00989338131045
 
 
 
 
 
 

 من ص 78 الى ص 154 

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الميزان في تفسير القرآن (الجزء العاشر)   ||   تأليف : العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي (قده)

(بحث روائي)

 في تفسير القمي، و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: ﴿قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً يعني ليلا﴿ أَوْ نَهَاراً مَا ذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ اَلْمُجْرِمُونَ فهذا عذاب ينزل في آخر الزمان على فسقة أهل القبلة و هم يجحدون نزول العذاب عليهم.

 أقول: و الرواية تتأيد بالآيات و تؤيد ما أسلفناه من البيان.

 و فيه، بإسناده عن الحسن بن موسى الخشاب، عن رجل، عن حماد بن عيسى عمن رواه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سئل عن قوله تبارك و تعالى: ﴿وَ أَسَرُّوا اَلنَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا اَلْعَذَابَ قال: قيل له ما ينفعهم أسرار الندامة و هم في العذاب؟ قال: كرهوا شماتة الأعداء.

[سورة يونس (١٠): الآیات ٥٧ الی ٧٠]

﴿يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ شِفَاءٌ لِمَا فِي اَلصُّدُورِ وَ هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ٥٧ قُلْ بِفَضْلِ اَللَّهِ وَ بِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ٥٨ قُلْ أَ رَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اَللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَ حَلاَلاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اَللَّهِ تَفْتَرُونَ ٥٩ وَ مَا ظَنُّ اَلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اَللَّهِ اَلْكَذِبَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ إِنَّ اَللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى اَلنَّاسِ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ ٦٠ وَ مَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَ مَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَ لاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَ مَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ

 

 

 

ذَرَّةٍ فِي اَلْأَرْضِ وَ لاَ فِي اَلسَّمَاءِ وَ لاَ أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَ لاَ أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ٦١ أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اَللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ٦٢ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ كَانُوا يَتَّقُونَ ٦٣ لَهُمُ اَلْبُشْريَ‏ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ فِي اَلْآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اَللَّهِ ذَلِكَ هُوَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ ٦٤ وَ لاَ يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ اَلْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ ٦٥ أَلاَ إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ وَ مَا يَتَّبِعُ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ اَلظَّنَّ وَ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ ٦٦ هُوَ اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اَللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَ اَلنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ٦٧ قَالُوا اِتَّخَذَ اَللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ اَلْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَ تَقُولُونَ عَلَى اَللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ٦٨ قُلْ إِنَّ اَلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اَللَّهِ اَلْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ ٦٩ مَتَاعٌ فِي اَلدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ اَلْعَذَابَ اَلشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ٧٠

(بيان)

عاد الكلام في الآيات إلى وصف القرآن الكريم بما له من كرائم الأوصاف و يتلوه متفرقات ترتبط بسابق القول في غرض السورة، و فيها موعظة و حكمة و حجة على مقاصد شتى، و فيها وصف أولياء الله و بشارتهم.

 

 

 

 قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ إلى آخر الآية.

قال الراغب في المفردات:

الوعظ

زجر مقترن بتخويف، و قال الخليل: هو التذكير بالخير فيما يرق له، القلب و العظة و الموعظة الاسم، انتهى. و الصدر معروف و الناس لما وجدوا القلب في الصدر و هم يرون أن الإنسان إنما يدرك ما يدرك بقلبه و به يعقل الأمور و يحب و يبغض و يريد و يكره و يشتاق و يرجو و يتمنى، عدوا الصدر خزانة لما في القلب من أسراره و الصفات الروحية التي في باطن الإنسان من فضائل و رذائل، و في الفضائل صحة القلب و استقامته، و في الرذائل سقمه و مرضه، و الرذيلة داء يقال: شفيت صدري بكذا إذا ذهب به ما في صدره من ضيق و حرج، و يقال: شفيت قلبي، فشفاء الصدور و شفاء ما في الصدور كناية عن ذهاب ما فيها من الصفات الروحية الخبيثة التي تجلب إلى الإنسان الشقاء و تنغص عيشته السعيدة و تحرمه خير الدنيا و الآخرة.

و

 الهدى‏

 هي الدلالة على المطلوب بلطف على ما ذكره الراغب، و قد تقدم في ذيل قوله تعالى﴿فَمَنْ يُرِدِ اَللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلاَمِ الأنعام: - ١٢٥ في الجزء السابع من الكتاب بحث فيها.

و الرحمة تأثر خاص في القلب عن مشاهدة ضر أو نقص في الغير يبعث الراحم إلى جبر كسره و إتمام نقصه، و إذا نسبت إليه تعالى كان بمعنى النتيجة دون أصل التأثر لتنزهه تعالى عن ذلك فينطبق على مطلق عطيته تعالى و إفاضته الوجود على خلقه.

و عطيته إذا نسبت إلى مطلق خلقه كانت هي ما ينسب إليه تعالى من وجودهم و بقائهم و رزقهم الذي يمد به بقاؤهم و سائر ما ينعم به عليهم من نعمة التي لا تحصى كثرة ﴿وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اَللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا، و إذا نسبت إلى المؤمنين خاصة كانت هي ما يختص بهم من سعادة الحياة الإنسانية بمظاهرها المختلفة التي ينعم الله بها عليهم من المعارف الحقة الإلهية و الأخلاق الكريمة و الأعمال الصالحة، و الحياة الطيبة في الدنيا و الآخرة و الجنة و الرضوان.

و من ثم إذا وصف القرآن بأنه رحمة للمؤمنين كان معناه أنه يغشى المؤمنين

 

 

 

 أنواع الخيرات و البركات التي كنزها الله فيه لمن تحقق بحقائقها و تلبس بمعانيها، قال تعالى﴿وَ نُنَزِّلُ مِنَ اَلْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لاَ يَزِيدُ اَلظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً إسراء: - ٨٢.

و إذا أخذت هذه النعوت الأربعة التي عدها الله سبحانه للقرآن في هذه الآية أعني أنه موعظة و شفاء لما في الصدور و هدى و رحمة، و قيس بعضها إلى بعض ثم اعتبرت مع القرآن كانت الآية بيانا جامعا لعامة أثره الطيب الجميل و علمه الزاكي الطاهر الذي يرسمه في نفوس المؤمنين منذ أول ما يقرع أسماعهم إلى آخر ما يتمكن من نفوسهم و يستقر في قلوبهم.

فإنه يدركهم أول ما يدركهم و قد غشيهم يم الغفلة و أحاطت بهم لجة الحيرة فأظلمت باطنهم بظلمات الشك و الريب، و أمرضت قلوبهم بأدواء الرذائل و كل صفة أو حالة ردية خبيثة فيعظهم موعظة حسنة ينبههم بها عن رقدة الغفلة، و يزجرهم عما بهم من سوء السريرة و الأعمال السيئة، و يبعثهم نحو الخير و السعادة.

ثم يأخذ في تطهير سرهم عن خبائث الصفات، و لا يزال يزيل آفات العقول و أمراض القلوب واحدا بعد آخر حتى يأتي على آخرها.

ثم يدلهم على المعارف الحقة و الأخلاق الكريمة و الأعمال الصالحة دلالة بلطف برفعهم درجة بعد درجة، و تقريبهم منزلة فمنزلة حتى يستقروا في مستقر المقربين، و يفوزوا فوز المخلصين.

ثم يلبسهم لباس الرحمة و ينزلهم دار الكرامة و يقرهم على أريكة السعادة حتى يلحقهم بالنبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين و حسن أولئك رفيقا، و يدخلهم في زمرة عبادة المقربين في أعلى عليين.

فالقرآن واعظ شاف لما في الصدور هاد إلى مستقيم الصراط مفيض للرحمة بإذن الله سبحانه، و إنما يعظ بما فيه و يشفي الصدور و يهدي و يبسط الرحمة بنفسه لا بأمر آخر فإنه السبب الموصول بين الله و بين خلقه فهو موعظة و شفاء لما في ـ

 

 

 

الصدور و هدى و رحمة للمؤمنين. فافهم ذلك.

و قد افتتح سبحانه الآية بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ و هو خطاب لعامة الناس دون المشركين أو مشركي مكة خاصة و إن كانت الآية واقعة في سياق الكلام معهم و ذلك لأن النعوت المذكورة فيها بقوله: ﴿قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ شِفَاءٌ لِمَا فِي اَلصُّدُورِ وَ هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ تتعلق بعامتهم دون قبيل خاص منهم.

و من غريب التفسير قول بعضهم: إن المراد بالرحمة ما يتصف به المؤمنون من الرحمة و الرأفة فيما بينهم و هو خطأ يدفعه السياق البتة.

قوله تعالى: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اَللَّهِ وَ بِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ

 الفضل‏

هو الزيادة، و تسمى العطية فضلا لأن المعطي إنما يعطي غالبا ما لا يحتاج إليه من المال ففي تسمية ما يفيضه الله على عباده فضلا إشارة إلى غناه تعالى و عدم حاجته في إفاضته إلى ما يفيضه و لا إلى من يفيض عليه.

و ليس من البعيد أن يكون المراد بالفضل ما يبسطه الله من عطائه على عامة خلقه، و بالرحمة خصوص ما يفيضه على المؤمنين فإن رحمة السعادة الدينية إذا انضمت إلى النعمة العامة من حياة و رزق و سائر البركات العامة كان المجموع منهما أحق بالفرح و السرور و أحرى بالانبساط و الابتهاج.

و من الممكن أن يتأيد ذلك بقوله: ﴿بِفَضْلِ اَللَّهِ وَ بِرَحْمَتِهِ حيث أدخلت باء السببية على كل من الفضل و الرحمة، و هو مشعر بكون كل واحد منهما سببا مستقلا و إن جمع بينهما ثانيا بقوله: ﴿فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا للدلالة على استحقاق مجموعهما لأن ينحصر فيه الفرح.

و يمكن أن يكون المراد بالفضل غير الرحمة من الأمور المذكورة في الآية السابقة أعني الموعظة و شفاء ما في الصدر و الهدى، و المراد بالرحمة الرحمة بمعناها المذكور في الآية السابقة و هي العطية الخاصة الإلهية التي هي سعادة الحياة في الدنيا و الآخرة.

و المعنى على هذا أن ما تفضل الله به عليهم من الموعظة و شفاء ما في الصدور

 

 

 

 و الهدى، و ما رحم المؤمنين به من الحياة الطيبة ذلك أحق أن يفرحوا به دون ما يجمعونه من المال.

و ربما تأيد هذا الوجه بقوله سبحانه﴿وَ لَوْ لاَ فَضْلُ اَللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ مَا زَكيَ‏ مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَ لَكِنَّ اَللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ النور: - ٢١ حيث نسب زكاتهم إلى الفضل و الرحمة معا و استناد الزكاة إلى الفضل بمعنى العطية العامة بعيد عن الفهم، و مما يؤيد هذا الوجه ملائمته لما ورد في الرواية من تفسير الآية بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و علي (عليه السلام) أو بالقرآن و الاختصاص به و سيجي‏ء إن شاء الله.

و قوله: ﴿فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا ذكروا أن الفاء في قوله: ﴿فَلْيَفْرَحُوا زائدة كقول الشاعر: «فإذا قتلت فعند ذلك فاجزعي.» و الظرف أعني قوله: ﴿فَبِذَلِكَ بدل من قوله: ﴿بِفَضْلِ اَللَّهِ وَ بِرَحْمَتِهِ، و متعلق بقوله: ﴿فَلْيَفْرَحُوا قدم عليه لإفادة الحصر، و قوله: ﴿هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ بيان ثان لمعنى الحصر.

فظهر بذلك كله أن الآية تفريع على مضمون الآية السابقة فإنه تعالى لما خاطب الناس امتنانا عليهم بأن هذا القرآن موعظة لهم و شفاء لما في صدورهم و هدى و رحمة للمؤمنين منهم فرع عليه أنه ينبغي لهم حينئذ أن يفرحوا بهذا الذي امتن به عليهم من الفضل و الرحمة لا بالمال الذي يجمعونه فإن ذلك و فيه سعادتهم و ما تتوقف عليه سعادتهم خير من المال الذي ليس إلا فتنة ربما أهلكتهم و أشقتهم.

قوله تعالى: ﴿قُلْ أَ رَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اَللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَ حَلاَلاً إلى آخر الآية. نسبة الرزق و هو ما يمد الإنسان في بقائه من الأمور الأرضية من مأكول و مشروب و ملبوس و غيرها إلى الإنزال مبني على حقيقة يفيدها القرآن و هي أن الأشياء لها خزائن عند الله تتنزل من هناك على حسب ما قدرها الله سبحانه، قال تعالى﴿وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَ مَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ الحجر: - ٢١ و قال تعالى﴿وَ فِي اَلسَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَ مَا تُوعَدُونَ الذاريات: - ٢٢ و قال﴿وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ اَلْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ الزمر: - ٦ و قال﴿وَ أَنْزَلْنَا اَلْحَدِيدَ الحديد: - ٢٥.

و أما ما قيل: إن التعبير بالإنزال إنما هو لكون أرزاق العباد من المطر الذي

 

 

 

 ينزله الله من السماء، فوجه بسيط لا يطرد على تقدير صحته في جميع الموارد التي عبر فيها عن كينونتها بالإنزال كما في الأنعام و في الحديد، و الرزق الذي تذكر الآية أن الله أنزله لهم فجعلوا منه حراما و حلالا هو الأنعام من الإبل و الغنم كالوصيلة و السائبة و الحام و غيرها.

و اللام في قوله: ﴿لَكُمْ للغاية و تفيد معنى النفع أي أنزل الله لأجلكم و لتنتفعوا به، و ليست للتعدية فإن الإنزال إنما يتعدى بعلى أو إلى، و من هنا أفاد الكلام معنى الإباحة و الحل أي أنزلها الله فأحلها، و هذا هو النكتة في تقديم التحريم على الإحلال في قوله: ﴿فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَ حَلاَلاً أي كان الله أحله لكم بإنزاله رزقا لكم تنتفعون به في حياتكم و بقائكم و لكنكم قسمتموه قسمين من عند أنفسكم فحرمتم قسما و أحللتم آخر فالمعنى: قل لهم يا محمد: أخبروني عما أنزل الله لكم و لأجلكم من الرزق الحلال فقسمتموه قسمين و جعلتم بعضه حراما و بعضه حلالا ما هو السبب في ذلك؟ و من البين أنه افتراء على الله لا عن إذن منه تعالى.

و قوله: ﴿قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اَللَّهِ تَفْتَرُونَ سؤال عن سبب تقسيمهم الرزق إلى حرام و حلال، و إذ كان من البين أنه ليس ذلك عن إذن منه تعالى لعدم اتصالهم بربهم بوحي أو رسول كان من المتعين أنه افتراء فالاستفهام في سياق الترديد كناية عن إثبات الافتراء لهم و توبيخ و ذم.

و الذي يقضي به النظر الابتدائي أن الترديد في الآية غير حاصر إذ كما يجوز أن يكون تقسيمهم رزق الله إلى حرام و حلال عن إذن من الله أو افتراء عليه تعالى كذلك يجوز أن يكون عن مصلحة أحرزوها أو زعموها في ذلك أو عن هوى لهم فيه من غير أن ينسبوه إلى الله تعالى فيكون افتراء عليه.

و من وجه آخر الترديد في الآية بين إذن الله و الافتراء على الله يشعر بأن الحكم إنما هو لله فالحكم بكون بعض الرزق حراما و بعضه حلالا و هو دائر بينهم إما أن يكون من الله أو افتراء عليه، و من الممكن أن يمنع ذلك في بادئ النظر فكثير من السنن الدائرة بين الناس كونتها طبيعة مجتمعهم أو عادتهم القومية و غير ذلك.

 

 

 

 لكن التدبر في كلامه تعالى و البحث العميق يدفع ذلك فإن القرآن يرى أن الحكم يختص بالله تعالى، و ليس لأحد من خلقه أن يبادر إلى تشريع حكم و وضعه في المجتمع الإنساني، قال تعالى﴿إِنِ اَلْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يوسف: - ٤٠.

و قد أشار تعالى إلى لم ذلك في قوله﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اَللَّهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللَّهِ ذَلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ الروم: - ٣٠ فتبين به أن معنى كون الحكم لله كونه معتمدا على الخلقة و الفطرة منطبقا عليها غير مخالف لما ينطق به الكون و الوجود.

و ذلك أن الله سبحانه لم يخلق الخلق عبثا كما قال﴿أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً المؤمنون: - ١١٥ بل خلقهم لأغراض إلهية و غايات كمالية يتوجهون إليها بحسب جبلتهم و يسيرون نحوها بفطرتهم بما جهزهم به من الأسباب و الأدوات و هداهم إليه من السبيل الميسر لهم كما قال﴿أَعْطيَ‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى‏ طه: - ٥٠، و قال ﴿ثُمَّ اَلسَّبِيلَ يَسَّرَهُ عبس: - ٢٠.

فوجود الأشياء في بدء خلقها مناسب لما هيئ لها من منزلة الكمال مجهز بقوى و أدوات يتوسل بها إلى غايتها، و لا يسير شي‏ء منها إلى كماله المهيا له إلا من طريق الصفات الاكتسابية و الأعمال، فمن الواجب بالنظر إلى ذلك أن يكون الدين أعني القوانين الجارية في الصفات و الأعمال الاكتسابية منطبقا على الخلقة و الفطرة فإن الفطرة لا تنسى غايتها و لا تتخطاها، و لا تبعث نحو فعل و لا تزجر عن فعل إلا لدعوة ما جهزت به إليه، و لا يدعو الجهاز إلا لأجل ما جهز لأجله و هو الغاية.

فالإنسان لما كان مجهزا بجهاز التغذية و النكاح كان حكمه الحقيقي في دين الفطرة هو التغذي و النكاح دون الجوكية و الرهبانية مثلا، و لما كان مطبوعا على الاجتماع و التعاون كان من حكمه أن يشارك سائر الناس في مجتمعهم و يقوم بالأعمال الاجتماعية، و على هذا القياس.

فالذي يتعين للإنسان من الأحكام و السنن هو الذي يدعوه إليه الكون العالمي الذي هو جزء حقير منه، و قد جهز وجوده بما يسوقه إليه من مرحلة الكمال، فهذا

 

 

 

 الكون العام المرتبط بعض أجزائه ببعض، و هو مركب إرادة الله تعالى هو الحامل للشريعة الفطرية الإنسانية، و الداعي إلى دين الله الحنيف.

فالدين الحق هو حكم الله سبحانه لا حكم إلا له، و هو المنطبق على الخلقة الإلهية، و ما وراءه من حكم هو باطل لا يسوق الإنسان إلا إلى الشقاء و الهلاك و لا يهديه إلا إلى عذاب السعير.

و من هنا ينحل ما تقدم من العقدتين فإن الحكم لما كان لله سبحانه وحده كان كل حكم دائر بين الناس إما حكما لله حقيقة مأخوذا من لدنه بوحي أو رسالة أو حكما مفترى على الله، و لا ثالث للقسمين.

على أن المشركين كانوا ينسبون أمثال هذه الأحكام التي ابتدعوها و استنوا بها فيما بينهم إلى الله سبحانه كما يشير إليه قوله تعالى﴿وَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَ اَللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا الآية الأعراف: - ٢٨.

قوله تعالى: ﴿وَ مَا ظَنُّ اَلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اَللَّهِ اَلْكَذِبَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ إلى آخر الآية، لما كان جواب الاستفهام المتقدم: ﴿آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اَللَّهِ تَفْتَرُونَ معلوما من المورد، و هو أنه افتراء، استعظم وخامة عاقبته فإنه افتراء على الله سبحانه و الافتراء من الآثام و الذنوب بحكم البداهة فلا محالة له أثر سيئ، و لذلك قال تعالى إيعادا و تهديدا: ﴿وَ مَا ظَنُّ اَلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اَللَّهِ اَلْكَذِبَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ.

و أما قوله: ﴿إِنَّ اَللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى اَلنَّاسِ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ فهو شكوى و عتبى يشار به إلى ما اعتاد عليه الناس من كفران أكثرهم لنعمة الله، و عدم شكرهم قبال عطيته و نعمته، و المراد بالفضل هاهنا هو العطية الإلهية فإن الكلام في الرزق الذي أنزله الله لهم و هو الفضل و تحريمهم بعضه و هو الكفران و عدم الشكر.

و برجوع ذيل الآية إلى صدرها يكون الافتراء على الله من مصاديق كفران نعمته، و المعنى أن الله ذو فضل و عطاء على الناس و لكن أكثرهم كافرون لنعمته و فضله فما ظن الذين يكفرون بنعمة الله و رزقه بتحريمه افتراء على الله الكذب يوم القيامة.

 

 

 

قوله تعالى: ﴿وَ مَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَ مَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَ لاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إلى آخر الآية، قال الراغب:

 الشأن‏

 الحال و الأمر الذي يتفق و يصلح، و لا يقال إلا فيما يعظم من الأحوال و الأمور قال: ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ انتهى.

و قوله: ﴿وَ مَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ الظاهر أن الضمير إلى الله سبحان و من الأولى للابتداء و النشوء و الثانية للبيان، و المعنى و لا تتلو شيئا هو القرآن ناشئا و نازلا من قبله تعالى، و الإفاضة في الفعل الخوض فيه جمعا.

و قد وقع في قوله: ﴿إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً التفات من الغيبة إلى التكلم مع الغير، و النكتة فيه الإشارة إلى كثرة الشهود فإن لله شهودا على أعمال الناس من الملائكة و الناس و الله من ورائهم محيط، و العظماء يتكلمون عنهم و عن غيرهم للدلالة على أن لهم أعوانا و خدمة.

