين منهم إذ لا دليل على التقييد من جهة اللفظ، و كلامه تعالى صريح في عموم الرسالة كقوله: ﴿لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً﴾: الفرقان: ١ و قوله: ﴿لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ﴾: الأنعام - ١٩، و قوله: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اَللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً﴾: الأعراف: ١٥٨ و الآيات الصريحة في دعوة اليهود و عامة أهل الكتاب، و عمله (ص) في دعوتهم و قبول إيمان من آمن منهم كعبد الله بن سلام و سلمان و بلال و صهيب و غيرهم تؤيد ذلك.
على أن آخر السورة: ﴿هَذَا بَلاَغٌ لِلنَّاسِ وَ لِيُنْذَرُوا بِهِ﴾ الآية، و قد قوبل به أولها يؤيد أن المراد بالناس أعم من المؤمنين الذين خرجوا من الظلمات إلى النور بالفعل.
و قد نسب الإخراج من الظلمات إلى النور إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لكونه أحد الأسباب الظاهرية لذلك و إليه ينتهي إيمان المؤمنين بدعوته بلا واسطة أو بواسطة و لا، ينافيه قوله: ﴿إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لَكِنَّ اَللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾: القصص: ٥٦ فإن الآية إنما تنفي أصالته (ص) في الهداية و استقلاله فيها من غير أن تنفي عنه مطلق الهداية حتى ما يكون على نحو الوساطة و بإذن من الله، و الدليل عليه قوله تعالى: ﴿وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلىَ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾: الشورى: ٥٢، و لذلك قيد سبحانه قوله ﴿لِتُخْرِجَ﴾ بقوله ﴿بِإِذْنِ رَبِّهِمْ﴾.
و المراد بالظلمات و النور و الضلال و الهدى و قد تكرر في كلامه تعالى اعتبار الهدى نورا و عد الضلال ظلمة و جمع الظلمات دون النور لأن الهدى من الحق و الحق واحد لا تغاير بين أجزائه و مصاديقه و لا كثرة بخلاف الضلال فإنه من اتباع الهوى و الأهواء مختلفة متغاير بعضها مع بعض لا وحدة بينها و لا اتحاد لأبعاضها و مصاديقها قال تعالى: ﴿وَ أَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لاَ تَتَّبِعُوا اَلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾: الأنعام: ١٥٣.
و اللام في قوله: ﴿لِتُخْرِجَ اَلنَّاسَ﴾ إلخ، لام الغرض بناء على عموم الناس كما هو ظاهر الآية، و ليس بلام المعاقبة إذ لو كان كذلك لكان الناس كلهم مؤمنين، و المعلوم خلافه.
و أما ما اعترض عليه بعضهم أن التربية الإلهية بإخراج الناس من الظلمات إلى النور و إيصالهم إلى السعادة و الكمال مشروطة بالتهيؤ و الاستعداد مع كون الفيض عاما فالمقدار الممكن من هذه العاقبة على تقدير عمومه هو هذا المقدار.
ففيه أنه اعتراف بأن كون اللام للعاقبة خلاف ظاهر الآية، فإن الذي ذكره لا يتم إلا بتقييد ﴿اَلنَّاسَ﴾ بالمستعدين، لكن الذي يجب أن يعلم أن هذا الغرض غرض تشريعي معناه أن للحكم غاية مقصودة و هي المصلحة التي يستعقبها، فإن الله سبحانه يدعو الناس ليغفر لهم و يهديهم إلى الإيمان و العمل الصالح ليسعدهم بذلك و يدخلهم الجنة، و يرسل الرسل و ينزل عليهم الكتاب ليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم، و يريد بما يوجهه إليهم من الأمر و النهي أن يطهرهم و يذهب عنهم رجز الشيطان، و الآيات الدالة على ذلك كثيرة لا موجب لإيرادها و كذا الروايات و لعلها تزهو الألوف.
و قد قال سبحانه: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾: الزخرف: - ٣ و قال: ﴿وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اَللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾: الآية: - ٤ من السورة، فبين أن ما نعقله من كتابه و يظهر لنا من بيان رسوله حجة لا مناص عنه، و نحن لا نعقل من قوله مثلا: ﴿يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ﴾: إبراهيم: - ١٠، إلا أن المغفرة غرض الدعوة كما لا نعقل من قول السيد لعبده أو أي متبوع لتابعه:
ايتني بماء لأشربه أو بغذاء لآكله أو اكس فلانا ليستر به عورته إلا أن الشرب و الأكل و ستر العورة أغراض لأوامرها، فلله سبحانه فيما ينزله من الأحكام و الشرائع أغراض و غايات مقصودة.
نعم بين سبحانه أن ساحته منزهة عن الفقر و الحاجة مبرأة عن النقص و الشين إذ قال: ﴿إِنَّ اَللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ اَلْعَالَمِينَ﴾: العنكبوت: ٦، و قال: ﴿وَ رَبُّكَ اَلْغَنِيُّ ذُو اَلرَّحْمَةِ﴾: الأنعام: ١٣٣ و قال: ﴿يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ أَنْتُمُ اَلْفُقَرَاءُ إِلَى اَللَّهِ وَ اَللَّهُ هُوَ اَلْغَنِيُّ﴾: فاطر: ١٥ فأفاد أنه في غنى عن كل شيء لا ينتفع بشيء من هذه الأغراض و ليست أفعاله تعالى بالعبث و الجزاف حتى تخلو عن الغرض، كيف؟ و قد وصف نفسه بالحكمة و الحكيم لا يعبث و لا يجازف، و نص على انتفاء العبث من فعله: ﴿أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً
﴾: المؤمنون: ١١٥ و الأمر و النهي اللذان يتم بهما الكمال في العالم الإنساني يعودان بالآخرة إلى ما يتم به الخلقة.
فلله سبحانه في خلقه و أمره أغراض، و إن كان لا يستكمل بأغراض أفعاله كما نستكمل نحن بأغراض أفعالنا لكنه سبحانه لا يتأثر عن أغراضه و بعبارة أخرى الحكم و المصالح لا تؤثر فيه تعالى كما أن مصلحة الفعل تؤثر فينا فيبعثنا تعقلها نحو الفعل و نرجح الفعل على الترك، فإنه سبحانه هو القاهر غير المقهور و الغالب غير المغلوب، يملك كل شيء و لا يملكه شيء، و يحكم على كل شيء و لا يحكم عليه شيء، و لم يكن له شريك في الملك و لا ولي من الذل، فلا يكون تعالى محكوما بعقل بل هو الذي يهدي العقل إلى ما يعقله، و لا تضطره مصلحة إلى فعل و لا مفسدة إلى ترك بل هو الهادي لهما إلى ما توجبانه.
فالغرض و المصلحة منتزعة من مقام فعله بمعنى أن فعله يتوقف على المصلحة لكنها لا تحكم في ذاته تعالى و لا تضطره إلى الفعل، فكما أنه تعالى إذا خلق شيئا و قال له: كن فكان كزيد مثلا انتزع العقل من العين الخارجية نفسها أنها إيجاد من الله تعالى و وجود لزيد و حكم بأن وجوده يتوقف على إيجاده، كذلك ينتزع العقل من فعله تعالى بالنظر إلى ما أشرنا إليه من صفاته العليا أنه فعله و أنه ذو مصلحة مقصودة ثم يحكم بأن تحقق الفعل يتوقف على كونه ذا مصلحة.
فهذا هو الذي يعطيه التدبر في كلامه تعالى في كون أفعاله تعالى مشتملة على الحكم و المصالح متوقفة على الأغراض و المتحصل من ذلك أن له تعالى في أفعاله أغراضا لكنها راجعة إلى خلقه دونه.
و ملخصه أن غرضه في فعله يفارق أغراضنا في أفعالنا من وجهين: أحدهما أنه تعالى لا يستكمل بأغراض أفعاله و غاياتها بخلافنا معاشر ذوي الشعور و الإرادة من الإنسان و سائر الحيوان، و ثانيهما أن المصلحة و المفسدة لا تحكمان فيه تعالى بخلاف غيره.
و أما النزاع المعروف بين الأشاعرة و المعتزلة في أن أفعال الله معللة بالأغراض أم
لا؟ بمعنى أنه تعالى هل هو محكوم بالمصلحة الواقعية في فعله بحيث إن المصلحة ترجح له الفعل على الترك و لولاها لم يكن له ليفعل؟ أو أنه لا غاية له في فعله و إنما يفعل بإرادة جزافية من غير غرض؟.
فذلك مما لا يهدي إلى شيء من طرفيه النظر المستوفى و الحق خلاف القولين جميعا، و هو أمر بين الأمرين كما أشرنا إليه و لعلنا نوفق فيما سيأتي من الكتاب لعقد بحث مستقل في المسألة نستوفي فيه النظر العقلي و النقلي فيها إن شاء الله تعالى.
و في قوله: ﴿بِإِذْنِ رَبِّهِمْ﴾ التفات من التكلم مع الغير إلى الغيبة و النكتة فيه التخلص إلى ذكر صفة الربوبية و تسجيل أنه تعالى هو رب هؤلاء المشركين الذين اتخذوا له أندادا فإن وجه الكلام في الحقيقة إليهم و إن كان المخاطب به هو النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) دونهم و لتكون هذه التسمية و هي في مفتتح الكلام مبدأ لما سيذكر في السورة من الحجة على توحيد الربوبية.
قوله تعالى: ﴿إِلىَ صِرَاطِ اَلْعَزِيزِ اَلْحَمِيدِ اَللَّهِ اَلَّذِي لَهُ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ﴾ العزة تقابل الذلة، قال الراغب: العزة حالة مانعة للإنسان من أن يغلب من قولهم: أرض عزاز أي صلبة، قال تعالى: ﴿أَ يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ اَلْعِزَّةَ فَإِنَّ اَلْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً﴾ و تعزز اللحم اشتد و عز كأنه حصل في عزاز يصعب الوصول إليه، انتهى موضع الحاجة.
فعزة العزيز هي كونه بحيث يصعب نيله و الوصول إليه و منه عزيز القوم و هو الذي يقهر و لا يقهر لأنه ذو مقام لا يصل إليه من قصده دون أن يمنع قبل الوصول إليه و يقهر، و منه العزيز لما قل وجوده لصعوبة نيله، و منه العزيز بمعنى الشاق لأن الذي يشق على الإنسان يصعب حصوله، قال تعالى: ﴿عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ﴾: التوبة: ١٢٨ و منه قوله: ﴿وَ عَزَّنِي فِي اَلْخِطَابِ﴾: (ص): ٢٣ أي غلبني على ما فسر به.
و الله سبحانه عزيز لأنه الذات الذي لا يقهره شيء من جهة و هو يقهر كل شيء من كل جهة و لذلك انحصرت العزة فيه تعالى فلا توجد عند غيره إلا باكتساب منه
و بإذنه قال تعالى: ﴿أَ يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ اَلْعِزَّةَ فَإِنَّ اَلْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً﴾: النساء: ١٣٩ و قال ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ اَلْعِزَّةَ فَلِلَّهِ اَلْعِزَّةُ جَمِيعاً﴾: فاطر: ١٠.
و الحميد فعيل بمعنى المفعول من الحمد و هو الثناء على الجميل الاختياري، و إذ كان كل جمال ينتهي إليه سبحانه كان جميع الحمد له كما قال: ﴿اَلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ﴾: سورة الحمد: ٢ و من غريب القول ما عن الإمام الرازي على ما سننقله: أن الحميد معناه العالم الغني.
و قوله: ﴿إِلىَ صِرَاطِ اَلْعَزِيزِ اَلْحَمِيدِ﴾ بدل من قوله: ﴿إِلَى اَلنُّورِ﴾ يبين به ما يوصل إليه الكتاب الذي أنزله على نبيه ص بيانا بعد بيان فنبه أولا بأنه نور يميز الحق من الباطل و الخير من الشر و السعادة من الشقاوة، و ثانيا بأنه طريق واضح يجمع سالكيه في متنه و ينتهي بهم جميعا إلى الله العزيز الحميد.
و الوجه في ذكر الصفتين الكريمتين: ﴿اَلْعَزِيزِ اَلْحَمِيدِ﴾ أنهما مبدءان لما سيورد في السورة من الكلام الموجه إليهم فإن عمدة الكلام في السورة هي تذكيرهم أن الله أنعم عليهم بربوبيته كل نعمة عظيمة، ثم عزم عليهم من طريق رسله أن يشكروه و لا يكفروه و وعد رسله أنهم إن آمنوا أدخلهم الجنة، و إن كفروا انتقم منهم و أوردهم مورد الشقاء و العذاب، فليخافوا ربهم و ليحذروا مخالفة أمره و كفران نعمته لأن له كل العزة لا نمنع عن حلول سخطه بهم و نزول عذابه عليهم شيء، حميد لا يذم في إثابته المؤمنين، و لا في تعذيب الكافرين، كما لا يذم فيما بسط عليهم من نعمه التي لا تحصى.
فجل الكلام في هذه السورة فيما يقتضيه الصفات الثلاث: توحده تعالى بالربوبية و عزته و كونه حميدا في أفعاله فليخف من عزته المطلقة، و ليشكر و ليوثق بما وعد و ليتذكر من آيات ربوبيته.
و في روح المعاني عن أبي حيان: النكتة في ذلك أنه لما ذكر قبل إنزاله تعالى لهذا الكتاب و إخراج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم، ناسب ذكر هاتين الصفتين صفة العزة المتضمنة للقدرة و الغلبة لإنزاله مثل هذا الكتاب المعجز الذي لا
يقدر عليه سواه، و صفة الحمد لإنعامه بأعظم النعم لإخراج الناس من الظلمات إلى النور. قال: و وجه التقديم و التأخير على هذا ظاهر انتهى.
و هو أجنبي عن سياق آيات السورة البتة و لعله مأخوذ من قوله تعالى في وصف القرآن: ﴿وَ إِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لاَ يَأْتِيهِ اَلْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾: حم السجدة: ٤٢ لكن المقام غير المقام.
و عن الإمام في تفسيره: إنما قدم ذكر العزيز على ذكر الحميد لأن الصحيح أن أول العلم بالله تعالى العلم بكونه قادرا ثم بعد ذلك العلم بكونه عالما ثم بعد ذلك العلم بكونه غنيا عن الحاجات و العزيز هو القادر، و الحميد هو العالم الغني فلما كان العلم بكونه قادرا متقدما على العلم بكونه عالما بالكل غنيا عنه لا جرم قدم ذكر العزيز على ذكر الحميد. انتهى، و هو مجازفة عجيبة.
و قريب منه في المجازفة قول بعضهم: قدم العزيز على الحميد اعتناء بأمر الصفات السلبية كما يؤذن به قولهم: التخلية أولى من التحلية فإن العزة كما تقدم من الصفات السلبية بخلاف الحمد.
و ربما قيل في وجه تخصيص الوصفين بالذكر أنه للترغيب في سلوك هذا الصراط لأنه صراط العزيز الحميد فيعز سالكه و يحمد سابله، انتهى. و هو وجه الأحرى به أن يجعل من الفوائد المتفرعة دون السبب الموجب، و الوجه ما قدمناه.
و أما قوله ﴿اَللَّهِ اَلَّذِي لَهُ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ﴾ فبيان للعزيز الحميد، و المراد بما في السماوات و الأرض كل ما في الكون فيشمل نفس السماوات و الأرض كما يشمل ما فيهما، فهو تعالى يملك كل شيء من كل جهة بحقيقة معنى الملك.
و فيه إشارة إلى الحجة في كونه تعالى عزيزا حميدا، فإنه تعالى و إن كان هو الذي يحق الحق بكلماته و هو الذي ينجح كل حجة في دلالتها، لكنه جاري عباده في كلامه على ما فطرهم عليه، و ذلك أنه تعالى لما ملك كل خلق و أمر بحقيقة معنى الملك فهو المالك لكل قهر و غلبة فلا قهر إلا منه و لا غلبة إلا له فهو تعالى عزيز و له أن ـ
يتصرف في ما يشاء بما يشاء و لا يكون تصرفه إلا محمودا غير مذموم لأن التصرف إنما يكون مذموما إذا كان المتصرف لا يملكه إما عقلا أو شرعا أو عرفا، و أي تصرف نسبه إليه تعالى عقل أو شرع أو عرف فإنه يملكه، فهو تعالى حميد محمود الأفعال.
قوله تعالى: ﴿وَ وَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾ بيان لما تقتضيه صفة العزة من القهر لمن يرد دعوته و يكفر بنعمته.
قوله تعالى ﴿اَلَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ اَلْحَيَاةَ اَلدُّنْيَا عَلَى اَلْآخِرَةِ وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ وَ يَبْغُونَهَا عِوَجاً﴾ إلخ، قال الراغب في المفردات: و قوله عز و جل: ﴿إِنِ اِسْتَحَبُّوا اَلْكُفْرَ عَلَى اَلْإِيمَانِ﴾ أي إن آثروه عليه، و حقيقة الاستحباب أن يتحرى الإنسان في الشيء أن يحبه، و اقتضى تعديته بعلى معنى الإيثار، و على هذا قوله تعالى: ﴿وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا اَلْعَمىَ عَلَى اَلْهُدىَ﴾، انتهى.
و معنى استحباب الدنيا على الآخرة اختيار الدنيا و ترك الآخرة رأسا، و يقابله اختيار الآخرة على الدنيا بمعنى أخذ الآخرة غاية للسعي و جعل الدنيا مقدمة لها يتوسل بها إليها، و أما اختيار الآخرة و ترك الدنيا من أصلها فإنه مضاف إلى عدم إمكانه بحقيقة معنى الكلمة يوجب اختلال أمر الآخرة، و ينجر إلى تركها بالآخرة، فالحياة الدنيا حياة منقطعة و الحياة الآخرة حياة دائمة يتوسل إلى سعادتها من طريق الدنيا بالاكتساب، فمن اختار الآخرة و أثبتها لزمه إثبات الدنيا لمكان مقدميتها، و من اختار الدنيا و جعلها غاية لزمه نفي الآخرة من أصلها لأنها لو ثبتت ثبتت غاية و إذ لم يجعل غاية انتفت، فليس بين يدي الإنسان إلا خصلتان: اختيار الآخرة على الدنيا بجعل الآخرة غاية و إثبات الدنيا معها للمقدمية، و اختيار الدنيا على الآخرة بجعل الدنيا غاية و نفي الآخرة من أصلها.
و إيضاح المقام أن الإنسان لا بغية له إلا سعادة حياته و حبه لها فطري، و قد أوضحنا ذلك في مواضع متفرقة فيما تقدم، و الذي يثبته كتاب الله من أمر الحياة أنها دائمة غير منقطعة بالموت فلا محالة تنقسم بالنظر إلى تخلل الموت إلى حياتين: الحياة الدنيا المؤجلة بالموت و الحياة الآخرة بعد الموت، و هي تتفرع في سعادتها و شقائها على
الحياة الدنيا و ما يكتسبه الإنسان في الدنيا من ناحية الأعمال الحيوية من حسنة أو سيئة، و لا مفر للإنسان من هذه الأعمال لما عنده من حب الحياة الفطري.
و هذه الأعمال أعني السنة التي يستن بها الإنسان في حياته الدنيا الكاسبة له التقوى أو الفجور و الحسنة أو السيئة هي التي تسمى في كتاب الله دينا و سبيلا، فلا مفر للإنسان من سنة حسنة أو سيئة و دين حق أو باطل.
و لما كان من سنة الله سبحانه الجارية أن يهدي كل نوع من الأنواع إلى سعادته و كماله و من كمال الإنسان و سعادته أن يعيش عيشة اجتماعية و يستن بسنة حيوية، شرع الله سبحانه له دينا مبنيا على فطرته التي فطر عليها و هو سبيل الله الذي يسلكه و دينه الذي يتدين به، فإن جرى على ما شرعته له الربوبية و هدته إليه الفطرة فقد سلك سبيل الله و ابتغاه مستقيما، و إن اتبع الهوى و صد نفسه عن سبيل الله و اشتغل بما يزينه له الشيطان فقد ابتغى سبيل الله عوجا منحرفا.
أما أنه يبتغي سبيل الله فإن الله هو الذي فطره على طلب السبيل و ابتغاء الصراط و لا يهدي البتة إلا إلى ما يرتضيه و هو سبيل نفسه، و أما أنه منحرف ذو عوج فلأنه لا يهدي إلى الحق و ما ذا بعد الحق إلا الضلال؟ و الآيات القرآنية الدالة على هذا الذي قدمناه متكاثرة لا حاجة إلى إيرادها.
إذا عرفت هذا لاح لك أن قوله في تفسير الكافرين: ﴿اَلَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ اَلْحَيَاةَ اَلدُّنْيَا عَلَى اَلْآخِرَةِ﴾ مفاده أنهم يتعلقون تمام التعلق بالحياة الدنيا و يعرضون عن الآخرة بنفيها، و هو الكفر بالمعاد المستلزم للكفر بالتوحيد و النبوة.
و قوله: ﴿وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ وَ يَبْغُونَهَا عِوَجاً﴾ مفاده أنهم يكفون أنفسهم عن الاستنان بسنة الله و التدين بدينه أو يصدون و يصرفون الناس عن الإيمان بالله و اليوم الآخر و التشرع بشريعته عنادا منهم للحق، و يطلبون سنة الله عوجا و منحرفة بالاستنان بغيرها من سنة اجتماعية أيا ما كانت ثم سجل عليهم الضلال بقوله سبحانه:
و يظهر بما تقدم فساد قول بعضهم إن المراد بقوله: ﴿يَبْغُونَهَا عِوَجاً﴾ يبغون لها عوجا أي يطلبون لها زيغا و اعوجاجا حتى يعيبوها به و يصدوا الناس عنها بسببه.
و قول بعضهم: المعنى يطلبون أن يروا فيها عوجا يكون قادحا فيقدحوا فيها به.
و قول بعضهم: المعنى يطلبون لأهلها أن يعوجوا و ينحرفوا بالرد فهو المراد بطلبهم الدين منحرفا، و انحرافه فساد ما عند المؤمنين من معارفه و فساد هذه الأقوال ظاهر.
قوله تعالى: ﴿وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ إلى آخر الآية.
اللسان هو اللغة، قال تعالى: ﴿بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾: الشعراء: ١٩٥.
و الضمير في ﴿قَوْمِهِ﴾ عائد إلى ﴿رَسُولٍ﴾ و في ﴿لَهُمْ﴾ إلى ﴿قَوْمِهِ﴾ و المحصل ما أرسلنا من رسول إلا بلسان قوم ذلك الرسول ليبين لقومه، و من الخطإ إرجاع ضمير قومه إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ليفيد أن الله سبحانه كان يوحي إلى جميع الرسل بالعربية لفساد المعنى بذلك لرجوع ضمير ﴿لَهُمْ﴾ إلى ﴿قَوْمِهِ﴾ فيفيد أن الله أنزل التوراة لموسى مثلا بالعربية ليبين للعرب كما في الكشاف.
