00989338131045
 
 
 
 
 
 

 من ص 161 الى ص 240 

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الميزان في تفسير القرآن (الجزء الثامن)   ||   تأليف : العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي (قده)

التفصيل الذي تقدم في بيان الآية يدل على تحقق هذه الصفة له قوله تعالى: ﴿ثُمَّ اِسْتَوى‏ عَلَى اَلْعَرْشِ يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ: يونس: ٣، ففسر الاستواء على العرش بتدبير الأمر منه، و عقبه بقوله: ﴿مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ و الآية لما كانت في مقام وصف الربوبية و التدبير التكويني كان المراد بالشفاعة الشفاعة في أمر التكوين، و هو السببية التي توجد في الأسباب التكوينية التي هي وسائط متخللة بين الحوادث و الكائنات و بينه تعالى كالنار المتخللة بينه و بين الحرارة التي يخلقها، و الحرارة المتخللة بينه و بين التخلخل أو ذوبان الأجسام فنفي السببية عن كل شي‏ء إلا من بعد إذنه لإفادة توحيد الربوبية التي يفيده صدر الآية: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اَللَّهُ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ.

و في قوله: ﴿مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ بيان حقيقة أخرى و هي رجوع التخلف في التدبير إلى التدبير بعينه بواسطة الإذن، فإن الشفيع إنما يتوسط بين المشفوع له المحكوم بحكم، المشفوع عنده، ليغير بالشفاعة مجرى حكم سيجري لو لا الشفاعة فالشمس المضيئة بالمواجهة مثلا شفيعة متوسطة بين الله سبحانه و بين الأرض لاستنارتها بالنور و لو لا ذلك لكان مقتضى تقدير الأسباب العامة و نظمها أن تحيط بها الظلمة ثم الحائل من سقف أو أي حجاب آخر شفيع آخر يسأله تعالى أن لا يقع نور الشمس على الأرض باستقامة و هكذا.

فإذا كانت شفاعة الشفيع و هو سبب مغير لما سبقه من الحكم مستندة إلى إذنه تعالى كان معناه أن التدبير العام الجاري إنما هو من الله سبحانه، و أن كل ما يتخذ من الوسائل لإبطال تدبيره و تغيير مجرى حكمه أعم مما يتخذه الأسباب التكوينية و ما يتخذه الإنسان من التدابير للفرار عن حكم الأسباب الجارية الإلهية كل ذلك من التدبير الإلهي.

و لذلك نرى الأشياء الردية تعصي فلا تقبل الصور الشريفة و المواهب السامية، لقصور استعدادها عن قبولها، و هذا الرد منها بعينه قبول، و الامتناع من قبول التربية بعينه تربية أخرى إلهية و الإنسان على ما به من الجهل يستعلي على ربه و يستنكف عن الخضوع لعظمته و هو بعينه انقياد لحكمه، و يمكر به و هو بعينه ممكور به قال تعالى:

﴿وَ مَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَ مَا يَشْعُرُونَ: الأنعام: ١٢٣، و قال تعالى: ﴿وَ مَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَ مَا يَشْعُرُونَ: آل عمران: ٦٩، و قال تعالى: ﴿وَ مَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي اَلْأَرْضِ

 

 

 وَ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اَللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لاَ نَصِيرٍ: الشورى: ٣١.

فقوله: ﴿مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ﴾ يدل على أن شفاعة الشفاعة أو الأسباب المخالفة التي تحول بين التدبير الإلهي و بين مقتضياته داخلة من جهة أخرى و هي جهة الإذن في التدبير الإلهي فافهم ذلك.

فما مثل الأسباب و العوامل المتخالفة المتزاحمة في الوجود إلا كمثل كفتي الميزان تتعاركان بالارتفاع و الانخفاض، و الثقل و الخفة لكن اختلافهما بعينه اتفاق منهما في إعانة صاحب الميزان في تشخيص ما يريد تشخيصه من الوزن.

و يقرب من آية سورة يونس في الدلالة على شمول التدبير و نفي مدبر غيره تعالى قوله: ﴿ثُمَّ اِسْتَوى‏ عَلَى اَلْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لاَ شَفِيعٍ أَ فَلاَ تَتَذَكَّرُونَ: السجدة : ٤، و يقرب من قوله: ﴿ثُمَّ اِسْتَوى‏َ عَلَى اَلْعَرْشِ يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ في الإشارة إلى كون العرش مقاما تنتشئ فيه التدابير العامة و تصدر عنه الأوامر التكوينية قوله تعالى:

﴿ذُو اَلْعَرْشِ اَلْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ: البروج: ١٦، و هو ظاهر.

و إلى هذا المعنى يشير قوله تعالى: ﴿وَ تَرَى اَلْمَلاَئِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ اَلْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ: الزمر: ٧٥، فإن الملائكة هم الوسائط الحاملون لحكمه و المجرون لأمره العاملون بتدبيره فليكونوا حافين حول عرشه.

و كذا قوله تعالى: ﴿اَلَّذِينَ يَحْمِلُونَ اَلْعَرْشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا: المؤمن: ٧، و في الآية مضافا إلى ذكر احتفافهم بالعرش شي‏ء آخر و هو أن هناك حملة يحملون العرش، و هم لا محالة أشخاص يقوم بهم هذا المقام الرفيع و الخلق العظيم الذي هو مركز التدابير الإلهية و مصدرها، و يؤيد ذلك ما في آية أخرى و هي قوله: ﴿وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ: الحاقة: ١٧.

و إذ كان العرش هو المقام الذي يرجع إليه جميع أزمة التدابير الإلهية و الأحكام الربوبية الجارية في العالم كما سمعت، كان فيه صور جميع الوقائع بنحو الإجمال حاضرة عند الله معلومة له، و إلى ذلك يشير قوله تعالى: ﴿ثُمَّ اِسْتَوى‏ عَلَى اَلْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي اَلْأَرْضِ وَ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَ مَا يَنْزِلُ مِنَ اَلسَّمَاءِ وَ مَا يَعْرُجُ فِيهَا وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَ اَللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ: الحديد: ٤، فقوله: ﴿يَعْلَمُ مَا يَلِجُ إلخ، يجري مجرى التفسير للاستواء

 

 

 على العرش فالعرش مقام العلم كما أنه مقام التدبير العام الذي يسع كل شي‏ء، و كل شي‏ء في جوفه.

و لذلك هو محفوظ بعد رجوع الخلق إليه تعالى لفصل القضاء كما في قوله: ﴿وَ تَرَى اَلْمَلاَئِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ اَلْعَرْشِ و موجود مع هذا العالم المشهود كما يدل عليه آيات خلق السماوات و الأرض، و موجود قبل هذه الخلقة كما يدل عليه قوله: ﴿وَ هُوَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَ كَانَ عَرْشُهُ عَلَى اَلْمَاءِ: هود: ٧.

بيان

قوله تعالى: ﴿اُدْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً إلى آخر الآيتين.

 التضرع‏

هو التذلل من الضراعة و هي الضعف و الذلة. و

الخفية

هي الاستتار و ليس من البعيد أن يكون كناية عن التذلل جي‏ء به لتأكيد التضرع فإن المتذلل يكاد يختفي من الصغار و الهوان.

الآية السابقة: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اَللَّهُ اَلَّذِي خَلَقَ الآية تذكر بربوبيته وحده لا شريك له من جهة أنه هو الخالق وحده، و إليه تدبير خلقه وحده، فتعقيبها بهاتين الآيتين بمنزلة أخذ النتيجة من البيان، و هي الدعوة إلى دعائه و عبوديته، و الحكم بأخذ دين يوافق ربوبيته تعالى و هي الربوبية من غير شريك في الخلق و لا في التدبير.

و لذلك دعا أولا إلى دين العبودية فقال: ﴿اُدْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ اَلْمُعْتَدِينَ وَ لاَ تُفْسِدُوا فِي اَلْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا فأمر أن يدعوه بالتضرع و التذلل و أن يكون ذلك خفته من غير المجاهرة البعيدة عن أدب العبودية الخارجة عن زيها بناء على أن تكون الواو في ﴿تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً للجمع - أو أن يدعوه بالتضرع و الابتهال الملازم عادة للجهر بوجه أو بالخفية إخفاتا فإن ذلك هو لازم العبودية و من عدا ذلك فقد اعتدى عن طور العبودية و إن الله لا يحب المعتدين.

و من الممكن أن يكون المراد بالتضرع و الخفية: الجهر و السر و إنما وضع التضرع موضع الجهر لكون الجهر في الدعاء منافيا لأدب العبودية إلا أن يصاحب التضرع.

هذا فيما بينهم و بين الله، و أما فيما بينهم و بين الناس فأن لا يفسدوا في الأرض بعد إصلاحها فليس حقيقة الدين فيما يرجع إلى حقوق الناس إلا أن يصلح شأنهم بارتفاع المظالم من بينهم و معاملتهم بما يعينهم على التقوى، و يقربهم من سعادة الحياة في الدنيا و الآخرة ثم كرر الدعوة إليه و أعاد البعث إلى دعائه بالجمع بين الطريقين الذين لم يزل البشر

 

 

 يعبد الرب أو الأرباب من أحدهما و هما طريق الخوف و طريق الرجاء فإن قوما كانوا يتخذون الأرباب خوفا فيعبدونهم ليسلموا من شرورهم، و كان قوما يتخذون الأرباب طمعا فيعبدونهم لينالوا خيرهم و بركتهم لكن العبادة عن محض الخوف ربما ساق الإنسان إلى اليأس و القنوط فدعاه إلى ترك العبادة، و قد شوهد ذلك كثيرا، و العبادة عن محض الطمع ربما قاد إلى استرسال الوقاحة و زوال زي العبودية فدعاه إلى ترك العبادة، و قد شوهد أيضا كثيرا فجمع سبحانه بينهما و دعا إلى الدعاء باستعمالهما معا فقال: ﴿وَ اُدْعُوهُ خَوْفاً وَ طَمَعاً ليصلح كل من الصفتين ما يمكن أن تفسده الأخرى، و في ذلك وقوع في مجرى الناموس العام الجاري في العالم أعني ناموس الجذب و الدفع.

و قد سمى الله سبحانه هذا الاعتدال في العبادة و التجنب عن إفساد الأرض بعد إصلاحها إحسانا و بشر المجيبين لدعوته بأنهم يكونون حينئذ محسنين فتقرب منهم رحمته إن رحمة الله قريب من المحسنين.

و لم يقل: رحمة الله قريبة، قيل: لأن الرحمة مصدر يستوي فيه الوجهان، و قيل:

لأن المراد بالرحمة الإحسان، و قيل: لأن قريب فعيل بمعنى المفعول فيستوي فيه المذكر و المؤنث و نظيره قوله تعالى: ﴿لَعَلَّ اَلسَّاعَةَ قَرِيبٌ: الشورى: ١٧.

قوله تعالى: ﴿وَ هُوَ اَلَّذِي يُرْسِلُ اَلرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ إلى آخر الآية و في الآية بيان لربوبيته تعالى من جهة العود كما أن في قوله: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اَللَّهُ الآية بيانا لها من جهة البدء.

و قوله: ﴿بُشْراً و أصله البشر بضمتين جمع بشير كالنذر جمع نذير، و المراد بالرحمة المطر، و قوله: ﴿بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أي قدام المطر، و فيه استعارة تخييلية بتشبيه المطر بالإنسان الغائب الذي ينتظره أهله فيقدم و بين يديه بشير يبشر بقدومه.

و

 الإقلال

‏ الحمل، و

 السحاب و السحابة

الغمام و الغمامة كتمر و تمرة و كون السحاب ثقالا باعتبار حمله ثقل الماء، و قوله ﴿لِبَلَدٍ مَيِّتٍ أي لأجل بلد ميت أو إلى بلد ميت و الباقي ظاهر.

و الآية تحتج بإحياء الأرض على جواز إحياء الموتى لأنهما من نوع واحد، و حكم الأمثال فيما يجوز و فيما لا يجوز واحد و ليس الأحياء الذين عرض لهم عارض الموت ـ

 

 

بمنعدمين من أصلهم فإن أنفسهم و أرواحهم باقية محفوظة و إن تغيرت أبدانهم، كما أن النبات يتغير ما على وجه الأرض منها و يبقى ما في أصله من الروح الحية على انعزال من النشوء و النماء ثم تعود إليه حياته الفعالة كذلك يخرج الله الموتى فما إحياء الموتى في الحشر الكلي يوم البعث إلا كإحياء الأرض الميتة في بعثه الجزئي العائد كل سنة، و للكلام ذيل سيوافيك في محل آخر إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: ﴿وَ اَلْبَلَدُ اَلطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ إلى آخر الآية.

 النكد

 القليل. و الآية بالنظر إلى نفسها كالمثل العام المضروب لترتب الأعمال الصالحة و الآثار الحسنة على الذوات الطيبة الكريمة كخلافها على خلافها كما تقدم في قوله: ﴿كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ لكنها بانضمامها إلى الآية السابقة تفيد أن الناس و إن اختلفوا في قبول الرحمة فالاختلاف من قبلهم و الرحمة الإلهية عامة مطلقة.

بحث روائي‏

لم ينقل عن طبقة الصحابة بحث حقيقي عن مثل العرش و الكرسي و سائر الحقائق القرآنية و حتى أصول المعارف كمسائل التوحيد و ما يلحق بها بل كانوا لا يتعدون الظواهر الدينية و يقفون عليها، و على ذلك جرى التابعون و قدماء المفسرين حتى‏ نقل عن سفيان بن عيينة أنه قال : كلما وصف الله من نفسه في كتابه فتفسيره تلاوته و السكوت عليه‏، و عن الإمام مالك أن رجلا قال له: يا أبا عبد الله ﴿اِسْتَوى‏ عَلَى اَلْعَرْشِ، كيف استوى؟ قال الراوي: فما رأيت مالكا وجد من شي‏ء كموجدته من مقالته و علاه الرحضاء يعني العرق و أطرق القوم. قال: فسري عن مالك فقال: الكيف غير معقول: و الاستواء منه غير مجهول، و الإيمان به واجب، و السؤال عنه بدعة، و إني أخاف أن تكون ضالا، و أمر به فأخرج. و كأن قوله: الكيف غير معقول إلخ، مأخوذ عما روي‏[1] عن أم سلمة أم المؤمنين في قوله تعالى: ﴿اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى‏ قالت: الكيف غير معقول، و الاستواء

 غير مجهول، و الإقرار به إيمان، و الجحود به كفر. فهذا نحو سلوكهم في ذلك لم يورث منهم شي‏ء إلا ما يوجد في كلام الإمام علي بن أبي طالب و الأئمة من ولده بعده (عليه السلام) و نحن نورد بعض ما عثرنا عليه في كلامهم.

 ففي التوحيد، بإسناده عن سلمان الفارسي فيما أجاب به علي (عليه السلام) الجاثليق:

فقال علي (عليه السلام): إن الملائكة تحمل العرش، و ليس العرش كما تظن كهيئة السرير و لكنه شي‏ء محدود مخلوق مدبر و ربك مالكه لا أنه عليه ككون الشي‏ء على الشي‏ء. الخبر.

 و في الكافي، عن البرقي رفعه قال : سأل الجاثليق عليا (عليه السلام) فقال: أخبرني عن الله عز و جل يحمل العرش أو العرش يحمله؟ فقال (عليه السلام): الله عز و جل حامل العرش و السماوات و الأرض و ما فيهما و ما بينهما، و ذلك قول الله عز و جل: ﴿إِنَّ اَللَّهَ يُمْسِكُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ أَنْ تَزُولاَ وَ لَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً.

قال: فأخبرني عن قوله: ﴿وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ فكيف ذاك و قلت: إنه يحمل العرش و السماوات و الأرض؟ فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): إن العرش خلقه الله تبارك و تعالى من أنوار أربعة: نور أحمر منه احمرت الحمرة، و نور أخضر منه اخضرت الخضرة، و نور أصفر منه اصفرت الصفرة و نور أبيض منه ابيض البياض.

و هو العلم الذي حمله الله الحملة، و ذلك نور من نور عظمته فبعظمته و نوره أبصر قلوب المؤمنين، و بعظمته و نوره عاداه الجاهلون، و بعظمته و نوره ابتغى من في السماوات و الأرض من جميع خلائقه إليه الوسيلة بالأعمال المختلفة و الأديان المتشتتة فكل شي‏ء محمول يحمله الله بنوره و عظمته و قدرته لا يستطيع لنفسه ضرا و لا نفعا و لا موتا و لا حياة و لا نشورا فكل شي‏ء محمول، و الله تبارك و تعالى الممسك لهما أن تزولا، و المحيط بهما من شي‏ء، و هو حياة كل شي‏ء و نور كل شي‏ء سبحانه و تعالى عما يقولون علوا كبيرا.

قال له: فأخبرني عن الله أين هو؟ فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): هو هاهنا و هاهنا و فوق و تحت و محيط بنا و معنا، و هو قوله: ﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوى‏ ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَ لاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَ لاَ أَدْنى‏ مِنْ ذَلِكَ وَ لاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا فالكرسي محيط بالسماوات و الأرض و ما بينهما و ما تحت الثرى، و إن تجهر بالقول فإنه يعلم السر و أخفى، و ذلك قوله: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ لاَ يَؤُدُهُ حِفْظُهُمَا وَ هُوَ اَلْعَلِيُّ اَلْعَظِيمُ.

 

 

فالذين يحملون العرش هم العلماء الذين حملهم الله علمه، و ليس يخرج من هذه الأربعة شي‏ء خلقه الله في ملكوته، و هو الملكوت الذي أراه الله أصفياءه و أراه خليله فقال:

﴿وَ كَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ اَلْمُوقِنِينَ و كيف يحمل حملة العرش الله و بحياته حييت قلوبهم، و بنوره اهتدوا إلى معرفته‏، الخبر.

أقول: قوله أخبرني عن الله عز و جل يحمل العرش أو العرش يحمله إلخ، ظاهر في أن الجاثليق أخذ الحمل بمعنى حمل الجسم للجسم، و قوله (عليه السلام): الله حامل العرش و السماوات و الأرض إلخ، أخذ للحمل بمعناه التحليلي و تفسير له بمعنى حمل وجود الشي‏ء و هو قيام وجود الأشياء به تعالى قياما تبعيا محضا لا استقلاليا، و من المعلوم أن لازم هذا المعنى أن يكون الأشياء محمولة له تعالى لا حاملة.

و لذلك لما سمع الجاثليق ذلك سأله (عليه السلام) عن قوله تعالى: ﴿وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ فإن حمل وجود الشي‏ء بالمعنى المتقدم يختص به تعالى لا يشاركه فيه غيره مع أن الآية تنسبه إلى غيره! ففسر (عليه السلام) الحمل ثانيا بحمل العلم و فسر العرش بالعلم.

غير أن ذلك حيث كان يوهم المناقضة بين التفسيرين زاد (عليه السلام) في توضيح ما ذكره من كون العرش هو العلم إن هذا العلم غير ما هو المتبادر إلى الأفهام العامية من العلم و هو العلم الحصولي الذي هو الصورة النفسانية بل هو نور عظمته و قدرته حضرت لهؤلاء الحملة بإذن الله و شوهدت لهم فسمي ذلك حملا، و هو مع ذلك محمول له تعالى و لا منافاة كما أن وجود أفعالنا حاضرة عندنا محمولة لنا و هي مع ذلك حاضرة عند الله سبحانه محمولة له و هو المالك الذي ملكنا إياها.

فنور العظمة الإلهية و قدرته الذي ظهر به جميع الأشياء هو العرش الذي يحيط بما دونه و هو ملكه تعالى لكل شي‏ء دون العرش و هو تعالى الحامل لهذا النور ثم الذين كشف الله لهم عن هذا النور يحملونه بإذن الله، و الله سبحانه هو الحامل للحامل و المحمول جميعا.

فالعرش في قوله: ﴿ثُمَّ اِسْتَوى‏ عَلَى اَلْعَرْشِ و إن شئت قلت: الاستواء على العرش هو الملك، و في قوله: ﴿وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ الآية هو العلم، و هما جميعا واحد و هو المقام الذي يظهر به جميع الأشياء و يتمركز فيه إجمال جميع التدابير التفصيلية الجارية في نظام الوجود فهو مقام الملك الذي يصدر منه التدابير، و مقام العلم الذي

 

 

 يظهر به الأشياء.

و قوله (عليه السلام): فبعظمته و نوره أبصر قلوب المؤمنين «إلخ» يريد أن هذا المقام هو المقام الذي ينشأ منه تدبير نظام السعادة الذي وقع فيه مجتمع المؤمنين و تسير عليه قافلتهم في مسيرهم إلى الله سبحانه، و ينشأ منه نظام الشقاء الذي ينبسط على جميع المعاندين أعداء الله الجاهلين بمقام ربهم بل المقام الذي ينشأ منه النظام العالمي العام الذي يعيش تحته كل ذي وجود، و يسير به سائرهم للتقرب إليه بأعمالهم و سننهم سواء علموا بما هم فيه من ابتغاء الوسيلة إليه تعالى أو جهلوا.

و قوله (عليه السلام): «و هو حياة كل شي‏ء و نور كل شي‏ء» كالتعليل المبين لقوله قبله فكل شي‏ء محمول يحمله الله إلى آخر ما قال. و محصله أنه تعالى هو الذي به يوجد كل شي‏ء، و هو الذي يدرك كل شي‏ء فيظهر به طريقه الخاص به في مسير وجوده ظهور الطريق المظلم لسائره بواسطة النور فهي لا تملك لأنفسها شيئا بل الله سبحانه هو المالك لها الحامل لوجودها.

و قوله (عليه السلام): هو هاهنا و هاهنا و فوق و تحت «إلخ» يريد أن الله سبحانه لما كان مقوما لوجود كل شي‏ء حافظا و حاملا له لم يكن محل من المحال خاليا عنه، و لا هو مختصا بمكان دون مكان، و كان معنى كونه في مكان أو مع شي‏ء ذي مكان أنه تعالى حافظ له و حامل لوجوده و محيط به، و هو و كذا غيره محفوظ بحفظه تعالى و محمول و محاط له.

و هذا يئول إلى علمه الفعلي بالأشياء، و نعني به أن كل شي‏ء حاضر عنده تعالى غير محجوب عنه، و لذلك قال (عليه السلام) أولا: «فالكرسي محيط بالسماوات و الأرض و ما بينهما و ما تحت الثرى» فأشار إلى الإحاطة ثم عقبه بقوله: «و إن تجهر بالقول فإنه يعلم السر و أخفى» فأشار إلى العلم فأنتج ذلك أن الكرسي و يعني به العرش مقام الإحاطة و التدبير و الحفظ، و أنه مقام العلم و الحضور بعينه، ثم طبقه على قوله تعالى: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ الآية.

و قوله (عليه السلام): «و ليس يخرج عن هذه الأربعة شي‏ء خلق الله في ملكوته» كأنه إشارة إلى الألوان الأربعة المذكورة في أول كلامه (عليه السلام) و سيجي‏ء كلام فيها في أحاديث المعراج إن شاء الله.

 

 

 و قوله (عليه السلام) «و هو الملكوت الذي أراه الله أصفياءه» فالعرش هو الملكوت غير أن الملكوت اثنان ملكوت أعلى و ملكوت أسفل، و العرش لكونه مقام الإجمال و باطن البابين من الغيب كما سيأتي ما يدل على ذلك من الرواية كان الأحرى به أن يكون الملكوت الأعلى.

و قوله (عليه السلام): و كيف يحمل حملة العرش الله «إلخ» تأكيد و تثبيت لأول الكلام: أن العرش هو مقام حمل وجود الأشياء و تقويمه، فحملة العرش محمولون له سبحانه لا حاملون كيف؟ و وجودهم و سير وجودهم يقوم به تعالى لا بأنفسهم، و لاعتباره (عليه السلام) هذا المقام الوجودي علما عبر عن وجودهم و عن كمال وجودهم بالقلوب، و نور الاهتداء إلى معرفة الله إذ قال: و بحياته حييت قلوبهم و بنوره اهتدوا إلى معرفته.

و في التوحيد، بإسناده عن حنان بن سدير قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن العرش و الكرسي فقال: إن للعرش صفات كثيرة مختلفة، له في كل سبب وضع في القرآن صفة على حدة - فقوله: ﴿رَبُّ اَلْعَرْشِ اَلْعَظِيمِ يقول: رب الملك العظيم، و قوله: ﴿اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى‏َ يقول: على الملك احتوى، و هذا علم الكيفوفية في الأشياء.

ثم العرش في الوصل مفرد[2] عن الكرسي لأنهما بابان من أكبر أبواب الغيوب و هما جميعا غيبان، و هما في الغيب مقرونان لأن الكرسي هو الباب الظاهر من الغيب الذي منه مطلع البدع و منها الأشياء كلها، و العرش هو الباطن الذي يوجد فيه علم الكيف و الكون و القدر و الحد و الأين و المشية و صفة الإرادة و علم الألفاظ و الحركات و الترك و علم العود و البدء.

فهما في العلم بابان مقرونان لأن ملك العرش سوى ملك الكرسي، و علمه أغيب من علم الكرسي فمن ذلك قال: ﴿رَبُّ اَلْعَرْشِ اَلْعَظِيمِ أي صفته أعظم من صفة الكرسي، و هما في ذلك مقرونان.