و ليس ينبغي أن يغفل عن أن أصل الالتفات يبدأ من أول الآية فإن الآيات السابقة كانت تخاطب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و تأخذ المشركين على الغيبة و تكلمهم بوساطته من غير أن تواجهه بشي‏ء من الخطاب يخص نفسه، و قد حولت هذه الآية وجه الكلام إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بما يخص به نفسه فقالت: ﴿وَ مَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَ مَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ ثم جمعته و المشركين و غيرهم جميعا في خطاب واحد فقالت: ﴿وَ لاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً و ذلك بضمهم إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و هم على غيبتهم و بسط الخطاب على الجميع بنوع من التغليب كما تقول لمخاطبك أنت و قومك تفعلون كذا و كذا.

و الدليل على أن هذا الخطاب بنحو الضم و التغليب قوله بعده: ﴿وَ مَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ إلخ، فإنه يكشف عن كون الخطاب معه (ص) جاريا على ما كان.

و على أي حال فالتحول المذكور في خطاب الآية للإشارة إلى أن السلطنة و الإحاطة التامة الإلهية واقعة على الأعمال شهادة و علما على أتم ما يكون من كل جهة من غير أن يستثني منه نبي و لا مؤمن و لا مشرك أو يغفل عن عمل من الأعمال فلا يتوهمن أحد أن الله يخفى عليه شي‏ء من أمره فلا يحاسبه عليه يوم القيامة،

 

 

 

 و ليكن هذا هو ظنه بربه يوم القيامة و ليأخذ حذره.

و ذكر تلاوة القرآن مستقلا مع دخوله في قوله قبلا: ﴿وَ مَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ فإن أحد شئونه (ص) للإيماء إلى أهمية أمرها و مزيد العناية بها.

و في الآية أولا تشديد في العظة على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و على أمته و ثانيا: أن الذي يتلوه النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من القرآن للناس من وحي الله و كلامه لا يطرقه تغيير و لا يدب فيه باطل لا في تلقيه من الله و لا في تلاوته للناس فالآية قريبة المضمون من قوله‏

﴿عَالِمُ اَلْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَليَ‏ غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ اِرْتَضيَ‏َمِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ الجن: - ٢٨.

و قوله: ﴿وَ مَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ إلى آخر الآية. العزوب‏ الغيبة و التباعد و الخفاء، و فيه إشارة إلى حضور الأشياء عنده تعالى من غير غيبة و حفظه لها في كتاب من غير زوال، و قد تقدم بعض ما يتعلق به من الكلام في ذيل قوله‏﴿

وَ عِنْدَهُ مَفَاتِحُ اَلْغَيْبِ الأنعام: - ٥٩ في الجزء السابع من الكتاب.

قوله تعالى: ﴿أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اَللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاَ هُمْ يَحْزَنُونَ استئناف في الكلام غير أنه متعلق بغرض السورة و هو الدعوة إلى الإيمان بكتاب الله و الندب إلى توحيد الله تعالى بمعناه الوسيع.

و للدلالة على أهمية المطلب افتتح بلفظة ﴿أَلاَ التنبيهية، و الله سبحانه يذكر في هذه الآية و الآيتين بعدها أولياءه و يعرفهم و يصف آثار ولايتهم و ما يختصون به من الخصيصة.

و الولاية و إن ذكروا لها معاني كثيرة لكن الأصل في معناها ارتفاع الواسطة الحائلة بين الشيئين بحيث لا يكون بينهما ما ليس منهما، ثم استعيرت لقرب الشي‏ء من الشي‏ء بوجه من وجوه القرب كالقرب نسبا أو مكانا أو منزلة أو بصداقة أو غير ذلك و لذلك يطلق الولي على كل من طرفي الولاية، و خاصة بالنظر إلى أن كلا منهما يلي من الآخر ما لا يليه غيره فالله سبحانه ولي عبده المؤمن لأنه يلي أمره و يدبر شأنه فيهديه إلى صراطه المستقيم و يأمره و ينهاه فيما ينبغي له أو لا ينبغي و ينصره في الحياة الدنيا و في الآخرة.

 

 

 

 و المؤمن حقا ولي ربه لأنه يلي منه إطاعته في أمره و نهيه و يلي منه عامة البركات المعنوية من هداية و توفيق و تأييد و تسديد و ما يعقبها من الإكرام بالجنة و الرضوان.

فأولياء الله على أي حال هم المؤمنون فإن الله يعد نفسه وليا لهم في حياتهم المعنوية حيث يقول﴿وَ اَللَّهُ وَلِيُّ اَلْمُؤْمِنِينَ آل عمران: - ٦٨.

غير أن الآية التالية لهذه الآية المفسرة للكلمة تأبى أن تكون الولاية شاملة لجميع المؤمنين و فيهم أمثال الذين يقول الله سبحانه فيهم

﴿وَ مَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَ هُمْ مُشْرِكُونَ يوسف: - ١٠٦

فإن قوله في الآية التالية: ﴿اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ كَانُوا يَتَّقُونَ يعرفهم بالإيمان و التقوى مع الدلالة على كونهم على تقوى مستمر سابق على إيمانهم من حيث الزمان حيث قيل: ﴿آمَنُوا ثم قيل عطفا عليه: ﴿وَ كَانُوا يَتَّقُونَ فدل على أنهم كانوا يستمرون على التقوى قبل تحقق هذا الإيمان منهم و من المعلوم أن الإيمان الابتدائي غير مسبوق بالتقوى بل هما متقاربان أو هو قبل التقوى و خاصة التقوى المستمر.

فالمراد بهذه الإيمان مرتبة أخرى من مراتب الإيمان غير المرتبة الأولى منه.

فقد تقدم في الجزء الأول من الكتاب آية ١٣٠ من البقرة أن لكل من الإيمان و الإسلام و كذا الشرك و الكفر مراتب مختلفة بعضها فوق بعض فالمرتبة الأولى من الإسلام إجراء الشهادتين لسانا و التسليم ظاهرا، و تليه المرتبة الأولى من الإيمان و هو الإذعان بمؤدى الشهادتين قلبا إجمالا و إن لم يسر إلى جميع ما يعتقد في الدين من الاعتقاد الحق، و لذا كان من الجائز أن يجتمع مع الشرك من بعض الجهات، قال تعالى‏﴿

وَ مَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَ هُمْ مُشْرِكُونَ يوسف: - ١٠٦.

و لا يزال إسلام العبد يصفو و ينمو حتى يستوعب تسليمه لله سبحانه في كل ما يرجع إليه و إليه مصير كل أمر، و كلما ارتفع الإسلام درجة و رقي مرتبة كان الإيمان المناسب له الإذعان بلوازم تلك المرتبة حتى يسلم العبد لربه حقيقة معنى ألوهيته و ينقطع عنه السخط و الاعتراض فلا يسخط لشي‏ء من أمره من قضاء و قدر و حكم، و لا يعترض على شي‏ء من إرادته، و بإزاء ذلك الإيمان باليقين بالله و جميع

 

 

 

 ما يرجع إليه من أمر، و هو الإيمان الكامل الذي تتم به للعبد عبوديته.

قال تعالى﴿فَلاَ وَ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً النساء: - ٦٥، و الأشبه أن تكون هذه المرتبة من الإيمان أو ما يقرب منه هو المراد بالآية أعني قوله: ﴿اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ كَانُوا يَتَّقُونَ فإنه الإيمان المسبوق بتقوى مستمر دون الإيمان بمرتبته الأولى كما تقدم.

على أن توصيفه أهل هذا الإيمان بأنهم ﴿لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاَ هُمْ يَحْزَنُونَ يدل على أن المراد منه الدرجة العالية من الإيمان الذي يتم معه معنى العبودية و المملوكية المحضة للعبد الذي يرى معه أن الملك لله وحده لا شريك له، و أن ليس إليه من الأمر شي‏ء حتى يخاف فوته أو يحزن لفقده.

و ذلك أن الخوف إنما يعرض للنفس عن توقع ضرر يعود إليها، و الحزن إنما يطرأ عليها لفقد ما تحبه أو تحقق ما تكرهه مما يعود إليها نفعه أو ضرره، و لا يستقيم تحقق ذلك إلا فيما يرى الإنسان لنفسه ملكا أو حقا متعلقا بما يخاف عليه أو يحزن لفقده من ولد أو مال أو جاه أو غير ذلك. و أما ما لا علقة للإنسان به بوجه من الوجوه أصلا فلا يخاف الإنسان عليه و لا يحزن لفقده البتة.

و الذي يرى كل شي‏ء ملكا طلقا لله سبحانه لا يشاركه في ملكه أحد لا يرى لنفسه ملكا أو حقا بالنسبة إلى شي‏ء حتى يخاف في أمره أو يحزن، و هذا هو الذي يصفه الله من أوليائه إذ يقول: ﴿أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اَللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاَ هُمْ يَحْزَنُونَ فهؤلاء لا يخافون شيئا و لا يحزنون لشي‏ء لا في الدنيا و لا في الآخرة إلا أن يشاء الله و قد شاء أن يخافوا من ربهم و أن يحزنوا لما فاتهم من كرامته إن فاتهم و هذا كله من التسليم لله فافهم ذلك.

فإطلاق الآية يفيد اتصافهم بهذين الوصفين: عدم الخوف و عدم الحزن في النشأتين الدنيا و الآخرة، و أما مثل قوله تعالى﴿إِلاَّ اَلْمُتَّقِينَ يَا عِبَادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ اَلْيَوْمَ وَ لاَ أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَ كَانُوا مُسْلِمِينَ الزخرف: - ٧٠ فإن ظاهر الآيات و إن كان هو أنها تريد الأولياء بالمعنى الذي تصفه الآية التي نحن فيها إلا أن إثبات عدم الخوف و الحزن لهم يوم القيامة لا ينفي ذلك عنهم في غيره. نعم

 

 

 

 هناك فرق من جهة أخرى و هو خلوص النعمة و الكرامة و بلوغ صفائها يوم القيامة و كونها مشوبة غير خالصة في غيره.

و نظيرها قوله تعالى﴿إِنَّ اَلَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اَللَّهُ ثُمَّ اِسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ اَلْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَ لاَ تَحْزَنُوا وَ أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ اَلَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ فِي اَلْآخِرَةِ فصلت: - ٣١ فإن الآيات و إن كانت ظاهرة في كون هذا التنزل و القول و البشارة يوم الموت لمكان قوله: ﴿كُنْتُمْ تُوعَدُونَ و قوله:

﴿أَبْشِرُوا غير أن الإثبات في وقت لا يكفي للنفي في وقت آخر كما عرفت.

هذا ما يدل عليه الآية بحسب إطلاق لفظها و تأييد سائر الآيات لها، و قد قيد أكثر المفسرين قوله: ﴿لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاَ هُمْ يَحْزَنُونَ بالاستناد إلى آيات الآخرة بيوم الموت و القيامة، و أهملوا ما تفيده خصوصية اللفظ في قوله: ﴿اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ كَانُوا يَتَّقُونَ و أخذوا الإيمان و التقوى أمرين متقارنين فرجع المعنى إلى أن أولياء الله هم المتقون من أهل الإيمان و لا خوف عليهم في الآخرة و لا هم يحزنون و هذا كما عرفت من التقييد من غير مقيد.

و عمم بعضهم نفي الخوف و الحزن فذكر أنهم متصفون به في الدنيا و الآخرة غير أنه أفسد المعنى من جهة أخرى فقال: إن المراد بالأولياء على ما تفسرهم به الآية الثانية جميع المتقين من المؤمنين، و المراد بعدم خوفهم و حزنهم أنهم لا يخافون في الآخرة مما يخاف منه الكافرون و الفاسقون و الظالمون من أهوال الموقف و عذاب الموقف و عذاب الآخرة و لا هم يحزنون على ما تركوا وراءهم و أنهم لا يخافون في الدنيا كخوف الكفار و لا يحزنون كحزنهم.

قال: و أما أصل الخوف و الحزن فهو من الأعراض البشرية التي لا يسلم منها أحد في الدنيا، و إنما يكون المؤمنون الصالحون أصبر الناس و أرضاهم بسنن الله اعتقادا و علما بأنه إذا ابتلاهم بشي‏ء مما يخيف أو يحزن فإنما يربيهم بذلك لتكميل نفوسهم و تمحيصها بالجهاد في سبيله الذي يزداد به أجرهم كما صرحت بذلك الآيات الكثيرة. انتهى.

أما تقييده الآية بأن المنفي عن الأولياء هو الخوف و الحزن اللذين يعرضان

 

 

 

 للكفار دون ما يعرض لعامة المؤمنين بحسب الطبع البشري و استناده في ذلك إلى الآيات الكثيرة فهو من التقييد من غير مقيد، و أما قوله إن أصل الخوف و الحزن مما لا يسلم منه أحد أصلا فهو من عدم تحصيل المراد بالكلام لعدم تعمقه في البحث عن الأخلاق العالية و المقامات المعنوية الإنسانية فحمله ذلك على أن يقيس حال المكرمين من عباد الله المقربين من الأنبياء و الأولياء إلى ما يجده من حال المتوسطين من عامة الناس فزعم أن ما يغشى العامة من الأعراض التي سماها أحوالا طبيعية يغشى الخاصة لا محالة، و أن ما يتعذر أو يتعسر على المتوسطين من الأحوال فهو كذلك عند الكاملين، و لا يبقى حينئذ للمقامات المعنوية و الدرجات الحقيقية إلا أنها أسماء ليس وراءها حقيقة، و اعتبارات وضعية اصطلح عليها نظير المقامات الوهمية و الدرجات الرسمية الاجتماعية التي نتداولها في مجتمعاتنا لمصلحة الاجتماع.

فلا وفى حق البحث العلمي حتى يهديه إلى حق النتيجة فيتبين أن التوحيد الكامل يقصر حقيقة الملك في الله سبحانه فلا يبقى لغيره شي‏ء من الاستقلال في التأثير حتى يتعلق به لنفسه حب أو بغض أو خوف أو حزن و لا فرح و لا أسى و لا غير ذلك، و إنما يخاف هذا الذي غشيه التوحيد و يحزن أو يحب أو يكره بالله سبحانه، و يرتفع التناقض حينئذ بين قولنا: إنه لا يخاف شيئا إلا الله و بين قولنا: إنه يخاف كثيرا مما يضره و يحذر أمورا يكرهها فافهم ذلك.

و لا البحث القرآني أتقن و استفرغ فيه الوسع حتى يظهر له أن قوله تعالى:

﴿أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اَللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاَ هُمْ يَحْزَنُونَ أطلق فيه نفي الخوف و الحزن من غير تقييد بشي‏ء أو حال إلا ما صرح به آيات من وجوب مخافة الله فهؤلاء لا يخافون من شي‏ء في دنيا و لا آخرة إلا من الله سبحانه و لا يحزنون.

و أما الآيات الكثيرة التي تصف المؤمنين بعدم الخوف و الحزن عند الموت أو يوم القيامة فهي إنما تصف أحوالهم في ظرف و لا يستوجب نفي شي‏ء أو إثباته في مورد خلافه في غيره و هو ظاهر.

و الآية مع ذلك تدل على أن هذا الوصف إنما هو لطائفة خاصة من المؤمنين

 

 

 

يمتازون عن غيرهم بمرتبة خاصة من الإيمان تخصهم دون غيرهم من عامة المؤمنين و ذلك بما يفسرها من قوله: ﴿اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ كَانُوا يَتَّقُونَ بما تقدم من تقرير دلالته.

و بالجملة ارتفاع الخوف من غير الله و الحزن عن الأولياء ليس معناه أن الخير و الشر و النفع و الضرر و النجاة و الهلاك و الراحة و العناء و اللذة و الألم و النعمة و البلاء متساوية عندهم و متشابهة في إدراكهم فإن العقل الإنساني بل الشعور العام الحيواني لا يقبل ذلك.

بل معناه أنهم لا يرون لغيره تعالى استقلالا في التأثير أصلا، و يقصرون الملك و الحكم فيه تعالى فلا يخافون إلا إياه أو ما يحب الله و يريد أن يحذروا منه أو يحزنوا عليه.

قوله تعالى: ﴿لَهُمُ اَلْبُشْريَ‏ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ فِي اَلْآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اَللَّهِ ذَلِكَ هُوَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ يبشرهم الله تعالى بشارة إجمالية بما تقر به أعينهم فإن كان قوله: ﴿لَهُمُ اَلْبُشْرى‏ إنشاء للبشارة كان معناه وقوع ما بشر به في الدنيا و في الآخرة كلتيهما، و إن كان إخبارا بأن الله سيبشرهم بشرى كانت البشارة واقعة في الدنيا و في الآخرة، و أما المبشر به فهل يقع في الآخرة فقط أو في الدنيا و الآخرة معا؟ الآية ساكتة عن ذلك.

و قد وقع في كلامه تعالى بشارات للمؤمنين بما ينطبق على أوليائه تعالى كقوله تعالى﴿وَ كَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ ا لْمُؤْمِنِينَ الروم: - ٤٧ و قوله﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ يَوْمَ يَقُومُ اَلْأَشْهَادُ المؤمن: - ٥١ و قوله﴿بُشْرَاكُمُ اَلْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهَارُ الحديد: - ١٢ إلى غير ذلك.

و قوله: ﴿لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اَللَّهِ إشارة إلى أن ذلك من القضاء المحتوم الذي لا سبيل للتبدل إليه، و فيه تطييب لنفوسهم.

قوله تعالى: ﴿وَ لاَ يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ اَلْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ تأديب للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بتعزيته و تسليته فيما كانوا يؤذونه به بالوقوع في ربه و الطعن في دينه و الاعتزاز بشركائهم و آلهتهم كما يشعر به القول في الآية التالية فكاد يحزن لله فسلاه

 

 

 

 الله و طيب نفسه بتذكيره ما يسكن وجده و هو أن العزة لله و أنه سميع لمقالهم عليهم بحاله و حالهم و إذ كان له تعالى كل العزة فلا يعبأ بما اعتزوا به من العزة الوهمية فهذوا ما هذوا، و إذ كان سميعا عليما فلو شاء لأخذهم بالنكال و إذ كان لا يأخذهم فإنما في ذلك مصلحة الدعوة و خير العاقبة.

و من هنا يظهر أن كلا من قوله: ﴿إِنَّ اَلْعِزَّةَ لِلَّهِ و قوله: ﴿هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ علة مستقلة للنهي و لذا جي‏ء بالفصل من غير عطف.

قوله تعالى: ﴿أَلاَ إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ إلى آخر الآية فيه بيان مالكيته تعالى لكل من في السماوات و الأرض التي بها يتم للإله معنى الربوبية فإن الرب هو المالك المدبر لأمر مملوكه، و هذا الملك لله وحده لا شريك له فما يدعون له من الشركاء ليس لهم من معنى الشركة إلا ما في ظن الداعين و في خرصهم من المفهوم الذي لا مصداق له.

فالآية تقيس شركاءهم إليه تعالى و تحكم أن نسبتهم إليه تعالى نسبة الظن و الخرص إلى الحقيقة و الحق، و الباقي ظاهر.

و قد قيل: ﴿مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ و لم يقل: ما في السماوات و ما في الأرض لأن الكلام في ربوبية العباد من ذوي الشعور و العقل و هم الملائكة و الثقلان.

قوله تعالى: ﴿هُوَ اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اَللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَ اَلنَّهَارَ مُبْصِراً الآية. الآية تتمم البيان الذي أورد في الآية السابقة لإثبات ربوبيته تعالى و الربوبية - كما تعلم - هي الملك و التدبير، و قد ذكر ملكه تعالى في الآية السابقة، فبذكر تدبير من تدابيره العامة في هذه الآية تصلح به عامة معيشة الناس و تستبقي به حياتهم يتم له معنى الربوبية.

و للإشارة إلى هذا التدبير ذكر مع الليل سكنهم فيه، و مع النهار إبصارهم فيه الباعث لهم إلى أنواع الحركات و التنقلات لكسب مواد الحياة و إصلاح شئون المعاش فليس يتم أمر الحياة الإنسانية بالحركة فقط أو بالسكون فقط فدبر الله

 

 

 

 سبحانه الأمر في ذلك بظلمة الليل الداعية إلى تجديد تجهيز القوى بعد ما لحقها من العي و التعب و النصب و إلى الارتياح و الأنس بالأهل و التمتع مما جمع و اكتسب بالنهار و الفراغ للعبودية، و بضوء النهار الباعث إلى الرؤية فالاشتياق فالطلب.

قوله تعالى: ﴿قَالُوا اِتَّخَذَ اَللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ اَلْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ إلى آخر الآية

الاستيلاد

بمعناه المعروف عند الناس هو أن يفصل الموجود الحي بعض أجزاء مادته فيربيه بالحمل أو البيض تربية تدريجية حتى يتكون فردا مثله، و الإنسان من بينها خاصة ربما يطلب الولد ليكون عونا له على نوائب الدهر و ذخرا ليوم الفاقة، و هذا المعنى بجميع جهاته محال عليه تعالى فهو عز اسمه منزه عن الأجزاء متعال عن التدريج في فعله بري‏ء عن المثل و الشبه مستغن عن غيره بذاته.

و قد نفى القرآن الولد عنه بالاحتجاج عليه من كل من الجهات المذكورة كما تعرض لنفيه من جميعها في قوله ﴿وَ قَالُوا اِتَّخَذَ اَللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ بَدِيعُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ إِذَا قَضيَ‏ أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ البقرة: - ١١٧ و قد مرت الإشارة إلى ذلك في تفسير الآيات في الجزء الأول من الكتاب.

و أما الآية التي نحن فيها فهي مسوقة للاحتجاج على نفي الولد من الجهة الأخيرة فحسب و هو أن الغرض من وجوده الاستعانة به عند الحاجة و ذلك إنما يتصور فيمن كان بحسب طبعه محتاجا فقيرا، و الله سبحانه هو الغني الذي لا يخالطه فقر فإنه المالك لما فرض في السماوات و الأرض من شي‏ء.