و المراد بإرسال الرسول بلسان قومه إرساله بلسان القوم الذين كان يعيش فيهم و يخالطهم و يعاشرهم و ليس المراد به الإرسال بلسان القوم الذين هو منهم نسبا لأنه سبحانه يصرح بمهاجرة لوط (عليه السلام) من كلدة و هم سريانية اللسان إلى المؤتفكات، و هم عبرانيون و سماهم قومه و أرسله إليهم ثم أنجاه و أهله إلا امرأته و هي منهم و أهلكهم قال تعالى: ﴿فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَ قَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلىَ رَبِّي﴾: العنكبوت: ٢٦ و في مواضع من كلامه تعالى ﴿قَوْمِ لُوطٍ﴾.
و أما من أرسل إلى أزيد من أمة و هم أولوا العزم من الرسل فمن الدليل على أنهم كانوا يدعون أقواما من غير أهل لسانهم ما حكاه الله من دعوة إبراهيم (عليه السلام) عرب الحجاز إلى الحج، و دعوة موسى (عليه السلام) فرعون و قومه إلى الإيمان و عموم دعوة
النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و قد اشتمل القرآن على دعوة اليهود و النصارى و غيرهم و قبول إيمان من آمن منهم بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و كذا ما يستفاد من عموم دعوة نوح (عليه السلام). و على هذا فالمراد بقوله: ﴿وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ و الله أعلم أن الله لم يبن إرسال الرسل و الدعوة الدينية على أساس معجز خارق للعادة الجارية و لا فوض إلى رسله من الأمر شيئا بل أرسلهم باللسان العادي الذي كانوا يكالمون قومهم و يحاورونهم به ليبينوا لهم مقاصد الوحي فليس لهم إلا البيان، و أما ما وراء ذلك من الهداية و الإضلال فإلى الله سبحانه لا يشاركه في ذلك رسول و لا غيره.
فتعود الآية كالبيان و الإيضاح لقوله تعالى قبل: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ اَلنَّاسَ مِنَ اَلظُّلُمَاتِ إِلَى اَلنُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ﴾ و إن معنى إخراجك الناس من الظلمات إلى النور أن تبين لهم ما أنزل الله لا أزيد من ذلك فيكون في معنى قوله: ﴿وَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ اَلذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾: النحل: ٤٤.
و أما قوله: ﴿فَيُضِلُّ اَللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ فإشارة إلى ما أومأنا إليه أن أمر الهدى و الضلال إلى الله لا يتحقق شيء منهما إلا عن مشية منه تعالى غير أنه سبحانه أخبرنا أن هذه المشية منه ليست جزافية غير منتظمة بل لها نظم ثابت فمن اتبع الحق و لم يعانده هداه الله، و من جاحده و اتبع هواه أضله الله فهو إضلال مجازاة غير الإضلال الابتدائي المذموم.
و قد قدم سبحانه الإضلال على الهداية إذ قال: ﴿فَيُضِلُّ اَللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ لأن ذلك أحوج إلى البيان بالنظر إلى أن الكلام مبني على عزته المطلقة فكان من الواجب أن يبين أن ضلال من يضل عن السبيل كهدى من اهتدى إليها إنما هو بمشية منه تعالى و لم يغلب في إرادته و لم يزاحم في ملكه حتى لا يخيل إلى كل مغفل من الناس أن الله يصف نفسه بالعزة المطلقة و أنه غالب غير مغلوب و قاهر غير مقهور ثم يدعو الناس فلا يستجيبون دعوته و يأمرهم و ينهاهم فيعصون و لا يطيعون و هل هذا إلا غلبة منهم و قهر و هو مغلوب مقهور؟.
فكأنه تعالى أجاب عن ذلك بأن معنى دعوته تعالى أن يرسل رسولا بلسان
قومه فيبين لهم ما يسعدهم مما يشقيهم و أما ضلال من ضل من الناس كهدى من اهتدى منهم فبمشية من الله و إذنه، و حاشاه أن يقهر في سلطانه أو يتصرف في ملكه أحد بغير إذنه.
فضلال من ضل منهم دليل عزته فضلا أن يكون ناقضا لها كما أن هدى من اهتدى كذلك، و لذلك ذيل الكلام بقوله: ﴿وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ﴾ فهو سبحانه عزيز لا يغلبه و لا يضره ضلال من ضل منهم، و لا ينفعه هدى من اهتدى حكيم لا يشاء ما شاء جزافا و عبثا بل عن نظام متقن دائمي.
قوله تعالى: ﴿وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسىَ بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ اَلظُّلُمَاتِ إِلَى اَلنُّورِ﴾ إلى آخر الآية، إذ كان الكلام في السورة مبنيا على الإنذار و التذكير بعزة الله سبحانه ناسب أن يذكر إرسال موسى بالآيات لهداية قومه فإن قصة رسالته من أوضح مصاديق ظهور العزة الإلهية من بين الرسل و قد قال تعالى فيه: ﴿وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسىَ بِآيَاتِنَا وَ سُلْطَانٍ مُبِينٍ﴾: المؤمن: ٢٣ و قال حاكيا عنه (عليه السلام): ﴿وَ أَنْ لاَ تَعْلُوا عَلَى اَللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ﴾: الدخان: ١٩.
فوزان الآية أعني قوله: ﴿وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسىَ بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ اَلظُّلُمَاتِ إِلَى اَلنُّورِ﴾، من قوله: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ اَلنَّاسَ مِنَ اَلظُّلُمَاتِ إِلَى اَلنُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ﴾ وزان التنظير بداعي التأييد و تطييب النفس كما في قوله: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلىَ نُوحٍ وَ اَلنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ﴾: النساء، ١٦.
و أما ما ذكر بعضهم أن الآية شروع في تفصيل ما أجمل في قوله: ﴿وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ فبعيد كل البعد. و نظيره في البعد قول بعضهم:
إن المراد بالآيات التي أرسل بها موسى آيات التوراة دون المعجزات التي أرسل (عليه السلام) بها كالثعبان و اليد البيضاء و غيرهما.
على أن الله سبحانه و تعالى لم يعد في كلامه التوراة من آيات رسالة موسى و لا ذكر أنه أرسله بها قط و إنما ذكر أنه أنزلها عليه و آتاه إياها.
و لم يقيد قوله: ﴿أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ﴾ إلخ بالإذن كما قيد به قوله للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ﴿لِتُخْرِجَ اَلنَّاسَ﴾ إلخ لأن قوله هاهنا: ﴿أَخْرِجْ قَوْمَكَ﴾ أمر يتضمن معنى الإذن بخلاف قوله هناك: ﴿لِتُخْرِجَ اَلنَّاسَ﴾.
و قوله: ﴿وَ ذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اَللَّهِ﴾ لا شك أن المراد بها أيام خاصة، و نسبة أيام خاصة إلى الله سبحانه مع كون جميع الأيام و كل الأشياء له تعالى ليست إلا لظهور أمره تعالى فيها ظهورا لا يبقى معه لغيره ظهور، فهي الأزمنة و الظروف التي ظهرت أو سيظهر فيها أمره تعالى و آيات وحدانيته و سلطنته كيوم الموت الذي يظهر فيه سلطان الآخرة و تسقط فيه الأسباب الدنيوية عن التأثير، و يوم القيامة الذي لا يملك فيه نفس لنفس شيئا و الأمر يومئذ لله، و كالأيام التي أهلك الله فيها قوم نوح و عاد و ثمود فإن هذه و أمثالها أيام ظهر فيها الغلبة و القهر الإلهيان و أن العزة لله جميعا.
و يمكن أن يكون منها أيام ظهرت فيها النعم الإلهية ظهورا ليس فيه لغيره تعالى صنع كيوم خروج نوح (عليه السلام) و أصحابه من السفينة بسلام من الله و بركات و يوم إنجاء إبراهيم من النار و غيرهما فإنها أيضا كسوابقها لا نسبة لها في الحقيقة إلى غيره تعالى فهي أيام الله منسوبة إليه كما ينسب الأيام إلى الأمم و الأقوام و منه أيام العرب كيوم ذي قار و يوم فجار و يوم بغاث و غير ذلك.
و تخصيص بعضهم الأيام بنعماء الله سبحانه بالنظر إلى ما سيأتي من ذكر نعمه تعالى كتخصيص آخرين لها بنقماته تعالى خال عن الوجه بعد ما كان الكلام جاريا في السورة على ما تقتضيه عزته تعالى، و من مقتضى صفة عزته الإنعام على العباد و الأخذ الشديد إن كفروا بنعمته.
ثم تمم الكلام بقوله: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ أي كثير الصبر عند الضراء و كثير الشكر على النعماء.
(بحث روائي)
في الدر المنثور، أخرج أحمد عن أبي ذر قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): لم يبعث الله نبيا إلا بلسان قومه و فيه، أخرج النسائي و عبد الله بن أحمد في زوائد المسند و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه و البيهقي في شعب الإيمان عن أبي بن كعب عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في قوله: ﴿وَ ذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اَللَّهِ﴾ قال: بنعم الله و آلائه.
أقول: و هو بيان بعض المصاديق، و روى ما في معناه الطبرسي و العياشي عن الصادق (عليه السلام).
و في أمالي الشيخ، بإسناده عن عبد الله بن عباس و جابر بن عبد الله في حديث طويل عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): أيام الله نعماؤه و بلاؤه و هو مثلاته سبحانه.
و في تفسير القمي، قال :قال أيام الله ثلاثة: يوم القائم و يوم الموت و يوم القيامة.
أقول: المراد بيان أيامه تعالى العظيمة لا حصر مطلق أيامه.
و في المعاني، بإسناده عن مثنى الحناط عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) قالا:
أيام الله ثلاثة: يوم يقوم القائم و يوم الكرة و يوم القيامة.
أقول: و هي كسابقتها و اختلاف الروايات في تعداد المصاديق يؤيد ما قدمناه في بيان الآية.
[سورة إبراهيم (١٤): الآیات ٦ الی ١٨]
﴿وَ إِذْ قَالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اُذْكُرُوا نِعْمَةَ اَللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ اَلْعَذَابِ وَ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ﴾
﴿وَ يَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَ فِي ذَلِكُمْ بَلاَءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ٦وَ إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ٧وَ قَالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اَللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ٨أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَ عَادٍ وَ ثَمُودَ وَ اَلَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اَللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَ قَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَ إِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ٩قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَ فِي اَللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَ يُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ١٠قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَ لَكِنَّ اَللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اَللَّهِ وَ عَلَى اَللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُؤْمِنُونَ ١١وَ مَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اَللَّهِ وَ قَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَ لَنَصْبِرَنَّ عَلى مَا آذَيْتُمُونَا وَ عَلَى اَللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُتَوَكِّلُونَ ١٢وَ قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ اَلظَّالِمِينَ ١٣وَ لَنُسْكِنَنَّكُمُ اَلْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَ خَافَ وَعِيدِ ١٤﴾
﴿وَ اِسْتَفْتَحُوا وَ خَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ١٥مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَ يُسْقى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ ١٦يَتَجَرَّعُهُ وَ لاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَ يَأْتِيهِ اَلْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَ مَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَ مِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ ١٧مَثَلُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اِشْتَدَّتْ بِهِ اَلرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ اَلضَّلاَلُ اَلْبَعِيدُ ١٨﴾
(بيان)
الآيات تشتمل على ذكر نبذة من نعم الله و نقمه في أيامه و ظاهر سياق الآيات أنها من كلام موسى (عليه السلام) غير قوله تعالى: ﴿وَ إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ﴾ الآية فهي حكاية قول موسى يذكر فيها قومه ببعض أيام الله سبحانه على ما يقتضيه عزته المطلقة من إنزال النعم و النقم، و وضع كل في موضعه الذي يليق به حسب ما اقتضته حكمته البالغة.
قوله تعالى: ﴿وَ إِذْ قَالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اُذْكُرُوا نِعْمَةَ اَللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ إلى آخر الآية، السوم على ما ذكره الراغب بمعنى الذهاب في ابتغاء الشيء فهو لفظ لمعنى يتركب من الذهاب و الابتغاء فكأنه في الآية بمعنى إذاقة العذاب، و الاستحياء استبقاء الحياة.
و المعنى و اذكر أيها الرسول لزيادة التثبت في أن الله عزيز حميد إذ قال موسى لقومه و هم بنو إسرائيل: اذكروا نعمة الله عليكم يوم أنجاكم من آل فرعون و خاصة من القبط و الحال أنهم مستمرون على إذاقتكم سوء العذاب و يكثرون ذبح الذكور من أولادكم و على استبقاء حياة نسائكم للاسترقاق، و في ذلكم بلاء و محنة من ربكم عظيم.
قوله تعالى: ﴿وَ إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ قال في المجمع التأذن الاعلام يقال: آذن و تأذن و مثله أوعد و توعد انتهى.
و قوله: ﴿وَ إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ﴾ إلخ معطوف على قوله: ﴿وَ إِذْ قَالَ مُوسى لِقَوْمِهِ﴾ و موقع الآية التالية: ﴿وَ قَالَ مُوسى﴾ إلخ، من هذه الآية كموقع قوله: ﴿وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسى﴾ إلخ، من قوله: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ اَلنَّاسَ مِنَ اَلظُّلُمَاتِ إِلَى اَلنُّورِ﴾ إلخ، فافهم ذلك فهو الأنسب بسياق كلامه تعالى.
و ذكر بعضهم أنه داخل في مقول موسى و ليس بكلام مبتدإ و عليه فهو معطوف على قوله: ﴿نِعْمَةَ اَللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ و التقدير: اذكروا نعمة الله عليكم و اذكروا إذ تأذن ربكم إلخ، و فيه أنه لو كان كذلك لكان الأنسب أن يقال: اذكروا إذ أنجاكم فأنعم عليكم و إذ تأذن ربكم إلخ، لما فيه من رعاية حكم الترتيب.
و قيل: إنه معطوف على قوله: ﴿إِذْ أَنْجَاكُمْ﴾ و المعنى اذكروا نعمة الله عليكم إذ تأذن ربكم، فإن هذا التأذن نفسه نعمة لما فيه من الترغيب و الترهيب الباعثين إلى نيل خير الدنيا و الآخرة.
و فيه أن هذا التأذن ليس إلا نعمة للشاكرين منهم خاصة و أما غيرهم فهو نقمة عليهم و خسارة فنظمه في سلك ما تقدمه من غير تقييد أو استثناء ليس على ما ينبغي.
فالظاهر أنه كلام مبتدأ و قد بين تعالى هذه الحقيقة أعني كون الشكر الذي حقيقته استعمال النعمة بنحو يذكر إنعام المنعم و يظهر إحسانه و يئول في مورده تعالى إلى الإيمان به و التقوى موجبا لمزيد النعمة و الكفر لشديد العذاب، في مواضع من كلامه، و قد حكى عن نوح فيما ناجى ربه و دعا على قومه: ﴿فَقُلْتُ اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ اَلسَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَ بَنِينَ﴾ الخ: نوح: ١٢.
و من لطيف كرمه تعالى اللائح من الآية كما ذكره بعضهم اشتمالها على التصريح بالوعد و التعريض في الوعيد حيث قال: ﴿لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾ و قال ﴿إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ و لم يقل لأعذبنكم و ذلك من دأب الكرام في وعدهم و وعيدهم غالبا.
و الآية مطلقة لا دليل على اختصاص ما فيها من الوعد و الوعيد بالدنيا و لا بالآخرة، و تأثير الإيمان و الكفر و التقوى و الفسق في شئون الحياة الدنيا و الآخرة معا معلوم من القرآن.
و قد استدل بالآية على وجوب شكر المنعم، و الحق أن الآية لا تدل على أزيد من أن الكافر على خطر من كفره فإن الله سبحانه لم يصرح بفعلية العذاب على كل كفر إذ قال: ﴿وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ و لم يقل: لأعذبنكم.
قوله تعالى: ﴿وَ قَالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اَللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ لما أمر تعالى بشكر نعمه بذكر ما تأذن به من الزيادة على الشكر و العذاب على الكفر على ما تقتضيه العزة المطلقة ذكر في تأييده من كلام موسى (عليه السلام) ما يجري مجرى التنظير فقال: ﴿وَ قَالَ مُوسى﴾ و الكلام جار على هذا النمط إلى تمام عشر آيات.
و أما أن الله غني و إن كفر من في الأرض جميعا فإنه غني بالذات عن كل شيء فلا ينتفع بشكر و لا يتضرر بكفر، و إنما يعود النفع و الضرر إلى الإنسان فيما أتى به، و أما أنه حميد فلأن الحمد هو إظهار الحامد بلسانه ما لفعل المحمود من الجمال و الحسن و فعله تعالى حسن جميل من كل جهة فهو جميل ظاهر الجمال يمتنع خفاؤه و إخفاؤه، فهو تعالى محمود سواء حمده حامد باللسان أو لم يحمد.
على أن كل شيء يحمده بتمام وجوده حتى الكافر بنعمته كما قال تعالى: ﴿وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾: الإسراء: ٤٤ فهو تعالى محمود سواء حمده الناس بألسنتهم أو لم يحمدوه، و له كل الحمد سواء قصد به هو أو قصد به غيره.
قوله تعالى: ﴿أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَ عَادٍ وَ ثَمُودَ﴾ إلى آخر الآية.
من كلام موسى (عليه السلام) يذكر قومه من أيام الله في الأمم الماضين ممن فنيت أشخاصهم و خمدت أنفاسهم و عفت آثارهم و انقطعت أخبارهم فلا يعلمهم بحقيقة حالهم تفصيلا إلا الله كقوم نوح و عاد و ثمود و الذين من بعدهم.
و من هنا يعلم أولا: أن المراد بالنبإ، في قوله: ﴿أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾
خبر هلاكهم و انقراضهم، فإن النبأ هو الخبر الذي يعتنى بأمره فلا ينافي ما يتعقبه من قوله: ﴿لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اَللَّهُ﴾.
و ثانيا: أن قوله: ﴿قَوْمِ نُوحٍ وَ عَادٍ وَ ثَمُودَ﴾، من قبيل ذكر الأمثلة، و إن قوله:
﴿لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اَللَّهُ﴾ بيان لقوله: ﴿مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ و المراد بعدم العلم بهم لغير الله الجهل بحقيقة حالهم و عدم الإحاطة بتفاصيل تاريخ حياتهم.
و من الممكن أن يكون قوله: ﴿لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اَللَّهُ﴾ اعتراضا و إن كان ما ذكرناه أنسب للسياق، و أما احتمال أن يكون خبرا لقوله: ﴿وَ اَلَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ كما ذكره بعضهم فسخافته ظاهرة، و أسخف منه تجويز بعضهم أن يكون حالا من ضمير من بعدهم و كون قوله: ﴿جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ﴾ خبرا لقوله: ﴿وَ اَلَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ﴾.
و قوله: ﴿جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ﴾ الظاهر أن المراد به أن رسلهم جاءوهم بحجج بينة تبين الحق و تجليه من غير أي إبهام و ريب فمنعوهم أن يتفوهوا بالحق و سدوا عليهم طريق التكلم.
فالضميران في: ﴿أَيْدِيَهُمْ﴾ و ﴿أَفْوَاهِهِمْ﴾ للرسل، و رد أيديهم في أفواههم كناية عن إجبارهم على أن يسكتوا و يكفوا عن التكلم بالحق كأنهم أخذوا بأيدي رسلهم و ردوها في أفواههم إيذانا بأن من الواجب عليكم أن تكفوا عن الكلام، و يؤيده قوله بعد: ﴿وَ قَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَ إِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ﴾ فإن دعوى الشك و الريب قبال الحجة البينة و الحق الصريح الذي لا يبقي مجالا للشك لا تتحقق إلا من جاحد مكابر متحكم مجازف لا يستطيع أن يسمع كلمة الحق فيجبر قائلها على السكوت و الصمت.
و للقوم في معنى الآية أقوال أخر:
منها قول بعضهم المعنى أن الكفار ردوا أيديهم في أفواه الرسل تكذيبا لهم و ردا لما جاءوا به، فالضمير الأول للكفار و الثاني للرسل، و فيه أنه مستلزم لاختلاف مرجع الضميرين من غير قرينة ظاهرة.
و منها: أن المراد أن الكفار وضعوا أيديهم على أفواه أنفسهم مومين به إلى الرسل أن اسكتوا كما يفعله الواحد من الناس مع غيره إذا أراد إسكاته فالضميران معا للكفار.
و منها: أن المعنى عضوا أصابعهم من شدة الغيظ من استماع دعوة الرسل، فالضميران للكفار كما في الوجه السابق و فيه أنه كناية بعيدة غير مفهومة من اللفظ.
و منها: أن المراد بالأيدي الحجج و هي إما جمع اليد بمعنى الجارحة لكون الحجة بمنزلة اليد التي بها البطش و الدفع، و إما جمع اليد بمعنى النعمة لكون حجج الرسل نعما منهم على الناس و المعنى أنهم ردوا حجج الرسل إلى أفواههم التي خرجت منها.
و قريب من هذا الوجه قول بعضهم: إن المراد بالأيدي نعم الرسل و هي أوامرهم و نواهيهم و الضميران أيضا للرسول، و المعنى أنهم كذبوا الرسل في أوامرهم و نواهيهم.
و قريب منه أيضا قول آخرين: إن المراد بالأيدي النعم، و ضمير ﴿أَيْدِيَهُمْ﴾ للرسل، و ﴿فِي﴾ في قوله ﴿فِي أَفْوَاهِهِمْ﴾ بمعنى الباء و الضمير للكفار و المعنى كذب الكفار بأفواههم نعم الرسل و هي حججهم.
و أنت خبير بأن هذه معان بعيدة عن الفهم يجل كلامه تعالى أن يحمل عليها و على أمثالها.
و أما قوله: ﴿وَ قَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَ إِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ﴾ فهو نحو بيان لقوله: ﴿فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ﴾ و الجملة الأولى أعني قولهم:
﴿إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ﴾ إنكار للشريعة الإلهية التي هي متن الرسالة، و الجملة الثانية أعني قولهم: ﴿وَ إِنَّا لَفِي شَكٍّ﴾ إلخ... إنكار لما جاءوا به من الحجج و البينات و إظهار ريب فيما كانوا يدعون إليه و هو توحيد الربوبية.
قوله تعالى: ﴿قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَ فِي اَللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَ يُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ أصل الفطر على ما ذكره الراغب الشق طولا يقال: فطرت الشيء فطرا أي شققته طولا، و أفطر الشيء فطورا و انفطر
انفطارا أي قبل الفطر، و استعمل في القرآن فيما انتسب إليه تعالى بمعنى الإيجاد بنوع من العناية كأنه تعالى شق العدم شقا فأظهر من بطنه الأشياء فهي ظاهرة ما أمسك هو تعالى على شقي العدم موجودة ما كان ممسكا لها و لو ترك الإمساك لانعدمت و زالت كما قال تعالى: ﴿إِنَّ اَللَّهَ يُمْسِكُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ أَنْ تَزُولاَ وَ لَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ﴾: فاطر: ٤١.
