(كلام في معنى قيمومة الرجال على النساء)
تقوية القرآن الكريم لجانب العقل الانساني السليم وترجيحه إياه على الهوى واتباع الشهوات والخضوع لحكم العواطف والاحساسات الحادة وحضه وترغيبه في اتباعه وتوصيته في حفظ هذه الوديعة الالهية عن الضيعة مما لا ستر عليه ولا حاجة إلى إيراد دليل كتابي يؤدي إليه فقد تضمن القرآن آيات كثيرة متكثرة في الدلالة على ذلك تصريحا وتلويحا وبكل لسان وبيان. ولم يهمل القرآن مع ذلك أمر العواطف الحسنة الطاهرة ومهام آثارها الجميلة التي يتربى بها الفرد ويقوم بها صلب المجتمع كقوله أشداء على الكفار رحماء بينهم الفتح - 29 وقوله لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة: الروم - 21 وقوله قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق: الاعراف - 32 لكنه عدلها بالموافقة لحكم العقل فصار اتباع حكم هذه العواطف والميول اتباعا لحكم العقل. وقد مر في بعض المباحث السابقة أن من حفظ الاسلام لجانب العقل وبنائه أحكامه المشرعة على ذلك أن جميع الاعمال والاحوال والاخلاق التي تبطل استقامة العقل في حكمه وتوجب خبطه في قضائه وتقويمه لشؤون المجتمع كشرب الخمر والقمار وأقسام المعاملات الغررية والكذب والبهتان والافتراء والغيبة كل ذلك محرمة في الدين.
[ 347 ]
والباحث المتأمل يحدس من هذا المقدار أن من الواجب أن يفوض زمام الامور الكلية والجهات العامة الاجتماعية التي ينبغي أن تدبرها قوة التعقل ويجتنب فيها من حكومة العواطف والميول النفسانية كجهات الحكومة والقضاء والحرب إلى من يمتاز بمزيد العقل ويضعف فيه حكم العواطف وهو قبيل الرجال دون النساء. وهو كذلك قال الله تعالى الرجال قوامون على النساء والسنة النبوية التي هي ترجمان البيانات القرآنية بينت ذلك كذلك وسيرته صلى الله عليه وآله وسلم جرت على ذلك أيام حياته فلم يول امرأة على قوم ولا أعطى امرأة منصب القضاء ولا دعاهن إلى غزاة بمعنى دعوتهن إلى أن يقاتلن. وأما غيرها من الجهات كجهات التعليم والتعلم والمكاسب والتمريض والعلاج وغيرها مما لا ينافي نجاح العمل فيها مداخلة العواطف فلم تمنعهن السنة ذلك والسيرة النبوية تمضى كثيرا منها والكتاب أيضا لا يخلو من دلالة على إجازة ذلك في حقهن فإن ذلك لازم ما اعطين من حرية الارادة والعمل في كثير من شؤون الحياة إذ لا معنى لاخراجهن من تحت ولاية الرجال وجعل الملك لهن بحيالهن ثم النهي عن قيامهن بإصلاح ما ملكته إيديهن بأي نحو من الاصلاح وكذا لا معنى لجعل حق الدعوى أو الشهادة لهن ثم المنع عن حضورهن عند الوالي أو القاضي وهكذا. اللهم إلا فيما يزاحم حق الزوج فإن له عليها قيمومة الطاعة في الحضور والحفظ في الغيبة ولا يمضى لها من شؤونها الجائزة ما يزاحم ذلك.
(بحث روائي)
في المجمع: في قوله تعالى ولا تتمنوا ما فضل الله الآية - أي لا يقل أحدكم - ليت ما اعطي فلان من النعمة والمرأة الحسنى كان لي فإن ذلك يكون حسدا ولكن يجوز أن يقول اللهم أعطني مثله قال: وهو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام. أقول وروى العياشي في تفسيره عن الصادق عليه السلام مثله. في تفسير البرهان عن ابن شهر آشوب عن الباقر والصادق عليهما السلام في قوله تعالى ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء من عباده وفي قوله ولا تتمنوا ما فضل الله به
[ 348 ]
بعضكم على بعض أنهما نزلتا في علي عليه السلام. أقول والرواية من باب الجري والتطبيق. وفي الكافي وتفسير القمي عن إبراهيم بن أبي البلاد عن أبيه عن أبي جعفر عليه السلام قال: ليس من نفس إلا وقد فرض الله لها رزقها حلالا يأتيها في عافية وعرض لها بالحرام من وجه آخر فإن هي تناولت شيئا من الحرام - قاصها به من الحلال الذي فرض لها وعند الله سواهما فضل كثير وهو قول الله عز وجل واسألوا الله من فضله. أقول ورواه العياشي عن إسماعيل بن كثير رفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وروى هذا المعنى أيضا عن أبي الهذيل عن الصادق عليه السلام وروى قريبا منه أيضا القمي في تفسيره عن الحسين بن مسلم عن الباقر عليه السلام. وقد تقدم كلام في حقيقة الرزق وفرضه وانقسامه إلى الرزق الحلال والحرام في ذيل قوله والله يرزق من يشاء بغير حساب: البقرة - 212 في الجزء الثاني فراجعه. وفي صحيح الترمذي عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سلوا الله من فضله فإن الله يحب أن يسأل. وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير من طريق حكيم بن جبير عن رجل لم يسمه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سلوا الله من فضله فإن الله يحب أن يسأل وإن من أفضل العبادة انتظار الفرج. وفي التهذيب بإسناده عن زرارة قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والاقربون - قال عنى بذلك اولى الارحام في المواريث ولم يعن أولياء النعمة فأولاهم بالميت أقربهم إليه من الرحم التي تجره إليها. وفيه أيضا بإسناده عن إبراهيم بن محرز قال: سأل أبا جعفر عليه السلام رجل وأنا عنده قال - فقال رجل لامرأته أمرك بيدك - قال أنى يكون هذا والله يقول - الرجال قوامون على النساء ليس هذا بشئ وفي الدر المنثور أخرج ابن أبى حاتم من طريق أشعث بن عبد الملك عن الحسن قال: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تستعدى على زوجها أنه لطمها - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
[ 349 ]
القصاص - فأنزل الله الرجال قوامون على النساء الآية - فرجعت بغير قصاص: أقول ورواه بطرق اخرى عنه صلى الله عليه وآله وسلم وفي بعضها قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أردت أمرا وأراد الله غيره ولعل المورد كان من موارد النشوز وإلا فذيل الآية فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا ينفى ذلك. وفي ظاهر الروايات إشكال آخر من حيث إن ظاهرها أن قوله صلى الله عليه وآله وسلم القصاص بيان للحكم عن استفتاء من السائل لا قضاء فيما لم يحضر طرفا الدعوى ولازمه أن يكون نزول الآية تخطئة للنبى صلى الله عليه وآله وسلم في حكمه وتشريعه وهو ينافي عصمته وليس بنسخ فإنه رفع حكم قبل العمل به والله سبحانه وإن تصرف في بعض أحكام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وضعا أو رفعا لكن ذلك إنما هو في حكمه ورأيه في موارد ولايته لا في حكمه فيما شرعه لامته فإن ذلك تخطئة باطلة. وفي تفسير القمى في رواية أبى الجارود عن أبى جعفر عليه السلام: في قوله قانتات يقول مطيعات وفي المجمع: في قوله تعالى فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن الآية: عن أبى جعفر عليه السلام قال: يحول ظهره إليها وفي معنى الضرب عن أبى جعفر عليه السلام: أنه الضرب بالسواك وفي الكافي بإسناده عن أبى بصير عن أبى عبد الله عليه السلام: في قوله فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها - قال الحكمان يشترطان إن شاءا فرقا - وإن شاءا جمعا فإن فرقا فجائز - وإن جمعا فجائز أقول وروى هذا المعنى وما يقرب منه بعدة طرق اخر فيه وفي تفسير العياشي. وفي تفسير العياشي عن ابن مسلم عن أبى جعفر عليه السلام قال: قضى أمير المؤمنين عليه السلام في امرأة تزوجها رجل - وشرط عليها وعلى أهلها ان تزوج عليها امرأة - وهجرها أو أتى عليها سرية فإنها طالق - فقال شرط الله قبل شرطكم إن شاء وفى بشرطه - وإن شاء أمسك امرأته ونكح عليها - وتسرى عليها وهجرها إن أتت سبيل ذلك - قال الله في كتابه - فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع - وقال احل لكم مما ملكت أيمانكم - وقال واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن - واهجروهن في المضاجع
[ 350 ]
واضربوهن - فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا وفي الدر المنثور أخرج البيهقى عن أسماء بنت يزيد الانصارية: أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم وهو بين أصحابه - فقالت بأبى أنت وامى إنى وافدة النساء اليك - واعلم نفسي لك الفداء - أنه ما من امرأة كائنة في شرق ولا غرب - سمعت بمخرجي هذا إلا وهى على مثل رأيى - إن الله بعثك بالحق إلى الرجال والنساء - فآمنا بك وبإلهك الذى أرسلك - وإنا معشر النساء محصورات مقسورات - قواعد بيوتكم ومقضى شهواتكم - وحاملات أولادكم - وإنكم معاشر الرجال فضلتم علينا بالجمعة والجماعات - وعيادة المرضى وشهود الجنائز - والحج بعد الحج وأفضل من ذلك الجهاد في سبيل الله - وإن الرجل منكم إذا خرج حاجا أو معتمرا - أو مرابطا حفظنا لكم أموالكم - وغزلنا لكم أثوابكم وربينا لكم أموالكم (1) - فما نشارككم في الاجر يا رسول الله - فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه بوجهه كله - ثم قال هل سمعتم مقالة امرأة قط - أحسن من مساءلتها في أمر دينها من هذه - فقالوا يا رسول الله ما ظننا أن امرأة تهتدى إلى مثل هذا - فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إليها - ثم قال لها انصرفي أيتها المرأة - وأعلمى من خلفك من النساء - أن حسن تبعل إحداكن لزوجها وطلبها مرضاته - واتباعها موافقته يعدل ذلك كله - فأدبرت المرأة وهى تهلل وتكبر استبشارا اقول والروايات في هذا المعنى كثيرة مروية في جوامع الحديث من طرق الشيعة وأهل السنة ومن أجمل ما روى فيه ما رواه في الكافي عن أبى إبراهيم موسى بن جعفر عليهما السلام: جهاد المرأة حسن التبعل ومن أجمع الكلمات لهذا المعنى مع اشتماله على اس ما بنى عليه التشريع ما في نهج البلاغة ورواه أيضا في الكافي بإسناده عن عبد الله ابن كثير عن الصادق عليه السلام عن علي عليه أفضل السلام وبإسناده أيضا عن الاصبغ ابن نباتة عنه عليه السلام في رسالته إلى ابنه: أن المرأة ريحانة وليست بقهرمانة وما روى في ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنما المرأة لعبة من اتخذها فلا يضيعها - وقد كان يتعجب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - كيف تعانق المرأة بيد ضربت بها ففي الكافي أيضا بإسناده عن أبى مريم عن أبى جعفر عليه السلام قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أيضرب
_________________________________
(1) اولادكم ظ
[ 351 ]
أحدكم المرأة ثم يظل معانقها وأمثال هذه البيانات كثيرة في الاحاديث ومن التأمل فيها يظهر رأي الاسلام فيها. ولنرجع إلى ما كنا فيه من حديث أسماء بنت يزيد الانصارية فنقول يظهر من التأمل فيه وفي نظائره الحاكية عن دخول النساء على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتكليمهن إياه فيما يرجع إلى شرائع الدين ومختلف ما قرره الاسلام في حقهن أنهن على احتجابهن واختصاصهن بالامور المنزلية من شؤون الحياة غالبا لم يكن ممنوعات من المراودة إلى ولي الامر والسعى في حل ما ربما كان يشكل عليهن وهذه حرية الاعتقاد التى باحثنا فيها في ضمن الكلام في المرابطة الاسلامية في آخر سورة آل عمران. ويستفاد منه ومن نظائره أيضا أولا أن الطريقة المرضية في حياة المرأة في الاسلام أن تشتغل بتدبير امور المنزل الداخلية وتربية الاولاد وهذه وإن كانت سنة مسنونة غير مفروضة لكن الترغيب والتحريض الندبى والظرف ظرف الدين والجو جو التقوى وابتغاء مرضاة الله وإيثار مثوبة الآخرة على عرض الدنيا والتربية على الاخلاق الصالحة للنساء كالعفة والحياء ومحبة الاولاد والتعلق بالحياة المنزلية كانت تحفظ هذه السنة. وكان الاشتغال بهذه الشؤون والاعتكاف على احياء العواطف الطاهرة المودعة في وجودهن يشغلهن عن الورود في مجامع الرجال واختلاطهن بهم في حدود ما أباح الله لهن ويشهد بذلك بقاء هذه السنة بين المسلمين على ساقها قرونا كثيرة بعد ذلك حتى نفذ فيهن الاسترسال الغربي المسمى بحرية النساء في المجتمع فجرت اليهن واليهم هلاك الاخلاق وفساد الحياة وهم لا يشعرون وسوف يعلمون ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتح الله عليهم بركات من السماء واكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ولكن كذبوا فاخذوا. وثانيا أن من السنة المفروضة في الاسلام منع النساء من القيام بأمر الجهاد كالقضاء والولاية. وثالثا أن الاسلام لم يهمل أمر هذه الحرمانات كحرمان المرأة من فضيلة الجهاد في سبيل الله دون أن تداركها وجبر كسرها بما يعادلها عنده بمزايا وفضائل فيها مفاخر حقيقية كما أنه جعل حسن التبعل مثلا جهادا للمرأة وهذه الصنائع والمكارم أوشك أن لا يكون لها عندنا وظرفنا هذا الظرف الحيوي الفاسد قدر لكن الظرف
[ 352 ]
الاسلامي الذى يقوم الامور بقيمها الحقيقية ويتنافس فيه في الفضائل الانسانية المرضية عند الله سبحانه وهو يقدرها حق قدرها يقدر لسلوك كل انسان مسلكه الذى ندب إليه وللزومه الطريق الذى خط له من القيمة ما يتعادل فيه أنواع الخدمات الانسانية وتتوازن أعمالها فلا فضل في الاسلام للشهادة في معركة القتال والسماحة بدماء المهج على ما فيه من الفضل على لزوم المرأة وظيفتها في الزوجية وكذا لا فخار لوال يدير رحى المجتمع الحيوى ولا لقاض يتكى على مسند القضاء وهما منصبان ليس للمتقلد بهما في الدنيا لو عمل فيما عمل بالحق وجرى فيما جرى على الحق إلا تحمل أثقال الولاية والقضاء والتعرض لمهالك ومخاطر تهددهما حينا بعد حين في حقوق من لا حامي له إلا رب العالمين وإن ربك لبالمرصاد فأي فخر لهؤلاء على من منعه الدين الورود موردهما وخط له خطا وأشار إليه بلزومه وسلوكه. فهذه المفاخر إنما يحييها ويقيم صلبها بإيثار الناس لها نوع المجتمع الذى يربى أجزاءه على ما يندب إليه من غير تناقض واختلاف الشؤون الاجتماعية والاعمال الانسانية بحسب اختلاف المجتمعات في أجوائها مما لا يسع أحدا إنكاره. هو ذا الجندي الذى يلقى بنفسه في أخطر المهالك وهو الموت في منفجر القنابل المبيدة ابتغاء ما يراه كرامة ومزيدا وهو زعمه أن سيذكر اسمه في فهرس من فدا بنفسه وطنه ويفتخر بذلك على كل ذي فخر في عين ما يعتقد بأن الموت فوت وبطلان وليس إلا بغية وهمية وكرامة خرافية وكذلك ما تؤثره هذه الكواكب الظاهرة في سماء السينماء آت ويعظم قدرهن بذلك الناس تعظيما لا يكاد يناله رؤساء الحكومات السامية وقد كان ما يعتورنه من الشغل وما يعطين من أنفسهن للملا دهرا طويلا في المجتمعات الانسانية أعظم ما يسقط به قدر النساء وأشنع ما يعيرن به فليس ذلك كله إلا أن الظرف من ظروف الحياة يعين ما يعينه على أن يقع من سواد الناس موقع القبول ويعظم الحقير ويهون الخطير فليس من المستبعد أن يعظم الاسلام امورا نستحقرها ونحن في هذه الظروف المضطربة أو يحقر امورا نستعظمها ونتنافس فيها فلم يكن الظرف في صدر الاسلام إلا ظرف التقوى وإيثار الآخرة على الاولى = واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي
[ 353 ]
القربى واليتامى والمساكين والجار ذى القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا (36) - الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا (37) - والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا (38) - وما ذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله وكان الله بهم عليما (39) - إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما (40) - فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا (41) - يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الارض ولا يكتمون الله حديثا (42))
( بيان )
آيات سبع فيها حث على الاحسان والانفاق في سبيل الله ووعد جميل عليه وذم على تركه إما بالبخل أو بالانفاق مراءاة للناس. قوله تعالى واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا هذا هو التوحيد غير أن المراد به التوحيد العملي وهو إتيان الاعمال الحسنة ومنها الاحسان الذى هو مورد الكلام طلبا لمرضاة الله وابتغاء لثواب الآخرة دون اتباع الهوى والشرك به. والدليل على ذلك أنه تعالى عقب هذا الكلام أعنى قوله واعبدوا الله ولا تشركوا
[ 354 ]
به شيئا وعلله بقوله إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا وذكر أنه البخيل بماله والمنفق لرئاء الناس فهم الذين يشركون بالله ولا يعبدونه وحده ثم قال وما ذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا وظهر بذلك أن شركهم عدم إيمانهم باليوم الآخر وقال تعالى ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب: ص - 26 فبين أن الضلال باتباع الهوى وكل شرك ضلال إنما هو بنسيان يوم الحساب ثم قال أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم: الجاثية - 23 فبين أن اتباع الهوى عبادة له وشرك به. فتبين بذلك كله أن التوحيد العملي أن يعمل الانسان ابتغاء مثوبة الله وهو على ذكر من يوم الحساب الذى فيه ظهور المثوبات والعقوبات وأن الشرك في العمل أن ينسى اليوم الآخر ولو آمن به لم ينسه وأن يعمل عمله لا لطلب مثوبة بل لما يزينه له هواه من التعلق بالمال أو حمد الناس ونحو ذلك فقد أشخص هذا الانسان هواه تجاه ربه وأشرك به. فالمراد بعبادة الله والاخلاص له فيها أن يكون طلبا لمرضاته وابتغاء لمثوبته لا لاتباع الهوى. قوله تعالى وبالوالدين إحسانا إلى قوله أيمانكم الظاهر أن قوله إحسانا مفعول مطلق لفعل مقدر تقديره وأحسنوا بالوالدين إحسانا والاحسان يتعدى بالباء وإلى معا يقال أحسنت به وأحسنت إليه وقوله وبذي القربى هو وما بعده معطوف على الوالدين وذو القربى القرابة وقوله والجار ذي القربى والجار الجنب قرينة المقابلة في الوصف تعطى أن يكون المراد بالجار ذي القربى الجار القريب دارا وبالجار الجنب وهو الأجنبي الجار البعيد دارا وقد روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: تحديد الجوار بأربعين ذراعا: وفي رواية: أربعون دارا ولعل الروايتين ناظرتان إلى الجار ذي القربى والجار الجنب. وقوله والصاحب بالجنب هو الذى يصاحبك ملازما لجنبك وهو بمفهومه يعم مصاحب السفر من رفقة الطريق ومصاحب الحضر والمنزل وغيرهم وقوله وابن السبيل هو الذى لا يعرف من حاله إلا أنه سالك سبيل كأنه ليس له من ينتسب إليه إلا السبيل فهو ابنه وأما كونه فقيرا ذا مسكنة عادما لزاد أو راحلة فكأنه خارج
[ 355 ]
من مفهوم اللفظ وقوله وما ملكت أيمانكم المراد به العبيد والاماء بقرينة عده في عداد من يحسن إليهم وقد كثر التعبير عنهم بما ملكته الايمان دون من ملكته. قوله تعالى إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا المختال التائه المتبختر المسخر لخياله ومنه الخيل للفرس لانه يتبختر في مشيته والفخور كثير الفخر والوصفان أعنى الاختيال وكثرة الفخر من لوازم التعلق بالمال والجاه والافراط في حبهما ولذلك لم يكن الله ليحب المختال الفخور لتعلق قلبه بغيره تعالى وما ذكره تعالى في تفسيره بقوله الذين يبخلون الخ وقوله والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس الخ يبين كون الطائفتين معروضتين للخيلاء والفخر فالطائفة الاولى متعلقة القلب بالمال والثانية بالجاه وإن كان بين الجاه والمال تلازم في الجملة. وكان من طبع الكلام أن يشتغل بذكر أعمالهما من البخل والكتمان وغيرهما لكن بدأ بالوصفين ليدل على السبب في عدم الحب كما لا يخفى. قوله تعالى الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل الآية أمرهم الناس بالبخل إنما هو بسيرتهم الفاسدة وعملهم به سواء أمروا به لفظا أو سكتوا فإن هذه الطائفة لكونهم اولى ثروة ومال يتقرب إليهم الناس ويخضعون لهم لما في طباع الناس من الطمع ففعلهم آمر وزاجر كقولهم وأما كتمانهم ما آتاهم الله من فضله فهو تظاهرهم بظاهر الفاقد المعدم للمال لتأذيهم من سؤال الناس ما في أيديهم وخوفهم على أنفسهم لو منعوا وخشيتهم من توجه النفوس إلى أموالهم والمراد بالكافرين الساترون لنعمة الله التى أنعم بها ومنه الكافر المعروف لستره على الحق بإنكاره. قوله تعالى والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس الخ أي لمراءآتهم وفي الآية دلالة على أن الرئاء في الانفاق أو هو مطلقا شرك بالله كاشف عن عدم الايمان به لاعتماد المرائى على نفوس الناس واستحسانهم فعله وشرك من جهة العمل لان المرائى لا يريد بعمله ثواب الآخرة وإنما يريد ما يرجوه من نتائج إنفاقه في الدنيا وعلى أن المرائى قرين الشيطان وساء قرينا. قوله تعالى وما ذا عليهم لو آمنوا الآية استفهام للتأسف أو التعجب وفي الآية دلالة على أن الاستنكاف عن الانفاق في سبيل الله ناش من فقدان التلبس بالايمان بالله وباليوم الآخر حقيقة وإن تلبس به ظاهرا
[ 356 ]
وقوله وكان الله بهم عليما تمهيد لما في الآية التالية من البيان والامس لهذه الجملة بحسب المعنى أن تكون حالا. قوله تعالى إن الله لا يظلم مثقال ذرة الآية المثقال هو الزنة والذرة هو الصغير من النمل الاحمر أو هو الواحد من الهباء المبثوث في الهواء الذى لا يكاد يرى صغرا وقوله مثقال ذرة نائب مناب المفعول المطلق أي لا يظلم ظلما يعدل مثقال ذرة وزنا. وقوله وإن تك حسنة قرئ برفع حسنة وبنصبها فعلى تقدير الرفع كان تامة وعلى تقدير النصب تقديره وإن تكن المثقال المذكور حسنة يضاعفها وتأنيث الضمير في قوله إن تك إما من جهة تأنيث الخبر أو لكسب المثقال التأنيث بالاضافة إلى ذرة. والسياق يفيد أن تكون الآية بمنزلة التعليل للاستفهام السابق والتقدير ومن الاسف عليهم ان لم يؤمنوا ولم ينفقوا فإنهم لو آمنوا وأنفقوا والله عليم بهم لم يكن الله ليظلمهم في مثقال ذرة أنفقوها بالاهمال وترك الجزاء وإن تك حسنة يضاعفها والله أعلم. قوله تعالى فكيف إذا جئنا من كل امة بشهيد الآية قد تقدم بعض الكلام في معنى الشهادة على الاعمال في تفسير قوله تعالى لتكونوا شهداء على الناس: البقرة - 143 من الجزء الاول من هذا الكتاب وسيجئ بعض آخر في محله المناسب له. قوله تعالى يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول الآية نسبة المعصية إلى الرسول يشهد أن المراد بها معصية أوامره صلى الله عليه وآله وسلم الصادرة عن مقام ولايته لا معصية الله تعالى في أحكام الشريعة وقوله لو تسوى بهم الارض كناية عن الموت بمعنى بطلان الوجود نظير قوله تعالى ويقول الكافر يا ليتنى كنت ترابا: النبأ - 40. وقوله ولا يكتمون الله حديثا ظاهر السياق أنه معطوف على موضع قوله يود الذين كفروا وفائدته الدلالة بوجه على ما يعلل به تمنيهم الموت وهو أنهم بارزون يومئذ لله لا يخفى عليه منهم شئ لظهور حالهم عليه تعالى بحضور أعمالهم وشهادة أعضائهم وشهادة الانبياء والملائكة وغيرهم عليهم والله من ورائهم محيط
[ 357 ]
فيودون عند ذلك أن لو لم يكونوا وليس لهم أن يكتموه تعالى حديثا مع ما يشاهدون من ظهور مساوى أعمالهم وقبائح أفعالهم. وأما قوله تعالى يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم: المجادلة - 18 فسيجئ إن شاء الله تعالى إن ذلك إنما هو لايجاب ملكة الكذب التى حصلوها في الدنيا لا للاخفاء وكتمان الحديث يوم لا يخفى على الله منهم شئ.