و قوله: ﴿إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ أي برهان‏﴿ بِهَذَا إثبات لكونهم إنما قالوه جهلا من غير دليل فيكون محصل المعنى أنه لا دليل لكم على ما قلتموه بل الدليل على خلافه و هو أنه تعالى غني على الإطلاق، و الولد إنما يطلبه من به فاقة و حاجة، و الكلام على ما اصطلح عليه في فن المناظرة من قبيل المنع مع السند.

و قوله: ﴿أَ تَقُولُونَ عَلَى اَللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ توبيخ لهم في قولهم ما ليس لهم به

 

 

 

 علم، و هو مما يستقبحه العقل الإنساني و لا سيما في ما يرجع إلى رب العالمين عز اسمه.

قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ اَلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اَللَّهِ اَلْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ تخويف و إنذار بشؤم العاقبة، و في الآيتين من لطيف الالتفات ما هو ظاهر فقد حكى الله أولا عنهم من طريق الغيبة قولهم: ﴿اِتَّخَذَ اَللَّهُ وَلَداً ثم خاطبهم خطاب الساخط الغضبان مما نسبوا إليه و افتروا عليه فقال: ﴿إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَ تَقُولُونَ عَلَى اَللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ و إنما خاطبهم متنكرا من غير أن يعرفهم نفسه حيث قال:

﴿عَلَى اَللَّهِ و لم يقل: علي أو علينا صونا لعظمة مقامه أن يخالطهم معروفا ثم أعرض عنهم تنزها عن ساحة جهلهم و رجع إلى خطاب رسوله قائلا: ﴿قُلْ إِنَّ اَلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اَللَّهِ اَلْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ لأنه إنذار و الإنذار شأنه.

قوله تعالى: ﴿مَتَاعٌ فِي اَلدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ اَلْعَذَابَ اَلشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ خطاب للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فيه بيان وجه عدم فلاحهم بأنه كفر بالله ليس بحذائه إلا متاع قليل في الدنيا ثم الرجوع إلى الله و العذاب الشديد الذي يذوقونه.

(بحث روائي)

 في أمالي الشيخ، قال: أخبرنا أبو عمرو قال: أخبرنا أحمد قال: حدثنا يعقوب بن يوسف بن زياد قال: حدثنا نصر بن مزاحم قال: حدثنا محمد بن مروان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال :بفضل الله و برحمته» بفضل الله النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و برحمته علي (عليه السلام):

أقول: و رواه الطبرسي و ابن الفارسي عنه مرسلا، و رواه أيضا في الدر المنثور، عن الخطيب و ابن عساكر عنه.

و في المجمع، قال أبو جعفر الباقر (عليه السلام): فضل الله رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و رحمته علي بن أبي طالب (عليه السلام).

أقول: و ذلك أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) نعمة أنعم الله بها على العالمين بما جاء به من

 

 

 

 الرسالة و مواد الهداية، و علي (عليه السلام) هو أول فاتح لباب الولاية و فعلية التحقق بنعمة الهداية فهو الرحمة فينطبق الخبر على ما قدمناه في تفسير الآية.

 و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و البيهقي عن ابن عباس:قل بفضل الله القرآن و برحمته» حين جعلهم من أهل القرآن. أقول: أي الفضل مواد المعارف و الأحكام التي فيه، و الرحمة فعلية تحقق ذلك في العاملين به فيرجع إلى ما قدمناه في تفسير الآية فتبصر، و لا مخالفة بين هذه الرواية و الرواية السابقة حينئذ بحسب الحقيقة.

 و في تفسير القمي، :في قوله تعالى: ﴿وَ مَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ الآية قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) إذا قرأ هذه الآية بكى بكاء شديدا:

أقول: و رواه في المجمع، عن الصادق (عليه السلام). و في أمالي المفيد، بإسناده عن عباية الأسدي عن ابن عباس قال: سئل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) عن قوله تعالى: ﴿أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اَللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاَ هُمْ يَحْزَنُونَ فقيل له: من هؤلاء الأولياء؟ فقال أمير المؤمنين (عليه السلام):

قوم أخلصوا لله في عبادته، و نظروا إلى باطن الدنيا حين نظر الناس إلى ظاهرها فعرفوا آجلها حين غرت الخلق سواهم بعاجلها فتركوا ما علموا أنه سيتركهم، و أماتوا منها ما علموا أنه سيميتهم.

ثم قال: أيها المطل نفسه بالدنيا الراكض على حبائلها المجتهد في عمارة ما سيخرب منها أ لم تر إلى مصارع آبائك في البلاد و مصارع أبنائك تحت الجنادل و الثرى؟ كم مرضت ببدنك و عللت بكفنك تستوصف لهم الأطباء و تستغيث لهم الأحباء فلم تغن عنهم غناؤك، و لا ينجع عنهم دواؤك؟

 و في تفسير العياشي، عن مرثد العجلي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: وجدنا في كتاب علي بن الحسين (عليه السلام): «ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم و لا هم يحزنون»

 

 

 

 قال: إذا أدوا فرائض الله، و أخذوا بسنن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و تورعوا عن محارم الله، و زهدوا في عاجل زهرة الدنيا، و رغبوا فيما عند الله، و اكتسبوا الطيب من رزق الله، و لا يريدون هذا التفاخر و التكاثر ثم أنفقوا فيما يلزمهم من حقوق واجبة فأولئك الذين بارك الله لهم فيما اكتسبوا و يثابون على ما قدموا لآخرتهم.

 و في الدر المنثور، أخرج أحمد و الحكيم و الترمذي عن عمرو بن الجموح أنه سمع النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) يقول: إنه لا يحق العبد حق صريح الإيمان حتى يحب لله و يبغض لله تعالى فإذا أحب الله و أبغض الله فقد استحق الولاء من الله. الحديث.

أقول: و الروايات الثلاث في معنى الولاية يرجع بعضها إلى بعض و ينطبق الجميع على ما قدمناه في تفسير الآية.

 و فيه، أخرج ابن المبارك و ابن أبي شيبة و ابن جرير و أبو الشيخ و ابن مردويه عن سعيد بن جبير عن النبي ص: ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم و لا هم يحزنون» قال: يذكر الله لرؤيتهم. أقول: ينبغي أن يحمل إلى أن من آثار ولايتهم ذلك لا أن كل من كان كذلك كان من أهل الولاية إلا أن يراد أنهم كذلك في جميع أحوالهم و أعمالهم، و في معناها ما روي عن أبي الضحى و سعد عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : في الآية قال: إذا رأوا ذكر الله. و فيه، أخرج ابن أبي الدنيا في ذكر الموت و أبو الشيخ و ابن مردويه و أبو القاسم بن منده في كتاب سؤال القبر من طريق أبي جعفر عن جابر بن عبد الله قال: أتى رجل من أهل البادية رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال: يا رسول الله أخبرني عن قول الله:

﴿اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ كَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ اَلْبُشْريَ‏ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ فِي اَلْآخِرَةِ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : أما قوله ﴿لَهُمُ اَلْبُشْريَ‏ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا فهي الرؤيا الحسنة ترى للمؤمن فيبشر بها في دنياه، و أما قوله: ﴿وَ فِي اَلْآخِرَةِ فإنها بشارة المؤمن عند الموت أن الله قد غفر لك و لمن حملك إلى قبرك.

أقول: و في هذا المعنى روايات كثيرة من طرق أهل السنة و رواها الصدوق

 

 

 

مرسلا و قوله: «ترى للمؤمن» بصيغة المجهول أعم من أن يراها هو نفسه أو غيره و قوله: «عند الموت» قد أضيف إليه في بعض الروايات البشرى يوم القيامة بالجنة.

 و في المجمع،: في قوله: ﴿لَهُمُ اَلْبُشْريَ‏ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ فِي اَلْآخِرَةِ: عن أبي جعفر (عليه السلام): في معنى البشارة في الدنيا: الرؤيا الصالحة يراها المؤمن لنفسه أو ترى له، و في الآخرة الجنة و هي ما يبشرهم به الملائكة عند خروجهم من القبور، و في القيامة إلى أن يدخلوا الجنة يبشرونهم حالا بعد حال:

أقول: و قال بعد ذلك و روي ذلك في حديث مروي عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) انتهى و روي مثله عن الصادق (عليه السلام) و رواه القمي في تفسيره، مضمرا.

و في تفسير البرهان، عن ابن شهرآشوب عن زريق عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى: ﴿لَهُمُ اَلْبُشْريَ‏ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا قال: هو أن يبشراه بالجنة عند الموت يعني محمدا و عليا (عليه السلام).

 و في الكافي، بإسناده عن أبان بن عثمان عن عقبة أنه سمع أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن الرجل إذا وقعت نفسه في صدره رأى. قلت: جعلت فداك و ما يرى؟ قال: يرى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فيقول له رسول الله. أنا رسول الله أبشر، ثم قال:

ثم يرى علي بن أبي طالب (عليه السلام) فيقول: أنا علي بن أبي طالب الذي كنت تحب أما لأنفعنك اليوم.

قال: قلت له: أ يكون أحد من الناس يرى هذا ثم يرجع إلى الدنيا؟ قال:

إذا رأى هذا أبدا مات و أعظم ذلك قال: و ذلك في القرآن قول الله عز و جل:

﴿اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ كَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ اَلْبُشْريَ‏ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ فِي اَلْآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اَللَّهِ. أقول: و هذا المعنى مروي عن أئمة أهل البيت (عليه السلام) بطرق كثيرة جدا و قوله: «و أعظم ذلك» أي عده عظيما. و قد أخذ في الحديث قوله تعالى:

﴿اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ كَانُوا يَتَّقُونَ كلاما مستقلا ففسره بما فسر، و تقدم نظيره في رواية الدر المنثور، عن جابر بن عبد الله عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) مع أن ظاهر السياق كون الآية مفسرة لقوله قبلها: ﴿أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اَللَّهِ الآية و هو يؤيد ما قدمناه في بعض الأبحاث

 

 

 

 السابقة أن جميع التقادير من التركيبات الممكنة في كلامه تعالى حجة يحتج بها كما في قوله ﴿قُلِ اَللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ الأنعام: - ٩١ و قوله: ﴿قُلِ اَللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ و قوله: ﴿قُلِ اَللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ و قوله: ﴿قُلِ اَللَّهُ.

 و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و أحمد و الترمذي و صححه و ابن مردويه عن أنس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): إن الرسالة و النبوة قد انقطعت فلا رسول بعدي و لا نبي و لكن المبشرات. قالوا: يا رسول الله و ما المبشرات قال: رؤيا المسلم و هي جزء من أجزاء النبوة:

أقول: و روي ما في معناه عن أبي قتادة و عائشة عنه (ص).

 و فيه، أخرج ابن أبي شيبة و مسلم و الترمذي و أبو داود و ابن ماجة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب، و أصدقهم رؤيا أصدقهم حديثا، و رؤيا المسلم جزء من ستة و أربعين جزء من النبوة، و الرؤيا ثلاث: فالرؤيا الصالحة بشرى من الله، و الرؤيا من تحزن و الرؤيا مما يحدث بها الرجل نفسه. و إذا رأى أحدكم ما يكره فليقم و ليتفل و لا يحدث به الناس‏ الحديث.

 و فيه، أخرج ابن أبي شيبة عن عوف بن مالك الأشجعي قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): الرؤيا على ثلاثة: تخويف من الشيطان ليحزن به ابن آدم و منه الأمر يحدث به نفسه في اليقظة فيراه في المنام، و منه جزء من ستة و أربعين جزء من النبوة.

 أقول: أما انقسام الرؤيا إلى الأقسام الثلاثة كما ورد في الروايتين و في معناهما روايات أخرى من طرق أهل السنة و أخرى من طرق أئمة أهل البيت (عليه السلام) فسيجي‏ء توضيحه في تفسير سورة يوسف إن شاء الله تعالى.

و أما كون الرؤيا الصالحة جزء من ستة و أربعين جزء من النبوة فقد وردت به روايات كثيرة من طرق أهل السنة رواها عنه (ص) جمع من الصحابة كأبي هريرة و عبادة بن الصامت و أبي سعيد الخدري و أبي رزين، و روى أنس و أبو قتادة و عائشة عنه (ص): أنها من أجزاء النبوة كما تقدم.

 

 

 

و عن الصفدي أنه وجه الرواية بأن مدة نبوة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ثلاث و عشرون سنة دعا فيها إلى ربه ثلاث عشرة سنة قبل الهجرة، و عشر سنين بعدها، و قد ورد أن الوحي كان يأتيه ستة أشهر من أولها من طريق الرؤيا الصالحة حتى نزل القرآن، و النسبة بين الستة الأشهر و بين الثلاث و عشرين سنة نسبة الواحد إلى الستة و الأربعين.

 و قد روي عن ابن عمر و أبي هريرة عنه (ص): أنها جزء من سبعين جزء من النبوة فإن صحت هذه الرواية كان المراد بالتعداد مجرد التكثير من غير خصوصية لعدد السبعين.

و اعلم أن الرؤيا ربما أطلقت في لسان القرآن و الحديث على ما يشاهده الرائي ما لا يشاهده غيره و إن لم ينم نومه الطبيعي، و قد نبهنا عليه في مباحث النبوة في الجزء الثاني من الكتاب و أحسن كلمة في تفسيرها

 قوله (ص): تنام عيني و لا ينام قلبي.

 [سورة يونس (١٠): الآیات ٧١ الی ٧٤]

﴿وَ اُتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَ تَذْكِيرِي بِآيَاتِ اَللَّهِ فَعَلَى اَللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَ شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اُقْضُوا إِلَيَّ وَ لاَ تُنْظِرُونِ ٧١ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اَللَّهِ وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ ٧٢ فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَ مَنْ مَعَهُ فِي اَلْفُلْكِ وَ جَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ وَ أَغْرَقْنَا اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ اَلْمُنْذَرِينَ ٧٣ ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِليَ‏ قَوْمِهِمْ فَجَاؤُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ

 

 

 

كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَليَ‏ قُلُوبِ اَلْمُعْتَدِينَ ٧٤

(بيان)

تذكر الآيات إجمال قصة نوح (عليه السلام) و من بعده من الرسل إلى زمن موسى و هارون (عليه السلام)، و ما عامل به الله سبحانه أممهم المكذبين لرسلهم حيث أهلكهم و نجا رسله و المؤمنين بهم ليعتبر بها أهل التكذيب من هذه الأمة.

قوله تعالى: ﴿وَ اُتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إلى آخر الآية

المقام‏

مصدر ميمي و اسم زمان و مكان من القيام، و المراد به الأول أو الثالث أي قيامي بأمر الدعوة إلى توحيد الله أو مكانتي و منزلتي و هي منزلة الرسالة، و

 الإجماع‏

 العزم و ربما يتعدى بعلى قال الراغب: و أجمعت كذا أكثر ما يقال فيما يكون جمعا يتوسل إليه بالفكرة نحو فأجمعوا كيدكم و شركاءكم.

و

 الغمة

 هي الكربة و الشدة و فيه معنى التغطية كان الهم يغطي القلب، و منه الغمام للغيم سمي به لتغطيته وجه السماء، و

القضاء

إلى الشي‏ء إتمام أمره بقتل و إفناء و نحو ذلك.

و معنى الآية: ﴿وَ اُتْلُ يا محمد ﴿عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ و خبره العظيم حيث واجه قومه و هو واحد يتكلم عن نفسه، و هو مرسل إلى أهل الدنيا فتحدى عليهم بأن يفعلوا به ما بدا لهم إن قدروا على ذلك، و أتم الحجة على مكذبيه في ذلك ﴿إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي و نهضتي لأمر الدعوة إلى التوحيد أو منزلتي من الرسالة ﴿وَ تَذْكِيرِي بِآيَاتِ اَللَّهِ و هو داعيكم لا محالة إلى قتلي و إيقاع ما تقدرون عليه من الشر بي لإراحة أنفسكم مني ﴿فَعَلَى اَللَّهِ تَوَكَّلْتُ قبال ما يهددني من تحرج صدوركم و ضيق نفوسكم علي بإرجاع أمري إليه و جعله وكيلا يتصرف في شئوني و من غير أن أشتغل بالتدبير ﴿فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَ شُرَكَاءَكُمْ الذين تزعمون أنهم ينصرونكم في الشدائد، و اعزموا علي بما بدا لكم، و هذا أمر تعجيزي، ﴿ثُمَّ لاَ يَكُنْ

 

 

 

 أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً إن لم تكونوا اجتهدتم في التوسل إلى كل سبب في دفعي ﴿ثُمَّ اُقْضُوا إِلَيَّ بدفعي و قتلي ﴿وَ لاَ تُنْظِرُونِ و لا تمهلوني.

و في الآية تحديه (عليه السلام) على قومه بأن يفعلوا به ما بدا لهم، و إظهار أن ربه قدير على دفعهم عنه و إن أجمعوا عليه و انتصروا بشركائهم و آلهتهم.

قوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إلى آخر الآية. تفريع على توكله بربه، و قوله: ﴿فَمَا سَأَلْتُكُمْ إلخ، بمنزلة وضع السبب موضع المسبب و التقدير فإن توليتم و أعرضتم عن استجابة دعوتي فلا ضير لي في ذلك فإني لا أ تضرر في إعراضكم شيئا لأني إنما كنت أ تضرر بإعراضكم عني لو كنت سألتكم أجرا على ذلك يفوت بالإعراض و ما سألتكم عليه من أجر إن أجري إلا على الله.

و قوله: ﴿وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ أي الذين يسلمون الأمر إليه فيما أراده لهم و عليهم، و لا يستكبرون عن أمره بالتسليم لسائر الأسباب الظاهرة حتى يخضعوا لها و يتوقعوا به إيصال نفع أو دفع شر.

قوله تعالى: ﴿فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَ مَنْ مَعَهُ فِي اَلْفُلْكِ وَ جَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ إلى آخر الآية،

الخلائف

‏ جمع خليفة أي جعلنا هؤلاء الناجين خلائف في الأرض و الباقين من بعدهم يخلفون سلفهم و يقومون مقامهم، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِليَ‏ قَوْمِهِمْ إلى آخر الآية، يريد بالرسل من جاء منهم بعد نوح إلى زمن موسى (عليه السلام). و ظاهر السياق أن المراد بالبينات الآيات المعجزة التي اقترحتها الأمم على أنبيائهم بعد مجيئهم و دعوتهم و تكذيبهم لهم فأتوا بها و كان فيها القضاء بينهم و بين أممهم، و يؤيده قوله بعده: ﴿فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ إلخ، فإن السابق إلى الذهن أنهم جاءوهم بالآيات البينات لكن الله قد كان طبع على قلوبهم لاعتدائهم فلم يكن في وسعهم أن يؤمنوا ثانيا بما كذبوا به أولا.

و لازم ذلك أن يكون تكذيبهم بذلك قبل مجي‏ء الرسل بتلك الآيات البينات فقد كانت الرسل بثوا دعوتهم فيهم و دعوهم إلى توحيد الله فكذبوا به و بهم ثم اقترحوا

 

 

 

 عليهم آية معجزة فجاءوهم بها فلم يؤمنوا.

و قد أسلفنا بعض البحث عن هذه الآية في تفسير قوله ﴿فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ: الأعراف: - ١٠١ في الجزء الثامن من الكتاب، و بينا هناك أن في الآية إشارة إلى عالم الذر غير أنه لا ينافي إفادتها لما قدمناه من المعنى آنفا فليراجع.

(بحث روائي)

 في الكافي، عن محمد بن يحيى عن محمد بن الحسين عن محمد بن إسماعيل عن صالح بن عقبة عن عبد الله بن محمد الجعفي و عقبة جميعا عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن الله عز و جل خلق الخلق فخلق من أحب مما أحب فكان مما[1] أحب أن خلقه من طين الجنة و خلق من أبغض مما أبغض و كان ما أبغضه أن خلقه من طينة النار ثم بعثهم في الظلال، فقلت: و أي شي‏ء الظلال؟ فقال: أ لم تر إلى ظلك في الشمس شي‏ء و ليس بشي‏ء .

ثم بعث منهم النبيين فدعوهم إلى الإقرار بالله عز و جل: ﴿وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اَللَّهُ ثم دعوهم إلى الإقرار بالنبيين فأقر بعض و أنكر بعض، ثم دعوهم إلى ولايتنا فأقر بها و الله من أحب و أنكرها من أبغض، و هو قوله: ﴿فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ. ثم قال أبو جعفر (عليه السلام): كان التكذيب من قبل:.

أقول: و رواه في العلل، بإسناده إلى محمد بن إسماعيل عن صالح عن عبد الله و عقبة عنه (عليه السلام)، و رواه العياشي عن الجعفي عنه (عليه السلام). و في تفسير العياشي، عن زرارة و حمران عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام):

خلق الخلق و هم أظلة فأرسل رسوله محمدا (صلى الله عليه وآله و سلم) فمنهم من آمن به و منهم من كذبه ثم بعثه في الخلق الآخر فآمن به من كان آمن به في الأظلة و جحده من جحده يومئذ

 

 

 

فقال: ﴿فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ.

 أقول: قد فصلنا القول في ما يسمى عالم الذر في تفسير قوله تعالى: ﴿وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَليَ‏ أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلى‏ الآية. و أوضحنا هناك أن آيات الذر تثبت عالما إنسانيا آخر غير هذا العالم الإنساني المادي التدريجي المشوب بالآلام و المصائب و المعاصي و الآثام المشهود لنا من طريق الحس.