قلت: جعلت فداك فلم صار في الفضل جار الكرسي؟ قال (عليه السلام): إنه صار جاره لأن علم الكيفوفية فيه و فيه الظاهر من أبواب البداء و إنيتها و حد رتقها و فتقها فهذان جاران أحدهما حمل صاحبه في الصرف، و بمثل صرف العلماء، و ليستدلوا على صدق دعواهما لأنه يختص برحمته من يشاء و هو القوي العزيز.

 

 

أقول: قوله (عليه السلام): إن للعرش صفات كثيرة إلخ، يؤيد ما ذكرناه سابقا أن الاستواء على العرش لبيان اجتماع أزمة التدابير العالمية عند الله، و يؤيده ما في آخر الحديث من قوله: و بمثل صرف العلماء.

و قوله (عليه السلام): «و هذا علم الكيفوفية في الأشياء» المراد به العلم بالعلل العالية و الأسباب القصوى للموجودات فإن لفظ «كيف» عرفا كما يسأل به عن العرض المسمى اصطلاحا بالكيف كذلك يسأل به عن سبب الشي‏ء و لمه، يقال: كيف وجد كذا؟ و كيف فعل زيد كذا و هو لا يستطيع.

و قوله (عليه السلام): ثم العرش في الوصل مفرد عن الكرسي «إلخ» مراده أن العرش و الكرسي واحد من حيث إنهما مقام الغيب الذي يظهر منه الأشياء و ينزل منه إلى هذا العالم لكن العرش في الصلة الكلامية متميز من الكرسي لأن هذا المقام في نفسه ينقسم إلى مقامين و ينشعب إلى بابين لكنهما مقرونان غير متباينين: أحدهما الباب الظاهر الذي يلي هذا العالم، و الآخر الباب الباطن الذي يليه ثم بينه بقوله: لأن الكرسي هو الباب الظاهر «إلخ».

قوله (عليه السلام): «لأن الكرسي هو الباب الظاهر الذي منه مطلع البدع و منها الأشياء كلها» أي طلوع الأمور البديعة على غير مثال سابق، و منها يتحقق الأشياء كلها لأن جميعها بديعة على غير مثال سابق، و هي إنما تكون بديعة إذا كانت مما لا يتوقع تحققها من الوضع السابق الذي كان أنتج الأمور السابقة على هذا الحادث التي تذهب هي و يقوم هذا مقامها فيئول الأمر إلى البداء بإمحاء حكم سبب و إثبات حكم الآخر موضعه فجميع الوقائع الحادثة في هذا العالم المستندة إلى عمل الأسباب المتزاحمة و القوى المتضادة بدع حادثة و بداءات في الإرادة.

و فوق هذه الأسباب المتزاحمة و الإرادات المتغايرة التي لا تزال تتنازع في الوجود سبب واحد و إرادة واحدة حاكمة لا يقع إلا ما يريده فهو الذي يحجب هذا السبب بذاك السبب و يغير حكم هذه الإرادة و يقيد إطلاق تأثير كل شي‏ء بغيره كمثل الذي يريد قطع طريق لغاية كذا فيأخذ في طيه، و بينما هو يطوي الطريق يقف أحيانا ليستريح زمانا، فعله الوقوف ربما تنازع علة الطي و الحركة و توقفها عن العمل، و الإرادة تغير

 

 

 الإرادة لكن هناك إرادة أخرى هي التي تحكم على الإرادتين جميعا و تنظم العمل على ما تميل إليه بتقديم هذه تارة و تلك أخرى و الإرادتان أعني سببي الحركة و السكون و إن كانت كل منهما تعمل لنفسها و على حدتها و تنازع صاحبتها لكنهما جميعا متفقتان في طاعة الإرادة التي هي فوقهما، و متعاضدتان في إجراء ما يوجبه السبب الذي هو أعلى منهما و أسمى.

فالمقام الذي ينفصل به السببان المتنافيان و ينشأ منه تنازعهما بمنزلة الكرسي، و المقام الذي يظهر أن فيه متلائمين متآلفين بمنزلة العرش، و ظاهر أن الثاني أقدم من الأول، و أنهما يختلفان بنوع من الإجمال و التفصيل، و البطون و الظهور.

و أحرى بالمقامين أن يسميا عرشا و كرسيا لأن فيهما خواص عرش الملك و كرسيه فإن الكرسي: الذي يظهر فيه أحكام الملك من جهة عماله و أيديه العمالة، و كل منهم يعمل بحيال نفسه في نوع من أمور المملكة و شئونها و ربما تنازعت الكراسي فيقدم حكم البعض على البعض و نسخ البعض حكم البعض، لكنها جميعا تتوافق و تتحد في طاعة أحكام العرش و هو المختص بالملك نفسه فعنده الحكم المحفوظ عن تنازع الأسباب غير المنسوخ بنسخ العمال و الأيدي، و في عرشه إجمال جميع التفاصيل و باطن ما يظهر من ناحية العمال و الأيدي.

و بهذا البيان يتضح معنى قوله (عليه السلام): لأن الكرسي هو الباب الظاهر «إلخ» فقوله «منه مطلع البدع» أي طلوع الأمور الكونية غير المسبوقة بمثل، و قوله «و منها الأشياء كلها» أي تفاصيل الخلقة و مفرداتها المختلفة المتشتتة.

و قوله: «و العرش هو الباب الباطن» قبال كون الكرسي هو الباب الظاهر، و البطون و الظهور فيهما باعتبار وقوع التفرق في الأحكام الصادرة و عدم وقوعه، و قوله يوجد فيه «إلخ» أي جميع العلوم و الصور التي تنتهي إلى إجمالها تفاصيل الأشياء.

و قوله: «علم الكيف» كأن المراد بالكيف خصوصية صدور الشي‏ء عن أسبابه، و قوله: «و الكون» المراد به تمام وجوده كما أن المراد بالعود و البدء أول وجودات الأشياء و نهايتها و قوله: «و القدر و الحد» المراد بهما واحد غير أن القدر حال مقدار الشي‏ء بحسب نفسه، و الحد حال الشي‏ء بحسب إضافته إلى غيره و منعه أن يدخل حومة نفسه و يمازجه، و قوله: «و الأين» هو النسبة المكانية، و قوله: «و المشية

 

 

 و صفة الإرادة» هما واحد و يمكن أن يكون المراد بالمشية أصلها و بصفة الإرادة خصوصيتها.

و قوله: «و علم الألفاظ و الحركات و الترك» علم الألفاظ هو العلم بكيفية انتشاء دلالة الألفاظ بارتباطها إلى الخارج بحسب الطبع فإن الدلالة الوضعية تنتهي بالآخرة إلى الطبع، و علم الحركات و الترك، العلم بالأعمال و التروك من حيث ارتباطها إلى الذوات و يمكن أن يكون المراد بمجموع قوله: «علم الألفاظ و علم الحركات و الترك» العلم بكيفية انتشاء اعتبارات الأوامر و النواهي من الأفعال و التروك، و انتشاء اللغات من حقائقها المنتهية إلى منشإ واحد، و الترك هو السكون النسبي في مقابل الحركات.

و قوله: «لأن علم الكيفوفية فيه» الضمير للعرش، و قوله: «و فيه الظاهر من أبواب البداء» الضمير للكرسي، و البداء ظهور سبب على سبب آخر و إبطاله أثره، و ينطبق على جميع الأسباب المتغايرة الكونية من حيث تأثيرها.

و قوله (عليه السلام): «فهذان جاران أحدهما حمل صاحبه في الصرف» المراد به على ما يؤيده البيان السابق أن العرش و الكرسي جاران متناسبان بل حقيقة واحدة مختلفة بحسب مرتبتي الإجمال و التفصيل: و إنما نسب إلى أحدهما أنه حمل الآخر بحسب صرف الكلام و ضرب المثل، و بالأمثال تبين المعارف الدقيقة الغامضة للعلماء.

و قوله: «و ليستدلوا على صدق دعواهما» أي دعوى العرش و الكرسي أي و جعل هذا المثل ذريعة لأن يستدل العلماء بذلك على صدق المعارف الحقة الملقاة إليهم في كيفية انتشاء التدبير الجاري في العالم من مقامي الإجمال و التفصيل و الباطن و الظاهر، فافهم ذلك.

 و في التوحيد، بإسناده عن الصادق (عليه السلام) * أنه سئل عن قوله تعالى: ﴿وَ كَانَ عَرْشُهُ عَلَى اَلْمَاءِ الآية، فقال: ما يقولون؟ قيل: إن العرش كان على الماء و الرب فوقه! فقال:

كذبوا، من زعم هذا فقد صير الله محمولا و وصفه بصفة المخلوقين، و لزمه أن الشي‏ء الذي يحمله هو أقوى منه. قال: إن الله حمل دينه و علمه الماء قبل أن تكون سماء أو أرض أو جن أو إنس أو شمس أو قمر.

 أقول: و هو كسابقه في الدلالة على أن العرش هو العلم، و الماء أصل الخلقة و كان العلم الفعلي متعلقا به قبل ظهور التفاصيل.

 و في الاحتجاج، عن علي (عليه السلام) أنه سئل عن بعد ما بين الأرض و العرش. فقال:

 

 

 قول العبد مخلصا: لا إله إلا الله. أقول: و هو من لطائف كلامه (عليه السلام) أخذه من قوله تعالى: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ اَلْكَلِمُ اَلطَّيِّبُ وَ اَلْعَمَلُ اَلصَّالِحُ يَرْفَعُهُ.

و وجهه أن العبد إذا نفى عن غيره تعالى الألوهية بإخلاص الألوهية و الاستقلال له تعالى أوجب ذلك نسيان غيره، و التوجه إلى مقام استناد كل شي‏ء إليه تعالى، و هذا هو مقام العرش على ما مر بيانه.

و نظيره في اللطافة قوله (عليه السلام): قد سئل عن بعد ما بين الأرض و السماء: مد البصر و دعوة المظلوم.

 و في الفقيه، و المجالس، و العلل، للصدوق: روي عن الصادق (عليه السلام) أنه سئل لم سمي الكعبة كعبة؟ قال: لأنها مربعة فقيل له: و لم صارت مربعة؟ قال: لأنها بحذاء البيت المعمور و هو مربع. فقيل له: و لم صار البيت المعمور مربعا؟ قال: لأنه بحذاء العرش و هو مربع، فقيل له: و لم صار العرش مربعا؟ قال: لأن الكلمات التي بني عليها الإسلام أربع: سبحان الله، و الحمد لله، و لا إله إلا الله، و الله أكبر. الحديث.

أقول: و هذه الكلمات الأربع أولاها: تتضمن التنزيه و التقديس و الثانية التشبيه و الثناء، و الثالثة التوحيد الجامع بين التنزيه و التشبيه، و الرابعة: التوحيد الأعظم المختص بالإسلام، و هو أن الله سبحانه أكبر من أن يوصف فإن الوصف تقييد و تحديد و هو تعالى أجل من أن يحده حد و يقيده قيد، و قد تقدم نبذة من الكلام فيه في تفسير قوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَفَرَ اَلَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اَللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ الآية.

و بالجملة يرجع المعنى إلى تفسيره بالعلم على ما مر، و الروايات المختلفة في هذا المعنى كثيرة كما ورد أن آية الكرسي و آخر البقرة و سورة محمد من كنوز العرش و ما ورد أن (ص) نهر يخرج من ساق العرش، و ما ورد أن الأفق المبين قاع بين يدي العرش فيه أنهار تطرد فيه من القدحان عدد النجوم.

 و في تفسير القمي، عن عبد الرحيم الأقصر عن الصادق (عليه السلام) قال : سألته عن ﴿ن وَ اَلْقَلَمِ قال: إن الله خلق القلم من شجرة في الجنة يقال لها: الخلد، ثم قال لنهر في الجنة: كن مدادا فجمد النهر، و كان أشد بياضا من الثلج و أحلى من الشهد. ثم قال للقلم: اكتب. قال: يا رب ما أكتب؟ قال: اكتب ما كان و ما هو كائن إلى يوم القيامة

 

 

فكتب القلم في رق أشد بياضا من الفضة و أصفى من الياقوت ثم طواه فجعله في ركن العرش ثم ختم على فم القلم فلم ينطق بعد، و لا ينطق أبدا فهو الكتاب المكنون الذي منه النسخ كلها (الحديث). و سيجي‏ء تمامه في سورة ن إن شاء الله تعالى.

أقول: و في معناها روايات أخر، و في بعضها لما استزاد الراوي بيانا و أصر عليه قال (عليه السلام): القلم ملك و اللوح ملك، فبين بذلك أن ما وصفه تمثيل من قبيل تشبيه المعقول بالمحسوس لتفهيم الغرض.

 و في كتاب روضة الواعظين، عن الصادق عن أبيه عن جده (عليه السلام) قال في العرش تمثال ما خلق الله في البر و البحر. قال: و هذا تأويل قوله: ﴿وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَ مَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ.

 أقول: أي وجود صور الأشياء و تماثيلها في العرش، هو الحقيقة التي يبتني عليها بيان الآية، و قد تقدم توضيح معنى وجود صور الأشياء في العرش، و في معنى هذه الرواية ما ورد في تفسير دعاء «يا من أظهر الجميل».

 و فيه، أيضا عن الصادق عن أبيه عن جده (عليه السلام) في حديث : و إن بين القائمة من قوائم العرش و القائمة الثانية خفقان الطير المسرع مسير ألف عام، و العرش يكسى كل يوم سبعين ألف لون من النور لا يستطيع أن ينظر إليه خلق من خلق الله، و الأشياء كلها في العرش كحلقة في فلاة.

أقول: و الجملة الأخيرة مما نقل عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من طرق الشيعة و أهل السنة، و الذي ذكره (عليه السلام) بناء على ما تقدم تمثيل، و نظائره كثيرة في رواياتهم (عليه السلام).

و من الدليل عليه أن ما وصف في الرواية من عظم العرش بأي حساب فرض يوجد من الدوائر التي ترسمها الأشعة النورية ما هي أعظم منه بكثير فليس التوصيف إلا لتقريب المعقول من الحس.

 و في العلل، عن علل محمد بن سنان عن الرضا (عليه السلام)،: علة الطواف بالبيت أن الله تبارك و تعالى قال للملائكة ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي اَلْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَ تَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَ يَسْفِكُ اَلدِّمَاءَ، فردوا على الله تبارك و تعالى هذا الجواب فعلموا أنهم أذنبوا فندموا فلاذوا بالعرش و استغفروا فأحب الله عز و جل أن يتعبد بمثل ذلك العباد فوضع في السماء

 

 

 الرابعة بيتا بحذاء العرش يسمى «الضراح» ثم وضع في السماء الدنيا بيتا يسمى «البيت المعمور» بحذاء الضراح ثم وضع البيت بحذاء البيت المعمور ثم أمر آدم فطاف به فجرى في ولده إلى يوم القيامة. الحديث.

أقول: الحديث لا يخلو عن الغرابة من جهات، و كيف كان فبناء على تفسير العرش بالعلم يكون معنى لواذ الملائكة بالعرش هو اعترافهم بالجهل و إرجاع العلم إليه سبحانه حيث قالوا: ﴿سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ اَلْعَلِيمُ اَلْحَكِيمُ و قد مر الكلام في هذه القصة في أوائل سورة البقرة. و في الرواية ذكر الضراح و البيت المعمور في السماء و معظم الروايات تذكر في السماء بيتا واحدا و هو البيت المعمور في السماء الرابعة، و فيها إثبات الذنب للملائكة و هم معصومون بنص القرآن، و لعل المراد من العلم بالذنب العلم بنوع من القصور.

و أما كون الكعبة بحذاء البيت المعمور فالظاهر أنه محاذاة معنوية لا حسية جسمانية، و من الشاهد عليه قوله «فوضع في السماء الرابعة بيتا بحذاء العرش» إذ المحصل من القرآن و الحديث أن العرش و الكرسي محيطان بالسماوات و الأرض، و لا يتحقق معنى المحاذاة بين المحيط و المحاط إذا كانت الإحاطة جسمانية.

 و في الخصال، عن الصادق (عليه السلام) : أن حملة العرش أحدهم على صورة ابن آدم يسترزق الله لولد آدم. و الثاني على صورة الديك يسترزق الله للطير، و الثالث على صورة الأسد يسترزق الله للسباع، و الرابع على صورة الثور يسترزق الله للبهائم، و نكس الثور رأسه منذ عبد بنو إسرائيل العجل - فإذا كان يوم القيامة صاروا ثمانية. الخبر.

أقول: و الأخبار فيما يقرب من هذا المعنى كثيرة متظافرة، و في بعضها عد الأربع حملة للكرسي، و هو الخبر الوحيد الذي يذكر للكرسي حملة فيما عثرنا عليه و قد أوردناها في تفسير آية الكرسي في سورة البقرة.

 و في حديث آخر: حملة العرش ثمانية: أربعة من الأولين و أربعة من الآخرين:

فأما الأربعة من الأولين فنوح و إبراهيم و موسى و عيسى، و أما الأربعة من الآخرين:

فمحمد و علي و الحسن و الحسين (عليه السلام). أقول: بناء على تفسير العرش بالعلم لا ضير في أن تعد أربعة من الملائكة حملة

 

 

 له ثم تعد عدة من غيرهم حملة له.

و الروايات في العرش كثيرة متفرقة في الأبواب، و هي تؤيد ما مر من تفسيره بالعلم، و ما له ظهور ما في الجسمية منها، مفسرة بما تقدم و أما كون العرش جسما في هيئة السرير موضوعا على السماء السابعة فمما لا يدل عليه حديث يعبأ بأمره بل من الروايات ما يكذبه كالرواية الأولى المتقدمة.

 و في تفسير القمي، في قوله تعالى: ﴿خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ الآية قال: قال (عليه السلام): في ستة أوقات.

و في تفسير البرهان،: صاحب ثاقب المناقب أسنده إلى أبي هاشم الجعفري عن محمد بن صالح الأرمني قال : قلت لأبي محمد العسكري (عليه السلام) عرفني عن قول الله: ﴿لِلَّهِ اَلْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ فقال: لله الأمر من قبل أن يأمر و من بعد أن يأمر ما يشاء، فقلت في نفسي هذا تأويل قول الله: ﴿أَلاَ لَهُ اَلْخَلْقُ وَ اَلْأَمْرُ تَبَارَكَ اَللَّهُ رَبُّ اَلْعَالَمِينَ فأقبل علي و قال: هو كما أسررت في نفسك: ألا له الخلق و الأمر تبارك الله رب العالمين.

 أقول: معناه أن قوله: ﴿أَلاَ لَهُ اَلْخَلْقُ وَ اَلْأَمْرُ يفيد إطلاق الملك قبل الصدور و بعده لا كمثلنا حيث نملك الأمر فيما نملك قبل الصدور فإذا صدر خرج عن ملكنا و اختيارنا.

 و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير عن عبد العزيز الشامي عن أبيه و كانت له صحبة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : من لم يحمد الله على ما عمل من عمل صالح و حمد نفسه فقد كفر و حبط ما عمل، و من زعم أن الله جعل للعباد من الأمر شيئا فقد كفر بما أنزل الله على أنبيائه لقوله: ﴿أَلاَ لَهُ اَلْخَلْقُ وَ اَلْأَمْرُ تَبَارَكَ اَللَّهُ رَبُّ اَلْعَالَمِينَ. أقول: المراد من الكفر بالعجب هو الكفر بالنعمة أو بكون الحسنات لله على ما يدل عليه القرآن، و المراد بنفي كون شي‏ء من الأمر للعباد نفي الجعل بنحو الاستقلال دون التبعي من الملك و الأمر.

 و في الكافي، بإسناده عن ميسر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : قلت قول الله عز و جل ﴿وَ لاَ تُفْسِدُوا فِي اَلْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا قال: فقال: يا ميسر إن الأرض كانت فاسدة فأحياها الله عز و جل بنبيه، و لا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها:

أقول: و رواه العياشي في تفسيره، عن ميسر عن أبي عبد الله (عليه السلام) مرسلا.

 

 

 و في الدر المنثور، أخرج أحمد و البخاري و مسلم و النسائي عن أبي موسى قال:

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : مثل ما بعثني الله به من الهدى و العلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكانت منها بقية فبلت الماء فأنبتت الكلأ و العشب الكثير، و كانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا و سقوا و زرعوا، و أصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء و لا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله و نفعه ما بعثني الله به فعلم و علم، و مثل من لم يرفع بذلك رأسا و لم يقبل هدى الله الذي أرسلت به‏

[سورة الأعراف (٧): الآیات ٥٩ الی ٦٤ ]

﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلى‏ قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ٥٩ قَالَ اَلْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ ٦٠ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَ لَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ ٦١ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَ أَنْصَحُ لَكُمْ وَ أَعْلَمُ مِنَ اَللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ٦٢ أَ وَ عَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى‏ رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَ لِتَتَّقُوا وَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ٦٣ فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَ اَلَّذِينَ مَعَهُ فِي اَلْفُلْكِ وَ أَغْرَقْنَا اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً عَمِينَ ٦٤

بيان‏

تعقيب لما تقدم من الدعوة إلى التوحيد و النهي عن الشرك بالله سبحانه و التكذيب لآياته بذكر قصة نوح (عليه السلام) و إرساله إلى قومه يدعوهم إلى توحيد الله و ترك عبادة غيره و ما واجهته به عامة قومه من الإنكار و الإصرار على تكذيبه فأرسل الله إليهم الطوفان و أنجى نوحا و الذين آمنوا معه ثم أهلك الباقين عن آخرهم. ثم عقب الله قصته بقصص عدة من رسله كهود و صالح و شعيب و لوط و موسى (عليه السلام) للغرض بعينه.

 

 

 قوله تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلى‏َ قَوْمِهِ إلى آخر الآية. بدأ الله سبحانه بقصته و هو أول رسول يذكر الله سبحانه تفصيل قصته في القرآن كما سيأتي تفصيل القول في قصته في سورة هود إن شاء الله تعالى.

و اللام في قوله: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً للقسم جي‏ء بها للتأكيد لأن وجه الكلام إلى المشركين و هم ينكرون النبوة، و قوله: ﴿فَقَالَ يَا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ناداهم بقوله: ﴿يَا قَوْمِ فأضافهم إلى نفسه ليكون جريا على مقتضى النصح الذي سيخبرهم به عن نفسه، و دعاهم أول ما دعاهم إلى توحيد الله تعالى فإن دعاهم إلى عبادته، و أخبرهم بانتفاء كل إله غيره فيكون دعوة إلى عبادة الله وحده من غير أن يشرك به في عبادته غيره، و هو التوحيد.

ثم أنذرهم بقوله: ﴿إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ و ظاهره يوم القيامة فيكون في ذلك دعوة إلى أصلين من أصول الدين و هما التوحيد و المعاد، و أما الأصل الثالث و هو النبوة فسيصرح به في قوله: ﴿يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَ لَكِنِّي رَسُولٌ الآية.

على أن في نفس الدعوة و هي دعوة إلى نوع من العبادة لا يعرفونها و كذا الإنذار بما لم يكونوا يعلمونه و هو عذاب القيامة إشعارا بالرسالة من قبل من يدعو إليه، و من الشاهد على ذلك قوله في جوابهم: ﴿أَ وَ عَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى‏ رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ فإنه يدل على تعجبهم من رسالته باستماع أول ما خاطبهم به من الدعوة و هو قوله: ﴿يَا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ.

قوله تعالى: ﴿قَالَ اَلْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ الملأ هم أشراف القوم و خواصهم سموا به لأنهم يملئون القلوب هيبة و العيون جمالا و زينة، و إنما رموا بالضلال المبين و أكدوه تأكيدا شديدا لأنهم لم يكونوا ليتوقعوا أن معترضا يعترض عليهم بالدعوة إلى رفض آلهتهم و توجيه العبادة إلى الله سبحانه بالرسالة و الإنذار فتعجبوا من ذلك فأكدوا ضلاله مدعين أن ذلك من بين الضلال تحقيقا. و الرؤية هي الرؤية بحسب الفكر أعني الحكم.

قوله تعالى: ﴿قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ الآية. أجابهم بنفي الضلال عن نفسه و الاستدراك بكونه رسولا من الله سبحانه، و ذكره بوصفه ﴿رَبِّ اَلْعَالَمِينَ ليجمع له

 

 

الربوبية كلها قبال تقسيمهم إياها بين آلهتهم بتخصيص كل منها بشي‏ء من شئونها و أبوابها كربوبية البحر و ربوبية البر و ربوبية الأرض و ربوبية السماء و غير ذلك.

و قد جرد (عليه السلام) جوابه عن التأكيد للإشارة إلى ظهور رسالته و عدم ضلالته تجاه إصرارهم بذلك و تأكيد دعواهم.

قوله تعالى: ﴿أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَ أَنْصَحُ لَكُمْ وَ أَعْلَمُ مِنَ اَللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ أخبرهم بأوصاف نفسه فبين أنه يبلغهم رسالات ربه، و هذا شأن الرسالة و مقتضاها القريب الضروري، و في جمع الرسالة دلالة على كونها كثيرة و أن له مقاصد أمره ربه أن يبلغها إياهم وراء التوحيد و المعاد فإنه نبي رسول من أولي العزم صاحب كتاب و شريعة.