و على هذا فتفسير الفطر بالخلق الذي هو جمع الأجزاء و الأبعاض كما وقع في بعض العبارات ليس على ما ينبغي، و يؤيد ذلك أن الفطر لو كان بمعنى الخلق لكان البرهان الذي أشير إليه بقوله: ﴿فَاطِرِ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ﴾ مسوقا لإثبات وجود الخالق فكان أجنبيا عن المقام لأن الوثنية لا تنكر وجود خالق للعالم و أنه هو الله عز اسمه لا غير، و إنما ينكرون توحيد الربوبية و العبادة و هو أن يكون الله سبحانه هو الرب المعبود لا غير، و البرهان على كونه تعالى خالقا للسماوات و الأرض لا ينفع فيه شيئا.
و كيف كان فقوله: ﴿قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَ فِي اَللَّهِ شَكٌّ﴾ إلخ، كلام قوبل به قولهم:
﴿وَ قَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَ إِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ﴾ و قد عرفت أن قولهم هذا يتضمن إنكارين: إنكارهم للرسالة و تشككهم في توحيد الربوبية فكلام الرسل المورد جوابا منهم عن قولهم بالمقابلة متضمن لجزءين.
فقولهم: ﴿أَ فِي اَللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ﴾ برهان على توحيد الربوبية إذ لو سيق لمجرد الإنكار على الكفار من غير إشارة إلى برهان لم يكن حاجة إلى ذكر الوصف ﴿فَاطِرِ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ﴾، ففي ذكره دلالة على أنه مزيل كل شك و ريب عنه تعالى.
و ذلك أنا نرى في أول ما نعقل أن لهذا العالم المشهود الذي هو مؤلف من أشياء كثيرة كل واحد منها محدود في نفسه متميز من غيره وجودا، و ليس وجوده و لا وجود شيء من أجزائه من نفسه و قائما بذاته و إلا لم يتغير و لم ينعدم فوجوده و وجود أجزائه و كذا كل ما يرجع إلى الوجود من الصفات و الآثار من غيرها و لغيرها و هذا الغير هو الذي نسميه «الله» عز اسمه.
فهو تعالى الذي يوجد العالم و كل جزء من أجزائه و يحده و يميزه من غيره فهو في نفسه موجود غير محدود و إلا لاحتاج إلى آخر يحدده فهو تعالى واحد لا يقبل الكثرة لأن ما لا يحد بحد لا يقبل الكثرة.
و هو بوحدته يدبر كل أمر كما أنه يوجده لأنه هو المالك لوجودها و الكل أمر يرجع إلى وجودها، و لا يشاركه غيره في شيء لأن شيئا من الموجودات غيره لا يملك لنفسه و لا لغيره فهو تعالى رب كل شيء لا رب غيره، كما أنه موجد كل شيء لا موجد غيره.
و هذا برهان تام سهل التناول حتى للأفهام البسيطة يناله الإنسان الذي يذعن بفطرته أن للعالم المشهود حقيقة و واقعية من غير أن يكون وهما مجردا كما يبديه السفسطة و الشك، و يثبت به توحد الألوهية و الربوبية و لذلك تمسك به في هذا المقام الذي هو مقام خصام الوثنية.
و من هنا يظهر فساد زعم من زعم أن قوله: ﴿أَ فِي اَللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ﴾ حجة مسوقة لإثبات خالق للعالم، و كذا قول من قال: إنه دليل اتصال التدبير لتوحيد الربوبية بل هو برهان عليه تعالى من جهة قيام وجود كل شيء و آثار وجوده به من كل جهة فينتج توحده في الربوبية و يزول به ما أيدوه من الشك بقولهم:
﴿وَ إِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ﴾.[1]
ثم قولهم: ﴿يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَ يُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ إشارة إلى برهان النبوة التي أنكروها بقولهم: ﴿إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ﴾ يريدون به دين الرسل و الشريعة السماوية بالوحي.
و بيانه أن من سنته تعالى الجارية هداية كل شيء إلى كماله و سعادته النوعية، و الإنسان أحد هذه الأنواع المشمولة للهداية الإلهية فمن الواجب في العناية الإلهية
أن يهتدي إلى سعادة حياته. و لكن له حياة خالدة غير محدودة بالدنيا و لا منقطعة بالموت، و سعادته في الحياة أن يعيش في الدنيا عيشة مطمئنة على أساس تعديل قواه في التمتع من أمتعة الحياة من مأكول و مشروب و لباس و نكاح و غير ذلك و هي الأعمال الصالحة، و في الآخرة أن يعيش على ما اكتسبه من الاعتقاد الحق و العمل الصالح.
و هو و إن كان مجهزا بفطرة تذكره حق الاعتقاد و صالح العمل لكنه مجبول من جهة أخرى على العيشة الاجتماعية التي تدعوه إلى اتباع الأهواء و الظلم و الفسق، فمجرد ذكرى الفطرة لا يكفي في حمله على سنة حقة عادلة تحصل له الاستقامة في الاعتقاد و العمل، و إلا لم يفسد المجتمع الإنساني و لا واحد من أجزائه قط و هم مجهزون بالفطرة.
فمن الواجب في العناية أن يمد النوع الإنساني مع ما له من الفطرة الداعية إلى الصلاح و السعادة بأمر آخر تتلقى به الهداية الإلهية و هو النبوة التي هي موقف إنساني طاهر ينكشف له عنده الاعتقاد الحق و العمل الصالح بوحي إلهي و تكليم غيبي يضمن اتباعه سعادة الفرد و المجتمع في الدنيا و الآخرة.
أما سعادة الدنيا فلما تقدم كرارا أن بين المعاصي و المظالم و بين النكال و العقوبة الإلهية التي تنتهي إلى الهلاك ملازمة فلو لم يفسد المجتمع و داموا على الصلاح الفطري لم يختر منهم الهلاك و لم يفاجئهم النكال و عاشوا ما قدر لهم من الآجال الطبيعية.
و العيشة المغبوطة.
و أما سعادة الآخرة فلأن اتباع الدعوة الإلهية و بعبارة أخرى الإيمان و التقوى يحليان النفس بالهيأة الصالحة و يذهبان بدرن النفس الذي هو الذنوب بمقدار الاتباع.
فربوبيته تعالى لكل شيء المستوجبة لتدبيرها أحسن تدبير و هدايته كل نوع إلى غايته السعيدة تستدعي أن تعني بالناس بإرسال رسل منهم إليهم و دعوته الناس بلسان رسله إلى الإيمان و العمل الصالح ليتم بذلك سعادتهم في الدنيا و الآخرة، أما في
الدنيا فبالتخلص عن النكال و العقوبة القاضية عليهم، و أما في الآخرة فبالمغفرة الإلهية بمقدار ما تلبسوا به من الإيمان و العمل الصالح.
إذا عرفت ما ذكرناه بان لك أن قوله تعالى حاكيا عن الرسل: ﴿يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَ يُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ إشارة منهم (عليه السلام) إلى حجة النبوة العامة و أن قوله: ﴿لِيَغْفِرَ لَكُمْ﴾ إلخ، إشارة إلى غاية الدعوة الأخروية و قوله: ﴿وَ يُؤَخِّرَكُمْ﴾ إلخ إشارة إلى غايتها الدنيوية، و قدم ما للآخرة على ما للدنيا لأن الآخرة هي المقصودة بالذات و هي دار القرار.
و قد نسبوا الدعوة في كلامهم إلى الله سبحانه للتنبيه لما هو الحق تجاه قول الكفار ﴿تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ﴾ حيث نسبوها إلى الرسل، و قوله: ﴿مِنْ ذُنُوبِكُمْ﴾ ظاهر في التبعيض، و لعله للدلالة على أن المغفرة على قدر الطاعة، و المجتمع الإنساني لا يخلو عن المعصية المستوجبة للمؤاخذة البتة، فالمغفور على أي حال بعض ذنوب المجتمع لا جميعها فافهم ذلك.
و ربما ذكر بعضهم أن المراد به أنه يغفر حقوق الله لا حقوق الناس، و رد بأنه صح عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن الإسلام يجب ما قبله.
و ربما قيل: إن ﴿مِنْ﴾ زائدة و أيد بقوله تعالى في موضع آخر: ﴿يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ بدون من. و فيه أن من إنما يزاد في النفي دون الإثبات كقولهم: ما جاءني من رجل و تدخل على النكرة دون المعرفة كما قيل. على أن مورد الآيتين مختلف فإن قوله: ﴿يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ الظاهر في مغفرة الجميع إنما هو في مورد الإيمان و الجهاد و هو قوله: ﴿تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ ﴾- إلى أن قال - ﴿يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾: الصف: ١٢ و الذي حكاه الله عن نوح (عليه السلام) في مثل المقام و هو أول هؤلاء الرسل المذكورين في الآية قوله: ﴿أَنِ اُعْبُدُوا اَللَّهَ وَ اِتَّقُوهُ وَ أَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَ يُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾: نوح: ٤ و هو يوافق الآية التي نحن فيها فالتبعيض لا مفر منه ظاهرا.
و مما قيل في توجيه الآية أن المراد بالبعض الكل توسعا، و من ذلك أن المراد
مغفرة ما قبل الإيمان من الذنوب و أما ما بعد ذلك فمسكوت عنه، و من ذلك أن المراد مغفرة الكبائر و هي بعض الذنوب إلى غير ذلك، و هذه وجوه ضعيفة لا يعبأ بها.
و قال الزمخشري في الكشاف: فإن قلت: ما معنى التبعيض في قوله: ﴿مِنْ ذُنُوبِكُمْ﴾؟ قلت: ما علمته جاء هكذا إلا في خطاب الكافرين بقوله: ﴿وَ اِتَّقُوهُ وَ أَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ﴾ ﴿يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اَللَّهِ وَ آمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ﴾، و قال في خطاب المؤمنين: ﴿هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ إلى أن قال ﴿يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ و غير ذلك مما يقفك عليه الاستقراء، و كان ذلك للتفرقة بين الخطابين، و لئلا يسوي بين الفريقين في الميعاد. انتهى.
و كأن مراده أن المغفور من الذنوب في الفريقين واحد و هو جميع الذنوب، إلا أن تشريف مقام الإيمان أوجب أن يصرح في المؤمنين بمغفرة الجميع، و يقتصر في وعد الكفار على مغفرة البعض و السكوت عن الباقي، و مغفرة بعضها لا تنافي مغفرة البعض الآخر، فليكن هذا مراده و إلا فمجرد التفرقة بين الخطابين لا ينتج ارتكاب مخالفة الواقع بتاتا.
و قوله: ﴿وَ يُؤَخِّرَكُمْ إِلىَ أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ أي لا يعاجلكم بالعقوبة و الهلاك و يؤخركم إلى الأجل الذي لا يؤخر و قد سماه لكم و لا يبدل القول لديه، و قد تقدم في تفسير أول سورة الأنعام أن الأجل أجلان: أجل موقوف معلق، و أجل مسمى لا يؤخر.
و من الدليل على هذا الذي ذكرناه قول نوح لقومه في هذا المقام على ما حكاه الله سبحانه: ﴿وَ يُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اَللَّهِ إِذَا جَاءَ لاَ يُؤَخَّرُ﴾: نوح: ٤.
قوله تعالى: ﴿قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ﴾ قد تقدم في مباحث النبوة في الجزء الثاني من الكتاب أن الآية المعجزة حجة عامة على نبوة النبي لا حجة عامية و خاصة الوحي و النبوة التي هي نوع اتصال بالغيب أمر خارق للعادة الجارية بين أفراد الإنسان لا يجدونها من أنفسهم فعلى من يدعيها الإثبات و لا طريق إلى إثباتها إلا بالإتيان بخارق عادة آخر
يدل على صحة هذا الاتصال الغيبي لأن حكم الأمثال واحد، و إذا جاز أن تخترق العادة بشيء جاز أن تخترق بما يماثله.
و الرسل (عليه السلام) لما احتجوا على كفار أممهم في النبوة العامة بقولهم:
﴿يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَ يُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ عادت الكفار إليهم بطلب الدليل منهم على ما يدعونه من النبوة لأنفسهم معتذرين في ذلك بقولهم: ﴿إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا﴾، ثم صرحوا بما يطلبونه من الدليل و هو الآية المعجزة بقولهم:
﴿فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ﴾.
فالمعنى سلمنا أن من مقتضى العناية الإلهية أن يدعونا إلى المغفرة و الرحمة، لكنا لا نسلم لكم أن هذه الدعوة قائمة بكم كما تدعون فإنكم بشر مثلنا لا تزيدون علينا بشيء، و لو كان مجرد البشرية يوجب ذلك لكنا وجدناه من أنفسنا و نحن بشر، فإن كنتم صادقين في دعواكم هذه فأتونا بسلطان مبين أي ببرهان قاطع يتسلط على عقولنا و يضطرنا إلى الإذعان بنبوتكم و هو آية معجزة غيبية تخرق العادة كما أن ما تدعونه خارق مثلها.
و بهذا البيان يظهر أولا أن كلامهم هذا من قبيل منع الدعوى، و قولهم: ﴿إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا﴾ سند المنع، و قولهم: ﴿فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ﴾ تصريح بطلب الدليل.
و ثانيا أن قولهم: ﴿تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا﴾ من قبيل الاعتراض الواقع بين المنع و سنده و معناه أنكم لما كنتم بشرا مثلنا لا فضل لكم علينا بشيء فلا وجه لأن نقبل منكم ما لا نجده من أنفسنا و لا نعهده من أمثالنا، و الذي نعهده من أمثال هذه الأمور أنها إنما تظهر عن أغراض و مطامع دنيوية مادية فليس إلا أنكم تريدون أن تصرفونا عن سنتنا القومية و طريقتنا المثلى.
قوله تعالى: ﴿قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَ لَكِنَّ اَللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشَاءُ﴾ إلى آخر الآية جواب الرسل عما أوردوه على رسالتهم بأنكم بشر مثلنا فلستم ذوي هوية ملكوتية حتى تتصلوا بالغيب فإن كنتم صادقين في دعواكم هذه القدرة الغيبية فأتونا بسلطان مبين.
و محصل الجواب أن كوننا بشرا مثلكم مسلم لكنه يوجب خلاف ما استوجبتموه أما قولكم إن كونكم بشرا مثلنا يوجب أن لا تختصوا بخصيصة لا نجدها من أنفسنا و هي الوحي و الرسالة فجوابه: أن المماثلة في البشرية لا توجب المماثلة في جميع الكمالات الصورية و المعنوية الإنسانية كما أن اعتدال الخلقة و جمال الهيئة و كذا رزانة العقل و إصابة الرأي و الفهم و الذكاء كمالات صورية و معنوية توجد في بعض أفراد الإنسان دون بعض، فمن الجائز أن ينعم الله بالوحي و الرسالة على بعض عباده دون بعض فإن الله يمن على من يشاء منهم.
و أما قولكم: ﴿فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ﴾ فإنه مبني على كون النبي ذا شخصية ملكوتية و قدرة غيبية فعالة لما تشاء، و ليس كذلك فما النبي إلا بشر مثلكم يوحى إليه بالرسالة و ليس له من الأمر شيء، و ما كان له أن يأتي بآية من عنده إلا أن يشاء الله ذلك و يأذن فيه.
فقوله: ﴿إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾ تسليم من الرسل لقولهم: ﴿إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا﴾ لاستنتاج خلاف ما استنتجوه منه، و قوله: ﴿وَ لَكِنَّ اَللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشَاءُ﴾ إشارة إلى مقدمة بانضمامها يستنتج المطلوب، و قوله: ﴿وَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اَللَّهِ﴾ جواب منهم استنتجوه من كونهم بشرا مثلهم.
و تذييل هذا الكلام بقولهم: ﴿وَ عَلَى اَللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُؤْمِنُونَ﴾ للإشارة إلى ما يجري مجرى حجة ثانية على إرجاع الأمر كله و منه أمر الآية المعجزة إلى الله و هي حجة خاصة بالمؤمنين، و ملخصها أن الإيمان بالله سبحانه يقتضي منهم أن يذعنوا بأن الإتيان بالآية إنما هو إلى الله لأن الحول و القوة له خاصة لا يملك غيره من ذلك شيئا إلا بإذنه.
و ذلك لأنه هو الله عز شأنه، فهو الذي يبدأ منه و ينتهي إليه و يقوم به كل شيء فهو رب كل شيء المالك لتدبير أمره لا يملك شيء أمرا إلا بإذنه فهو وكيل كل شيء القائم بما يرجع إليه من الأمر، فعلى المؤمن أن يتخذ ربه وكيلا في جميع ما يرجع إليه حتى في أعماله التي تنسب إليه لما أن القوة كلها له سبحانه و على الرسول أن يذعن بأن ليس له الإتيان بآية معجزة إلا بإذن الله.
و الآية ظاهرة في أن الرسل (عليه السلام) لم يدعوا امتناع إتيانهم بالآية المعجزة المسماة سلطانا مبينا، و إنما ادعوا امتناع أن يستقلوا بذلك من غير حاجة فيه إلى إذن الله سبحانه و احتجوا على ذلك أولا، و ثانيا.
قوله تعالى: ﴿وَ مَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اَللَّهِ وَ قَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَ لَنَصْبِرَنَّ عَلى مَا آذَيْتُمُونَا وَ عَلَى اَللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُتَوَكِّلُونَ﴾ ما استفهامية و الاستفهام للإنكار، و قوله: ﴿وَ قَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا﴾ حال من الضمير في ﴿لَنَا﴾ و سبل الأنبياء و الرسل الشرائع التي كانوا يدعون إليها، قال تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اَللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ﴾: يوسف: ١٠٨ و المعنى ما الذي نملكه من العذر في أن لا نتوكل على الله و الحال أنه تعالى هدانا سبلنا و لم يكن لنا صنع في هذه النعمة و السعادة التي من بها علينا فإذا كان سبحانه فعل بنا هذا الفعل الذي هو كل الخير فمن الواجب أن نتوكل عليه في سائر الأمور.
و هذا في الحقيقة حجة ثانية على وجوب التوكل عليه و إلقاء الزمام إليه سلك فيها من طريق الآثار الدالة على وجوب التوكل عليه كما أن الحجة السابقة سلك فيها من النظر في نفس المؤثر، و تقرير الحجة أن هدايته تعالى إيانا إلى سبلنا دليل على وجوب التوكل عليه لأنه لا يخون عباده و لا يريد بهم إلا الخير و مع وجود الدليل على التوكل لا معنى لوجود دليل على عدم التوكل يكون عذرا لنا فيه فلا سبيل لنا إلى عدم التوكل عليه تعالى.
فقوله تعالى: ﴿وَ عَلَى اَللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُؤْمِنُونَ﴾ يجري مجرى اللم، و قوله: ﴿وَ مَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اَللَّهِ وَ قَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا﴾ مجرى الإن فتدبر في هذا البيان العذب و الاحتجاج السهل الممتنع الذي قدمه القرآن الكريم إلى متدبريه في أوجز لفظ.
و قوله: ﴿وَ لَنَصْبِرَنَّ عَلى مَا آذَيْتُمُونَا﴾ من تفريع الصبر على ما بين من وجوب التوكل عليه أي إذا كان من الواجب أن نتوكل عليه و نحن مؤمنون به و قد هدانا سبلنا فلنصبرن على إيذائكم لنا في سبيل الدعوة إليه متوكلين عليه حتى يحكم بما يريد و يفعل ما يشاء من غير أن نأوي في ذلك إلى ما عندنا من ظاهر الحول و القوة.
و قوله: ﴿وَ عَلَى اَللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُتَوَكِّلُونَ﴾ كلام مبني على الترقي أي كل من تلبس بالتوكل فعليه أن يتوكل على الله سواء كان مؤمنا أو غير مؤمن إذ لا دليل غيره غير أن المتوكل بحقيقة التوكل لا يكون إلا مؤمنا فإنه مذعن أن الأمر كله لله فلا يسعه إلا أن يطيعه فيما يأمر و ينتهي عما ينهى و يرضى بما رضي به و يسخط عما سخط عنه و هذا هو الإيمان.
قوله تعالى: ﴿وَ قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا﴾ هذا تهديد منهم بعد ما عجزوا في مناظرتهم و خسروا في محاجتهم، و الخطاب في قولهم: ﴿لَنُخْرِجَنَّكُمْ﴾ إلخ للرسل و الذين آمنوا معهم فما كانوا ليرضوا أن يعود الرسل في ملتهم و يبقى أتباعهم على دين التوحيد. على أن الله سبحانه صرح بذلك في قصص بعضهم كقوله في شعيب: ﴿قَالَ اَلْمَلَأُ اَلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا﴾: الأعراف: ٨٨.
و قوله: ﴿أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا﴾ عاد من الأفعال الناقصة بمعنى الصيرورة و هي الحيلولة من حال إلى حال سواء كان عليها سابقا أو لا و من الدليل عليه كما قيل قوله: ﴿فِي مِلَّتِنَا﴾ و لو كان بمعنى الرجوع إلى ما كان لتعين أن يقال:
إلى ملتنا.
و من هنا يظهر فساد ما قيل: إن ظاهر الآية أن الرسل كانوا قبل الرسالة في ملتهم فكلفهم الكفار أن يعودوا إلى ما كانوا عليه.
على أن خطابهم لم يكن للرسل خاصة بل لهم و لمن آمن بهم ممن كان على ملة الكفار من قبل فالخطاب لهم و لرسلهم بالعود إلى ملتهم على تقدير كون العود بمعنى الرجوع، إنما هو من باب التغليب.
و من لطيف الصناعة في الآية دخول لام القسم و نون التأكيد على طرفي الترديد:
«لنخرجنكم أو لتعودن» مع أن أو للاستدراك و تفيد معنى الاستثناء و لا معنى لأن يقال: إلا أن تعودوا و الله في ملتنا، إلا أن عودهم لما كان بإجبار من الكفار كان في معنى الإعادة و عاد قوله: ﴿لَتَعُودُنَّ﴾ طرف الترديد و صح دخول اللام و النون و آل المعنى إلى قولنا: و الله لنخرجنكم من أرضنا أو نعيدنكم في ملتنا.
قوله تعالى: ﴿فَأَوْحىَ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ اَلظَّالِمِينَ وَ لَنُسْكِنَنَّكُمُ اَلْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ إلى آخر الآية، ضمير الجميع الأول و الثاني للرسل و الثالث للذين كفروا بدلالة السياق، و التعبير عنهم بالظالمين للإشارة إلى سببية ظلمهم للإهلاك فإن تعليق الحكم بالوصف مشعر بالعلية كما أن قوله: ﴿ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَ خَافَ وَعِيدِ﴾ مشعر بعلية الخوف للإسكان.
و قوله: ﴿مَقَامِي﴾ مصدر ميمي أريد به قيامه تعالى على الأمر كله أو اسم مكان أريد به مرتبة قيمومته تعالى للأمر كله، و المراد من وعيده تعالى ما أوعد به المخالفين عن أمره من العذاب.