و هو مقارن لهذا العالم المحسوس نوعا من المقارنة لكنه غير محكوم بهذه الأحكام المادية، و ليس تقدمه على عالمنا هذا تقدما بالزمان بل بنوع آخر من التقدم نظير التقدم المستفاد من قوله﴿أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ يس: - ٨٢ فإن «كن» و «يكون» يحكيان عن مصداق واحد و هو وجود الشي‏ء خارجا لكن هذا الوجود بعينه بوجهه الذي إلى الله متقدم عليه بوجهه الآخر، و هو بوجهه الرباني غير تدريجي و لا زماني و لا غائب عن ربه و لا منقطع عنه بخلاف وجهه إلى الخلق على التفصيل الذي تقدم هناك.

و الذي أوردناه من الرواية في هذا البحث الروائي تشير إلى عالم الذر كالذي مرت سابقا غير أنها تختص بمزية و هي ما فيها من لطيف التعبير بالظلال فإن بإجادة التأمل في هذا التعبير يتضح المراد أحسن الاتضاح فإن في الأشياء الكونية أمورا هي كالظلال في أنها لازمة لها حاكية لخصوصيات وجودها و آثار وجودها، و مع ذلك فهي هي و ليست هي.

فإنا إذا نظرنا إلى الأشياء و جردنا النظر و محضناه في كونها صنع الله و فعله المحض غير المنفك منه و لا المنفصل عنه و هي نظرة حقة واقعية - لم يتحقق فيها إلا التسليم لله و الخضوع لإرادته و التذلل لكبريائه و التعلق برحمته و أمر ربوبيته و الإيمان بوحدانيته و بما أرسل به رسله و أنزله إليهم من دينه.

و هذه الوجودات ظلال أشياء و ليست بأشياء إذا قيست إلى وجودات الأشياء المادية، و أخذ العالم المادي أصلا مقيسا إليه و هو الذي بنت عليه الآيات من جهة كون غرضها بيان ثبوت التكليف بالتوحيد تكليفا لا محيص عنه مسئولا عنه يوم القيامة.

 

 

 

 و لو أخذت جهة الرب تعالى أصلا و قيس إليه هذا العالم المادي بما فيه من الموجودات المادية و هو أيضا نظر حق كان هذا العالم هو الظل و كانت جهة الرب تعالى هو الأصل و الشخص الذي له الظل كما يشير إليه قوله تعالى ﴿كُلُّ شَيْ‏ءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ القصص: - ٨٨ و قوله ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَ يَبْقيَ‏ وَجْهُ رَبِّكَ الرحمن - ٢٧.

 و أما ما رواه العياشي عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله: ﴿فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ قال: «بعث الله الرسل إلى الخلق و هم في أصلاب الرجال و أرحام النساء فمن صدق حينئذ صدق بعد ذلك، و من كذب حينئذ كذب بعد ذلك‏».

فظاهره أن للبعث تعلقا بالنطف التي في الأصلاب و الأرحام. و هم أحياء عقلاء مكلفون، و هذا مما يدفعه الضرورة كما تقدم في الكلام على آية الذر اللهم إلا أن يحمل على أن المراد كون عالم الذر محيطا بهذا العالم المادي التدريجي الزماني من جهة كونه غير زماني فلا يتعلق الوجود الذري بزمان دون زمان و هو مع ذلك محمل بعيد.

[سورة يونس (١٠): الآیات ٧٥ الی ٩٣]

﴿ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسيَ‏ وَ هَارُونَ إِليَ‏ فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَ كَانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ ٧٥ فَلَمَّا جَاءَهُمُ اَلْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ ٧٦ قَالَ مُوسيَ‏ أَ تَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَ سِحْرٌ هَذَا وَ لاَ يُفْلِحُ اَلسَّاحِرُونَ ٧٧ قَالُوا أَ جِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَ تَكُونَ لَكُمَا اَلْكِبْرِيَاءُ فِي اَلْأَرْضِ وَ مَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ ٧٨ وَ قَالَ فِرْعَوْنُ اِئْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ

 

 

 

عَلِيمٍ ٧٩ فَلَمَّا جَاءَ اَلسَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسيَ‏ أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ ٨٠ فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسيَ‏ مَا جِئْتُمْ بِهِ اَلسِّحْرُ إِنَّ اَللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اَللَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ اَلْمُفْسِدِينَ ٨١ وَ يُحِقُّ اَللَّهُ اَلْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْمُجْرِمُونَ ٨٢ فَمَا آمَنَ لِمُوسيَ‏ إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَليَ‏ خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَ إِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي اَلْأَرْضِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ اَلْمُسْرِفِينَ ٨٣ وَ قَالَ مُوسيَ‏ يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ ٨٤ فَقَالُوا عَلَى اَللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ اَلظَّالِمِينَ ٨٥ وَ نَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ اَلْقَوْمِ اَلْكَافِرِينَ ٨٦ وَ أَوْحَيْنَا إِليَ‏ مُوسيَ‏ وَ أَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَ اِجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاَةَ وَ بَشِّرِ اَلْمُؤْمِنِينَ ٨٧ وَ قَالَ مُوسيَ‏ رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَ مَلَأَهُ زِينَةً وَ أَمْوَالاً فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اِطْمِسْ عَليَ‏ أَمْوَالِهِمْ وَ اُشْدُدْ عَليَ‏ قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا اَلْعَذَابَ اَلْأَلِيمَ ٨٨ قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَ لاَ تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ اَلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ٨٩ وَ جَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ اَلْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَ جُنُودُهُ بَغْياً وَ عَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ اَلْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اَلَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَ أَنَا مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ ٩٠ آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَ كُنْتَ

 

 

 

مِنَ اَلْمُفْسِدِينَ ٩١ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ اَلنَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ ٩٢ وَ لَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَ رَزَقْنَاهُمْ مِنَ اَلطَّيِّبَاتِ فَمَا اِخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ اَلْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ٩٣

(بيان)

ثم ساق الله سبحانه نبأ موسى و أخيه و وزيره هارون مع فرعون و ملئه و قد أوجز في القصة غير أنه ساقها سوقا ينطبق بفصولها على المحصل من حديث بعثة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و دعوته عتاة قومه و الطواغيت من قريش و غيرهم، و عدم إيمانهم به إلا ضعفاؤهم الذين كانوا يفتنونهم حتى التجئوا إلى الهجرة فهاجر هو (ص) و جمع من المؤمنين به إلى المدينة فعقبه فراعنة هذه الأمة و ملؤهم فأهلكهم الله بذنوبهم و بوأ الله المؤمنين ببركة الإسلام مبوأ صدق و رزقهم من الطيبات ثم اختلفوا من بعد ما جاءهم العلم و سيقضي الله بينهم.

فكان ذلك كله تصديقا لما أسر الله سبحانه إلى نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) في هذه الآيات فيما سيستقبله و قومه من الحوادث، و لقوله (ص) يخاطب أصحابه و أمته: لتتبعن سنة بني إسرائيل حتى أنهم لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه.

قوله تعالى: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسيَ‏ وَ هَارُونَ إلخ، أي ثم بعثنا من بعد نوح و الرسل الذين من بعده موسى و أخاه هارون بآياتنا إلى فرعون و الجماعة الذين يختصون به من قومه و هم القبط فاستكبروا عن آياتنا و كانوا مستمرين على الاجرام.

قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمُ اَلْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا إلخ، الظاهر أن المراد بالحق هو الآية الحقة كالثعبان و اليد البيضاء، و قد جعلهما الله آية لرسالته بالحق فلما جاءهم

 

 

 

 الحق قالوا و أكدوا القول: إن هذا يشيرون إلى الحق من الآية لسحر مبين واضح كونه سحرا، و إنما سمى الآية حقا قبال تسميتهم إياها سحرا.

قوله تعالى: ﴿قَالَ مُوسيَ‏ أَ تَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَ سِحْرٌ هَذَا إلخ، أي فلما سمع مقالتهم تلك و رميهم الحق بأنه سحر مبين قال لهم منكرا لقولهم في صورة الاستفهام: ﴿أَ تَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ إنه لسحر؟ ثم كرر الإنكار مستفهما بقوله: ﴿أَ سِحْرٌ هَذَا؟ فمقول القول في الجملة الاستفهامية محذوف إيجازا لدلالة الاستفهام الثاني عليه، و قوله: ﴿وَ لاَ يُفْلِحُ اَلسَّاحِرُونَ يمكن أن يكون جملة حالية معللة للإنكار الذي يدل عليه قوله: ﴿أَ سِحْرٌ هَذَا، و يمكن أن يكون إخبارا مستقلا بيانا للواقع يبرئ به نفسه من أن يقترف السحر لأنه يرى لنفسه الفلاح و للساحرين أنهم لا يفلحون.

قوله تعالى: ﴿قَالُوا أَ جِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا إلخ، اللفت‏ هو الصرف عن الشي‏ء، و المعنى: قال فرعون و ملؤه لموسى معاتبين له: ﴿أَ جِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا و تصرفنا ﴿عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا يريدون سنة قدمائهم و طريقتهم ﴿وَ تَكُونَ لَكُمَا اَلْكِبْرِيَاءُ فِي اَلْأَرْضِ يعنون الرئاسة و الحكومة و انبساط القدرة و نفوذ الإرادة يؤمون بذلك أنكما اتخذتما الدعوة الدينية وسيلة إلى إبطال طريقتنا المستقرة في الأرض، و وضع طريقة جديدة أنتما واضعان مبتكران لها موضعها تحوزان بإجرائها في الناس و إيماننا بكما و طاعتنا لكما الكبرياء و العظمة في المملكة.

و بعبارة أخرى إنما جئتما لتبدلا الدولة الفرعونية المتعرقة في القبط إلى دولة إسرائيلية تدار بإمامتكما و قيادتكما، و ما نحن لكما بمؤمنين حتى تنالا بذلك أمنيتكما و تبلغا غايتكما من هذه الدعوة المزورة.

قوله تعالى: ﴿وَ قَالَ فِرْعَوْنُ اِئْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ كان يأمر به ملأه فيعارض بسحر السحرة معجزة موسى كما فصل في سائر الآيات القاصة للقصة و تدل عليه الآيات التالية.

قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَ اَلسَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسيَ‏ أَلْقُوا إلخ، أي لما جاءوا و واجهوا موسى و تهيئوا لمعارضته قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقوه من الحبال

 

 

 

 و العصي، و قد كانوا هيئوها ليلقوها فيظهروها في صور الحيات و الثعابين بسحرهم.

قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسيَ‏ مَا جِئْتُمْ بِهِ اَلسِّحْرُ ما قاله (عليه السلام) بيان لحقيقة من الحقائق لينطبق عليها ما سيظهره الله من الحق على يديه من صيرورة العصا ثعبانا يلقف ما ألقوه من الحبال و العصي و أظهروه في صور الحيات و الثعابين بسحرهم.

و الحقيقة التي بينها لهم أن الذي جاءوا به سحر و السحر شأنه إظهار ما ليس بحق واقع في صورة الحق الواقع لحواس الناس و أنظارهم، و إذ كان باطلا في نفسه فإن الله سيبطله لأن السنة الإلهية جارية على إقرار الحق و إحقاقه في التكوين و إزهاق الباطل و إبطاله فالدولة للحق و إن كانت للباطل جولة أحيانا.

و لذا علل قوله: ﴿إِنَّ اَللَّهَ سَيُبْطِلُهُ بقوله: ﴿إِنَّ اَللَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ اَلْمُفْسِدِينَ فإن الصلاح و الفساد شأنان متقابلان، و قد جرت السنة الإلهية أن يصلح ما هو صالح و يفسد ما هو فاسد أي إن يرتب على كل منهما أثره المناسب له المختص به و أثر العمل الصالح أن يناسب و يلائم سائر الحقائق الكونية في نظامها الذي تجري هي عليه، و يمتزج بها و يخالطها فيصلحه الله سبحانه و يجريه على ما كان من طباعه، و أثر العمل الفاسد أن لا يناسب و لا يلائم سائر الحقائق الكونية فيما تقتضيه بطباعها و تجري عليه بجبلتها فهو أمر استثنائي في نفسه، و لو أصلحه الله في فساده كان ذلك إفسادا للنظام الكوني.

فيعارضه سائر الأسباب الكونية بما لها من القوى و الوسائل المؤثرة، و تعيده إلى السيرة الصالحة إن أمكن و إلا أبطلته و أفنته و محته عن صحيفة الوجود البتة.

و هذه الحقيقة تستلزم أن السحر و كل باطل غيره لا يدوم في الوجود و قد قررها الله سبحانه في كلامه في مواضع مختلفة كقوله: ﴿وَ اَللَّهُ لاَ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظَّالِمِينَ و قوله: ﴿وَ اَللَّهُ لاَ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْفَاسِقِينَ و قوله﴿إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ المؤمن: - ٢٨، و منها قوله في هذه الآية: ﴿إِنَّ اَللَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ اَلْمُفْسِدِينَ.

و أكده بتقريره في جانب الإثبات بقوله في الآية التالية: ﴿وَ يُحِقُّ اَللَّهُ اَلْحَقَّ

 

 

 

 بِكَلِمَاتِهِ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْمُجْرِمُونَ كما سيأتي توضيحه.

قوله تعالى: ﴿وَ يُحِقُّ اَللَّهُ اَلْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْمُجْرِمُونَ لما كشف الله عن الحقيقة المتقدمة في جانب النفي بقوله: ﴿إِنَّ اَللَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ اَلْمُفْسِدِينَ أبان عنه في جانب الإثبات أيضا في هذه الآية بقوله: ﴿وَ يُحِقُّ اَللَّهُ اَلْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ و قد جمع تعالى بين معنيي النفي و الإثبات في قوله ﴿لِيُحِقَّ اَلْحَقَّ وَ يُبْطِلَ اَلْبَاطِلَ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْمُجْرِمُونَ الأنفال: - ٨.

و من هنا يقوى احتمال أن يكون المراد بالكلمات في الآية أقسام الأقضية الإلهية في شئون الأشياء الكونية الجارية على الحق فإن قضاء الله ماض و سنته جارية أن يضرب الحق و الباطل في نظام الكون ثم لا يلبث الباطل دون أن يفنى و يعفى أثره و يبقى الحق على جلائه، و ذلك قوله تعالى﴿أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ اَلسَّيْلُ زَبَداً رَابِياً وَ مِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي اَلنَّارِ اِبْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اَللَّهُ اَلْحَقَّ وَ اَلْبَاطِلَ فَأَمَّا اَلزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَ أَمَّا مَا يَنْفَعُ اَلنَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي اَلْأَرْضِ الرعد: - ١٧، و سيجي‏ء استيفاء البحث فيه في ذيل الآية إن شاء الله تعالى.

و الحاصل أن موسى (عليه السلام) إنما ذكر هذه الحقيقة لهم ليوقفهم على سنة إلهية حقة غفلوا عنها، و ليهيئ نفوسهم لما سيظهره عملا من غلبة الآية المعجزة على السحر و ظهور الحق على الباطل، و لذا بادروا إلى الإيمان حين شاهدوا المعجزة، و ألقوا أنفسهم على الأرض ساجدين على ما فصله الله سبحانه في مواضع أخرى من كلامه.

و قوله: ﴿وَ لَوْ كَرِهَ اَلْمُجْرِمُونَ ذكر الاجرام من بين أوصافهم لأن فيه معنى القطع فكأنهم قطعوا سبيل الحق على أنفسهم و بنوا على ذلك بنيانهم فهم على كراهية من ظهور الحق، و لذلك نسب الله كراهة ظهور الحق إليهم بما هم مجرمون في قوله:

﴿وَ لَوْ كَرِهَ اَلْمُجْرِمُونَ و في معناه قوله في أول الآيات: ﴿فَاسْتَكْبَرُوا وَ كَانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ.

قوله تعالى: ﴿فَمَا آمَنَ لِمُوسيَ‏ إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَليَ‏ خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِمْ إلى آخر الآيتين ذكر بعض المفسرين أن الضمير في «قومه» راجع إلى فرعون،

 

 

 

و الذرية الذين آمنوا من قومه كانت أمهاتهم من بني إسرائيل و آباؤهم من القبط فتبعوا أمهاتهم في الإيمان بموسى، و قيل: الذرية بعض أولاد القبط، و قيل: أريد بها امرأة فرعون و مؤمن آل فرعون، و قد ذكرا في القرآن و جارية و امرأة هي مشاطة امرأة فرعون.

و ذكر آخرون أن الضمير لموسى (عليه السلام) و المراد بالذرية جماعة من بني إسرائيل تعلموا السحر و كانوا من أصحاب فرعون، و قيل: هم جميع بني إسرائيل و كانوا ستمائة ألف نسمة سماهم ذرية لضعفهم، و قيل: ذرية آل إسرائيل ممن بعث إليهم موسى و قد هلكوا بطول العهد، و هذه الوجوه كما ترى لا دليل على شي‏ء منها في الآيات من جهة اللفظ.

و الذي يفيده السياق و هو الظاهر من الآية أن يكون الضمير راجعا إلى موسى و المراد بالذرية من قوم موسى بعض الضعفاء من بني إسرائيل دون ملئهم الأقوياء و الشرفاء، و الاعتبار يساعد على ذلك فإنهم جميعا كانوا أسراء للقبط محكومين بحكمهم بأجمعهم، و العادة الجارية في أمثال هذه الموارد أن يتوسل الشرفاء و الأقوياء بأي وسيلة أمكنت إلى حفظ مكانتهم الاجتماعية و جاههم القومي، و يتقربوا إلى الجبار المسيطر عليهم بإرضائه بالمال و التظاهر بالخدمة و مراءاة النصح و التجنب عما لا يرتضيه فلم يكن في وسع الملإ من بني إسرائيل أن يعلنوا موافقة موسى على بغيته، و يتظاهروا بالإيمان به.

على أن قصص بني إسرائيل في القرآن أعدل شاهد على أن كثيرا من عتاة بني إسرائيل و مستكبريهم لم يؤمنوا بموسى إلى أواخر عهده و إن كانوا يتسلمون له و يطيعونه في عامة أوامره التي كان يصدرها لبذل المساعي في سبيل نجاة بني إسرائيل لما كان فيها صلاح قوميتهم و حرية شعبهم و منافع أشخاصهم، فالإطاعة في هذه الأمور أمر و الإيمان بالله و ما جاء به الرسول أمر آخر.

و يستقيم على هذا معنى قوله: ﴿وَ مَلاَئِهِمْ بأن يكون الضمير إلى الذرية و يفيد الكلام أن الذرية الضعفاء كانوا في إيمانهم يخافون الملأ و الأشراف من بني إسرائيل فإنهم ربما كانوا يمنعونهم لعدم إيمانهم أنفسهم أو تظاهروا بذلك ليرضوا به فرعون و قومه

 

 

 

 و يطيبوا أنفسهم فلا يضيقوا عليهم و ينقصوا من إيذائهم و التشديد عليهم.

و أما ما قيل: إن الضمير راجع إلى فرعون لأنه ذو أصحاب أو للذرية لأنهم كانوا من القبط فمما لا يصار إليه البتة و خاصة أول الوجهين.

و قوله: ﴿أَنْ يَفْتِنَهُمْ أي يعذبهم ليعودوا إلى ملته و قوله: ﴿وَ إِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي اَلْأَرْضِ﴾ أي و الظرف هذا الظرف و هو أن فرعون عال في الأرض مسرف في الأمر.

فالمعنى و الله أعلم فتفرع على قصة بعثهما و استكبار فرعون و ملئه أنه لم يؤمن بموسى إلا ضعفاء من بني إسرائيل و هم يخافون ملأهم و يخافون فرعون أن يعذبهم لإيمانهم و كان ينبغي لهم و من شأنهم أن يخافوا فإن فرعون كان يومئذ عاليا في الأرض مسلطا عليهم و إنه كان من المسرفين لا يعدل فيما يحكم و يجاوز الحد في الظلم و التعذيب.

و لو صح أن يراد بقومه كل من بعث إليهم موسى و بلغهم الرسالة و هم القبط و بنو إسرائيل استقام الكلام من طريق آخر من غير حاجة إلى ما تقدم من تكلفاتهم.

قوله تعالى: ﴿وَ قَالَ مُوسيَ‏ يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ لما كان الإيمان بالله بما يفيده للمؤمن من العلم بمقام ربه و لو إجمالا و أنه سبب فوق الأسباب إليه ينتهي كل سبب، و هو المدبر لكل أمر، يدعوه إلى تسليم الأمر إليه و التجنب عن الاعتماد بظاهر ما يمكنه التسبب به من الأسباب فإنه من الجهل، و لازم ذلك إرجاع الأمر إليه و التوكل عليه، و قد أمرهم في الآية بالتوكل على الله، علقه أولا على الشرط الذي هو الإيمان ثم تمم الكلام بالشرط الذي هو الإسلام.

فالكلام في تقدير: إن كنتم آمنتم بالله و مسلمين له فتوكلوا عليه. و قد فرق بين الشرطين و لعله لم يجمع بينهما فيقول: «إن كنتم آمنتم و أسلمتم فتوكلوا» لاختلاف الشرطين بحسب الحال فقد كان الإيمان واقعا محرزا منهم، و أما الإسلام فهو من كمال

 

 

 

 الإيمان، و ليس من الواجب الضروري أن يكون كل مؤمن مسلما بل من الأولى الأحرى أن يكمل إيمانه بالإسلام.

فالتفريق بين الشرطين للإشعار بكون أحدهما واجبا واقعا منهم، و الآخر مما ينبغي لهم أن يتحققوا به فالمعنى: يا قوم إن كنتم آمنتم بالله و قد آمنتم و كنتم مسلمين له و ينبغي أن تكونوا كذلك فتوكلوا على الله ففي الكلام من لطيف الصنعة ما لا يخفى.