ثم ذكر أنه ينصح لهم و هو عظاته بالإنذار و التبشير ليقربهم من طاعة ربهم و يبعدهم عن الاستكبار و الاستنكاف عن عبوديته كل ذلك بذكر ما عرفه الله من بدء الخلقة و عودها و سننه تعالى الجارية فيها و لذا ذكر ثالثا أنه يعلم من الله ما لا يعلمون كوقائع يوم القيامة من الثواب و العقاب و غير ذلك، و ما يستتبع الطاعة و المعصية من رضاه تعالى و سخطه و وجوه نعمه و نقمه.

و من هنا يظهر أن الجمل الثلاث كل مسوق لغرض خاص أعني قوله: ﴿أُبَلِّغُكُمْ الآية و ﴿أَنْصَحُ لَكُمْ و ﴿أَعْلَمُ الآية و هي ثلاثة أوصاف متوالية لا كما قيل: إن الأوليان صفتان، و الثالثة جملة حالية عن فاعل ﴿وَ أَنْصَحُ لَكُمْ.

قوله تعالى: ﴿أَ وَ عَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ إلى آخر الآية. استفهام إنكاري ينكر تعجبهم من دعواه الرسالة و دعوته إياهم إلى الدين الحق و المراد بالذكر ما يذكر به الله و هو المعارف الحقة التي أوحيت إليه، و قوله: ﴿مِنْ رَبِّكُمْ متعلق بمقدر أي ذكر كائن من ربكم.

و قوله: ﴿لِيُنْذِرَكُمْ و ﴿لِتَتَّقُوا و ﴿لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ متعلقات بقوله: ﴿جَاءَكُمْ و المعنى لغرض أن ينذركم الرسول، و لتتقوا أنتم، و يؤدي ذلك إلى رجاء أن تشملكم الرحمة الإلهية فإن التقوى و إن كان يؤدي إلى النجاة لكنها ليست بعلة تامة، و قد اشتمل ما حكي من إجمال كلامه (عليه السلام) من معارف عالية إلهية.

قوله تعالى: ﴿فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَ اَلَّذِينَ مَعَهُ فِي اَلْفُلْكِ

 الفلك‏

السفينة يستعمل

 

 

 واحدا و جمعا على ما ذكره الراغب و يذكر و يؤنث كما في الصحاح، «و قوله: ﴿قَوْماً عَمِينَ﴾ موصوف و صفة. و

عمين‏

جمع عمي كخشن صفة مشبهة من عمي يعمى، عمي كالأعمى إلا أن العمي يختص بعمى البصيرة و الأعمى بعمى البصر، كما قيل، و معنى الآية ظاهر.

[سورة الأعراف (٧): الآیات ٦٥ الی ٧٢ ]

﴿وَ إِلى‏ عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَ فَلاَ تَتَّقُونَ ٦٥ قَالَ اَلْمَلَأُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَ إِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ اَلْكَاذِبِينَ ٦٦ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَ لَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ ٦٧ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَ أَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ ٦٨ أَ وَ عَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى‏ رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَ اُذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَ زَادَكُمْ فِي اَلْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاَءَ اَللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ٦٩ قَالُوا أَ جِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اَللَّهَ وَحْدَهُ وَ نَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصَّادِقِينَ ٧٠ قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَ غَضَبٌ أَ تُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَ آبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اَللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ اَلْمُنْتَظِرِينَ ٧١ فَأَنْجَيْنَاهُ وَ اَلَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَ قَطَعْنَا دَابِرَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَ مَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ ٧٢ 

بيان‏

قوله تعالى: ﴿وَ إِلى‏ عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللَّهَ إلى آخر الآية.

 

 

الأخ‏ و أصله أخو هو المشارك غيره في الولادة تكوينا لمن ولده و غيره أب أو أم أو هما معا أو بحسب شرع إلهي كالأخ الرضاعي أو سنة اجتماعية كالأخ بالدعاء على ما كان يراه أقوام فهذا أصله، ثم أستعير لكل من ينتسب إلى قوم أو بلدة أو صنعة أو سجية و نحو ذلك يقال: أخو بني تميم و أخو يثرب و أخو الحياكة و أخو الكرم، و من هذا الباب قوله ﴿وَ إِلى‏َ عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً﴾.

و الكلام في قوله: ﴿قَالَ يَا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ كالكلام في نظير الخطاب من القصة السابقة. فإن قلت: لم حذف العاطف من قوله ﴿قَالَ يَا قَوْمِ و لم يقل: فقال كما في قصة نوح؟ قلت: هو على تقدير سؤال كأنه لما قال: ﴿وَ إِلى‏َ عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قيل: فما قال هود؟ فأجيب و قيل: قال يا قوم اعبدوا الله الآية. كذا قاله الزمخشري في الكشاف،.

و لا يجري هذا الكلام في قصة نوح لأنه أول قصة أوردت، و هذه القصة قصة بعد قصة يهيأ فيها ذهن المخاطب للسؤال بعد ما وعى إجمال القصة و علم أن قصة الإرسال تتضمن دعوة و ردا و قبولا فكان بالحري إذا سمع المخاطب قوله ﴿وَ إِلى‏َ عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً أن يسأل فيقول: ما قال هود لقومه؟ و جوابه قال لهم (إلخ).

قوله تعالى: ﴿قَالَ اَلْمَلَأُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إلى آخر الآية. لما كان في هذا الملإ من يؤمن بالله و يستر إيمانه كما سيأتي في القصة بخلاف الملإ من قوم نوح قال هاهنا في قصة هود: ﴿قَالَ اَلْمَلَأُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ و قال في قصة نوح: ﴿قَالَ اَلْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ كذا ذكره الزمخشري. و قوله تعالى حكاية عن قولهم: ﴿إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَ إِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ اَلْكَاذِبِينَ أكدوا كلامهم مرة بعد مرة لأنهم سمعوا منه مقالا ما كانوا ليتوقعوا صدوره من أحد، و قد أخذت آلهتهم موضعها من قلوبهم، و استقرت سنة الوثنية بينهم استقرارا لا يجترئ معه أحد على أن يعترض عليها فتعجبوا من مقاله فردوه ردا عن تعجب، فجبهوه أولا بأن فيه سفاهة و هو خفة العقل التي تؤدي إلى الخطإ في الآراء، و ثانيا بأنهم يظنون بظن قوي جدا أنه من الكاذبين، و كأنهم يشيرون بالكاذبين إلى أنبيائهم لأن الوثنيين ما كانوا ليذعنوا بالنبوة و قد جاءهم أنبياء قبل هود كما يذكره

 

 

 تعالى بقوله: ﴿وَ تِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَ عَصَوْا رُسُلَهُ: هود: ٥٩.

قوله تعالى: ﴿قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ الكلام في الآية نظير الكلام في نظيره من قصة نوح غير أن عادا زادوا وقاحة على قوم نوح حيث إن أولئك رموا نوحا بالضلال في الرأي و هؤلاء رموا هودا بالسفاهة لكن هودا لم يترك ما به من وقار النبوة، و لم ينس ما هو الواجب من أدب الدعوة الإلهية فأجابهم بقوله: ﴿يَا قَوْمِ فأظهر عطوفته عليهم و حرصه على إنجائهم ﴿لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَ لَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ فجرى على تجريد الكلام من كل تأكيد و اكتفى بمجرد رد تهمتهم و إثبات ما كان يدعيه من الرسالة للدلالة على ظهوره.

قوله تعالى: ﴿أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَ أَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ أي لا شأن لي بما أني رسول إلا تبليغ رسالات ربي خالصا من شوب ما تظنون بي من كوني كاذبا فلست بغاش لكم فيما أريد أن أحملكم عليه، و لا خائن لما عندي من الحق بالتغيير و لا لما عندي من حقوقكم بالإضاعة، فما أريده منكم من التدين بدين التوحيد هو الذي أراه حقا، و هو الذي فيه نفعكم و خيركم، فإنما وصف نفسه بالأمين محاذاة لقولهم: ﴿وَ إِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ اَلْكَاذِبِينَ.

قوله تعالى: ﴿أَ وَ عَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ إلى آخر الآية.

 البصطة

هي البسطة قلبت السين صادا لمجاورتها الطاء و هو من حروف الإطباق كالصراط و السراط و

الآلاء

جمع إلى بفتح الهمزة و كسرها بمعنى النعمة كآناء جمع أنى و إنى.

ثم أنكر (عليه السلام) تعجبهم من رسالته إليهم نظير ما تقدم من نوح (عليه السلام) و ذكرهم نعم الله عليهم، و خص من بينها نعمتين ظاهرتين هما أن الله جعلهم خلفاء في الأرض بعد نوح، و أن الله خصهم من بين الأقوام ببسطة الخلق و عظم الهيكل البدني المستلزم لزيادة الشدة و القوة، و من هنا يظهر أنهم كانوا ذوي حضارة و تقدم، و صيت في البأس و القوة و القدرة. ثم أتبعهما بالإشارة إلى سائر النعم بقوله تعالى: ﴿فَاذْكُرُوا آلاَءَ اَللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.

قوله تعالى: ﴿قَالُوا أَ جِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اَللَّهَ وَحْدَهُ وَ نَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا الآية.

فيه تعلق منهم بتقليد الآباء، و تعجيز هود مشوبا بنوع من الاستهزاء بما أنذرهم به

 

 

 من العذاب.

قوله تعالى: ﴿قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَ غَضَبٌ إلى آخر الآية.

الرجس و الرجز هو الأمر الذي إذا وقع على الشي‏ء أوجب ابتعاده أو الابتعاد عنه، و لذا يطلق على القاذورة لأن الإنسان يتنفر و يبتعد عنه، و على العذاب لأن المعذب اسم مفعول يبتعد عمن يعذبه أو من الناس الآمنين من العذاب.

أجابهم بأن إصرارهم على عبادة الأوثان بتقليد آبائهم أوجب أن يحق عليهم البعد عن الله بالرجس و الغضب، ثم فرع عليه أن هددهم بما يستعجلون من العذاب، و أخبرهم بنزوله عليهم لا محالة، و كنى عن ذلك بأمرهم بالانتظار و إخبارهم بأنه مثلهم في انتظار نزول العذاب فقال: ﴿فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ اَلْمُنْتَظِرِينَ.

و أما قوله: ﴿أَ تُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَ آبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اَللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فهو رد لما استندوا إليه في ألوهية آلهتهم و هو أنهم وجدوا آباءهم على عبادتها و هم أكمل منهم و ممن في طبقتهم كهود و أعقل فيجب عليهم أن يقلدوهم.

و محصله أنكم و آباءكم سواء في أنكم جميعا أتيتم بأشياء ليس لكم على ما ادعيتم من صفتها و هي الألوهية من سلطان و هو البرهان و الحجة القاطعة فلا يبقى لها من الألوهية إلا الأسماء التي سميتموها بها إذ قلتم: إله الخصب و إله الحرب و إله البحر و إله البر، و ليس لهذه الأسماء مصاديق إلا في أوهامكم، فهل تجادلونني في الأسماء، و للإنسان أن يسمي كل ما شاء بما شاء إذا لم يعتبر تحقق المعنى في الخارج.

و قد تكرر في القرآن الاستدلال على بطلان الوثنية بهذا البيان: ﴿أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَ آبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اَللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ و هو من ألطف البيان و أرقه، و أبلغ الحجة و أقطعها إذ لو لم يأت الإنسان لما يدعيه من دعوى بحجة برهانية لم يبق لما يدعيه من النعت إلا التسمية و التعبير، و من أبده الجهل أن يعتمد الإنسان على مثل هذا النعت الموهوم.

و هذا البيان يطرد و يجري بالتحليل في جميع الموارد التي يثق فيها الإنسان على غير الله سبحانه من الأسباب، و يعطيها من الاستقلال ما يوجب تعلق قلبه بها و طاعته لها و تقربه منها فإن الله سبحانه عد في موارد من كلامه طاعة غيره و الركون إلى من سواه عبادة له قال: ﴿أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا اَلشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ

 

 

 وَ أَنِ اُعْبُدُونِي: يس: ٦١.

قوله تعالى: ﴿فَأَنْجَيْنَاهُ وَ اَلَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا إلى آخر الآية، تنكير الرحمة للدلالة على النوع أي بنوع من الرحمة و هي الرحمة التي تختص بالمؤمنين من النصرة الموعودة لهم قال تعالى: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ يَوْمَ يَقُومُ اَلْأَشْهَادُ: المؤمن: ٥١، و قال: ﴿وَ كَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ اَلْمُؤْمِنِينَ: الروم: ٤٧.

و قوله: ﴿وَ قَطَعْنَا دَابِرَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا الآية كناية عن إهلاكهم و قطع نسلهم فإن الدابر هو الذي يلي الشي‏ء من خلفه فربما وصف به الأمر السابق على الشي‏ء كأمس الدابر، و ربما وصف به اللاحق كدابر القوم و هو الذي في آخرهم فنسبه القطع إلى الدابر بعناية أن النسل اللاحق دابر متصل بالإنسان في سبب ممتد، و إهلاك الإنسان كذلك كأنه قطع هذا السبب الموصول فيما بينه و بين نسله.

و سيأتي تفصيل البحث عن قصة هود (عليه السلام) في تفسير سورة هود إن شاء الله.

[سورة الأعراف (٧): الآیات ٧٣ الی ٧٩ ]

﴿وَ إِلى‏ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اَللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اَللَّهِ وَ لاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ٧٣ وَ اُذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَ بَوَّأَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُوراً وَ تَنْحِتُونَ اَلْجِبَالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاَءَ اَللَّهِ وَ لاَ تَعْثَوْا فِي اَلْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ٧٤ قَالَ اَلْمَلَأُ اَلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَ تَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ ٧٥ قَالَ اَلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ٧٦ 

 

 

﴿فَعَقَرُوا اَلنَّاقَةَ وَ عَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَ قَالُوا يَا صَالِحُ اِئْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلْمُرْسَلِينَ ٧٧ فَأَخَذَتْهُمُ اَلرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ٧٨ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَ قَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَ نَصَحْتُ لَكُمْ وَ لَكِنْ لاَ تُحِبُّونَ اَلنَّاصِحِينَ ٧٩

 بيان‏

قوله تعالى: ﴿وَ إِلى‏ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً إلى آخر الآية. ثمود أمة قديمة من العرب سكنوا أرض اليمن بالأحقاف بعث الله إليهم ﴿أَخَاهُمْ صَالِحاً و هو منهم فـ ﴿قَالَ يَا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ دعاهم إلى التوحيد و قد كانوا مشركين يعبدون الأصنام على النحو الذي دعا نوح و هود (عليه السلام) قومهما المشركين.

و قوله: ﴿قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ أي شاهد قاطع في شهادته و يبينه قوله بالإشارة إلى نفس البينة: ﴿هَذِهِ نَاقَةُ اَللَّهِ لَكُمْ آيَةً و هي الناقة التي أخرجها الله لهم من الجبل آية لنبوته بدعائه (عليه السلام)، و هي العناية في إضافة الناقة إلى الله سبحانه.

و قوله: ﴿فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اَللَّهِ الآية. تفريع على كون الناقة آية لله، و حكم لا يخلو عن تشديد عليهم يستتبع كلمة العذاب التي تفصل بين كل رسول و أمته قال تعالى: ﴿وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَ هُمْ لاَ يُظْلَمُونَ : يونس: ٤٧، و في الآية تلويح إلى أن تخليتهم الناقة و شأنها في الأكل و السير في الأرض كانت مما يشق عليهم فكانوا يتحرجون من ذلك، و في قوله: ﴿فِي أَرْضِ اَللَّهِ إيماء إليه فوصاهم و حذرهم أن يمنعوها من إطلاقها و يمسوها بسوء كالعقر و النحر فإن وبال ذلك عذاب أليم يأخذهم.

قوله تعالى: ﴿وَ اُذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ إلى آخر الآية. دعاهم إلى أن يذكروا نعم الله عليهم كما دعا هود عادا إلى ذلك، و ذكرهم أن الله جعلهم خلفاء يخلفون أمما من قبلهم كعاد، و بوأهم من الأرض أي مكنهم في منازلهم منها، يتخذون

 

 

 من سهولها و

السهل‏

خلاف الجبل سمي به لسهولة قطعه قصورا و هي الدور التي لها سور على ما قيل، و ينحتون الجبال بيوتا يأوون إليها و يسكنونها.

ثم جمع الجميع و لخصها في قوله: ﴿فَاذْكُرُوا آلاَءَ اَللَّهِ و أورده في صورة التفريع مع أنه إجمال للتفصيل الذي قبله بإيهام المغايرة كأنه لما أمر بذكر النعم و عد من تفاصيل النعم أشياء كأنهم لا يعلمون بها قيل ثانيا: فإذا كان لله فيكم آلاء و نعم عظيمة أمثال التي ذكرت فاذكروا آلاء الله.

و أما قوله: ﴿وَ لاَ تَعْثَوْا فِي اَلْأَرْضِ مُفْسِدِينَ فمعطوف على قوله: ﴿فَاذْكُرُوا عطف اللازم على ملزومه، و فسر العثي بالفساد و فسر بالاضطراب و المبالغة. قال الراغب في المفردات،: العيث و العثي‏ يتقاربان نحو جذب و جبذ إلا أن العيث أكثر ما يقال في الفساد الذي يدرك حسا، و العثي فيما يدرك حكما يقال: عثى يعثي عثيا، و على هذا: ﴿وَ لاَ تَعْثَوْا فِي اَلْأَرْضِ مُفْسِدِينَ. انتهى.

قوله تعالى: ﴿قَالَ اَلْمَلَأُ اَلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ إلى آخر الآيتين، دل سبحانه ببيان قوله: ﴿لِلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا بقوله: ﴿لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ على أن المستضعفين هم المؤمنون و أن المؤمنين إنما كانوا من المستضعفين و لم يكن ليؤمن به أحد من المستكبرين، و الباقي ظاهر.

قوله: ﴿فَعَقَرُوا اَلنَّاقَةَ وَ عَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ إلى آخر الآية عقر النخلة قطعها من أصلها، و عقر الناقة نحرها، و عقر الناقة أيضا قطع قوائمها، و

العتو

هو التمرد و الامتناع و ضمن في الآية معنى الاستكبار بدليل تعديته بعن، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ اَلرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ إلى آخر الآيتين.

الرجفة

 هي الاضطراب و الاهتزاز الشديد كما في زلزلة الأرض و تلاطم البحر، و

 الجثوم‏

 في الإنسان و الطير كالبروك في البعير.

و قد ذكر الله هنا في سبب هلاكهم أنه أخذتهم الرجفة، و قال في موضع آخر:

﴿وَ أَخَذَ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا اَلصَّيْحَةُ: هود: ٦٧، و في موضع آخر: ﴿فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ اَلْعَذَابِ اَلْهُونِ: حم السجدة: ١٧، و الصواعق السماوية لا تخلو عن صيحة هائلة تقارنها، و لا ينفك ذلك غالبا عن رجفة الأرض هي نتيجة الاهتزاز الجوي الشديد إلى الأرض،

 و توجف من جهة أخرى القلوب و ترتعد الأركان، فالظاهر أن عذابهم إنما كان بصاعقة سماوية اقترنت صيحة هائلة و رجفة في الأرض أو في قلوبهم فأصبحوا في دارهم أي في بلدهم جاثمين ساقطين على وجوههم و ركبهم.

 

 

و الآية تدل على أن ذلك كان مرتبطا بما كفروا و ظلموا آية من آيات الله مقصودا بها عذابهم عذاب الاستئصال، و لا نظر في الآية إلى كيفية حدوثها، و الباقي ظاهر.

[سورة الأعراف (٧): الآیات ٨٠ الی ٨٤]

﴿وَ لُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَ تَأْتُونَ اَلْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ اَلْعَالَمِينَ ٨٠ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ اَلرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ اَلنِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ٨١ وَ مَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ٨٢ فَأَنْجَيْنَاهُ وَ أَهْلَهُ إِلاَّ اِمْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ اَلْغَابِرِينَ ٨٣ وَ أَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ اَلْمُجْرِمِينَ ٨٤

بيان‏

قوله تعالى: ﴿وَ لُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَ تَأْتُونَ اَلْفَاحِشَةَ إلى آخر الآية. ظاهره أنه من عطف القصة على القصة أي عطف قوله: ﴿لُوطاً على ﴿نُوحاً في قوله في القصة الأولى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً فيكون التقدير و لقد أرسلنا لوطا إذ قال لقومه (إلخ)، لكن المعهود من نظائر هذا النظم في القرآن أن يكون بتقدير «اذكر» بدلالة السياق، و على ذلك فالتقدير: و اذكر لوطا الذي أرسلناه إذ قال لقومه (إلخ) و الظاهر أن تغيير السياق من جهة أن لوطا من الأنبياء التابعين لشريعة إبراهيم (عليه السلام) لا لشريعة نوح (عليه السلام) ، و لذلك غير السياق في بدء قصته عن السياق السابق في قصص نوح و هود و صالح فغير السياق في بدء قصته ثم رجع إلى السياق في قصة شعيب (عليه السلام).

 

 

 و قد كان لوط على ما سيأتي إن شاء الله من تفصيل قصته في سورة هود مرسلا إلى أهل سدوم و غيره يدعوهم إلى دين التوحيد و كانوا مشركين عبدة أصنام.

و قوله: ﴿أَ تَأْتُونَ اَلْفَاحِشَةَ يريد بالفاحشة اللواط بدليل قوله: ﴿إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ اَلرِّجَالَ شَهْوَةً و في قوله: ﴿مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ اَلْعَالَمِينَ أي أحد من الأمم و الجماعات دلالة على أن تاريخ ظهور هذه الفاحشة الشنيعة تنتهي إلى قوم لوط، و سيأتي جل ما يتعلق به من الكلام في تفصيل قصته في سورة هود.

قوله تعالى: ﴿إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ اَلرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ اَلنِّسَاءِ الآية، إتيان الرجال كناية عن العمل بهم بذلك، و قوله ﴿شَهْوَةً قرينة عليه، و قوله ﴿مِنْ دُونِ اَلنِّسَاءِ قرينة أخرى على ذلك، و يفيد مضافا إلى ذلك أنهم كانوا قد تركوا سبيل النساء و اكتفوا بالرجال، و لتعديهم سبيل الفطرة و الخلقة إلى غيره عدهم متجاوزين مسرفين فقال: ﴿بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ.

و لكون عملهم فاحشة مبتدعة لم يسبقهم إليها أحد من العالمين استفهم عن ذلك مقارنا بـ «أن» المفيدة للتحقيق فأفاد التعجب و الاستغراب، و التقدير: ﴿إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الآية.

قوله تعالى: ﴿وَ مَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا إلى آخر الآية. أي لم يكن عندهم جواب فهددوه بالإخراج من البلد فإن قولهم: ﴿أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ الآية.

ليس جوابا عن قول لوط لهم: ﴿أَ تَأْتُونَ اَلْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ الآية. فجواب الكلام في ظرف المناظرة إما إمضاؤه و الاعتراف بحقيته و إما بيان وجه فساده، و ليس في قولهم: ﴿أَخْرِجُوهُمْ إلى آخره شي‏ء من ذلك فوضع ما ليس بجواب في موضع الجواب كناية عن عدم الجواب و دلالة على سفههم.

و قد استهانوا أمر لوط إذ قالوا: ﴿أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ الآية أي إن القرية أي البلدة لكم و هم نزلاء ليسوا منها و هم يتنزهون عما تأتونه و يتطهرون، و لا يهمنكم أمرهم فليسوا إلا أناسا لا عدة لهم و لا شدة.

قوله تعالى: ﴿فَأَنْجَيْنَاهُ وَ أَهْلَهُ إِلاَّ اِمْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ اَلْغَابِرِينَ فيه دلالة على أنه لم يكن آمن به إلا أهله، و قد قال تعالى في موضع آخر: ﴿فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ: الذاريات: ٣٦.

 

 

 و قوله: ﴿كَانَتْ مِنَ اَلْغَابِرِينَ أي الماضين من القوم، و هو استعارة بالكناية عن الهلاك و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ﴿وَ أَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ اَلْمُجْرِمِينَ ذكر الأمطار في مورد ترقب ذكر العذاب يدل على أن العذاب كان به و قد نكر المطر للدلالة على غرابة أمره و غزارة أثره، و قد فسره الله تعالى في موضع آخر بقوله:

﴿وَ أَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَ مَا هِيَ مِنَ اَلظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ : هود: ٨٣.

و قوله: ﴿فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ اَلْمُجْرِمِينَ توجيه خطاب إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ليعتبر به هو و أمته.