فالمراد بالخوف من مقامه تعالى تقواه بما أنه الله القائم بأمر عباده و المراد بالخوف من وعيده تقواه بما أنه الله الذي حذر عباده من مخالفة أمره بلسان أنبيائه و رسله فيعود على أي حال إلى التقوى و ينطبق على قول موسى لقومه: ﴿اِسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَ اِصْبِرُوا إِنَّ اَلْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَ اَلْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾: الأعراف: ١٢٨ كما أشار إليه في الكشاف.
و المعنى فأوحى رب الرسل إليهم و قد أخذت صفة الربوبية الخاصة بهم لمكان توكلهم الجالب للرحمة و العناية و أقسم لنهلكن هؤلاء المهددين لكم بظلمهم و لنسكننكم هذه الأرض التي هددوكم بالإخراج منها و نورثكم إياها لصفة مخافتكم مني و من وعيدي و كذلك نفعل فنورث الأرض عبادنا المتقين.
قوله تعالى: ﴿وَ اِسْتَفْتَحُوا وَ خَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ﴾ الاستفتاح طلب الفتح و النصر. و الخيبة انقطاع الرجاء و الخسران و الهلاك، و العنيد هو اللجوج و منه المعاند.
و الضمير في ﴿وَ اِسْتَفْتَحُوا﴾ للرسل أي طلبوا النصر من الله لما انقطعت بهم الأسباب من كل جانب و بلغ بهم ظلم الظالمين و تكذيب المعاندين كقول نوح فيما حكاه الله: ﴿أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ﴾: القمر: ١٠ و يمكن رجوع الضمير إلى الرسل و الكفار جميعا فإن الكفار أيضا كانوا يصرون على أن يأتيهم الرسل بما يقضي بينهم كقولهم:
﴿مَتىَ هَذَا اَلْفَتْحُ﴾: الم السجدة: ٢٨ ﴿مَتى هَذَا اَلْوَعْدُ﴾: يس: ٤٨ و على هذا التقدير يكون المعنى: و استفتح الرسل و الكفار جميعا، و كانت الخيبة للجبارين و هو ـ
عذاب الاستئصال.
قوله تعالى: ﴿مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَ يُسْقىَ مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ﴾ إلى آخر الآيتين. الصديد القيح السائل من الجرح، و هو بيان للماء الذي يسقونه في جهنم. و التجرع تناول المشروب جرعة جرعة على الاستمرار، و الإساغة إجراء الشراب في الحلق يقال:
ساغ الشراب و أسغته أنا كذا في المجمع و الباقي ظاهر.
قوله تعالى: ﴿مَثَلُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اِشْتَدَّتْ بِهِ اَلرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ﴾ إلى آخر الآية، يوم عاصف شديد الريح تمثيل لأعمال الكفار من حيث تترتب نتائجها عليها و بيان أنها حبط باطلة لا أثر لها من جهة السعادة فهو كقوله تعالى:
﴿وَ قَدِمْنَا إِلىَ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً﴾: الفرقان: ٢٣ فأعمالهم كذرات من الرماد اشتدت به الريح في يوم شديد الريح فنثرته و لم يبق منه شيئا هذا مثلهم من جهة أعمالهم.
و من هنا يظهر أن لا حاجة إلى تقدير شيء في الكلام و إرجاعه إلى مثل قولنا:
مثل أعمال الذين كفروا «إلخ»، و الظاهر أن الآية ليست من تمام كلام موسى بل هي كالنتيجة المحصلة من كلامه المنقول.
بحث روائي
في الكافي، بإسناده عن معاوية بن وهب عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من أعطي الشكر أعطي الزيادة يقول الله عز و جل: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾.
و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي الدنيا و البيهقي في شعب الإيمان عن أبي زهير يحيى بن عطارد بن مصعب عن أبيه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): ما أعطي أحد أربعة فمنع أربعة: ما أعطي أحد الشكر فمنع الزيادة لأن الله يقول: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾، و ما أعطي أحد الدعاء فمنع الإجابة لأن الله يقول: ﴿اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ و ما أعطي أحد الاستغفار فمنع المغفرة لأن الله يقول: ﴿اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ
كَانَ غَفَّاراً﴾ و ما أعطي أحد التوبة فمنع التقبل لأن الله يقول: ﴿وَ هُوَ اَلَّذِي يَقْبَلُ اَلتَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ﴾: الشورى: ٢٥.
و فيه، أخرج أبو نعيم في الحلية من طريق مالك بن أنس عن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين قال: لما قال له سفيان الثوري: لا أقوم حتى تحدثني قال جعفر: أما إني أحدثك و ما كثرة الحديث لك بخير يا سفيان إذا أنعم الله عليك بنعمة فأحببت بقاءها و دوامها فأكثر من الحمد و الشكر عليها - فإن الله تعالى قال في كتابه: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾ و إذا استبطأت الرزق فأكثر من الاستغفار فإن الله تعالى قال في كتابه:
﴿اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ اَلسَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَ بَنِينَ﴾ يعني في الدنيا و الآخرة [2] ﴿وَ يَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً﴾.
يا سفيان إذا حزنك أمر من سلطان أو غيره فأكثر من لا حول و لا قوة إلا بالله فإنها مفتاح الفرج و كنز من كنوز الجنة.
أقول: و في هذا المعنى روايات كثيرة من طرق الفريقين.
و في الكافي، بإسناده عن عمر بن يزيد قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول:
شكر كل نعمة و إن عظمت أن تحمد الله
و فيه، بإسناده عن حماد بن عثمان قال: خرج أبو عبد الله (عليه السلام) من المسجد و قد ضاعت دابته فقال: لئن ردها الله علي لأشكرن الله حق شكره فما لبث أن أتي بها فقال: الحمد لله. فقال قائل له: جعلت فداك أ لست قلت: لأشكرن الله حق شكره؟ فقال أبو عبد الله (عليه السلام): أ لم تسمعني قلت: الحمد لله؟
و فيه، بإسناده عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): هل للشكر حد إذا فعله العبد كان شاكرا؟ قال: نعم، قلت: و ما هو؟ قال: الحمد لله، على كل نعمة عليه في أهل و مال، و إن كان فيما أنعم الله عليه في ماله حق أداه، و منه قوله عز و جل: ﴿سُبْحَانَ اَلَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَ مَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ﴾ و منه قوله:
﴿أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبَارَكاً وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلْمُنْزِلِينَ﴾، و قوله: ﴿رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَ أَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَ اِجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً﴾.
و في تفسير العياشي، عن أبي ولاد قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أ رأيت هذه النعمة الظاهرة علينا من الله أ ليس إن شكرناه عليها و حمدناه زادنا كما قال الله في كتابه: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾ فقال: نعم من حمد الله على نعمه و شكره و علم أن ذلك منه لا من غيره زاد الله نعمه.
أقول: و الروايتان الأخيرتان تفسران الشكر أحسن تفسير، و ينطبق عليهما ما قدمناه في البيان أن الشكر إظهار النعمة اعتقادا و قولا و فعلا، و يؤيده إطلاق قوله تعالى: ﴿وَ أَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾: الضحى: ١١.
و في تفسير القمي، قال: حدثني أبي رفعه عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : قال: من آذى جاره طمعا في مسكنه ورثه الله داره. و هو قوله: ﴿وَ قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ ﴾ إلى قوله ﴿فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ اَلظَّالِمِينَ وَ لَنُسْكِنَنَّكُمُ اَلْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ﴾.
و في التفسيرين المجمع، و روح المعاني، عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): من آذى جاره أورثه الله داره.
و في الدر المنثور، أخرج ابن الضريس عن أبي مجلز قال: قال رجل لعلي بن أبي طالب: أنا أنسب الناس. قال: إنك لا تنسب الناس. قال: بلى. فقال له علي:
أ رأيت قوله تعالى: ﴿وَ عَاداً وَ ثَمُودَ وَ أَصْحَابَ اَلرَّسِّ وَ قُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً﴾؟ قال أنا أنسب ذلك الكثير. قال: أ رأيت قوله: ﴿أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَ عَادٍ وَ ثَمُودَ وَ اَلَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اَللَّهُ﴾ فسكت.
و في المجمع، عن أبي عبد الله (عليه السلام): الصديد هو الدم و القيح من فروج الزواني في النار.
و في الدر المنثور، أخرج أحمد و الترمذي و النسائي و ابن أبي الدنيا في صفة النار و أبو يعلى و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الطبراني و أبو نعيم في الحلية و صححه و ابن مردويه و البيهقي في البعث و النشور عن أبي أمامة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في قوله:
﴿وَ يُسْقى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ﴾ قال: يقرب إليه فيتكرهه فإذا دنا منه شوى وجهه و وقعت فروة رأسه فإذا شربه قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره يقول الله تعالى: ﴿وَ سُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ﴾ و قال: ﴿وَ إِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي اَلْوُجُوهَ﴾.
و في تفسير القمي، في الآية قال: قال ":يقرب إليه فيتكرهه فإذا دنا منه شوى وجهه و وقعت فروة رأسه فإذا شرب تقطعت أمعاؤه و مزقت تحت قدميه و إنه ليخرج من أحدهم مثل الوادي صديد و قيح. الحديث.
و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): العنيد المعرض عن الحق.
[سورة إبراهيم (١٤): الآیات ١٩ الی ٣٤]
﴿أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللَّهَ خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ١٩وَ مَا ذَلِكَ عَلَى اَللَّهِ بِعَزِيزٍ ٢٠وَ بَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقَالَ اَلضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اَللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اَللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَ جَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ ٢١وَ قَالَ اَلشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ اَلْأَمْرُ إِنَّ اَللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ اَلْحَقِّ وَ وَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَ مَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَ لُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَ مَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ اَلظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ٢٢وَ أُدْخِلَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا﴾
﴿اَلْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ ٢٣أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اَللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَ فَرْعُهَا فِي اَلسَّمَاءِ ٢٤تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَ يَضْرِبُ اَللَّهُ اَلْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ٢٥وَ مَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اُجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ اَلْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ ٢٦يُثَبِّتُ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ اَلثَّابِتِ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ فِي اَلْآخِرَةِ وَ يُضِلُّ اَللَّهُ اَلظَّالِمِينَ وَ يَفْعَلُ اَللَّهُ مَا يَشَاءُ ٢٧أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اَللَّهِ كُفْراً وَ أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ اَلْبَوَارِ ٢٨جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَ بِئْسَ اَلْقَرَارُ ٢٩وَ جَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى اَلنَّارِ ٣٠قُلْ لِعِبَادِيَ اَلَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا اَلصَّلاَةَ وَ يُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَ عَلاَنِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَ بَيْعٌ فِيهِ وَ لاَ خِلاَلٌ ٣١اَللَّهُ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ اَلثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ وَ سَخَّرَ لَكُمُ اَلْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي اَلْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَ سَخَّرَ لَكُمُ اَلْأَنْهَارَ ٣٢وَ سَخَّرَ لَكُمُ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَ سَخَّرَ لَكُمُ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهَارَ ٣٣وَ آتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اَللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اَلْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ٣٤﴾
(بيان)
تشتمل الآيات على تذكرة الناس في صورة خطاب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) مرة بعد مرة بقوله: ﴿أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللَّهَ خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ بِالْحَقِّ﴾ ﴿أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اَللَّهُ مَثَلاً﴾ ﴿أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اَللَّهِ كُفْراً﴾.
يذكر تعالى بها أن الخلقة مبنية على الحق فهم سيبرزون جميعا فالذين ساروا بالحق و آمنوا بالحق و عملوا الحق ينالون السعادة و الجنة، و الذين اتبعوا الباطل و عبدوا الشيطان و أطاعوا الطغاة المستكبرين منهم غرورا بظاهر عزتهم و قدرتهم لزمهم شقاء لازم و تبرأ منهم متبوعوهم من الجن و الإنس و لله العزة و الحمد.
ثم يذكر أن هذا التقسم إلى فريقين إنما هو لانقسام سلوكهم إلى قسمين: سلوك هدى و سلوك ضلال، و الذي يلزمه الهدى هو المؤمن و الذي يلزمه الضلال هو الظالم و القاضي بذلك هو الله سبحانه يفعل ما يشاء و له العزة و الحمد.
ثم يذكر بالأمم الماضية الهالكة و ما وقعوا فيه من البوار بسبب كفرانهم بنعمة الله العزيز الحميد و يعاتب الإنسان بظلمه و كفره بالنعم الإلهية التي ملأت الوجود و إن تعدوها لا تحصوها.
قوله تعالى: ﴿أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللَّهَ خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ بِالْحَقِّ﴾ المراد بالرؤية هو العلم القاطع، فإنه الصالح لأن يتعلق بكيفية خلق السماوات و الأرض دون الرؤية البصرية.
ثم الفعل الحق و يقابله الباطل هو الذي يكون لفاعله فيه غاية مطلوبة يسلك إليه بذاته فمن المشهود أن كل واحد من الأنواع من أول تكونه متوجه إلى غاية مؤجلة لا بغية له دون أن يصل إليها ثم البعض منها غاية للبعض ينتفع به في طريق كينونته و يصلح به في حدوثه و بقائه كالعناصر الأرضية التي ينتفع بها النبات، و النبات الذي ينتفع به الحيوان و هكذا قال تعالى: ﴿وَ مَا خَلَقْنَا اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾: الدخان: ٣٩. و قال: ﴿وَ مَا خَلَقْنَا اَلسَّمَاءَ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا﴾: ص: ٢٧.
فلا تزال الخلقة تقع مرحلة بعد مرحلة و تنال غاية بعد غاية حتى تتوقف في غاية لا غاية بعدها، و ذلك رجوعها إلى الله سبحانه، قال تعالى: ﴿وَ أَنَّ إِلىَ رَبِّكَ اَلْمُنْتَهىَ﴾: النجم: ٤٢.
و بالجملة الفعل إنما يكون فعلا حقا إذا كان له أمر يقصده الفاعل بفعله و غاية يسلك بالفعل إليها، و أما إذا كان فعلا لا يقصد به إلا نفسه من غير أن يكون هناك غرض مطلوب فهو الفعل الباطل، و إذا كان الفعل الباطل ذا نظام و ترتيب فهو الذي يسمى لعبا كما يلعب الصبيان بإتيان حركات منظمة مرتبة لا غاية لهم وراءها و لا أن لهم هما إلا إيجاد ما تخيلوه من صورة الفعل لشوق نفساني منهم إلى ذلك.
و فعله تعالى ملازم للحق مصاحب له فخلق السماوات و الأرض يخلف عالما باقيا بعد زواله، و لو لم يكن كذلك كان باطلا لا أثر له و لا خلف يخلفه، و كان العالم المشهود بما فيه من النظام البديع لعبا منه سبحانه اتخذه لحاجة منه إليه كالتنفس من كرب و سأمة و التفرج من هم أو التخلص من وحشة وحدة و نحو ذلك و هو سبحانه العزيز الحميد لا تمسه حاجة و لا يذله فقر و فاقة.
و بما مر يظهر أن الباء في قوله: ﴿بِالْحَقِّ﴾ للمصاحبة و أن قول بعضهم: إن الباء للسببية أو الآلة و إن المعنى كيف خلقها بقوله الحق أو للغرض الحق ليس على ما ينبغي.
قوله تعالى: ﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَ مَا ذَلِكَ عَلَى اَللَّهِ بِعَزِيزٍ﴾ أي بشاق صعب و الخطاب لعامة البشر بجعل النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) مثالا لهم يمثلون به لأن الخطاب متوجه إليه في قوله قبل و بعد: ﴿أَ لَمْ تَرَ﴾ ﴿وَ مَا ذَلِكَ﴾.
قد تقدم أن كون الخلقة بالحق هو مقتضى كونه تعالى عزيزا غنيا بالذات إذ لو لم يقتض غناه ذلك و أمكن صدور اللعب منه تعالى و كان هذا الخلق المشهود بما له من النظام البديع لعبا لا يقصد به إلا حدوث و فناء كان ذلك لشوق خيالي منه إليه و حاجة داخلية كتنفيس كرب و تفريج هم أو أنس عن وحشة و سأمة و نحو ذلك و غناه تعالى بالذات يدفع ذلك.
و لعل هذه النكتة هي التي أوجبت تعقيب قوله: ﴿أَنَّ اَللَّهَ خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ﴾ بقوله: ﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ﴾ إلخ فقوله: ﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ﴾ إلخ، في موضع البيان لما تقدمه و المعنى أ لم تعلم أن الله خلق هذا الخلق المشهود عن عزة منه و غنى و أنه إن يشأ يذهبكم و يأت بخلق جديد و ما ذلك عليه تعالى بعزيز و هو الله عز اسمه له الأسماء الحسنى و كل العزة و الكبرياء.
و بهذا يظهر أن وضع الظاهر في موضع المضمر في قوله: ﴿عَلَى اَللَّهِ﴾ للدلالة على الحجة و أن عدم عزة ذلك عليه تعالى من جهة كونه هو الله عز اسمه.
فإن قلت: لو كان الإتيان بقوله: ﴿إِنْ يَشَأْ﴾ إلخ، للدلالة على غناه المطلق و عدم كونه لاعبا بالخلق لكان الأنسب الاقتصار على قوله: ﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ﴾ و ترك قوله: ﴿وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ فإن إذهاب القديم و الإتيان بجديد لا ينفي اللعب لجواز أن يكون نفس إذهاب بعض و إتيان بعض لعبا.
قلت: هذا كذلك لو قيل: إن يشأ يذهب جميع الخلق و يأت بخلق جديد و لكن لما قيل: ﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ﴾ إلخ و الخطاب لعامة البشر أو لأمة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فقط أو للموجودين في عصره كان من اللازم أن يعقبه بقوله: ﴿وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ فإن هذا الخلق المشهود بما بين أجزائه من الارتباط و التعلق لا يتم الغرض منه إلا بهذه الصفة الموجودة و التركب و التآلف الخاص، و لو أذهب الناس على بقاء من السماوات و الأرض بحالها الحاضرة كان ذلك باطلا و لعبا من جهة أخرى.
و بعبارة أخرى إذهاب الإنسان فقط من غير إتيان بخلق جديد على إبقاء لسائر الخلق المشهود لعب باطل كما أن إذهاب الخلق من أصله من غير غاية مترتبة لعب باطل، و إنما الحق الذي يكشف عن غناه تعالى أن يذهب قوما و يأتي بآخرين و هو الذي تذكره الآية الكريمة فافهم ذلك.
قوله تعالى: ﴿وَ بَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً﴾ إلى آخر الآية، البروز هو الخروج إلى البراز بفتح الباء و هو الفضاء يقال: برز إليه إذا خرج إليه بحيث لا يحجبه عنه حاجب، و منه المبارزة و البراز كخروج المقاتل من الصف إلى كفئه من العدو.
و التبع بفتحتين جمع تابع كخدم و خادم، و قيل: اسم جمع، و قيل: مصدر جيء به للمبالغة، و الإغناء الإفادة و ضمن معنى الدفع و لذا عدي بعن كما قيل، و الجزع و الصبر متقابلان، و المحيص اسم مكان من حاص يحيص حيصا و حيوصا إذا زال عن المكروه كما في المجمع فالمحيص هو المكان الذي يزول إليه الإنسان عن المكروه و الشدة.
و قوله: ﴿وَ بَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً﴾ أي ظهروا له تعالى ظهورا لا يحجبهم عنه حاجب و هذا بالنسبة إلى أنفسهم حيث كانوا يتوهمون في الدنيا أن ربهم في غيبة عنهم و هم غائبون عنه، فإذا كان يوم القيامة زال كل ستر متوهم و شاهدوا أن لا حاجب هناك يحجبهم عنه، و أما هو تعالى فلا ساتر يستر عنه في دنيا و لا آخرة، قال تعالى: ﴿إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَخْفىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي اَلْأَرْضِ وَ لاَ فِي اَلسَّمَاءِ﴾: آل عمران: ٥.
و يمكن أن تكون الجملة كناية عن خلوصهم لحساب الأعمال و تعلق المشيئة الإلهية بانقطاع الأعمال و إنجاز الجزاء الموعود كما قال: ﴿سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ اَلثَّقَلاَنِ﴾: الرحمن: ٣١.
و قوله: ﴿فَقَالَ اَلضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا ﴾ إلى قوله ﴿مِنْ شَيْءٍ﴾ تخاصم بين الكفار يوم القيامة على ما يعطيه السياق فالضعفاء هم المقلدون المطيعون لأوليائهم من الكفار، و المستكبرون هم أولياؤهم المتبوعون أولوا الطول و القوة المستنكفون عن الإيمان بالله و آياته.
و المعنى فقال الضعفاء المقلدون للذين استكبروا منهم إنا كنا في الدنيا لكم تابعين مطيعين من غير أن نسألكم حجة على ما تأمروننا به فهل أنتم مفيدون لنا اليوم تدفعون عنا شيئا من عذاب الله الذي قضي علينا.
و على هذا فلفظة «من» في قوله ﴿مِنْ عَذَابِ اَللَّهِ﴾ للبيان، و في قوله ﴿مِنْ شَيْءٍ﴾ زائدة للتأكيد كما في قولنا: ما جاءني من أحد، و النفي و الاستفهام متقاربان حكما و لا دليل على امتناع تقدم البيان على المبين و خاصة مع اتصالهما و عدم الفصل بينهما.
و قوله: ﴿قَالُوا لَوْ هَدَانَا اَللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ﴾ ظاهر السياق أن المراد بالهداية هنا الهداية إلى طريق التخلص من العذاب و يمكن أن يكون المراد بها الهداية إلى الدين الحق في الدنيا، و المآل واحد لما بين الدنيا و الآخرة من التطابق، و لا يبرز في الأخرى إلا ما كان كامنا في الأولى، قال تعالى حكاية عن أهل الجنة: ﴿وَ قَالُوا اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي هَدَانَا
لِهَذَا وَ مَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لاَ أَنْ هَدَانَا اَللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ﴾: الأعراف: ٤٣ مزجوا الهدايتين بعضا ببعض كما هو ظاهر.
و قوله: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَ جَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ﴾ سواء و الاستواء و التساوي واحد، و سواء خبر لمبتدإ محذوف و الجملة الاستفهامية بيان لذلك، و قوله:
﴿مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ﴾ بيان آخر للتساوي، و المعنى الأمران متساويان علينا و بالنسبة إلينا و هما الجزع و الصبر لا مهرب لنا عن العذاب اللازم.
قوله تعالى: ﴿وَ قَالَ اَلشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ اَلْأَمْرُ﴾ إلى آخر الآية في المجمع الإصراخ الإغاثة بإجابة الصارخ و يقال: استصرخني فلان فأصرخته أي استغاث بي فأغثته. انتهى.