قوله تعالى: ﴿فَقَالُوا عَلَى اَللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ اَلظَّالِمِينَ إلى آخر الآيتين، إنما توكلوا على الله لينجيهم من فرعون و ملئه فدعاؤهم بما دعوا به من قولهم: ﴿رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً إلخ، سؤال منهم نتيجة توكلهم و هو أن ينزع الله منهم لباس الضعف و الذلة، و ينجيهم من القوم الكافرين.

أما الأول فقد أشاروا إليه بقولهم: ﴿رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ اَلظَّالِمِينَ و ذلك أن الذي يغري الأقوياء الظالمين على الضعفاء المظلومين هو ما يشاهدون فيهم من الضعف فيفتتنون به فيظلمونهم فالضعيف بما له من الضعف فتنة للقوي الظالم كما أن الأموال و الأولاد بما عندها من جاذبة الحب فتنة للإنسان قال تعالى﴿إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَ أَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ التغابن: ١٥، و الدنيا فتنة لطالبها فسؤالهم ربهم أن لا يجعلهم فتنة للقوم الظالمين سؤال منهم أن يسلبهم الضعف و الذلة بسلب الغرض منه و هو سلب الشي‏ء بسلب سببه.

و أما الثاني أعني التنجية فهو الذي ذكره حكاية عنهم في الآية الثانية: ﴿وَ نَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ اَلْقَوْمِ اَلْكَافِرِينَ.

قوله تعالى: ﴿وَ أَوْحَيْنَا إِليَ‏ مُوسيَ‏ وَ أَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً إلخ،

التبوي

‏ أخذ المسكن و المنزل، و مصر بلد فرعون، و

القبلة

في الأصل بناء نوع من المصدر كجلسة أي الحالة التي يحصل بها التقابل بين الشي‏ء و غيره فهو مصدر بمعنى الفاعل أي اجعلوا بيوتكم متقابلة يقابل بعضها بعضا و في جهة واحدة و كان الغرض أن يتمكنا منهم بالتبليغ و يتمكنوا من إقامة الصلاة جماعة كما يدل عليه أو يشعر به قوله بعده: ﴿وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاَةَ لوقوعه بعده.

 

 

 

 و أما قوله: ﴿وَ بَشِّرِ اَلْمُؤْمِنِينَ فالسياق يدل على أن المراد به البشارة بإجابة ما سألوه في دعائهم المذكور آنفا: ﴿رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً إلى آخر الآيتين.

و المعنى: و أوحينا إلى موسى و أخيه أن اتخذا لقومكما مساكن من البيوت في مصر و كأنهم لم يكونوا إلى ذاك الحين إلا كهيئة البدويين يعيشون في الفساطيط أو عيشة تشبهها و اجعلا أنتما و قومكما بيوتكم متقابلة و في جهة واحدة يتصل بذلك بعضكم ببعض و يتمشى أمر التبليغ و المشاورة و الاجتماع في الصلوات، و أقيموا الصلاة و بشر يا موسى أنت المؤمنين بأن الله سينجيهم من فرعون و قومه.

قوله تعالى: ﴿وَ قَالَ مُوسيَ‏ رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَ مَلَأَهُ زِينَةً وَ أَمْوَالاً إلخ،

 الزينة

 بناء نوع من الزين و هي الهيأة التي تجذب النفس إلى الشي‏ء، و النسبة بين الزينة و المال العموم من وجه فبعض الزينة ليس بمال يبذل بإزائه الثمن كحسن الوجه و اعتدال القامة، و بعض المال ليس بزينة كالأنعام و الأراضي، و بعض المال زينة كالحلي و التقابل الواقع بين الزينة و المال يعطي أن يكون المراد بالزينة جهة الزينة من غير نظر إلى المالية كالحلي و الرياش و الأثاث و الأبنية الفاخرة و غيرها.

و قوله: ﴿رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ قيل اللام للعاقبة، و المعنى و عاقبة أمرهم أنهم يضلون عن سبيلك و لا يجوز أن يكون لام الغرض لأنا قد علمنا بالأدلة الواضحة أن الله سبحانه لا يبعث الرسول ليأمر الخلق بالضلال و لا يريد أيضا منهم الضلال، و كذلك لا يؤتيهم المال ليضلوا. انتهى.

و هو حق لكن في الإضلال الابتدائي المستحيل عليه تعالى، و أما الإضلال بعنوان المجازاة و مقابلة السوء بالسوء فلا دليل على امتناعه على الله سبحانه بل يثبته كلامه في موارد كثيرة، و قد كان فرعون و ملؤه مصرين على الاستكبار و الإفساد ملحين على الاجرام فلا مانع من أن يؤتيهم الله بذلك زينة و أموالا ليضلوا عن سبيله جزاء بما كسبوا.

و ربما قيل: إن اللام في «ليضلوا» للدعاء، و ربما قيل: إن الكلام بتقدير لا أي لئلا يضلوا عن سبيلك، و السياق لا يساعد على شي‏ء من الوجهين.

 

 

 

 و

 الطمس

 كما قيل تغير إلى الدثور و الدروس فمعنى «اطمس على أموالهم» غيرها إلى الفناء و الزوال، و قوله: ﴿وَ اُشْدُدْ عَليَ‏ قُلُوبِهِمْ من الشد المقابل للحل أي أقس قلوبهم و اربط عليها ربطا لا ينشرح للحق فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم فهو الطبع على القلوب، و قول بعضهم: إن المراد بالشد تثبيتهم على المقام بمصر بعد الطمس على أموالهم ليكون ذلك أشد عليهم و آلم، و كذا قول آخرين:

إنه كناية عن إماتتهم و إهلاكهم من الوجوه البعيدة.

فمعنى الآية: و قال موسى و كان ذلك بعد يأسه من إيمان فرعون و ملئه و يقينه بأنهم لا يدومون إلا على الضلال و الإضلال كما يدل عليه سياق كلامه في دعائه ربنا إنك جازيت فرعون و ملأه على كفرهم و عتوهم جزاء السوء فآتيتهم زينة و أموالا في الحياة الدنيا ربنا إرادة منك لأن يضلوا من اتبعهم عن سبيلك، و إرادتك لا تبطل و غرضك لا يلغو ربنا أدم على سخطك عليهم و اطمس على أموالهم و غيرها عن مجرى النعمة إلى مجرى النقمة و اجعل قلوبهم مشدودة مربوطة فلا يؤمنوا حتى يقفوا موقفا لا ينفعهم الإيمان و هو زمان يرون فيه العذاب الإلهي.

و هذا الدعاء من موسى (عليه السلام) على فرعون و ملئه إنما هو بعد يأسه التام من إيمانهم، و علمه أنه لا يترقب منهم في الحياة إلا أن يضلوا و يضلوا كدعاء نوح على قومه فيما حكاه الله﴿رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى اَلْأَرْضِ مِنَ اَلْكَافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَ لاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً نوح: - ٢٧، و حاشا ساحة الأنبياء (عليه السلام) أن يتكلموا على الخرص و المظنة في موقف يشافهون فيه رب العالمين جلت كبرياؤه و عز شأنه.

قوله تعالى: ﴿قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَ لاَ تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ اَلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ الخطاب على ما يدل عليه السياق لموسى و هارون و لم يحك الدعاء في الآية السابقة إلا عن موسى، و هذا يؤيد ما ذكره المفسرون: أن موسى (عليه السلام) كان يدعو، و كان هارون يؤمن له و آمين دعاء فقد كانا معا يدعوان و إن كان متن الدعاء لموسى (عليه السلام) وحده.

و

الاستقامة

هو الثبات على الأمر، و هو منهما (عليه السلام) الثبات على الدعوة

 

 

 

 إلى الله و على إحياء كلمة الحق، و المراد بالذين لا يعلمون الجهلة من شعب إسرائيل و قد وصفهم موسى (عليه السلام) بالجهل كما في قوله﴿قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ الأعراف: - ١٣٨.

و المعنى: «قال» الله مخاطبا لموسى و هارون ﴿قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا من سؤال العذاب الأليم لفرعون و ملئه، و الطمس على أموالهم و الشد على قلوبهم ﴿فَاسْتَقِيمَا و اثبتا على ما أمرتما به من الدعوة إلى الله و إحياء كلمة الحق ﴿وَ لاَ تَتَّبِعَانِّ البتة ﴿سَبِيلَ اَلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ بإجابة ما يقترحون عليكما عن أهواء أنفسهم و دواعي شهواتهم، و فيه نوع تلويح إلى أنهم سيسألون أمورا فيها إحياء سنتهم القومية و سيرتهم الجاهلية.

و بالجملة فالآية تذكر إجابة دعوتهما المتضمنة لعذاب فرعون و ملئه و عدم توفيقهم للإيمان و وعدهما بذلك و لذلك ذكر في الآية التالية وفاؤه تعالى بهذا الوعد بخصوصيته التي فيه.

و لم يكن في الدعاء ما يدل على مسألة الفور أو التراخي في القضاء عليهم بالعذاب و على ذلك جرى أيضا سياق الآية الدالة على القبول و الإجابة و كذا الآية المخبرة عن كيفية إنجازه،

و قد نقل في المجمع، عن ابن جريح :أن فرعون مكث بعد هذا الدعاء أربعين سنة :قال: و روي ذلك عن أبي عبد الله (عليه السلام)، و رواه عنه (عليه السلام) في الإحتجاج، و كذا في الكافي، و تفسير العياشي، عن هشام بن سالم عنه (عليه السلام) و في تفسير القمي، عن أبيه عن النوفلي عن السكوني عنه (عليه السلام).

 قوله تعالى: ﴿وَ جَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ اَلْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَ جُنُودُهُ بَغْياً وَ عَدْواً إلى آخر الآية،

 البغي و العدو

 كالعدوان الظلم و

إدراك الشي‏ء

 اللحوق به و التسلط عليه كما أن

 إتباع الشي‏ء

 طلب اللحوق به.

و قوله: ﴿آمَنْتُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اَلَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ أي آمنت بأنه.

و قد وصف الله بالذي آمنت به بنو إسرائيل ليظفر بما ظفروا به بإيمانهم و هو مجاوزة البحر و الأمان من الغرق، و لذلك أيضا جمع بين الإيمان و الإسلام ليزيل بذلك أثر ما كان يصر عليه من المعصية و هو الشرك بالله و الاستكبار على الله، و الباقي ظاهر.

 

 

 

قوله تعالى: ﴿آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَ كُنْتَ مِنَ اَلْمُفْسِدِينَ آلآن بالمد أصله أ الآن أي أ تؤمن بالله الآن و هو حين أدركك العذاب و لا إيمان و توبة حين غشيان العذاب و مجي‏ء الموت من كل مكان، و قد عصيت قبل هذا و كنت من المفسدين، و أفنيت أيامك في معصيته، و لم تقدم التوبة لوقتها فما ذا ينفعك الإيمان بعد فوت وقته و هذا هو الذي كان موسى و هارون سألاه ربهما أن يأخذه بعذاب أليم و يسد سبيله إلى الإيمان إلا حين يغشاه العذاب فلا ينفعه الإيمان و لا تغني عنه التوبة شيئا.

قوله تعالى: ﴿فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ اَلنَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ

 التنجية و الإنجاء

 تفعيل و إفعال من النجاة كالتخليص و الإخلاص من الخلاص وزنا و معنى.

و تنجيته ببدنه تدل على أن له أمرا آخر وراء البدن فقده بدنه بغشيان العذاب و هو النفس التي تسمى أيضا روحا، و هذه النفس المأخوذة هي التي يتوفاها الله و يأخذها حين موتها كما قال تعالى﴿اَللَّهُ يَتَوَفَّى اَلْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا الزمر: - ٤٢، و قال﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ اَلْمَوْتِ اَلَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ الم السجدة: - ١١، و هي التي يخبر عنها الإنسان بقوله: «أنا» و هي التي بها تتحقق للإنسان إنسانيته، و هي التي تدرك و تريد و تفعل الأفعال الإنسانية بواسطة البدن بما له من القوى و الأعضاء المادية، و ليس للبدن إلا أنه آلة و أداة تعمل بها النفس أعمالها المادية.

و لمكان الاتحاد الذي بينها و بين البدن يسمى باسمها البدن و إلا فأسماء الأشخاص في الحقيقة لنفوسهم لا لأبدانهم، و ناهيك في ذلك التغير المستمر الذي يعرض البدن مدة الحياة، و التبدل الطبيعي الذي يطرء عليه حينا بعد حين حتى ربما تبدل البدن بجميع أجزائه إلى أجزاء أخر تتركب بدنا آخر فلو كان زيد هو البدن الذي ولدته أمه يوم ولدته و الاسم له لكان غيره و هو ذو سبعين و ثمانين قطعا و الاسم لغيره حتما، و لم يثب و لم يعاقب الإنسان و هو شائب على ما عمله و هو شاب لأن الطاعة و المعصية لغيره.

فهذه و أمثالها شواهد قطعية على أن إنسانية الإنسان بنفسه دون بدنه، و الأسماء للنفوس لا للأبدان يدركها الإنسان و يعرفها إجمالا و إن كان ربما أنكرها

 

 

 

 في مقام التفصيل.

و بالجملة فالآية: ﴿فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ كالصريح أو هو صريح في أن النفوس وراء الأبدان، و أن الأسماء للنفوس دون الأبدان إلا ما يطلق على الأبدان بعناية الاتحاد.

فمعنى ﴿نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ﴾ نخرج بدنك من أليم و ننجيه، و هو نوع من تنجيتك لما بين النفس و البدن من الاتحاد القاضي بكون العمل الواقع على أحدهما واقعا بنحو على الآخر لتكون لمن خلفك آية، و هذا بوجه نظير قوله تعالى﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَ فِيهَا نُعِيدُكُمْ طه: - ٥٥ فإن الذي يعاد إلى الأرض هو جسد الإنسان دون الإنسان التام فليست نسبة الإعادة إلى الإنسان إلا لما بين نفسه و بدنه من الاتحاد.

و قد ذكر المفسرون أن الإنجاء و التنجية لما كان دالا بلفظه على سلامة الذي أنجي إنجاء كان مفاد قوله: ﴿نُنَجِّيكَ أن يكون فرعون خارجا من أليم حيا و قد أخرجه الله ميتا فالمتعين أخذ قوله: ﴿نُنَجِّيكَ من النجوة و هي الأرض المرتفعة التي لا يعلوها السيل، و المعنى اليوم نخرج بدنك إلى نجوة من الأرض.

و ربما قال بعضهم إن المراد بالبدن الدرع، و قد كان لفرعون درع من ذهب يعرف به فأخرجه الله فوق الماء بدرعه ليكون لمن خلفه آية و عبرة، و ربما قال بعضهم إن التعبير بالتنجية تهكم به.

و الحق أن هذا كله تكلف لا حاجة إليه، و لم يقل: ﴿نُنَجِّيكَ و إنما قيل ﴿نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ و معناه ننجي بدنك، و الباء للآلية أو السببية، و العناية هي الاتحاد الذي بين النفس و البدن.

على أن جعل ﴿نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ بمعنى نجعلك على نجوة من الأرض لا يفي بدفع الإشكال من أصله فإن الذي جعل على نجوة هو بدن فرعون على قولهم، و هو غير فرعون قطعا و إلا كان حيا سالما، و لا مناص إلا أن يقال: إن ذلك بعناية الاتحاد الذي بين الإنسان و بدنه، و لو صححت هذه العناية إطلاق اسم الإنسان على بدنه من غير نفس لكان لها أن تصحح نسبة التنجية إلى الإنسان من جهة وقوع

 

 

 

 التنجية ببدنه، و خاصة مع وجود القرينة الدالة على أن المراد بالتنجية هي التي للبدن دون التي للإنسان المستتبع لحفظ حياته و سلامته نفسا و بدنا، و القرينة هي قوله: ﴿بِبَدَنِكَ.

قوله تعالى: ﴿وَ لَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَ رَزَقْنَاهُمْ مِنَ اَلطَّيِّبَاتِ أي أسكناهم مسكن صدق، و إنما يضاف الشي‏ء إلى الصدق نحو وعد صدق و قدم صدق و لسان صدق و مدخل صدق و مخرج صدق للدلالة على أن لوازم معناه و آثاره المطلوبة منه موجودة فيه صدقا من غير أن يكذب في شي‏ء من آثاره التي يعدها بلسان دلالته الالتزامية لطالبه فوعد صدق مثلا هو الوعد الذي سيفي به واعده، و يسر بالوفاء به موعوده، و يحق أن يطمع فيه و يرجى وقوعه. فإن لم يكن كذلك فليس بوعد صدق بل وعد كذب كأنه يكذب في معناه و لوازم معناه.

و على هذا فقوله: ﴿مُبَوَّأَ صِدْقٍ يدل على أن الله سبحانه بوأهم مبوءا يوجد فيه جميع ما يطلبه الإنسان من المسكن من مقاصد السكنى كطيب الماء و الهواء و بركات الأرض و وفور نعمها و الاستقرار فيها و غير ذلك، و هذه هي نواحي بيت المقدس و الشام التي أسكن الله بني إسرائيل فيها و سماها الأرض المقدسة المباركة و قد قص القرآن دخولهم فيها.

و أما قول بعضهم: إن المراد بهذا المبوء مصر دخلها بنو إسرائيل و اتخذوا فيها بيوتا فأمر لم يذكره القرآن. على أنهم لو فرض دخولهم فيها ثانيا لم يستقروا فيها استقرارا مستمرا، و تسمية ما هذا شأنه مبوأ صدق مما لا يساعد عليه معنى اللفظ.

و الآية أعني قوله: ﴿وَ لَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إلى قوله ﴿مِنَ اَلطَّيِّبَاتِ مسوقة سوق الشكوى و العتبى، و يشهد به تذييلها بقوله: ﴿فَمَا اِخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ اَلْعِلْمُ، و قوله: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ إلى آخر الآية بيان لعاقبة اختلافهم عن علم و بمنزلة أخذ النتيجة من القصة.

و المعنى: أنا أتممنا على بني إسرائيل النعمة و بوأناهم مبوأ صدق و رزقناهم من الطيبات بعد حرمانهم من ذلك مدة طويلة كانوا فيها في إسارة القبط فوحدنا

 

 

 

 شعبهم و جمعنا شملهم فكفروا النعمة و فرقوا الكلمة و اختلفوا في الحق، و لم يكن اختلافهم عن عذر الجهل و إنما اختلفوا عن علم إن ربك يقضي بينهم فيما كانوا فيه يختلفون‏

[سورة يونس (١٠): الآیات ٩٤ الی ١٠٣]

﴿فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَسْئَلِ اَلَّذِينَ يَقْرَؤُنَ اَلْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ اَلمُمْتَرِينَ ٩٤ وَ لاَ تَكُونَنَّ مِنَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اَللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ اَلْخَاسِرِينَ ٩٥ إِنَّ اَلَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ ٩٦ وَ لَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا اَلْعَذَابَ اَلْأَلِيمَ ٩٧ فَلَوْ لاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ اَلْخِزْيِ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ مَتَّعْنَاهُمْ إِليَ‏َحِينٍ ٩٨ وَ لَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَ فَأَنْتَ تُكْرِهُ اَلنَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ٩٩ وَ مَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اَللَّهِ وَ يَجْعَلُ اَلرِّجْسَ عَلَى اَلَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ ١٠٠ قُلِ اُنْظُرُوا مَا ذَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مَا تُغْنِي اَلْآيَاتُ وَ اَلنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لاَ يُؤْمِنُونَ ١٠١ فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ اَلَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ اَلْمُنْتَظِرِينَ ١٠٢ ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ اَلْمُؤْمِنِينَ ١٠٣

 

 

 

تتضمن الآيات الاستشهاد على حقية ما أنزله الله في السورة من المعارف الراجعة إلى المبدإ و المعاد و ما قصة من قصص الأنبياء و أممهم و منهم نوح و موسى و من بينهما من الأنبياء (عليه السلام) و أممهم إجمالا بما قرأه أهل الكتب السماوية فيها قبل نزول القرآن على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم).

ثم تذكر ما هو كالفذلكة و المعنى المحصل من البيانات السابقة و هو أن الناس لن يملكوا من أنفسهم أن يؤمنوا بالله و آياته إلا بإذن الله، و إنما يأذن الله في إيمان من لم يطبع على قلبه و لم يجعل الرجس عليه و إلا فمن حقت عليه كلمة الله لن يؤمن بالله و آياته حتى يرى العذاب.

فالسنة الجارية أن الناس منذ خلقوا و اختلفوا بين مكذب بآيات الله و مصدق لها، و قد جرت سنة الله على أن يقضي فيهم بالحق بعد مجي‏ء رسلهم إليهم فينجي الرسل و المؤمنين بهم، و يأخذ غيرهم بالهلاك.

قوله تعالى: ﴿فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ إلى آخر الآية

الشك‏

الريب، و المراد بقوله: ﴿مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ المعارف الراجعة إلى المبدإ و المعاد و السنة الإلهية في القضاء على الأمم مما تقدم في السورة، و قوله: ﴿يَقْرَؤُنَ اَلْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ ﴿يَقْرَؤُنَ فعل مضارع استعمل في الاستمرار و ﴿مِنْ قَبْلِكَ حال من الكتاب عامله متعلقة المقدر، و التقدير منزلا من قبلك. كل ذلك على ما يعطيه السياق.

و المعنى ﴿فَإِنْ كُنْتَ أيها النبي ﴿فِي شَكٍّ و ريب ﴿مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ من المعارف الراجعة إلى المبدإ و المعاد و ما قصصنا عليك إجمالا من قصص الأنبياء الحاكية لسنة الله الجارية في خلقه من الدعوة أولا ثم القضاء بالحق ﴿فَسْئَلِ أهل الكتاب ﴿اَلَّذِينَ لا يزالون ﴿يَقْرَؤُنَ جنس ﴿اَلْكِتَابَ منزلا من السماء ﴿مِنْ قَبْلِكَ أقسم ﴿لَقَدْ جَاءَكَ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ اَلمُمْتَرِينَ المترددين.