[سورة الأعراف (٧): الآیات ٨٥ الی ٩٣]

﴿وَ إِلى‏ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا اَلْكَيْلَ وَ اَلْمِيزَانَ وَ لاَ تَبْخَسُوا اَلنَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَ لاَ تُفْسِدُوا فِي اَلْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ٨٥ وَ لاَ تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَ اُذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَ اُنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ اَلْمُفْسِدِينَ ٨٦ وَ إِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَ طَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اَللَّهُ بَيْنَنَا وَ هُوَ خَيْرُ اَلْحَاكِمِينَ ٨٧ قَالَ اَلْمَلَأُ اَلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَ وَ لَوْ كُنَّا كَارِهِينَ ٨٨ قَدِ اِفْتَرَيْنَا

 

 

 

﴿عَلَى اَللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اَللَّهُ مِنْهَا وَ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اَللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْ‏ءٍ عِلْماً عَلَى اَللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا اِفْتَحْ بَيْنَنَا وَ بَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلْفَاتِحِينَ ٨٩ وَ قَالَ اَلْمَلَأُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اِتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخَاسِرُونَ ٩٠ فَأَخَذَتْهُمُ اَلرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ٩١ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا اَلَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَانُوا هُمُ اَلْخَاسِرِينَ ٩٢ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَ قَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَ نَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى‏ عَلى‏ قَوْمٍ كَافِرِينَ ٩٣ 

بيان‏

قوله تعالى: ﴿وَ إِلى‏ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً الآية معطوف على القصة الأولى و هي قصة نوح (عليه السلام) ، و قد بنى (عليه السلام) دعوته على أساس التوحيد كما بناها عليه من قبله من الرسل المذكورين في القصص المتقدمة.

و قوله: ﴿قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ يدل على مجيئه بآية تدل على رسالته و لكن الله سبحانه لم يذكر ذلك في كتابه و ليست هذه الآية هي آية العذاب التي يذكرها الله تعالى في آخر قصته فإن عامة قومه من الكفار لم ينتفعوا بها بل كان فيها هلاكهم و لا معنى لكون آية العذاب آية للرسالة مبينة للدعوة.

على أنه يفرع قوله: ﴿فَأَوْفُوا اَلْكَيْلَ وَ اَلْمِيزَانَ الآية على مجي‏ء الآية ظاهرا، و إنما يستقيم الدعوة إلى العمل بالدين قبل نزول العذاب و تحقق الهلاك. و هو ظاهر.

و قد دعاهم أولا بعد التوحيد الذي هو أصل الدين إلى إيفاء الكيل و الميزان و أن

 

 

 لا يبخسوا الناس أشياءهم فقد كان الإفساد في المعاملات رائجا فيهم شائعا بينهم.

ثم دعاهم ثانيا بقوله: ﴿وَ لاَ تُفْسِدُوا فِي اَلْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا«إلى الكف عن الإفساد في الأرض بعد ما أصلحها الله بحسب طبعها، و الفطرة الإنسانية الداعية إلى إصلاحها كي ينتظم بذلك أمر الحياة السعيدة، و الإفساد في الأرض و إن كان بحسب إطلاق معناه يشمل جميع المعاصي و الذنوب مما يتعلق بحقوق الله أو بحقوق الناس كائنة ما كانت لكن مقابلته لما قبله و ما بعده يخصه تقريبا بالإفساد الذي يسلب الأمن العام في الأموال و الأعراض و النفوس كقطع الطرق و نهب الأموال و هتك الأعراض و قتل النفوس المحترمة.

ثم علل دعوته إلى الأمرين بقوله: ﴿ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أما كون إيفاء الكيل و الميزان و عدم بخس الناس أشياءهم خيرا فلأن حياة الإنسان الاجتماعية في استقامتها مبنية على المبادلة بين الأفراد بإعطاء كل منهم ما يفضل من حاجته، و أخذ ما يعادله مما يتمم به نقصه في ضروريات الحياة و ما يتبعها، و هذا يحتاج إلى أمن عام في المعاملات تحفظ به أوصاف الأشياء و مقاديرها على ما هي عليه فمن يجوز لنفسه البخس في أشياء الناس فهو يجوز ذلك لكل من هو مثله، و هو شيوعه، و إذا شاع البخس و الغش و الغرر من غير أن يؤمن حلول السم محل الشفاء و الردي مكان الجيد، و الخليط مكان الخالص، و بالآخرة كل شي‏ء محل كل شي‏ء بأنواع الحيل و العلاجات كان فيه هلاك الأموال و النفوس جميعا.

و أما كون الكف عن إفساد الأرض خيرا لهم فلأن سلب الأمن العام يوقف رحى المجتمع الإنساني عن حركتها من جميع الجهات و في ذلك هلاك الحرث و النسل و فناء الإنسانية.

فالمعنى: إيفاء الكيل و الميزان و عدم البخس و الكف عن الفساد في الأرض خير لكم يظهر لكم خيريته إن كنتم مصدقين لقولي مؤمنين بي، أو المعنى: ذلكم خير لكم تعلمون أنه خير إن كنتم ذوي إيمان بالحق.

و ربما قيل: إن المعنى ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين بدعوتي فإن غير المؤمن لا ينتفع بسبب ما عنده من الكفر القاضي بشقائه و خسرانه و ضلال سعيه بهذه الخيرات الدنيوية بحسب الحقيقة لأن انتفاعه إنما هو انتفاع في موطن خيالي و هو الحياة الدنيا التي

 

 

 هي لعب، و إن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون.

هذا كله على تقدير كون المشار إليه بقوله: ﴿ذَلِكُمْ هو إيفاء الكيل و ما بعده كما هو ظاهر السياق، و أما أخذ الإشارة إلى جميع ما تقدم و جعل المراد بالإيمان هو الإيمان المصطلح دون الإيمان اللغوي كما احتمله بعضهم فهو أشبه باشتراط الشي‏ء بنفسه لرجوع المعنى إلى نحو قولنا إن كنتم مؤمنين فالعبادة لله وحده بالإيمان به و إيفاء الكيل و الميزان و عدم الفساد في الأرض خير لكم.

و يرد على الوجهين الأخيرين جميعا أن ظاهر قوله ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ثبوت اتصافهم بالإيمان قبل حال الخطاب فإنه مقتضى تعليق الحكم بقوله: ﴿كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ المؤلف من ماضي الكون الناقص و اسم الفاعل من الإيمان، المقتضي لاستقرار الصفة فيهم زمانا، و لا يخاطب بمثل هذا المعنى القوم الذين فيهم الكافر و المؤمن و المستكبر و المنقاد و لو كان كما يقولون لكان من حق الكلام أن يقال: ذلكم خير لكم إن آمنتم أو أن تؤمنوا فالظاهر أنه لا محيص من كون المراد بالإيمان غير الإيمان المصطلح.

قوله تعالى: ﴿وَ لاَ تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً الآية ظاهر السياق أن ﴿تُوعِدُونَ وَ تَصُدُّونَ حالان من فاعل ﴿لاَ تَقْعُدُوا و قوله ﴿وَ تَبْغُونَهَا حال من فاعل ﴿تَصُدُّونَ.

ثم دعاهم ثالثا إلى ترك التعرض لصراط الله المستقيم الذي هو الدين فإن في الكلام تلويحا إلى أنهم كانوا يقعدون على طريق المؤمنين بشعيب (عليه السلام) و يوعدونهم على إيمانهم به و الحضور عنده و الاستماع منه و إجراء العبادات الدينية معه، و يصرفونهم عن التدين بدين الحق و السلوك في طريقة التوحيد و هم يسلكون طريق الشرك، و يطلبون سبيل الله الذي هو دين الفطرة عوجا.

و بالجملة كانوا يقطعون الطريق على الإيمان بكل ما يستطيعون من قوة و احتيال فنهاهم عن ذلك، و وصاهم أن يذكروا نعمة الله عليهم و يعتبروا بالنظر إلى ما يعلمونه من تاريخ الأمم الغابرة، و ما آل إليه أمر المفسدين من عاقبة السوء.

فقوله: ﴿وَ اُذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَ اُنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ اَلْمُفْسِدِينَ كلام مسوق سوق العظة و التوصية و هو يقبل التعلق بجميع ما تقدم من الأوامر و النواهي

 

 

 فقوله: ﴿وَ اُذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ أمر بتذكر تدرجهم من القلة إلى الكثرة بازدياد النسل فإن ذلك من نعم الله العظيمة على هذا النوع الإنساني لأن الإنسان لا يقدر على أن يعيش وحده من غير اجتماع إذ الغاية الشريفة و السعادة العالية الإنسانية التي يمتاز بها عن سائر الأنواع الحيوانية و غيرها اقتضت أن تهب العناية الإلهية له أدوات و قوى مختلفة و تركيبا وجوديا خاصا لا يستطير أن يقوم بضروريات حوائجها العجيبة المتفننة وحده بل بالتعاضد مع غيره في تحصيل المأكل و المشرب و الملبس و المسكن و المنكح و غيرها تعاضدا في الفكر و الإرادة و العمل.

و من المعلوم أنه كلما ازداد عدد المجتمعين ازدادت القوة المركبة الاجتماعية، و اشتدت في فكرتها و إرادتها و عملها فأحست و شعرت بدقائق الحوائج، و تنبهت للطائف من الحيل لتسخير القوى الطبيعية في رفع نواقصها.

فمن المنن الإلهية أن النسل الإنساني آخذ دائما في الزيادة متدرج من القلة إلى الكثرة، و ذلك من الأركان في سير النوع من النقص إلى الكمال فليست الأمم العظيمة كالشراذم القليلة التي تتخطف من كل جانب، و لا الأقوام و العشائر الكبيرة كالطوائف الصغيرة التي لا تستقل في شأن من شئونها السياسية و الاقتصادية و الحربية و غيرها مما يوزن بزنة العلم و الإرادة و العمل.

و أما عاقبة المفسدين فيكفي في التبصر بها ما نقل عن عواقب أحوال الأمم المستعلية المستكبرة الطاغية التي ملأت القلوب رعبا، و النفوس دهشة، و خربت الديار، و نهبت الأموال، و سفكت الدماء، و أفنت الجموع، و استعبدت العباد، و أذلت الرقاب.

مهلهم الله في عتوهم و اعتدائهم حتى إذا بلغوا أوج قدرتهم، و استووا على أريكة شوكتهم غرتهم الدنيا بزينتها و اجتذبتهم الشهوات إلى خلاعتها فألهتهم عن فضيلة التعقل و اشتغلوا بملاهي الحياة و العيش و اتخذوا إلههم هواهم و أضلهم الله على علم فسلبوا القدرة و الإرادة، و حرموا النعمة فتفرقوا أيادي سبإ.

فكم في ذكر الدهر من أسماء القياصرة و الفراعنة و الأكاسرة و الفغافرة و غيرهم لم يبق منهم إلا أسماء إن لم تنس، و لم تثبت من هيمنتهم إلا أحاديث فمن السنة الإلهية الجارية في الكون أن تبتنى حياة الإنسان على التعقل فإذا تعدى ذلك و أخذ في الفساد

 

 

 و الإفساد أبى طباع الكون ذلك، و ضادته الأسباب بقواها، و طحنته بجموعها، و ضربت عليه بكل ذلة و مسكنة.

قوله تعالى: ﴿وَ إِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إلى آخر الآية.

ثم دعاهم رابعا إلى الصبر على تقدير وقوع الاختلاف بينهم بالإيمان و الكفر فإنه كان يوصيهم جميعا قبل هذه الوصية بالاجتماع على الإيمان بالله و العمل الصالح، و كأنه أحس منهم أن ذلك مما لا يكون البتة، و أن الاختلاف كائن لا محالة، و أن الملأ المستكبرين من قومه و هم الذين كانوا يوعدون و يصدون عن سبيل الله سيأخذون في إفساد الأرض و إيذاء المؤمنين و يوجب ذلك في المؤمنين وهن عزيمتهم، و تسلط الناس على قلوبهم فأمرهم جميعا بالصبر و انتظار أمر الله فيهم ليحكم بينهم و هو خير الحاكمين.

فإن في ذلك صلاح المجتمع، أما المؤمنون فلا يقعون في البأس من الحياة الآمنة، و الاضطراب و الحيرة من جهة دينهم، و أما الكفار فلا يقعون في ندامة الإقدام من غير رؤية و مفسدة المظلمة على جهالة فحكم الله خير فاصل بين الطائفتين فهو خير الحاكمين لا يساهل في حكم إذا حان حينه، و لا يجور في حكم إذا ما حكم.

فقوله: ﴿فَاصْبِرُوا بالنسبة إلى الكفار أمر إرشادي، و بالنسبة إلى المؤمنين أمر مولوي أو إرشادي، و هو إرشاد الجميع إلى ما يصلح حالهم.

قوله تعالى: ﴿قَالَ اَلْمَلَأُ اَلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ الآية. لم يسترشد الملأ المستكبرون من قومه بما أرشدهم إليه من الصبر و انتظار الحكم الفصل في ذلك من الله سبحانه بل بادروه بتهديده و تهديد المؤمنين بإخراجهم من أرضهم إلا أن يرجعوا إلى ملتهم بالارتداد عن دين التوحيد.

و في تأكيدهم القول ﴿لَنُخْرِجَنَّكَ و ﴿لَتَعُودُنَّ بالقسم و نون التأكيد دلالة على قطعهم العزم على ذلك، و لذا بادر (عليه السلام) بعد استماع هذا القول منهم إلى الاستفتاح من الله سبحانه.

قوله تعالى: ﴿قَالَ أَ وَ لَوْ كُنَّا كَارِهِينَ قَدِ اِفْتَرَيْنَا عَلَى اَللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ الآية. أجاب (عليه السلام) بكراهة العود في ملتهم بدليل ما بعده من الجمل، و لازم ذلك اختيار الشق الآخر على تقدير الاضطرار إلى أحدهما كما أخبروه. ـ

 

 

و قد أجاب (عليه السلام) عن نفسه و عن المؤمنين به من قومه، و ذكر أنه و المؤمنين به جميعا كارهون للعود إلى ملتهم فإن في ذلك افتراء للكذب على الله سبحانه بنسبة الشركاء إليه، و ما يتبعها من الأحكام المفتراة في دين الوثنية فقوله: ﴿قَدِ اِفْتَرَيْنَا عَلَى اَللَّهِ كَذِباً الآية. بمنزلة التعليل لقوله: ﴿أَ وَ لَوْ كُنَّا كَارِهِينَ.

و من أسخف الاستدلال الاحتجاج بقوله: ﴿إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اَللَّهُ مِنْهَا على أن شعيبا (عليه السلام) كان قبل نبوته مشركا وثنيا حاشاه و قد تقدم آنفا أنه يتكلم عن نفسه و عن المؤمنين به من قومه و قد كانوا كفارا مشركين قبل الإيمان به فأنجاهم الله من ملة الشرك و هداهم بشعيب إلى التوحيد فقول شعيب: ﴿نَجَّانَا اَللَّهُ تكلم عن المجموع بنسبة وصف الجل إلى الكل، هذا لو كان المراد بالتنجية التنجية الظاهرية من الشرك الفعلي و أما لو أريد بها التنجية الحقيقية و هي الإخراج من كل ضلال محقق موجود أو مقدر مترقب كان شعيب و هو لم يشرك بالله طرفة عين و قومه و هم كانوا مشركين قبل زمان إيمانهم بشعيب جميعا ممن نجاهم الله من الشرك إذ لا يملك الإنسان لنفسه الهالكة ضرا و لا نفعا و ما أصابه من خير فهو من الله سبحانه.

و قوله: ﴿وَ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اَللَّهُ رَبُّنَا كالإضراب و الترقي بالجواب القاطع كأنه قال: نحن كارهون العود إلى ملتكم لأن فيه افتراء على الله بل إن ذلك مما لا يكون البتة، و ذلك أن كراهة شي‏ء إنما توجب تعسر التلبس به دون تعذره فأجاب (عليه السلام) ثانيا بتعذر العود بعد جوابه أولا بتعسره، و هو ما ذكرناه من الإضراب و الترقي.

و لما كان قوله: ﴿وَ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا في معنى أن يقال: «لن نعود إليها أبدا» و القطع في مثل هذه العزمات مما هو بعيد عن أدب النبوة فإنه في معنى: لن نعود على أي تقدير فرض حتى لو شاء الله، و هو من الجهل بمقامه تعالى، استثنى مشية الله سبحانه فقال: ﴿إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اَللَّهُ رَبُّنَا فإن الإنسان كيفما كان جائز الخطإ فمن الجائز أن يخطئ بذنب فيعاقبه الله بسلب عنايته به فيطرده من دينه فيهلك على الضلال.

و في الجمع بين الاسمين في قوله: ﴿اَللَّهُ رَبُّنَا إشارة إلى أن الله الذي يحكم ما يشاء هو الذي يدبر أمرنا و هو إله و رب، على ما يقتضيه دين التوحيد لا كما يعلمه دين

 

 

 الوثنية فإنه يسلم الألوهية لله ثم يفرز الربوبية بمختلف شئونها بين الأوثان و يسميها رب البحر و رب البر و هكذا.

و قوله: ﴿وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْ‏ءٍ عِلْماً كالتعليل لتعقيب الكلام بالاستثناء كأنه قيل لما استثنيت بعد ما أطلقت الكلام و قطعت في العزم؟ فقال: لأنه وسع ربي كل شي‏ء علما و لا أحيط من علمه إلا بما شاء فمن الجائز أن يتعلق مشيته بشي‏ء غائب عن علمي ساءني أو سرني كان يتعلق علمه بأنا سنخالفه في بعض أوامره فيشاء عودنا إلى ملتكم، و إن كنا اليوم كارهين له، و لعل هذا المعنى هو السبب في تعقيب هذا القول بمثل قوله: ﴿عَلَى اَللَّهِ تَوَكَّلْنَا فإن من يتوكل على الله كان حسبه و صانه من شر ما يخاف.

و لما بلغ الكلام هذا البلاغ و قد أخبروهم بعزمهم على أحد الأمرين: الإخراج أو العود، و أخبرهم شعيب (عليه السلام) بالعزم القاطع على عدم العود إلى ملتهم البتة التجأ (عليه السلام) إلى ربه و استفتح بقوله عن نفسه و عن المؤمنين: ﴿رَبَّنَا اِفْتَحْ بَيْنَنَا وَ بَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلْفَاتِحِينَ يسأل ربه أن يفتح بينهم أي بين شعيب و المؤمنين به، و بين المشركين من قومه، و هو الحكم الفصل فإن الفتح بين شيئين يستلزم إبعاد كل منهما عن صاحبه حتى لا يماس هذا ذاك و لا ذاك هذا دعا (عليه السلام) بالفتح و كنى به عن الحكم الفصل و هو الهلاك أو هو بمنزلته و أبهم الخاسر من الرابح و الهالك من الناجي و هو يعلم أن الله سينصره و أن الخزي اليوم و السوء على الكافرين لكنه (عليه السلام) أخذ بالنصفة للحق و تأدب بإرجاع الأمر في ذلك إلى الله كما أتى بنظير ذلك في قوله السابق: ﴿فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اَللَّهُ بَيْنَنَا وَ هُوَ خَيْرُ اَلْحَاكِمِينَ.

و خير الحاكمين و خير الفاتحين اسمان من أسماء الله الحسنى، و قد تقدم البحث عن معنى الحكم فيما مر، و عن معنى الفتح آنفا، و سيجي‏ء الكلام المستوفى في الأسماء الحسنى في تفسير قوله تعالى: ﴿وَ لِلَّهِ اَلْأَسْمَاءُ اَلْحُسْنى‏َ فَادْعُوهُ بِهَا: الآية ١٨٠ من السورة إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: ﴿وَ قَالَ اَلْمَلَأُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إلى آخر الآية. هذا تهديد منهم لمن آمن بشعيب أو أراد أن يؤمن به و يكون من جملة الإيعاد و الصد اللذين كان شعيب ينهى عنهما بقوله: ﴿وَ لاَ تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ

 

 

و يكون إفراد هذا بالذكر هاهنا من بين سائر أقوالهم ليكون كالتوطئة و التمهيد لما سيأتي من قولهم بعد ذكر هلاكهم: ﴿اَلَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَانُوا هُمُ اَلْخَاسِرِينَ.

و يحتمل أن يكون الاتباع بمعناه الظاهر العرفي و هو اقتفاء أثر الماشي على الطريق و السالك السبيل بأن يكون الملأ المستكبرون لما اضطروه و من معه إلى أحد الأمرين:

الخروج من أرضهم أو العود في ملتهم ثم سمعوه يرد عليهم العود إلى ملتهم ردا قاطعا ثم يدعو بمثل قوله: ﴿رَبَّنَا اِفْتَحْ بَيْنَنَا وَ بَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلْفَاتِحِينَ لم يشكوا أنه سيتركهم و يهاجر إلى أرض غير أرضهم، و يتبعه في هذه المهاجرة المؤمنون به من القوم خاطبوا عند ذلك طائفة المؤمنين بقولهم: ﴿لَئِنِ اِتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخَاسِرُونَ فهددوهم و خوفوهم بالخسران إن تبعوه في الخروج من أرضهم ليخرج شعيب وحده فإنهم إنما كانوا يعادونه إياه بالأصالة، و أما المؤمنون فإنما كانوا يبغضون من جهته و لأجله.

و على أي الوجهين كان فالآية كالتوطئة و التمهيد للآية الآتية: ﴿اَلَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَانُوا هُمُ اَلْخَاسِرِينَ كما تقدمت الإشارة إليه.

قوله تعالى: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ اَلرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ أصبحوا أي صاروا أو دخلوا في الصباح، و قد تقدم معنى الآية في نظيرتها من قصة صالح.

قوله تعالى: ﴿اَلَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا - إلى قوله - ﴿اَلْخَاسِرِينَ قال الراغب في المفردات،: و غني في مكان كذا إذا طال مقامه فيه مستغنيا به عن غيره بغنى قال: ﴿كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا (انتهى). و ﴿كَأَنْ مخفف كأن خفف لدخوله الجملة الفعلية.

فقوله: ﴿اَلَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا فيه تشبيه حال المكذبين من قومه بمن لم يطيلوا الإقامة في أرضهم فإن أمثال هؤلاء يسهل زوالهم لعدم تعلقهم بها في عشيرة أو أهل أو دار أو ضياع و عقار، و أما من تمكن في أرض و استوطنها و أطال المقام بها و تعلق بها بكل ما يقع به التعلق في الحياة المادية فإن تركها له متعسر كالمتعذر و خاصة ترك الأمة القاطنة في أرض أرضها و ما اقتنته فيها طول مقامها. و قد ترك هؤلاء و هم أمة عريقة في الأرض دارهم و ما فيها، في أيسر زمان أخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين.

و قد كانوا يزعمون أن شعيبا و من تبعه منهم سيحشرون فخاب ظنهم و انقلبت

 

 

 الدائرة عليهم فكانوا هم الخاسرين فمكروا و مكر الله و الله خير الماكرين.

و إلى هذا يشير تعالى حيث ذكر أولا قولهم: إن متبعي شعيب خاسرون، ثم ذكر نزول العذاب و أبهم الذين أخذتهم الرجفة فقال: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ اَلرَّجْفَةُ و لم يقل:

فأخذت الذين كفروا الرجفة، ثم صرح في قوله: ﴿اَلَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً الآية أن الحكم الإلهي و الهلاك و الخسران كان لشعيب و من تبعه على الذين كذبوه من قومه فكانوا هم الخاسرين الممكور بهم، و هم يزعمون خلافه.

قوله تعالى: ﴿فَتَوَلَّى عَنْهُمْ إلى آخر الآية. ظاهر السياق أنه إنما تولى بعد نزول العذاب عليهم و هلاكهم، و أن الخطاب خطاب اعتبار، و قوله: ﴿فَكَيْفَ آسى‏َ (إلخ) هو من الأسى أي كيف أحزن، و الباقي ظاهر.

[سورة الأعراف (٧): الآیات ٩٤ الی ١٠٢]

﴿وَ مَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَ اَلضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ٩٤ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ اَلسَّيِّئَةِ اَلْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَ قَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا اَلضَّرَّاءُ وَ اَلسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَ هُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ٩٥ وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرى‏ آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ اَلسَّمَاءِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ٩٦ أَ فَأَمِنَ أَهْلُ اَلْقُرى‏ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَ هُمْ نَائِمُونَ ٩٧ أَ وَ أَمِنَ أَهْلُ اَلْقُرى‏ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَ هُمْ يَلْعَبُونَ ٩٨ أَ فَأَمِنُوا مَكْرَ اَللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اَللَّهِ إِلاَّ اَلْقَوْمُ اَلْخَاسِرُونَ ٩٩ أَ وَ لَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ اَلْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَ نَطْبَعُ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ ١٠٠ تِلْكَ اَلْقُرى‏ نَقُصُّ عَلَيْكَ

 

 

مِنْ أَنْبَائِهَا وَ لَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اَللَّهُ عَلى‏ قُلُوبِ اَلْكَافِرِينَ ١٠١ وَ مَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَ إِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ ١٠٢

بيان

الآيات متصلة بما قبلها، و هي تلخص القول في قصص الأمم الغابرة فتذكر أن أكثرهم كانوا فاسقين خارجين عن زي العبودية لم يفوا بالعهد الإلهي و الميثاق الذي أخذ منهم لأول يوم، و تبين أن ذلك كان هو السبب في وقوعهم في مجرى سنن خاصة إلهية يتبع بعضها بعضا، و هي أن الله سبحانه كان كلما أرسل إليهم نبيا من أنبيائه يمتحنهم و يختبرهم بالبأساء و الضراء فكانوا يعرضون عن آيات الله التي كانت تدعوهم إلى الرجوع إلى الله و التضرع و الإنابة إليه، و لا ينتبهون بهاتيك المنبهات، و هذه سنة.