و هذا كلام جامع يلقيه الشيطان يوم القيامة إلى الظالمين يبين فيه موقعه منهم و ينبئ أهل الجمع منهم بوجه الحق في الرابطة التي كانت بينه و بينهم في الدنيا و قد وعد الله سبحانه أنه سينبؤهم يوم القيامة بما كانوا فيه يختلفون، و أن الحق سيظهر يوم القيامة عن قبل كل من كان له من قبله خفاء أو التباس، فالملائكة يتبرءون من شركهم و الجن و القرناء من الشياطين يطردونهم و الأصنام و الآلهة التي اتخذوها أربابا من دون الله يكفرون بشركهم، و كبراؤهم و أئمة الضلال لا يستجيبون لهم، و المجرمون أنفسهم يعترفون بضلالهم و جرمهم، كل ذلك واقعة في آيات كثيرة غير خفية على المتتبع المتدبر فيها.
و الشيطان و إن كان بمعنى الشرير و ربما أطلق في كلامه تعالى على كل شرير من الجن و الإنس كقوله: ﴿وَ كَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ اَلْإِنْسِ وَ اَلْجِنِّ﴾: الأنعام: ١١٢ لكن المراد به في الآية الشيطان الذي هو مصدر كل غواية و ضلال في بني آدم و هو إبليس فإن ظاهر السياق أنه يخاطب بكلامه هذا عامة الظالمين من أهل الجمع و يعترف أنه كان يدعوهم إلى الشرك، و قد نص القرآن على أن الذي له هذا الشأن هو إبليس و قد ادعى هو ذلك و لم يرد الله ذلك عليه كما في قوله: ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ اَلْمُخْلَصِينَ ﴾- إلى أن قال - ﴿لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ﴾: ص: ٨٥.
و أما ذريته و قبيله الذين يذكرهم القرآن بقوله: ﴿إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَ قَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا اَلشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾: الأعراف: ٢٧ و قوله:
﴿أَ فَتَتَّخِذُونَهُ وَ ذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ﴾: الكهف: ٥٠ فولاية الواحد منهم إما لبعض الناس دون بعض أو في بعض الأعمال دون بعض و أما ولاية على نحو العونية فهو العون، و الأصل الذي ينتهي إليه أمر الإضلال و الإغواء هو إبليس.
فهذا القائل: ﴿إِنَّ اَللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ اَلْحَقِّ﴾ إلخ هو إبليس يريد بكلامه رد اللوم على فعل المعاصي إليهم و التبري من شركهم فقوله: ﴿إِنَّ اَللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ اَلْحَقِّ وَ وَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ﴾ أي وعدكم الله وعدا حققه الوقوع و صدقته المشاهدة من البعث و الجمع و الحساب و فصل القضاء و الجنة و النار، و وعدتكم أنا أن لا بعث و لا حساب و لا جنة و لا نار و لم أف بما وعدت حيث ظهر خلاف ما وعدت. كذا ذكره المفسرون.
و على هذا فالموعود جميع ما يرجع إلى المعاد إثباتا و نفيا أثبته الله سبحانه و نفاه إبليس، و إخلاف الوعد كناية عن ظهور الكذب و عدم الوقوع من إطلاق الملزوم و إرادة اللازم.
و من الممكن - بل هو الوجه - أن يشمل الوعد ما يترتب على الإيمان و الشرك في الدنيا و الآخرة جميعا لأنهما متطابقتان فقد وعد الله أهل الإيمان حياة طيبة و عيشة سعيدة، و أهل الشرك المعرضين عن ذكره معيشة ضنكا و تحرجا في صدورهم و عذابا في قلوبهم في الدنيا، و وعد الجميع بعثا و حسابا و جنة و نارا في الآخرة.
و وعد إبليس أولياءه بالأهواء اللذيذة و الآمال الطويلة و أنساهم الموت و صرفهم عن البعث و الحساب و خوفهم الفقر و الذلة و ملامة الناس، و كان مفتاحه في جميع ذلك إغفالهم عن مقام ربهم و تزيين ما بين أيديهم من الأسباب مستقلة بالتأثير خالقة لآثارها و تصوير نفوسهم لهم في صورة الاستقلال مهيمنة على سائر الأسباب تدبرها كيف شاءت فتغريهم على الاعتماد بأنفسهم دون الله و تسخير الأسباب في سبيل الآمال و الأماني.
و بالجملة وعدهم الله فيما يرجع إلى الدنيا و الآخرة بما وفى لهم فيه، و دعاهم إبليس من طريق الإغفال و التزيين إلى الأوهام و الأماني و هي بين ما لا يناله الإنسان قطعا و ما إذا ناله وجده غير ما كان يظنه، فيتركه إلى ما يظنه كما يريد هذا في الدنيا
و أما الآخرة فينسيه شئونها كما تقدم.
و قوله: ﴿وَ مَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي﴾ السلطان كما ذكره الراغب هو السلاطة و هو التمكن من القهر، و تسمى الحجة أيضا سلطانا لما فيها من التمكن من قهر العقول على ما لها من النتائج، و كثيرا ما يطلق و يراد به ذو السلطان كالملك و غيره.
و الظاهر أن المراد ما هو أعم من السلطة الصورية و المعنوية فالمعنى و ما كان في الدنيا لي عليكم من تسلط لا من جهة أشخاصكم و أعيانكم فأجبركم على معصية الله بسلب اختياركم و تحميل إرادتي عليكم، و لا من جهة عقولكم فأقيم لكم الحجة على الشرك كيفما شئت فتضطر عقولكم لقبوله و تطيعها نفوسكم فيما تأمرها به.
و الظاهر أيضا أن يكون الاستثناء في قوله: ﴿إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ﴾ منقطعا و المعنى لكن دعوتكم من غير أي سلطان فاستجبتم لي، و دعوته الناس إلى الشرك و المعصية و إن كانت بإذن الله لكنها لم تكن تسليطا فإن الدعوة إلى فعل ليست تسلطا من الداعي على فعل المدعو و إن كان نوع تسلط على نفس الدعوة، و من الدليل عليه قوله تعالى فيما يأذن له ﴿وَ اِسْتَفْزِزْ مَنِ اِسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ ﴾ إلى أن قال ﴿وَ عِدْهُمْ وَ مَا يَعِدُهُمُ اَلشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَ كَفىَ بِرَبِّكَ وَكِيلاً﴾: إسراء: ٦٥.
و من هنا يظهر سقوط ما وجه به الرازي في تفسيره كون الاستثناء متصلا إذ قال: إن القدرة على حمل الإنسان على الشيء تارة تكون بالقهر من الحامل و تارة تكون بتقوية الداعية في قلبه، و ذلك بإلقاء الوسواس إليه، و هذا نوع من أنواع التسلط فكأنه قال: ما كان لي تسلط عليكم إلا بالوسوسة لا بالضرب و نحوه.
وجه السقوط: أن عدم كون مجرد الدعوة سلطانا و تمكنا من القهر على المدعو بديهي لا يقبل التشكيك فعده من أنواع التسلط مما لا يصغي إليه.
نعم: ربما انبعثت من المدعو ميل نفساني إلى المدعو إليه فانقاد للدعوة و سلط الداعي بدعوته على نفسه، لكنه تسليط من المدعو لا تسلط من الداعي و بعبارة ـ
أخرى هي سلطة يملكها المدعو من نفسه فيملكها الداعي و ليس الداعي يملكها عليه من نفسه، و إبليس إنما ينفي التسلط الذي يملكه من نفسه لا ما يسلطونه على أنفسهم بالانقياد بقرينة قوله: ﴿فَلاَ تَلُومُونِي وَ لُومُوا أَنْفُسَكُمْ﴾.
و هذا هو التسلط الذي يثبته الله سبحانه له في قوله: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَلىَ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى اَلَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَ اَلَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ﴾: النحل: ١٠٠ أو قوله: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اِتَّبَعَكَ مِنَ اَلْغَاوِينَ﴾: الحجر: ٤٢ و الآيات كما ترى ظاهرة في أن سلطانه متفرع على الاتباع و التولي و الإشراك لا بالعكس.
و لانتفاء سلطانه عليهم بالمرة استنتج قوله بعد: ﴿فَلاَ تَلُومُونِي وَ لُومُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ و الفاء للتفريع أي إذا لم يكن لي عليكم سلطان بوجه من الوجوه - كما يدل عليه وقوع النكرة في سياق النفي و التأكيد بمن في قوله: ﴿وَ مَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ﴾ - فلا يعود إلى شيء من اللوم العائد إليكم من جهة الشرك و المعصية فلا يحق لكم أن تلوموني بل الواجب عليكم أن تلوموا أنفسكم لأن لكم السلطان على عملكم.
و قوله: ﴿مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَ مَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ﴾ أي ما أنا بمغيثكم و منجيكم و ما أنتم بمغيثي و منجي فلا أنا شافع لكم و لا أنتم شافعون لي اليوم.
و قوله: ﴿إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ﴾ أي إني تبرأت من إشراككم إياي في الدنيا، و المراد بالإشراك الإشراك في الطاعة دون الإشراك في العبادة كما يظهر من قوله تعالى خطابا لأهل الجمع: ﴿أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا اَلشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَ أَنِ اُعْبُدُونِي﴾: يس: ٦١.
و هذا الكلام منه تبر من شركهم كما حكى سبحانه تبري كل متبوع باطل من تابعه يوم القيامة و هو إظهار أن إشراكهم إياه بالله في الدنيا لم يكن إلا وهما سرابيا قال تعالى: ﴿وَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ﴾: فاطر: ١٤ و قال: ﴿وَ قَالَ اَلَّذِينَ اِتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُا مِنَّا﴾: البقرة: ١٦٧ و قال: ﴿قَالَ اَلَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ اَلْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلاَءِ اَلَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ وَ قِيلَ اُدْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ﴾: القصص: ٦٤.
و قوله: ﴿إِنَّ اَلظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ من تمام كلام إبليس على ما يعطيه السياق يسجل عليهم العذاب الأليم لأنهم ظالمون ظلما لا يرجع إلا إلى أنفسهم.
و ظاهر السياق أن قوله: ﴿مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَ مَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ﴾ كناية عن انتفاء الرابطة بينه و بين تابعيه كما يشير تعالى إليه في مواضع أخرى بمثل قوله: ﴿لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَ ضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ﴾: الأنعام: ٩٤ و قوله: ﴿فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَ قَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ﴾: يونس: ٢٨.
و ذلك لظهور أنه لو لم يكن كناية لكان قوله: ﴿وَ مَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ﴾ مستدركا مستغنى عنه لعدم تعلق غرض به فلا هم يتوهمون أنهم قادرون على إغاثة إبليس و الشفاعة له و لا هو يتوهم ذلك و لا المقام يوهم ذلك فهو يقول: ﴿فَلاَ تَلُومُونِي وَ لُومُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ لأن الرابطة مقطوعة بيني و بينكم لا ينفعكم أني كنت متبوعكم و لا ينفعني أنكم كنتم أتباعي إني تبرأت من شرككم فلست بشريك له تعالى، و إنما تبرأت لأنكم ظالمون في أنفسكم و الظالمون لهم عذاب أليم لا مسوغ يومئذ للحماية عنهم و التقرب منهم.
و هذا السياق كما ترى يشهد أن تابعي إبليس يلومونه يوم القيامة على ما أصابهم من المصيبة على اتباعه متوقعين منه أن يشاركهم في مصابهم بنحو، و هو يرد عليهم ذلك بأنه لا رابط بينه و بينهم فلا يلحق لومهم إلا بأنفسهم و لا يسعه أن يماسهم و يقترب منهم لأنه يخاف العذاب الأليم الذي هيئ للظالمين و هم ظالمون، فهو قريب المعنى من قوله تعالى: ﴿كَمَثَلِ اَلشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اُكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اَللَّهَ رَبَّ اَلْعَالَمِينَ﴾: الحشر: ١٦.
و لعله من هنا قال بعضهم إن المراد بقوله: ﴿إِنِّي كَفَرْتُ﴾ إلخ... كفره في الدنيا على أن يكون ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ متعلقا بقوله: ﴿كَفَرْتُ﴾ فقط، أو به و بقوله:
﴿أَشْرَكْتُمُونِ﴾ على سبيل التنازع.
و بالجملة المطلوب العمدة في الآية أن الإنسان هو المسئول عن عمله لأن السلطان له لا لغيره فلا يلومن إلا نفسه، و أما رابطة التابعية و المتبوعية فهي وهمية لا حقيقة لها و سيظهر هذه الحقيقة يوم القيامة عند ما يتبرأ منه الشيطان و يعيد لائمته إلى نفسه كما
بين في الآية السابقة أن الرابطة بين الضعفاء و المستكبرين وهمية لا تغني عنهم شيئا عند ما تقع إليها الحاجة يوم القيامة حين انكشاف الحقائق.
و للمفسرين في فقرات الآية أقوال شتى مختلفة أغمضنا عن إيرادها، و من أراد الاطلاع عليها فليراجع مطولات التفاسير.
و في الآية دلالة واضحة على أن للإنسان سلطانا على عمله هو الذي يوجب ارتباط الجزاء به و يسلبه عن غيره، و هو الذي يعيد اللائمة إليه لا إلى غيره، و أما كونه مستقلا بهذا السلطان فلا دلالة فيها على ذلك البتة، و قد تكلمنا في ذلك في الجزء الأول من الكتاب في ذيل قوله: ﴿وَ مَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ اَلْفَاسِقِينَ﴾: البقرة: ٢٦.
قوله تعالى: ﴿وَ أُدْخِلَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ﴾ إلخ بيان ما ينتهي إليه حال السعداء من المؤمنين، و في قوله: ﴿تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ﴾ مقابلة حالهم من انعكاس السلام و التحية المباركة من بعضهم إلى بعض مع حال غيرهم المذكورين في الآيتين السابقتين من الخصام و تجبيه بعضهم بعضا بالكفر و التبري و الإيئاس.
قوله تعالى: ﴿أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اَللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَ فَرْعُهَا فِي اَلسَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾ ذكروا أن ﴿كَلِمَةً﴾ بدل اشتمال من ﴿مَثَلاً﴾ و ﴿كَشَجَرَةٍ﴾ صفة بعد صفة لقوله ﴿كَلِمَةً﴾ أو خبر مبتدإ محذوف و التقدير هي كشجرة، و قيل: إن ﴿كَلِمَةً﴾ مفعول أول متأخر لضرب و ﴿مَثَلاً﴾ مفعوله الثاني قدم لدفع محذور الفصل بين ﴿كَلِمَةً﴾ و صفتها و هي ﴿كَشَجَرَةٍ﴾ و التقدير ضرب الله كلمة طيبة كشجرة طيبة إلخ... مثلا.
و قيل: ﴿ضَرَبَ﴾ متعد لواحد و ﴿كَلِمَةً﴾ منصوب بفعل مقدر كجعل و اتخذ و التقدير ضرب الله مثلا جعل كلمة طيبة كشجرة طيبة إلخ، و أظن أن هذا أحسن الوجوه لو وجه بكون ﴿كَلِمَةً طَيِّبَةً﴾ إلخ عطف بيان لقوله: ﴿ضَرَبَ اَللَّهُ مَثَلاً﴾ من بيان الجملة للجملة، و يتعين حينئذ نصب ﴿كَلِمَةً﴾ بمقدر هو جعل أو اتخذ لأن المدلول أنه مثل الكلمة بالشجرة و شبهها بها و هو معنى قولنا: اتخذ كلمة طيبة كشجرة إلخ.
و قوله: ﴿أَصْلُهَا ثَابِتٌ﴾ أي مرتكز في الأرض ضارب بعروقه فيها، و قوله:
﴿وَ فَرْعُهَا فِي اَلسَّمَاءِ﴾ أي ما يتفرع على ذلك الأصل من أغصانها في جهة العلو فكل ما ـ
علا و أظل سماء، و قوله: ﴿تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾ أي تثمر ثمرها المأكول كل زمان بإذن الله، و هذا نهاية ما تفيده شجرة من البركات.
و اختلفوا في الآية أولا في المراد من الكلمة الطيبة فقيل: هي شهادة أن لا إله إلا الله، و قيل: الإيمان، و قيل: القرآن، و قيل: مطلق التسبيح و التنزيه، و قيل:
الثناء على الله مطلقا، و قيل: كل كلمة حسنة، و قيل: جميع الطاعات، و قيل: المؤمن.
و ثانيا في المراد من الشجرة الطيبة فقيل: النخلة و هو قول الأكثرين، و قيل:
شجرة جوز الهند، و قيل: كل شجرة تثمر ثمرة طيبة كالتين و العنب و الرمان، و قيل:
شجرة صفتها ما وصفه الله و إن لم تكن موجودة بالفعل.
ثم اختلفوا في المراد بالحين فقيل: شهران، و قيل: ستة أشهر، و قيل: سنة كاملة، و قيل: كل غداة و عشي، و قيل: جميع الأوقات.
و الاشتغال بأمثال هذه المشاجرات مما يصرف الإنسان عما يهمه من البحث عن معارف كتاب الله و الحصول على مقاصد الآيات الكريمة و أغراضها.
و الذي يعطيه التدبر في الآيات أن المراد بالكلمة الطيبة التي شبهت بشجرة طيبة من صفتها كذا و كذا هو الاعتقاد الحق الثابت فإنه تعالى يقول بعد و هو كالنتيجة المأخوذة من التمثيل: ﴿يُثَبِّتُ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ اَلثَّابِتِ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ فِي اَلْآخِرَةِ﴾ الآية و القول هي الكلمة و لا كل كلمة بما هي لفظ بل بما هي معتمدة على اعتقاد و عزم يستقيم عليه الإنسان و لا يزيغ عنه عملا.
و قد تعرض تعالى لما يقرب من هذا المعنى في مواضع من كلامه كقوله: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اَللَّهُ ثُمَّ اِسْتَقَامُوا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾: الأحقاف: ١٣ و قوله: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اَللَّهُ ثُمَّ اِسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ اَلْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَ لاَ تَحْزَنُوا﴾: حم السجدة: ٣٠ و قوله: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ اَلْكَلِمُ اَلطَّيِّبُ وَ اَلْعَمَلُ اَلصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾: فاطر: ١٠.
و هذا القول و الكلمة الطيبة هو الذي يرتب تعالى عليه تثبيته في الدنيا و الآخرة أهله و هم الذين آمنوا ثم يقابله بإضلال الظالمين و يقابله بوجه آخر بشأن المشركين، و بهذا يظهر أن المراد بالممثل هو كلمة التوحيد و شهادة أن لا إله إلا الله حق شهادته.
فالقول بالوحدانية و الاستقامة عليه هو حق القول الذي له أصل ثابت محفوظ عن كل تغير و زوال و بطلان و هو الله عز اسمه أو أرض الحقائق، و له فروع نشأت و نمت من غير عائق يعوقه عن ذلك من عقائد حقة فرعية و أخلاق زاكية و أعمال صالحة يحيي بها المؤمن حياته الطيبة و يعمر بها العالم الإنساني حق عمارته و هي التي تلائم سير النظام الكوني الذي أدى إلى ظهور الإنسان بوجوده المفطور على الاعتقاد الحق و العمل الصالح.
و الكمل من المؤمنين و هم الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فتحققوا بهذا القول الثابت و الكلمة الطيبة مثلهم كمثل قولهم الذي ثبتوا لا يزال الناس منتفعين بخيرات وجودهم و منعمين ببركاتهم.
و كذلك كل كلمة حقة و كل عمل صالح مثله هذا المثل، له أصل ثابت و فروع رشيدة و ثمرات طيبة مفيدة نافعة.
فالمثل المذكور في الآية يجري في الجميع كما يؤيده التعبير بكلمة طيبة بلفظ النكرة غير أن المراد في الآية على ما يعطيه السياق هو أصل التوحيد الذي يتفرع عليه سائر الاعتقادات الحقة، و ينمو عليه الأخلاق الزاكية و تنشأ منه الأعمال الصالحة.
ثم ختم الله سبحانه الآية بقوله: ﴿وَ يَضْرِبُ اَللَّهُ اَلْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ ليتذكر به المتذكر أن لا محيص لمريد السعادة عن التحقق بكلمة التوحيد و الاستقامة عليها.
قوله تعالى: ﴿وَ مَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اُجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ اَلْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ﴾ الاجتثاث الاقتلاع، يقال: جثته و اجتثته أي قلعته و اقتلعته، و الجث بالضم ما ارتفع من الأرض كالأكمة، و جثة الشيء شخصه الناتئ. كذا في المفردات.
و الكلمة الخبيثة ما يقابل الكلمة الطيبة و لذا اختلفوا فيها فقال كل قوم فيها ما يقابل ما قاله في الكلمة الطيبة و كذا اختلفوا في المراد بالشجرة الخبيثة فقيل: هي الحنظلة، و قيل:
الكشوث و هو نبت يلتف على الشوك و الشجر لا أصل له في الأرض و لا ورق عليه، و قيل: شجرة الثوم، و قيل: شجرة الشوك، و قيل: الطحلب، و قيل: الكمأة، و قيل: كل شجرة لا تطيب لها ثمرة.
و قد عرفت حال هذه الاختلافات في الآية السابقة، و عرفت أيضا ما يعطيه التدبر في معنى الكلمة الطيبة و ما مثلت به و يجري ما يقابله في الكلمة الخبيثة و ما
مثلت به حرفا بحرف فإنما هي كلمة الشرك مثلت بشجرة خبيثة مفروضة اقتلعت من فوق الأرض ليس لها أصل ثابت و ما لها من قرار، و إذ كانت خبيثة فلا أثر لها إلا الضر و الشر.
قوله تعالى: ﴿يُثَبِّتُ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ اَلثَّابِتِ﴾ إلى آخر الآية الظاهر أن ﴿بِالْقَوْلِ﴾ متعلق بقوله: ﴿يُثَبِّتُ﴾ لا بقوله: ﴿آمَنُوا﴾، و الباء للآلة أو السببية لا للتعدية، و أن قوله: ﴿فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ فِي اَلْآخِرَةِ﴾ متعلق أيضا بقوله: ﴿يُثَبِّتُ﴾ لا بقوله: ﴿اَلثَّابِتِ﴾.
فيعود المعنى إلى أن الذين آمنوا إذا ثبتوا على إيمانهم و استقاموا ثبتهم الله عليه في الدنيا و الآخرة، و لو لا تثبيته تعالى لهم لم ينفعهم الثبات من أنفسهم شيئا و لم يستفيدوا شيئا من فوائده فإليه تعالى يرجع الأمر كله، فقوله تعالى: ﴿يُثَبِّتُ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ اَلثَّابِتِ﴾، في باب الهداية يوازن قوله: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اَللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾: الصف - ٥ في باب الإضلال.
غير أن بين البابين فرقا و هو أن الهدى يبتدئ من الله سبحانه و يترتب عليه اهتداء العبد و الضلال يبتدئ من العبد بسوء اختياره فيجازيه الله بالضلال على الضلال، كما قال: ﴿وَ مَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ اَلْفَاسِقِينَ﴾: البقرة: ٢٦ و قد تكاثرت الآيات القرآنية أن الهداية من الله سبحانه ليس لغيره فيها صنع.