( بحث روائي )
في تفسير العياشي: في قوله تعالى وبالوالدين إحسانا الآية: عن سلام الجعفي عن أبى جعفر عليه السلام وأبان بن تغلب عن أبى عبد الله عليه السلام: نزلت في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفي على عليه السلام ثم قال وروى مثل ذلك في حديث ابن جبلة قال قال وروى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أنا وعلى أبوا هذه الامة أقول وقال البحراني في تفسير البرهان بعد نقل الحديث قلت وروى ذلك صاحب الفائق. وروى العياشي هذا المعنى عن أبى بصير عن أبى جعفر وأبى عبد الله عليه السلام ورواه ابن شهر آشوب عن أبان عن أبى جعفر عليه السلام والذى تعرض له الخبر هو من بطن القرآن بالمعنى الذى بحثنا عنه في مبحث المحكم والمتشابه في الجزء الثالث من هذا الكتاب إذ الاب أو الوالد هو المبدء الانساني لوجود الانسان والمربى له فمعلم الانسان ومربيه للكمال أبوه فمثل النبي والولى عليهما أفضل الصلاة أحق أن يكون أبا للمؤمن المهتدى به المقتبس من أنوار علومه ومعارفه من الاب الجسماني الذى لا شأن له إلا المبدئية والتربية في الجسم فالنبى والولى أبوان والآيات القرآنية التى توصى الاولاد بوالديه تشملهما بحسب الباطن وإن كانت بحسب ظاهرها لا تعدو الابوين الجسمانيين. وفي تفسير العياشي أيضا عن أبى صالح عن أبى العباس: في قول الله والجار ذي القربى والجار الجنب قال - الذى ليس بينك وبينه قرابة - والصاحب بالجنب قال الصاحب في السفر
[ 358 ]
أقول قوله الذى ليس بينك تفسير الجار ذي القربى والجنب معا وإن أمكن رجوعه إلى الجار الجنب فقط وقوله الصاحب في السفر لعله من قبيل ذكر بعض المصاديق. وفيه عن مسعدة بن صدقة عن جعفر بن محمد عن جده قال قال أمير المؤمنين عليه السلام: في خطبة يصف هول يوم القيامة - ختم على الافواه فلا تكلم وتكلمت الايدى - وشهدت الارجل - وأنطقت الجلود بما عملوا فلا يكتمون الله حديثا واعلم أن الاخبار كثيرة من طرق أهل السنة في أن الآيات نازلة في حق اليهود وهى وإن كان يؤيدها ما ينتهى إليه ذيل الآيات من التعرض لحال أهل الكتاب من اليهود في بخلهم وولعهم بجمع المال وادخاره وكذا وسوستهم للمؤمنين وترغيبهم على الكف عن الانفاق في سبيل الله وتفتينهم إياهم وإخزائهم لهم وإفساد الامر على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لكن الاخبار المذكورة مع ذلك أشبه بالتطبيق النظرى منها بنقل السبب في النزول كما هو الغالب في الاخبار الناقلة لاسباب النزول ولذلك تركنا نقلها على كثرتها. واعلم أيضا أن الاخبار الواردة عن النبي وآله صلى الله عليه وآله وسلم في إحسان الوالدين وذي القربى واليتامى وغيرهم من الطوائف المذكورة في الآية فوق حد الاحصاء على معروفيتها وشهرتها وهو الموجب للاغماض عن إيرادها ههنا على أن لكل منها وحده مواقع خاصة في القرآن ذكر ما يخصها من الاخبار هناك أنسب = يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلوة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابرى سبيل حتى تغتسلوا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفوا غفورا (43))
[ 359 ]
بيان قد تقدم في الكلام على قوله تعالى يسألونك عن الخمر والميسر: البقرة - 219 أن الآيات المتعرضة لامر الخمر خمس طوائف وأن ضم هذه الآيات بعضها إلى بعض يفيد أن هذه الآية يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الآية نزلت بعد قوله تعالى تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا: النحل - 67 وقوله قل إنما حرم ربى الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم: الاعراف - 33 وقبل قوله تعالى يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما: البقرة - 219 وقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه: المائدة - 90 وهذه آخر الآيات نزولا. ويمكن بوجه أن يتصور الترتيب على خلاف هذا الذي ذكرناه فتكون النازلة أولا آية النحل ثم الاعراف ثم البقرة ثم النساء ثم المائدة فيكون ما يفيده هذا الترتيب من قصة النهى القطعي عن شرب الخمر على خلاف ما يفيده الترتيب السابق فيكون ما في سورة الاعراف نهيا من غير تفسير ثم الذى في سورة البقرة نهيا باتا لكن المسلمين كانوا يتعللون في الاجتناب حتى نهوا عنها نهيا جازما في حال الصلاة في سورة النساء ثم نهيا مطلقا في جميع الحالات في سورة المائدة ولعلك إن تدبرت في مضامين الآيات رجحت الترتيب السابق على هذا الترتيب ولم تجوز بعد النهي الصريح الذي في آية البقرة النهى الذى في آية النساء المختص بحال الصلاة فهذه الآية قبل آية البقرة إلا أن نقول إن النهى عن الصلاة في حال السكر كناية عن الصلاة كسلان كما ورد في بعض الروايات الآتية. وأما وقوع الآية بين ما تقدمها وما تأخر عنها من الآيات فهي كالمتخللة المعترضة إلا أن ههنا احتمالا ربما صحح هذا النحو من التخلل والاعتراض وهو غير عزيز في القرآن وهو جواز أن تتنزل عدة من الآيات ذات سياق واحد متصل منسجم تدريجا في خلال أيام ثم تمس الحاجة إلى نزول آية أو آيات ولما تمت الآيات النازلة على سياق واحد فتقع الآية بين الآيات كالمعترضة المتخللة وليست بأجنبية بحسب الحقيقة وإنما هي كالكلام بين الكلام لرفع توهم لازم الدفع أو مس حاجة إلى إيراده نظير قوله تعالى
[ 360 ]
بل الانسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه كلا بل تحبون العاجلة الآيات: القيامة - 20 انظر إلى موضع قوله لا تحرك إلى قوله بيانه. وعلى هذا فلا حاجة إلى التكلف في بيان وجه ارتباط الآية بما قبلها وارتباط ما بعدها بها على أن القرآن إنما نزل نجوما ولا موجب لهذا الارتباط إلا في السور النازلة دفعة أو الآيات الواضحة الاتصال الكاشف ذلك عن الارتباط بينها. قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إلى قوله ما تقولون المراد بالصلاة المسجد والدليل عليه قوله ولا جنبا إلا عابرى سبيل والمقتضى لهذا التجوز قوله حتى تعلموا ما تقولون إذ لو قيل لا تقربوا المسجد وأنتم سكارى لم يستقم تعليله بقوله حتى تعلموا ما تقولون أو أفاد التعليل معنى آخر غير مقصود مع أن المقصود إفادة أنكم في حال الصلاة تواجهون مقام العظمة والكبرياء وتخاطبون رب العالمين فلا يصلح لكم أن تسكروا وتبطلوا عقولكم برجس الخمر فلا تعلموا ما تقولون وهذا المعنى كما ترى يناسب النهى عن اقتراب الصلاة لكن الصلاة لما كانت أكثر ما تقع تقع في المسجد جماعة على السنة وكان من القصد أن تذكر أحكام الجنب في دخوله المسجد أوجز في المقال وسبك الكلام على ما ترى. وعلى هذا فقوله حتى تعلموا ما تقولون في مقام التعليل للنهى عن شرب الخمر بحيث يبقى سكرها إلى حال دخول الصلاة أي نهيناكم عنه لغاية أن تعلموا ما تقولون وليس غاية للحكم بمعنى أن لا تقربوا إلى أن تعلموا ما تقولون فإذا علمتم ما تقولون فلا بأس. قوله تعالى ولا جنبا إلا عابرى سبيل إلى آخر الآية سيأتي الكلام في الآية في تفسير قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة: المائدة - 6.
( بحث روائي )
في تفسير العياشي عن محمد بن الفضل عن أبى الحسن عليه السلام: في قول الله لا تقربوا الصلاة - وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون قال - هذا قبل أن تحرم الخمر أقول ينبغى أن تحمل الرواية على أن المراد بتحريم الخمر توضيح تحريمها وإلا
[ 361 ]
فهى مخالفة للكتاب فإن آية الاعراف تحرم الخمر بعنوان أنه إثم صريحا وآية البقرة تصرح بأن في الخمر إثما كبيرا فقد حرمت الخمر في مكة قبل الهجرة لكون سورة الاعراف مكية ولم يختلف أحد في أن هذه الآية آية النساء مدنية ومثل هذه الرواية عدة روايات من طرق أهل السنة تصرح بكون الآية نازلة قبل تحريم الخمر ويمكن أن تكون الرواية ناظرة إلى كون المراد بالآية عن الصلاة كسلان. وفيه عن زرارة عن أبى جعفر عليه السلام قال: لا تقم إلى الصلاة متكاسلا ولا متناعسا - ولا متثاقلا فإنها من خلل النفاق - فإن الله نهى المؤمنين أن يقوموا إلى الصلاة - وهم سكارى يعنى من النوم اقول قوله فإنها من خلل النفاق استفاد عليه السلام ذلك من قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا فالمتمرد عن هذا الخطاب منافق غير مؤمن وقوله يعنى من النوم يحتمل أن يكون من كلام الراوي ويحتمل أن يكون من كلامه عليه السلام ويكون تفسيرا للآية من قبيل بطن القرآن ويمكن أن يكون من الظهر. وقد وردت روايات أخر في تفسيره بالنوم رواها العياشي في تفسيره عن الحلبي في روايتين والكليني في الكافي بإسناده عن زيد الشحام عن الصادق عليه السلام وبإسناده عن زرارة عن الباقر عليه السلام وروى هذا المعنى أيضا البخاري في صحيحه عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم = ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل (44) والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا (45) - من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع
[ 362 ]
وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا (46) - يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا (47) - إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما (48) - أ لم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكى من يشاء ولا يظلمون فتيلا (49) - أنظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثما مبينا (50) - أ لم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا (51) - أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا (52) - أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا (53) - أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما (54) - فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا (55) - إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزا حكيما (56) - والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجرى من تحتها الانهار خالدين فيها أبدا لهم
[ 363 ]
فيها أزواج مطهرة وندخلهم ظلا ظليلا (57) - إن الله يأمركم أن تؤدوا الامانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا (58))
( بيان )
آيات متعرضة لحال أهل الكتاب وتفصيل لمظالمهم وخياناتهم في دين الله وأوضح ما تنطبق على اليهود وهى ذات سياق واحد متصل والآية الاخيرة إن الله يأمركم أن تؤدوا الامانات إلى أهلها الآية وإن ذكر بعضهم أنها مكية واستثناها في آيتين من سورة النساء المدنية وهي هذه الآية وقوله تعالى يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة الآية: النساء - 176 على ما في المجمع لكن الآية ظاهرة الارتباط بما قبلها من الآيات وكذا آية الاستفتاء فإنها في الارث وقد شرع في المدينة. قوله تعالى أ لم تر إلى الذين اوتوا نصيبا من الكتاب " الآية قد تقدم في الكلام على الآيات (36 - 42) أنها مرتبطة بعض الارتباط بهذه الآيات وقد سمعت القول في نزول تلك الآيات في حق اليهود. وبالجملة يلوح من هذه الآيات أن اليهود كانوا يلقون إلى المؤمنين المودة ويظهرون لهم النصح فيفتنونهم بذلك ويأمرونهم بالبخل والامساك عن الانفاق ليمنعوا بذلك سعيهم عن النجاح وجدهم في التقدم والتعالي وهذا لازم كون تلك الآيات نازلة في حق اليهود أو في حق من كان يسار اليهود ويصادقهم ثم تنحرف عن الحق بتحريفهم ويميل إلى حيث يميلونه فيبخل ثم يأمر بالبخل. وهذا هو الذي يستفاد من قوله ويريدون أن تضلوا السبيل والله أعلم بأعدائكم إلى آخر الآية. فمعنى الآيتين والله أعلم أن ما نبينه لكم تصديق ما بيناه لكم من حال الممسك عن الانفاق في سبيل الله بالاختيال والفخر والبخل والرئاء أنك ترى اليهود الذين
[ 364 ]
اوتوا نصيبا من الكتاب أي حظا منه لا جميعه كما يدعون لانفسهم يشترون الضلالة ويختارونه على الهدى ويريدون أن تضلوا السبيل فإنهم وإن لقوكم ببشر الوجه وظهروا لكم في زي الصلاح واتصلوا بكم اتصال الاولياء الناصرين فذكروا لكم ما ربما استحسنته طباعكم واستصوبته قلوبكم لكنهم ما يريدون إلا ضلالكم عن السبيل كما اختاروا لانفسهم الضلالة والله أعلم منكم بأعدائكم وهم أعداؤكم فلا يغرنكم ظاهر ما تشاهدون من حالهم فإياكم أن تطيعوا أمرهم أو تصغوا إلى أقوالهم المزوقة وإلقاءآتهم المزخرفة وأنتم تقدرون أنهم أولياءكم وأنصاركم فأنتم لا تحتاجون إلى ولايتهم الكاذبة ونصرتهم المرجوة وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا فأي حاجة مع ولايته ونصرته إلى ولايتهم ونصرتهم. قوله تعالى من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه إلى قوله في الدين من في قوله من الذين بيانية وهو بيان لقوله في الآية السابقة الذين اوتوا نصيبا من الكتاب أو لقوله بأعدائكم وربما قيل إن قوله من الذين هادوا خبر لمبتدء محذوف وهو الموصوف المحذوف لقوله يحرفون الكلم والتقدير من الذين هادوا قوم يحرفون أو من الذين هادوا من يحرفون قالوا وحذف الموصوف شائع كقول ذي الرمة:
فظلوا ومنهم دمعه سابق له * * وآخر يشني دمعه العين بالمهل
يريد ومنهم قوم دمعه أو ومنهم من دمعه. وقد وصف الله تعالى هذه الطائفة بتحريف الكلم عن مواضعه وذلك إما بتغيير مواضع الالفاظ بالتقديم والتأخير والاسقاط والزيادة كما ينسب إلى التوراة الموجودة وإما بتفسير ما ورد عن موسى عليه السلام في التوراة وعن سائر الانبياء بغير ما قصد منه من المعنى الحق كما أولوا ما ورد في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من بشارات التوراة ومن قبل اولوا ما ورد في المسيح عليه السلام من البشارة وقالوا إن الموعود لم يجئ بعد وهم ينتظرون قدومه إلى اليوم. ومن الممكن أن يكون المراد بتحريف الكلم عن مواضعه ما سيذكره تعالى بقوله ويقولون سمعنا وعصينا فتكون هذه الجمل معطوفة على قوله يحرفون ويكون المراد حينئذ من تحريف الكلم عن مواضعه استعمال القول بوضعه في غير المحل الذي ينبغي أن
[ 365 ]
يوضع فيه فقول القائل سمعنا من حقه أن يوضع في موضع الطاعة فيقال سمعنا وأطعنا لا أن يقال سمعنا وعصينا أو يوضع سمعنا موضع التهكم والاستهزاء وكذا قول القائل اسمع ينبغي أن يقال فيه اسمع أسمعك الله لا أن يقال اسمع غير مسمع أي لا أسمعك الله وراعنا وهو يفيد في لغة اليهود معنى اسمع غير مسمع. وقوله ليا بألسنتهم وطعنا في الدين أصل اللي الفتل أي يميلون بألسنتهم فيظهرون الباطل من كلامهم في صورة الحق والازراء والاهانة في صور التأدب والاحترام فإن المؤمنين كانوا يخاطبون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين ما كانوا يكلمونه بقولهم راعنا يا رسول الله ومعناه انظرنا واسمع منا حتى نوفي غرضنا من كلامنا فاغتنمت اليهود ذلك فكانوا يخاطبون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقولهم راعنا وهم يريدون به ما عندهم من المعنى المستهجن غير الحري بمقامه صلى الله عليه وآله وسلم فذموا به في هذه الآية وهو قوله تعالى " ويحرفون الكلم عن مواضعه " ثم فسره بقوله " ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع ثم عطف عليه كعطف التفسير قوله وراعنا ثم ذكر أن هذا الفعال المذموم منهم لي بالالسن وطعن في الدين فقال ليا بألسنتهم وطعنا في الدين والمصدران في موضع الحال والتقدير لاوين بألسنتهم وطاعنين في الدين. قوله تعالى ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا لكان خيرا لهم وأقوم كون هذا القول منهم وهو مشتمل على أدب الدين والخضوع للحق خيرا وأقوم مما قالوه مع اشتماله على اللي والطعن المذمومين ولا خير فيه ولا قوام) مبني على مقايسة الاثر الحق الذي في هذا الكلام الحق على ما يظنونه من الاثر في كلامهم وإن لم يكن له ذلك بحسب الحقيقة فالمقايسة بين الاثر الحق وبين الاثر المظنون حقا والمعنى أنهم لو قالوا سمعنا وأطعنا لكان فيه من الخير والقوام أكثر مما يقدرون في أنفسهم لهذا اللي والطعن فالكلام يجرى مجرى قوله تعالى وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين: الجمعة - 11. قوله تعالى ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا تأييس للسامعين من أن تقول اليهود سمعنا وأطعنا فإنه كلمة إيمان وهؤلاء ملعونون لا يوفقون للايمان ولذلك قيل لو أنهم قالوا الدال على التمني المشعر بالاستحالة. والظاهر أن الباء في قوله بكفرهم للسببية دون الآية فإن الكفر يمكن
[ 366 ]
أن يزاح بالايمان فهو لا يوجب بما هو كفر لعنة تمنع عن الايمان منعا قاطعا لكنهم لما كفروا وسيشرح الله تعالى في آخر السورة حال كفرهم لعنهم الله بسبب ذلك لعنا ألزم الكفر عليهم إلزاما لا يؤمنون بذلك إلا قليلا فافهم ذلك. وأما قوله فلا يؤمنون إلا قليلا فقد قيل إن قليلا حال والتقدير إلا وهم قليل أي لا يؤمنون إلا في حال هم قليل وربما قيل إن قليلا صفة لموصوف محذوف والتقدير فلا يؤمنون إلا إيمانا قليلا وهذا الوجه كسابقه لا بأس به لكن يجب أن يزاد فيه أن اتصاف الايمان بالقلة إنما هو من قبيل الوصف بحال المتعلق أي إيمانا المؤمن به قليل. وأما ما ذكره بعض المفسرين أن المراد به قليل الايمان في مقابل كامله وذكر أن المعنى فلا يؤمنون إلا قليلا من الايمان لا يعتد به إذ لا يصلح عمل صاحبه ولا يزكي نفسه ولا يرقي عقله فقد أخطأ فإن الايمان إنما يتصف بالمستقر والمستودع والكامل والناقص في درجات ومراتب مختلفة وأما القلة وتقابلها الكثرة فلا يتصف بهما وخاصة في مثل القرآن الذي هو أبلغ الكلام. على أن المراد بالايمان المذكور في الآية إما حقيقة الايمان القلبي في مقابل النفاق أو صورة الايمان التي ربما يطلق عليها الاسلام واعتباره على أي معنى من معانيه والاعتناء به في الاسلام مما لا ريب فيه والآيات القرآنية ناصة فيه قال تعالى ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا: النساء - 94 مع أن الذي يستثني الله تعالى منه قوله ولكن لعنهم الله بكفرهم كان يكفي فيه أقل درجات الايمان أو الاسلام الظاهري بحفظهم الظاهر بقولهم سمعنا وأطعنا كسائر المسلمين. والذي أوقعه في هذا الخطا ما توهمه أن لعنه تعالى إياهم بكفرهم لا يجوز أن يتخلف عن التأثير بإيمان بعضهم فقدر أن القلة وصف الايمان وهي ما لا يعتد به من الايمان حتى يستقيم قوله لعنهم الله بكفرهم وقد غفل عن أن هذه الخطابات وما تشتمل عليه من صفات الذم والمؤاخذات والتوبيخات كل ذلك متوجهة إلى المجتمعات من حيث الاجتماع فالذي لحقه اللعن والغضب والمؤاخذات العامة الاخرى إنما هو المجتمع اليهودي من حيث إنه مجتمع مكون فلا يؤمنون ولا يسعدون ولا يفلحون وهو كذلك إلى هذا اليوم وهم على ذلك إلى يوم القيامة.