و إذا لم ينفع ذلك بدلت هذه السنة بسنة أخرى، و هي الطبع على قلوبهم بتقسيتها و صرفها عن الحق، و تعليقها بالشهوات المادية و زينات الحياة الدنيا و زخارفها، و هذه سنة المكر.

ثم تتبعها سنة ثالثة و هي الاستدراج، و هي بتبديل السيئة حسنة، و النقمة نعمة و البأساء و الضراء، سراء، و في ذلك تقريبهم يوما فيوما و ساعة فساعة إلى العذاب الإلهي حتى يأخذهم بغتة و هم لا يشعرون به لأنهم كانوا يرون أنفسهم في مهد الأمن و السلام فرحين بما عندهم من العلم، و ما في اختيارهم من الوسائل الكافية على زعمهم في دفع ما يهددهم بهلاك أو يؤذنهم بالزوال.

و قد أشار الله سبحانه في خلال هذه الآيات إلى حقيقة ناصعة هي المدار الذي يدور عليه أساس نزول النعم و النقم على العالم الإنساني حيث يقول: ﴿وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرى‏َ آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ اَلسَّمَاءِ الآية.

و توضيحها أن العالم بما فيه من الأجزاء متعلق الأبعاض مرتبط الأطراف يتصل بعضها

 

 

ببعض اتصال أعضاء بدن واحد و أجزائه بعضها ببعض في صحتها و سقمها و استقامتها في صدور أفاعيلها، و قيامها بالواجبات من أعمالها فالتفاعل بالآثار و الخواص جار بينها عام شامل لها.

و الجميع على ما يبينه القرآن الشريف سائر إلى الله سبحانه سألك نحو الغاية التي قدرت له فإذا اختل أمر بعض أجزائه و خاصة الأجزاء الشريفة، و ضعف أثره و انحرف عن مستقيم صراطه بأن أثر فساده في غيره، و انعكس ذلك منه إلى نفسه في الآثار التي يرسلها ذلك الغير إليه، و هي آثار غير ملائمة لحال هذا الجزء المنحرف و هي المحنة و البلية التي يقاسيها هذا السبب من ناحية سائر الأسباب فإن استقام بنفسه أو بإعانة من غيره عاد إليه رفاه حاله السابق، و لو استمر على انحرافه و اعوجاجه، و أدام فساد حاله دامت له المحنة حتى إذا طغا و تجاوز حده، و أوقفت سائر الأسباب المحيطة به في عتبة الفساد انتهضت عليه سائر الأسباب و هاجت بقواها التي أودعها الله سبحانه فيها لحفظ وجوداتها فحطمته و دكته و محته بغتة و هو لا يشعر.

و هذه السنة التي هي من السنن الكونية التي أقرها الله سبحانه في الكون غير متخلفة عن الإنسان، و لا الإنسان مستثنى منها فالأمة من الأمم إذا انحرفت عن صراط الفطرة انحرافا يصده عن السعادة الإنسانية التي قدرت غاية لمسيره في الحياة كان في ذلك اختلال حال غيره مما يحيط به من الأسباب الكونية المرتبطة به، و ينعكس إليه أثره السيئ الذي لا سبب له إلا انحرافه عن الصراط و توجيهه آثارا سيئة من نفسه إلى تلك الأسباب، و عند ذلك يظهر اختلالات في اجتماعاتهم، و محن عامة في روابطهم العامة كفساد الأخلاق، و قسوة القلوب، و فقدان العواطف الرقيقة، و تهاجم النوائب و تراكم المصائب و البلايا الكونية كامتناع السماء من أن تمطر، و الأرض من أن تنبت، و البركات من أن تنزل، و مفاجأة السيول و الطوفانات و الصواعق و الزلازل و خسف البقاع و غير ذلك كل ذلك آيات إلهية تنبه الإنسان و تدعو الأمة إلى الرجوع إلى ربه، و العود إلى ما تركه من صراط الفطرة المستقيم، و امتحان بالعسر بعد ما امتحن باليسر.

تأمل في قوله تعالى: ﴿ظَهَرَ اَلْفَسَادُ فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي اَلنَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ اَلَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ: الروم: ٤١ تراه شاهدا ناطقا بذلك، فالآية تذكر أن المظالم و الذنوب التي تكسبها أيدي الناس توجب فسادا في البر و البحر مما يعود إلى

 

 

 الإنسان كوقوع الحروب و انقطاع الطرق و ارتفاع الأمن و غير ذلك، أو لا يعود إليه كاختلال الأوضاع الجوية و الأرضية الذي يستضر به الإنسان في حياته و معاشه.

و نظيره بوجه قوله تعالى: ﴿وَ مَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ: الشورى: ٣٠ على ما سيجي‏ء إن شاء الله من تقرير معناه، و كذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ: الرعد: ١١، و ما في معناه من الآيات.

و بالجملة فإن رجعت الأمة بذلك و ما أقله و أندره في الأمم - فهو، و إن استمرت على ضلالها و خبطها طبع الله على قلوبهم فاعتادوا ذلك، و أصبحوا يحسبون أن الحياة الإنسانية ليست إلا هذه الحياة المضطربة الشقية التي تزاحمها أجزاء العالم المادي و تضطهدها النوائب و الرزايا، و يحطمها قهر الطبيعة الكونية و أن ليس للإنسان إلا أن يتقدم في العلم و يتجهز بالحيل الفكرية فيبارزها و يتخذ وسائل كافية في دفع قهرها و إبطال مكرها كما اتخذ اليوم وسائل تكفي لدفع القحط و الجدب و الوباء و الطاعون و سائر الأمراض العامة السارية، و أخرى تنفي بها السيول و الطوفانات و الصواعق، و غير ذلك مما يأتي به طاغية الطبيعة، و يهدد النوع بالهلاك.

قتل الإنسان ما أكفره! أخذه الخيلاء فظن أن التقدم فيما يسميه حضارة و علما يعده أنه سيغلب طبيعة الكون، و يبطل عزائمها، و يقهرها على أن تطيعه في مشيته، و تنقاد لأهوائه، و هو أحد أجزائها المحكومة بحكمها الضعيفة في تركيبها و لو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات و الأرض، و لو فسدت لكان الإنسان الضعيف من أقدم أجزائها في الفساد و أسرعها إلى الهلاك.

و يخيل إليه أن الذي ترومه المعرفة الدينية هو أن تبطل نسبة الحوادث العظام إلى أسبابها الطبيعية ثم تضع زمامها في يد صانعها فيكون شريكا من الشركاء، للأسباب الآخر آثارها من الحوادث و هي الحوادث التي يسعنا البحث عن عللها و أسبابها و للسبب الذي هو الصانع بقية الآثار من الحوادث كالحوادث العامة و الوقائع الجوية كالوباء و القحط و الأمطار و الصواعق و غيرها ثم إذا كشف عن العلل الطبيعية المكتنفة لهذه الأمور زعم أنه في غنى عن رب العالمين و تدبير ربوبيته.

و قد فاته أن الله عز اسمه ليس سببا في عرض الأسباب، و علة في صف العلل

 

 

 المادية و القوى الفعالة في الطبيعة بل هو الذي أحاط بكل شي‏ء، و خلق كل سبب فساقه و قاده إلى مسببه و أعطى كل شي‏ء خلقه ثم هدى و لا يحيط بخلقه و مسببه غيره فله أن يتسبب إلى كل شي‏ء بما أراده من الأسباب المجهولة عندنا الغائبة عن علومنا.

و إلى ذلك يشير نحو قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اَللَّهُ لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدْراً: الطلاق: ٣، و قوله: ﴿وَ اَللَّهُ غَالِبٌ عَلى‏َ أَمْرِهِ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ» : يوسف: ٢١، و قوله: ﴿وَ مَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي اَلْأَرْضِ وَ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اَللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لاَ نَصِيرٍ: الشورى: ٣١، إلى غير ذلك من الآيات.

و كيف يسع للإنسان أن يحارب الله في ملكه، و يتخذ بفكره وسائل لإبطال حكمه و إرادته، و ليس هو سبحانه في عرضها بل هو في طولها أي هو الذي خلق الإنسان و خلق منه هذه الإرادة ثم الفكر ثم الوسائل المتخذة، و وضع كلا في موضعه، و ربط بعضها ببعض من بدئها إلى ختمها حتى أنهاها إلى الغاية الأخيرة التي يريد الإنسان بجهالته أن يحارب بالتوسل إليها ربه في قضائه و قدره، و يناقضه في حكمه، و هو أحد الأيادي العمالة لما يريده و يحكم به و بعض الأسباب المجرية لما يقدره و يقضي به.

و إلى هذا الموقف الفضيح الإنساني يشير تعالى بعد ذكر أخذه الإنسان بالبأساء و الضراء بقوله: ﴿ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ اَلسَّيِّئَةِ اَلْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَ قَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا اَلضَّرَّاءُ وَ اَلسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَ هُمْ لاَ يَشْعُرُونَ على ما سيجي‏ء إن شاء الله تعالى من تقرير معنى الآية عن قريب.

فهذه حقيقة برهانية تقرر أن الإنسان كغيره من الأنواع الكونية مرتبط الوجود بسائر أجزاء الكون المحيطة به، و لأعماله في مسير حياته و سلوكه إلى منزل السعادة ارتباط بغيره فإن صلحت للكون صلحت أجزاء الكون له و فتحت له بركات السماء، و إن فسدت أفسدت الكون و قابله الكون بالفساد فإن رجع إلى الصلاح فيها، و إلا جرى على فساده حتى إذا تعرق فيه انتهض عليه الكون و أهلكه بهدم بنيانه و إعفاء أثره، و طهر الأرض من رجسه.

و كيف يمكن للإنسان و أنى يسعه أن يعارض الكون بعمله و هو أحد أجزائه التي لا تستقل دونه البتة؟ أو يماكره بفكره و إنما يفكر بترتيب القوانين الكلية المأخوذة

 

 

 منه؟ فافهم ذلك.

فهذه حقيقة برهانية و القرآن الكريم يصدقها و ينص عليها فالله سبحانه هو الذي خلق كل شي‏ء فقدره تقديرا، و هداه إلى ما يسعده، و لم يخلق العالم سدى، و لا شيئا من أجزائه و منها الإنسان لعبا، بل إنما خلق ما خلق ليتقرب منه و يرجع إليه، و هيأ له منزلة سعادة يندفع إليها بحسب فطرته بإذن الله سبحانه، و جعل له سبيلا ينتهي إلى سعادته فإذا سلك سبيله الفطري فهو، و إلا فإن انحرف عنه انحرافا لا مطمع في رجوعه إلى سوي الصراط فقد بطلت فيه الغاية، و حقت عليه كلمة العذاب.

قوله تعالى: ﴿وَ مَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إلى آخر الآية. قيل:

 البأساء

 في المال كالفقر، و

 الضراء

في النفس كالمرض، و قيل: يعني بالبأساء ما نالهم من الشدة في أنفسهم و بالضراء ما نالهم في أموالهم، و قيل: غير ذلك. و قيل: إن البأس و البأساء يكثر استعمالهما في الشدة التي هي بالنكاية و التنكيل كما في قوله تعالى: ﴿وَ اَللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَ أَشَدُّ تَنْكِيلاً.

و لعل قوله بعد: ﴿اَلضَّرَّاءُ وَ اَلسَّرَّاءُ حيث أريد بهما ما يسوء الإنسان و ما يسره يكون قرينة على إرادة مطلق ما يسوء الإنسان من الشدائد من الضراء، و يكون قوله:

﴿بِالْبَأْسَاءِ وَ اَلضَّرَّاءِ من ذكر العام بعد الخاص.

يذكر سبحانه أن السنة الإلهية جرت على أنه كلما أرسل نبيا من الأنبياء إلى قرية من القرى - و ما يرسلهم إليهم إلا ليهديهم سبيل الرشاد - ابتلاهم بشي‏ء من الشدائد في النفوس و الأموال رجاء أن يبعثهم ذلك إلى التضرع إليه سبحانه ليتم بذلك أمر دعوتهم إلى الإيمان بالله و العمل الصالح.

فالابتلاءات و المحن نعم العون لدعوة الأنبياء فإن الإنسان ما دام على النعمة شغله ذلك عن التوجه إلى من أنعمها عليه و استغنى بها، و إذا سلب النعمة أحس بالحاجة، و نزلت عليه الذلة و المسكنة، و علاه الجزع، و هدده الفناء فيبعثه ذلك بحسب الفطرة إلى الالتجاء و التضرع إلى من بيده سد خلته و دفع ذلته، و هو الله سبحانه و إن كان لا يشعر به و إذا نبه عليه كان من المرجو اهتداؤه إلى الحق، قال تعالى: ﴿وَ إِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى اَلْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَ نَأى‏َ بِجَانِبِهِ وَ إِذَا مَسَّهُ اَلشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ: حم السجدة: ٥١.

قوله تعالى: ﴿ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ اَلسَّيِّئَةِ اَلْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا إلى آخر الآية.

 تبديل‏

الشي‏ء

 

 

شيئا وضع الشي‏ء الثاني مكان الشي‏ء الأول و السيئة و الحسنة معناهما ظاهر، و المراد بهما ما هما كالشدة و الرخاء، و الخوف و الأمن، و الضراء و السراء كما يدل عليه قوله بعده:

﴿قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا اَلضَّرَّاءُ وَ اَلسَّرَّاءُ.

و قوله: ﴿حَتَّى عَفَوْا من العفو و فسر بالكثرة أي حتى كثروا أموالا و نفوسا بعد ما كان الله قللهم بالابتلاءات و المحن، و ليس ببعيد و إن لم يذكروه أن يكون من العفو بمعنى إمحاء الأثر كقوله:

ربع عفاه الدهر طولا فانمحى *** قد كاد من طول البلى أن يمسحا

فيكون المراد أنهم محوا بالحسنة التي أوتوها آثار السيئة السابقة و قالوا:

﴿قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا اَلضَّرَّاءُ وَ اَلسَّرَّاءُ أي إن الإنسان و هو في عالم الطبيعة المتحولة المتغيرة من حكم موقفه أن يمسه الضراء و السراء، و تتعاقب عليه الحدثان مما يسوؤه أو يسره من غير أن يكون لذلك انتساب إلى امتحان إلهي و نقمة ربانية.

و من الممكن بالنظر إلى هذا المعنى الثاني أن يكون قوله: ﴿وَ قَالُوا إلخ، عطف تفسير لقوله: ﴿عَفَوْا و المراد أنهم محوا رسم الامتحان الإلهي بقولهم: إن الضراء و السراء إنما هما من عادات الدهر المتبادلة المتداولة يداولنا بذلك كما كان يداول آباءنا كما قال تعالى: ﴿وَ لَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَ مَا أَظُنُّ اَلسَّاعَةَ قَائِمَةً: حم السجدة: ٥٠.

و ﴿حَتَّى في قوله: ﴿حَتَّى عَفَوْا وَ قَالُوا الآية، للغاية، و المعنى: ثم آتيناهم النعم مكان النقم فاستغرقوا فيها إلى أن نسوا ما كانوا عليه في حال الشدة و قالوا: إن هذه الحسنات و تلك السيئات من عادة الدهر فانتهى بهم إرسال الشدة ثم الرخاء إلى هذه الغاية، و كان ينبغي لهم أن يتذكروا عند ذلك و يهتدوا إلى مزيد الشكر بعد التضرع لكنهم غيروا الأمر فوضعوا هذه الغاية مكان تلك الغاية التي رضيها لهم ربهم فطبع الله بذلك على قلوبهم فلا يسمعون كلمة الحق.

و لعل قوله: ﴿اَلضَّرَّاءُ وَ اَلسَّرَّاءُ قدم فيه الضراء على السراء ليحاذي ما في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ اَلسَّيِّئَةِ اَلْحَسَنَةَ من الترتيب.

و في قوله: ﴿فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَ هُمْ لاَ يَشْعُرُونَ تلويح إلى جهل الإنسان بجريان

 

 

 الأمر الإلهي، و لذا كان الأخذ بغتة و فجأة من غير أن يشعروا به، و هم يظنون أنهم عالمون بمجاري الأمور، و خصوصيات الأسباب، لهم أن يتقوا ما يهددهم من أسباب الهلاك بوسائل دافعة يهديهم إليها العلم، قال تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ اَلْعِلْمِ: المؤمن: ٨٣.

قوله تعالى: ﴿وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرى‏َ آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ إلى آخر الآية.

البركات

‏ أنواع الخير الكثير ربما يبتلى الإنسان بفقده كالأمن و الرخاء و الصحة و المال و الأولاد و غير ذلك.

و قوله: ﴿لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ اَلسَّمَاءِ وَ اَلْأَرْضِ فيه استعارة بالكناية فقد شبهت البركات بمجاري تجري منها عليهم كل ما يتنعمون به من نعم الله لكنها سدت دونهم فلا يجري عليهم منها شي‏ء لكنهم لو آمنوا و اتقوا لفتحها الله سبحانه فجرى عليهم منها بركات السماء من الأمطار و الثلوج و الحر و البرد و غير ذلك كل في موقعه و بالمقدار النافع منه، و بركات الأرض من النبات و الفواكه و الأمن و غيرها ففي الكلام استعارة المجاري لبركات ثم ذكر بعض لوازمه و آثاره و هو الفتح للمستعار له.

و في قوله: ﴿وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرى‏َ آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا الآية دلالة على أن افتتاح أبواب البركات مسبب لإيمان أهل القرى جميعا و تقواهم أي إن ذلك من آثار إيمان النوع الإنساني و تقواه لا إيمان البعض و تقواه فإن إيمان البعض و تقواه لا ينفك عن كفر البعض الآخر و فسقه، و مع ذلك لا يرتفع سبب الفساد و هو ظاهر.

و في قوله: ﴿وَ لَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ دلالة على أن الأخذ بعنوان المجازاة و قد تقدم في البيان المذكور آنفا ما يتبين به كيفية ذلك، و أنه في الحقيقة أعمال الإنسان ترد إليه.

قوله تعالى: ﴿أَ فَأَمِنَ أَهْلُ اَلْقُرى‏َ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَ هُمْ نَائِمُونَ

 البيات و التبييت‏

 قصد العدو ليلا، و هو من المكر لأن الليل سكن يسكن فيه الإنسان و يميل بالطبع إلى أن يستريح و ينقطع عن غيره بالنوم و السكون.

و قد فرع مضمون الآية على ما قبله أي إذا كان هذا حال أهل القرى أنهم يغترون بما تحت حسهم عما وراءه فيفجئون و يأخذهم العذاب بغتة و هم لا يشعرون فهل أمنوا

 

 

 أن يأتيهم عذاب الله ليلا و هم في حال النوم، و قد عمتهم الغفلة؟.

قوله تعالى: ﴿أَ وَ أَمِنَ أَهْلُ اَلْقُرى‏َ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَ هُمْ يَلْعَبُونَ

 الضحى‏

صدر النهار حين تنبسط الشمس، و المراد باللعب الأعمال التي يشتغلون بها لرفع حوائج الحياة الدنيا و التمتع من مزايا الشهوات، و هي إذا لم تكن في سبيل السعادة الحقيقية، و طلب الحق كانت لعبا، فقوله: ﴿وَ هُمْ يَلْعَبُونَ كناية عن العمل للدنيا و ربما قيل: إنه استعارة أي يشتغلون بما لا نفع فيه كأنهم يلعبون، و ليس ببعيد أن يكون قوله في الآية السابقة ﴿وَ هُمْ نَائِمُونَ كناية عن الغفلة. و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: ﴿أَ فَأَمِنُوا مَكْرَ اَللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اَللَّهِ إِلاَّ اَلْقَوْمُ اَلْخَاسِرُونَ

مكر

 به مكرا أي مسه بالضرر أو بما ينتهي إلى الضرر و هو لا يشعر و هو إنما يصح منه تعالى إذا كان على نحو المجازاة كأن يأتي الإنسان بالمعصية فيؤاخذه الله بالعذاب من حيث لا يشعر أو يفعل به ما يسوقه إلى العذاب و هو لا يشعر، و أما المكر الابتدائي من غير تحقق معصية سابقة فمما يمتنع عليه تعالى و قد مرت الإشارة إليه كرارا.

و ما ألطف قوله تعالى: ﴿أَ فَأَمِنَ أَهْلُ اَلْقُرى‏َ و ﴿أَ وَ أَمِنَ أَهْلُ اَلْقُرى‏َ ثم قوله ﴿أَ فَأَمِنُوا مَكْرَ اَللَّهِ، و الثالث و هو الذي في هذه الآية جمع و تلخيص للإنكارين السابقين في الآيتين، و قد أظهر في الآيتين جميعا من غير أن يقول في الثانية: أ و أمنوا (إلخ) ليعود الضمير في الآية الثالثة إلى من في الآيتين جميعا كأنه أخذ أهل القرى و هم نائمون غير أهل القرى و هم يلعبون.

و قوله: ﴿فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اَللَّهِ إِلاَّ اَلْقَوْمُ اَلْخَاسِرُونَ ذلك لأنه تعالى بين في الآيتين الأوليين أن الأمن من مكر الله نفسه مكر إلهي يتعقبه العذاب الإلهي فالآمنون من مكر الله خاسرون لأنهم ممكور بهم بهذا الأمن بعينه.

قوله تعالى: ﴿أَ وَ لَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ اَلْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا إلى آخر الآية.

الظاهر أن فاعل قوله: ﴿يَهْدِ ضمير راجع إلى ما أجمله من قصص أهل القرى، و قوله ﴿لِلَّذِينَ يَرِثُونَ مفعوله عدي إليه باللام لتضمينه معنى التبيين، و المعنى: أ و لم يبين ما تلوناه من قصص أهل القرى للذين يرثون الأرض من بعد أهلها هاديا لهم، و قوله: ﴿أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ الآية مفعول ﴿يَهْدِ و المراد بالذين يرثون الأرض من بعد أهلها ـ

 

 

الأخلاف الذين ورثوا الأرض من أسلافهم.

و محصل المعنى: أ و لم يتبين أخلاف هؤلاء الذين ذكرنا أنا آخذناهم بمعاصيهم بعد ما امتحناهم ثم طبعنا على قلوبهم فلم يستطيعوا أن يسمعوا مواعظ أنبيائهم إنا لو نشاء لأصبناهم بذنوبهم من غير أن يمنعنا منهم مانع أو يتقوا بأسنا بشي‏ء.

و ربما قيل: إن قوله: ﴿يَهْدِ منزل منزلة اللازم و المعنى: أ و لم يفعل بهم الهداية أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم، و نظيره قوله تعالى: ﴿أَ وَ لَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ اَلْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ: الم السجدة: ٢٦.

و أما قوله: ﴿وَ نَطْبَعُ عَلى‏َ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ فمعطوف على قوله ﴿أَصَبْنَاهُمْ لأن الماضي هاهنا في معنى المستقبل، و المعنى أ و لم يهد لهم أ و لو نشاء نطبع (إلخ)، و قيل جملة معترضة تذييلية، و في الآية وجوه و أقوال أخر خالية عن الجدوى.

قوله تعالى: ﴿تِلْكَ اَلْقُرى‏َ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا إلى آخر الآية تلخيص ثان لقصصهم المقصوصة سابقا بعد التلخيص الذي مر في قوله: ﴿وَ مَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إلى آخر الآيتين أو الآيات الثلاث.

و الفرق بين التلخيصين أن الأول تلخيص من جهة صنع الله من أخذهم بالبأساء و الضراء ثم تبديل السيئة حسنة ثم الأخذ بغتة و هم لا يشعرون، و الثاني تلخيص من جهة حالهم في أنفسهم قبال الدعوة الإلهية، و هو أنهم و إن جاءتهم رسلهم بالبينات لكنهم لم يؤمنوا لتكذيبهم من قبل و ما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل، و هذا من طبع الله على قلوبهم.

و قوله: ﴿فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ ظاهر الآية أن قوله ﴿بِمَا متعلق بقوله ﴿لِيُؤْمِنُوا و لازم ذلك أن تكون ﴿فَمَا موصولة و يؤيده قوله تعالى في موضع آخر ﴿فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ: يونس: ٧٤ فإنه أظهر في كون ﴿فَمَا موصولة لمكان ضمير ﴿بِهِ و يئول المعنى إلى أنهم كذبوا بما دعوا إليه أولا ثم لم يؤمنوا به عند الدعوة النبوية ثانيا.

و يؤيده ظاهر قوله ﴿فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا فإن هذا التركيب يدل على نفي التهيؤ القبلي يقال: ما كنت لآتي فلانا «و ما كنت لأكرم فلانا و قد فعل كذا أي لم يكن من شأني كذا و لم أكن بمتهيئ لكذا، و في التنزيل: ﴿مَا كَانَ اَللَّهُ لِيَذَرَ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلى‏َ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ

 

 

 حَتَّى يَمِيزَ اَلْخَبِيثَ مِنَ اَلطَّيِّبِ: آل عمران: ١٧٩، أي كان في إرادته التمييز من قبل.