و هذا لا يستلزم وجود ريب في قلب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و لا تحقق شك منه فإن

 

 

 

 هذا النوع من الخطاب كما يصح أن يخاطب من يجوز عليه الريب و الشك كذلك يصح أن يخاطب به من هو على يقين من القول و بينه من الأمر على نحو التكنية عن كون المعنى الذي أخبر به المخبر مما تعاضدت عليه الحجج و تجمعت عليه الآيات فإن فرض من المخاطب أو السامع شك في واحدة منها كان له أن يأخذ بالأخرى.

و هذه طريقة شائعة في عرف التخاطب و التفاهم يأخذ بها العقلاء فيما بينهم جريا على ما تدعوهم إليه قرائحهم ترى الواحد منهم يقيم الحجة على أمر من الأمور ثم يقول: فإن شككت في ذلك أو سلمنا أنها لا توجب المطلوب فهناك حجة أخرى على ذلك و هي أن كذا كذا و ذلك كناية عن أن الحجج متوفرة متعاضدة كالدعائم المضروبة على ما لا يحتاج إلى أزيد من واحد منها لكن الغرض من تكثيرها هو أن تكون العريشة قائمة عليها على تقدير قيام الكل و البعض.

فيئول معنى الكلام إلى أن هذه معارف بينها الله لك بحجج تضطر العقول إلى قبولها و قصص تحكي سنة الله في خلقه و الآثار تدل عليها، بينها في كتاب لا ريب فيه، فعلى ما بينه حجة و هناك حجة أخرى و هي أن أهل الكتب السماوية الموفين لها حق قراءتها يجدون ذلك فيما يقرءونه من الكتاب فهناك مبدأ و معاد، و هناك دين إلهي بعث به رسله يدعون إليه، و لم يدعوا أمة من الأمم إلا انقسموا قبيلين مؤمن و مكذب فأنزل الله آية فاصلة بين الحق و الباطل و قضى بينهم.

و هذا أمر لا يسع أهل الكتاب أن ينكروه، و إنما كانوا ينكرون بشارات النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)و بعض ما يختص به الإسلام من المعارف و ما غيروه في الكتب من الجزئيات، و من لطيف الإشارة أن الله سبحانه لم يذكر في القصص المذكورة في هذه السورة قصة هود و صالح لعدم تعرض التوراة الموجودة عندهم لقصتهما و كذا قصة شعيب و قصة المسيح لعدم توافق أهل الكتاب عليها و ليس إلا لمكان أن يستشهد في هذه الآية بما لا يمتنعون من تصديقه.

فهذه الآية في إلقاء الحجة على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) وزانها وزان قوله تعالى﴿أَ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ الشعراء: - ١٩٧ في إلقاء الحجة إلى الناس.

على أن السورة من أوائل السور النازلة بمكة، و لم تشتد الخصومة يومئذ بين

 

 

 

 المسلمين و أهل الكتاب و خاصة اليهود اشتدادها بالمدينة، و لم يركبوا بعد من العناد و اللجاج ذاك المركب الصعب الذي ركبوه بعد هجرة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و نشوب الحروب بينهم و بين المسلمين حتى بلغوا المبلغ الذي قالوا﴿مَا أَنْزَلَ اَللَّهُ عَليَ‏ بَشَرٍ مِنْ شَيْ‏ءٍ الأنعام: - ٩١.

فهذا ما يعطيه سياق الآية من المعنى، و أظنك إن أمعنت في تدبر الآية و سائر الآيات التي تناسبها مما يخاطب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بحقية ما نزل إليه من ربه، و يتحدى على البشر بعجزهم عن إتيان مثله، و ما يصف النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أنه على بصيرة من أمره، و أنه على بينه من ربه أقنعك ذلك فيما قدمناه من المعنى، و أغناك عن التمحلات التي ارتكبوها في تفسير الآية بما لا جدوى في نقلها و البحث عنها.

(بيان)

قوله تعالى: ﴿وَ لاَ تَكُونَنَّ مِنَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اَللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ اَلْخَاسِرِينَ نهى عن الارتياب و الامتراء أولا ثم ترقى إلى النهي عن التكذيب بآيات الله و هو العناد مع الحق استكبارا على الله فإن الآية لا تكون آية إلا مع وضوح دلالتها و ظهور بيانها و تكذيب ما هذا شأنه لا يكون مبينا إلا على العناد و اللجاج.

و قوله: ﴿فَتَكُونَ مِنَ اَلْخَاسِرِينَ تفريع على التكذيب بآيات الله فهو نتيجته و عاقبته فهو المنهي عنه بالحقيقة. و المعنى: و لا تكن من الخاسرين، و

الخسران‏

 زوال رأس المال بانتقاصه أو ذهاب جميعه، و هو الإيمان بالله و آياته الذي هو رأس مال الإنسان في سعادة حياته في الدنيا و الآخرة على ما يستفاد من الآية التالية حيث يعلل خسرانهم بأنهم لا يؤمنون.

قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَ لَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ إلخ، تعليل للنهي السابق ببيان ما للمنهي عنه من الشأن فإن أصل النظم بحسب المعنى المستفاد من السياق أن يقال: لا تكونن من المكذبين لأن المكذبين لا يؤمنون فيكونون خاسرين لأن رأس مال السعادة هو الإيمان فوضع قوله ﴿اَلَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ موضع «المكذبين» للأدلة على سبب الحكم و أن المكذبين إنما يخسرون لأن كلمة الله سبحانه تحق عليهم فالأمر على كل حال إلى الله سبحانه.

و الكلمة الإلهية التي حقت على المكذبين بآيات الله هي قوله يوم شرع الشريعة

 

 

 

العامة لآدم و زوجته فمن بعدهما من ذريتهما﴿قُلْنَا اِهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً إلى قوله ﴿وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ اَلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ البقرة: - ٣٩.

و هذا هو الذي يريده بقوله في مقام بيان سبب خسران المكذبين: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ و هم المكذبون حقت عليهم كلمة العذاب فهم ﴿لاَ يُؤْمِنُونَ و لذلك كانوا خاسرين لأنهم ضيعوا رأس مال سعادتهم و هو الإيمان فحرموه و حرموا بركاته في الدنيا و الآخرة، و إذ حق عليهم أنهم لا يؤمنون فلا سبيل لهم إلى الإيمان و لو جاءتهم كل آية ﴿حَتَّى يَرَوُا اَلْعَذَابَ اَلْأَلِيمَ و لا فائدة في الإيمان الاضطراري.

و قد كرر الله سبحانه في كلامه هذا القول و استتباعه للخسران و عدم الإيمان كقوله﴿لَقَدْ حَقَّ اَلْقَوْلُ عَليَ‏ أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ يس: - ٧، و قوله﴿لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَ يَحِقَّ اَلْقَوْلُ عَلَى اَلْكَافِرِينَ يس: - ٧٠ أي بتكذيبهم بالآيات المستتبع لعدم إيمانهم فخسرانهم، و قوله﴿وَ حَقَّ عَلَيْهِمُ اَلْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ حم السجدة: - ٢٥ إلى غير ذلك.

و قد ظهر من الآيات أولا أن العناد مع الحق و التكذيب بآيات الله يحق كلمة العذاب الخالد على الإنسان.

و ثانيا: أن رأس مال سعادة الحياة للإنسان هو الإيمان.

و ثالثا: أن كل إنسان فهو مؤمن لا محالة إما إيمانا اختياريا مقبولا يسوقه إلى سعادة الحياة الدنيا و الآخرة، و إما إيمانا اضطراريا غير مقبول حيثما يرى العذاب الأليم.

قوله تعالى: ﴿فَلَوْ لاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ اَلْخِزْيِ إلخ، ظاهر السياق أن لو لا للتحضيض، و أن المراد بقوله: ﴿آمَنَتْ الإيمان الاختياري الصحيح كما يشعر به قوله بعده: ﴿فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا و لوقوع التحضيض على أمر ماض لم يتحقق أفادت الجملة معنى اليأس المساوق للنفي فاستقام الاستثناء الذي في قوله: ﴿إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ.

و المعنى: هلا كانت قرية من هذه القرى التي جاءتهم رسلنا فكذبوهم

 

 

 

آمنت قبل نزول العذاب إيمانا اختياريا فنفعها إيمانها. لا و لم يؤمن إلا قوم يونس لما آمنت كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا و متعناهم بالحياة إلى حين آجالهم العادية الطبيعية. و منه يعلم أن الاستثناء متصل.

و ذكر بعضهم أن المعنى لم يكن فيما خلا أن يؤمن أهل قرية بأجمعهم حتى لا يشذ منهم أحد إلا قوم يونس فهلا كانت القرى كلها هكذا.

و فيه أنه في نفسه معنى لا بأس فيه إلا أن الآية بلفظها لا تنطبق عليه بما فيه من الخصوصيات و هو ظاهر.

و ذكر بعض آخر: أن المعنى لم يكن معهودا من حال قرية من القرى أن يكفر ثم يؤمن فينفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنت كشفنا عنهم العذاب و متعناهم.

و الإشكال عليه كالإشكال على سابقه.

قوله تعالى: ﴿وَ لَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أي لكنه لم يشأ ذلك فلم يؤمن جميعهم و لا يؤمن فالمشيئة في ذلك إلى الله سبحانه و لم يشأ ذلك فلا ينبغي لك أن تطمع فيه و لا أن تجتهد لذلك لأنك لا تقدر على إكراههم و إجبارهم على الإيمان، و الإيمان الذي نريده منهم هو ما كان عن حسن الاختيار لا ما كان عن إكراه و إجبار.

و لذلك قال بعد ذلك في صورة الاستفهام الإنكاري: ﴿أَ فَأَنْتَ تُكْرِهُ اَلنَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ أي بعد ما بينا أن أمر المشية إلى الله و هو لم يشأ إيمان جميع الناس فلا يؤمنون باختيارهم البتة لم يبق لك إلا أن تكره الناس و تجبرهم على الإيمان، و أنا أنكر ذلك عليك فلا أنت تقدر على ذلك و لا أنا أقبل الإيمان الذي هذا نعته.

قوله تعالى: ﴿وَ مَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اَللَّهِ وَ يَجْعَلُ اَلرِّجْسَ عَلَى اَلَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ لما ذكر في الآية السابقة أن الأمر إلى الله سبحانه لو شاء أن يؤمن أهل الأرض جميعا لآمنوا لكنه لم يشأ فلا مطمع في إيمان الجميع زاد في هذه الآية في بيان ذلك ما محصله أن الملك بالكسر لله فله أصالة التصرف في كل أمر لا يشاركه في ذلك مشارك إلا أن يأذن لبعض ما خلقه في بعض التصرفات.

 

 

 

 و الإيمان بالله عن اختيار و الاهتداء إليه أمر من الأمور يحتاج في تحققه إلى سبب يخصه، و لا يؤثر هذا السبب و لا يتصرف في الكون بإيجاد مسببه إلا عن إذن من الله سبحانه في ذلك لكن الله سبحانه بجعل الرجس و الضلال على أهل العناد و الجحود لم يأذن في إيمانهم، و لا رجاء في سعادتهم.

و لو أنه تعالى أذن في ذلك لأحد لأذن في إيمان غير أولئك المكذبين فقوله:

﴿وَ مَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اَللَّهِ حكم عام حقيقي ينيط تملك النفوس للإيمان إلى إذن الله، و قوله: ﴿وَ يَجْعَلُ اَلرِّجْسَ إلخ، يسلب عن الذين لا يعقلون استعداد حصول الإذن فيبقى غيرهم.

و قد أريد في الآية بالرجس ما يقابل الإيمان من الشك و الريب بمعنى أنه هو المصداق المنطبق عليه الرجس في المقام لما قوبل بالإيمان، و قد عرف في قوله تعالى‏

﴿ وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي اَلسَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اَللَّهُ اَلرِّجْسَ عَلَى اَلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ الأنعام: - ١٢٥.

و قد أريد أيضا بقوله: ﴿اَلَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ أهل التكذيب بآيات الله من جهة أنهم ممن حقت عليه كلمة العذاب فإنهم الذين طبع الله على قلوبهم فهم لا يعقلون قال﴿وَ طَبَعَ اَللَّهُ عَليَ‏ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ التوبة: - ٩٣.

قوله تعالى: ﴿قُلِ اُنْظُرُوا مَا ذَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ أي من المخلوقات المختلفة المتشتتة التي كل واحد منها آية من آيات الله تعالى تدعو إلى الإيمان، و قوله:

﴿وَ مَا تُغْنِي اَلْآيَاتُ وَ اَلنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لاَ يُؤْمِنُونَ ظاهره أن ﴿مَا استفهامية و الجملة مسوقة بداعي الإنكار و إظهار الأسف كقول الطبيب: بما ذا أعالج الموت؟ أي أنا أمرناك أن تنذرهم بقولنا: ﴿قُلِ اُنْظُرُوا مَا ذَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ إلخ، لكن أي تأثير للنذر فيهم أو للآيات فيهم و هم لا يؤمنون أي عازمون مجمعون على أن لا يؤمنوا بالطبع الذي على قلوبهم و ربما قيل: إن ما نافية.

قوله تعالى: ﴿فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ اَلَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ تفريع على ما في الآية السابقة من قوله: ﴿وَ مَا تُغْنِي اَلْآيَاتُ وَ اَلنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لاَ يُؤْمِنُونَ أي إذا لم تغن الآيات و النذر عنهم شيئا و هم لا يؤمنون البتة فهم لا ينتظرون إلا مثل أيام

 

 

 

 الذين خلوا من قبلهم، و إنما يحبسون نفوسهم لآية العذاب الإلهي التي تفصل بينك و بينهم فتقضي عليهم لأنهم حقت عليهم كلمة العذاب.

و لذا أمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يبلغهم ذلك بقوله: ﴿قُلْ فَانْتَظِرُوا أي مثل أيام الذين خلوا من قبلكم يعني يوم العذاب الذي يفصل بيني و بينكم فتؤمنون و لا ينفعكم إيمانكم ﴿إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ اَلْمُنْتَظِرِينَ.

و قد تبين بما مر أن الاستفهام في الآية إنكاري.

قوله تعالى: ﴿ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا الجملة تتمة صدر الآية السابقة و قوله: ﴿قُلْ فَانْتَظِرُوا إلخ، جملة معترضة و النظم الأصلي بحسب المعنى ﴿فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ أي قومك هؤلاء ﴿إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ اَلَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم الذين كانت تحق عليهم كلمة العذاب فنرسل إليهم آية العذاب ﴿ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا.

و إنما اعترض بقوله: ﴿قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ اَلْمُنْتَظِرِينَ بين الكلام لأنه يتعلق بالجزء الذي يتقدمه من مجموع الكلام المستفهم عنه فإنه المناسب لأن يجعل جوابا لهم، و هو يتضمن انتظار النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) للقضاء بينه و بينهم، و أما تنجيته و تنجية المؤمنين به فإن المنتظر لها هو النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و المؤمنون لا هو وحده و لا يتعلق هذا الانتظار بفصل القضاء بل بالنجاة من العذاب و هو مع ذلك لا يتعلق به غرض في المقام الذي سيق فيه الكلام لإنذار المشركين لا لتبشير النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و المؤمنين فافهم ذلك.

و أما قوله: ﴿كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ اَلْمُؤْمِنِينَ فمعناه كما كنا ننجي الرسل و الذين آمنوا في الأمم السابقة عند نزول العذاب كذلك ننجي المؤمنين بك من هذه الأمة حق علينا ذلك حقا، فقوله: ﴿حَقًّا عَلَيْنَا مفعول مطلق قام مقام فعله المحذوف، و اللام في ﴿اَلْمُؤْمِنِينَ للعهد و المراد به مؤمنوا هذه الأمة، و هذا هو الوعد الجميل للنبي ص و المؤمنين من هذه الأمة بالإنجاء.

و ليس من البعيد أن يستفاد من قوله: ﴿نُنْجِ اَلْمُؤْمِنِينَ أن فيه تلويحا إلى أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لا يدرك هذا القضاء، و إنما يقع بعد ارتحاله حيث ذكر المؤمنون و لم يذكر

 

 

 

 معهم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) مع أنه تعالى ذكر في السابقين رسله مع المؤمنين بهم كما ربما يخطر بالبال من تكرر قوله تعالى في كلامه: ﴿فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ اَلَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ أو ما في معناه.

(بحث روائي)

 في تفسير العياشي، عن محمد بن سعيد الأسدي أن موسى بن محمد بن الرضا أخبره أن يحيى بن أكثم كتب إليه يسأله عن مسائل :أخبرني عن قول الله تبارك و تعالى:

﴿فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَسْئَلِ اَلَّذِينَ يَقْرَؤُنَ اَلْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ من المخاطب بالآية؟ فإن كان المخاطب فيها النبي فقد شك فيما أنزل الله، و إن كان المخاطب بها غيره فعلى غيره إذا نزل الكتاب .

قال موسى: فسألت أخي عن ذلك. قال: فأما قوله: ﴿فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَسْئَلِ اَلَّذِينَ يَقْرَؤُنَ اَلْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ فإن المخاطب بذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و لم يكن في شك مما أنزل الله، و لكن قالت الجهلة: كيف لم يبعث إلينا نبيا من الملائكة؟ أنه لم يفرق بينه و بين غيره في الاستغناء في المأكل و المشرب و المشي في الأسواق فأوحى الله إلى نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) : فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك بمحضر الجهلة هل بعث الله رسولا من قبلك إلا و هو يأكل الطعام و يشرب و يمشي في الأسواق؟ و لك بهم أسوة.

و إنما قال: فإن كنت في شك، و لم يكن و لكن ليتبعهم كما قال له: ﴿فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَ أَبْنَاءَكُمْ وَ نِسَاءَنَا وَ نِسَاءَكُمْ وَ أَنْفُسَنَا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اَللَّهِ عَلَى اَلْكَاذِبِينَ، و لو قال: تعالوا نبتهل فنجعل لعنة الله عليكم لم يكونوا يجيئون للمباهلة، و قد عرف أن نبيه مؤد عنه رسالته و ما هو من الكاذبين، كذلك عرف النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أنه صادق فيما يقول و لكن أحب أن ينصف من نفسه":

أقول: و رواه الصدوق في المعاني، بإسناده عن موسى بن محمد بن علي، و هو

 

 

 

 يرجع إلى ما قدمناه، و قد ورد في بعض الروايات أن الآية نزلت ليلة المعراج فأمره الله أن يسأل أرواح الأنبياء عن ذلك، و هم الذين أرادهم بقوله: ﴿اَلَّذِينَ يَقْرَؤُنَ اَلْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ و روي الوجه أيضا عن الزهري لكن في انطباقه على لفظ الآية خفاء.

 و في الدر المنثور، أخرج عبد الرزاق و ابن جرير عن قتادة في الآية قال: ذكر لنا أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: لا أشك و لا أسأل.

و في تفسير العياشي، عن معمر قال: قال أبو الحسن الرضا (عليه السلام): إن يونس أمره الله بما أمره فأعلم قومه فأظلهم العذاب ففرقوا بينهم و بين أولادهم و بين البهائم و أولادها ثم عجوا إلى الله و ضجوا فكف الله العذاب عنهم. الحديث.

أقول: و سيأتي إن شاء الله قصة يونس و قومه في ذيل بعض الآيات المتعرضة لتفصيل قصته (عليه السلام).

 و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم و اللالكائي في السنة عن علي بن أبي طالب قال: إن الحذر لا يرد القدر، و إن الدعاء يرد القدر، و ذلك في كتاب الله:

﴿إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ اَلْخِزْيِ الآية:.

أقول: و روي ما في معناه عن ابن النجار عن عائشة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) . و في الكافي، و البصائر، مسندا عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: الرجس هو الشك و لا نشك في ديننا أبدا.

[ سورة يونس (١٠): الآیات ١٠٤ الی ١٠٩]

﴿قُلْ يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ اَلَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ وَ لَكِنْ أَعْبُدُ اَللَّهَ اَلَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ ١٠٤ وَ أَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَ لاَ

 

 

 

﴿تَكُونَنَّ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ ١٠٥ وَ لاَ تَدْعُ مِنْ دُونِ اَللَّهِ مَا لاَ يَنْفَعُكَ وَ لاَ يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ اَلظَّالِمِينَ ١٠٦ وَ إِنْ يَمْسَسْكَ اَللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَ إِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ ١٠٧ قُلْ يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اِهْتَديَ‏ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَ مَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ١٠٨ وَ اِتَّبِعْ مَا يُوحيَ‏ إِلَيْكَ وَ اِصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اَللَّهُ وَ هُوَ خَيْرُ اَلْحَاكِمِينَ ١٠٩

 (بيان)

الآيات، ختام السورة تفرغ المحصل من بياناتها فتشير إجمالا إلى التوحيد و المعاد و النبوة، و تأمر باتباع القرآن و الصبر في انتظار حكم الله بينه و بين أمته.

قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي إلخ، قد تقدم غير مرة أن الدين‏ هو السنة المعمول بها في الحياة لنيل سعادتها و فيه معنى الطاعة كما في قوله تعالى﴿وَ أَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ النساء: - ١٤٦ و ربما استعمل بمعنى الجزاء.

و قوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي أي في طريقتي التي أسلكها و أثبت عليها و شك الإنسان في دين غيره و طريقته المعمولة له إنما يكون في ثباته عليه هل يستقر عليه و يستقيم؟ و قد كان المشركون يطمعون في دينه (ص) و ربما رجوا أن يحولوه عنه فينجوا من دعوته إلى التوحيد و رفض الشرك بالآلهة.