[ 367 ]
وأما الاستثناء فإنما هو بالنسبة إلى الافراد وخروج بعض الافراد من الحكم المحتوم على المجتمع ليس نقضا لذلك الحكم والمحوج إلى هذا الاستثناء أن الافراد بوجه هم المجتمع فقوله فلا يؤمنون حيث نفي فيه الايمان عن الافراد وإن كان ذلك نفيا عنهم من حيث جهة الاجتماع وكان يمكن فيه أن يتوهم أن الحكم شامل لكل واحد واحد منهم بحيث لا يتخلص منه أحد استثنى فقيل إلا قليلا فالآية تجري مجرى قوله تعالى ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم: النساء - 66. قوله تعالى يا ايها الذين اوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا الخ الطمس محو أثر الشئ والوجه ما يستقبلك من الشئ ويظهر منه وهو من الانسان الجانب المقدم الظاهر من الرأس وما يستقبلك منه ويستعمل في الامور المعنوية كما يستعمل في الامور الحسية والادبار جمع دبر بضمتين وهو القفا والمراد بأصحاب السبت قوم من اليهود كانوا يعدون في السبت فلعنهم الله ومسخهم قال تعالى واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم - الاعراف - 163 وقال تعالى ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها: البقرة - 66. وقد كانت الآيات السابقة كما عرفت متعرضة لحال اليهود أو لحال طائفة من اليهود وانجر القول إلى أنهم بإزاء ما خانوا الله ورسوله وأفسدوا صالح دينهم ابتلوا بلعنة من الله لحق جمعهم وسلبهم التوفيق للايمان إلا قليلا فعم الخطاب لجميع أهل الكتاب على ما يفيده قوله يا أيها الذين اوتوا الكتاب ودعاهم إلى الايمان بالكتاب الذي نزله مصدقا لما معهم وأوعدهم بالسخط الذي يلحقهم لو تمردوا واستكبروا من غير عذر من طمس أو لعن يتبعانهم اتباعا لا ريب فيه. وذلك ما ذكره بقوله من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها فطمس الوجوه محو هذه الوجوه التي يتوجه بها البشر نحو مقاصدها الحيوية مما فيه سعادة الانسان المترقبة والمرجوة لكن لا المحو الذي يوجب فناء الوجوه وزوالها وبطلان آثارها بل محوا يوجب ارتداد تلك الوجوه على أدبارها فهي تقصد مقاصدها على الفطرة التي فطر عليها لكن لما كانت منصوبة إلى الاقفية ومردودة على الادبار لا تقصا
[ 368 ]
إلا ما خلفته وراءها ولا تمشي إليه إلا القهقري. وهذا الانسان وهو بالطبع والفطرة متوجه نحو ما يراه خيرا وسعادة لنفسه كلما توجه إلى ما يراه خيرا لنفسه وصلاحا لدينه أو لدنياه لم ينل إلا شرا وفسادا وكلما بالغ في التقدم زاد في التأخر وليس يفلح أبدا. وأما لعنهم كلعن أصحاب السبت فظاهره المسخ على ما تقدم من آيات أصحاب السبت التي تخبر عن مسخهم قردة. وعلى هذا فلفظة أو في قوله أو نلعنهم على ظاهرها من إفادة الترديد والفرق بين الوعيدين أن الاول أعني الطمس يوجب تغيير مقاصد المغضوب عليهم من غير تغيير الخلقة إلا في بعض كيفياتها والثاني أعني اللعن كلعن أصحاب السبت يوجب تغيير المقصد بتغيير الخلقة الانسانية إلى خلقه حيوانية كالقردة. فهؤلاء إن تمردوا عن الامتثال وسوف يتمردون على ما تفيده خاتمة الآية كان لهم إحدى سخطتين إما طمس الوجوه وإما اللعن كلعن أصحاب السبت لكن الآية تدل على أن هذه السخطة لا تعمهم جميعهم حيث قال وجوها فأتى بالجمع المنكر ولو كان المراد هو الجميع لم ينكر ولتنكير الوجوه وعدم تعيينه نكتة اخرى هي أن المقام لما كان مقام الايعاد والتهديد وهو إيعاد للجماعه بشر لا يحلق إلا ببعضهم كان إبهام الافراد الذين يقع عليهم السخط الالهي أوقع في الانذار والتخويف لان وصفهم على إبهامه يقبل الانطباق على كل واحد واحد من القوم فلا يأمن أحدهم أن يمسه هذا العذاب البئيس وهذه الصناعة شائعة في اللسان في مقام التهديد والتخويف. وفي قوله تعالى أو نلعنهم حيث أرجع فيه ضمير هم الموضوع لاولي العقل إلى قوله وجوها كما هو الظاهر تلويحا أو تصريحا بأن المراد بالوجوه الاشخاص من حيث استقبالهم مقاصدهم وبذلك يضعف احتمال أن يكون المراد بطمس الوجوه وردها على أدبارها تحويل وجوه الابدان إلى الاقفية كما قال به بعضهم ويقوى بذلك احتمال أن المراد من تحويل الوجوه إلى الادبار تحويل النفوس من حال استقامه الفكر وإدراك الواقعيات على واقعيتها إلى حال الاعوجاج والانحطاط الفكري بحيث لا يشاهد حقا إلا أعرض عنه واشمأز منه ولا باطلا إلا مال إليه وتولع به.
[ 369 ]
وهذا نوع من التصرف الالهي مقتا ونقمة نظير ما يدل عليه قوله تعالى ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون: الانعام - 110. فتبين مما مر أن المراد بطمس الوجوه في الآية نوع تصرف إلهي في النفوس يوجب تغيير طباعها من مطاوعة الحق وتجنب الباطل إلى اتباع الباطل والاحتراز عن الحق في باب الايمان بالله وآياته كما يؤيده صدر الآية آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس الخ وكذا تبين أن المراد باللعن المذكور فيها المسخ. وربما قيل إن المراد بالطمس تحويل وجوه قوم إلى أقفيتهم ويكون ذلك في آخر الزمان أو يوم القيامة وفيه أن قوله أو نلعنهم ينافي ذلك كما تقدم بيانه. وربما قيل إن المراد بالطمس الخذلان الدنيوي فلا يزالون على ذلة ونكبة لا يقصدون غاية ذات سعادة إلا بدلها الله عليهم سرابا لا خير فيه وفيه أنه وإن كان لا يبعد كل البعد لكن صدر الآية كما تقدم ينافيه. وربما قيل إن المراد به إجلاؤهم وردهم ثانيا إلى حيث خرجوا منه وقد أخرجوا من الحجاز إلى أرض الشام وفلسطين وقد جاؤوا منهما وفيه أن صدر الآية بسياقه يؤيد غير ذلك كما عرفته. نعم من الممكن أن يقال إن المراد به تقليب افئدتهم وطمس وجوه باطنهم من الحق إلى نحو الباطل فلا يفلحون بالايمان بالله وآياته ثم إن الدين الحق لما كان هو الصراط الذي لا ينجح إنسان في سعادة حياته الدنيا إلا بركوبه والاستواء عليه وليس للناكب عنه إلا الوقوع في كانون الفساد والسقوط في مهابط الهلاك قال تعالى ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا: الروم: 41 وقال تعالى ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والارض ولكن كذبوا فأخذناهم: الاعراف - 96 ولازم هذه الحقيقة أن طمس الوجوه عن المعارف الحقة الدينية طمس لها عن حقائق سعادة الحياة الدنيا بجميع أقسامها فالمحروم من سعادة الدين محروم من سعادة الدنيا من استقرار الحال وتمهد الامن وسودد الاستقلال والملك وكل ما يطيب به العيش ويدر به ضرع العمل
[ 370 ]
اللهم إلا على قدر ما نسرب المواد الدينية في مجتمعهم وعلى هذا فلا بأس بالجمع بين الوجوه المذكورة جلها أو كلها. قوله تعالى وكان أمر الله مفعولا إشاره إلى أن الامر لا محالة واقع وقد وقع على ما ذكره الله في كتابه من لعنهم وإنزال السخط عليهم وإلقاء العداوة والبغضاء بينهم إلى يوم القيامة وغير ذلك في آيات كثيرة. قوله تعالى إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ظاهر السياق أن الآية في مقام التعليل للحكم المذكور في الآية السابقة أعنى قوله آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس الخ فيعود المعنى إلى مثل قولنا فإنكم إن لم تؤمنوا به كنتم بذلك مشركين والله لا يغفر أن يشرك به فيحل عليكم غضبه وعقوبته فيطمس وجوهكم بردها على أدبارها أو يلعنكم فنتيجه عدم المغفرة هذه ترتب آثار الشرك الدنيوية من طمس أو لعن عليه. وهذا هو الفرق بين مضمون هذه الآية وقوله تعالى إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا: النساء - 116 فإن هذه الآية (آية 48) تهدد بآثار الشرك الدنيوية وتلك آية 116 تهدد بآثاره الاخروية وذلك بحسب الانطباق على المورد وإن كانتا بحسب الاطلاق كلتاهما شاملتين لجميع الآثار. ومغفرته سبحانه وعدم مغفرته لا يقع شئ منهما وقوعا جزافيا بل على وفق الحكمة وهو العزيز الحكيم فأما عدم مغفرته للشرك فإن الخلقة إنما تثبت على ما فيها من الرحمة على أساس العبودية والربوبية قال تعالى وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون الذاريات - 56 ولا عبودية مع شرك وأما مغفرته لسائر المعاصي والذنوب التي دون الشرك فلشفاعة من جعل له الشفاعة من الانبياء والاولياء والملائكة والاعمال الصالحة على ما مر تفصيله في بحث الشفاعة في الجزء الاول من هذا الكتاب. وأما التوبة فالآية غير متعرضة لشانها من حيث خصوص مورد الآية لان موردها عدم الايمان ولا توبة معه على أن التوبة يغفر معها جميع الذنوب حتى الشرك قال تعالى قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم: الزمر - 54.
[ 371 ]
والمراد بالشرك في الآية ما يعم الكفر لا محالة فإن الكافر أيضا لا يغفر له البتة وإن لم يصدق عليه المشرك بعنوان التسمية بناء على أن أهل الكتاب لا يسمون في القرآن مشركين وإن كان كفرهم بالقرآن وبما جاء به النبي شركا منهم أشركوا به (راجع تفسير آية 221 من البقرة) وإذا لم يؤمن أهل الكتاب بما نزل الله مصدقا لما معهم فقد كفروا به وأشركوا ما في أيديهم بالله سبحانه فإنه شئ لا يريده الله على الصفة التي أخذوه بها فالمؤمن بموسى عليه السلام إذا كفر بالمسيح عليه السلام فقد كفر بالله وأشرك به موسى ولعل ما ذكرناه هو النكتة لقوله تعالى أن يشرك به دون أن يقول المشرك أو المشركين. وقوله تعالى لمن يشاء تقييد للكلام لدفع توهم أن لاحد من الناس تأثيرا فيه تعالى يوجب به عليه المغفرة فيحكم عليه تعالى حاكم أو يقهره قاهر وتعليق الامور الثابتة في القرآن على المشيئة كثير والوجه في كلها أو جلها دفع ما ذكرناه من التوهم كقوله تعالى خالدين فيها ما دامت السموات والارض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ: هود - 108. على أن من الحكمة أن لا يغفر لكل مذنب ذنبه وإلا لغى الامر والنهى وبطل التشريع وفسد أمر التربية الالهية وإليه الاشارة بقوله لمن يشاء ومن هنا يظهر أن كل واحد من المعاصي لا بد أن لا يغفر بعض أفراده وإلا لغى النهي عنه وهذا لا ينافي عموم لسان آيات أسباب المغفرة فإن الكلام في الوقوع دون الوعد على وجه الاطلاق ومن المعاصي ما يصدر عمن لا يغفر له بشرك ونحوه. فمعنى الآية أنه تعالى لا يغفر الشرك من كافر ولا مشرك ويغفر سائر الذنوب دون الشرك بشفاعة شافع من عباده أو عمل صالح وليس هو تعالى مقهورا أن يغفر كل ذنب من هذه الذنوب لكل مذنب بل له أن يغفر وله أن لا يغفر كل ذلك لحكمة. قوله تعالى ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم قال الراغب أصل الزكاة النمو الحاصل من بركة الله تعالى إلى أن قال وتزكية الانسان نفسه ضربان أحدهما بالفعل وهو محمود وإليه قصد بقوله قد أفلح من تزكى والثاني بالقول كتزكيته لعدل غيره وذلك مذموم أن يفعل الانسان بنفسه وقد نهى الله تعالى عنه فقال لا تزكوا أنفسكم ونهيه عن ذلك تأديب لقبح مدح الانسان نفسه عقلا وشرعا ولهذا قيل
[ 372 ]
لحكيم ما الذي لا يحسن وإن كان حقا فقال مدح الرجل نفسه انتهى كلامه. ولما كانت الآية في ضمن الآيات المسرودة للتعرض لحال أهل الكتاب كان الظاهر أن هؤلاء المزكين لانفسهم هم أهل الكتاب أو بعضهم ولم يوصفوا بأهل الكتاب لان العلماء بالله وآياته لا ينبغي لهم أن يتلبسوا بأمثال هذه الرذائل فالاصرار عليها انسلاخ عن الكتاب وعلمه. ويؤيده ما حكاه الله تعالى عن اليهود من قولهم نحن أبناء الله وأحباؤه " المائدة - 18 " وقولهم لن تمسنا النار إلا أياما معدودة: البقرة - 80 وزعمهم الولاية كما في قوله تعالى قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس: الجمعة - 6 فالآية تكني عن اليهود وفيها استشهاد لما تقدم ذكره في الآيات السابقة من استكبارهم عن الخضوع للحق واتباعه والايمان بآيات الله سبحانه واستقرار اللعن الالهي فيهم وأن ذلك من لوازم إعجابهم بأنفسهم وتزكيتهم لها. قوله تعالى بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا إضراب عن تزكيتهم لانفسهم ورد لهم فيما زكوه وبيان أن ذلك من شؤون الربوبية يختص به تعالى فإن الانسان وإن أمكن أن يتصف بفضائل ويتلبس بأنواع الشرف والسودد المعنوي غير أن اعتناءه بذلك واعتماده عليه لا يتم إلا بإعطائه لنفسه استغناء واستقلالا وهو في معنى دعوى الالوهية والشركة مع رب العالمين وأين الانسان الفقير الذي لا يملك لنفسه ضرا أو لا نفعا ولا موتا ولا حياة والاستغناء عن الله سبحانه في خير أو فضيلة ؟ والانسان في نفسه وفي جميع شؤون نفسه والخير الذي يزعم أنه يملكه وجميع أسباب ذلك الخير مملوك لله سبحانه محضا من غير استثناء فماذا يبقى للانسان ؟. وهذا الغرور والاعجاب الذي يبعث الانسان إلى تزكية نفسه هو العجب الذي هو من امهات الرذائل ثم لا يلبث هذا الانسان المغرور المعتمد على نفسه دون أن يمس غيره فيتولد من رذيلته هذه رذيلة اخرى وهي رذيلة التكبر ويتم تكبره في صورة الاستعلاء على غيره من عباد الله فيستعبد به عباد الله سبحانه ويجري به كل ظلم وبغي بغير حق وهتك محارم الله وبسط السلطة على دماء الناس وأعراضهم وأموالهم. وهذا كله إذا كان الوصف وصفا فرديا وأما إذا تعدى الفرد وصار خلقا اجتماعيا
[ 373 ]
وسيرة قومية فهو الخطر الذي فيه هلاك النوع وفساد الارض وهو الذي يحكيه تعالى عن اليهود إذ قالوا ليس علينا في الاميين سبيل: آل عمران - 75. فما كان لبشر أن يذكر لنفسه من الفضيلة ما يمدحها به سواء كان صادقا فيما يقول أو كاذبا لانه لا يملك ذلك لنفسه لكن الله سبحانه لما كان هو المالك لما ملكه والمعطي الفضل لمن يشاء وكيف يشاء كان له أن يزكى من شاء تزكية عملية بإعطاء الفضل وإفاضة النعمة وأن يزكى من يشاء تزكية قولية يذكره بما يمتدح به ويشرفه بصفات الكمال كقوله في آدم ونوح إن الله اصطفى آدم ونوحا: آل عمران - 33 وقوله في إبراهيم وإدريس إنه كان صديقا نبيا: مريم - 41، 56 وقوله في يعقوب وإنه لذو علم لما علمناه: يوسف - 68 وقوله في يوسف إنه من عبادنا المخلصين: يوسف - 24 وقوله في حق موسى إنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا: مريم - 51 وقوله في حق عيسى وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين: آل عمران - 45 وقوله في سليمان وأيوب نعم العبد إنه أواب: ص - 30، 44 وقوله في محمد صلى الله عليه وآله وسلم إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين: الاعراف - 196 وقوله وإنك لعلى خلق عظيم: القلم - 4 وكذا قوله تعالى في حق عدة من الانبياء ذكرهم في سور الانعام ومريم والانبياء والصافات وص وغيرها. وبالجملة فالتزكية لله سبحانه حق لا يشاركه فيه غيره إذ لا يصدر عن غيره إلا من ظلم وإلى ظلم ولا يصدر عنه تعالى إلا حقا وعدلا يقدر بقدره لا يفرط ولا يفرط ولذا ذيل قوله بل الله يزكي من يشاء بقوله وهو في معنى التعليل ولا يظلمون فتيلا وقد تبين مما مر أن تزكيته تعالى وإن كانت مطلقة تشمل التزكية العملية والتزكية القولية لكنها تنطبق بحسب مورد الكلام على التزكية القولية. قوله تعالى ولا يظلمون فتيلا الفتيل فعيل بمعنى المفعول من الفتل وهو اللي قيل المراد به ما يكون في شق النواة وقيل هو ما في بطن النواة وقد ورد في روايات عن أئمة أهل البيت عليهم السلام: أنه النقطة التي على النواة والنقير ما في ظهرها والقطمير قشرها وقيل هو ما فتلته بين إصبعيك من الوسخ وكيف كان هو كناية عن الشئ الحقير الذي لا يعتد به. وقد بان بالآية الشريفة أمران أحدهما أن ليس لصاحب الفضل أن يعجبه
[ 374 ]
فضله ويمدح نفسه بل هو مما يختص به تعالى فإن ظاهر الآية ان الله يختص به أن يزكي كل من جاز أن يتلبس بالتزكية فليس لغير صاحب الفضل أيضا أن يزكيه إلا بما زكاه الله به وينتج ذلك أن الفضائل هي التي مدحها الله وزكاها فلا قدر لفضل لا يعرفه الدين ولا يسميه فضلا ولا يستلزم ذلك أن تبطل آثار الفضائل عند الناس فلا يعرفوا لصاحب الفضل فضله ولا يعظموا قدره بل هي شعائر الله وعلائمه وقد قال تعالى ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب: الحج - 32 فعلى الجاهل أن يخضع للعالم ويعرف له قدره فإنه من اتباع الحق وقد قال تعالى هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون: الزمر - 9 وإن لم يكن للعالم أن يتبجح بعلمه ويمدح نفسه والامر في جميع الفضائل الحقيقية الانسانية على هذا الحال. وثانيهما أن ما ذكره بعض باحثينا واتبعوا في ذلك ما ذكره المغاربة أن من الفضائل الانسانية الاعتماد بالنفس أمر لا يعرفه الدين ولا يوافق مذاق القرآن والذي يراه القرآن في ذلك هو الاعتماد بالله والتعزز بالله قال تعالى الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل: آل عمران - 173 وقال أن القوة لله جميعا: البقرة - 165 وقال إن العزة لله جميعا: يونس - 65 إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى انظر كيف يفترون على الله الكذب الخ فتزكيتهم أنفسهم ببنوة الله وحبه وولايته ونحو ذلك افتراء على الله إذ لم يجعل الله لهم ذلك على أن أصل التزكية افتراء وإن كانت عن صدق فإنه كما تقدم بيانه إسناد شريك إلى الله وليس له في ملكه شريك قال تعالى ولم يكن له شريك في الملك: الاسراء - 111. وقوله وكفى به إثما مبينا أي لو لم يكن في التزكية إلا أنه افتراء على الله لكفى في كونه إثما مبينا والتعبير بالاثم وهو الفعل المذموم الذي يمنع الانسان من نيل الخيرات ويبطئها هو المناسب لهذه المعصية لكونه من اشراك الشرك وفروعه يمنع نزول الرحمة وكذا في شرك الكفر الذي يمنع المغفرة كما وقع في الآية السابقة ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما بعد قوله إن الله لا يغفر أن يشرك به. قوله تعالى ألم تر إلى الذين اوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت الجبت والجبس كل ما لا خير فيه وقيل وكل ما يعبد من دون الله سبحانه
[ 375 ]