و قال تعالى: ﴿لَمْ يَكُنِ اَللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً».﴾: النساء: ١٣٧ و يؤيده أيضا قوله في الآية التالية: ﴿وَ مَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَ إِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ فإن ظاهر السياق أن هذه الآية معطوفة عطف تفسير على قوله: ﴿فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ فيتبين بها أنهم كانوا عهد إليهم بعهد ففسقوا عنه و كذبوا به حين عهد إليهم ثم إذا جاءتهم الرسل بالبينات كذبوهم و لم يؤمنوا بهم، و ما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل.

و الآية أعني قوله: ﴿وَ لَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ مذيلة بقوله: ﴿كَذَلِكَ يَطْبَعُ اَللَّهُ عَلى‏َ قُلُوبِ اَلْكَافِرِينَ فدل ذلك على أن ما وصفه من مجي‏ء الرسل بالبينات و عدم إيمانهم لتكذيبهم بذلك قبلا هو من مصاديق الطبع المذكور، و حقيقته أن الله ثبت التكذيب في قلوبهم و مكنه من نفوسهم حتى إذا جاءتهم الرسل بالبينات لم يكن محل لقبول دعوتهم لكون المحل مشغولا بضده.

فتنطبق هاتان الآيتان بحسب المعنى على الآيتين الأوليين أعني قوله: (﴿وَ مَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا إلى آخر الآيتين حيث تصفان سنة الله أنه يرسل آيات دالة على حقية أصول الدعوة من التوحيد و غيره بأخذهم بالبأساء و الضراء ثم تبديل السيئة حسنة ثم يطبع على قلوبهم جزاء لجرمهم.

و على هذا فالمعنى في الآية: لقد جاءتهم رسلهم بالبينات لكنهم لما لم يؤمنوا بالآيات المرسلة إليهم الداعية لهم إلى التضرع إلى الله و الشكر لإحسانه بل شكوا فيها بل حملوها على عادة الدهر و تصريف الأيام و تقليبها الإنسان من حال إلى حال فكذبوا بهذه الآيات، و استقر التكذيب في قلوبهم فلما دعاهم الأنبياء إلى الدين الحق لم يؤمنوا بما كانوا يدعون إليه من الحق و بما كانوا يذكرونهم بها من الآيات لأنهم كذبوا بها من قبل و ما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل فإن الله عز و جل طبع على قلوبهم فهم لا يسمعون.

فعدم إيمانهم أثر الطبع الإلهي، و الطبع أثر تكذيبهم بدلالة الابتلاء بالبأساء و الضراء ثم تبديل السيئة حسنة ثانيا، و من الدليل عليه قوله: ﴿وَ لَقَدْ أَهْلَكْنَا اَلْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَ مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي اَلْقَوْمَ

 

 

 اَلْمُجْرِمِينَ: يونس: ١٣، و قوله: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ  يعني نوحا ﴿رُسُلاً إِلى‏َ قَوْمِهِمْ فَجَاؤُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلى‏َ قُلُوبِ اَلْمُعْتَدِينَ : يونس: ٧٤، و على هذا فقوله: ﴿فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ تفريع على قوله:

﴿وَ لَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ، و المراد بما كذبوا به الآيات البينات التي ذكرتهم بها الأنبياء من آيات الآفاق و الأنفس و ما جاءوا به من الآيات المعجزة فالجميع آياته، و المراد بتكذيبهم بها من قبل، تكذيبهم بها من حيث دلالة عقولهم بمشاهدتها أنهم مربوبون لله لا رب سواه، و بعدم إيمانهم ثانيا عدم إيمانهم بها حين يذكرهم بها الأنبياء.

فالمعنى فما كانوا ليؤمنوا بما يذكرهم به و يأتي به الأنبياء من الآيات التي كذبوا بها حين ذكرتهم بها عقولهم، و أرسلها الله إليهم ليذكروا و يتضرعوا إليه و يشكروا له.

و على هذا فالمراد بالعهد في قوله في الآية التالية: ﴿وَ مَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَ إِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ هو العهد الذي عهده الله سبحانه إليهم من طريق العقل بلسان الآيات: أن لا يعبدوا إلا إياه، و المراد بالفسق خروجهم عن ذلك العهد بعدم الوفاء به.

و لهذا العهد تحقق سابق على هذا التحقق و هو أن الله سبحانه أخذه بعينه منهم حين خلقهم و سواهم بخلق أبيهم آدم و تسويته ثم جعله مثالا للإنسانية العامة فأسجد له الملائكة و أدخله الجنة ثم عهد إليه حين أمر بهبوطه الأرض أن يعبده هو و ذريته و لا يشركوا به شيئا.

و قد قدر الله سبحانه هنالك ما قدر فهدى بحسب تقديره قوما و لم يهد آخرين ثم إذا وردوا الدنيا و أخذوا في سيرهم في مسير الحياة اهتدى الأولون، و فسق عن عهده الآخرون حتى طبع الله على قلوبهم و حقت عليهم الضلالة في الدنيا بعد أعمالهم السيئة كما تقدم بيانه في تفسير قوله: ﴿كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقاً هَدى‏َ وَ فَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ اَلضَّلاَلَةُ : الآية ٣٠ من السورة.

فمعنى الآية على هذا: فما كانوا ليؤمنوا عند دعوة الأنبياء بما كذبوا به و لم يقبلوه عند أخذ العهد الأول، و ما وجدنا لأكثرهم من وفاء في الدنيا بالعهد الذي عهدناه هناك و إن وجدنا أكثرهم لفاسقين خارجين عن حكم ذلك العهد.

 

 

 فهذا معنى لكنه غير مناف للمعنى السابق فإن أحد المعنيين في طول الآخر و ليسا بمتعارضين فإن تعين طريق الإنسان و غايته من سعادة و شقاوة بحسب القدر لا ينافي إمكان سعادته و شقاوته في الدنيا، و إناطة تحقق كل منهما باختياره ذلك و انتخابه و للقوم في تفسير الآية أقوال أخر:

 ١ -: أن المراد بتكذيبهم من قبل، تكذيبهم من حين مجي‏ء الرسل إلى حين الإصرار و العناد و بقوله: ﴿فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا﴾ إلخ، كفرهم حين الإصرار، و المعنى فما كانوا ليؤمنوا حين العناد بما كذبوا به من أول الدعوة إلى ذلك الحين، و هذا وجه سخيف لا شاهد له من جهة اللفظ البتة.

 ٢ -: أن المراد بتكذيبهم قبلا، تكذيبهم بأصول الشرائع الإلهية التي لا يختلف في شي‏ء منها كالتوحيد و المعاد، و مسألة حسن العدل و قبح الظلم مثلا مما يستقل به العقل، و بتكذيبهم بعدا تكذيبهم بتفاصيل الشرائع، و المعنى فما كانوا ليؤمنوا بهذه الشرائع المفصلة و هي التي كذبوا بها قبلا إجمالا قبل الدعوة التفصيلية، و فيه أنه خلاف ظاهر الآية فلا يقال للكفر بالله و بسائر ما ثبوته فطري عند العقل أنه تكذيب. على أن ما تقدم من القرائن على خلافه يكذبه.

 ٣ -: أن الآية على حد قوله تعالى: ﴿وَ لَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ فالمعنى:

ما كانوا لو أهلكناهم ثم أحييناهم ليؤمنوا بما كذبوا به قبل إهلاكهم، هذا. و هو أسخف ما قيل في تفسير الآية.

 ٤ -: أن ضمير ﴿كَذَّبُوا راجع إلى أسلافهم كما أن ضمير ﴿لِيُؤْمِنُوا للأخلاف و المعنى: فما كانوا ليؤمنوا بما كذب به أسلافهم، و فيه: أنه قول من غير دليل و ظاهر سياق قوله: ﴿فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا أن مرجع الثلاثة جميعا واحد، و من الممكن أن يقرر هذا الوجه بما يرجع إلى الوجه الآتي.

 ٥ -: أن الكلام مبني على أخذ عامة أهل القرى من أسلافهم و أخلافهم واحدا بعث إليه الرسل، و هم مأخوذون كالشخص الواحد فيكون تكذيب الأسلاف لأنبيائهم تكذيبا من الأخلاف لهم، و عدم إيمان الأخلاف أيضا عدم إيمان من الأسلاف و هذا كما يذكر القرآن أهل الكتاب و خاصة اليهود ثم يؤاخذ أخلافهم بما قدمته أيدي

 

 

 أسلافهم، و تنسب إلى لاحقيهم مظالم سابقيهم في آيات كثيرة فيكون المعنى: هو ذا البشر منذ خلقوا إلى اليوم جاءتهم رسلهم بالبينات فما كان يؤمن آخرهم بما كذب به أولهم. هذا.

و فيه: أنه و إن كان في نفسه معنى صحيحا لكن السياق لا يلائمه فالكلام مسوق لبيان حال الأمم الغابرة كما يدل عليه قوله: ﴿تِلْكَ اَلْقُرى‏َ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا و لو كانوا مأخوذين على نعت الوحدة الممتدة بامتداد أعصارهم حتى يكون لها أول و آخر و صدر و ذيل تكفر بآخرها و ذيلها بما كذبت به بأولها و صدرها كان من حق الكلام أن يدل على مثل هذا الاستمرار في قوله: ﴿جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فيقال: كانت تأتيهم رسلهم بالبينات أو ما يؤدي هذا المعنى لا بمثل قوله: ﴿جَاءَتْهُمْ الظاهر في اعتبار الدفعة و المرة فافهم ذلك.

و ذلك كما في قوله تعالى: ﴿كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوى‏َ أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَ فَرِيقاً يَقْتُلُونَ: المائدة: ٧٠، فمن المعلوم أنه ربما كان المكذبون غير القاتلين، و قد نسب الجميع إلى مجتمع واحد لكن دل على استمرار مجي‏ء الرسول، و نظيره قوله: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَ بَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَ تَوَلَّوْا وَ اِسْتَغْنَى اَللَّهُ : التغابن: ٦، و كذا قوله في قصص الأنبياء بعد نوح: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى‏َ قَوْمِهِمْ فَجَاؤُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ: يونس: ١٤، فإن مفاد قوله ﴿بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى‏َ قَوْمِهِمْ بعثنا كل رسول إلى قومه.

 ٦ -: أن الباء في قوله: ﴿بِمَا كَذَّبُوا سببية و ما مصدرية، و المراد بتكذيبهم من قبل ما اعتادوه من تكذيب الرسل أو كل حق واجههم، و المعنى: فما كانوا ليؤمنوا بسبب التكذيب الذي تقدم منهم للرسل أو لكل حق، بربهم.

و فيه: أنه محجوج بنظير الآية و هو قوله: ﴿فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ فإن وجود ضمير ﴿بِهِ فيه دليل على أن ما موصولة. على أن ظاهر الآية أن الباء للتعدية، و ﴿بِمَا متعلقة بقوله: ﴿لِيُؤْمِنُوا على أنه بوجه راجع إلى الوجه الأول.

 ٧ -: أن المراد بما أشير إليه آخرا تكذيبهم الذي أسروه يوم الميثاق و المعنى:

فما كانوا ليؤمنوا عند دعوة الأنبياء في الدنيا بما كذبوا به قبله يوم الميثاق.

 

 

 و فيه: أنه معنى صحيح في نفسه غير أنه من البطن دون الظهر الذي عليه يدور التفسير، و الدليل عليه قوله بعده: ﴿كَذَلِكَ يَطْبَعُ اَللَّهُ عَلى‏َ قُلُوبِ اَلْكَافِرِينَ فإنه يصرح بأن عدم إيمانهم كذلك إنما كان بالطبع على قلوبهم، و أن الله طبع على قلوبهم بتكذيبهم السابق فلم يؤمنوا به عند الدعوة اللاحقة، و الطبع لا يكون ابتدائيا في الدنيا بل لجرم سابق فيها، و هذا أحسن شاهد على أن هذا التكذيب الذي أورث لهم الطبع على قلوبهم كان في الدنيا ثم الطبع أوجب لهم أن لا يؤمنوا بما كذبوا به من قبل.

و في هذا المعنى آيات أخر تدل على أن الطبع و الختم الإلهي إنما هو عن جرم سابق دنيوي، و ليس مجرد سبق التكذيب في الميثاق ينتج الطبع الابتدائي في الدنيا فإنه مما لا يليق به سبحانه البتة، و قد قال: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَ مَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ اَلْفَاسِقِينَ: البقرة: ٢٦.

قوله تعالى: ﴿وَ مَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ إلى آخر الآية، قال في المجمع،:

من عهد أي من وفاء بعهد كما يقال: فلان لا عهد له أي لا وفاء له بالعهد، و ليس بحافظ للعهد (انتهى). و من الجائز أن يراد بالعهد عهد الله الذي عهده إليهم من ناحية آياته أو عهدهم الذي عاهدوا الله عليه أن يعبدوه و لا يشركوا به شيئا و من ناحية حاجة أنفسهم و دلالة عقولهم، و قد ظهر معنى الآية مما تقدم.

 بحث روائي

 في الكافي، بإسناده عن الحسين بن الحكم قال : كتبت إلى العبد الصالح أخبره أني شاك و قد قال إبراهيم: ﴿رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ اَلْمَوْتى‏َ فإني أحب أن تريني شيئا من ذلك. فكتب إليه: أن إبراهيم كان مؤمنا و أحب أن يزداد إيمانا، و أنت شاك و الشاك لا خير فيه، و كتب: أنما الشك ما لم يأت اليقين فإذا جاء اليقين لم يجز الشك.

و كتب: أن الله عز و جل يقول: ﴿وَ مَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَ إِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ قال: نزلت في الشاك.

أقول: و انطباقه على ما مر في البيان السابق ظاهر، و قد روى ذيل الحديث العياشي عن الحسين بن الحكم الواسطي و فيه: نزلت في الشكاك‏

 

 

 [سورة الأعراف (٧): الآیات ١٠٣ الی ١٢٦]

﴿ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى‏ بِآيَاتِنَا إِلى‏ فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ اَلْمُفْسِدِينَ ١٠٣ وَ قَالَ مُوسى‏ يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ ١٠٤ حَقِيقٌ عَلى‏ أَنْ لاَ أَقُولَ عَلَى اَللَّهِ إِلاَّ اَلْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ١٠٥ قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصَّادِقِينَ ١٠٦ فَأَلْقى‏ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ ١٠٧ وَ نَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ ١٠٨ قَالَ اَلْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ١٠٩ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَا ذَا تَأْمُرُونَ ١١٠ قَالُوا أَرْجِهْ وَ أَخَاهُ وَ أَرْسِلْ فِي اَلْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ١١١ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ١١٢ وَ جَاءَ اَلسَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ اَلْغَالِبِينَ ١١٣ قَالَ نَعَمْ وَ إِنَّكُمْ لَمِنَ اَلْمُقَرَّبِينَ ١١٤ قَالُوا يَا مُوسى‏ إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَ إِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ اَلْمُلْقِينَ ١١٥ قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ اَلنَّاسِ وَ اِسْتَرْهَبُوهُمْ وَ جَاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ ١١٦ وَ أَوْحَيْنَا إِلى‏ مُوسى‏ أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ١١٧ فَوَقَعَ اَلْحَقُّ وَ بَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ١١٨ فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَ اِنْقَلَبُوا صَاغِرِينَ ١١٩ وَ أُلْقِيَ اَلسَّحَرَةُ سَاجِدِينَ ١٢٠ 

 

 

قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ اَلْعَالَمِينَ ١٢١ رَبِّ مُوسى‏ وَ هَارُونَ ١٢٢ قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي اَلْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ١٢٣ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ ١٢٤ قَالُوا إِنَّا إِلى‏ رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ ١٢٥ وَ مَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَ تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ ١٢٦

بيان

شروع في قصص موسى (عليه السلام)، و قد خص بالذكر منها مجيئه إلى فرعون و دعواه الرسالة إليه لنجاة بني إسرائيل و إتيانه بالآيتين اللتين آتاه الله إياهما ليلة الطور، و هذه القصة هي التي تشتمل عليها هذه الآيات ثم إجمال قصته حين إقامته في مصر بين بني إسرائيل لإنجائهم، و ما نزل على قوم فرعون من آيات الشدة إلى أن أنجى الله بني إسرائيل، ثم تذكر قصة نزول التوراة و عبادة بني إسرائيل العجل، ثم قصصا متفرقة من بني إسرائيل يعتبر بها المعتبر.

قوله تعالى: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى‏ بِآيَاتِنَا إِلى‏ فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِ إلى آخر الآية.

في تغيير السياق في أول القصة دلالة على تجدد الاهتمام بأمر موسى (عليه السلام) فإنه من أولي العزم صاحب كتاب و شريعة، و قد ورد الدين ببعثته في مرحلة جديدة من التفصيل بعد المرحلتين اللتين قطعهما ببعثة نوح و إبراهيم (عليه السلام)، و في لفظ الآيات شي‏ء من الإشارة إلى تبدل المراحل فقد قال تعالى أولا: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلى‏ قَوْمِهِ ﴿وَ إِلى‏ عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً ﴿وَ إِلى‏ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً فجرى على سياق واحد لأن هودا و صالحا كانا على شريعة نوح، ثم غير السياق فقال: ﴿وَ لُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ لأن لوطا من أهل المرحلة الثانية في الدين و هي مرحلة شريعة إبراهيم، و كان لوط على شريعته ثم عاد إلى السياق السابق في بدء قصة شعيب، ثم غير السياق في بدء قصة موسى بقوله: ﴿ثُمَّ

 

 

 بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى‏ بِآيَاتِنَا إِلى‏ فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِ لأنه ثالث أولي العزم صاحب كتاب جديد و شريعة جديدة، و دين الله و شرائعه و إن كان واحدا لا تناقض فيه و لا تنافي غير أنه مختلف بالإجمال و التفصيل و الكمال و زيادته بحسب تقدم البشر تدريجيا من النقص إلى الكمال، و اشتداد استعداده لقبول المعارف الإلهية عصرا بعد عصر إلى أن ينتهي إلى موقف علمي هي أعلى المواقف فيختتم عند ذلك الرسالة و النبوة، و يستقر الكتاب و الشريعة استقرارا لا مطمع بعده في كتاب جديد أو شريعة جديدة و لا يبقى للبشر بعد ذلك إلا التدرج في الكمال من حيث انتشار الدين و انبساطه على المجتمع البشري و استيعابه لهم، و إلا التقدم من جهة التحقق بحقائق المعارف، و الترقي في مراقي العلم و العمل التي يدعو إليها الكتاب، و يحرض عليها الشريعة و الأرض لله يورثها من يشاء من عباده و العاقبة للمتقين.

فقوله تعالى: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى‏ بِآيَاتِنَا إلى آخر الآية. إجمال لقصة موسى (عليه السلام) ثم يؤخذ في التفصيل من قوله: ﴿وَ قَالَ مُوسى‏ يَا فِرْعَوْنُ الآية، و إنا و إن كنا نسمي هذه القصص بقصة موسى و قصة نوح و قصة هود و هكذا فإنها بحسب ما سردت في هذه السورة قصص الأمم و الأقوام الذين أرسل إليهم هؤلاء الرسل الكرام يذكر فيها حالهم فيما واجهوا به رسل الله من الإنكار و الرد، و ما آل إليه أمرهم من نزول العذاب الإلهي الذي أفنى جمعهم، و قطع دابرهم و لذلك ترى أن عامة القصص المذكورة مختومة بذكر نزول العذاب و هلاك القوم.

و لا تنس ما قدمناه في مفتتح الكلام أن الغرض منها بيان حال الناس في قبول العهد الإلهي المأخوذ منهم جميعا ليكون إنذارا للناس عامة و ذكرى للمؤمنين خاصة، و أنه الغرض الجامع بين ما في سور «الم» و ما في سورة «_ ص» من الغرض و هو الإنذار و الذكرى.

فقوله: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ أي من بعد من ذكروا من الأنبياء و هم نوح و هود و صالح و لوط و شعيب (عليه السلام) ﴿مُوسى‏ بِآيَاتِنَا إِلى‏ فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِ أي إلى ملك مصر و الأشراف الذين حوله، و «فرعون‏» لقب كان يطلق على ملوك مصر كالخديو كما كان يلقب بقيصر و كسرى و فغفور ملوك الروم و إيران و الصين، و لم يصرح القرآن الكريم باسم هذا الفرعون الذي أرسل إليه موسى فأغرقه الله بيده.

 

 

 و قوله: ﴿بِآيَاتِنَا الظاهر أن المراد بها ما أتى به في أول الدعوة من إلقاء العصا فإذا هي ثعبان، و إخراج يده من جيبه فإذا هي بيضاء، و الآيات التي أرسلها الله إليهم بعد ذلك من الطوفان و الجراد و القمل و الضفادع و الدم آيات مفصلات، و لم ينقل القرآن الكريم لنبي من الأنبياء من الآيات الكثيرة ما نقله عن موسى (عليه السلام).

و قوله: ﴿فَظَلَمُوا بِهَا أي بالآيات التي أرسل بها على ما سيذكره الله سبحانه في خلال القصة، و ظلم كل شي‏ء بحسبه، و ظلم الآيات إنما هو التكذيب بها و الإنكار لها.

و قوله: ﴿فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ اَلْمُفْسِدِينَ ذكر عاقبة الإفساد في الاعتبار بأمرهم لأنهم كانوا يفسدون في الأرض و يستضعفون بني إسرائيل، و قد كان في متن دعوة موسى حين ألقاها إلى فرعون: ﴿فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ و في سورة طه:

﴿فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَ لاَ تُعَذِّبْهُمْ: طه: ٤٧.

قوله تعالى: ﴿وَ قَالَ مُوسى‏َ يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ شروع في تفصيل قصة الدعوة كما تقدمت الإشارة إليه، و قد عرف نفسه بالرسالة ليكون تمهيدا لذكر ما أرسل لأجله، و ذكره تعالى باسمه رب العالمين أنسب ما يتصور في مقابلة الوثنيين الذين لا يرون إلا أن لكل قوم أو لكل شأن من شئون العالم و طرف من أطرافه ربا على حدة.

قوله تعالى: ﴿حَقِيقٌ عَلى‏َ أَنْ لاَ أَقُولَ عَلَى اَللَّهِ إِلاَّ اَلْحَقَّ إلى آخر الآية تأكيد لصدقه في رسالته أي أنا حري بأن أقول قول الحق و لا أنسب إلى الله في رسالتي منه إليك شيئا من الباطل لم يأمرني به الله سبحانه، و قوله: ﴿قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ في موضع التعليل بالنسبة إلى جميع ما تقدم أو بالنسبة إلى قوله: ﴿إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ لأنه هو الأصل الذي يتفرع عليه غيره.

و لعل تعدية ﴿حَقِيقٌ بعلى من جهة تضمينه معنى حريص أي حريص على كذا حقيقا به، و المعروف في اللغة تعدية حقيق‏ بمعنى حري بالباء يقال: فلان حقيق بالإكرام أي حري به لائق.

و قرئ: ﴿حَقِيقٌ عَلى‏َ بتشديد الياء و الحقيق على هذا مأخوذ من حق عليه كذا أي وجب، و المعنى واجب علي أن لا أقول على الله إلا الحق فالحقيق خبر

 

 

 و مبتدؤه قوله: ﴿أَنْ لاَ أَقُولَ، الآية و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ﴿قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصَّادِقِينَ الشرط في صدر الآية أعني قوله: ﴿إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ يتضمن صدقه (عليه السلام) فإنه إذا كان جائيا بآية واقعة فقد صدق في إخباره بأنه قد جاء بآية لكن الشرط في ذيل الآية تعريض يومئ به إلى أنه ما يعتقد بصدقه في إخباره بوجود آية معه، فكأنه قال: إن كنت جئت بآية فأت بها و ما أظنك تصدق في قولك، فلا تكرار في الشرط.

قوله تعالى: ﴿فَأَلْقى‏َ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ الفاء جوابية كما قيل أي فأجابه بإلقاء عصاه، و هذه هي فاء التفريع و الجواب مستفاد من خصوصية المورد.

و

 الثعبان‏

الحية العظيمة و لا تنافي بين وصفه هاهنا بالثعبان المبين و بين ما في موضع آخر من قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَ لَمْ يُعَقِّبْ: القصص: ٣١، و

الجان‏

هي الحية الصغيرة لاختلاف القصتين كما قيل فإن ذكر الجان إنما جاء في قصة ليلة الطور و قد قال تعالى فيها في موضع آخر: ﴿فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى‏َ: طه: ٢٠، و أما ذكر الثعبان فقد جاء في قصة إتيانه لفرعون بالآيات حين سأله ذلك.

قوله تعالى: ﴿وَ نَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ أي نزع يده من جيبه على ما يدل عليه قوله تعالى: ﴿وَ اُضْمُمْ يَدَكَ إِلى‏َ جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ: طه:

 ٢٢، و قوله: ﴿اُسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ: القصص: ٣٢.

و الأخبار و إن وردت فيها أن يده (عليه السلام) كانت تضي‏ء كالشمس الطالعة عند إرادة الإعجاز بها لكن الآيات لا تقص أزيد من أنها كانت تخرج بيضاء للناظرين إلا أن كونها آية معجزة تدل على أنها كانت تبيض ابيضاضا لا يشك الناظرون في أنها حالة خارقة للعادة.