فالمعنى: إن كنتم تشكون فيما أدين به و أدعو إليه هل أستقيم عليه؟ أو شككتم في ديني ما هو؟ و لم تحصلوا الأصل الذي يبتني عليه فإني أصرح لكم القول فيه

 

 

 

و أبينه لكم و هو أني لا أعبد آلهتكم و أعبد الله وحده.

و قد أخذ في قوله: ﴿وَ لَكِنْ أَعْبُدُ اَللَّهَ اَلَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ له تعالى وصف توفيهم دون غيره من أوصافه تعالى لأنهم إنما كانوا يعبدون الإله لزعمهم الحاجة إليه في دفع الضرر و جلب النفع، و التوفي أمر لا يشكون أنه سيصيبهم و أنه لله وحده فمساس الحاجة إلى الأمن من ضرره يوجب عبادة الله سبحانه.

على أن اختيار التوفي للذكر ليكون في الكلام تلويح إلى تهديدهم فإن الآيات.

السابقة وعدتهم العذاب وعدا قطعيا، و وفاة المشركين ميعاد عذابهم، و يؤيد ذلك اتباع قوله: ﴿وَ لَكِنْ أَعْبُدُ اَللَّهَ اَلَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بقوله: ﴿أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ فإن نجاتهم من العذاب جزء الوعد الذي ذكره الله في الآيتين السابقتين على هذه الآية:

﴿فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ اَلَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ إلى قوله ﴿نُنْجِ اَلْمُؤْمِنِينَ.

و المعنى: فاعلموا و استيقنوا أني لا أعبد آلهتكم و لكن أعبد الله الذي وعد عذاب المكذبين منكم و إنجاء المؤمنين و أمرني أن أكون منهم كما أمرني أن أجتنب عبادة الآلهة.

قوله تعالى: ﴿وَ أَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً عطف على موضع قوله:

﴿وَ أُمِرْتُ أَنْ إلخ، فإنه في معنى و كن من المؤمنين، و قد مر الكلام في معنى إقامة الوجه للدين الحنيف غير مرة.

قوله تعالى: ﴿وَ لاَ تَدْعُ مِنْ دُونِ اَللَّهِ مَا لاَ يَنْفَعُكَ وَ لاَ يَضُرُّكَ نهي بعد نهي عن الشرك، و بيان أن الشرك يدخل الإنسان في زمرة الظالمين فيحق عليه ما أوعد الله به الظالمين في كلامه.

و من لطيف التعبير قوله حين ذكر الدعاء: ﴿مَا لاَ يَنْفَعُكَ وَ لاَ يَضُرُّكَ و حين ذكر العبادة: ﴿اَلَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ فإن العبادة بالطبع يعطي للمعبود شعورا و عقلا فناسب أن يعبر عنه بنحو ﴿اَلَّذِينَ المستعمل في ذوي العلم و العقل، و الدعاء و إن كان كذلك لمساوقته العبادة غير أنه لما وصف المدعو بما لا ينفع و لا يضر، و ربما توهم أن ذوي العلم و العقل يصح أن تنفع و تضر، عبر بلفظة ﴿مَا ليلوح إلى أنها جماد لا يتخيل في حقهم إرادة نفع أو ضرر.

 

 

 

 و في التعبير نفسه أعني قوله: ﴿مَا لاَ يَنْفَعُكَ وَ لاَ يَضُرُّكَ إعطاء الحجة على النهي عن الدعاء.

قوله تعالى: ﴿إِنْ يَمْسَسْكَ اَللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ إلخ، الجملة حالية و هي تتمة البيان في الآية السابقة، و المعنى: و لا تدع من دون الله ما لا نفع لك عنده و لا ضرر، و الحال أن ما مسك الله به من ضر لا يكشفه غيره و ما أرادك به من خير لا يرده غيره فهو القاهر دون غيره يصيب بالخير عباده بمشيئته و إرادته، و هو مع ذلك غفور رحيم يغفر ذنوب عباده و يرحمهم، و اتصافه بهذه الصفات الكريمة و كون غيره صفر الكف منها يقتضي تخصيص العبادة و الدعوة به.

قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ و هو القرآن أو ما يشتمل عليه من الدعوة الحقة، و قوله: ﴿فَمَنِ اِهْتَدى‏ إلى آخر الآية، إعلام لهم بكونهم مختارين فيما ينتخبونه لأنفسهم من غير أن يسلبوا الخيرة ببيان حقيقة هي أن الحق و قد جاءهم من حكمه أن من اهتدى إليه فإنما يهتدي و نفعه عائد إليه، و من ضل عنه فإنما يضل و ضرره على نفسه فلهم أن يختاروا لأنفسهم ما يحبونه من نفع أو ضرر، و ليس هو (ص) وكيلا لهم يتصدى من الفعل ما هو لهم فالآية كناية عن وجوب اهتدائهم إلى الحق لأن فيه نفعهم.

قوله تعالى: ﴿وَ اِتَّبِعْ مَا يُوحيَ‏ إِلَيْكَ وَ اِصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اَللَّهُ وَ هُوَ خَيْرُ اَلْحَاكِمِينَ أمر باتباع ما يوحى إليه و الصبر على ما يصيبه في جنب هذا الاتباع من المصائب و المحن، و وعد بأن الله سبحانه سيحكم بينه و بين القوم، و لا يحكم إلا بما فيه قرة عينه فالآية تشتمل على أمره بالاستقامة في الدعوة و تسليته فيما يصيبه، و وعده بأن العاقبة الحسنى له.

و قد اختتمت الآية بحكمه تعالى، و هو الذي عليه يعتمد معظم آيات السورة في بيانها. و الله أعلم.

 

 

 

(١١) (سورة هود مكية و هي مائة و ثلاث و عشرين آية) (١٢٣)

[سورة هود (١١): الآیات ١ الی ٤]

﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ١ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اَللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَ بَشِيرٌ ٢ وَ أَنِ اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِليَ‏ أَجَلٍ مُسَمًّى وَ يُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ ٣ إِلَى اَللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَ هُوَ عَليَ‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ٤

 (بيان)

السورة كما يظهر من مفتتحها و مختتمها و السياق الذي يجري عليه آياتها تبين غرض الآيات القرآنية على كثرتها و تشتتها، و تصف المحصل من مقاصدها على اختلافها و الملخص من مضامينها.

فتذكر أنها على احتوائها معارف الدين المختلفة من أصول المعارف الإلهية و الأخلاق الكريمة الإنسانية، و الأحكام الشرعية الراجعة إلى كليات العبادات و المعاملات و السياسات و الولايات ثم وصف عامة الخليقة كالعرش و الكرسي و اللوح و القلم و السماء و الأرض و الملائكة و الجن و الشياطين و النبات و الحيوان و الإنسان، و وصف بدء الخليقة و ما ستعود إليه من الفناء و الرجوع إلى الله سبحانه.

 

 

 

 و هو يوم البعث بما يتقدمه من عالم القبر و هو البرزخ ثم القيام لرب العالمين و الحشر و الجمع و السؤال و الحساب و الوزن و شهادة الأشهاد ثم فصل القضاء ثم الجنة أو النار بما فيهما من الدرجات و الدركات.

ثم وصف الرابطة التي بين خلقة الإنسان و بين عمله و ما بين عمله، و ما يستتبعه من سعادة أو شقاوة و نعمة أو نقمة و درجة أو دركة، و ما يتعلق بذلك من الوعد و الوعيد و الإنذار و التبشير بالموعظة و المجادلة الحسنة و الحكمة.

فالآيات القرآنية على احتوائها تفاصيل هذه المعارف الإلهية و الحقائق الحقة تعتمد على حقيقة واحدة هي الأصل و تلك فروعه، و هي الأساس الذي بني عليه بنيان الدين و هو توحيده تعالى توحيد الإسلام بأن يعتقد أنه تعالى هو رب كل شي‏ء لا رب غيره و يسلم له من كل وجهة فيوفي له حق ربوبيته، و لا يخشع في قلب و لا يخضع في عمل إلا له جل أمره.

و هذا أصل يرجع إليه على إجماله جميع تفاصيل المعاني القرآنية من معارفها و شرائعها بالتحليل، و هو يعود إليها على ما بها من التفصيل بالتركيب.

فالسورة تبين ذلك بنحو الإجمال في هذه الآيات الأربع التي افتتحت بها ثم تأخذ في بيانه التفصيلي بسمة الإنذار و التبشير بذكر ما لله من السنة الجارية في عباده، و إيراد أخبار الأمم الماضية، و قصص أقوام نوح و هود و صالح و لوط و شعيب و موسى (عليه السلام)، و ما ساقهم إليه الاستكبار عن إجابة الدعوة الإلهية و الإفساد في الأرض و الإسراف في الأمر، و وصف ما وعد الله به الذين آمنوا و عملوا الصالحات و ما أوعد الله به الذين كفروا و كذبوا بالآيات، و تبين في خلال ذلك أمورا من المعارف الإلهية الراجعة إلى التوحيد و النبوة و المعاد.

و مما تقدم يظهر ما في قول بعضهم عند ما ذكر غرض هذه السورة: أنها في معنى سورة يونس و موضوعها، و هو أصول عقائد الإسلام في الإلهيات و النبوات و البعث و الجزاء و عمل الصالحات و قد فصل فيها ما أجمل في سورة يونس من قصص الرسل (عليه السلام). انتهى.

و قد عرفت أن السورتين مسوقتان لغرضين مختلفين لا يرجع أحدهما إلى الآخر

 

 

 

 البتة فسورة يونس تبين أن السنة الإلهية جارية على القضاء بين الرسل و بين أممهم المكذبين لهم، ثم توعد هذه الأمة بما جرى مثله على الذين من قبلهم، و سورة هود تبين أن المعارف القرآنية ترجع بالتحليل إلى التوحيد الخالص كما أن التوحيد يعود بحسب التركيب إلى تفاصيل المعارف الأصلية و الفرعية.

و السورة على ما تشهد به آياتها بمضامينها و الاتصال الظاهر بينها مكية نازلة دفعة واحدة، و قد روي عن بعضهم استثناء قوله تعالى﴿فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحيَ‏ إِلَيْكَ الآية - ١٢ فذكر أنها مدنية.

و استثنى بعضهم قوله﴿أَ فَمَنْ كَانَ عَليَ‏ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ الآية - ١٧، و بعضهم قوله تعالى﴿وَ أَقِمِ اَلصَّلاَةَ طَرَفَيِ اَلنَّهَارِ وَ زُلَفاً مِنَ اَللَّيْلِ الآية - ١١٤، و لا دليل على شي‏ء من ذلك من طريق اللفظ، و ظاهر اتصالها أنها جميعا مكية.

قوله تعالى: ﴿الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ المقابلة بين الإحكام و التفصيل الذي هو إيجاد الفصل بين أجزاء الشي‏ء المتصل بعضها ببعض، و التفرقة بين الأمور المندمجة كل منها في آخر تدل على أن المراد بالإحكام ربط بعض الشي‏ء ببعضه الآخر و إرجاع طرف منه إلى طرف آخر بحيث يعود الجميع شيئا واحدا بسيطا غير ذي أجزاء و أبعاض.

و من المعلوم أن الكتاب إذا اتصف بالإحكام و التفصيل بهذا المعنى الذي مر فإنما يتصف بهما من جهة ما يشتمل عليه من المعنى و المضمون لا من جهة ألفاظه أو غير ذلك، و أن حال المعاني في الإحكام و التفصيل و الاتحاد و الاختلاف غير حال الأعيان فالمعاني المتكثرة إذا رجعت إلى معنى واحد كان هذا الواحد هو الأصل المحفوظ في الجميع و هو بعينه على إجماله هذه التفاصيل، و هي بعينها على تفاصيلها ذاك الإجمال و هذا كله ظاهر لا ريب فيه.

و على هذا فكون آيات الكتاب محكمة أولا ثم مفصلة ثانيا معناه أن الآيات الكريمة القرآنية على اختلاف مضامينها و تشتت مقاصدها و أغراضها ترجع إلى معنى واحد بسيط، و غرض فارد أصلي لا تكثر فيه و لا تشتت بحيث لا تروم آية من الآيات الكريمة مقصدا من المقاصد و لا ترمي إلى هدف إلا و الغرض الأصلي هو الروح

 

 

 

الساري في جثمانه و الحقيقة المطلوبة منه.

فلا غرض لهذا الكتاب الكريم على تشتت آياته و تفرق أبعاضه إلا غرض واحد متوحد إذا فصل كان في مورد أصلا دينيا و في آخر أمرا خلقيا و في ثالث حكما شرعيا و هكذا كلما تنزل من الأصول إلى فروعها و من الفروع إلى فروع الفروع لم يخرج من معناه الواحد المحفوظ، و لا يخطي غرضه فهذا الأصل الواحد بتركبه يصير كل واحد واحد من أجزاء تفاصيل العقائد و الأخلاق و الأعمال، و هي بتحليلها و إرجاعها إلى الروح الساري فيها الحاكم على أجسادها تعود إلى ذاك الأصل الواحد.

فتوحيده تعالى بما يليق بساحة عزه و كبريائه مثلا في مقام الاعتقاد هو إثبات أسمائه الحسنى و صفاته العليا، و في مقام الأخلاق هو التخلق بالأخلاق الكريمة من الرضا و التسليم و الشجاعة و العفة و السخاء و نحو ذلك و الاجتناب عن الصفات الرذيلة، و في مقام الأعمال و الأفعال الإتيان بالأعمال الصالحة و الورع عن محارم الله.

و إن شئت فقل: إن التوحيد الخالص يوجب في كل من مراتب العقائد و الأخلاق و الأعمال ما يبينه الكتاب الإلهي من ذلك كما أن كلا من هذه المراتب و كذلك أجزاؤها لا تتم من دون توحيد خالص.

فقد تبين أن الآية في مقام بيان رجوع تفاصيل المعارف و الشرائع القرآنية إلى أصل واحد هو بحيث إذا ركب في كل مورد من موارد العقائد و الأوصاف و الأعمال مع خصوصية ذلك المورد أنتج حكما يخصه من الأحكام القرآنية، و بذلك يظهر:

أولا: أن قوله: ﴿كِتَابٌ خبر لمبتدإ محذوف و التقدير: هذا كتاب، و المراد بالكتاب هو ما بأيدينا من القرآن المقسم إلى السور و الآيات، و لا ينافي ذلك ما ربما يذكر أن المراد بالكتاب اللوح المحفوظ أو القرآن بما هو في اللوح فإن هذا الكتاب المقرو متحد مع ما في اللوح اتحاد التنزيل مع التأويل.

و ثانيا: أن لفظة ﴿ثُمَّ في قوله: ﴿ثُمَّ فُصِّلَتْ إلخ، لإفادة التراخي بحسب ترتيب الكلام دون التراخي الزماني إذ لا معنى للتقدم و التأخر الزماني بين المعاني المختلفة بحسب الأصلية و الفرعية أو بالإجمال و التفصيل.

 

 

 

 و يظهر أيضا ما في بعض ما ذكره أرباب التفاسير في معنى الآية كقول بعضهم:

إن معناها أحكمت آياته فلم تنسخ منها كما نسخت الكتب و الشرائع ثم فصلت ببيان الحلال و الحرام و سائر الأحكام.

و فيه: أن الواجب على هذا المعنى أن يقيد عدم النسخ بعدم النسخ بكتاب غير القرآن ينسخ القرآن بعده كما نسخ القرآن غيره فإن وجود النسخ بين الآيات القرآنية نفسها مما لا ينبغي الارتياب فيه. و التقييد المذكور لا دلالة عليه من جهة لفظ الآية.

و كقول بعضهم: إن المراد أحكمت آياته بالأمر و النهي ثم فصلت بالوعد و الوعيد و الثواب و العقاب. و فيه أنه تحكم لا دليل عليه أصلا.

و كقول بعضهم: إن المراد إحكام لفظها بجعلها على أبلغ وجوه الفصاحة حتى صار معجزا، و تفصيلها بالشرح و البيان. و الكلام في هذا الوجه كسابقه.

و كقول بعضهم: المراد بإحكام آياته جعلها محكمة متقنة لا خلل فيها و لا باطل، و المراد بتفصيلها جعلها متتابعة بعضها إثر بعض. و فيه: أن التفصيل بهذا المعنى غير معهود لغة إلا أن يفسر بمعنى التفرقة و التكثير و يرجع حينئذ إلى ما قدمناه من المعنى.

و كقول بعضهم: إن المراد أحكمت آياته جملة ثم فرقت في الإنزال آية بعد آية ليكون المكلف أمكن من النظر و التأمل.

و فيه: أن الأحرى بهذا الوجه أن يذكر في مثل قوله تعالى﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ الدخان: - ٣، و قوله﴿وَ قُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى اَلنَّاسِ عَليَ‏ مُكْثٍ وَ نَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً إسراء: - ١٠٦ و ما في هذا المعنى من الآيات مما يدل على أن للقرآن مرتبة عند الله هي أعلى من سطح الأفهام ثم نزل إلى مرتبة تقبل التفهم و التفقه رعاية لحال الأفهام العادية كما يشير إليه أيضا قوله﴿وَ اَلْكِتَابِ اَلْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ اَلْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ الزخرف: - ٤.

و أما آيتنا التي نحن فيها ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ إلخ، فقد علق ـ

 

 

 

فيها الإحكام و التفصيل معا على الآيات، و ليس ذلك إلا من جهة معانيها فتفيد أن الإحكام و التفصيل هما في معاني هذه الآيات المتكثرة فلها جهة وحدة و بساطة و جهة كثرة و تركب، و ينطبق على ما قدمناه من المعنى لا على ما ذكره الراجع إلى مسألة التأويل و التنزيل فافهم ذلك.

و كقول بعضهم: إن المراد بالإحكام و التفصيل إجمال بعض الآيات و تبيين البعض الآخر، و قد مثل لذلك بقوله تعالى في هذه السورة ﴿ اَلْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْميَ‏ وَ اَلْأَصَمِّ وَ اَلْبَصِيرِ وَ اَلسَّمِيعِ الآية: - ٢٤، فإنه مجمل محكم يتبين بما ورد فيها من قصة نوح و هود و صالح. و هكذا.

و فيه: أن ظاهر الآية أن الإحكام و التفصيل متحدان من حيث المورد بمعنى أن الآيات التي ورد عليها الإحكام بعينها هي التي ورد عليها التفصيل لا أن الإحكام وصف لبعض آياته و التفصيل وصف بعضها الآخر كما هو لازم ما ذكره.

و قوله تعالى: ﴿مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ الحكيم من أسمائه الحسنى الفعلية يدل على إتقان الصنع، و كذا الخبير من أسمائه الحسنى يدل على علمه بجزئيات أحوال الأمور الكائنة و مصالحها، و إسناد إحكام الآيات و تفصيلها إلى كونه تعالى حكيما خبيرا لما بينهما من النسبة.

قوله تعالى: ﴿أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اَللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَ بَشِيرٌ وَ أَنِ اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ الآية، و ما بعدها تفسير لمضمون الآية الأولى: ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ و إذ كانت الآية تتضمن أنه كتاب من الله إلى... له آيات محكمة ثم مفصلة كانت العناية في تفسيرها متوجه إلى إيضاح هذه الجهات.

و من المعلوم أن هذا الكتاب الذي أنزله الله تعالى من عنده إلى رسوله ليتلوه على الناس و يبلغهم له وجه خطاب إلى الرسول (صلى الله عليه وآله و سلم) و وجه خطاب إلى الناس بوساطته أما وجه خطابه إلى الرسول (صلى الله عليه وآله و سلم) و هو الذي يتلقاه الرسول من وحي الله فهو أن أنذر و بشر و ادع الناس إلى كذا و كذا، و هذا الوجه هو الذي عني به في أول سورة يونس حيث قال تعالى﴿أَوْحَيْنَا إِليَ‏ رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ اَلنَّاسَ وَ بَشِّرِ

 

 

 

 اَلَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ يونس: - ٢.

و أما وجه خطابه إلى الناس و هو الذي يتلقاه الناس من الرسول (صلى الله عليه وآله و سلم) فهو ما يلقيه إلى الناس من المعنى في ضمن تلاوته كلام الله عليهم بعنوان الرسالة أني أدعوكم إلى الله دعوة نذير و بشير، و هذا الوجه من الخطاب هو الذي عنى به في قوله:

﴿أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اَللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَ بَشِيرٌ إلخ.

فالآية من كلام الله تفسر معنى إحكام آيات الكتاب ثم تفصيلها بحكاية ما يتلقاه الناس من دعوة الرسول إياهم بتلاوة كتاب الله عليهم، و ليس كلاما للرسول بطريق الحكاية و لا بتقدير القول و لا من الالتفات في شي‏ء، و لا أن التقدير: أمركم بأن لا تعبدوا أو: «فصلت آياته لأن لا تعبدوا إلا الله» بأن يكون قوله:

﴿أَلاَّ تَعْبُدُوا نفيا لا نهيا فإن قوله بعد: ﴿وَ أَنِ اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ معطوف على قوله: ﴿أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اَللَّهَ، و هو يشهد بأن ﴿أَلاَّ تَعْبُدُوا نهي لا نفي.

على أن التقدير لا يصار إليه من غير دليل فافهم ذلك فإنه من لطيف صنعة البلاغة في الآية.

و على هذا فقوله: ﴿أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اَللَّهَ دعوة إلى توحيد العبادة بالنهي عن عبادة غير الله من الآلهة المتخذة شركاء لله، و قصر العبادة فيه تعالى، و قوله:

﴿وَ أَنِ اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ أمر بطلب المغفرة من الله و قد اتخذوه ربا لهم برفض عبادة غيره ثم أمر بالتوبة و الرجوع إليه بالأعمال الصالحة و يتحصل من الجميع سلوك الطريق الطبيعي الموصل إلى القرب و الزلفى منه تعالى، و هو رفض الآلهة دون الله ثم طلب المغفرة و الطهارة النفسانية للحضور في حظيرة القرب ثم الرجوع إليه تعالى بالأعمال الصالحة.