والطاغوت مصدر في الاصل كالطغيان يستعمل كثيرا بمعنى الفاعل وقيل هو كل معبود من دون الله والآية تكشف عن وقوع واقعة قضى فيها بعض أهل الكتاب للذين كفروا على الذين آمنوا بأن سبيل المشركين أهدى من سبيل المؤمنين وليس عند المؤمنين إلا دين التوحيد المنزل في القرآن المصدق لما عندهم ولا عند المشركين إلا الايمان بالجبت والطاغوت فهذا القضاء اعتراف منهم بأن للمشركين نصيبا من الحق وهو الايمان بالجبت والطاغوت الذي نسبه الله تعالى إليهم ثم لعنهم الله بقوله اولئك الذين لعنهم الله الآية. وهذا يؤيد ما ورد في أسباب النزول أن مشركي مكة طلبوا من أهل الكتاب أن يحكموا بينهم وبين المؤمنين فيما ينتحلونه من الدين فقضوا لهم على المؤمنين وسيأتي الرواية في ذلك في البحث الروائي الآتي. وقد ذكر كونهم ذوي نصيب من الكتاب ليكون أوقع في وقوع الذم واللوم عليهم فإن إيمان علماء الكتاب بالجبت والطاغوت وقد بين لهم الكتاب أمرهما أشنع وأفظع. قوله تعالى أم لهم نصيب من الملك إلى قوله نقيرا " النقير فعيل بمعنى المفعول وهو المقدار اليسير الذي يأخذه الطير من الارض بنقر منقاره وقد مر له معنى آخر في قوله ولا يظلمون فتيلا الآية. وقد ذكروا أن أم في قوله أم لهم نصيب من الملك منقطعة والمعنى بل ألهم نصيب من الملك والاستفهام إنكاري أي ليس لهم ذلك. وقد جوز بعضهم أن تكون " أم " متصلة وقال إن التقدير أهم أولى بالنبوة أم لهم نصيب من الملك ؟ ورد بأن حذف الهمزة إنما يجوز في ضرورة الشعر ولا ضرورة في القرآن والظاهر أن أم متصلة وأن الشق المحذوف ما يدل عليه الآية السابقة ألم تر إلى الذين اوتوا نصيبا من الكتاب الآية والتقدير ألهم كل ما حكموا به من حكم أم لهم نصيب من الملك أم يحسدون الناس ؟ وعلى هذا تستقيم الشقوق وتترتب ويتصل الكلام في سوقه. والمراد بالملك هو السلطنة على الامور المادية والمعنوية فيشمل ملك النبوة والولاية والهداية وملك الرقاب والثروة وذلك أنه هو الظاهر من سياق الجمل السابقة واللاحقة فإن الآية السابقة تومئ إلى دعواهم أنهم يملكون القضاء والحكم على المؤمنين وهو
[ 376 ]
مسانخ للملك على الفضائل المعنوية وذيل الآية: " فإذن لا يؤتون الناس نقيرا " يدل على ملك الماديات أو ما يشمل ذلك فالمراد به الاعم من ملك الماديات والمعنويات. فيؤول معنى الآية إلى نحو قولنا أم لهم نصيب من الملك الذي أنعم الله به على نبيه بالنبوة والولاية والهداية ونحوه ولو كان لهم ذلك لم يؤتوا الناس أقل القليل الذي لا يعتد به لبخلهم وسوء سريرتهم فالآية قريبة المضمون من قوله تعالى قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لامسكتم خشية الانفاق: الاسراء - 100. قوله تعالى أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله وهذا آخر الشقوق الثلاثة المذكورة ووجه الكلام إلى اليهود جوابا عن قضائهم على المؤمنين بأن دين المشركين اهدى من دينهم. والمراد بالناس على ما يدل عليه هذا السياق هم الذين آمنوا وبما آتاهم الله من فضله هو النبوة والكتاب والمعارف الدينية غير أن ذيل الآية فقد آتينا آل إبراهيم الخ يدل على أن هذا الذي اطلق عليه الناس من آل إبراهيم فالمراد بالناس حينئذ هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم وما انبسط على غيره من هذا الفضل المذكور في الآية فهو من طريقه وببركاته العالية وقد تقدم في تفسير قوله تعالى إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم الآية: آل عمران - 33 أن آل إبراهيم هو النبي وآله. وإطلاق الناس على المفرد لا ضير فيه فإنه على نحو الكناية كقولك لمن يتعرض لك ويؤذيك لا تتعرض للناس وما لك وللناس ؟ تريد نفسك أي لا تتعرض لي. قوله تعالى فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة الجملة إيئاس لهم في حسدهم وقطع لرجائهم زوال هذه النعمة وانقطاع هذا الفضل بأن الله قد أعطى آل إبراهيم من فضله ما أعطى وآتاهم من رحمته ما آتى فليموتوا بغيظهم فلن ينفعهم الحسد شيئا. ومن هنا يظهر أن المراد بآل إبراهيم إما النبي وآله من أولاد إسماعيل أو مطلق آل إبراهيم من أولاد إسماعيل وإسحاق حتى يشمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي هو المحسود عند اليهود بالحقيقة وليس المراد بآل إبراهيم بني إسرائيل من نسل إبراهيم فإن الكلام على هذا التقدير يعود تقريرا لليهود في حسدهم النبي أو المؤمنين لمكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيهم
[ 377 ]
فيفسد معنى الجمله كما لا يخفى. وقد ظهر أيضا كما تقدمت الاشارة إليه أن هذه الجملة فقد آتينا آل إبراهيم الخ تدل على أن الناس المحسودين هم من آل إبراهيم فيتأيد به أن المراد بالناس النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأما المؤمنون به فليسوا جميعا من ذرية إبراهيم ولا كرامة لذريته من المؤمنين على غيرهم حتى يحمل الكلام عليهم ولا يوجب مجرد الايمان واتباع ملة إبراهيم تسمية المتبعين بأنهم آل إبراهيم وكذا قوله تعالى إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا الآية: آل عمران - 68 لا يوجب تسمية الذين آمنوا بآل إبراهيم لمكان الاولوية فإن في الآية ذكرا من الذين اتبعوا إبراهيم وليسوا يسمون آل إبراهيم قطعا فالمراد بآل إبراهيم النبي أو هو وآله صلى الله عليه وآله وسلم وإسماعيل جده ومن في حذوه. قوله تعالى وآتيناهم ملكا عظيما قد تقدم أن مقتضى السياق أن يكون المراد بالملك ما يعم الملك المعنوي الذي منه النبوة والولاية الحقيقية على هداية الناس وإرشادهم ويؤيده أن الله سبحانه لا يستعظم الملك الدنيوي لو لم ينته إلى فضيلة معنوية ومنقبة دينية ويؤيد ذلك أيضا أن الله سبحانه لم يعد فيما عده من الفضل في حق آل إبراهيم النبوة والولاية إذ قال فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة فيقوى أن يكون النبوة والولاية مندرجتين في إطلاق قوله وآتيناهم ملكا عظيما. قوله تعالى فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه الصد الصرف وقد قوبل الايمان بالصد لان اليهود ما كانوا ليقنعوا على مجرد عدم الايمان بما أنزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم دون أن يبذلوا مبلغ جهدهم في صد الناس عن سبيل الله والايمان بما نزله من الكتاب وربما كان الصد بمعنى الاعراض وحينئذ يتم التقابل من غير عناية زائدة. قوله تعالى وكفى بجهنم سعيرا تهديد لهم بسعير جهنم في مقابل ما صدوا عن الايمان بالكتاب وسعروا نار الفتنة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والذين آمنوا معه. ثم بين تعالى كفاية جهنم في أمرهم بقوله إن الذين كفروا بآياتنا إلى آخر الآية وهو بيان في صورة التعليل ثم عقبه بقوله والذين آمنوا وعلموا الصالحات إلى آخر الآية ليتبين الفرق بين الطائفتين من آمن به ومن صد عنه ويظهر أنهما في قطبين
[ 378 ]
متخالفين من سعادة الحياة الاخرى وشقائها دخول الجنات وظلها الظليل وإحاطة سعير جهنم والاصطلاء بالنار أعاذنا الله ومعنى الآيتين واضح. قوله تعالى إن الله يأمركم أن تؤدوا الامانات إلى أهلها وإذا حكمتم الخ الفقرة الثانية من الآية وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ظاهرة الارتباط بالآيات السابقة عليها فإن البيان الالهي فيها يدور حول حكم اليهود للمشركين بأنهم أهدى سبيلا من المؤمنين وقد وصفهم الله تعالى في أول بيانه بأنهم اوتوا نصيبا من الكتاب والذي في الكتاب هو تبيين آيات الله والمعارف الالهية وهي أمانات مأخوذة عليها الميثاق أن تبين للناس ولا تكتم عن أهله. وهذا الذى ذكر من القرائن يؤيد أن يكون المراد بالامانات ما يعم الامانات المالية وغيرها من المعنويات كالعلوم والمعارف الحقة التي من حقها أن يبلغها حاملوها أهلها من الناس. وبالجملة لما خانت اليهود الامانات الالهية المودعة عندهم من العلم بمعارف التوحيد وآيات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فكتموها ولم يظهروها في واجب وقتها ثم لم يقنعوا بذلك حتى جاروا في الحكم بين المؤمنين والمشركين فحكموا للوثنية على التوحيد فآل أمرهم فيه إلى اللعن الالهي وجر ذلك إياهم إلى عذاب السعير فلما كان من أمرهم ما كان غير سبحانه سياق الكلام من التكلم إلى الغيبة فأمر الناس بتأدية الامانات إلى أهلها وبالعدل في الحكم فقال إن الله يأمركم أن تؤدوا الامانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس الخ. والذى وسعنا به معنى تأدية الامانات والعدل في الحكم هو الذى يقضى به السياق على ما عرفت فلا يرد عليه أنه عدول عن ظاهر لفظ الامانة والحكم فإن المتبادر في مرحلة التشريع من مضمون الآية وجوب رد الامانة المالية إلى صاحبها وعدل القاضى وهو الحكم في مورد القضاء الشرعي وذلك أن التشريع المطلق لا يتقيد بما يتقيد به موضوعات الاحكام الفرعية في الفقه بل القرآن مثلا يبين وجوب رد الامانة على الاطلاق ووجوب العدل في الحكم على الاطلاق فما كان من ذلك راجعا إلى الفقه من الامانة المالية والقضاء في المرافعات راجعه فيه الفقه وما كان غير ذلك استفاد منه فن اصول المعارف وهكذا.
[ 379 ]
( بحث روائي )
في الدر المنثور أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال ": كان رفاعة بن زيد بن التابوت من عظماء اليهود - إذا كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم لوى لسانه - وقال ارعنا سمعك يا محمد حتى نفهمك - ثم طعن في الاسلام وعابه فأنزل الله فيه - ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة إلى قوله فلا يؤمنون إلا قليلا وفيه أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم عن السدى ": في قوله تعالى يا أيها الذين اوتوا الكتاب الآية - قال نزلت في مالك بن الصيف - ورفاعة بن زيد بن التابوت من بنى قينقاع وفيه أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤساء من أحبار اليهود - منهم عبد الله بن سوريا وكعب بن أسد - فقال لهم يا معشر يهود اتقوا الله وأسلموا - فو الله إنكم لتعلمون أن الذى جئتكم به لحق - فقالوا ما نعرف ذلك يا محمد فأنزل الله فيهم - يا أيها الذين اوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا الآية أقول ظاهر الآيات الشريفة على ما تقدم في البيان السابق وإن كان نزولها في اليهود من أهل الكتاب إلا أن ما نقلناه من سبب النزول لا يزيد على أنه حكم تطبيقي كغالب نظائره من الاخبار الحاكية لاسباب النزول والله أعلم. وفي تفسير البرهان عن النعماني بإسناده عن جابر عن الباقر عليه السلام في حديث طويل يصف فيه خروج السفياني وفيه قال: وينزل أمير جيش السفياني البيداء فينادى مناد من السماء - يا بيداء أبيدى بالقوم فيخسف بهم - فلا يفلت منهم إلا ثلاثة نفر - يحول الله وجوههم ألى أقفيتهم وهم من كلب - وفيهم نزلت هذه الآية يا أيها الذين اوتوا الكتاب - آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم - من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها الآية: أقول ورواه عن المفيد أيضا بإسناده عن جابر عن الباقر عليه السلام في نظير الخبر في قصة السفياني
[ 380 ]
وفي الفقيه بإسناده عن ثوير عن أبيه أن عليا عليه السلام قال: ما في القرآن آية أحب إلى من قوله عز وجل - إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء: أقول ورواه في الدر المنثور عن الفريابى والترمذي وحسنه عن على وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم عن ابن عمر قال: لما نزلت يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم الآية - فقام رجل فقال والشرك يا نبى الله - فكره ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال - إن الله لا يغفر أن يشرك به الآية وفيه أخرج ابن المنذر عن أبى مجاز قال: لما نزلت هذه الآية - يا عبادي الذين أسرفوا الآية - قام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر فتلاها على الناس - فقام إليه رجل فقال والشرك بالله - فسكت مرتين أو ثلاثا فنزلت هذه الآية - إن الله لا يغفر أن يشرك به - ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء - فاثبتت هذه في الزمر واثبتت هذه في النساء اقول وقد عرفت فيما تقدم أن آية الزمر ظاهرة بحسب ما تتعقبه من الآيات في المغفرة بالتوبة ولا ريب أن التوبة يغفر معها كل ذنب حتى الشرك وأن آية النساء موردها غير مورد التوبة فلا تنافى بين الآيتين مضمونا حتى تكون إحداهما ناسخة أو مخصصة للاخرى. وفي المجمع عن الكلبى ": في الآية - نزلت في المشركين وحشى وأصحابه - وذلك أنه لما قتل حمزة - وكان قد جعل له على قتله أن يعتق فلم يوف له بذلك - فلما قدم مكة ندم على صنيعه هو وأصحابه - فكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - أنا قد ندمنا على الذى صنعناه - وليس يمنعنا عن الاسلام إلا أنا سمعناك تقول وأنت بمكة - والذين لا يدعون مع الله إلها آخر - ولا يقتلون النفس التى حرم الله إلا بالحق - ولا يزنون الآيتان - وقد دعونا مع الله إلها آخر - وقتلنا النفس التى حرم الله وزنينا فلو لا هذه لاتبعناك - فنزلت الآية - إلا من تاب وعمل عملا صالحا الآيتين - فبعث بهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى وحشى وأصحابه - فلما قراهما كتبوا إليه أن هذا شرط شديد - نخاف أن لا نعمل عملا صالحا - فلا نكون من أهل هذه الآية - فنزلت إن الله لا يغفر الآية - فبعث بها إليهم فقرؤوها فبعثوا إليه - إنا نخاف أن لا نكون من أهل مشيئته - فنزلت يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم - لا تقنطوا من رحمة الله - إن الله يغفر الذنوب جميعا - فبعث بها إليهم فلما قرؤوها
[ 381 ]
دخل هو وأصحابه في الاسلام - ورجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقبل منهم - ثم قال لوحشي أخبرني كيف قتلت حمزة - فلما أخبره قال ويحك غيب شخصك عنى - فلحق وحشى بعد ذلك بالشام - وكان بها إلى أن مات: أقول وقد ذكر هذه الرواية الرازي في تفسيره عن ابن عباس والتأمل في موارد هذه الآيات التى تذكر الرواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يراجع بها وحشيا لا يدع للمتأمل شكا في أن الرواية موضوعة قد أراد واضعها أن يقدر أن وحشيا وأصحابه مغفور لهم وإن ارتكبوا من المعاصي كل كبيرة وصغيرة فقد التقط آيات كثيرة من مواضع مختلفة من القرآن فالاستثناء من موضع والمستثنى من موضع مع أن كلا منها واقعة في محل محفوفة بأطراف لها معها ارتباط واتصال وللمجموع سياق لا يحتمل التقطيع والتفصيل فقطعها ثم رتبها ونضدها نضدا يناسب هذه المراجعة العجيبة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين وحشى. ولقد أجاد بعض المفسرين حيث قال بعد الاشارة إلى الرواية كأنهم يثبتون أن الله سبحانه كان يداعب وحشيا. فواضع الرواية لم يرد إلا أن يشرف وحشيا بمغفرة محتومة مختومة لا يضره معها أي ذنب أذنب وأي فظيعة أتى بها وعقب ذلك ارتفاع المجازاة على المعاصي ولازمه ارتفاع التكاليف عن البشر على ما يراه النصرانية بل أشنع فإنهم إنما رفعوا التكاليف بتفدية مثل عيسى المسيح وهذا يرفعه اتباعا لهوى وحشى. ووحشى هذا هو عبد لابن مطعم قتل حمزة بأحد ثم لحق مكة ثم أسلم بعد أخذ الطائف وقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم غيب شخصك عنى فلحق بالشام وسكن حمصا واشتغل في عهد عمر بالكتابة في الديوان ثم أخرج منه لكونه يدمن الخمر وقد جلد لذلك غير مرة ثم مات في خلافة عثمان قتله الخمر على ما روى. روى ابن عبد البر في الاستيعاب بإسناده عن ابن إسحاق عن عبد الله بن الفضل عن سليمان بن يسار عن جعفر بن عمرو بن امية الضمرى قال ": خرجت أنا وعبد الله ابن عدى بن الخيار - فمررنا بحمص وبها وحشى - فقلنا لو أتيناه وسألناه عن قتله حمزة كيف قتله - فلقينا رجلا ونحن نسأل عنه فقال - إنه رجل قد غلبت عليه الخمر - فإن تجداه صاحيا تجداه رجلا عربيا - يحدثكما ما شئتما من حديث - وإن تجداه على
[ 382 ]
غير ذلك فانصرفا عنه - قال فأقبلنا حتى انتهينا إليه الحديث وفيه ذكر كيفية قتله حمزة يوم احد. وفي المجمع روى مطرف بن شخير عن عمر بن الخطاب قال ": كنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم - إذا مات الرجل منا على كبيرة - شهدنا بأنه من أهل النار - حتى نزلت الآية فأمسكنا عن الشهادات وفي الدر المنثور أخرج ابن المنذر من طريق المعتمر بن سليمان عن سليمان بن عتبة البارقى قال حدثنا إسماعيل بن ثوبان قال ": شهدت في المسجد قبل الداء الاعظم فسمعتهم يقولون - من قتل مؤمنا إلى آخر الآية - فقال المهاجرون والانصار قد أوجب له النار - فلما نزلت إن الله لا يغفر أن يشرك به - ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء قالوا ما شاء الله - يصنع الله ما يشاء أقول وروى ما يقرب من الروايتين عن ابن عمر بغير واحد من الطرق وهذه الروايات لا تخلو من شئ فلا نظن بعامة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يجهلوا أن هذه الآية إن الله لا يغفر أن يشرك به لا تزيد في مضمونها على آيات الشفاعة شيئا كما تقدم بيانه أو أن يغفلوا عن أن معظم آيات الشفاعة مكية كقوله تعالى في سورة الزخرف ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون: الزخرف - 86 ومثلها آيات الشفاعة الواقعة في سورة يونس والانبياء وطه والسبأ والنجم والمدثر كلها آيات مكية تثبت الشفاعة على ما مر بيانه وهى عامة لجميع الذنوب ومقيدة في جانب المشفوع له بالدين المرضى وهو التوحيد ونفى الشريك وفي جانب الله تعالى بالمشيئة فمحصل مفادها شمول المغفرة لجميع الذنوب إلا الشرك على مشيئة من الله وهذا بعينه مفاد هذه الآية إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء. وأما الآيات التى توعد قاتل النفس المحترمة بغير حق وآكل الربا وقاطع الرحم بجزاء النار الخالد كقوله تعالى ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها الآية النساء - 93 وقوله في الربا ومن عاد فاولئك أصحاب النار هم فيها خالدون: البقرة - 275 وقوله في قاطع الرحم اولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار: الرعد - 25 وغير ذلك من الآيات فهذه الآيات إنما توعد بالشر وتنبئ عن جزاء النار وأما كونه جزاءا محتوما لا يقبل التغيير والارتفاع فلا صراحة لها فيه.