قوله تعالى: ﴿قَالَ اَلْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ لم يذكر تعالى ما قاله فرعون عند ذلك، و إنما الذي ذكر محاورة الملإ بعضهم بعضا كأنهم في مجلس مشاورة يذاكر بعضهم بعضا و يشير بعضهم إلى ما يراه و يصوبه آخرون فيقدمون ما صوبوه من رأي إلى فرعون ليعمل به فهم لما تشاوروا في أمر موسى و ما شاهدوه من آياته المعجزة قالوا: إن هذا لساحر عليم، و إذا كان ساحرا غير صادق فيما يذكره من رسالة الله سبحانه فإنما يتوسل بهذه الوسيلة إلى نجاة بني إسرائيل و استقلالهم في أمرهم

 

 

 ليتأيد بهم ثم يخرجكم من أرضكم و يذهب بطريقتكم المثلى فما ذا تأمرون به في إبطال كيده، و إخماد ناره التي أوقدها؟ أ من الواجب مثلا أن يقتل أو يصلب أو يسجن أو يعارض بساحر مثله؟.

فاستصوبوا آخر الآراء، و قدموه إلى فرعون أن أرجه و أخاه و ابعث في المدائن حاشرين يأتوك بكل ساحر عليم.

و من ذلك يظهر أن قوله تعالى: ﴿فَمَا ذَا تَأْمُرُونَ حكاية ما قاله بعض الملإ لبعض و قوله: ﴿قَالُوا أَرْجِهْ إلخ، حكاية ما قدموه من رأي الجميع إلى فرعون و قد اتفقوا عليه، و قد حكى الله سبحانه في موضع آخر من كلامه هذا القول بعينه من فرعون يخاطب به ملأه قال تعالى: ﴿قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَا ذَا تَأْمُرُونَ قَالُوا أَرْجِهْ وَ أَخَاهُ وَ اِبْعَثْ فِي اَلْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ: الشعراء: ٣٧.

و يظهر مما في الموضعين أنهم إنما شاوروا حول ما قاله فرعون ثم صوبوه و رأوا أن يجيبه بسحر مثل سحره، و قد حكى الله أيضا هذا القول عن فرعون يخاطب به موسى حتى بالذي أشار إليه الملأ من معارضة سحره بسحر آخر مثله إذ قال: ﴿قَالَ أَ جِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسى‏َ فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ: طه: ٥٨، و لعل ذلك محصل ما خرج من مشاورتهم حول ما قاله فرعون بعد ما قدم إلى فرعون مخاطب به موسى من قبل نفسه.

و للملإ جلسة مشاورة أخرى أيضا بعد قدوم السحرة إلى فرعون ناجى فيها بعضهم بعضا بمثل ما في هذه الآيات قال تعالى: ﴿فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَ أَسَرُّوا اَلنَّجْوى‏َ قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَ يَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ اَلْمُثْلى‏َ: طه: ٦٣.

فتبين أن أصل الكلام لفرعون ألقاه إليهم ليتشاوروا فيه و يروا رأيهم فيما يفعل به فرعون فتشاوروا و صدقوا قوله و أشاروا بالإرجاء و جمع السحرة للمعارضة فقبله ثم ذكره لموسى ثم اجتمعوا للمشاورة و المناجاة ثانيا بعد مجي‏ء السحرة و اتفقوا أن يجتمعوا عليه و يعارضوه بكل ما يقدرون عليه من السحر صفا واحدا. ـ

 

 

قوله تعالى: ﴿يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَا ذَا تَأْمُرُونَ أي يريد أن يتأيد ببني إسرائيل فيتملك مصر، و يبطل استقلالكم و يخرجكم من أرضكم، و كثيرا ما كان يتفق في الأعصار السابقة أن يهجم قوم على قوم فيتغلبوا عليهم فيشغلوا أرضهم و يتملكوا ديارهم فيخرجوهم منها و يشردوهم في الأرض.

قوله تعالى: ﴿قَالُوا أَرْجِهْ وَ أَخَاهُ وَ أَرْسِلْ فِي اَلْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ إلى آخر الآية التالية.

أرجه‏

 بسكون الهاء أمر من الإرجاء بمعنى التأخير و الهاء للسكت أي أخره و أخاه و لا تعجل لهما بشر كالقتل و نحوه حتى ترمي بظلم أو قسوة و نحوهما بل ابعث في المدائن من جنودك حاشرين يجمعون السحرة فيأتوك بهم ثم عارض سحر موسى بسحر السحرة.

و قرئ: ﴿أَرْجِهْ بكسر الجيم و الهاء و أصله أرجئه قلبت الهمزة ياء ثم حذفت، و الهاء ضمير راجع إلى موسى، و أخوه هو هارون (عليه السلام).

قوله تعالى: ﴿وَ جَاءَ اَلسَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْراً إلى آخر الآية التالية أي فأرسل حاشرين فحشروهم و جاء السحرة كل ذلك محذوف للإيجاز.

و قولهم: ﴿إِنَّ لَنَا لَأَجْراً سؤال للأجر جي‏ء به في صورة الخبر للتأكيد، و إفادة الطلب الإنشائي في صورة الإخبار شائع، و يمكن أن يكون استفهاما بحذف أداته، و يؤيده قراءة ابن عامر: ﴿قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْراً و قوله: ﴿قَالَ نَعَمْ وَ إِنَّكُمْ لَمِنَ اَلْمُقَرَّبِينَ إجابة لمسئولهم مع زيادة وعدهم بالتقريب.

قوله تعالى: ﴿قَالُوا يَا مُوسى‏َ إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَ إِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ اَلْمُلْقِينَ خيروه بين أن يكون هو الملقي بعصاه، و بين أن يكونوا هم الملقين لما أعدوه من الحبال و العصي و هذا التخيير في مقام استعدوا لمقابلته، و لا محالة يفيد التخيير في الابتداء بالإلقاء فمعناه إن شئت ألق عصاك أولا و إن شئت ألقينا حبالنا و عصينا أولا.

و فيه نوع من التجلد لدلالته على أنهم لا يبالون بأمره سواء ألقى قبلهم أو بعدهم فلا يهابونه على أي حال لوثوقهم بأنهم هم الغالبون، و لا يخلو التخيير مع ذلك عن نوع من التأدب.

قوله تعالى: ﴿قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ اَلنَّاسِ إلى آخر الآية، السحر هاهنا نوع تصرف في حاسة الإنسان بإدراك أشياء لا حقيقة لها في الخارج، و قد تقدم

 

 

 الكلام فيه في تفسير قوله: ﴿وَ اِتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا اَلشَّيَاطِينُ عَلى‏َ مُلْكِ سُلَيْمَانَ: البقرة: ١٠٢ في الجزء الأول من الكتاب، و

 الاسترهاب‏

 الإخافة، و معنى الآية ظاهر، و قد عد الله فيها سحرهم عظيما.

قوله تعالى: ﴿وَ أَوْحَيْنَا إِلى‏َ مُوسى‏َ أَنْ أَلْقِ إلى آخر الآيتين، أن تفسيرية و

 اللقف و اللقفان

‏ تناول الشي‏ء بسرعة، و

 الإفك‏

هو صرف الشي‏ء عن وجهه و لذا يطلق على الكذب، و في الآية وجوه من الإيجاز ظاهرة، و التقدير: و أوحينا إلى موسى بعد ما ألقوا أن ألق عصاك فألقاها فإذا هي حية و إذا هي تلقف ما يأفكون.

و قوله: ﴿فَوَقَعَ اَلْحَقُّ فيه استعارة بالكناية بتشبيه الحق بشي‏ء كأنه معلق لا يعلم عاقبة حاله أ يستقر في الأرض بالوقوع عليها و التمكن فيها أم لا؟ فوقع و استقر ﴿وَ بَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ من السحر.

قوله تعالى: ﴿فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَ اِنْقَلَبُوا صَاغِرِينَ أي غلب فرعون و أصحابه ﴿هُنَالِكَ أي في ذلك المجمع العظيم الذي تهاجم عليهم فيه الناس من كل جانب ففي لفظ ﴿هُنَالِكَ إشارة إلى ذلك و هو للبعيد، ﴿وَ اِنْقَلَبُوا صَاغِرِينَ أي عادوا و صاروا أذلاء مهانين.

قوله تعالى: ﴿وَ أُلْقِيَ اَلسَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ اَلْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسى‏َ وَ هَارُونَ أبهم فاعل الإلقاء في قوله: ﴿وَ أُلْقِيَ اَلسَّحَرَةُ سَاجِدِينَ و هو معلوم فإن السحرة هم الذين ألقوا بأنفسهم إلى الأرض ساجدين، و ذلك للإشارة إلى كمال تأثير آية موسى فيهم و إدهاشها إياهم فلم يشعروا بأنفسهم حين ما شاهدوا عظمة الآية و ظهورها عليهم إلا و هم ملقون ساجدون فلم يدروا من الذي أوقع بهم ذلك.

فاضطرتهم الآية إلى الخرور على الأرض ساجدين، و الإيمان برب العالمين الذي اتخذه موسى و هارون، و في ذكر موسى و هارون دلالة على الإيمان بهما مع الإيمان برب العالمين.

و ربما قيل: إن بيانهم رب العالمين برب موسى و هارون لدفع توهم أن يكون إيمانهم لفرعون فإنه كان يدعي أنه رب العالمين فلما بينوه بقولهم ﴿رَبِّ مُوسى‏َ وَ هَارُونَ و لم يأخذا فرعون ربا اندفع ذلك التوهم، و لا يخلو عن خفاء فإن الوثنية ما كانت تقول برب العالمين بحقيقة معناه بمعنى من يملك العالمين و يدبر أمر جميع أجزائها بالاستقامة

 

 

 بل قسموا أجزاء العالم و شئونها بين أرباب شتى، و إنما أعطوا الله سبحانه مقام إله الآلهة و رب الأرباب لا رب الأرباب و مربوبيها.

و الذي ادعاه فرعون لنفسه على ما حكاه الله من قوله: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ اَلْأَعْلى‏َ : النازعات: ٢٤، إنما هو العلو من جهة القيام بحاجة الناس و هم أهل مصر خاصة عن قرب و اتصال لا من جهة القيام بربوبية جميع العالمين، و مع ذلك كله قد أحاطت الخرافات على الوثنية بحيث لا يستبعد أن يتفوهوا بكون فرعون رب العالمين و إن خالف أصول مذاهبهم قطعا.

قوله تعالى: ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إلى آخر الآيتين خاطبهم فرعون بقوله: ﴿آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ تأنفا و استكبارا، و هو إخبار يفيد بحسب المقام و الإنكار و التوبيخ، و من الجائز أن يكون استفهاما إنكاريا أو توبيخيا محذوف الأداة.

و قوله: ﴿إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي اَلْمَدِينَةِ الآية يتهمهم بالمواطاة و المواضعة في المدينة يريد أنهم لما اجتمعوا في مدينته بعد ما حشرهم الحاشرون من مدائن مختلفة شتى فجاءوا بهم إليه و لقوا موسى أجمعوا على أن يمكروا بفرعون و أصحابه فيتسلطوا على المدينة فيخرجوا منها أهلها، و ذلك لأنهم لم يشاهدوا موسى قبل ذلك فلو كانوا تواطئوا على شي‏ء فقد كان ذلك بعد اجتماعهم في مدينته.

أنكر عليهم إيمانهم بقوله: ﴿آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ثم اتهمهم بأنهم تواطئوا جميعا على المكر ليخرجوا أهل المدينة منها بقوله: ﴿إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ إلخ ليثبت لهم جرم الإفساد في الأرض المبيح له سياستهم و تنكيلهم بأشد العقوبات.

ثم هددهم بقوله: ﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ثم بينه و فصله بقوله: ﴿لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ فهددهم تهديدا أكيدا أولا بقطع الأيدي و الأرجل من خلاف و هو أن يقطع اليد اليمنى مع الرجل اليسرى أو اليد اليسرى مع الرجل اليمنى و بالجملة قطع كل من اليد و الرجل من خلاف الجهة التي قطعت منها الأخرى.

و ثانيا بالصلب و هو شد المجرم بعد تعذيبه على خشبة و رفع الخشبة بإثبات جانبه على الأرض ليشاهده الناس فيكون لهم عبرة، و قد تقدم تفصيل بيانه في قصص المسيح (عليه السلام) في تفسير سورة آل عمران.

 

 

 قوله تعالى: ﴿قَالُوا إِنَّا إِلى‏َ رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ إلى آخر الآيات. جواب السحرة و هم القائلون هذا المقال و قد قابلوه بما يبطل به كيده، و تنقطع به حجته، و هو أنك تهددنا بالعذاب قبال ما تنقم منا من الإيمان بربنا ظنا منك أن ذلك شر لنا من جهة انقطاع حياتنا به و ما نقاسيه من ألم العذاب، و ليس ذلك شرا فإنا نرجع إلى ربنا، و نحيا عنده بحياة القرب السعيدة، و لم نجترم إلا ما تعده أنت لنا جرما و هو إيماننا بربنا فما دوننا إلا الخير.

و هذا معنى قوله: ﴿قَالُوا إِنَّا إِلى‏َ رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ و هو إيمان منهم بالمعاد ﴿وَ مَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا و عدوا أمر العصا على الظاهر آيات كثيرة لاشتماله على جهات كل منها آية كصيرورتها ثعبانا، و لقفها حبالهم و عصيهم واحدا بعد واحد، و رجوعها إلى حالتها الأولى.

و

 النقم‏

 هو الكراهة و البغض يقال: نقم منه كذا ينقم من باب ضرب و علم:

إذا كره و أبغض.

ثم أخذتهم الجذبة الإلهية من غير أن يذعروا مما هددهم به، و استغاثوا بربهم على ما عزم به من تعذيبهم و قتلهم فسألوه تعالى قائلين: ﴿رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً  على ما يريد أن يوقع بنا من العذاب الشديد ﴿وَ تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ إن قتلنا.

و في إطلاق الإفراغ على إعطاء الصبر استعارة بالكناية فشبهوا نفوسهم بالآنية، و الصبر بالماء، و إعطاءه بإفراغ الإناء بالماء و هو صبه فيه حتى يغمره، و إنما سألوا ذلك ليفيض الله عليهم من الصبر ما لا يجزعون به عند نزول أي عذاب و ألم ينزل بهم.

و قد جاءوا بالعجب العجاب في مشافهتهم هذه مع فرعون و هو الجبار العنيد الذي ينادي «أنا ربكم الأعلى» و يعبده ملك مصر فلم يذعرهم ما شاهدوا من قدرته و سطوته فأعربوا عن حجتهم بقلوب مطمئنة، و نفوس كريمة، و عزم راسخ، و إيمان ثابت، و علم عزيز، و قول بليغ، و إن تدبرت ما حكاه الله سبحانه من مشافهتهم و محاورتهم فرعون في موقفهم هذا في هذه السورة و في سورتي طه و الشعراء أرشدك ما في خلال كلامهم من الحجج البالغة إلى علوم جمة، و حالات روحية شريفة، و أخلاق كريمة، و لو لا محذور الخروج عن طور هذا الكتاب لأوردنا شذرة منها في هذا المقام

 

 

 فلينتظر إلى حين.

بحث روائي‏

ما قصة الله في كتابه من قصة مجي‏ء موسى بما آتاه الله من الرسالة، و أيده به من آية العصا و اليد البيضاء، و معه أخوه هارون إلى فرعون و إتيانه بالآيتين ثم جمع فرعون السحرة و معارضته بسحرهم، و إظهار الله آية موسى على سحرهم، و إيمان السحرة لا يجاوز ما ذكر في هذه الآيات إجمالا.

و قد اشتملت الروايات الواردة من طرق الشيعة أو طرق أهل السنة على هذه المعاني غير أنها تشتمل مع ذلك من تفاصيل القصة على أمور عجيبة لم يتعرض لها كتاب الله كما ورد: أن عصا موسى كان من آس الجنة، و أنها كانت عصا آدم وصلت إلى شعيب ثم أعطاها موسى، و في بعض الروايات أنها كانت عصا آدم أعطاها ملك لموسى حين توجه إلى مدين فكانت تضي‏ء له بالليل، و يضرب بها الأرض في النهار فيخرج له رزقه و في بعضها: أنها كانت تنطق إذا استنطقت، و كانت إذا صارت ثعبانا عند فرعون بعد ما بين لحييه اثنا عشر ذراعا، و روي أربعون ذراعا و في بعضها ثمانون ذراعا و أنها ارتفعت في السماء ميلا، و في بعضها أنها وضعت أحد مشفريها على الأرض و الآخر على سور قصر فرعون، و في بعضها أنها أخذت قبة فرعون بين أنيابها، و حملت على الناس فانهزموا مزدحمين فمات منهم خمسة و عشرون ألفا، و في بعضها: أنها كانت ثمانون ذراعا، و في بعضها: أنها كانت في العظم كالمدينة، و في الرواية: أن فرعون أحدث في ثيابه من هول ما رأى، و في بعضها: أنه أحدث في ذلك اليوم أربع مائة مرة و في بعضها: أنه استمر معه داء البطن حتى غرق، و في الروايات أنه (عليه السلام) كان إذا أخرج يده من جيبه كان يغلب نورها نور الشمس.

و في الرواية: أن السحرة كانوا سبعين رجلا، و في بعضها: ستمائة إلى تسع مائة و في بعضها: اثني عشر ألفا، و في بعضها خمسة عشر ألفا، و في بعضها: سبعة عشر ألفا، و في بعضها: تسعة عشر ألفا، و في بعضها بضعة و ثلاثين ألفا، و في بعضها سبعين ألفا، و في بعضها: ثمانين ألفا.

 

 

و في الرواية أنهم كانوا أخذوا السحر من رجلين مجوسيين من أهل «نينوى» و فيها: أنه كان اسم رئيسهم شمعون، و في بعضها: يوحنا، و في بعضها أنه كان لهم رؤساء أربعة أسماؤهم: سابور، و عازور، و حطحط، و مصفى.

و كذا ورد في نفس فرعون: أن اسمه الوليد بن المصعب بن الريان، و أنه كان من أهل إصطخر فارس، و في بعضها: أنه من أبناء مصر، و في بعضها: أن فرعون هذا هو فرعون يوسف عاش أربعمائة سنة و لم يشب و لا ابيض منه شعر.

و في بعضها: أنه بنى مدائن يتحصن فيها من موسى، و جعل فيما بينها آجام و غياض، و جعل فيها الأسد ليتحصن بها من موسى فلما بعث الله موسى إلى فرعون دخل المدينة فلما رآه الأسد تبصبصت و ولت مدبرة، ثم لم يأت مدينة إلا انفتح له بابها حتى انتهى إلى قصر فرعون الذي هو فيه.

قال: فقعد على بابه، و عليه مدرعة من صوف و معه عصاه فلما خرج الآذن قال استأذن لي على فرعون فلم يلتفت إليه قال: فقال له موسى: أنا رسول رب العالمين فلم يلتفت إليه قال: فمكث بذلك ما شاء الله يسأله أن يستأذن له قال: فلما أكثر عليه قال: أ ما وجد رب العالمين من يرسله غيرك؟.

قال: فغضب موسى فضرب الباب بعصاه فلم يبق بينه و بين فرعون باب إلا انفتح حتى نظر إليه فرعون و هو في مجلسه فقال: أدخلوه قال: فدخل عليه و هو في قبة له مرتفعة كثيرة الارتفاع ثمانون ذراعا فقال: أنا رسول رب العالمين إليك. قال:

فقال: فأت بآية إن كنت من الصادقين، قال: فألقى عصاه و كان له شعبتان. قال: فإذا هي حية قد وقع إحدى الشعبتين على الأرض و الشعبة الأخرى في أعلى القبة. قال:

فنظر فرعون جوفها و هي تلهب نيرانا. قال: و أهوى إليه فأحدث و صاح يا موسى خذها.

إلى غير ذلك مما يشتمل عليه الروايات من العجائب في هذه القصة و أغلبها أمور سكت عنها القرآن لا سبيل إلى رد أغلبها إلا الاستبعاد، و لا إلى قبولها إلا حسن الظن بكل رواية مروية، و هي ليست بمتواترة و لا محفوفة بقرائن قطعية بل جلها مراسيل أو موقوفة أو ضعيفة من سائر جهات الضعف على ما بينها من التعارض فالغض عنها أولى

 

 

[سورة الأعراف (٧): الآیات ١٢٧ الی ١٣٧]

﴿وَ قَالَ اَلْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَ تَذَرُ مُوسى‏ وَ قَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي اَلْأَرْضِ وَ يَذَرَكَ وَ آلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَ نَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَ إِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ١٢٧ قَالَ مُوسى‏ لِقَوْمِهِ اِسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَ اِصْبِرُوا إِنَّ اَلْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَ اَلْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ١٢٨ قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَ مِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسى‏ رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَ يَسْتَخْلِفَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ١٢٩ وَ لَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَ نَقْصٍ مِنَ اَلثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ١٣٠ فَإِذَا جَاءَتْهُمُ اَلْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى‏ وَ مَنْ مَعَهُ أَلاَ إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اَللَّهِ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ١٣١ وَ قَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ١٣٢ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ اَلطُّوفَانَ وَ اَلْجَرَادَ وَ اَلْقُمَّلَ وَ اَلضَّفَادِعَ وَ اَلدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَ كَانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ ١٣٣ وَ لَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ اَلرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى اُدْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا اَلرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَ لَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ١٣٤ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ اَلرِّجْزَ إِلى‏َ أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ ١٣٥ فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي اَلْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَ كَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ١٣٦ وَ أَوْرَثْنَا اَلْقَوْمَ 

 

 

اَلَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ اَلْأَرْضِ وَ مَغَارِبَهَا اَلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَ تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ اَلْحُسْنى‏ عَلى‏ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَ دَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَ قَوْمُهُ وَ مَا كَانُوا يَعْرِشُونَ ١٣٧

بيان

الآيات تشتمل على إجمال ما جرى بينه (عليه السلام) و بين فرعون و قومه أيام إقامة موسى بينهم بعد القيام بالدعوة يدعوهم إلى الله و إلى إطلاق بني إسرائيل و يأتيهم بالآية بعد الآية حتى أنجاه الله تعالى و قومه، و أغرق فرعون و جنوده، و أورث بني إسرائيل الأرض المباركة مشارقها و مغاربها.

قوله تعالى: ﴿وَ قَالَ اَلْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَ تَذَرُ مُوسى‏ وَ قَوْمَهُ إلى آخر الآية.

هذا إغراء منهم لفرعون و تحريض له أن يقتل موسى و قومه، و لذلك رد فرعون قولهم بأنه لا يهمنا قتلهم فإنا فوقهم قاهرون على أي حال بل سنعيد عليهم سابق عذابنا فنقتل أبناءهم و نستحيي نساءهم، و لو كان ما سألوا مطلق تعذيبهم غير القتل لم يقع قوله: ﴿وَ إِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ موقعه ذلك الوقوع.

و قولهم: ﴿وَ يَذَرَكَ وَ آلِهَتَكَ تأكيد لتحريضهم إياه على قتلهم، و المعنى أن موسى يتركك و آلهتك فلا يعبدكم مع ما يفسد هو و قومه في الأرض، و فيه دلالة على أن فرعون كما كان يدعي الألوهية، و يستعبد الناس لنفسه كان يعبد آلهة أخرى، و هو كذلك و التاريخ يثبت نظائر لذلك في الأمم السالفة، و قد نقل: أن عظماء البيوت و سادات القوم في الروم و ممالك أخرى غيرها كان يعبدهم مرءوسوهم من بيتهم و عشائرهم و هم أنفسهم كانوا يعبدون آباءهم الأولين و أصناما أخرى غيرهم كما يعبدهم ضعفاؤهم، و أيضا بين الأرباب التي تعبدها الوثنية ما هو رب لغيره من الأرباب أو رب لرب آخر كربوبية الأب و الأم للابن و غير ذلك.

إلا أن قوله لقومه فيما حكاه الله سبحانه: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ اَلْأَعْلى‏َ: النازعات: ٢٤، و قوله: ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي: القصص: ٣٨، ظاهر في أنه كان لا يتخذ لنفسه

 

 

 ربا، و كان يأمر قومه أن لا يعبدوا إلا إياه، و لذلك قال بعضهم: إنه كان دهريا لا يعترف بصانع، و يأمر قومه بترك عبادة الآلهة مطلقا، و قصر العبادة فيه، و لذلك قرأ بعضهم على ما قيل «و إلهتك» بكسر الهمزة و فتح اللام و إثبات الألف بعدها كالعبادة وزنا و معنى.

لكن الأوجه أنه كان يريد بقوله: ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي نفي إله يخص قومه القبطيين يملكهم و يدبر أمورهم غير نفسه كما هو المعهود من عقائد الوثنيين أن لكل صنف من أصناف الخلائق كالسماء و الأرض و البر و البحر و قوم كذا، أو من أصناف الحوادث و الأمور كالسلم و الحرب و الحب و الجمال ربا على حدة، و إنما كانوا يعبدون من بينها ما يهمهم عبادته كعبادته سكان سواحل البحار رب البحر و الطوفان.