و توضيح المقام أن الله سبحانه خلق الإنسان على فطرة سليمة ركز فيها معرفة ربوبيته و ألهمها فجورها و تقواها، و هذه هداية فطرية أولية ثم أيدها بالدعوة الدينية التي قام بها أنبياؤه و رسله.
ثم إن الإنسان لو جرى على سلامة فطرته و اشتاق إلى المعرفة و العمل الصالح هداه الله فاهتدى العبد للإيمان عن هدايته تعالى، و أما جريه على سلامة الفطرة فلو سمي اهتداء فإنما هو اهتداء متفرع على السلامة الفطرية لو سميت هداية.
و لو انحرف الإنسان عن صراط الفطرة بسوء اختياره و جهل مقام ربه و أخلد إلى الأرض و اتبع الهوى و عاند الحق فهو ضلال منه غير مسبوق بإضلال من الله و حاشاه سبحانه لكنه يستعقب إضلاله عن الطريق مجازاة و تثبيته على ما هو
عليه بقطع الرحمة منه و سلب التوفيق عنه و هذا إضلال مسبوق بضلالة من نفسه بسوء اختياره و إزاغة له عن زيغ منه.
و من هنا وجه اختلاف السياق في الآيتين أما قوله: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اَللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ فقد فرض فيه زيغ منهم ثم أزاغه منه تعالى و أما قوله: ﴿يُثَبِّتُ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ اَلثَّابِتِ﴾ فقد فرض فيه إيمان ثابت على التثبيت و هو في نفسه يستلزم هداية منه و اهتداء منهم ثم أضيف إلى ذلك القول الثابت و هو ثباتهم و استقامتهم بحسن اختيارهم على ما آمنوا به و هو فعلهم فيعقبه الله بتثبيتهم بسبب ذاك القول الثابت و حفظهم من الزيغ و الزلل يدفع عنهم بذلك مخاطر الحياة في الدنيا و الآخرة و هذا هداية منه تعالى غير مسبوقة باهتداء من عند أنفسهم يرتبط بها فافهم ذلك.
و كيف كان فهذا التثبيت بالنظر إلى التمثيل بمنزلة إحكام الشجرة الطيبة من جهة ثبوت أصلها في الأرض، و إذا ثبت أصل الشجرة نمت و تفرعت بالفروع و أتت بالأثمار في كل حين و الدنيا و الآخرة تحاذيان: ﴿كُلَّ حِينٍ﴾ فإن الدنيا و الآخرة تشملان جميع الأحيان فهذا ما يعطيه السياق من معنى الآية.
و قيل: إن المعنى يثبت الله الذين آمنوا و يقرهم في كرامته و ثوابه بالقول الثابت الذي وجد منهم و هو كلمة الإيمان لأنه ثابت بالحجج و الأدلة فالمراد بتثبيتهم تقريبهم منه و إسكانهم الجنة و بثبوت قولهم تأيده بالحجة و البرهان، و فيه أنه تقييد من غير مقيد.
و قيل: المعنى أنه يثبتهم بالتمكين في الأرض و النصرة و الفتح و الغلبة في الدنيا و إسكان الجنة في الآخرة. و هو بعيد من السياق.
و قوله: ﴿وَ يُضِلُّ اَللَّهُ اَلظَّالِمِينَ﴾ ظاهر المقابلة بين الظالمين و الذين آمنوا في الجملة السابقة أن المراد بهم أهل الكفر بالله و بآياته على أنه تعالى فسر الظالمين بقول مطلق في بعض كلامه بما يقرب منه إذ قال: ﴿أَنْ لَعْنَةُ اَللَّهِ عَلَى اَلظَّالِمِينَ اَلَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ وَ يَبْغُونَهَا عِوَجاً وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ﴾: الأعراف: ٤٥.
و الجملة كالنتيجة المستخرجة من المثل الثاني المذكور: ﴿وَ مَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اُجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ اَلْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ﴾ و المعنى أن الله يضل أهل
الكفر بحرمانهم من صراط الهداية فلا يهتدون إلى عيشة سعيدة في الدنيا و لا إلى نعمة باقية و رضوان من الله في الآخرة فلا يوجد عندهم إن كشف عن قلوبهم إلا الشك و التردد و القلق و الاضطراب و الأسى و الأسف و الحسرة.
و قوله: ﴿وَ يَفْعَلُ اَللَّهُ مَا يَشَاءُ﴾ أي يجري تثبيت هؤلاء و إضلال أولئك على ما تقتضيه مشيته لا مانع له و لا دافع فلا حائل بين مشيته و فعله.
و يظهر من ذلك أن الله تعالى قد شاء تثبيت هؤلاء و إضلال أولئك و هو فاعلهما لا محالة فمن القضاء المحتوم سعادة المؤمن و شقاء الكافر و قد وردت به الرواية.
و وقوع لفظ الجلالة في قوله: ﴿وَ يُضِلُّ اَللَّهُ﴾ و قوله: ﴿وَ يَفْعَلُ اَللَّهُ﴾ من وقوع الظاهر موقع المضمر و يدل على فخامة الأمر و مهابة الموقف كما قيل.
قوله تعالى: ﴿أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اَللَّهِ كُفْراً وَ أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ اَلْبَوَارِ﴾ قال في المجمع: الإحلال وضع الشيء في محل إما بمجاورة إن كان من قبيل الأجسام أو بمداخلة إن كان من قبيل الأعراض، و البوار الهلاك يقال: بار الشيء يبور بورا إذا هلك و رجل بور أي هالك و قوم بور أيضا. انتهى.
و قال الراغب: البوار فرط الكساد و لما كان فرط الكساد يؤدي إلى الفساد كما قيل: كسد حتى فسد، عبر بالبوار عن الهلاك يقال: بار الشيء يبور بورا و بؤرا قال عز و جل: ﴿تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ﴾ انتهى.
و الآية تذكر حال أئمة الكفر و رؤساء الضلال في ظلمهم و كفرانهم نعمة الله سبحانه التي أحاطت بهم من كل جهة بدل أن يشكروها و يؤمنوا بربهم، و قد ذكر قبل كيفية خلقه تعالى السماوات و الأرض على غنى منه و هي نعمة، ثم ذكر كلمة الحق التي يدعو إليها و ما لها من الآثار الثابتة الطيبة و هي نعمة.
و الآية مطلقة لا دليل على تقييدها بكفار مكة أو كفار قريش و إن كان الخطاب فيها للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و كان في ذيلها مثل قوله: ﴿قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى اَلنَّارِ﴾ لظهور أن ذلك لا يوجب تقييدا في الآية مع إطلاق مضمونها و شمولها للطواغيت من الأمم و ما صنعوا بأقوامهم.
فقوله: ﴿أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اَللَّهِ كُفْراً﴾ يذكر حال أئمة الكفر و رؤساء
الضلال من الأمم السابقة و من هذه الأمة و الدليل على اختصاصه بهم قوله: ﴿وَ أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ اَلْبَوَارِ﴾ المشعر بكونهم نافذي الكلمة مطاعين في قومهم فهم الأئمة و الرؤساء.
و المراد بتبديلهم نعمة الله كفرا تبديلهم شكر نعمته الواجب عليهم كفرا ففي الجملة مضاف محذوف و التقدير: بدلوا شكر نعمة الله كفرا، و يمكن أن يراد تبديل نفس النعمة كفرا بنوع من التجوز، و نظير الآية في هذه العناية قوله تعالى:
﴿وَ تَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ﴾: الواقعة: ٨٢.
و ذكر إحلالهم قومهم دار البوار يستلزم إحلال أنفسهم فيها لأنهم أئمة الضلال ضلوا ثم أضلوا و التبعة تبعة الضلال، و نظير الآية في هذا المعنى قوله في فرعون:
﴿يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ اَلنَّارَ﴾: هود: ٩٨.
و المعنى أ لم تنظر إلى الأئمة و الرؤساء من الأمم السابقة و من أمتك الذين بدلوا شكر نعمة الله كفرا و اتبعتهم قومهم فحلوا و أحلوا قومهم دار الهلاك و هو الشقاء و النار.
قوله تعالى: ﴿جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَ بِئْسَ اَلْقَرَارُ﴾ بيان لدار البوار، و احتمال بعضهم أن يكون: ﴿جَهَنَّمَ﴾ منصوبا بالاشتغال و التقدير يصلون جهنم يصلونها و الجملة مستأنفة خال عن الوجه لأن النصب مرجوح و لا نكتة تستوجب الاستئناف.
و من هنا يظهر فساد قول من قال إن الآيات مدنية و المراد بالذين كفروا هم عظماء مكة و صناديد قريش الذين جمعوا الجموع على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و حاربوه ببدر فقتلوا و أحلوا قومهم دار البوار.
و ذلك أنك عرفت من معنى الآية أنها مطلقة و لا موجب لتخصيصها بقتلى بدر من الكفار أصلا، بل الآية تشمل كل إمام ضلال أحل قومه دار البوار ممن تقدم و تأخر، و المراد بإحلال دار البوار إقرارهم في شقاء النار و إن لم يقتلوا و لا ماتوا و لا دخلوا النار بعد.
على أن ظاهر الآية التالية ﴿وَ جَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى اَلنَّارِ﴾ أن ضمير الجمع راجع إلى الذين كفروا المذكورين في هذه الآية و لازمه كون خطاب قل تمتعوا خطابا للباقين منهم و هم الذين أسلموا يوم الفتح و هو إيعاد بشقاء قطعي منجز من غير استثناء.
قوله تعالى: ﴿وَ جَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى اَلنَّارِ﴾ الأنداد جمع ند و هو المثل و هم الآلهة الذين اتخذوهم آلهة من دون الله من الملائكة و الجن و الإنس.
و إنما جعلوها أندادا مع اعترافهم بأنهم مخلوقون لله سبحانه من جهة أنهم سموهم آلهة و أربابا و نسبوا إليهم تدبير أمر العالم ثم عبدوهم خوفا و طمعا مع أن الأمر و الخلق كله لله و قد اعترفت بذلك فطرتهم و أيد الله ذلك بما ألهمه أنبياءه و رسله من الآيات و الحجج الدالة على وحدانيته.
فهم كانوا على بصيرة من أمر التوحيد لم يتخذوا الأنداد عن غفلة أو خطإ بل عمدوا إلى ذلك ابتغاء عرض الحياة الدنيا و ليستعبدوا الناس و يستدروهم بإضلالهم عن سبيل الله، و لذلك علل اتخاذهم الأنداد بقوله: ﴿لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ﴾ ثم أمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يوعدهم بالنار التي إليها مرجعهم لا مرجع لهم سواها فقال: ﴿قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى اَلنَّارِ﴾.
و كان من طبع الكلام أن يقال لهم: اتخذوا الأنداد أو أضلوا عن سبيل الله فإن مصيركم إلى النار، لكن بدل من قوله: ﴿تَمَتَّعُوا﴾ ليصرح بغرضهم الفاسد الذي كانوا يخفونه ليكون أبلغ في فضاحتهم.
قوله تعالى: ﴿قُلْ لِعِبَادِيَ اَلَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا اَلصَّلاَةَ وَ يُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَ عَلاَنِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَ بَيْعٌ فِيهِ وَ لاَ خِلاَلٌ﴾ لما توعدهم على لسان رسوله بعذاب يوم القيامة لإضلالهم الناس عن سبيل الله، أمره أن يأمر عباده الذين آمنوا بالتزام سبيله من قبل أن يأتي يوم القيامة فلا يسعهم تدارك ما فات منهم من السعادة بشيء من الأسباب الدائرة بينهم لذلك و هي ترجع إلى أحد شيئين: إما المعارضة بإعطاء شيء و أخذ ما يعادله و هو البيع بالمعنى الأعم، و إما الخلة و المحبة، و لا أثر من هذه الأسباب في يوم محض للحساب و الجزاء فإن ذلك شأن يوم القيامة لا شأن له دون ذلك.
و من هنا يظهر أن قوله: ﴿يُقِيمُوا اَلصَّلاَةَ وَ يُنْفِقُوا﴾ بيان لسبيل الله و قد اكتفى بهذين الركنين اللذين بهما يلحق سائر الوظائف الشرعية مما يصلح حياة الإنسان الدنيوية فيما بينه و بين ربه و ما بينه و بين سائر أفراد نوعه.
و قوله: ﴿يُقِيمُوا اَلصَّلاَةَ وَ يُنْفِقُوا﴾ إلخ مجزومان لوقوعهما في جواب الأمر و مقول القول محذوف لدلالة الفعلين عليه، و التقدير: قل: أقيموا الصلاة و أنفقوا «إلخ» يقيموا الصلاة و ينفقوا «إلخ».
و الإشكال فيه بأن المجزوم في جواب الأمر يجب أن يكون مترتبا عليه و لا يلزم من الأمر بالصلاة و الإنفاق أن يطيعوا ذلك.
ساقط فإن اللازم فيه أن يكون الجواب مما يقتضيه الأمر بوجه، و أمر عباده المؤمنين و هم عباد مؤمنون مما يقتضي الطاعة بلا إشكال.
و الإنفاق المذكور في الآية مطلق الإنفاق في سبيل الله فإن السورة مكية و لم تنزل آية الزكاة بعد، و المراد بالإنفاق سرا و علانية أن يجري الإنفاق على ما يقتضيه الأدب الديني الحق فيسر به فيما يحسن الإسرار و يعلن فيما يحسن الإعلان، و المطلوب بذلك على أي حال الإتيان بما يصلح ما في مظنة الفساد و يقيم أود المجتمع من أمور المسلمين.
و لا ينافي ما في هذه الآية من نفي المخالة قوله تعالى: ﴿اَلْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ اَلْمُتَّقِينَ﴾: الزخرف: ٦٧ فإن النسبة بين الآيتين نسبة العموم و الخصوص المطلق فتخصص هذه الآية بتلك الآية و يتحصل المراد من الآيتين أن كل خلة من غير جهة التقوى ترتفع يوم القيامة، و أما الخلة التي من جهتها و هي الخلة في ذات الله فإنها تثبت و تنفع فنفي الخلال مطلقا ثم إثبات بعضه في الآيتين نظير نفي الشفاعة مطلقا في قوله: ﴿وَ لاَ خُلَّةٌ وَ لاَ شَفَاعَةٌ﴾: البقرة: ٢٥٤ ثم إثباتها فيما كان بإذن الله كما في قوله:
﴿إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ﴾: الزخرف: ٨٦.
و ما قيل في نفي التنافي: إن المراد بالخلال في الآية النافية المخالة التي هي من الأسباب الدنيوية لتدارك ما فات بخلاف ما في الآية المثبتة، و كذا ما قيل إن المراد بالمخالة المنفية هي التي تكون بحسب ميل الطبع و رغبة النفس بخلاف المخالة المثبتة فإنها التي تكون في ذات الله، مرجعهما بالحقيقة إلى ما ذكرناه.
قوله تعالى: ﴿اَللَّهُ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ﴾ إلخ، لما ذكر سبحانه جعلهم لله أندادا لإضلال الناس عن سبيل الله و أوعد عليه أورد في هذه الآية إلى تمام
ثلاث آيات الحجة على اختصاص الربوبية بنفسه تعالى و تقدس من طريق اختصاص التدبير العام به من نظم الخلقة و إنزال الماء و إخراج الرزق و تسخير البحار الفلك و الأنهار و الشمس و القمر و الليل و النهار.
و أشار في آخر الآيات إلى أنها و ما لا تحصى من غيرها نعمة منه تعالى للإنسان لأن البيان في هذه السورة - كما تقدمت الإشارة إليه يجري في ضوء الاسمين: العزيز الحميد.
فقوله: ﴿اَللَّهُ اَلَّذِي خَلَقَ﴾ إلخ، في معنى قولنا: فهو الرب وحده دون الذين جعلتموهم أندادا له.
و قوله: ﴿وَ أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ﴾ إلخ، المراد بالسماء جهة العلو و هو معناها اللغوي، و الماء النازل منها هو المطر النازل منها فإليه ينتهي الماء في الأرض الذي تعيش به ذوات الحياة من النبات و الحيوان.
قوله تعالى: ﴿وَ سَخَّرَ لَكُمُ اَلْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي اَلْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَ سَخَّرَ لَكُمُ اَلْأَنْهَارَ﴾ تسخير الفلك للناس هو جعلها بحيث تنفعهم في مقاصدهم و هي العبور بأنفسهم و أحمالهم و غير ذلك من غير أن ترسب في الماء أو تمتنع عن الحركة.
و أما قول بعضهم: تسخيرها لهم هو إقدارهم على صنعتها و استعمالها بإلهامهم طريق ذلك بعيد، فإن الظاهر من تسخير شيء للإنسان هو التصرف فيه بجعله موافقا لما يقصده من منافع نفسه دون التصرف في الإنسان نفسه بإلهام و نحوه.
و كان من طبع الكلام أن يقال: و سخر لكم البحر لتجري فيه الفلك بأمره و سخر لكم الأنهار غير أنه عكس، و قيل: و سخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره لكون الفلك من أوضح النعم البحرية و إن لم تنحصر فيها نعمه و لعل ذلك هو السبب في العكس، لأن المقام مقام عد النعمة و النعمة في الفلك أوضح و إن كانت في البحر أعظم.
و إسناد جريها في البحر إلى أمره تعالى مع كونه مستندا إلى الأسباب الطبيعية العاملة كالريح و البخار و سائر الأسباب، لكونه تعالى هو السبب المحيط الذي إليه ينتهي كل سبب.
و قوله: ﴿وَ سَخَّرَ لَكُمُ اَلْأَنْهَارَ﴾ و هي المياه الجارية في مختلف أقطار الأرض و تسخيرها هو تدليلها بحيث ينتفع بها الإنسان بالشرب و الغسل و إزالة الأوساخ و غير ذلك و يعيش بها الحيوان و النبات المسخران له.
قوله تعالى: ﴿وَ سَخَّرَ لَكُمُ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَ سَخَّرَ لَكُمُ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهَارَ﴾ قال الراغب: الدأب إدامة السير دأب في السير دأبا، قال تعالى: ﴿وَ سَخَّرَ لَكُمُ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ دَائِبَيْنِ﴾ و الدأب العادة المستمرة دائما على حالة، قال تعالى: ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ﴾ أي كعادتهم التي يستمرون عليها. انتهى، و معنى الآية واضح.
قوله تعالى: ﴿وَ آتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اَللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اَلْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾ السؤال هو الطلب و يفارقه أن السؤال إنما يكون ممن يعقل و الطلب أعم و إنما تنبه الإنسان للسؤال من جهة الحاجة الداعية إليه فأظهر له أن يرفع ما حلت به من حاجة و كانت الوسيلة العادية إليه هي اللفظ فتوسل به إليه و ربما توسل إليه بإشارة أو كتابة و سمي سؤالا حقيقة من غير تجوز.
و إذ كان الله سبحانه هو الذي يرفع حاجة كل محتاج ممن سواه لا يتعلق شيء بذاته فيما يحتاج إليه في وجوده و بقائه إلا بذيل جوده و كرمه سواء أقر به أو أنكره و هو تعالى أعلم بهم و بحاجاتهم ظاهرة و باطنة من أنفسهم كان كل من سواه عاكفا على باب جوده سائلا يسأله رفع ما حلت به من حاجة سواء أعطاه أو منعه و سواء أجابه في جميع ما سأل أو بعضه.
هذا هو حق السؤال و حقيقته يختص به تعالى لا يتعداه إلى غيره، و من السؤال ما هو لفظي كما تقدم ربما يسأل به الله سبحانه و ربما يسأل به غيره فهو تعالى مسئول يسأله كل شيء بحقيقة السؤال و يسأله بعض الناس من المؤمنين به بالسؤال اللفظي.
هذا بالنسبة إلى السؤال و أما بالنسبة إلى الإيتاء و هو الإعطاء فقد أطلق من غير أن يقيد باستثناء و نحوه فيدل على أنه ما من سؤال إلا و عنده إعطاء و هذه قرينة أن الخطاب للنوع كما يؤيده أيضا قوله ذيلا ﴿إِنَّ اَلْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾.
و المعنى أن النوع الإنساني لم يحتج بنوعيته إلى نعمة من النعم إلا رفع الله حاجته
إما كلا أو بعضا و إن كان الفرد منه ربما احتاج و سأل و لم يقض حاجته.
و هذا المعنى هو الذي يؤيده قوله تعالى: ﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ اَلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾: البقرة: ١٨٦ فقد مر في تفسير الآية أنه تعالى لا يرد دعاء من دعاه إلا أن لا يكون دعاء حقيقة أو يكون دعاء إلا أنه ليس دعاءه بل دعاء غيره و الفرد من الإنسان ربما لم يواطئ لسانه قلبه أو لغا في دعائه لكن النوع بنوعيته لا يعرف هذرا و لا نفاقا و لا يعرف ربا غيره سبحانه فكلما مسته حاجة فإنه يسأله حقيقة و لا يسأله إلا من ربه فجميع أدعيته مستجابة و سؤالاته مؤتاة و حاجاته مقضية.
و قد ظهر مما تقدم أن ﴿مِنْ﴾ في قوله: ﴿مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ﴾ ابتدائية تفيد أن الذي يؤتيه الله مأخوذ مما سألوه سواء كان جميع ما سألوه كما في بعض الموارد أو بعضه كما في بعضها الآخر، و لو كانت من تبعيضية لأفادت أنه تعالى يؤتي في كل سؤال بعض المسئول و الواقع خلافه كما أنه لو قيل: و آتاكم كل ما سألتموه أفاد إيتاء الجميع و ليس كذلك و لو قيل: مما سألتموه أفاد أن من الجائز أن لا يستجاب بعض الأدعية و يرد بعض الأسئلة من أصله و الآية و هي في مقام الامتنان تأبى ذلك.
فبالجملة معنى الآية أن الله تعالى أعطى النوع الإنساني ما سأله فما من حاجة من حوائجه إلا رفع كلها أو بعضها حسب ما تقتضيه حكمته البالغة.
و ربما قيل: إن تقدير الكلام: و آتاكم من كل ما سألتموه و ما لم تسألوه و هو مبني على كون المراد بالسؤال هو السؤال اللفظي و قد تقدم خلافه، و سياق الآية لا يساعد عليه.
و قوله: ﴿وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اَللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا﴾ قال الراغب: الإحصاء: التحصيل بالعدد يقال: أحصيت كذا و ذلك من لفظ الحصى و استعمال ذلك فيه من حيث إنهم كانوا يعتمدونه بالعد كاعتمادنا فيه على الأصابع. انتهى.
و في الجملة إشارة إلى خروج النعم عن طوق الإحصاء و لازمه كون حوائج الإنسان التي رفعها الله بنعمه غير مقدور للإنسان إحصاؤها.
و كيف يمكن إحصاء نعمه تعالى و عالم الوجود بجميع أجزائه و ما يلحق بها من الأوصاف و الأحوال مرتبطة منتظمة نافع بعضها في بعض متوقف بعضها على بعض،
فالجميع نعمه بالنسبة إلى الجميع و هذا أمر لا يحيط به إحصاء.