[ 383 ]
وبالجملة لا يترجح آية إن الله لا يغفر على آيات الشفاعة بأمر زائد في مضمونها يمهد لهم ما ذكروه. فليس يسعهم أن يفهموا من آيات الكبائر تحتم النار حتى يجوز لهم الشهادة على مرتكبها بالنار ولا يسعهم أن يفهموا من آية المغفرة إن الله لا يغفر أن يشرك به الخ أمرا ليس يفتهم من آيات الشفاعة حتى يوجب لهم القول بنسخها أو تخصيصها أو تقييدها آيات الكبائر. ويومى إلى ذلك ما ورد في بعض هذه الروايات وهو ما رواه في الدر المنثور عن ابن الضريس وأبى يعلى وابن المنذر وابن عدى بسند صحيح عن ابن عمر قال: كنا نمسك عن الاستغفار لاهل الكبائر - حتى سمعنا من نبينا صلى الله عليه وسلم - إن الله لا يغفر أن يشرك به - ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء - وقال إنى ادخرت دعوتي شفاعتي لاهل الكبائر من امتى - فأمسكنا عن كثير مما كان في أنفسنا - ثم نطقنا بعد ورجونا فظاهر الرواية أن الذى فهموه من آية المغفرة فهموا مثله من حديث الشفاعة لكن يبقى عليه سؤال آخر وهو أنه ما بالهم فهموا جواز مغفرة الكبائر من حديث الشفاعة ولم يكونوا يفهمونه من آيات الشفاعة المكية على كثرتها ودلالتها وطول العهد ما أدرى. وفي الدر المنثور ": في قوله أ لم تر إلى الذين اوتوا نصيبا من الكتاب - إلى قوله سبيلا ": أخرج البيهقى في الدلائل وابن عساكر في تاريخه عن جابر بن عبد الله قال ": لما كان من أمر النبي صلى الله عليه وسلم - ما كان اعتزل كعب بن الاشرف ولحق بمكة وكان بها - وقال لا اعين عليه ولا اقاتله فقيل له بمكة - يا كعب أ ديننا خير أم دين محمد وأصحابه - قال دينكم خير وأقدم ودين محمد حديث - فنزلت فيه - أ لم تر إلى الذين اوتوا نصيبا من الكتاب الآية. أقول وفي سبب نزول الآية روايات على وجوه مختلفة أسلمها ما أوردناه غير أن الجميع تشترك في أصل القصة وهو أن بعضا من اليهود حكموا لقريش على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن دينهم خير من دينه. وفي تفسير البرهان: في قوله تعالى أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله الآية: عن الشيخ في أماليه بإسناده عن جابر عن أبى جعفر عليه السلام أم يحسدون الناس
[ 384 ]
على ما آتاهم الله من فضله - قال نحن الناس وفي الكافي بإسناده عن بريد عن الباقر عليه السلام في حديث: أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله - نحن الناس المحسودون الحديث أقول وهذا المعنى مروى عن أئمة أهل البيت عليهم السلام مستفيضا بطرق كثيرة مودعة في جوامع الشيعة كالكافي والتهذيب والمعاني والبصائرو تفسيري القمى والعياشي وغيرها. وفي معناها من طرق أهل السنة ما عن ابن المغازلى يرفعه إلى محمد بن على الباقر عليهما السلام: في قوله تعالى - أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله - قال نحن الناس والله وما في الدر المنثورعن ابن المنذر والطبراني من طريق عطاء عن ابن عباس ": في قوله أم يحسدون الناس - قال نحن الناس دون الناس: وقد روى فيه أيضا تفسير الناس برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن عكرمة ومجاهد ومقاتل وأبى مالك وقد مر فيما قدمناه من البيان أن الظاهر كون المراد بالناس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته ملحقون به. وفي تفسير العياشي عن حمران عن الباقر عليه السلام فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب قال النبوة والحكمة - قال الفهم والقضاء وملكا عظيما قال الطاعة أقول المراد بالطاعة الطاعة المفترضة على ما ورد في سائر الاحاديث والاخبار في هذه المعاني أيضا كثيرة وفي بعضها تفسير الطاعة المفترضة بالامامة والخلافة كما في الكافي بإسناده عن بريد عن الباقر عليه السلام. وفي تفسير القمى: في قوله تعالى إن الذين كفروا بآياتنا الآية - قال الآيات أمير المؤمنين والائمة عليهم السلام أقول وهو من الجرى. وفي مجالس الشيخ بإسناده عن حفص بن غياث القاضى قال: كنت عند سيد الجعافرة جعفر بن محمد عليهما السلام - لما قدمه المنصور فأتاه ابن أبى العوجاء وكان ملحدا - فقال ما تقول في هذه الآية - كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا
[ 385 ]
العذاب - هب هذه الجلود عصت فعذبت فما بال الغير - قال أبو عبد الله عليه السلام ويحك هي هي وهي غيرها - قال أعقلنى هذا القول فقال له - أ رأيت لو أن رجلا عمد إلى لبنة فكسرها - ثم صب عليها الماء وجبلها - ثم ردها إلى هيئتها الاولى ألم تكن هي هي وهي غيرها - فقال بلى أمتع الله بك: أقول ورواه في الاحتجاج أيضا عن حفص بن غياث عنه عليه السلام والقمى في تفسيره مرسلا ويعود حقيقة الجواب إلى أن وحدة المادة محفوظة بوحدة الصورة فبدن الانسان كأجزاء بدنه باق على وحدته ما دام الانسان هو الانسان وإن تغير البدن بإي تغير حدث فيه. وفي الفقيه قال: سئل الصادق عليه السلام عن قول الله عز وجل - لهم فيها أزواج مطهرة قال - الازواج المطهرة اللاتى لا يحضن ولا يحدثن وفي تفسير البرهان: في قوله تعالى إن الله يأمركم أن تؤدوا الامانات الآية عن محمد بن أبراهيم النعماني بإسناده عن زرارة عن أبى جعفر محمد بن على عليهما السلام قال: سألته عن قول الله عز وجل - إن الله يأمركم أن تؤدوا الامانات إلى أهلها - وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل فقال - أمر الله الامام أن يؤدى الامانة إلى الامام الذى بعده - ليس له أن يزويها عنه أ لا تسمع قوله - وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل - إن الله نعما يعظكم به - هم الحكام يا زرارة إنه خاطب بها الحكام: أقول وصدر الحديث مروى بطرق كثيرة عنهم عليهم السلام وذيله يدل على أنه من باب الجرى وأن الآية نازلة في مطلق الحكم وإعطاء ذى الحق حقه فينطبق على مثل ما تقدم سابقا. وفي معناه ما في الدر المنثور عن سعيد بن منصور والفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم عن على بن أبى طالب قال: حق على الامام أن يحكم بما أنزل الله - وأن يؤدى الامانة - فإذا فعل ذلك فحق على الناس أن يسمعوا له - وأن يطيعوا وأن يجيبوا إذا دعوا = يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الامر
[ 386 ]
منكم فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا (59) - ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا (60) - وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا (61) - فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاؤك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا (62) - أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا (63) - وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما (64) - فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما (65) - ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا (66) - وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما (67) - ولهديناهم صراطا مستقيما (68) - ومن يطع الله والرسول
[ 387 ]
فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا (69) - ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما (70))
( بيان )
الآيات كما ترى غير عادمة الارتباط بما تقدمها من الآيات فإن آيات السورة آخذة من قوله تعالى واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا كأنها مسوقة لترغيب الناس في الانفاق في سبيل الله وإقامة صلب طبقات المجتمع وأرباب الحوائج من المؤمنين وذم الذين يصدون الناس عن القيام بهذا المشروع الواجب ثم الحث على إطاعة الله وإطاعة الرسول وأولى الامر وقطع منابت الاختلاف والتجنب عن التشاجر والتنازع وإرجاعه إلى الله ورسوله لو اتفق والتحرز عن النفاق ولزوم التسليم لاوامر الله ورسوله وهكذا إلى أن تنتهى إلى الآيات النادبة إلى الجهاد المبينة لحكمه أو الآمرة بالنفر في سبيل الله فجميع هذه الآيات مجهزة للمؤمنين للجهاد في سبيل الله ومنظمة لنظام أمورهم في داخلهم وربما تخللها آية أو آيتان بمنزلة الاعتراض في الكلام لا يخل باتصال الكلام كما تقدم الايماء إليه في قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى: الآية - 43 من السورة. قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واولى الامر منكم لما فرغ من الندب إلى عبادة الله وحده لا شريك له وبث الاحسان بين طبقات المؤمنين وذم من يعيب هذا الطريق المحمود أو صد عنه صدودا عاد إلى أصل المقصود بلسان آخر يتفرع عليه فروع اخر بها يستحكم أساس المجتمع الاسلامي وهو التحضيض والترغيب في أخذهم بالائتلاف والاتفاق ورفع كل تنازع واقع بالرد إلى الله ورسوله. ولا ينبغى أن يرتاب في أن قوله أطيعوا الله وأطيعوا الرسول جملة سيقت تمهيدا وتوطئة للامر برد الامر إلى الله ورسوله عند ظهور التنازع وإن كان مضمون الجملة أساس جميع الشرائع والاحكام الالهية. فإن ذلك ظاهر تفريع قوله فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول
[ 388 ]
ثم العود بعد العود إلى هذا المعنى بقوله أ لم تر إلى الذين يزعمون الخ وقوله وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله الخ وقوله فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم الخ. ولا ينبغى أن يرتاب في أن الله سبحانه لا يريد بإطاعته إلا إطاعته في ما يوحيه الينا من طريق رسوله من المعارف والشرائع وأما رسوله صلى الله عليه وآله وسلم فله حيثيتان إحديهما حيثية التشريع بما يوحيه إليه ربه من غير كتاب وهو ما يبينه للناس من تفاصيل ما يشتمل على إجماله الكتاب وما يتعلق ويرتبط بها كما قال تعالى وأنزلنا اليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم: النحل - 44 والثانية ما يراه من صواب الرأي وهو الذى يرتبط بولايته الحكومة والقضاء قال تعالى لتحكم بين الناس بما أراك الله: النساء - 105 وهذا هو الرأي الذى كان يحكم به على ظواهر قوانين القضاء بين الناس وهو الذى كان صلى الله عليه وآله وسلم يحكم به في عزائم الامور وكان الله سبحانه أمره في اتخاذ الرأي بالمشاورة فقال وشاورهم في الامر فإذا عزمت فتوكل على الله: آل عمران - 159 فاشركهم به في المشاورة ووحده في العزم. إذا عرفت هذا علمت أن لاطاعة الرسول معنى ولاطاعة الله سبحانه معنى آخر وإن كان إطاعة الرسول إطاعة لله بالحقيقة لان الله هو المشرع لوجوب إطاعته كما قال وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله فعلى الناس أن يطيعوا الرسول فيما يبينه بالوحى وفيما يراه من الرأي. وهذا المعنى والله أعلم هو الموجب لتكرار الامر بالطاعة في قوله وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول لا ما ذكره المفسرون أن التكرار للتأكيد فإن القصد لو كان متعلقا بالتأكيد كان ترك التكرار كما لو قيل وأطيعوا الله والرسول أدل عليه وأقرب منه فإنه كان يفيد أن إطاعة الرسول عين إطاعة الله سبحانه وأن الاطاعتين واحدة وما كل تكرار يفيد التأكيد. وأما اولوا الامر فهم كائنين من كانوا لا نصيب لهم من الوحى وإنما شأنهم الرأي الذى يستصوبونه فلهم افتراض الطاعة نظير ما للرسول في رأيهم وقولهم ولذلك لما ذكر وجوب الرد والتسليم عند المشاجرة لم يذكرهم بل خص الله والرسول فقال فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وذلك أن المخاطبين بهذا الرد هم المؤمنون المخاطبون بقوله في صدر الآية يا أيها الذين
[ 389 ]
آمنوا والتنازع تنازعهم بلا ريب ولا يجوز أن يفرض تنازعهم مع اولى الامر مع افتراض طاعتهم بل هذا التنازع هو ما يقع بين المؤمنين أنفسهم وليس في أمر الرأي بل من حيث حكم الله في القضية المتنازع فيها بقرينة الآيات التالية الذامة لمن يرجع إلى حكم الطاغوت دون حكم الله ورسوله وهذا الحكم يجب الرجوع فيه إلى أحكام الدين المبينة المقررة في الكتاب والسنة والكتاب والسنة حجتان قاطعتان في الامر لمن يسعه فهم الحكم منهما وقول اولى الامر في أن الكتاب والسنة يحكمان بكذا أيضا حجة قاطعة فإن الآية تقرر افتراض الطاعة من غير أي قيد أو شرط والجميع راجع بالاخرة إلى الكتاب والسنة ومن هنا يظهر أن ليس لاولى الامر هؤلاء كائنين من كانوا أن يضعوا حكما جديدا ولا أن ينسخوا حكما ثابتا في الكتاب والسنة وإلا لم يكن لوجوب ارجاع موارد التنازع إلى الكتاب والسنة والرد إلى الله والرسول معنى على ما يدل عليه قوله وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا: الاحزاب - 36 فقضاء الله هو التشريع وقضاء رسوله إما ذلك وإما الاعم وإنما الذى لهم أن يروا رأيهم في موارد نفوذ الولاية وأن يكشفوا عن حكم الله ورسوله في القضايا والموضوعات العامة. وبالجملة لما لم يكن لاولى الامر هؤلاء خيرة في الشرائع ولا عندهم إلا ما لله ورسوله من الحكم أعنى الكتاب والسنة لم يذكرهم الله سبحانه ثانيا عند ذكر الرد بقوله فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول فلله تعالى إطاعة واحدة وللرسول واولى الامر إطاعة واحدة ولذلك قال أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واولى الامر منكم. ولا ينبغى أن يرتاب في أن هذه الاطاعة المأمور بها في قوله أطيعوا الله وأطيعوا الرسول إطاعة مطلقة غير مشروطة بشرط ولا مقيدة بقيد وهو الدليل على أن الرسول لا يأمر بشئ ولا ينهى عن شئ يخالف حكم الله في الواقعة وإلا كان فرض طاعته تناقضا منه تعالى وتقدس ولا يتم ذلك إلا بعصمة فيه صلى الله عليه وآله وسلم. وهذا الكلام بعينه جار في اولى الامر غير أن وجود قوة العصمة في الرسول لما قامت عليه الحجج من جهة العقل والنقل في حد نفسه من غير جهة هذه الآية دون اولي
[ 390 ]
الامر ظاهرا أمكن أن يتوهم متوهم أن اولى الامر هؤلاء لا يجب فيهم العصمة ولا يتوقف عليها الآية في استقامة معناها. بيان ذلك أن الذى تقرره الآية حكم مجعول لمصلحة الامة يحفظ به مجتمع المسلمين من تسرب الخلاف والتشتت فيهم وشق عصاهم فلا يزيد على الولاية المعهودة بين الامم والمجتمعات تعطى للواحد من الانسان افتراض الطاعة ونفوذ الكلمة وهم يعلمون أنه ربما يعصى وربما يغلط في حكمه لكن إذا علم بمخالفته القانون في حكمه لا يطاع فيه وينبه فيما أخطأ وفيما يحتمل خطأه ينفذ حكمه وإن كان مخطئا في الواقع ولا يبالى بخطأه فإن مصلحة حفظ وحدة المجتمع والتحرز من تشتت الكلمة مصلحة يتدارك بها أمثال هذه الاغلاط والاشتباهات. وهذا حال اولى الامر الواقع في الآية في افتراض طاعتهم فرض الله طاعتهم على المؤمنين فإن أمروا بما يخالف الكتاب والسنة فلا يجوز ذلك منهم ولا ينفذ حكمهم لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وقد روى هذا المعنى الفريقان وبه يقيد إطلاق الآية وأما الخطأ والغلط فإن علم به رد إلى الحق وهو حكم الكتاب والسنة وإن احتمل خطأه نفذ فيه حكمه كما فيما علم عدم خطأه ولا بأس بوجوب القبول وافتراض الطاعة فيما يخالف الواقع هذا النوع لان مصلحة حفظ الوحدة في الامة وبقاء السودد والابهة تتدارك بها هذه المخالفة ويعود إلى مثل ما تقرر في اصول الفقه من حجية الطرق الظاهرية مع بقاء الاحكام الواقعية على حالها وعند مخالفة مؤداها للواقع تتدارك المفسدة اللازمة بمصلحة الطريق. وبالجملة طاعة اولى الامر مفترضة وإن كانوا غير معصومين يجوز عليهم الفسق والخطأ فإن فسقوا فلا طاعة لهم وإن أخطأوا ردوا إلى الكتاب والسنة إن علم منهم ذلك ونفذ حكمهم فيما لم يعلم ذلك ولا بأس بإنفاذ ما يخالف حكم الله في الواقع دون الظاهر رعاية لمصلحة الاسلام والمسلمين وحفظا لوحدة الكلمة. وأنت بالتأمل فيما قدمناه من البيان تعرف سقوط هذه الشبهة من أصله وذلك أن هذا التقريب من الممكن أن نساعده في تقييد إطلاق الآية في صورة الفسق بما ذكر من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وما يؤدي هذا المعنى من الآيات القرآنية كقوله إن الله لا يأمر بالفحشاء: الاعراف - 28 وما في هذا
[ 391 ]
المعنى من الآيات. وكذا من الممكن بل الواقع أن يجعل شرعا نظير هذه الحجية الظاهرية المذكورة كفرض طاعة امراء السرايا الذين كان ينصبهم عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكذا الحكام الذين كان يوليهم على البلاد كمكة واليمن أو يخلفهم بالمدينة إذا خرج إلى غزاة وكحجية قول المجتهد على مقلده وهكذا لكنه لا يوجب تقيد الآية فكون مسألة من المسائل صحيحه في نفسه أمر وكونها مدلولا عليها بظاهر آية قرآنية أمر آخر. فالآية تدل على افتراض طاعة اولي الامر هؤلاء ولم تقيده بقيد ولا شرط وليس في الآيات القرآنية ما يقيد الآية في مدلولها حتى يعود معنى قوله وأطيعوا الرسول واولي الامر منكم إلى مثل قولنا وأطيعوا اولي الامر منكم فيما لم يأمروا بمعصية أو لم تعلموا بخطأهم فإن أمروكم بمعصية فلا طاعة عليكم وإن علمتم خطأهم فقوموهم بالرد إلى الكتاب والسنة فما هذا معنى قوله وأطيعوا الرسول واولي الامر منكم. مع أن الله سبحانه أبان ما هو أوضح من هذا القيد فيما هو دون هذه الطاعة المفترضة كقوله في الوالدين ووصينا الانسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما الآية: العنكبوت - 8 فما باله لم يظهر شيئا من هذه القيود في آية تشتمل على اس أساس الدين وإليها تنتهي عامة أعراق السعادة الانسانية. على أن الآية جمع فيها بين الرسول واولي الامر وذكر لهما معا طاعة واحدة فقال وأطيعوا الرسول واولي الامر منكم ولا يجوز على الرسول أن يأمر بمعصية أو يغلط في حكم فلو جاز شئ من ذلك على اولي الامر لم يسع إلا أن يذكر القيد الوارد عليهم فلا مناص من أخذ الآية مطلقة من غير أي تقييد ولازمه اعتبار العصمة في جانب اولي الامر كما اعتبر في جانب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من غير فرق. ثم إن المراد بالامر في اولي الامر هو الشأن الراجع إلى دين المؤمنين المخاطبين بهذا الخطاب أو دنياهم على ما يؤيده قوله تعالى وشاورهم في الامر: آل عمران - 159 وقوله في مدح المتقين وأمرهم شورى بينهم: الشورى - 38 وإن كان من الجائز بوجه أن يراد بالامر ما يقابل النهي لكنه بعيد. وقد قيد بقوله منكم وظاهره كونه ظرفا مستقرا أي اولي الامر كائنين
[ 392 ]
منكم وهو نظير قوله تعالى هو الذي بعث في الاميين رسولا منهم: الجمعة - 2 وقوله في دعوة إبراهيم ربنا وابعث فيهم رسولا منهم: البقرة - 129 وقوله رسلا منكم يقصون عليكم آياتي: الاعراف - 35 وبهذا يندفع ما ذكره بعضهم أن تقييد اولي الامر بقوله منكم يدل على أن الواحد منهم إنسان عادي مثلنا وهم منا ونحن مؤمنون من غير مزية عصمة إلهية. ثم إن اولي الامر لما كان اسم جمع يدل على كثرة جمعية في هؤلاء المسمين باولي الامر فهذا لا شك فيه لكن يحتمل في بادئ النظر أن يكونوا آحادا يلي الامر ويتلبس بافتراض الطاعة واحد منهم بعد الواحد فينسب افتراض الطاعة إلى جميعهم بحسب اللفظ والاخذ بجامع المعنى كقولنا صل فرائضك وأطع سادتك وكبراء قومك. ومن عجيب الكلام ما ذكره الرازي أن هذا المعنى يوجب حمل الجمع على المفرد وهو خلاف الظاهر وقد غفل عن أن هذا استعمال شائع في اللغة والقرآن ملئ به كقوله تعالى فلا تطع المكذبين: القلم - 8 وقوله فلا تطع الكافرين: الفرقان - 52 وقوله إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا: الاحزاب - 67 وقوله ولا تطيعوا أمر المسرفين: الشعراء - 151 وقوله حافظوا على الصلوات: البقرة - 238 وقوله واخفض جناحك للمؤمنين: الحجر - 88 إلى غير ذلك من الموارد المختلفة بالاثبات والنفي والاخبار والانشاء. والذي هو خلاف الظاهر من حمل الجمع على المفرد هو أن يطلق لفظ الجمع ويراد به واحد من آحاده لا أن يوقع حكم على الجمع بحيث ينحل إلى أحكام متعددة بتعدد الآحاد كقولنا أكرم علماء بلدك أي أكرم هذا العالم وأكرم ذاك العالم وهكذا. ويحتمل أيضا أن يكون المراد باولى الامر هؤلاء الذين هم متعلق افتراض الطاعة الجمع من حيث هو جمع أي الهيئة الحاصلة من عدة معدودة كل واحد منهم من اولي الامر وهو أن يكون صاحب نفوذ في الناس وذا تأثير في امورهم كرؤساء الجنود والسرايا والعلماء وأولياء الدولة وسراة القوم بل كما ذكره في المنار هم أهل الحل والعقد الذين تثق بهم الامة من العلماء والرؤساء في الجيش والمصالح العامة كالتجارة والصناعات والزراعة وكذا رؤساء العمال والاحزاب ومديروا الجرائد المحترمة ورؤساء تحريرها ! فهذا معنى كون اولي الامر هم أهل الحل والعقد وهم الهيئة الاجتماعية
[ 393 ]
من وجوه الامة لكن الشأن في تطبيق مضمون تمام الآية على هذا الاحتمال. الآية دالة كما عرفت على عصمة اولي الامر وقد اضطر إلى قبول ذلك القائلون بهذا المعنى من المفسرين. فهل المتصف بهذه العصمة أفراد هذه الهيئة فيكون كل واحد واحد منهم معصوما فالجميع معصوم إذ ليس المجموع إلا الآحاد ؟ لكن من البديهي أن لم يمر بهذه الامة يوم يجتمع فيه جماعة من أهل الحل والعقد كلهم معصومون على إنفاذ أمر من امور الامة ومن المحال أن يأمر الله بشئ لا مصداق له في الخارج أو أن هذه العصمة وهي صفة حقيقية قائمة بتلك الهيئة قيام الصفة بموصوفها وإن كانت الاجزاء والافراد غير معصومين بل يجوز عليهم من الشرك والمعصية ما يجوز على سائر أفراد الناس فالرأي الذي يراه الفرد يجوز فيه الخطأ وأن يكون داعيا إلى الضلال والمعصية بخلاف ما إذا رأته الهيئة المذكورة لعصمتها ؟ وهذا أيضا محال وكيف يتصور اتصاف موضوع اعتباري بصفة حقيقية أعني اتصاف الهيئة الاجتماعية بالعصمة. أو أن عصمة هذه الهيئة ليست وصفا لافرادها ولا لنفس الهيئة بل حقيقته أن الله يصون هذه الهيئة أن تأمر بمعصية أو ترى رأيا فتخطئ فيه كما أن الخبر المتواتر مصون عن الكذب ومع ذلك ليست هذه العصمة بوصف لكل واحد من المخبرين ولا للهيئة الاجتماعية بل حقيقته أن العادة جارية على امتناع الكذب فيه وبعبارة اخرى هو تعالى يصون الخبر الذي هذا شأنه عن وقوع الخطأ فيه وتسرب الكذب عليه فيكون رأي اولي الامر مما لا يقع فيه الخطأ البتة وإن لم يكن آحادهم ولا هيئتهم متصفة بصفة زائدة بل هو كالخبر المتواتر مصون عن الكذب والخطأ وليكن هذا معنى العصمة في اولي الامر والآية لا تدل على أزيد من أن رأيهم غير خابط بل مصيب يوافق الكتاب والسنة وهو من عناية الله على الامة وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: لا تجتمع أمتي على خطأ. أما الرواية فهي أجنبية عن المورد فإنها إن صحت فإنما تنفي اجتماع الامة على خطأ ولا تنفى اجتماع أهل الحل والعقد منهم على خطأ وللامة معنى ولاهل الحل والعقد معنى آخر ولا دليل على إرادة معنى الثاني من لفظ الاول وكذا لا تنفي الخطأ عن اجتماع الامه بل تنفي الاجتماع على خطأ وبينهما فرق.