فمعنى كلامه أني أنا ربكم معاشر القبطيين لا ما اتخذه موسى و هو يدعي أنه ربكم أرسله إليكم، و يؤيد ما ذكرناه ما احتف به من القرينة بقوله: ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي، فإنه تعالى يقول: ﴿وَ قَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا اَلْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى اَلطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى‏َ إِلَهِ مُوسى‏َ وَ إِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ اَلْكَاذِبِينَ: القصص: ٣٨، فظاهرها أنه كان يشك في كونه إلها لموسى، و أن معنى قوله: ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي نفي العلم بوجود إله غيره لا العلم بعدم وجود إله غيره، و بالجملة فكلامه لا ينفي إلها غيره.

و أما احتمال كون فرعون دهريا غير قائل بوجود الصانع فالظاهر أنه الذي يوجد في كلام الرازي قال في التفسير الكبير، ما لفظه:

الذي يخطر ببالي أن فرعون إن قلنا: إنه ما كان كامل العقل لم يجز في حكمة الله تعالى إرسال الرسول إليه، و إن كان عاقلا لم يجز أن يعتقد في نفسه كونه خالق السماوات و الأرض، و لم يجز في الجمع العظيم من العقلاء أن يعتقدوا فيه ذلك لأن فساده معلوم بضرورة العقل.

بل الأقرب أن يقال: إنه كان دهريا ينكر وجود الصانع، و كان يقول: مدبر هذا العالم السفلى هو الكواكب، و أما المجدي في هذا العالم للخلق و لتلك الطائفة و المربي لهم فهو نفسه فقوله: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ اَلْأَعْلى‏َ أي مربيكم و المنعم عليكم و المطعم لكم،

 

 

 و قوله: ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي أي لا أعلم لكم أحدا يجب عليكم عبادته إلا أنا.

و إذا كان مذهبه ذلك لم يبعد أن يقال: إنه كان قد اتخذ أصناما على صور الكواكب و يعبدها و يتقرب إليها على ما هو دين عبدة الكواكب، و على هذا التقدير فلا امتناع في حمل قوله تعالى: ﴿وَ يَذَرَكَ وَ آلِهَتَكَ على ظاهره فهذا ما عندي في هذا الباب انتهى.

و قد أخطأ في ذلك فليس معنى الألوهية و الربوبية عند الوثنيين و عبدة الكواكب خالقية السماوات و الأرض بل تدبير شي‏ء من أمور العالم كما احتمله أخيرا، و لا في الدهريين من يعبد الكواكب، و لا في الصابئين و عبدة الكواكب من ينكر وجود الصانع.

بل الحق أن فرعون كما تقدم كان يرى نفسه ربا لمصر و أهله، و كان إنما ينكر كونهم مربوبي إله آخر على قاعدتهم لا أنهم أو غيرهم من العالم ليسوا مخلوقين لله سبحانه.

و قوله تعالى: ﴿قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَ نَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَ إِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ وعد منه للملإ من قومه أن يعيد إلى بني إسرائيل تعذيبه السابق و هو قتل أبنائهم و استحياء نسائهم و استبقاؤهن للخدمة، و عقبه بقوله: ﴿وَ إِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ و هو تطييب قلوبهم و إسكان ما في نفوسهم من الاضطراب و الطيش.

قوله تعالى: ﴿قَالَ مُوسى‏َ لِقَوْمِهِ اِسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَ اِصْبِرُوا إلى آخر الآية. و هذا من موسى (عليه السلام) بعث لبني إسرائيل و استنهاض لهم على الاستعانة بالله على مقصدهم و هو التخلص من إسارة آل فرعون و استعبادهم ثم بعث على الصبر على شدائد يهددهم بها فرعون من ألوان العذاب، و الصبر هو رائد الخير و فرط كل فرج، ثم علل ذلك بقوله: ﴿إِنَّ اَلْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ.

و محصله أن فرعون لا يملك الأرض حتى يمنحها من يشاء، و يمنع من التمتع بها من يشاء بل هي لله يورثها من يشاء، و قد جرت السنة الإلهية أن يخص بحسن العاقبة من يتقيه من عباده فإن استعنتم بالله و صبرتم في ذات الله على ما يهددكم من الشدائد و هو التقوى أورثكم الأرض التي ترونها في أيدي آل فرعون.

و لذلك عقب قوله: ﴿إِنَّ اَلْأَرْضَ لِلَّهِ الآية بقوله: ﴿وَ اَلْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ العاقبة ما يعقب الشي‏ء كالبادئة لما يبدأ بالشي‏ء، و كون العاقبة مطلقا للمتقين من جهة أن السنة

 

 

الإلهية تقضي بذلك و ذلك أنه تعالى نظم الكون نظما يؤدي كل نوع إلى غاية وجوده و سعادته التي خلق لأجلها فإن جرى على صراطه الذي ركب عليه، و لم يخرج عن خط مسيره الذي خط له بلغ غاية سعادته لا محالة، و الإنسان الذي هو أحد هذه الأنواع أيضا حاله هذا الحال إن جرى على صراطه الذي رسمته له الفطرة و اتقى الخروج عنه و التعدي منه إلى غير سبيل الله بالكفر بآياته و الإفساد في أرضه هداه الله إلى عاقبته الحسنة، و أحياه الحياة الطيبة، و أرشده إلى كل خير يبتغيه.

قوله تعالى: ﴿قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَ مِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا الإتيان و المجي‏ء في الآية بمعنى واحد، و الاختلاف في التعبير للتفنن، و ما قيل إن المعنى من قبل أن تأتينا بالآيات و من بعد ما جئتنا لا دليل على ما فيه من التقدير. على أن غرضهم إظهار أن مجي‏ء موسى و قد وعدوا أن الله ينجيهم بيده من مصيبة الإسارة و هاوية المذلة لم يؤثر أثره فإن الأذى الذي كانوا يحملونه و يؤذون به على حاله، و لا تعلق لغرضهم بأنه أتاهم بالآيات البتة. و هذا الكلام شكوى منهم يبثونها إلى موسى (عليه السلام).

قوله تعالى: ﴿قَالَ عَسى‏َ رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَ يَسْتَخْلِفَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ و هذا جواب من موسى عن قولهم: ﴿أُوذِينَا إلخ، يسليهم به و يعزيهم بالرجاء، و هو في الحقيقة تكرار لقوله السابق: ﴿اِسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَ اِصْبِرُوا إِنَّ اَلْأَرْضَ لِلَّهِ الآية. كأنه يقول: ما أمرتكم به أن اتقوا الله في سبيل مقصدكم كلمة حية ثابتة فإن عملتم بها كان من المرجو أن يهلك الله عدوكم، و يستخلفكم في الأرض بإيراثكم إياها و لا يصطفيكم بالاستخلاف اصطفاء جزافا، و لا يكرمكم إكراما مطلقا من غير شرط و لا قيد بل ليمتحنكم بهذا الملك و يبتليكم بهذا التسليط و الاستخلاف فينظر كيف تعملون، قال تعالى: ﴿وَ تِلْكَ اَلْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ اَلنَّاسِ وَ لِيَعْلَمَ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ يَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ: آل عمران: ١٤٠.

و هذا مما يخطئ به القرآن ما يعتقده اليهود من كرامتهم على الله كرامة لا تقبل عزلا، و لا تحتمل شرطا و لا قيدا، و التوراة تعد شعب إسرائيل شعب الله الذي لهم الأرض المقدسة كأنهم ملكوها من الله سبحانه ملكا لا يقبل نقلا و لا إقالة.

 

 

 قوله تعالى: ﴿وَ لَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَ نَقْصٍ مِنَ اَلثَّمَرَاتِ

 السنون‏

 جمع سنة و هي القحط و الجدب، و كان أصله سنة القحط ثم قيل: السنة إشارة إليها ثم كثر الاستعمال حتى تعينت السنة لمعنى القحط و الجدب.

و الله سبحانه يذكر في الآية - و يقسم - أنه أخذ آل فرعون و هم قومه المختصون به من القبطيين بالقحوط المتعددة و نقص من الثمرات لعلهم يذكرون.

و هما نوعان من الآيات التي أرسلها الله إلى آل فرعون، و ظاهر السياق أنه أرسل ما أرسل منهما فصلا فصلا، و لذا جمع السنين و لا يصدق الجمع إلا مع الفصل بين سنة و سنة. على أنه يقول: ﴿فَإِذَا جَاءَتْهُمُ اَلْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ الآية. و ظاهره الحسنة التي بعد السيئة ثم السيئة التي بعد هذه الحسنة.

قوله تعالى: ﴿فَإِذَا جَاءَتْهُمُ اَلْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ إلى آخر الآية. كانوا إذا جاءهم الخصب و وفور النعمة و سعة الرزق بعد ارتفاع السنة و نقص الثمرات قالوا: ﴿لَنَا هَذِهِ يريدون به الاختصاص و إنما قلنا: إنهم كانوا يقولون ذلك بعد ارتفاع السنة و نقص الثمرات لأن الإنسان بحسب الطبع لا ينتقل إلى ذكر النعمة بما هي نعمة، و لا يتنبه لقدرها إلا بعد مشاهدة النقمة التي هي خلافها، و لا داعي يدعو آل فرعون إلى ذكر النعمة الحسنة و تخصيصها بأنفسهم لو لا أنهم رأوا خلافها و عدوه أمرا بدعا لم يكونوا رأوه قبل ذلك فاطيروا بموسى و من معه ثم إذا بدلت السيئة حسنة عدوها لأنفسهم فالتطير عند السيئة بحسب الوقوع قبل قولهم في الحسنة: لنا هذه و إن كان الأمر بحسب الطبع على خلاف ذلك بمعنى أنهم لو لم يزعموا و لم يرتكز في نفوسهم من اعتيادهم بالرفاهية و وفور النعمة و الخصب أنهم مخصوصون بذلك يملكونه لم يتطيروا بموسى عند نزول المصيبة عليهم فإن من لم تروحه الراحة و العافية لا يتحرج عن خلافهما.

و لعل هذا هو الوجه في تقديمه تعالى اغترارهم بالنعمة قبل تطيرهم عند النقمة ثم ذكر الحسنة بكلمة ﴿فَإِذَا و السيئة بلفظة ﴿إِنْ حيث قال: ﴿فَإِذَا جَاءَتْهُمُ اَلْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى‏َ وَ مَنْ مَعَهُ فقد جعل مجي‏ء الحسنة كالأصل الثابت فذكره بإذا و التعريف بلام الجنس، ثم ذكر إصابة السيئة بطريق الشرط، و نكر السيئة ليدل على ندرتها و كونها اتفاقية.

 

 

 و

 التطير

 مشتق من الطير باعتبار اشتماله على نسبة من النسب، و هي نسبة التشؤم فإنهم كانوا يتشأمون ببعض الطيور كالغراب فاشتق منه ما يفيد معنى التشؤم و هو التطير و معناه التشؤم بالطير حتى سمي مطلق النصيب أو النصيب من الشر و الشأمة طائرا.

فقوله تعالى: ﴿أَلاَ إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اَللَّهِ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ معناه أن نصيبهم من الشر و الشؤم الذي يحق به أن يسمى نصيب الشر و هو العذاب، هو عند الله، و لكن أكثرهم لا يعلمون لظنهم أن ما تجنيه أيديهم يفوت و يزول و لا يحفظ عليهم.

و ربما يذكر للطائر في الآية معان أخر ككتاب الأعمال الذي سماه الله طائرا و غير ذلك لكن الأنسب بالسياق هو الذي تقدم.

قوله تعالى: ﴿وَ قَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ مهما من أسماء الشرط معناه أي شي‏ء، و قولهم هذا إياس منهم لموسى من أن يؤمنوا به و إن أتى بأي آية و في قولهم: ﴿مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا استهزاء به حيث سموها آية و جعلوا غرضه منها أن يسحرهم أي إنك تأتينا بالسحر و تسميها آية.

قوله تعالى: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ اَلطُّوفَانَ وَ اَلْجَرَادَ وَ اَلْقُمَّلَ وَ اَلضَّفَادِعَ وَ اَلدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاَتٍ الآية. الطوفان‏ على ما قاله الراغب كل حادثة تحيط بالإنسان، و صار متعارفا في الماء المتناهي في الكثرة، و في المجمع،: أنه السيل الذي يعم بتغريقه الأرض و هو مأخوذ من الطوف فيها (انتهى).

و

 القمل‏

بالضم و التشديد قيل: كبار القردان، و قيل: صغار الذباب و بالفتح فالسكون معروف، و الجراد و الضفادع و الدم معروفة.

و التفصيل تفريق الشي‏ء إلى أجزاء مفصولة منفصلة بعضها عن بعض، و لازم ذلك تميز كل بعض و ظهوره في نفسه فقوله: ﴿آيَاتٍ مُفَصَّلاَتٍ يدل على أنها أرسلت إليهم لا مجتمعة و دفعة بل متفرقة منفصلة بعضها عن بعض ظاهرة في أنها آيات إلهية مقصودة غير اتفاقية و لا جزافية.

و من الدليل على كون المفصلات بهذا المعنى قوله في الآية التالية: ﴿وَ لَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ اَلرِّجْزُ قَالُوا الآية. الظاهر أن الآية كانت تأتيهم عن إخبار من موسى و إنذار ثم إذا نزلت بهم و دهمتهم التجئوا إليه فسألوه أن يدعو لهم لتنكشف عنهم، و أعطوه

 

 

 عهدا إن كشفت عنهم آمنوا به و أرسلوا معه بني إسرائيل فلما كشفت نكثوا و نقضوا و على هذا القياس.

قوله تعالى: ﴿وَ لَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ اَلرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى اُدْعُ لَنَا رَبَّكَ إلى آخر الآية. الرجز هو العذاب و يعني به العذاب الذي كانت تشتمل عليه كل واحدة من الآيات المفصلات فإنها آيات عذاب و نكال و قوله: ﴿بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ على ما يؤيده المقام أي بما التزم عندك أن لا يرد دعاءك فيما تسأله، و اللام عندئذ للقسم، و المعنى ادع لنا ربك بالعهد الذي له عندك.

و قوله: ﴿لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا اَلرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَ لَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ هو ما عاهدوا به موسى لكشف الرجز عنهم.

قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ اَلرِّجْزَ إِلى‏َ أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ النكث‏ نقض العهد، و قوله: ﴿إِلى‏َ أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ متعلق بقوله: ﴿كَشَفْنَا و هو يدل على أنه كان يضم إلى معاهدة أجل مضروب كأن يقول موسى (عليه السلام) إن الله سيرفع العذاب عنكم بشرط أن تؤمنوا و ترسلوا معي بني إسرائيل إلى أجل كذا، أو يقول آل فرعون ما يشابه هذا المعنى فلما كشف العذاب عنهم و حل الأجل المضروب نكثوا و نقضوا عهدهم الذي عاهدوا الله و عاهدوا موسى عليه. و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ﴿فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي اَلْيَمِّ

 اليم‏

 البحر، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ﴿وَ أَوْرَثْنَا اَلْقَوْمَ اَلَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ اَلْأَرْضِ وَ مَغَارِبَهَا إلى آخر الآية. الظاهر أن المراد بالأرض أرض الشام و فلسطين و يؤيده أو يدل عليه قوله بعد: ﴿اَلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا فإن الله سبحانه لم يذكر بالبركة غير الأرض المقدسة التي هي نواحي فلسطين إلا ما وصف به الكعبة المباركة، و المعنى: أورثنا بني إسرائيل و هم المستضعفون الأرض المقدسة بمشارقها و مغاربها، و إنما ذكرهم بوصفهم فقال:

القوم الذين كانوا يستضعفون ليدل على عجيب صنعه تعالى في رفع الوضيع، و تقوية المستضعف، و تمليكه من الأرض ما لا يقدر على مثله عادة إلا كل قوي ذو أعضاد و أنصار.

و قوله: ﴿وَ تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ اَلْحُسْنى‏َ الآية يريد به ما قضاه في حقهم أنه سيورثهم الأرض و يهلك عدوهم، و إليه إشارة موسى (عليه السلام) في قوله لهم و هو يسليهم

 

 

 و يؤكد رجاءهم: ﴿عَسى‏َ رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَ يَسْتَخْلِفَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ و يشير سبحانه إليه في قوله: ﴿وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى اَلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا فِي اَلْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ اَلْوَارِثِينَ: القصص: ٥، و تمام الكلمة خروجها من مرحلة القوة إلى مرحلة الفعلية، و علل ذلك بصبرهم.

و قوله: ﴿وَ دَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَ قَوْمُهُ الآية. أي أهلكنا ما كانوا يصنعونه و ما كانوا يسقفونه من القصور و الأبنية و ما كانوا يعرشونه من الكرم و غيره.

بحث روائي‏

 في المجمع،: قال ابن عباس و سعيد بن جبير و قتادة و محمد بن إسحاق بن بشار، و رواه علي بن إبراهيم بإسناده عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) دخل حديث بعضهم في بعض قالوا : لما آمنت السحرة و رجع فرعون مغلوبا و أبى هو و قومه إلا الإقامة على الكفر قال هامان لفرعون: إن الناس قد آمنوا بموسى فانظر من دخل في دينه فاحبسه فحبس كل من آمن به من بني إسرائيل فتابع الله عليهم بالآيات، و أخذهم بالسنين و نقص من الثمرات.

ثم بعث عليهم الطوفان فخرب دورهم و مساكنهم حتى خرجوا إلى البرية و ضربوا الخيام، و امتلأت بيوت القبط ماء، و لم يدخل بيوت بني إسرائيل من الماء قطرة، و أقام على وجه أرضيهم لا يقدرون على أن يحرثوا فقالوا لموسى: ادع لنا ربك أن يكشف عنا المطر فنؤمن لك و نرسل معك بني إسرائيل فدعا ربه فكشف عنهم الطوفان فلم يؤمنوا و قال هامان لفرعون: لئن خليت بني إسرائيل غلبك موسى و أزال ملكك و أنبت الله لهم في تلك السنة من الكلإ و الزرع و الثمر ما أعشبت به بلادهم و أخصبت فقالوا: ما كان هذا الماء إلا نعمة علينا و خصبا.

فأنزل الله عليهم في السنة الثانية عن علي بن إبراهيم و في الشهر الثاني عن غيره من المفسرين الجراد فجردت زروعهم و أشجارهم حتى كانت تجرد شعورهم و لحاهم، و تأكل الأثواب و الثياب و الأمتعة، و كانت لا تدخل بيوت بني إسرائيل - و لا يصيبهم من ذلك شي‏ء فعجوا و ضجوا و جزع فرعون من ذلك جزعا شديدا، و قال:

 

 

يا موسى ادع لنا ربك أن يكشف عنا الجراد حتى أخلي عن بني إسرائيل فدعا موسى ربه فكشف عنه الجراد بعد ما أقام عليهم سبعة أيام من السبت إلى السبت.

و قيل: إن موسى برز إلى الفضاء فأشار بعصاه نحو المشرق و المغرب فرجعت الجراد من حيث جاءت حتى كأن لم تكن قط، و لم يدع هامان فرعون أن يخلي عن بني إسرائيل.

فأنزل الله عليهم في السنة الثالثة في رواية علي بن إبراهيم و في الشهر الثالث عن غيره من المفسرين القمل و هو الجراد الصغار الذي لا أجنحة له، و هو شر ما يكون و أخبثه فأتى على زروعهم كلها و اجتثها من أصلها فذهبت زروعهم، و لحس الأرض كلها.

و قيل: أمر موسى أن يمشي إلى كثيب أعفر بقرية من قرى مصر تدعى عين الشمس فأتاه فضربه بعصاه فانثال عليهم قملا فكان يدخل بين ثوب أحدهم فيعضه، و كان يأكل أحدهم الطعام فيمتلئ قملا قال سعيد بن جبير: القمل السوس الذي يخرج من الحبوب فكان الرجل يخرج عشرة أجربة إلى الرحى فلم يرد منها ثلاثة أقفزة فلم يصابوا ببلاء كان أشد عليهم من القمل، و أخذت أشعارهم و أبصارهم و أشفار عيونهم و حواجبهم، و لزمت جلودهم كأنها الجدري عليهم، و منعتهم النوم و القرار فصرخوا و صاحوا و قال فرعون لموسى: ادع لنا ربك لئن كشفت عنا القمل لأكفن عن بني إسرائيل فدعا موسى حتى ذهب القمل بعد ما أقام عندهم سبعة أيام من السبت إلى السبت فنكثوا.

فأنزل الله عليهم في السنة الرابعة و قيل: في الشهر الرابع الضفادع فكانت تكون في طعامهم و شرابهم، و امتلأت منها بيوتهم و أبنيتهم فلا يكشف أحد ثوبا و لا إناء و لا طعاما و لا شرابا إلا وجد فيه ضفادع. و كانت تثب في قدورهم فتفسد عليهم ما فيها، و كان الرجل يجلس إلى ذقنه في الضفادع، و يهم أن يتكلم فيثب الضفدع في فيه، و يفتح فاه لأكلته فيسبق الضفدع أكلته إلى فيه فلقوا منها أذى شديدا فلما رأوا ذلك بكوا و شكوا ذلك إلى موسى و قالوا: هذه المرة نتوب و لا نعود فادع الله أن يذهب عنا الضفادع فإنا نؤمن بك و نرسل معك بني إسرائيل فأخذ عهودهم و مواثيقهم ثم دعا ربه فكشف عنهم الضفادع بعد ما أقام عليهم سبعا من السبت إلى السبت ثم

 

 

 نقضوا العهد و عادوا لكفرهم.

فلما كانت السنة الخامسة أرسل الله عليهم الدم فسال ماء النيل عليهم دما فكان القبطي يراه دما، و الإسرائيلي يراه ماء فإذا شربه الإسرائيلي كان ماء، و إذا شربه القبطي كان دما، و كان القبطي يقول للإسرائيلي: خذ الماء في فيك و صبه في في فكان إذا صبه في فم القبطي يحول دما، و إن فرعون اعتراه العطش حتى إنه ليضطر إلى مضغ الأشجار الرطبة فإذا مضغها يصير ماؤه في فيه دما فمكثوا في ذلك سبعة أيام لا يأكلون إلا الدم، و لا يشربون إلا الدم. قال زيد بن أسلم الدم الذي سلط عليهم كان الرعاف فأتوا موسى فقالوا: ادع لنا ربك يكشف عنا هذا الدم فنؤمن لك و نرسل معك بني إسرائيل فلما دفع الله عنهم الدم لم يؤمنوا و لم يخلوا عن بني إسرائيل. في تفسير العياشي، عن محمد بن قيس عن أبي عبد الله (عليه السلام) ﴿لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا اَلرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ، قال: الرجز

هو الثلج ثم قال: بلاد خراسان بلاد رجز.

أقول: و الرواية لا تنطبق على الآية ذاك الانطباق.

 [سورة الأعراف (٧): الآیات ١٣٨ الی ١٥٤]

﴿وَ جَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ اَلْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى‏ قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى‏ أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اِجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ١٣٨ إِنَّ هَؤُلاَءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَ بَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ١٣٩ قَالَ أَ غَيْرَ اَللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهاً وَ هُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى اَلْعَالَمِينَ ١٤٠ وَ إِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ اَلْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَ فِي ذَلِكُمْ بَلاَءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ١٤١ وَ وَاعَدْنَا مُوسى‏ ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَ أَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَ قَالَ مُوسى‏ لِأَخِيهِ هَارُونَ اُخْلُفْنِي فِي 

 

 

قَوْمِي وَ أَصْلِحْ وَ لاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ اَلْمُفْسِدِينَ ١٤٢ وَ لَمَّا جَاءَ مُوسى‏َ لِمِيقَاتِنَا وَ كَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَ لَكِنِ اُنْظُرْ إِلَى اَلْجَبَلِ فَإِنِ اِسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَ خَرَّ مُوسى‏ صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَ أَنَا أَوَّلُ اَلْمُؤْمِنِينَ ١٤٣ قَالَ يَا مُوسى‏ إِنِّي اِصْطَفَيْتُكَ عَلَى اَلنَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَ بِكَلاَمِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَ كُنْ مِنَ اَلشَّاكِرِينَ ١٤٤ وَ كَتَبْنَا لَهُ فِي اَلْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ مَوْعِظَةً وَ تَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَ أْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ اَلْفَاسِقِينَ ١٤٥ سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ اَلَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي اَلْأَرْضِ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ وَ إِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَ يُؤْمِنُوا بِهَا وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ اَلرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ اَلغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَ كَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ١٤٦ وَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَ لِقَاءِ اَلْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ١٤٧ وَ اِتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى‏ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ أَ لَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَ لاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اِتَّخَذُوهُ وَ كَانُوا ظَالِمِينَ ١٤٨ وَ لَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَ رَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَ يَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ اَلْخَاسِرِينَ ١٤٩ وَ لَمَّا رَجَعَ مُوسى‏ إِلى‏ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَ عَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَ أَلْقَى اَلْأَلْوَاحَ وَ أَخَذَ 

 

 

[1]   رواه في الدر المنثور عن ابن مردويه و اللالكائي في السنة عنها.

[2]   متفرد خ ل.




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 22215354

  • التاريخ : 3/02/2025 - 20:03

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net