و لعل ذلك هو السر في إفراد النعمة في قوله: ﴿نِعْمَتَ اَللَّهِ﴾ فإن الحق أن ليس هناك إلا النعمة فلا حاجة إلى تفخيمها بالجمع ليدل على الكثرة، و المراد بالنعمة جنس المنعم فيفيد ما يفيده الجمع.
و قوله: ﴿إِنَّ اَلْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾ أي كثير الكفران يظلم نفسه فلا يشكر نعمة الله و يكفر بها فيؤديه ذلك إلى البوار و الخسران، أو كثير الظلم لنعم الله لا يشكرها و يكفر بها، و الجملة استئناف بياني يؤكد بها ما يستفاد من البيان السابق، فإن الواقف على ما مر بيانه من حال نعمه تعالى و ما آتى الإنسان من كل ما سأله منها لا يرتاب في أن الإنسان و هو غافل عنها طبعا ظالم لنفسه كافر بنعمة ربه.
(بحث روائي)
في الدر المنثور، أخرج الترمذي و النسائي و البزار و أبو يعلى و ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن حيان و الحاكم و صححه و ابن مردويه عن أنس قال: أتي رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بقناع من بسر فقال: ﴿مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ﴾ حتى بلغ ﴿تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾. قال: هي النخلة. ﴿وَ مَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ﴾ حتى بلغ ﴿مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ﴾. قال: هي الحنظلة. أقول: و كون الشجرة الطيبة هي النخلة مروي في عدة روايات عنه (ص)، و هي لا تدل على أزيد من انطباق المثل عليها، و ذيل الرواية ينافي الرواية التالية.
و فيه، أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قعد ناس من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فذكروا هذه الآية: ﴿اُجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ اَلْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ﴾ فقالوا: يا رسول الله نراه الكمأة، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): الكمأة من المن و ماؤها شفاء للعين، و العجوة من الجنة و هي شفاء من السم.
أقول: و الكلام يجري في الحنظلة فإن لها خواص طبية هامة.
و فيه، أخرج البيهقي في سننه عن علي قال: الحين ستة أشهر.
أقول: و الكلام فيه كالكلام في سابقه.
و في الكافي، بإسناده عن عمرو بن حريث قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله: ﴿كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَ فَرْعُهَا فِي اَلسَّمَاءِ﴾ قال: فقال: رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) أصلها و أمير المؤمنين فرعها و الأئمة من ذريتهما أغصانها و علم الأئمة ثمرتها و شيعتهم المؤمنون ورقها هل في هذا فضل؟ قال: قلت: لا و الله. قال: و الله إن المؤمن ليولد فتورق ورقة فيها، و إن المؤمن ليموت فتسقط ورقة منها.
أقول: و الرواية مبنية على كون المراد بالكلمة الطيبة هو النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و قد أطلقت الكلمة في كلامه على الإنسان كقوله: ﴿بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اِسْمُهُ اَلْمَسِيحُ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ﴾: آل عمران ٤٥، و مع ذلك فالرواية من باب التطبيق و من الدليل عليه اختلاف الروايات في كيفية التطبيق ففي بعضها أن الأصل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و الفرع علي (عليه السلام) و الأغصان الأئمة (عليه السلام) و الثمرة علمهم و الورق الشيعة كما في هذه الرواية، و في بعضها أن الشجرة رسول الله و فرعها علي و الغصن فاطمة و ثمرها أولادها و ورقها شيعتنا كما فيما رواه الصدوق عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام)، و في بعضها أن النبي و الأئمة هم الأصل الثابت و الفرع الولاية لمن دخل فيها كما في الكافي، بإسناده عن محمد الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام).
و في المجمع، روى أبو الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): أن هذا يعني قوله: ﴿كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ﴾ إلخ مثل بني أمية.
و في تفسير العياشي، عن عبد الرحمن بن سالم الأشل عن أبيه عن أبي عبد الله (عليه السلام): ﴿ضَرَبَ اَللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ﴾ الآيتين قال: هذا مثل ضربه الله لأهل بيت نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و لمن عاداهم هو مثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار أقول:
قال الآلوسي في تفسير روح المعاني، ما لفظه ":و روى الإمامية و أنت تعرف حالهم عن أبي جعفر رضي الله عنه تفسيرها يعني الشجرة الخبيثة ببني أمية و تفسير الشجرة الطيبة برسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و علي كرم الله وجهه و فاطمة رضي الله عنها و ما تولد منهما، و في بعض روايات أهل السنة ما يعكر على تفسير الشجرة
الخبيثة ببني أمية،- فقد أخرج ابن مردويه عن عدي بن حاتم قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): إن الله تعالى قلب العباد ظهرا و بطنا فكان خير عباده العرب و قلب العرب ظهرا و بطنا فكان خير العرب قريشا و هي الشجرة المباركة التي قال الله تعالى في كتابه ﴿مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ﴾ لأن بني أمية من قريش. انتهى موضع الحاجة.
و هو عجيب فإن كون أمة أو طائفة مباركة بحسب طبعهم لا يوجب كون جميع الشعب المنشعبة منها كذلك فالرواية على تقدير تسليمها لا تدل إلا على أن قريشا شجرة مباركة و أما أن جميع الشعب المنشعبة منها مباركة طيبة كبني عبد الدار مثلا أو كون كل فرد منهم كذلك كأبي جهل و أبي لهب فلا قطعا فأي ملازمة بين كون شجرة بحسب أصلها مباركة طيبة و بين كون بعض فروعها التي انفصلت منها و نمت نماء فاسدا، مباركا طيبا؟.
و قد روى ابن مردويه هذا عن عائشة: أنها قالت لمروان بن الحكم سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يقول لأبيك و جدك: إنكم الشجرة الملعونة في القرآن. و روى أصحاب التفاسير كالطبري و غيره عن سهل بن ساعد و عبد الله بن عمر و يعلى بن مرة و الحسين بن علي و سعيد بن المسيب :أنهم الذين نزل فيهم قوله تعالى:
﴿وَ مَا جَعَلْنَا اَلرُّؤْيَا اَلَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَ اَلشَّجَرَةَ اَلْمَلْعُونَةَ فِي اَلْقُرْآنِ﴾ الآية، و لفظ سعد: رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بني فلان ينزون على منبره نزو القردة فساءه ذلك فما استجمع ضاحكا حتى مات، و أنزل الله: ﴿وَ مَا جَعَلْنَا اَلرُّؤْيَا﴾ الآية.
و ستأتي الرواية عن عمر و عن علي: في تفسير قوله: ﴿اَلَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اَللَّهِ كُفْراً﴾ أنهم الأفجران من قريش بنو المغيرة و بنو أمية.
و في تفسير العياشي، عن صفوان بن مهران عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: الشيطان ليأتي الرجل من أوليائنا فيأتيه عند موته و يأتيه عن يمينه و عن يساره ليصده عما هو عليه فيأبى الله ذلك و كذلك قال الله: ﴿يُثَبِّتُ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ اَلثَّابِتِ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ فِي اَلْآخِرَةِ﴾.
و فيه، عن زرارة و حمران و محمد بن مسلم عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) قالا: إذا وضع الرجل في قبره أتاه ملكان ملك عن يمينه و ملك عن شماله و أقيم الشيطان بين
يديه عيناه من نحاس فيقال له: ما تقول في هذا الرجل الذي خرج من بين ظهرانيكم يزعم أنه رسول الله؟ فيفزع لذلك فزعة فيقول إن كان مؤمنا: محمد رسول الله فيقال عند ذلك: نم نومة لا حلم فيها و يفسح له في قبره تسعة أذرع و يرى مقعده من الجنة و هو قول الله: ﴿يُثَبِّتُ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ اَلثَّابِتِ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا﴾ و إن كان كافرا قالوا: من هذا الرجل الذي كان بين ظهرانيكم يقول: إنه رسول الله؟ فيقول:
ما أدري فيخلى بينه و بين الشيطان. و في الدر المنثور، أخرج الطيالسي و البخاري و مسلم و أبو داود و الترمذي و النسائي و ابن ماجة و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن البراء بن عازب أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: المسلم إذا سئل في القبر يشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله فذلك قوله سبحانه: ﴿يُثَبِّتُ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ اَلثَّابِتِ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ فِي اَلْآخِرَةِ﴾.
و فيه، أخرج الطبراني في الأوسط و ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يقول في هذه الآية: ﴿يُثَبِّتُ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ اَلثَّابِتِ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ فِي اَلْآخِرَةِ﴾ قال: في الآخرة القبر.
أقول: و هناك روايات كثيرة من طرق الشيعة و أهل السنة وردت في تفصيل سؤال القبر و إتيان الملكين منكر و نكير و ثبات المؤمن و ضلال الكافر عند ذلك و قد وقع في كثير منها التمسك بالآية.
و ظاهرها أن المراد بالآخرة هو القبر و عالم الموت، و لعل ذلك مبني على ظاهر معنى التثبيت فإن الظاهر من إعطاء الثبات أن يكون في مقام يجوز فيه الزلل و الخبط، و هذا إنما يتصور في غير يوم القيامة الذي ليس فيه إلا المجازاة بالأعمال و أما بالنظر إلى أن كل ثابت في الوجود فإنما ثباته بالله سبحانه سواء كان مما يجوز عليه الزوال أم لا فلا فرق بين البرزخ و القيامة في أن المؤمن ثابت بتثبيت الله سبحانه و الأولى أخذ الروايات من قبيل التطبيق.
و في تفسير العياشي، عن الأصبغ بن نباتة قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في
قوله: ﴿أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اَللَّهِ كُفْراً﴾ قال: نحن نعمة الله التي أنعم الله بها على العباد. أقول: و هو من الجري و التطبيق.
و فيه، عن معصم المسرف عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) في قوله: ﴿وَ أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ اَلْبَوَارِ﴾ قال: هما الأفجران من قريش بنو أمية و بنو المغيرة:
أقول: و رواه أيضا في البرهان، عن ابن شهر آشوب عن أبي الطفيل عنه (عليه السلام). و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الطبراني في الأوسط و ابن مردويه و الحاكم و صححه من طرق عن علي بن أبي طالب في قوله: ﴿أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اَللَّهِ كُفْراً﴾ قال: هما الأفجران من قريش بنو أمية و بنو المغيرة فأما بنو المغيرة فقطع الله دابرهم يوم بدر و أما بنو أمية فمتعوا إلى حين.
أقول: و هو مروي عن عمر كما يأتي.
و فيه، أخرج البخاري في تاريخه و ابن جرير و ابن المنذر و ابن مردويه عن عمر بن الخطاب في قوله: ﴿أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اَللَّهِ كُفْراً﴾ قال: هما الأفجران من قريش بنو المغيرة و بنو أمية، فأما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر، و أما بنو أمية فمتعوا إلى حين.
و فيه، أخرج ابن مردويه عن ابن عباس :أنه قال لعمر: يا أمير المؤمنين هذه الآية: ﴿اَلَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اَللَّهِ كُفْراً﴾ قال: هم الأفجران من قريش أخوالي و أعمامك فأما أخوالي فاستأصلهم الله يوم بدر و أما أعمامك فأملى الله لهم إلى حين.
و في تفسير العياشي، عن ذريح عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: جاء ابن الكواء إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فسأله عن قول الله: ﴿أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ بَدَّلُوا﴾ الآية قال: تلك قريش بدلوا نعمة الله كفرا و كذبوا نبيه يوم بدر.
أقول: و اختلاف التطبيق في كلامه (عليه السلام) من الشاهد على أنه من باب بيان انطباق الآية لا من قبيل سبب النزول.
و في الكافي، عن علي بن محمد عن بعض أصحابه رفعه قال: كان علي بن الحسين (عليه السلام) إذا قرأ هذه الآية: ﴿وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اَللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا﴾ يقول: سبحان الذي لم
يجعل في أحد من معرفة نعمه إلا المعرفة بالتقصير عن معرفتها كما لم يجعل في أحد [من] معرفة إدراكه أكثر من العلم أنه لا يدركه فشكر جل و عز معرفة العارفين بالتقصير عن معرفة شكره فجعل معرفتهم بالتقصير شكرا كما علم علم العالمين أنهم لا يدركونه فجعله علما. الحديث.
[سورة إبراهيم (١٤): الآیات ٣٥ الی ٤١]
﴿وَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اِجْعَلْ هَذَا اَلْبَلَدَ آمِناً وَ اُجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ اَلْأَصْنَامَ ٣٥رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ اَلنَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَ مَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ٣٦رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ اَلْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا اَلصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ اَلنَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَ اُرْزُقْهُمْ مِنَ اَلثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ٣٧رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَ مَا نُعْلِنُ وَ مَا يَخْفىَ عَلَى اَللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي اَلْأَرْضِ وَ لاَ فِي اَلسَّمَاءِ ٣٨اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى اَلْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَ إِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ اَلدُّعَاءِ ٣٩رَبِّ اِجْعَلْنِي مُقِيمَ اَلصَّلاَةِ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَ تَقَبَّلْ دُعَاءِ ٤٠رَبَّنَا اِغْفِرْ لِي وَ لِوَالِدَيَّ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ اَلْحِسَابُ ٤١﴾
(بيان)
تتضمن الآيات تذكرة ثانية بجملة من نعمه عقيب التذكرة الأولى التي يتضمنها قوله: ﴿وَ إِذْ قَالَ مُوسىَ لِقَوْمِهِ اُذْكُرُوا نِعْمَةَ اَللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ﴾ الآية
فذكر سبحانه أولا نعمته على جمع من عباده المؤمنين و هم بنو إسرائيل من ولد إبراهيم ثم ذكر ثانيا نعمته على جمع آخر منهم و هم بنو إسماعيل من ولد إبراهيم و هي التي يتضمنها دعاء إبراهيم (عليه السلام): ﴿رَبِّ اِجْعَلْ هَذَا اَلْبَلَدَ آمِناً﴾ إلى آخر دعائه و فيها نعمة توفيقه تعالى لهم أن يجتنبوا عبادة الأصنام و نعمة الأمن بمكة و ميل الأفئدة إلى أهله و رزقهم من الثمرات و غير ذلك كل ذلك لأن الله سبحانه هو العزيز الحميد.
قوله تعالى: ﴿وَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اِجْعَلْ هَذَا اَلْبَلَدَ آمِناً﴾ أي و اذكر إذ قال إبراهيم و الإشارة إلى مكة شرفها الله تعالى.
و قد حكى الله سبحانه نظير هذا الدعاء على اختصار فيه عن إبراهيم (عليه السلام) في موضع آخر بقوله: ﴿وَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اِجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَ اُرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ اَلثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ قَالَ وَ مَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلىَ عَذَابِ اَلنَّارِ وَ بِئْسَ اَلْمَصِيرُ﴾: البقرة: ١٢٦.
و من الممكن أن يستفاد من اختلاف المحكيين في التعبير أعني قوله: ﴿اِجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً﴾ و قوله: ﴿اِجْعَلْ هَذَا اَلْبَلَدَ آمِناً﴾ أنهما دعاءان دعا (عليه السلام) بهما في زمانين مختلفين، و أنه بعد ما أسكن إسماعيل و أمه أرض مكة و رجع إلى أرض فلسطين ثم عاد إليهما وجد من إقبال جرهم إلى مجاورتهما مكانا ما سر بذلك فدعا عند ذلك مشيرا إلى مكانهم ﴿رَبِّ اِجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً﴾ فسأل ربه أن يجعل المكان بلدا و لم يكن به و أن يرزق أهله المؤمنين من الثمرات، ثم لما عاد إليهم بعد ذلك بزمان وجد المكان بلدا فسأل ربه أن يجعل البلد آمنا.
و مما يؤيد كونهما دعاءين ما فيهما من الاختلاف من غير هذه الجهة ففي آية البقرة الدعاء لأهل البلد بالرزق من الثمرات و في الآيات المبحوث عنها الدعاء بذلك لذريته خاصة مع أمور أخرى دعا بها لهم.
و على هذا يكون هذا الدعاء المحكي عن إبراهيم (عليه السلام) في هذه الآيات آخر ما أورده الله تعالى في كتابه من كلام إبراهيم (عليه السلام) و دعائه، و قد دعا به بعد ما أسكن إسماعيل و أمه بها و جاورتهما قبيلة جرهم و بنى البيت الحرام و بنيت بلدة مكة بأيدي القاطنين هناك كما تدل عليه فقرات الآيات.
و على تقدير أن يكون المحكيان دعاء واحدا يكون قوله: ﴿رَبِّ اِجْعَلْ﴾ إلخ تقديره: رب اجعل هذا البلد بلدا آمنا و قد حذف في إحدى الآيتين المشار إليه و في الأخرى الموصوف اختصارا.
و المراد بالأمن الذي سأله (عليه السلام) الأمن التشريعي دون التكويني كما تقدم في تفسير آية البقرة فهو يسأل ربه أن يشرع لأرض مكة حكم الحرمة و الأمن، و هو على خلاف ما ربما يتوهم من أعظم النعم التي أنعم الله بها على عباده فإنا لو تأملنا هذا الحكم الإلهي الذي شرعه إبراهيم (عليه السلام) بإذن ربه أعني حكم الحرمة و الأمن و أمعنا فيما يعتقده الناس من تقديس هذا البيت العتيق و ما أحاط به من حرم الله الآمن و قد ركز ذلك في نفوسهم منذ أربعة آلاف سنة حتى اليوم وجدنا ما لا يحصى من الخيرات و البركات الدينية و الدنيوية عائدة إلى أهلها و إلى سائر أهل الحق ممن يحن إليهم و يتعلق قلبه بهم، و قد ضبط التاريخ من ذلك شيئا كثيرا و ما لم يضبط أكثر فجعله تعالى مكة بلدا آمنا من النعم العظيمة التي أنعم الله بها على عباده.
قوله تعالى: ﴿وَ اُجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ اَلْأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ اَلنَّاسِ ﴾إلى قوله ﴿ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ يقال: جنبه و أجنبه أي أبعده، و سؤاله (عليه السلام) أن يجنبه الله و يبعده و بنيه من عبادة الأصنام لواذ و التجاء إليه تعالى من الإضلال الذي نسبه إليهن في قوله: ﴿رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ﴾ إلخ.
و من المعلوم أن هذا الإبعاد و الإجناب منه تعالى كيفما كان و أيا ما كان تصرف ما و تأثير منه تعالى في عبده بنحو، غير أنه ليس بنحو يؤدي إلى الإلجاء و الاضطرار و لا ينجر إلى القهر و الإجبار بسلب صفة الاختيار منه إذ لا مزية لمثل هذا الابتعاد حتى يسأل ذلك مثل إبراهيم خليل الله.
فرجع بالحقيقة إلى ما تقدم في قوله تعالى: ﴿يُثَبِّتُ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ اَلثَّابِتِ﴾ الآية، أن كل خير من فعل أو ترك فإنه منسوب إليه تعالى أولا، ثم إلى العبد ثانيا بخلاف الشر من فعل أو ترك فإنه منسوب إلى العبد ابتداء و لو نسب إليه تعالى فإنما ينسب إذا كان على سبيل المجازاة، و قد أوضحنا ذلك.
فالاجتناب من عبادة الأصنام إنما يتحقق عن إجناب من الله رحمة منه لعبده و عناية، و ليس في الحقيقة إلا أمرا تلبس و اتصف به العبد غير أنه إنما يملكه بتمليك
الله سبحانه فهو المالك له بذاته و العبد يملكه بأمر منه و إذن كما أن العبد إنما يهتدي عن هداية من الله، و ليس هناك إلا هدى واحد لكنه مملوك لله سبحانه لذاته و العبد إنما يملكه بتمليك منه سبحانه، و أبسط كلمة في هذا المعنى ما وقع في أخبار آل العصمة أن الله يوفق عبده لفعل الخير و ترك الشر هذا.
فتلخص أن المراد بقوله (عليه السلام) ﴿وَ اُجْنُبْنِي﴾ سؤال ما لله سبحانه من الصنع في ترك العبد عبادة الأصنام و بعبارة أخرى هو يسأل ربه أن يحفظه و بنيه من عبادة الأصنام و يهديهم إلى الحق إن هم عرضوا أنفسهم لذلك و أن يفيض عليهم إن استفاضوا لا أن يحفظهم منها سواء عرضوا لذلك أنفسهم أو لم يعرضوا و أن يفيض عليهم سواء استفاضوا أو امتنعوا فهذا معنى دعائه (عليه السلام).
و منه يعلم أن نتيجة الدعاء لبعض المدعوين لهم و إن كان بلفظ يستوعب الجميع، و هذا البعض هم المستعدون لذلك دون المعاندين و المستكبرين منهم و سنزيده بيانا.
ثم هو (عليه السلام) يدعو بهذا الدعاء لنفسه و بنيه: ﴿وَ اُجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ اَلْأَصْنَامَ﴾ و بنوه جميع من جاء من نسله بعده و هم بنو إسماعيل و بنو إسحاق فإن الابن كما يطلق على الولد من غير واسطة كذلك يطلق على غيره، و يصدق ذلك القرآن الكريم قال تعالى: ﴿مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ﴾: الحج: ٧٨ و قد تكرر إطلاق بني إسرائيل على اليهود في نيف و أربعين موضعا من كلامه تعالى.
فهو (عليه السلام) يسأل البعد عن عبادة الأصنام لنفسه و لجميع من بعده من بنيه بالمعنى الذي تقدم، اللهم إلا أن يقال: إن قرائن الحال و المقال تدل على اختصاص الدعاة بآل إسماعيل القاطنين بالحجاز فلا يعم بني إسحاق.
ثم عقب (عليه السلام) دعاءه: ﴿وَ اُجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ اَلْأَصْنَامَ﴾ بقوله: ﴿رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ اَلنَّاسِ﴾ و هو في مقام التعليل لدعائه و قد أعاد النداء ﴿رَبِّ﴾ إثارة للرحمة الإلهية، أي إني إنما أسألك أن تبعدني و بني عن عبادتهن لأنهن أضللن كثيرا من الناس و نسبة الإضلال إلى الأصنام لمكان الربط الذي بين الضلال و بينهن و إن لم يكن ارتباطا شعوريا و ليس من اللازم في نسبة أي فعل أو أثر إلى شيء أن يقوم به قياما شعوريا و هو ظاهر.
ثم قوله (عليه السلام): ﴿فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَ مَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ تفريع على ما تقدم من كلامه أي إذا كان كثير من الناس أضلتهم الأصنام بعبادتهن و استعذت بك و عرضت نفسي و بني عليك أن تجنبنا من عبادتهن افترقنا نحن و الناس طائفتين:
الضالون عن طريق توحيدك و العارضون لأنفسهم على حفظك و إجنابك فمن تبعني «إلخ».