[ 394 ]
ويعود معنى الرواية إلى أن الخطأ في مسألة من المسائل لا يستوعب الامة بل يكون دائما فيهم من هو على الحق إما كلهم أو بعضهم ولو معصوم واحد فيوافق ما دل من الآيات والروايات على أن دين الاسلام وملة الحق لا يرتفع من الارض بل هو باق إلى يوم القيامة قال تعالى فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين: الانعام: 89 وقوله وجعلها كلمة باقية في عقبه: الزخرف - 28 وقوله إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون: الحجر - 9 وقوله وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه: فصلت - 42 إلى غير ذلك من الآيات. وليس يختص هذا بامة محمد بل الصحيح من الروايات تدل على خلافه وهي الروايات الواردة من طرق شتى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الدالة على افتراق اليهود على إحدى وسبعين فرقة والنصارى على اثنتين وسبعين فرقة والمسلمين على ثلاث وسبعين فرقة كلهم هالك إلا واحدة وقد نقلنا الرواية في المبحث الروائي الموضوع في ذيل قوله تعالى واعتصموا بحبل الله جميعا: آل عمران - 103. وبالجملة لا كلام على متن الرواية إن صح سندها فإنها أجنبية عن مورد الكلام وإنما الكلام في معنى عصمة أهل الحل والعقد من الامة لو كان هو المراد بقوله واولي الامر منكم. ما هو العامل الموجب لعصمة أهل الحل والعقد من المسلمين فيما يرونه من الرأي ؟ هذه العصابة التي شأنها الحل والعقد في الامور غير مختصة بالامة المسلمة بل كل امة من الامم العظام بل الامم الصغيرة بل القبائل والعشائر لا تفقد عدة من أفرادها لهم مكانة في مجتمعهم ذات قوة وتأثير في الامور العامة وأنت إذا فحصت التاريخ في الحوادث الماضية وما في عصرنا من الامم والاجيال وجدت موارد كثيرة اجتمعت أهل الحل والعقد منهم في مهام الامور وعزائمها على رأي استصوبوه ثم عقبوه بالعمل فربما أصابوا وربما أخطأوا فالخطأ وإن كان في الآراء الفردية أكثر منه في الآراء الاجتماعية لكن الآراء الاجتماعية ليست بحيث لا تقبل الخطأ أصلا فهذا التاريخ وهذه المشاهدة يشهدان منه على مصاديق وموارد كثيرة جدا. فلو كان الرأي الاجتماعي من أهل الحل والعقد في الاسلام مصونا عن الخطأ فإنما هو بعامل ليس من سنخ العوامل العادية بل عامل من سنخ العوامل المعجزة الخارقة
[ 395 ]
للعادة ويكون حينئذ كرامة باهرة تختص بها هذه الامة تقيم صلبهم وتحفظ حماهم وتقيهم من كل شر يدب في جماعتهم ووحدتهم وبالاخرة سببا معجزا إلهيا يتلو القرآن الكريم ويعيش ما عاش القرآن نسبته إلى حياة الامة العملية نسبة القرآن إلى حياتهم العلمية فكان من اللازم أن يبين القرآن حدوده وسعة دائرته ويمتن الله به كما امتن بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ويبين لهذه العصابة وظيفتهم الاجتماعية كما بين لنبيه ذلك وأن يوصي به النبي صلى الله عليه وآله وسلم امته ولا سيما أصحابه الكرام وهم الذين صاروا بعده أهلا للحل والعقد وتقلدوا ولاية امور الامة وأن يبين أن هذه العصابة المسماة باولي الامر ما حقيقتها وما حدها وما سعة دائرة عملها وهل يتشكل هيئة حاكمة واحدة على جميع المسلمين في الامور العامة لجميع الامة الاسلامية ؟ أو تنعقد في كل جمعية إسلامية جمعية اولي الامر فيحكم في نفوسهم وأعراضهم وأموالهم ؟ ولكان من اللازم أن يهتم به المسلمون ولا سيما الصحابة فيسألوا عنه ويبحثوا فيه وقد سألوا عن أشياء لا قدر لها بالنسبة إلى هذه المهمة كالاهلة وماذا ينفقون والانفال قال تعالى يسألونك عن الاهلة وويسألونك ماذا ينفقون ويسألونك عن الانفال فما بالهم لم يسألوا ؟ أو أنهم سألوا ثم لعبت به الايدي فخفي علينا ؟ فليس الامر مما يخالف هوى أكثرية الامة الجارية على هذه الطريقة حتى يقضوا عليه بالاعراض فالترك حتى ينسى. ولكان من الواجب أن يحتج به في الاختلافات والفتن الواقعة بعد ارتحال النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينا بعد حين فما لهذه الحقيقة لا توجد لها عين ولا أثر في احتجاجاتهم ومناظراتهم وقد ضبطها النقلة بكلماتها وحروفها ولا توجد في خطاب ولا كتاب ؟ ولم تظهر بين قدماء المفسرين من الصحابة والتابعين حتى ذهب إليه شرذمة من المتأخرين الرازي وبعض من بعده ! حتى أن الرازي أورد على هذا الوجه بعد ذكره بأنه مخالف للاجماع المركب فإن الاقوال في معنى اولي الامر لا تجاوز أربعة الخلفاء الراشدون وامراء السرايا والعلماء والائمة المعصومون فالقول الخامس خرق للاجماع ثم أجاب بأنه في الحقيقة راجع إلى القول الثالث فأفسد على نفسه ما كان أصلحه فهذا كله يقضي بأن الامر لم يكن بهذه المثابة ولم يفهم منه أنه عطية شريفة وموهبة عزيزة من معجزات الاسلام وكراماته الخارقة لاهل الحل والعقد من المسلمين.
[ 396 ]
أو يقال إن هذه العصمة لا تنتهي إلى عامل خارق للعادة بل الاسلام بنى تربيته العامة على اصول دقيقة تنتج هذه النتيجة إن أهل الحل والعقد من الامة لا يغلطون فيما اجتمعوا عليه ولا يعرضهم الخطأ فيما رأوه. وهذا الاحتمال مع كونه باطلا من جهة منافاته الناموس العام وهو أن إدراك الكل هو مجموع إدراكات الابعاض وإذا جاز الخطأ على كل واحد واحد جاز على الكل يرد عليه أن رأي اولي الامر بهذا المعنى لو اعتمد في صحته وعصمته على مثل هذا العامل غير المغلوب لم يتخلف عن أثره فإلى أين تنتهي هذه الاباطيل والفسادات التي ملات العالم الاسلامي ؟ وكم من منتدى إسلامي بعد رحلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم اجتمع فيه أهل الحل والعقد من المسلمين على ما اجتمعوا عليه ثم سلكوا طريقا يهديهم إليه رأيهم فلم يزيدوا إلا ضلالا ولم يزد إسعادهم المسمين إلا شقاء ولم يمكث الاجتماع الديني بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم دون أن عاد إلى إمبراطورية ظالمة حاطمة ! فليبحث الباحث الناقد في الفتن الناشئة منذ قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما استتبعته من دماء مسفوكة وأعراض مهتوكة وأموال منهوبة وأحكام عطلت وحدود أبطلت ! ثم ليبحث في منشئها ومحتدها واصولها وأعراقها هل تنتهي الاسباب العاملة فيها إلا إلى ما رأته أهل الحل والعقد من الامة ثم حملوا ما رأوه على أكتاف الناس ؟ فهذا حال هذا الركن الركين الذي يعتمد عليه بناية الدين أعني رأي أهل الحل والعقد لو كان هو المراد باولي الامر المعصومين في رأيهم. فلا مناص على القول بأن المراد باولي الامر أهل الحل والعقد من أن نقول بجواز خطأهم وأنهم على حد سائر الناس يصيبون ويخطؤون غير أنهم لما كانوا عصابة فاضلة خبيرة بالامور مدربين مجربين يقل خطؤهم جدا وأن الامر بوجوب طاعتهم مع كونهم ربما يغلطون ويخطؤون من باب المسامحة في موارد الخطأ نظرا إلى المصلحة الغالبة في مداخلتهم فلو حكموا بما يغاير حكم الكتاب والسنة ويطابق ما شخصوه من مصلحة الامة بتفسير حكم من أحكام الدين بغير ما كان يفسر سابقا أو تغيير حكم بما يوافق صلاح الوقت أو طبع الامة أو وضع حاضر الدنيا كان هو المتبع وهو الذي يرتضيه الدين لانه لا يريد إلا سعادة المجتمع ورقيه في اجتماعه كما هو الظاهر المتراءى من سير الحكومات الاسلامية في صدر الاسلام ومن دونهم فلم يمنع حكم من الاحكام الدائرة في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
[ 397 ]
ولم يقض على سيرة من سيره وسننه إلا علل ذلك بأن الحكم السابق يزاحم حقا من حقوق الامة وأن صلاح حال الامة في إنفاذ حكم جديد يصلح شأنهم أو سن سنة حديثة توافق آمالهم في سعادة الحياة وقد صرح بعض الباحثين (1) أن الخليفة له أن يعمل بما يخالف صريح الدين حفظا لصلاح الامة. وعلى هذا فيكون حال الملة الاسلامية حال سائر المجتمعات الفاضلة المدنية في أن فيها جمعية منتخبة تحكم على قوانين المجتمع على حسب ما تراه وتشاهده من مقتضيات الاحوال وموجبات الاوضاع. وهذا الوجه أو القول كما ترى قول من يرى أن الدين سنة اجتماعية سبكت في قالب الدين وظهرت في صورته فهو محكوم بما يحكم على متون الاجتماعات البشرية وهياكلها بالتطور في أطوار الكمال التدريجي ومثال عال لا ينطبق إلا على حياة الانسان الذى كان يعيش في عصر النبوة وما يقاربه. فهى حلقة متقضية من حلق هذه السلسلة المسماة بالمجتمع الانساني لا ينبغى أن يبحث عنها اليوم إلا كما يبحث علماء طبقات الارض الجيولوجيا عن السلع المستخرجة من تحت أطباق الارض. والذى يذهب إلى مثل هذا القول لا كلام لنا معه في هذه الآية أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واولى الامر منكم الآية فإن القول يبتنى على أصل مؤثر في جميع الاصول والسنن المأثورة من الدين من معارف أصلية ونواميس أخلاقية وأحكام فرعية ولو حمل على هذا ما وقع من الصحابة في زمن النبي وفي مرض موته ثم الاختلافات التى صدرت منهم وما وقع من تصرف الخلفاء في بعض الاحكام وبعض سير النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم في زمن معاوية ومن تلاه من الامويين ثم العباسيين ثم الذين يلونهم والجميع امور متشابهة أنتج نتيجة باهتة. ومن أعجب الكلام المتعلق بهذه الآية ما ذكره بعض المؤلفين أن قوله تعالى أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واولى الامر منكم لا يدل على شئ مما ذكره المفسرون على اختلاف أقوالهم.
_________________________________
(1) صاحب فجر الاسلام فيه (*)
[ 398 ]
أما أولا فلان فرض طاعة اولى الامر كائنين من كانوا لا يدل على فضل ومزية لهم على غيرهم أصلا كما أن طاعة الجبابرة والظلام واجبة علينا في حال الاضطرار اتقاء من شرهم ولن يكونوا بذلك أفضل منا عند الله سبحانه. وأما ثانيا فلان الحكم المذكور في الآية لا يزيد على سائر الاحكام التى تتوقف فعليتها على تحقق موضوعاتها نظير وجوب الانفاق على الفقير وحرمة إعانة الظالم فليس يجب علينا أن نوجد فقيرا حتى ننفق عليه أو ظالما حتى لا نعينه. والوجهان اللذان ذكرهما ظاهرا الفساد مضافا إلى أن هذا القائل قدر أن المراد باولى الامر في الآية الحكام والسلاطين وقد تبين فساد هذا الاحتمال. أما الوجه الاول فلانه غفل عن أن القرآن مملوء من النهى عن طاعة الظالمين والمسرفين والكافرين ومن المحال أن يأمر الله مع ذلك بطاعتهم ثم يزيد على ذلك فيقرن طاعتهم بطاعة نفسه ورسوله ولو فرض كون هذه الطاعة طاعة تقية لعبر عنها بإذن ونحو ذلك كما قال تعالى إلا أن تتقوا منهم تقاة: آل عمران - 28 لا بالامر بطاعتهم صريحا حتى يستلزم كل محذور شنيع. وأما الوجه الثاني فهو مبنى على الوجه الاول من معنى الاية أما لو فرض افتراض طاعتهم لكونهم ذا شأن في الدين كانوا معصومين لما تقدم تفصيلا ومحال أن يأمر الله بطاعة من لا مصداق له أو له مصداق اتفاقي في آية تتضمن اس أساس المصالح الدينية وحكما لا يستقيم بدونه حال المجتمع الاسلامي أصلا وقد عرفت أن الحاجة إلى اولى الامر عين الحاجة إلى الرسول وهى الحاجة إلى ولاية أمر الامة وقد تكلمنا فيه في بحث المحكم والمتشابه. ولنرجع إلى أول الكلام في الآية ظهر لك من جميع ما قدمناه أن لا معنى لحمل قوله تعالى واولى الامر منكم على جماعة المجمعين من أهل الحل والعقد وهى الهيئة الاجتماعية بأي معنى من المعاني فسرناه فليس إلا أن المراد باولى الامر آحاد من الامة معصومون في أقوالهم مفترض طاعتهم فتحتاج معرفتهم إلى تنصيص من جانب الله سبحانه من كلامه أو بلسان نبيه فينطبق على ما روى من طرق أئمة أهل البيت عليهم السلام أنهم هم.
[ 399 ]
وأما ما قيل إن اولى الامر هم الخلفاء الراشدون أو أمراء السرايا أو العلماء المتبعون في أقوالهم و آرائهم فيدفع ذلك كله أولا أن الآية تدل على عصمتهم ولا عصمة في هؤلاء الطبقات بلا إشكال إلا ما تعتقده طائفة من المسلمين في حق على عليه السلام وثانيا أن كلا من الاقوال الثلاث قول من غير دليل يدل عليه. وأما ما اورد على كون المراد به أئمة أهل البيت المعصومين عليهم السلام اولا أن ذلك يحتاج إلى تعريف صريح من الله ورسوله ولو كان ذلك لم يختلف في أمرهم اثنان بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وفيه أن ذلك منصوص عليه في الكتاب والسنة كآية الولاية وآية التطهير وغير ذلك وسيأتي بسط الكلام فيها وكحديث السفينة: مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وحديث الثقلين: إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا وقد مر في بحث المحكم والمتشابه في الجزء الثالث من الكتاب وكأحاديث اولي الامر المروية من طرق الشيعة وأهل السنة وسيجئ بعضها في البحث الروائي التالي. وثانيا أن طاعتهم مشروطة بمعرفتهم فإنها من دون معرفتهم تكليف بما لا يطاق وإذا كانت مشروطة فالآية تدفعه لانها مطلقة. وفيه أن الاشكال منقلب على المستشكل فإن الطاعة مشروطة بالمعرفة مطلقا وإنما الفرق أن أهل الحل والعقد يعرف مصداقهم على قوله من عند أنفسنا من غير حاجة إلى بيان من الله ورسوله والامام المعصوم يحتاج معرفته إلى معرف يعرفه ولا فرق بين الشرط والشرط في منافاته الآية. على أن المعرفة وإن عدت شرطا لكنها ليست من قبيل سائر الشروط فإنها راجعة إلى تحقق بلوغ التكليف فلا تكليف من غير معرفة به وبموضوعه ومتعلقه وليست راجعة إلى التكليف والمكلف به ولو كانت المعرفة في عداد سائر الشرائط كالاستطاعة في الحج ووجدان الماء في الوضوء مثلا لم يوجد تكليف مطلق أبدا إذ لا معنى لتوجه التكليف إلى مكلف سواء علم به أو لم يعلم. وثالثا أنا في زماننا هذا عاجزون عن الوصول إلى الامام المعصوم وتعلم العلم
[ 400 ]
والدين منه فلا يكون هو الذي فرض الله طاعته على الامة إذ لا سبيل إليه. وفيه أن ذلك مستند إلى نفس الامة في سوء فعالها وخيانتها على نفسها لا إلى الله ورسوله فالتكليف غير مرتفع كما لو قتلت الامة نبيها ثم اعتذرت أنها لا تقدر على طاعته على أن الاشكال مقلوب عليه فإنا لا نقدر اليوم على امة واحدة في الاسلام ينفذ فيها ما استصوبته لها أهل الحل والعقد منها. ورابعا أن الله تعالى يقول فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول ولو كان المراد من اولي الامر الامام المعصوم لوجب أن يقال فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الامام. وفيه أن جوابه تقدم فيما مر من البيان والمراد بالرد الرد إلى الامام بالتقريب الذي تقدم. وخامسا أن القائلين بالامام المعصوم يقولون إن فائدة اتباعه إنقاذ الامة من ظلمة الخلاف وضرر التنازع والتفرق وظاهر الآية يبين حكم التنازع مع وجود اولي الامر وطاعة الامة لهم كأن يختلف اولوا الامر في حكم بعض النوازل والوقائع والخلاف والتنازع مع وجود الامام المعصوم غير جائز عند القائلين به لانه عندهم مثل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فلا يكون لهذه الزيادة فائدة على رأيهم. وفيه أن جوابه ظاهر مما تقدم أيضا فإن التنازع المذكور في الآية إنما هو تنازع المؤمنين في أحكام الكتاب والسنة دون أحكام الولاية الصادرة عن الامام في الوقائع والحوادث وقد تقدم أن لا حكم إلا لله ورسوله فإن تمكن المتنازعون من فهم الحكم من الكتاب والسنة كان لهم أن يستنبطوه منهما أو يسألوا الامام عنه وهو معصوم في فهمه وإن لم يتمكنوا من ذلك كان عليهم أن يسألوا عنه الامام وذلك نظير ما كان لمن يعاصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانوا يتفقهون فيما يتمكنون منه أو يسألون عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويسألونه فيما لا يتمكنون من فهمه بالاستنباط. فحكم اولي الامر في الطاعة حكم الرسول على ما يدل عليه الآية وحكم التنازع هو الذي ذكره في الآية سواء في ذلك حضور الرسول كما يدل عليه ايات التالية وغيبته كما يدل عليه الامر في الاية بإطلاقه فالرد إلى الله والرسول المذكور في الآية
[ 401 ]
مختص بصوره تنازع المؤمنين كما يدل عليه قوله تنازعتم ولم يقل فإن تنازع اولوا الامر ولا قال فإن تنازعوا والرد إلى الله والرسول عند حضور الرسول هو سؤال الرسول عن حكم المسألة أو استنباطه من الكتاب والسنة للمتمكن منه وعند غيبته أن يسأل الامام عنه أو الاستنباط كما تقدم بيانه فلا يكون قوله فإن تنازعتم في شئ الخ زائدا من الكلام مستغنى عنه كما ادعاه المستشكل. فقد تبين من جميع ما تقدم أن المراد باولي الامر في الآية رجال من الامة حكم الواحد منهم في العصمة وافتراض الطاعة حكم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهذا مع ذلك لا ينافي عموم مفهوم لفظ اولي الامر بحسب اللغة وإرادته من اللفظ فإن قصد مفهوم من المفاهيم من اللفظ شئ وإرادة المصداق الذي ينطبق عليه المفهوم شئ آخر وذلك كما أن مفهوم الرسول معنى عام كلى وهو المراد من اللفظ في الآية لكن المصداق المقصود هو الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم. قوله تعالى فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إلى آخر الآية تفريع على الحصر المستفاد من المورد فإن قوله أطيعوا الله الخ حيث أوجب طاعة الله ورسوله وهذه الطاعة إنما هي في المواد الدينية التي تتكفل رفع كل اختلاف مفروض وكل حاجة ممكنة لم يبق مورد تمس الحاجة الرجوع إلى غير الله ورسوله وكان معنى الكلام أطيعوا الله ولا تطيعوا الطاغوت وهو ما ذكرناه من الحصر. وتوجه الخطاب إلى المؤمنين كاشف عن أن المراد بالتنازع هو تنازعهم بينهم لا تنازع مفروض بينهم وبين اولي الامر ولا تنازع مفروض بين اولي الامر فإن الاول أعني التنازع بينهم وبين اولي الامر لا يلائم افتراض طاعة اولي الامر عليهم وكذا الثاني أعني التنازع بين اولي الامر فإن افتراض الطاعة لا يلائم التنازع الذي أحد طرفيه على الباطل على أنه لا يناسب كون الخطاب متوجها إلى المؤمنين في قوله فإن تنازعتم في شئ فردوه. ولفظ الشئ وإن كان يعم كل حكم وأمر من الله ورسوله واولي الامر كائنا ما كان لكن قوله بعد ذلك فردوه إلى الله والرسول يدل على أن المفروض هو النزاع
[ 402 ]
في شئ ليس لاولي الامر الاستقلال والاستبداد فيه من أوامرهم في دائرة ولايتهم كأمرهم بنفر أو حرب أو صلح أو غير ذلك إذ لا معنى لايجاب الرد إلى الله والرسول في هذه الموارد مع فرض طاعتهم فيها. فالآية تدل على وجوب الرد في نفس الاحكام الدينية التي ليس لاحد أن يحكم فيها بإنفاذ أو نسخ إلا الله ورسوله والآية كالصريح في أنه ليس لاحد أن يتصرف في حكم ديني شرعه الله ورسوله واولوا الامر ومن دونهم في ذلك سواء. وقوله إن كنتم تؤمنون بالله تشديد في الحكم وإشارة إلى أن مخالفته إنما تنتشى من فساد في مرحلة الايمان فالحكم يرتبط به ارتباطا فالمخالفة تكشف عن التظاهر بصفة الايمان بالله ورسوله واستبطان للكفر وهو النفاق كما يدل عليه الآيات التالية. وقوله ذلك خير وأحسن تأويلا أي الرد عند التنازع أو إطاعة الله ورسوله واولي الامر والتأويل هو المصلحة الواقعية التي تنشأ منها الحكم ثم تترتب على العمل وقد تقدم البحث عن معناه في ذيل قوله تعالى وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله الآية: آل عمران - 7 في الجزء الثالث من الكتاب. قوله تعالى ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك إلى آخر الآية الزعم هو الاعتقاد بكذا سواء طابق الواقع أم لا بخلاف العلم فإنه الاعتقاد المطابق للواقع ولكون الزعم يستعمل في الاعتقاد في موارد لا يطابق الواقع ربما يظن أن عدم مطابقة الواقع مأخوذ في مفهومه وليس كذلك والطاغوت مصدر بمعنى الطغيان كالرهبوت والجبروت والملكوت غير أنه ربما يطلق ويراد به اسم الفاعل مبالغة يقال طغى الماء إذا تعدى ظرفه لوفوره وكثرته وكان استعماله في الانسان أولا على نحو الاستعاره ثم ابتذل فلحق بالحقيقة وهو خروج الانسان عن طوره الذي حده له العقل أو الشرع فالطاغوت هو الظالم الجبار والمتمرد عن وظائف عبودية الله استعلاء عليه تعالى وهكذا وإليه يعود ما قيل إن الطاغوت كل معبود من دون الله. وقوله بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك بمنزلة أن يقال بما أنزل الله على رسله ولم يقل آمنوا بك وبالذين من قبلك لان الكلام في وجوب الرد إلى كتاب الله وحكمه وبذلك يظهر أن المراد بقوله وقد أمروا أن يكفروا به الامر في الكتب السماوية
[ 403 ]