و قد جي‏ء بأن التفسيرية ثانيا في قوله: ﴿وَ أَنِ اِسْتَغْفِرُوا إلخ، لاختلاف ما بين المرحلتين اللتين يشير إليهما قوله: ﴿أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اَللَّهَ و هي مرحلة التوحيد بالعبادة مخلصا، و قوله: ﴿وَ أَنِ اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ و هي مرحلة العمل الصالح و إن كانت الثانية من نتائج الأولى و فروعها.

و لكون التوحيد هو الأصل الأساسي و الاستغفار و التوبة نتيجة و فرعا متفرعا

 

 

 

 عليه أورد النذر و البشارة بعد ذكر التوحيد، و الوعد الجميل الذي يتضمنه قوله:

﴿يُمَتِّعْكُمْ إلخ، بعد ذكر الاستغفار و التوبة فقال: ﴿أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اَللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَ بَشِيرٌ فبين به أن النذر و البشرى كائنين ما كانا يرجعان إلى التوحيد و يتعلقان به ثم قال: ﴿وَ أَنِ اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إلخ فإن الآثار القيمة و النتائج الحسنة المطلوبة إنما تترتب على الشي‏ء بعد ما تم في نفسه و كمل بصفاته و فروعه و نتائجه، و التوحيد و إن كان هو الأصل الوحيد للدين على سعته لكن شجرته لا تثمر ما لم تقم على ساقها و يتفرع عليها فروعها و أغصانها، ﴿كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَ فَرْعُهَا فِي اَلسَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا.

و الظاهر أن المراد بالتوبة في الآية الإيمان كما في قوله تعالى﴿فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَ اِتَّبَعُوا سَبِيلَكَ المؤمن: - ٧ فيستقيم الجمع بين الاستغفار و التوبة مع عطف التوبة عليه بثم، و المعنى اتركوا عبادة الأصنام بعد هذا و اطلبوا من ربكم غفران ما قدمتم من المعصية ثم آمنوا بربكم.

و قيل: إن المعنى اطلبوا المغفرة و اجعلوها غرضكم ثم توصلوا إليه بالتوبة و هو غير جيد و من التكلف ما ذكره بعضهم أن المعنى: استغفروا من ذنوبكم الماضية ثم توبوا إليه كلما أذنبتم في المستقبل و كذا قول آخر: إن ﴿ثُمَّ في الآية بمعنى الواو لأن التوبة و الاستغفار واحد.

و قوله: ﴿يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِليَ‏ أَجَلٍ مُسَمًّى الأجل المسمى‏ هو الوقت الذي ينتهي إليه الحياة لا تتخطاه البتة، فالمراد هو التمتيع في الحياة الدنيا بل بالحياة الدنيا لأن الله سبحانه سماها في مواضع من كلامه متاعا، فالمتاع الحسن إلى أجل مسمى ليس إلا الحياة الدنيا الحسنة.

فيئول معنى قوله: ﴿يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً على تقدير كون ﴿مَتَاعاً مفعولا مطلقا إلى نحو من قولنا: يمتعكم تمتيعا حسنا بالحياة الحسنة الدنيوية و متاع الحياة إنما يكون حسنا إذا ساق الإنسان إلى سعادته الممكنة له، و هداه إلى أماني الإنسانية من التنعم بنعم الدنيا في سعة و أمن و رفاهية و عزة و شرافة فهذه الحياة الحسنة تقابل

 

 

 

 المعيشة الضنك التي يشير إليها في قوله﴿وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً طه: - ١٢٤.

و لا حسن لمتاع الحياة الدنيا و لا سعة في المعيشة لمن أعرض عن ذكر الله و لم يؤمن بربه فإن البعض من الناس و إن أمكن أن يؤتى سعة من المال و علوا في الأرض ثم يحسب أن لا أمنية من أماني الإنسانية إلا و قد أوتيها لكنه في غفلة عن ابتهاج من تحقق بحقيقة الإيمان بالله و دخل في ولاية الله فآتاه الله الحياة الطيبة الإنسانية، و آمنه من ذلة الحياة الحيوانية التي لا حكومة فيها إلا للحرص و الشره و الافتراس و التكلب و الجهالة، فالنفس الحرة الإنسانية تذم من الحياة ما يستأثره النفوس الرذيلة الخسيسة و إن استتبع الذلة و المسكنة و كل شناعة.

فالحياة الحسنة لمجتمع صالح حر أن يشتركوا في التمتع من مزايا النعم الأرضية التي خلقها الله لهم اشتراكا عن تراحم بينهم و تعاون و تعاضد من غير تعد و تزاحم بحيث يطلب كل خير نفسه و نفعها في خير مجتمعة و نفعه من غير أن يعبد نفسه و يستعبد الآخرين.

و بالجملة التمتع بالحياة الحسنة إلى أجل مسمى هو تمتع الفرد بالحياة على ما تستحسنه الفطرة الإنسانية و هو الاعتدال في التمتعات المادية في ضوء العلم النافع و العمل الصالح هذا إذا نسب إلى الفرد، و أما إذا نسب إلى المجتمع فهو الانتفاع العام من نعم الحياة الأرضية الطيبة بتخصيص ما يناله الأفراد بكدهم و سعيهم بالمجتمع الملتئم الأجزاء من غير تضاد بين أبعاضه أو تناقض.

و قوله: ﴿وَ يُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ

 الفضل‏

هو الزيادة و إذ نسب الفضل في قوله: ﴿كُلَّ ذِي فَضْلٍ إلى من عنده الفضل من الأفراد كان ذلك قرينة على كون الضمير في ﴿فَضْلَهُ راجعا إلى ذي الفضل دون اسم الجلالة كما احتمله بعضهم و الفضل و الزيادة من المعاني النسبية التي إنما تتحقق بقياس شي‏ء إلى شي‏ء و إضافته إليه.

فالمعنى: و يعطي كل من زاد على غيره بشي‏ء من صفاته و أعماله و ما يقتضيه من الاختصاص بمزيد الأجر و خصوصه موهبة السعادة تلك الزيادة من غير أن يبطل حقه أو يغصب فضله أو يملكه غيره كما يشاهد في المجتمعات غير الدينية و إن كانت مدنية

 

 

 

 راقية فلم تزل البشرية منذ سكنت الأرض و كونت أنواع المجتمعات الهمجية أو الراقية أو ما هي أرقى تنقسم إلى طائفتين مستعلية مستكبرة قاهرة، و مستذلة مستعبدة مقهورة، و ليس يعدل هذا الإفراط و التفريط و لا يسوي هذا الاختلاف إلا دين التوحيد.

فدين التوحيد هو السنة الوحيدة التي تقصر المولوية و السيادة في الله سبحانه و تسوي بين القوي و الضعيف و المتقدم و المتأخر و الكبير و الصغير و الأبيض و الأسود و الرجل و المرأة و تنادي بمثل قوله تعالى﴿يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثيَ‏ وَ جَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَ قَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اَللَّهِ أَتْقَاكُمْ الحجرات: - ١٣، و قوله﴿أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثيَ‏بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ آل عمران: - ١٩٥.

ثم إن وقوع قوله: ﴿وَ يُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ الحاكي عن الاعتناء بفضل كل ذي فضل بعد قوله: ﴿يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِليَ‏ أَجَلٍ مُسَمًّى الدال على تمتيع الجميع مشعر:

أولا: بأن المراد بالجملة الأولى المتاع العام المشترك بين أفراد المجتمع و بعبارة أخرى حياة المجتمع العامة الحسنة، و بالجملة الثانية المزايا التي يؤتاها بعض الأفراد قبال ما يختصون به من الفضل.

و ثانيا: أن الجملة الأولى تشير إلى التمتيع بمتاع الحياة الدنيا و الثانية إلى إيتاء ثواب الآخرة قبال الأعمال الصالحة القائمة بالفرد أو إيتاء كل ذي فضل فضله في الدنيا و الآخرة معا بتخصيص كل من جاء بزيادة في جهة دنيوية بما تقتضيه زيادته من المزية في جهات الحياة بإقامة كل ذي فضيلة في صفة أو عمل مقامه الذي تقتضيه صفته أو عمله و وضعه موضعه من غير أن يسوي بين الفاضل و المفضول في دينهما أو تزاح الخصوصيات و تبطل الدرجات و المنازل بين الأعمال و المساعي الاجتماعية فلا يتفاوت حال الناشط في عمله و الكسلان، و لا يختلف أمر المجتهد في العمل الدقيق المهم في بابه و اللاعب بالعمل الحقير الهين و هكذا.

و قوله: ﴿وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ أي فإن تتولوا

 

 

 

 إلخ بالخطاب، و الدليل عليه قوله: ﴿عَلَيْكُمْ و ما تقدم في الآيتين من الخطابات المتعددة فلا يصغي إلى قول من يأخذ قوله: ﴿تَوَلَّوْا جمعا مذكرا غائبا من الفعل الماضي فإنه ظاهر الفساد.

و قد أغرب بعض المفسرين حيث قال في قوله تعالى: ﴿يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِليَ‏ أَجَلٍ مُسَمًّى: و الآية تتضمن نجاة هذه الأمة المحمدية من عذاب الاستئصال كما بيناه في تفسير سورة يونس أيضا انتهى، و لست أدري كيف استفاد من الآية ما ذكره و لعله بنى ذلك على أن الآية اشترطت للأمة الحياة الحسنة من غير استئصال إن آمنوا بالله و آياته ثم إنهم آمنوا و انتشر الإسلام في الدنيا، لكن من المعلوم أن الرسول (صلى الله عليه وآله و سلم) مرسل إلى أهل الدنيا عامة و لم يؤمن به عامتهم، و لا أن المؤمنين به أخلصوا جميعا إيمانهم من النفاق و سرى الإيمان من ظاهرهم إلى باطنهم و من لسانهم إلى جنانهم.

و لو كان مجرد إيمان بعض الأمة مع كفر الآخرين كافيا في تحقق الشرط و ارتفاع عذاب الاستئصال لكفى في أمة نوح و هود (عليه السلام) و غيرهما و قد دعوا أممهم إلى ما دعا إليه محمد ص، و اشترطوا لهم مثل ما اشترط لأمته ثم عمهم الله بعذاب الاستئصال و كان حقا عليه نصر المؤمنين.

و قد حكى الله سبحانه عن نوح قوله لقومه في ضمن دعوته ﴿اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ اَلسَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَ بَنِينَ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً نوح: - ١٢ و حكى عن هود قوله﴿وَ يَا قَوْمِ اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ اَلسَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَ يَزِدْكُمْ قُوَّةً إِليَ‏ قُوَّتِكُمْ وَ لاَ تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ هود: - ٥٢، و حكى جملة عن نوح و هود و صالح و الذين من بعدهم قولهم﴿أَ فِي اَللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَ يُؤَخِّرَكُمْ إِليَ‏ أَجَلٍ مُسَمًّى إبراهيم: - ١٠.

و أما قوله: «و قد بيناه في سورة يونس أيضا» فلم يأت هناك إلا بدعوى خالية و قد قدمنا هناك أن آيات سورة يونس صريحة في أن الله سيقضي بين هذه الأمة بين نبيها (صلى الله عليه وآله و سلم) فيعذبهم و ينجي المؤمنين سنة الله التي قد خلت في عباده

 

 

 

و لن تجد لسنة الله تبديلا.

قوله تعالى: ﴿إِلَى اَللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَ هُوَ عَليَ‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ في مقام التعليل لما يفيده قوله: ﴿وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ من المعاد، و ذيل الآية، مسوق لإزاحة ما يمكن أن يختلج في صدورهم من استبعاد البعث بعد عروض الموت، و المعنى و إن تتولوا عن إخلاص العبادة له و رفض الشركاء فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير سيستقبلكم فتواجهونه و هو يوم البعث بعد الموت لأن مرجعكم إلى الله و الله على كل شي‏ء قدير فلا يعجز عن إحيائكم بعد الإماتة فإياكم أن تستبعدوا ذلك.

فالآية قرينة على أن المراد باليوم الكبير يوم القيامة،- و روى القمي في تفسيره، مضمرا ":أن المراد بعذاب يوم كبير الدخان و الصيحة.

[سورة هود (١١): الآیات ٥ الی ١٦ ]

﴿أَلاَ إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلاَ حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَ مَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ اَلصُّدُورِ ٥ وَ مَا مِنْ دَابَّةٍ فِي اَلْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اَللَّهِ رِزْقُهَا وَ يَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَ مُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ٦ وَ هُوَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَ كَانَ عَرْشُهُ عَلَى اَلْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَ لَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ اَلْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ ٧ وَ لَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ اَلْعَذَابَ إِليَ‏ أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ

 

 

 

لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَ حَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ٨ وَ لَئِنْ أَذَقْنَا اَلْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ ٩ وَ لَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ اَلسَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ ١٠ إِلاَّ اَلَّذِينَ صَبَرُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ ١١ فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحيَ‏ إِلَيْكَ وَ ضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَ اَللَّهُ عَليَ‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ وَكِيلٌ ١٢ أَمْ يَقُولُونَ اِفْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَ اُدْعُوا مَنِ اِسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اَللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ١٣ فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اَللَّهِ وَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ١٤ مَنْ كَانَ يُرِيدُ اَلْحَيَاةَ اَلدُّنْيَا وَ زِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَ هُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ ١٥ أُولَئِكَ اَلَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ إِلاَّ اَلنَّارُ وَ حَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَ بَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ١٦

(بيان)

جمل و فصول من أعمال المشركين و أقوالهم في الرد على نبوة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و ما نزل عليه من الكتاب تذكرها الآيات و تجيب عنها بإلقاء الحجة كاستخفائهم من الله،

 

 

 

 و قولهم: ما يحبس العذاب عنا، و قولهم: لو لا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك، و قولهم: إنه افترى القرآن. و فيها بعض معارف أخر.

قوله تعالى: ﴿أَلاَ إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ إلى آخر الآية،

 ثنى‏

الشي‏ء يثناه ثنيا كفتح يفتح فتحا أي عطفه و طواه و رد بعضه على بعض قال في المجمع،: أصل

الثني‏

 العطف تقول: ثنيته عن كذا أي عطفته، و منه الاثنان لعطف أحدهما على الآخر في المعنى، و منه

الثناء

 لعطف المناقب في المدح، و منه

الاستثناء

لأنه عطف عليه بالإخراج منه، انتهى. و قال أيضا:

 الاستخفاء

 طلب خفاء الشي‏ء يقال: استخفى و تخفى بمعنى، و كذلك استغشى و تغشى، انتهى.

فالمراد بقوله: ﴿يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أنهم يميلون بصدورهم إلى خلف و يطأطئون رءوسهم ليتخفوا من الكتاب أي من استماعه حين تلاوته و هو كناية عن استخفائهم من النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و من حضر عنده حين تلاوة القرآن عليهم للتبليغ لئلا يروا هناك فتلزمهم الحجة.

و قوله: ﴿أَلاَ حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ إلخ، كأنهم كانوا يسترون رءوسهم أيضا بثيابهم عند استخفائهم بثني الصدور فذكر الله سبحانه ذلك و أخبر أنه تعالى يعلم عند ذلك ما يسرون و ما يعلنون فما يغنيهم التخفي عن استماع القرآن و الله يعلم سرهم و علانيتهم.

و قيل: إن المراد باستغشائهم ثيابهم هو الاستغشاء في بيوتهم ليلا عند أخذ المضاجع للنوم، و هو أخفى ما يكون فيه الإنسان و أخلى أحواله، و المعنى: أنهم يثنون صدورهم ليستخفوا من هذا الكتاب عند تلاوته عليهم، و الله يعلم سرهم و علانيتهم في أخفى ما يكونون عليه من الحال و هو حال تغشيهم بثيابهم للنوم، و لا يخلو الوجه من ظهور.

هذا ما يفيده السياق في معنى الآية، و ربما ذكر لها معان أخر بعيدة من السياق منها قولهم: إن الضمير في ﴿لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ راجع إليه تعالى أو إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و منها قول بعضهم: ﴿يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ أي يطوونها على الكفر، و قول آخرين:

أي يطوونها على عداوة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى غير ذلك من المعاني المذكورة و هي جميعا معان بعيدة.

 

 

 

 قوله تعالى: ﴿وَ مَا مِنْ دَابَّةٍ فِي اَلْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اَللَّهِ رِزْقُهَا إلى آخر الآية،

الدابة

 على ما في كتب اللغة كل ما يدب و يتحرك، و يكثر استعماله في النوع الخاص منه، و قرينة المقام تقتضي كون المراد منه العموم لظهور أن الكلام مسوق لبيان سعة علمه تعالى، و لذلك عقب به قوله: ﴿أَلاَ حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَ مَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ اَلصُّدُورِ.

و هذا المعنى أعني كون ذكر وجوب رزق كل دابة على الله لبيان سعة علمه لكل دابة في جميع أحوالها يستوجب أن يكون قوله: ﴿وَ يَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَ مُسْتَوْدَعَهَا بمنزلة عطف التفسير لقوله: ﴿عَلَى اَللَّهِ رِزْقُهَا فيعود المعنى إلى أن كل دابة من دواب الأرض على الله أن يرزقها و لن تبقى بغير رزق فهو تعالى عليم بها خبير بحالها أينما كانت فإن كانت في مستقر لا تخرج منه كالحوت في الماء و كالصدف فيما وقعت و استقرت فيه من الأرض رزقها هناك و إن كانت خارجة من مستقرها و هي في مستودع ستتركه إلى مستقرها كالطير في الهواء أو كالمسافر الغارب عن وطنه أو كالجنين في الرحم رزقها هناك و بالجملة هو تعالى عالم بحال كل دابة في الأرض و كيف لا و عليه تعالى رزقها و لا يصيب الرزق المرزوق إلا بعلم من الرازق بالمرزوق و خبرة منه بما حل فيه من محل دائم أو معجل و مستقر أو مستودع.

و من هنا يظهر أن المراد بالمستقر و المستودع المحل الذي تستقر فيه الدابة ما دامت دابة تدب في الأرض و تعيش عيشة دنيوية و المحل الذي تحل فيه ثم تودعه و تفارقه، و أما ما ذكره بعض المفسرين أن المراد بالمستقر و المستودع أماكنها في الحياة و بعد الممات أو أن المراد بهما الأصلاب و الأرحام أو أن المراد بهما مساكنها من الأرض حين وجدت بالفعل و مودعها من المواد و المقار حين كانت بعد بالقوة فمعان بعيدة عن سياق الآية اللهم إلا أن يجعل قوله: ﴿وَ يَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَ مُسْتَوْدَعَهَا كلاما مستأنفا بحياله غير مفسر لما قبله.

و قد تقدم في قوله تعالى﴿وَ هُوَ اَلَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَ مُسْتَوْدَعٌ الأنعام - ٩٨ ما يناسب هذا المقام فليراجع إليه من شاء.

و أما قوله: ﴿عَلَى اَللَّهِ رِزْقُهَا فهو دال على وجوب الرزق عليه تعالى و قد

 

 

 

 تكرر في القرآن أن الرزق من أفعاله تعالى المختصة به و أنه حق للخلق عليه تعالى قال تعالى﴿أَمَّنْ هَذَا اَلَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ الملك: - ٢١، و قال تعالى

﴿ إِنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلرَّزَّاقُ ذُو اَلْقُوَّةِ اَلْمَتِينُ الذاريات: - ٥٨

 و قال تعالى﴿وَ فِي اَلسَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَ مَا تُوعَدُونَ فَوَ رَبِّ اَلسَّمَاءِ وَ اَلْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ الذاريات: - ٢٣.

و لا ضير في أن يثبت عليه تعالى حق لغيره إذا كان تعالى هو الجاعل الموجب لذلك على نفسه من غير أن يداخل فيه غيره، و لذلك نظائر في كلامه تعالى كما قال‏﴿

كَتَبَ عَليَ‏َنَفْسِهِ اَلرَّحْمَةَ الأنعام: - ١٢، و قال﴿وَ كَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ اَلْمُؤْمِنِينَ الروم: - ٤٧ إلى غير ذلك من الآيات.

و الاعتبار العقلي يؤيد ذلك فإن الرزق هو ما يديم به المخلوق الحي وجوده و إذ كان وجوده من فيض جوده تعالى فما يتوقف عليه من الرزق من قبله، و إذ لا شريك له تعالى في إيجاده لا شريك له في ما يتوقف عليه وجوده كالرزق.

و قد تقدم بعض الكلام في معنى الكتاب المبين في سورة الأنعام آية: ٥٩ و في سورة يونس آية: ٦١ فليراجع.

قوله تعالى: ﴿وَ هُوَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَ كَانَ عَرْشُهُ عَلَى اَلْمَاءِ الكلام المستوفى في توصيف خلق السماوات و الأرض على ما يظهر من كلامه تعالى و يفسره ما ورد في ذلك عن أهل العصمة (عليه السلام) موكول إلى ما سيأتي من تفسير سورة حم السجدة إن شاء الله تعالى.

و إجمال القول الذي يظهر به معنى قوله: ﴿سِتَّةِ أَيَّامٍ و قوله: ﴿وَ كَانَ عَرْشُهُ عَلَى اَلْمَاءِ هو أن الظاهر أن ما يذكره تعالى من السماوات بلفظ الجمع و يقارنها بالأرض و يصف خلقها في ستة أيام طبقات من الخلق الجسماني المشهود تعلو أرضنا فكل ما علاك و أظلك فهو سماء على ما قيل و العلو و السفل من المعاني الإضافية.

فهي طبقات من الخلق الجسماني المشهود تعلو أرضنا و تحيط بها فإن الأرض

 

 

 

[1]  ما ظ.




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 22540737

  • التاريخ : 15/04/2025 - 17:26

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net