و قد عبر (عليه السلام) في تفريعه بقوله: ﴿فَمَنْ تَبِعَنِي﴾ و الاتباع إنما يكون في طريق و قد لوح إلى الطريق أيضا بقوله: ﴿أَضْلَلْنَ﴾ لأن الضلال إنما يكون عن الطريق فمراده باتباعه التدين بدينه و السير بسيرته لا مجرد الاعتقاد بوحدانيته تعالى بل سلوك طريقته المبنية على توحيد الله سبحانه ليكون في ذلك عرض النفس على رحمته تعالى و إجنابه من عبادة الأصنام.
و من الدليل على كون المراد بالاتباع هو سلوك سبيله قوله في ما يعادله من كلامه: ﴿وَ مَنْ عَصَانِي﴾ فإنه نسب العصيان إلى نفسه و لم يقل: و من كفر بك أو عصاك أو فسق عن الحق و نحو ذلك كما لم يقل فمن آمن بك أو أطاعك أو اتقاك و ما أشبهه.
فمراده باتباعه سلوك طريقه و التدين بجميع ما أتى به من الاعتقاد و العمل و بعصيانه ترك سيرته و ما أتى به من الشريعة اعتقادا و عملا كأنه (عليه السلام) يقول: من تبعني و عمل بشريعتي و سار بسيرتي فإنه ملحق بي و من أبنائي تنزيلا أسألك أن تجنبني و إياه أن نعبد الأصنام، و من عصاني بترك طريقتي كلها أو بعضها سواء كان من بني أو غيرهم فلا ألحقه بنفسي و لا أسألك إجنابه و إبعاده بل أخلي بينه و بين مغفرتك و رحمتك.
و من هنا يظهر أولا أن قوله (عليه السلام): ﴿فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَ مَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ تفسير لقوله: ﴿وَ اُجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ اَلْأَصْنَامَ﴾ بالتصرف في البنين تعميما و تخصيصا فهو كتعميم البنين لكل من تبعه من جهة و تخصيصه بالعاصين له منهم من جهة أخرى فليسوا منه و لا ملحقين به، و بالجملة هو (عليه السلام) يلحق الذين اتبعوه من بعده بنفسه و أما غير متبعيه فيخلي بينهم و بين ربهم الغفور الرحيم كما قال تعالى: ﴿إِنَّ أَوْلَى اَلنَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اِتَّبَعُوهُ وَ هَذَا اَلنَّبِيُّ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا﴾: آل عمران: ٦٨.
و هذه التوسعة و التضييق منه (عليه السلام) نظير مجموع ما وقع منه و من ربه في الفقرة
الأخرى من دعائه على ما يحكيه آية البقرة: ﴿وَ اُرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ اَلثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ قَالَ وَ مَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلىَ عَذَابِ اَلنَّارِ وَ بِئْسَ اَلْمَصِيرُ﴾ حيث سأل الرزق أولا لأهل البلد ثم خصه لمن آمن منهم فعممه الله سبحانه بقوله: ﴿وَ مَنْ كَفَرَ﴾ ثانيا.
و ثانيا: أن من الممكن أن يستفاد من قوله (عليه السلام) فيمن تبعه: إنه مني و سكوته فيمن عصاه بعد ما كان دعاؤه في نفسه و بنيه أن ذلك تبن منه لكل من تبعه و إلحاق له بنفسه، و نفي لكل من عصاه عن نفسه و إن كان من بنيه بالولادة، أو إلحاق لتابعيه بنفسه مع السكوت عن غيرهم بناء على عدم صراحة السكوت في النفي.
و لا إشكال في ذلك بعد ظهور الدليل فإن الولادة الطبيعية لا يجب أن تكون هي الملاك في النسب إثباتا و نفيا، و لا تجد واحدة من الأمم يقتصرون في النسب إثباتا و نفيا على مجرد الولادة الطبيعية لا بل لا يزالون يتصرفون بالتوسعة و التضييق و للإسلام أيضا تصرفات في ذلك كنفي الدعي و المولود من الزنا و الكافر و المرتد و إلحاق الرضيع و المولود على الفراش إلى غير ذلك، و في كلامه تعالى في ابن نوح: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ﴾: هود: ٤٦.
و ثالثا: أنه (عليه السلام) و إن لم يسأل المغفرة و الرحمة صريحا لمن عصاه و إنما عرضهم للمغفرة و الرحمة بقوله: ﴿وَ مَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ لكنه لا يخلو عن إيماء ما إلى الطلب لمن ترك طريقته و سيرته التي تعد الإنسان للرحمة الإلهية بحفظه من عبادة الأصنام، و هذا المقدار من المعصية لا يمنع عن شمول الرحمة و إن لم يكن مقتضيا أيضا لذلك، و ليس المراد به نفس الشرك بالله حتى ينافي سؤال المغفرة كما قال تعالى:
﴿إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾: النساء: ١١٦.
هذا محصل ما يعطيه التدبر في الآيتين الكريمتين و هو في معزل عما استشكله المفسرون في أطراف الآيتين ثم ذهبوا في التخلص عنه مذاهب شتى بعيدة عن الذوق السليم.
فقد استشكلوا أولا قوله (عليه السلام): ﴿وَ اُجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ اَلْأَصْنَامَ﴾ من حيث إن ظاهره سؤال الحفظ عن عبادة الأصنام لنفسه و لبنيه جميعا فيكون دعاء غير مستجاب فإن قريشا من بنيه و قد كانوا وثنيين يعبدون الأصنام، و كيف يمكن أن يدعو
مثل الخليل (عليه السلام) ثم لا يستجاب له؟ أم كيف يمكن أن يذكر تعالى دعاءه و هو لغو غير معني به ثم لا يذكر رده على خلاف مسلك القرآن في جميع المواضع المشابهة؟ ثم كيف يمكن أن يسأل لنفسه المصونية و العصمة عن عبادة الأصنام و هو نبي و الأنبياء معصومون؟ و قد قيل في الجواب عن إشكال عدم استجابة دعائه في بنيه إن المراد ببنيه أبناؤه بلا واسطة كإسماعيل و إسحاق و غيرهما و قد استجيب دعاؤه فيهم، و قيل:
المراد الموجودون من بنيه وقت الدعاء و هم موحدون، و قيل: إن الله قد استجاب دعاءه في بعض بنيه دون بعض و لا نقص فيه.
و قيل: إن المشركين من بنيه لم يكونوا يعبدون الأصنام و إنما كانوا يتخذونها شفعاء، و قيل: إنهم كانوا يعبدون الأوثان دون الأصنام و بينهما فرق فإن الأصنام هي التماثيل المصورة و الأوثان هي التماثيل غير المصورة، و قيل: إنهم ما كانوا يعبدون الأصنام بل كان الواحد منهم ينصب حجرا و يقول: هذا حجر و البيت حجر، فكان يدور حوله و يسمونه الدوار.
و سقوط هذه الوجوه ظاهرة: أما الأول و الثاني فلكونهما خلاف ظاهر اللفظ و أما الثالث فلأن الإشكال ليس في ورود نقص على النبي بعدم استجابة دعائه أو بعضه لحكمة بل من جهة منافاته لمسلك القرآن في حكاية لغو الكلام من غير رده، و أما باقي الوجوه فلأن ملاك الضلال في عبادة الأصنام هو شرك العبادة و هو موجود في جميع ما افترضوه من الوجوه.
و قيل في الجواب عن إشكال سؤال النبي الإبعاد و الإجناب عن الشرك و هو نبي معصوم: إن المراد الثبات و الدوام على ذلك، و قيل إنه (عليه السلام) ذكر ذلك هضما لنفسه و إظهارا للحاجة إلى فضله تعالى، و قيل: المراد سؤال الحفظ عن الشرك الخفي و إلا فالأنبياء مصونون عن الشرك الجلي هذا.
و هذه وجوه ردية، أما الأول فلأنه لا ينحسم به مادة الإشكال إذ العصمة و المصونية كما أنها لازمة للنبوة حدوثا لازمة لها بقاء فلو لم يصح للنبي أن يسأل حدوثها لمكان اللزوم لم يصح له أن يسأل بقاءها لذلك بعينه، و الأصل في جوابهم هذا أنهم يزعمون انفصال الفيض عن المفيض و استقلال المستفيض فيما استفاضه بمعنى أن الله سبحانه
إذا أفاض بشيء على شيء خرج ما أفاضه من ملكه و وقع في ملك المستفيض و لا معنى للسؤال ممن لا يملك و إذا قضى سبحانه بشيء حدوثا أو بقاء قضاء حتم لا يتغير عما هو عليه فإنه لا يتعلق على خلافه قدرة و لا مشية و هو خطأ فإن الحاجة من جانب المستفيض باقية على حالها قبل الإفاضة لا تختلف أصلا و ملكه تعالى باق بعد الإفاضة على ما كان عليه قبلها و لا يزال سبحانه قادرا له أن يشاء ما يشاء و إن كان لا يشاء فيما قضى بخلافه قضاء حتم، و السؤال و الطلب من آثار الحاجة لا من آثار الفقدان فافهم ذلك و قد أشبعنا القول في هذا المعنى في المباحث المتقدمة مرارا.
و أما الثاني فلأن هضم النفس إنما يستقيم في غير الضروريات و أما الأمور الضرورية فلا، فلا معنى لقول القائل: لست إنسانا و هو يريد نفي الماهية هضما لنفسه اللهم إلا أن يريد نفي الكمال و كذا القول في إظهار الحاجة و هم لا يرون في الأمور الضرورية المحتومة كالعصمة في الأنبياء حاجة.
و أما الثالث فلأن الشرك الخفي هو الركون و التوجه إلى غير الله على مراتبه، و إبراهيم (عليه السلام) يعلل قوله: ﴿وَ اُجْنُبْنِي﴾ إلخ بقوله ﴿إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ﴾ إلخ فهو إنما يسأل الإبعاد من عبادة هذه الأصنام و هي الشرك الجلي دون الحفظ عن الركون و التوجه إلى غير الله تعالى اللهم إلا أن يدعى أن المراد بالصنم كل ما يتوجه إليه غير الله سبحانه، و كذا المراد بالعبادة مطلق التوجه و الالتفات و هو دعوى لا دليل عليها.
ثم استشكلوا في قوله (عليه السلام) ﴿وَ مَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ من حيث اشتماله على طلب المغفرة للمشركين، و لا تتعلق المغفرة بالشرك بنص قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ الآية.
و قد قيل في الجواب عن الإشكال: أن الشرك كان جائز المغفرة في الشرائع السابقة و إنما رفع ذلك في هذه الشريعة بقوله: ﴿إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ الآية فإبراهيم (عليه السلام) جرى في دعائه على ما كان عليه الأمر في شريعته.
و قيل: إن المراد: و من عصاني فإنك غفور رحيم له بعد توبته ففي الكلام قيد محذوف، و قيل: المراد و من عصاني و أقام على الشرك فإنك غفور رحيم بأن تنقله من الشرك إلى التوحيد فتغفر له و ترحمه.
و قيل: المراد بالمغفرة و الرحمة الستر على الشرك في الدنيا و الرحمة بعدم معاجلة العقاب فالمعنى و من عصاني بالإقامة على الشرك فاستر عليه ذلك و ارحمه بتأخير العقاب عنه، و قيل: إن الكلام على ظاهره و كان ذلك منه (عليه السلام) قبل أن يعلم أن الله لا يغفر الشرك، و لا نقص بجهل ذلك لأن مغفرة الشرك جائزة عقلا و إنما منع منها الدليل السمعي و ليس من الواجب أن يعلم بجميع الأدلة السمعية في يوم واحد، و قيل: المراد بالمعصية ما دون الشرك.
و هذه أجوبة فاسدة أما الأول فلأن دعوى كون الشرك جائز المغفرة في الشرائع السابقة دعوى لا دليل عليها بل الدليل على خلافها فقد خاطب الله آدم (عليه السلام) بمثل قوله:
- و هو أول الشرائع السابقة - ﴿وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ اَلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾: البقرة: ٣٩، و حكى عن المسيح (عليه السلام) و شريعته آخر الشرائع السابقة قوله: ﴿إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اَللَّهُ عَلَيْهِ اَلْجَنَّةَ وَ مَأْوَاهُ اَلنَّارُ وَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾: المائدة: ٧٢، و التدبر في آيات القيامة و الجنة و النار و في آيات الشفاعة و في دعوات الأنبياء المحكية في القرآن لا يدع شكا في أن الشرك لا نجاة لصاحبه بشفاعة أو غيره إلا بالتوبة قبل الموت.
و أما الثاني فلأن تقييد المغفرة و الرحمة بالتوبة تقييد من غير مقيد على أن تقييد المعصية بالتوبة يفسد المعادلة في قوله: ﴿فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَ مَنْ عَصَانِي﴾ إلخ، فإن العاصي التائب يعود ممن تبعه و يلحق به (عليه السلام) فلا يبقى للمعادلة أزيد من طرف واحد.
و أما الثالث و الرابع فلما فيهما من ارتكاب خلاف الظاهر فإن ظاهر طلب المغفرة للعاصي أن يغفر الله له حينما هو عاص لا أن يغفر الله له بعد خروجه بالتوبة عن المعصية إلى الطاعة و كذا ظاهر مغفرة العصيان رفع تبعات معصيته مطلقا أو في الآخرة، و أما رفع التبعة الدنيوية فقط فأمر بعيد عن الفهم.
و أما الخامس فهو أبعد الوجوه، و كيف يجوز الاجتراء على مثل الخليل (عليه السلام) و هو في أواخر عمره - كما تقدم - أن يجهل ما هو من واضحات المعارف الدينية ثم يجري على جهله فيشفع عند ربه للمشركين و يسأل لهم المغفرة من غير أن يستأذن الله في ذلك و لو استأذنه لأنبأه أن ذلك مما لا يكون ثم يورد الله سبحانه في كلامه ما ارتكبه
من لغو الكلام جهلا و لا يرده ببيان ما هو الحق في ذلك، و قد اعتذر سبحانه عن استغفاره لأبيه المشرك و رفع عن ساحته كل غميضة فيما قال: ﴿وَ مَا كَانَ اِسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ﴾: التوبة: ١١٤.
و أما السادس فتقييد المعصية بما دون الشرك تقييد من غير مقيد، اللهم إلا أن يقرر بما يرجع إلى ما قدمناه.
فهذه جملة ما ذكره المفسرون في ذيل الآيتين أوردناها ملخصه و قد وقعوا فيما وقعوا لإهمالهم تحقيق القول في معنى حفظه تعالى عن الشرك، و معنى تفرع قوله:
﴿فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي﴾ إلخ على ما تقدمه.
قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ اَلْمُحَرَّمِ﴾ إلى آخر الآية ﴿مِنْ ذُرِّيَّتِي﴾ في تأويل مفعول ﴿أَسْكَنْتُ﴾ أو ساد مسده و ﴿مِنْ﴾ فيه للتبعيض» و مراده (عليه السلام) ببعض ذريته ابنه إسماعيل و من سيولد له من الأولاد دون إسماعيل وحده بدليل قوله: بعد ﴿رَبَّنَا لِيُقِيمُوا اَلصَّلاَةَ﴾.
و المراد بغير ذي زرع غير المزروع و هو آكد و أبلغ لأنه يدل كما قيل على عدم صلاحيته لأن يزرع لكونه أرضا حجرية رملية خالية عن المواد الصالحة للزرع و هذا كقوله: ﴿قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ﴾.
و نسبة البيت إلى الله سبحانه لأنه مبني لغرض لا يصلح إلا له تعالى و هو عبادته، و كونه محرما هو ما جعل الله له من الحرمة تشريعا و الظرف أعني قوله ﴿عِنْدَ بَيْتِكَ اَلْمُحَرَّمِ﴾ متعلق بقوله ﴿أَسْكَنْتُ﴾.
و هذه الجملة من دعائه (عليه السلام) أعني قوله: ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ ﴾ إلى قوله ﴿اَلْمُحَرَّمِ﴾ من الشاهد على ما قدمناه من أنه (عليه السلام) إنما دعا بهذا الدعاء في أواخر عمره بعد ما بنى الكعبة و بنى الناس بلدة مكة و عمروها كما أن من الشاهد عليه أيضا قوله: ﴿اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى اَلْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَ إِسْحَاقَ﴾.
و بذلك يندفع ما ربما يستشكل فيقال: كيف سماه بيتا و قال أسكنت من ذريتي عنده و لم يبنه بعد؟ كأن السائل يقدر أنه إنما دعا به يوم أتى بإسماعيل و أمه إلى أرض مكة و كانت أرضا قفراء لا أنيس بها و لا نبت.
و لا حاجة إلى دفعه بأنه كان يعلم بما علمه الله أنه سيبني هناك بيتا لله أو بأن البيت كان قبل ذلك و إنما خربه بعض الطوائف أو رفعه الله إلى السماء في الطوفان و ليت شعري إذا اندفع بهما هذا الإشكال فكيف يندفع بهما ما يتوجه من الإشكال على هذا التقدير إلى ظاهر قوله ﴿رَبِّ اِجْعَلْ هَذَا اَلْبَلَدَ آمِناً﴾ و ظاهر قوله: ﴿وَهَبَ لِي عَلَى اَلْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَ إِسْحَاقَ﴾.
و قوله: ﴿رَبَّنَا لِيُقِيمُوا اَلصَّلاَةَ﴾ بيان لغرضه من إسكانهم هناك، و هو بانضمام ما تقدم من قوله: ﴿بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ﴾ و ما يعقبه من قوله: ﴿فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ اَلنَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَ اُرْزُقْهُمْ مِنَ اَلثَّمَرَاتِ﴾ يفيد أنه (عليه السلام) إنما اختار واديا غير ذي زرع أعزل من أمتعة الحياة من ماء عذب و نبات ذي خضرة و شجر ذي بهجة و هواء معتدل خاليا من السكنة ليتمحضوا في عبادة الله من غير أن يشغلهم شواغل الدنيا.
و قوله: ﴿فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ اَلنَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ﴾ إلخ من الهوي بمعنى السقوط أي تحن و تميل إليهم بالمساكنة معهم أو بالحج إلى البيت فيأنسوا بهم، و ارزقهم من الثمرات، بالنقل إليهم تجارة لعلهم يشكرون.
قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَ مَا نُعْلِنُ﴾ إلى آخر الآية معناه ظاهر، و قوله: ﴿وَ مَا يَخْفىَ عَلَى اَللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي اَلْأَرْضِ وَ لاَ فِي اَلسَّمَاءِ﴾ من تمام كلام إبراهيم (عليه السلام) أو من كلامه تعالى، و على الأول ففي قوله: ﴿عَلَى اَللَّهِ﴾ التفات وجهه الإشارة إلى علة الحكم كأنه قيل: إنك تعلم ما نخفي و ما نعلن لأنك الله الذي ما يخفى عليه شيء في الأرض و لا في السماء، و لا يبعد أن يستفاد من هذا التعليل أن المراد بالسماء ما هو خفي علينا غائب عن حسنا و الأرض بخلافه فافهم ذلك.
قوله تعالى: ﴿اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى اَلْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَ إِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ اَلدُّعَاءِ﴾ كالجملة المعترضة بين فقرات دعائه دعاه إلى إيراده تذكره في ضمن ما أورده من الأدعية عظيم نعمة الله عليه إذ وهب له ولدين صالحين مثلهما بعد ما انقطع عنه الأسباب العادية المؤدية إلى ظهور النسل، و أنه إنما وهبهما له باستجابة دعائه للولد فحمد الله على ما وهبهما و أثنى عليه على استجابة دعائه في ذلك.
قوله تعالى: ﴿رَبِّ اِجْعَلْنِي مُقِيمَ اَلصَّلاَةِ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَ تَقَبَّلْ دُعَاءِ﴾ الكلام»
في استناد إقامته الصلاة إلى الله سبحانه نظير الكلام في استناد إجنابه أن يعبد الأصنام فإن لإقامة الصلاة نسبة إليه تعالى بالإذن و المشية كما أن لها نسبة إلى العبد بالتصدي و العمل و قد مر الكلام فيه.
و هذه الفقرة ثاني دعاء يشترك فيه هو (عليه السلام) و ذريته و يعقب في الحقيقة قوله أولا: ﴿وَ اُجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ اَلْأَصْنَامَ﴾ كما يلحق به دعاؤه الثالث المشترك فيه:
﴿رَبَّنَا اِغْفِرْ لِي وَ لِوَالِدَيَّ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾.
و قد أفرد نفسه في جميع الفقرات الثلاث عن غيره إذ قال: ﴿وَ اُجْنُبْنِي﴾ و ﴿اِجْعَلْنِي مُقِيمَ اَلصَّلاَةِ﴾ ﴿اِغْفِرْ لِي﴾ لأن مطلوبه لحوق ذريته به كما قال في موضع آخر: ﴿وَ اِجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي اَلْآخِرِينَ﴾: الشعراء: ٨٤ و في موضع آخر كما حكاه الله بقوله: ﴿وَ إِذِ اِبْتَلىَ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي﴾: البقرة: ١٢٤.
و أما قوله في الفقرة الأولى ﴿وَ اُجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ﴾ و هاهنا ﴿اِجْعَلْنِي مُقِيمَ اَلصَّلاَةِ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي﴾ فقد تقدم أن المراد ببنيه بعضهم لا جميعهم فتتطابق الفقرتان.
و من تطابق الفقرتين أنه أكد دعاءه في هذه الفقرة بقوله: ﴿رَبَّنَا وَ تَقَبَّلْ دُعَاءِ﴾ فإن سؤال تقبل الدعاء إلحاح و إصرار و تأكيد كما أن التعليل في الفقرة الأولى، بقوله: ﴿رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ اَلنَّاسِ﴾ تأكيد في الحقيقة لما فيها من الدعاء، بقوله: ﴿وَ اُجْنُبْنِي﴾ إلخ.
قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا اِغْفِرْ لِي وَ لِوَالِدَيَّ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ اَلْحِسَابُ﴾ ختم (عليه السلام) دعاءه و هو آخر ما ذكر من دعائه في القرآن الكريم كما تقدم بطلب المغفرة للمؤمنين يوم القيامة و يشبه آخر ما دعا به نوح (عليه السلام) مما ذكر في القرآن: ﴿رَبِّ اِغْفِرْ لِي وَ لِوَالِدَيَّ وَ لِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِنَاتِ﴾: نوح: ٢٨.
و في الآية دليل على أنه (عليه السلام) لم يكن ولد آزر المشرك لصلبه فإنه (عليه السلام) كما ترى يستغفر لوالديه و هو على الكبر و في آخر عهده «و قد تبرأ من آزر في أوائل عهده بعد ما استغفر له عن موعدة وعده إياه قال تعالى: ﴿قَالَ سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي﴾: مريم: ٤٧، و قال: ﴿وَ اِغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ اَلضَّالِّينَ﴾: الشعراء: ٨٦،
[1] فهو قريب من مضمون قوله تعالى: «قل أ فاتخدتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا و لا ضراً» الرعد: و قد تقدم.
[2] كذا في النسخة و الظاهر أن يكون قوله: و الآخرة زائدا و أن يقع يعني في الآخرة بعد قوله: أنهاراً.
|