والوحي النازل على الانبياء: محمد ومن قبله صلى الله عليه وآله وعليهم. وقوله ألم تر الخ الكلام بمنزلة دفع الدخل كأنه قيل ما وجه ذكر قوله أطيعوا الله وأطيعوا الرسول الخ ؟ فقيل ألم تر إلى تخلفهم من الطاعة حيث يريدون التحاكم إلى الطاغوت ؟ والاستفهام للتأسف والمعنى من الاسف ما رأيته أن بعض الناس وهم معتقدون أنهم مؤمنون بما أنزل إليك من الكتاب وإلى سائر الانبياء والكتب السماوية إنما انزلت لتحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وقد بينه الله تعالى لهم بقوله كان الناس امة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه: البقرة - 213 يتحاكمون عند التنازع إلى الطاغوت وهم أهل الطغيان والمتمردون عن دين الله المتعدون على الحق وقد امروا في هذه الكتب أن يكفروا بالطاغوت وكفى في منع التحاكم إليهم أنه إلغاء لكتب الله وإبطال لشرائعه. وفي قوله ويريد الشيطان إن يضلهم ضلالا بعيدا دلالة على أن تحاكمهم إنما هو بإلقاء الشيطان وإغوائه والوجهة فيه الضلال البعيد. قوله تعالى وإذا قيل لهم تعالوا إلى آخر الآية تعالوا بحسب الاصل أمر من التعالي وهو الارتفاع وصد عنه يصد صدودا أي أعرض وقوله إلى ما أنزل الله وإلى الرسول بمنزلة أن يقال إلى حكم الله ومن يحكم به وفي قوله يصدون عنك إنما خص الرسول بالاعراض مع أن الذي دعوا إليه هو الكتاب والرسول معا لا الرسول وحده لان الاسف إنما هو من فعل الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل الله فهم ليسوا بكافرين حتى يتجاهروا بالاعراض عن كتاب الله بل منافقون بالحقيقة يتظاهرون بالايمان بما أنزل الله لكنهم يعرضون عن رسوله. ومن هنا يظهر أن الفرق بين الله ورسوله بتسليم حكم الله والتوقف في حكم الرسول نفاق البتة. قوله تعالى فكيف إذا أصابتهم مصيبة الخ إيذان بأن هذا الاعراض والانصراف عن حكم الله ورسوله والاقبال إلى غيره وهو حكم الطاغوت سيعقب مصيبة تصيبهم لا سبب لها إلا هذا الاعراض عن حكم الله ورسوله والتحاكم إلى الطاغوت وقوله ثم جاؤوك يحلفون بالله اه حكايه لمعذرتهم أنهم ما كانوا يريدون بركونهم إلى حكم الطاغوت سوء والمعنى والله أعلم فإذا كان حالهم هذا الحال كيف صنيعهم
[ 404 ]
إذا أصابهم بفعالهم هذا وباله السيئ ثم جاؤوك يحلفون بالله قائلين ما أردنا بالتحاكم إلى غير الكتاب والرسول إلا الاحسان والتوفيق وقطع المشاجرة بين الخصوم ؟ قوله تعالى اولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم الخ تكذيب لقولهم فيما اعتذروا به ولم يذكر حال ما في قلوبهم وأنه ضمير فاسد لدلالة قوله فأعرض عنهم وعظهم على ذلك إذ لو كان ما في قلوبهم غير فاسد كان قولهم صدقا وحقا ولا يؤمر بالاعراض عمن يقول الحق ويصدق في قوله. وقوله وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا أي قولا يبلغ في أنفسهم ما تريد أن يقفوا عليه ويفقهوه من مفاسد هذا الصنيع وأنه نفاق لو ظهر نزل بهم الويل من سخط الله تعالى. قوله تعالى وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله رد مطلق لجميع ما تقدمت حكايته من هؤلاء المنافقين من التحاكم إلى الطاغوت والاعراض عن الرسول والحلف و الاعتذار بالاحسان والتوفيق فكل ذلك مخالفة للرسول بوجه سواء كانت مصاحبة لعذر يعتذر به أم لا وقد أوجب الله طاعته من غير قيد وشرط فإنه لم يرسله إلا ليطاع بإذن الله وليس لاحد أن يتخيل أن المتبع من الطاعة طاعة الله وإنما الرسول بشر ممن خلق إنما يطاع لحيازه الصلاح فإذا احرز صلاح من دون طاعته فلا بأس بالاستبداد في إحرازه وترك الرسول في جانب وإلا كان إشراكا بالله وعبادة لرسوله معه وربما كان يلوح ذلك في امور يكلمون فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول قائلهم له إذا عزم عليهم في مهمة أبأمر من الله أم منك. فذكر الله سبحانه أن وجوب طاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجوب مطلق وليست إلا طاعة الله فإنها بأذنه نظير ما يفيده قوله تعالى من يطع الرسول فقد أطاع الله الآية: النساء - 80. ثم ذكر أنهم لو رجعوا إلى الله ورسوله بالتوبة حين ما خالفوا الرسول بالاعراض لكان خيرا لهم من أن يحلفوا بالله ويلفقوا أعذارا غير موجهة لا تنفع ولا ترضي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لان الله سبحانه يخبره بحقيقة الامر وذلك قوله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك إلى آخر الآية. قوله تعالى فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك الخ الشجر بسكون الجيم والشجور الاختلاط يقال شجر شجرا وشجورا أي اختلط ومنه التشاجر
[ 405 ]
والمشاجرة كأن الدعاوي والاقوال اختلط بعضها مع بعض ومنه قيل للشجر شجر لاختلاط غصونها بعضها مع بعض والحرج الضيق. وظاهر السياق في بدء النظر أنه رد لزعم المنافقين أنهم آمنوا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم مع تحاكمهم إلى الطاغوت فالمعنى فليس كما يزعمون أنهم يؤمنون مع تحاكمهم إلى الطاغوت بل لا يؤمنون حتى يحكموك الخ. لكن شمول حكم الغاية أعني قوله حتى يحكموك الخ لغير المنافقين وكذا قوله بعد ذلك ولو أنا كتبنا عليهم إلى قوله ما فعلوه إلا قليل منهم يؤيد أن الرد لا يختص بالمنافقين بل يعمهم وغيرهم من جهة أن ظاهر حالهم أنهم يزعمون أن مجرد تصديق ما انزل من عند الله بما يتضمنه من المعارف والاحكام إيمان بالله ورسوله وبما جاء به من عند ربه حقيقة وليس كذلك بل الايمان تسليم تام باطنا وظاهرا فكيف يتأتى لمؤمن حقا أن لا يسلم للرسول حكما في الظاهر بأن يعرض عنه ويخالفه أو في باطن نفسه بأن يتحرج عن حكم الرسول إذا خالف هوى نفسه وقد قال الله تعالى لرسوله لتحكم بين الناس بما أراك الله: النساء - 105. فلو تحرج متحرج بما قضى به النبي صلى الله عليه وآله وسلم فمن حكم الله تحرج لانه الذي شرفه بافتراض الطاعة ونفوذ الحكم. وإذا كانوا سلموا حكم الرسول ولم يتحرج قلوبهم منه كانوا مسلمين لحكم الله قطعا سواء في ذلك حكمه التشريعي والتكويني وهذا موقف من مواقف الايمان يتلبس فيه المؤمن بعدة من صفات الفضيلة أوضحها التسليم لامر الله ويسقط فيه التحرج والاعتراض والرد من لسان المؤمن وقلبه وقد أطلق في الآية التسليم إطلاقا. ومن هنا يظهر أن قوله فلا وربك إلى آخر الآية وإن كان مقصورا على التسليم لحكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحسب اللفظ لان مورد الآيات هو تحاكمهم إلى غير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع وجوب رجوعهم إليه إلا أن المعنى عام لحكم الله ورسوله جميعا ولحكم التشريع والتكوين جميعا كما عرفت. بل المعنى يعم الحكم بمعنى قضاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكل سيرة سار بها أو عمل عمل به لان الاثر مشترك فكل ما ينسب بوجه إلى الله ورسوله بأي نحو كان لا يتأتى
[ 406 ]
لمؤمن بالله حق إيمانه أن يرده أو يعترض عليه أو يمله أو يسوأه بوجه من وجوه المساءة فكل ذلك شرك على مراتبه وقد قال تعالى وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون: يوسف - 106. قوله تعالى ولو أنا كتبنا عليهم إلى قوله ما فعلوه إلا قليل منهم قد تقدم في قوله ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا: آية - 46 من السورة أن هذا التركيب يدلي على أن الحكم للهيئة الاجتماعية من الافراد وهو المجتمع وأن الاستثناء لدفع توهم استغراق الحكم واستيعابه لجميع الافراد ولذلك كان هذا الاستثناء أشبه بالمنفصل منه بالمتصل أو هو برزخ بين الاستثنائين المتصل والمنفصل لكونه ذا جنبتين. على هذا فقوله ما فعلوه إلا قليل منهم وارد مورد الاخبار عن حال الجملة المجتمعة أنهم لا يمتثلون الاحكام والتكاليف الحرجية الشاقة التى تماس ما يتعلق به قلوبهم تعلق الحب الشديد كنفوسهم وديارهم واستثناء القليل لدفع التوهم. فالمعنى ولو أنا كتبنا أي فرضنا عليهم قتل أنفسهم والخروج من ديارهم وأوطانهم المألوفة لهم ما فعلوه أي لم يمتثلوا أمرنا ثم لما استشعر أن قوله ما فعلوه يوهم أن ليس فيهم من هو مؤمن حقا مسلم لحكم الله حقيقة دفع ذلك باستثناء القليل منهم ولم يكن يشمله الحكم حقيقة لان الاخبار عن حال المجتمع من حيث إنه مجتمع ولم تكن الافراد داخلة فيه إلا بتبع الجملة. ومن هنا يظهر أن المراد قتل الجملة الجملة وخروج الجملة وجلاؤهم من جملة ديارهم كالبلدة والقرية دون قتل كل واحد نفسه وخروجه من داره كما في قوله تعالى فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم: البقرة - 54 فإن المقصود بالخطاب هو الجماعة دون الافراد. قوله تعالى ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا في تبديل الكتابة في قوله ولو أنا كتبنا عليهم بالوعظ في قوله ما يوعظون به إشارة إلى أن هذه الاحكام الظاهرة في صورة الامر والفرض ليست إلا إشارات إلى ما فيه صلاحهم وسعادتهم فهي في الحقيقة مواعظ ونصائح يراد بها خيرهم وصلاحهم. وقوله لكان خيرا لهم أي في جميع ما يتعلق بهم من اولاهم واخراهم وذلك أن خير الآخرة لا ينفك من خير الدنيا بل يستتبعه وقوله وأشد تثبيتا أي
[ 407 ]
لنفوسهم وقلوبهم بالايمان لان الكلام فيه قال تعالى يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت الآية: إبراهيم - 27. قوله تعالى وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما أي حين تثبتوا بالايمان الثابت والكلام في إبهام قوله أجرا عظيما كالكلام في إطلاق قوله لكان خيرا لهم. قوله تعالى ولهديناهم صراطا مستقيما قد مضى الكلام في معنى الصراط المستقيم في ذيل قوله إهدنا الصراط المستقيم: الحمد - 6 في الجزء الاول من الكتاب. قوله تعالى ومن يطع الله والرسول إلى قوله وحسن اولئك رفيقا جمع بين الله والرسول في هذا الوعد الحسن مع كون الآيات السابقة متعرضة لاطاعة الرسول والتسليم لحكمه وقضائه لتخلل ذكره تعالى بينها في قوله ولو أنا كتبنا عليهم إلخ فالطاعة المفترضة طاعته تعالى وطاعة رسوله وقد بدأ الكلام على هذا النحو في قوله وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول الآية. وقوله فاولئك مع الذين أنعم الله عليهم يدل على اللحوق دون الصيرورة فهؤلاء ملحقون بجماعة المنعم عليهم وهم أصحاب الصراط المستقيم الذى لم ينسب في كلامه تعالى إلى غيره إلا إلى هذه الجماعة في قوله تعالى اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم: الحمد - 7 وبالجملة فهم ملحقون بهم غير صائرين منهم كما لا يخلو قوله وحسن اولئك رفيقا من تلويح إليه وقد تقدم أن المراد بهذه النعمة هي الولاية وأما هؤلاء الطوائف الاربع أعنى النبيين والصديقين والشهداء والصالحين فالنبيون هم أصحاب الوحى الذين عندهم نبأ الغيب ولا خبرة لنا من حالهم بأزيد من ذلك إلا من حيث الآثار وقد تقدم أن المراد بالشهداء شهداء الاعمال فيما يطلق من لفظ الشهيد في القرآن دون المستشهدين في معركة القتال وأن المراد بالصالحين هم أهل اللياقة بنعم الله. وأما الصديقون فالذي يدل عليه لفظه هو أنه مبالغة من الصدق ومن الصدق ما هو في القول ومنه ما هو في الفعل وصدق الفعل هو مطابقته للقول لانه حاك عن الاعتقاد فإذا صدق في حكايته كان حاكيا لما في الضمير من غير تخلف وصدق القول مطابقته لما في الواقع وحيث كان القول نفسه من الفعل بوجه كان الصادق في فعله لا يخبر إلا عما يعلم صدقه وأنه حق ففي قوله الصدق الخبرى والمخبرى جميعا.
[ 408 ]
فالصديق الذى لا يكذب أصلا هو الذى لا يفعل إلا ما يراه حقا من غير اتباع لهوى النفس ولا يقول إلا ما يرى أنه حق ولا يرى شيئا إلا ما هو حق فهو يشاهد حقائق الاشياء ويقول الحق ويفعل الحق. وعلى ذلك فيترتب المراتب فالنبيون وهم السادة ثم الصديقون وهم شهداء الحقائق والاعمال والشهداء وهم شهداء الاعمال والصالحون وهم المتهيؤون للكرامة الالهية. وقوله تعالى وحسن اولئك رفيقا أي من حيث الرفاقة فهو تمييز قيل ولذلك لم يجمع وقيل المعنى حسن كل واحد منهم رفيقا وهو حال نظير قوله ثم نخرجكم طفلا: الحج - 5. قوله تعالى ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما تقديم ذلك وإتيانه بصيغة الاشارة الدالة على البعيد ودخول اللام في الخبر يدل على تفخيم أمر هذا الفضل كأنه كل الفضل وختم الآية بالعلم لكون الكلام في درجات الايمان التى لا سبيل إلى تشخيصها إلا العلم الالهى واعلم أن في هذه الآيات الشريفة موارد عديدة من الالتفات الكلامي متشابك بعضها مع بعض فقد أخذ المؤمنون في صدر الآيات مخاطبين ثم في قوله ولو أنا كتبنا عليهم كما مر غائبين وكذلك أخذ تعالى نفسه في مقام الغيبة في صدر الآيات في قوله أطيعوا الله الآية ثم في مقام المتكلم مع الغير في قوله وما أرسلنا من رسول الآية ثم الغيبة في قوله بإذن الله الآية ثم المتكلم مع الغير في قوله ولو أنا كتبنا الآية ثم الغيبة في قوله ومن يطع الله والرسول الآية. وكذلك الرسول اخذ غائبا في صدر الآيات في قوله وأطيعوا الرسول الآية ثم مخاطبا في قوله ذلك خير الآية ثم غائبا في قوله واستغفر لهم الرسول الآية ثم مخاطبا في قوله فلا وربك الآية ثم غائبا في قوله ومن يطع الله والرسول الآية ثم مخاطبا في قوله وحسن اولئك الآية فهذه عشر موارد من الالتفات الكلامي والنكات المختصة بكل مورد مورد ظاهرة للمتدبر.
( بحث روائي )
في تفسير البرهان عن ابن بابويه بإسناده عن جابر بن عبد الله الانصاري: لما أنزل
[ 409 ]
الله عز وجل على نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم - يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول - واولى الامر منكم - قلت يا رسول الله عرفنا الله ورسوله - فمن اولوا الامر الذين قرن الله طاعتهم بطاعتك - فقال صلى الله عليه وآله وسلم هم خلفائي يا جابر - وأئمة المسلمين من بعدى - أولهم على بن أبى طالب ثم الحسن - ثم الحسين ثم على بن الحسين - ثم محمد بن على المعروف في التوراة بالباقر - ستدركه يا جابر فإذا لقيته فاقرأه منى السلام - ثم الصادق جعفر بن محمد ثم موسى بن جعفر - ثم على بن موسى ثم محمد بن على - ثم على بن محمد ثم الحسن بن على - ثم سميى محمد وكنيى حجة الله في أرضه - وبقيته في عباده ابن الحسن بن على ذاك - الذى يفتح الله تعالى ذكره على يديه مشارق الارض ومغاربها - ذاك الذى يغيب عن شيعته وأوليائه غيبة - لا يثبت فيه على القول بإمامته - إلا من امتحن الله قلبه للايمان - قال جابر فقلت له يا رسول الله - فهل يقع لشيعته الانتفاع به في غيبته - فقال صلى الله عليه وآله وسلم إي والذى بعثنى بالنبوة - إنهم يستضيؤون بنوره - وينتفعون بولايته في غيبته كانتفاع الناس بالشمس - وإن تجلاها سحاب - يا جابر هذا من مكنون سر الله - ومخزون علم الله فاكتمه إلا عن أهله اقول وعن النعماني بإسناده عن سليم بن قيس الهلالي عن على عليه السلام ما في معنى الرواية السابقة ورواها على بن إبراهيم بإسناده عن سليم عنه عليه السلام وهناك روايات اخر من طرق الشيعة وأهل السنة وفيها ذكر إمامتهم بأسمائهم من أراد الوقوف عليها فعليه بالرجوع إلى كتاب ينابيع المودة وكتاب غاية المرام للبحراني وغيرهما. وفي تفسير العياشي عن جابر الجعفي قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن هذه الآية - أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واولى الامر منكم قال الاوصياء اقول وفي تفسير العياشي عن عمر بن سعيد عن أبى الحسن عليه السلام: مثله وفيه على بن أبى طالب والاوصياء من بعده وعن ابن شهر آشوب: سأل الحسن بن صالح عن الصادق عليه السلام عن ذلك - فقال الائمة من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اقول وروى مثله الصدوق عن أبى بصير عن الباقر عليه السلام: وفيه قال الائمة من ولد على وفاطمة إلى أن تقوم الساعة
[ 410 ]
وفي الكافي بإسناده عن أبى مسروق عن أبى عبد الله عليه السلام قال: قلت له إنا نكلم أهل الكلام - فنحتج عليهم بقول الله عز وجل - أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واولى الامر منكم - فيقولون نزلت في المؤمنين - ونحتج عليهم بقول الله عز وجل - قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى - فيقولون نزلت في قربى المسلمين قال - فلم أدع شيئا مما حضرني ذكره من هذا وشبهه إلا ذكرته - فقال لى إذا كان ذلك فادعهم إلى المباهلة - قلت وكيف أصنع - فقال أصلح نفسك ثلاثا وأطبه - قال وصم واغتسل وابرز أنت وهو إلى الجبال - فتشبك أصابعك من يدك اليمنى في أصابعه - ثم أنصفه وابدأ بنفسك وقل - اللهم رب السموات السبع ورب الارضين السبع - عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم - إن كان أبو مسروق جحد حقا وادعى باطلا - فأنزل عليه حسبانا من السماء وعذابا أليما - ثم رد الدعوة عليه فقل - وإن جحد حقا وادعى باطلا - فأنزل عليه حسبانا من السماء وعذابا أليما - ثم قال لى فإنك لا تلبث أن ترى ذلك فيه - فو الله ما وجدت خلقا يجيبنى إليه وفى تفسير العياشي عن عبد الله بن عجلان عن أبى جعفر عليه السلام: في قوله أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واولى الامر منكم - قال هي في على وفي الائمة - جعلهم الله مواضع الانبياء غير أنهم لا يحلون شيئا ولا يحرمونه اقول والاستثناء في الرواية هو الذى قدمنا في ذيل الكلام على الآية أنها تدل على أن لا حكم تشريعا إلا لله ورسوله. وفي الكافي بإسناده عن بريد بن معاوية قال: تلا أبو جعفر عليه السلام - أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واولى الامر منكم - فإن خفتم تنازعا في الامر - فارجعوه إلى الله وإلى الرسول وإلى اولى الامر منكم - قال كيف يأمر بطاعتهم ويرخص في منازعتهم - إنما قال ذلك للمارقين الذين قيل لهم - أطيعوا الله وأطيعوا الرسول اقول الرواية لا تدل على أزيد من كون ما تلاه عليه السلام تفسير للآية وبيانا للمراد منها وقد تقدم في البيان السابق توضيح دلالتها على ذلك وليس المراد هو القراءة كما ربما يستشعر من قوله تلا أبو جعفر عليه السلام ويدل على ذلك اختلاف اللفظ الموجود في الروايات كما في تفسير القمي بإسناده
[ 411 ]
عن حريز عن أبى عبد الله عليه السلام قال: نزلت - فإن تنازعتم في شئ - فارجعوه إلى الله وإلى الرسول وإلى اولى الامر منكم وما في تفسير العياشي عن بريد بن معاوية عن أبى جعفر عليه السلام وهو رواية الكافي السابقة وفي الحديث: ثم قال للناس يا أيها الذين آمنوا فجمع المؤمنين إلى يوم القيامة أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واولى الامر منكم - إيانا عنى خاصة فإن خفتم تنازعا في الامر - فارجعوا إلى الله وإلى الرسول واولى الامر منكم هكذا نزلت - وكيف يأمرهم بطاعة اولى الامر - ويرخص لهم في منازعتهم - إنما قيل ذلك للمأمورين الذين قيل لهم - أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واولى الامر منكم وفي تفسير العياشي في رواية أبى بصير عن أبى جعفر عليه السلام قال: نزلت يعنى آية أطيعوا الله - في على بن أبى طالب عليه السلام - قلت له إن الناس يقولون لنا - فما منعه أن يسمى عليا وأهل بيته في كتابه - فقال أبو جعفر عليه السلام قولوا لهم - إن الله أنزل على رسوله الصلاة ولم يسم ثلاثا ولا أربعا - حتى كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الذى فسر ذلك لهم - وأنزل الحج ولم ينزل طوفوا اسبوعا - حتى فسر ذلك لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - والله أنزل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واولى الامر منكم - تنزلت في على والحسن والحسين عليهم السلام - وقال في على من كنت مولاه فعلى مولاه - وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اوصيكم بكتاب الله وأهل بيتى - إنى سألت الله أن لا يفرق بينهما - حتى يوردهما على الحوض فأعطاني ذلك - وقال فلا تعلموهم فإنهم أعلم منكم - إنهم لن يخرجوكم من باب هدى - ولن يدخلوكم في باب ضلال - ولو سكت رسول الله ولم يبين أهلها - لادعى آل عباس وآل عقيل وآل فلان - ولكن أنزل الله في كتابه - إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت - ويطهركم تطهيرا - فكان على والحسن والحسين وفاطمة عليهم السلام تأويل هذه الآية - فأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيد على وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم - فأدخلهم تحت الكساء في بيت ام سلمة - وقال اللهم إن لكل نبى ثقلا وأهلا فهؤلاء ثقلى وأهلي - وقالت ام سلمة أ لست من أهلك - قال إنك إلى خير ولكن هؤلاء ثقلى وأهلي الحديث: أقول وروى في الكافي بإسناده عن أبى بصير عنه عليه السلام مثله مع اختلاف يسير في اللفظ وفي تفسير البرهان عن ابن شهرآشوب عن تفسير مجاهد: إنها نزلت في أمير المؤمنين
[ 412 ]
حين خلفه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة - فقال يا رسول الله أ تخلفنى على النساء والصبيان - فقال يا أمير المؤمنين - أ ما ترضى أن تكون منى بمنزلة هارون من موسى - حين قال له اخلفنى في قومي وأصلح - فقال الله واولى الامر منكم - قال على بن أبى طالب ولاه الله أمر الامة بعد محمد - وحين خلفه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة - فأمر الله العباد بطاعته وترك خلافه وفيه عنه عن إبانة الفلكي ": إنها نزلت حين شكا أبو بريدة من على عليه السلام الخبر وفي العبقات عن كتاب ينابيع المودة للشيخ سليمان بن إبراهيم البلخى عن المناقب عن سليم بن قيس الهلالي عن على في حديث قال: وأما أدنى ما يكون به العبد ضالا - أن لا يعرف حجة الله تبارك وتعالى وشاهده على عباده - الذى أمر الله عباده بطاعته وفرض ولايته - قال سليم قلت يا أمير المؤمنين صفهم لى - قال الذين قرنهم الله بنفسه ونبيه فقال - يا أيها الذين آمنوا - أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واولى الامر منكم - فقلت له جعلني الله فداك أوضح لى - فقال الذين قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مواضع - وفي آخر خطبته يوم قبضه الله عز وجل إليه - إنى تركت فيكم أمرين لن تضلوا بعدى - إن تمسكتم بهما كتاب الله عز وجل وعترتي أهل بيتى - فإن اللطيف الخبير قد عهد إلي أنهما لن يفترقا - حتى يردا على الحوض كهاتين وجمع بين مسبحتيه - ولا أقول كهاتين وجمع مسبحته والوسطى - فتمسكوا بهما ولا تقدموهم فتضلوا أقول والروايات عن أئمة أهل البيت عليهم السلام في المعاني السابقة كثيرة جدا وقد اقتصرنا فيما نقلناه على إيراد نموذج من كل صنف منها وعلى من يطلبها أن يراجع جوامع الحديث. وأما الذى روى عن قدماء المفسرين فهى ثلاثة أقوال الخلفاء الراشدون وامراء السرايا والعلماء وما نقل عن الضحاك أنهم أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهو يرجع إلى القول الثالث فإن اللفظ المنقول منه أنهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هم الدعاة الرواة وظاهره أنه تعليل بالعلم فيرجع إلى التفسير بالعلماء. واعلم أيضا أنه قد نقل في أسباب نزول هذه الآيات امور كثيرة وقصص مختلفة شتى لكن التأمل فيها لا يدع ريبا في أنها جميعا من قبيل التطبيق النظرى من رواتها ولذلك تركنا إيرادها لعدم الجدوى في نقلها وإن شئت تصديق ذلك فعليك بالرجوع
[ 413 ]
إلى الدر المنثورو تفسير الطبري وأشباههما. وفي محاسن البرقى بإسناده عن أبى الجارود عن أبى جعفر عليه السلام: في قول الله تعالى فلا وربك لا يؤمنون الآية - قال التسليم الرضا والقنوع بقضائه وفي الكافي بإسناده عن عبد الله الكاهلى قال قال أبو عبد الله عليه السلام: لو أن قوما عبدوا الله وحده لا شريك له - وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وحجوا البيت - وصاموا شهر رمضان - ثم قالوا الشئ صنعه الله وصنع رسوله صلى الله عليه وآله وسلم - لم صنع هكذا وكذا - ولو صنع خلاف الذى صنع - أو وجدوا ذلك في قلوبهم لكانوا بذلك مشركين - ثم تلا هذه الآية فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم - ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ثم قال أبو عبد الله عليه السلام عليكم بالتسليم وفي تفسير العياشي عن عبد الله بن يحيى الكاهلى عن أبى عبد الله عليه السلام قال سمعته يقول: والله لو أن قوما عبدوا الله وحده لا شريك له وأقاموا الصلاة - وآتوا الزكاة وحجوا البيت وصاموا شهر رمضان - ثم قالوا لشئ صنعه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم صنع كذا وكذا - ووجدوا ذلك في أنفسهم لكانوا بذلك مشركين - ثم قرأ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم - ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا - مما قضى محمد وآل محمد ويسلموا تسليما اقول وفي معنى الروايتين روايات أخر والذى ذكره عليه السلام تعميم في الآية من جهة الملاك من جهتين من جهة أن الحكم لا يفرق فيه بين أن يكون حكما تشريعيا أو تكوينيا ومن جهة أن الحاكم بالحكم لا يفرق فيه بين أن يكون هو الله أو رسوله. واعلم أن هناك روايات تطبق الآيات أعنى قوله فلا وربك لا يؤمنون إلى آخر الآيات على ولاية على عليه السلام أو على ولاية أئمة أهل البيت عليهم السلام وهو من مصاديق التطبيق على المصاديق فإن الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم والائمة من أهل البيت عليهم السلام مصاديق الآيات وهى جارية فيهم. وفي أمالى الشيخ بإسناده إلى على بن أبى طالب عليه السلام قال: جاء رجل من الانصار إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم - فقال يا رسول الله ما أستطيع فراقك - وإنى لادخل منزلي فأذكرك - فأترك ضيعتي واقبل حتى أنظر إليك حبا لك - فذكرت إذا كان يوم القيامة فادخلت الجنة - فرفعت في أعلى عليين فكيف لى بك يا نبى الله - فنزل ومن يطع الله والرسول فاولئك مع الذين أنعم الله عليهم - من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين - وحسن
[ 414 ]
اولئك رفيقا - فدعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم الرجل فقرأها عليه وبشره بذلك اقول وهذا المعنى مروى من طرق أهل السنة أيضا رواه في الدر المنثورعن الطبراني وابن مردويه وأبى نعيم في الحلية والضياء المقدسي في صفة الجنة وحسنه عن عائشة وعن الطبراني وابن مردويه من طريق الشعبى عن ابن عباس وعن سعيد بن منصور وابن المنذر عن الشعبى وعن ابن جرير عن سعيد بن جبير. وفي تفسير البرهان عن ابن شهرآشوب عن أنس بن مالك عمن سمى عن أبى صالح عن ابن عباس ": في قوله تعالى ومن يطع الله والرسول - فاولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين يعنى محمدا - والصديقين يعنى عليا وكان أول من صدق - والشهداء - يعنى عليا وجعفرا وحمزة والحسن والحسين عليهم السلام أقول وفي هذا المعنى أخبار أخر. وفي الكافي عن الباقر عليه السلام قال: أعينونا بالورع - فإنه من لقى الله بالورع كان له عند الله فرحا - فإن الله عز وجل يقول - ومن يطع الله والرسول وتلا الآية - ثم قال فمنا النبي ومنا الصديق ومنا الشهداء والصالحون وفيه عن الصادق عليه السلام: المؤمن مؤمنان مؤمن وفى الله بشروطه - التى اشترطها عليه - فذلك مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين - وحسن اولئك رفيقا - وذلك ممن يشفع ولا يشفع له - وذلك ممن لا يصيبه أهوال الدنيا ولا أهوال الآخرة - ومؤمن زلت به قدم - فذلك كخامة الزرع كيفما كفأته الريح انكفأ - وذلك ممن يصيبه أهوال الدنيا وأهوال الآخرة - ويشفع له وهو على خير أقول في الصحاح - الخامة - الغضة الرطبة من النبات انتهى ويقال كفأت فلانا فانكفأ أي صرفته فانصرف ورجع وهو عليه السلام يشير في الحديث إلى ما تقدم في تفسير قوله صراط الذين أنعمت عليهم: الفاتحة - 7 أن المراد بالنعمة الولاية فينطبق على قوله تعالى إلا أن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون: يونس - 63 ولا سبيل لاهوال الحوادث إلى أولياء الله الذين ليس لهم إلا الله سبحانه = يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا (71) - وإن منكم لمن ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة قال قد
[ 415 ]
أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا (72) - ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما (73) - فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما (74) - وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والوالدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا (75) - الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا (76)
(بيان)
الآيات بالنسبة إلى ما تقدمها كما ترى بمنزلة ذي المقدمة بالنسبة إلى المقدمة وهي تحث وتستنهض المؤمنين للجهاد في سبيل الله وقد كانت المحنة شديدة على المؤمنين أيام كانت تنزل هذه الآيات وهي كأنها الربع الثاني من زمن إقامة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة كانت العرب هاجت عليهم من كل جانب لاطفاء نور الله وهدم ما ارتفع من بناية الدين يغزو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مشركي مكة وطواغيت قريش ويسري السرايا إلى أقطار الجزيرة ويرفع قواعد الدين بين المؤمنين وفي داخلهم جمع المنافقين وهم ذو قوة وشوكة وقد بان يوم أحد أن لهم عددا لا ينقص من نصف عدة المؤمنين بكثير (1). وكانوا يقلبون الامور على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويتربصون به الدوائر ويثبطون المؤمنين وفيهم مرضى القلوب سماعون لهم وحولهم اليهود يفتنون المؤمنين ويغزونهم
_________________________________
(1) وقد تقدم في أحاديث احد أن النبي صلى الله عليه وآله خرج إلى احد في ألف ثم رجع منهم ثلاثمائة من المنافقين مع عبد الله بن ابي وبقي مع النبي سبعمائة. (*)
[ 416 ]
وكانت عرب المدينة تحترمهم وتعظم أمرهم من قديم عهدهم فكانوا يلقون إليهم من باطل القول ومضلات الاحاديث ما يبطل به صادق إرادتهم وينتقض به مبرم جدهم ومن جانب آخر كانوا يشجعون المشركين عليهم ويطيبون نفوسهم في مقاومتهم والبقاء والثبات على كفرهم وجحودهم وتفتين من عندهم من المؤمنين. فالآيات السابقة كالمسوقة لابطال كيد اليهود للمسلمين وإمحاء آثار إلقاءاتهم على المؤمنين وما في هذه الآيات من حديث المنافقين هو كتتميم إرشاد المؤمنين وتكميل تعريفهم حاضر الحال ليكونوا على بصيرة من أمرهم وعلى حذر من الداء المستكن الذي دب في داخلهم ونفذ في جمعهم وليبطل بذلك كيد أعدائهم الخارجين المحيطين بهم ويرتد أنفاسهم إلى صدورهم وليتم نور الدين في سطوعه والله متم نوره ولو كره المشركون والكافرون. قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا الحذر بالكسر فالسكون ما يحذر به وهو آلة الحذر كالسلاح وربما قيل إنه مصدر كالحذر بفتحتين والنفر هو السير إلى جهة مقصودة وأصله الفزع فالنفر من محل السير فزع عنه وإلى محل السير فزع إليه والثبات جمع ثبة وهي الجماعة على تفرقة فالثبات الجماعة بعد الجماعة بحيث تتفصل ثانية عن اولى وثالثة عن ثانية ويؤيد ذلك مقابلة قوله فانفروا ثبات قوله أو انفروا جميعا. والتفريع في قوله فانفروا ثبات على قوله خذوا حذركم بظاهره يؤيد كون المراد بالحذر ما به الحذر على أن يكون كناية عن التهيؤ التام للخروج إالى الجهاد ويكون المعنى خذوا أسلحتكم أي أعدوا للخروج واخرجوا إلى عدوكم فرقة فرقة سرايا أو اخرجوا إليهم جميعا عسكرا. ومن المعلوم أن التهيؤ والاعداد يختلف باختلاف عدة العدو وقوته فالترديد في قوله أو انفروا ليس تخييرا في كيفية الخروج وإنما الترديد بحسب تردد العدو من حيث العدة والقوة أي إذا كان عددهم قليلا فثبة وإن كان كثيرا فجميعا. فيؤول المعنى وخاصة بملاحظة الآية التالية وإن منكم ليبطئن إلى نهيهم عن أن يضعوا أسلحتهم وينسلخوا عن الجد وبذل الجهد في أمر الجهاد فيموت عزمهم ويفتقد نشاطهم في إقامة أعلام الحق ويتكاسلوا أو يتبطؤوا أو يتثبطوا في قتال أعداء الله وتطهير الارض من قذارتهم.
[ 417 ]
قوله تعالى وإن منكم لمن ليبطئن قيل إن اللام الاولى لام الابتداء لدخولها على اسم إن واللام الثانية لام القسم لدخولها على الخبر وهي جملة فعلية مؤكدة بنون التأكيد الثقيلة والتبطئة والابطاء بمعنى وهو التأخير في العمل. وقوله وإن منكم يدل على أن هؤلاء من المؤمنين المخاطبين في صدر الآية بقوله يا أيها الذين آمنوا على ما هو ظاهر كلمة منكم كما يدل عليه ما سيأتي من قوله ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم فإن الظاهر أن هؤلاء أيضا كانوا من المؤمنين مع قوله تعالى بعد ذلك فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس وقوله وإن تصبهم حسنة إلخ وكذا قوله فليقاتل في سبيل الله الذين وقوله وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله وقوله الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله كل ذلك تحريص واستنهاض للمؤمنين وفيهم هؤلاء المبطؤون على ما يلوح إليه اتصال الآيات. على أنه ليس في الآيات ما يدل بظاهره على أن هؤلاء المبطئين من المنافقين الذين لم يؤمنوا إلا بظاهر من القول مع أن في بعض ما حكى الله عنهم دلالة ما على إيمانهم في الجملة كقوله تعالى فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي وقوله تعالى ربنا لم كتبت علينا القتال (إلخ). نعم ذكر المفسرون أن المراد بقوله وإن منكم لمن المنافقون وأن معنى كونهم منهم دخولهم في عددهم أو اشتراكهم في النسب فهم منهم نسبا أو اشتراكهم مع المؤمنين في ظاهر حكم الشريعة بحقن الدماء والارث ونحو ذلك لتظاهرهم بالشهادتين وقد عرفت أن ذلك تصرف في ظاهر القرآن من غير وجه. وإنما دعاهم إلى هذا التفسير حسن الظن بالمسلمين في صدر الاسلام كل من لقى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وآمن به والبحث التحليلي فيما ضبطه التاريخ من سيرتهم وحياتهم مع النبي وبعد يضعف هذا الظن والخطابات القرآنية الحادة في خصوصهم توهن هذا التقدير. ولم تسمح الدنيا حتى اليوم بامة أو عصابة طاهرة تألفت من أفراد طاهرة من غير ستثناء مؤمنة واقفة على قدم صدق من غير عثرة قط (إلا ما نقل في حديث الطف) بل مؤمنوا صدر الاسلام كسائر الجماعات البشرية فيهم المنافق والمريض قلبه والمتبع هواه والطاهر سره. والذي يمتاز به الصدر الاول من المسلمين هو أن مجتمعهم كان مجتمعا فاضلا يقدمهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويغشاهم نور الايمان ويحكم فيهم سيطرة الدين هذا حال مجتمعهم
[ 418 ]
من حيث إنه مجتمع وإن كان يوجد بينهم من الافراد الصالح والطالح جميعا وفي صفاتهم الروحية الفضيلة والرذيلة معا وكل لون من ألوان الاخلاق والملكات. وهذا هو الذي يذكره القرآن من حالهم ويبينه من صفاتهم قال تعالى محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود إلى أن قال وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما: الفتح - 29 فقد بدأ تعالى بذكر صفاتهم وفضائلهم الاجتماعية مطلقة وختم بذكر المغفرة والاجر لافرادهم مشروطة. قوله تعالى فإن أصابتكم مصيبة أي من قتل أو جرح قال قد أنعم الله علي أذ لم أكن معهم شهيدا حتى ابتلي بمثل ما ابتلى به المؤمنون. قوله تعالى ولئن أصابكم فضل من الله من قبيل غنيمة الحرب ونحوها والفضل هو المال وما يماثله وقوله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت معهم تشبيه وتمثيل لحالهم فإنهم مؤمنون والمسلمون يد واحدة يربط بعضهم ببعض أقوى الروابط وهو الايمان بالله وآياته الذي يحكم على جميع الروابط الاخر من نسب أو ولاية أو بيعة أو مودة لكنهم لضعف إيمانهم لا يرون لانفسهم أدنى ربط يربطهم بالمؤمنين فيتمنون الكون معهم والحضور في جهادهم كما يتمنى الاجنبي فضلا ناله أجنبي فيقول أحدهم يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما ومن علائم ضعف إيمانهم إكبارهم أمر هذه الغنائم وعدهم حيازة الفضل والمال فوزا عظيما وكل مصيبة أصابت المؤمنين في سبيل الله من قتل أو جرح أو تعب نقمة. قوله تعالى فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون قال في المجمع يقال شريت أي بعت واشتريت أي ابتعت فالمراد بقوله يشرون الحياة الدنيا بالآخرة أي يبيعون حياتهم الدنيا ويبدلونها الآخرة. والآية تفريع على ما تقدم من الحث على الجهاد وذم من يبطئ في الخروج إليه ففيها تجديد للحث على القتال في سبيل الله بتذكير أن هؤلاء جميعا مؤمنون قد شروا بإسلامهم لله تعالى الحياة الدنيا بالآخرة كما قال إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة: التوبة - 111 ثم صرح على فائدة القتال الحسنة وأنها الاجر العظيم على أي حال بقوله ومن يقاتل في سبيل الله إلخ. فبين أن أمر المقاتل في سبيل الله ينتهي إلى إحدى عاقبتين محمودتين أن يقتل
[ 419 ]
في سبيل الله أو يغلب عدو الله وله أي حال أجر عظيم ولم يذكر ثالث الاحتمالين وهو الانهزام تلويحا إلى أن المقاتل في سبيل الله لا ينهزم. وقدم القتل على الغلبة لان ثوابه أجزل وأثبت فإن المقاتل الغالب على عدو الله وإن كان يكتب له الاجر العظيم إلا أنه على خطر الحبط باقتراف بعض الاعمال الموجبة لحبط الاعمال الصالحة واستتباع السيئة بعد الحسنة بخلاف القتل إذ لا حياة بعده إلا حياة الآخرة فالمقتول في سبيل الله يستوفي أجره العظيم حتما وأما الغالب في سبيل الله فأمره مراعى في استيفاء أجره. قوله تعالى وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين الخ عطف على موضع لفظ الجلالة والآية تشتمل على حث وتحريض آخر على القتال في لفظ الاستفهام بتذكير أن قتالكم قتال في سبيل الله سبحانه وهو الذي لا بغية لكم في حياتكم السعيدة إلا رضوانه ولا سعادة أسعد من قربه وفي سبيل المستضعفين من رجالكم ونسائكم وولدانكم. ففي الآية استنهاض وتهييج لكافة المؤمنين وإغراء لهم أما المؤمنون خالصوا الايمان وطاهروا القلوب فيكفيهم ذكر الله جل ذكره في أن يقوموا على الحق ويلبوا نداء ربهم ويجيبوا داعيه وأما من دونهم من المؤمنين فإن لم يكفهم ذلك فليكفهم أن قتالهم هذا على أنه قتال في سبيل الله قتال في سبيل من استضعفه الكفار من رجالهم ونسائهم وذراريهم فليغيروا لهم وليتعصبوا. والاسلام وإن أبطل كل نسب وسبب دون الايمان إلا أنه أمضى بعد التلبس بالايمان الانساب والاسباب القومية فعلى المسلم أن يفدي عن أخيه المسلم المتصل به بالسبب الذي هو الايمان وعن أقربائه من رجاله ونسائه وذراريه إذا كانوا على الاسلام فإن ذلك يعود بالاخرة إلى سبيل الله دون غيره. وهؤلاء المستضعفون الذين هم أبعاضهم وأفلاذهم مؤمنون بالله سبحانه بدليل قوله الذين يقولون ربنا الخ وهم مع ذلك مذللون معذبون يستصرخون ويستغيثون بقولهم ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها وقد أطلق الظلم ولم يقل الظالم أهلها على أنفسهم وفيه إشعار بأنهم كانوا يظلمونهم بأنواع التعذيب والايذاء وكذلك كان الامر. وقد عبر عن استغاثتهم واستنصارهم بأجمل لفظ وأحسن عبارة فلم يحك عنهم أنهم يقولون يا للرجال يا للسراة يا قوماه يا عشيرتاه بل حكى أنهم يدعون ربهم
[ 420 ]
ويستغيثون بمولاهم الحق فيقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها ثم يشيرون إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإلى من معه من المؤمنين المجاهدين بقولهم واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا فهم يتمنون وليا ويتمنون نصيرا لكن لا يرضون دون أن يسألوا ربهم الولي والنصير.
(كلام في الغيرة والعصبية)
انظر إلى هذا الادب البارع الالهي الذي أتى به الكتاب العزيز وقسه إلى ما عندنا من ذلك بحسب قضاء الطبع ترى عجبا. لا شك أن في البنية الانسانية ما يبعثه إلى الدفاع عما يحترمه ويعظمه كالذراري والنساء والجاه وكرامة المحتد ونحو ذلك وهو حكم توجبه الفطرة الانسانية وتلهمه إياه لكن هذا الدفاع ربما كان محمودا إذا كان حقا وللحق وربما كان مذموما يستتبع الشقاء وفساد امور الحياة إذا كان باطلا وعلى الحق. والاسلام يحفظ من هذا الحكم أصله وهو ما للفطره ويبطل تفاصيله أولا ثم يوجهه إلى جهة الله سبحانه بصرفه عن كل شئ ثم يعود به إلى موارده الكثيرة فيسبك الجميع في قالب التوحيد بالايمان بالله فيندب الانسان أن يتعصب لرجاله ونسائه وذراريه ولكل حق بإرجاع الجميع إلى جانب الله فالاسلام يؤيد حكم الفطرة ويهذبه من شوب الاهواء والاماني الفاسدة ويصفي أمره في جميع الموارد ويجعلها جميعا شريعة إنسانية يسلكها الانسان على الفطرة ويخلصها من ظلمة التناقض إلى نور التوافق والتسالم فما يدعو إليه الاسلام ويشرعه لا تناقض ولا تضاد بين أجزائه وأطرافه يشترك جميعها في أنها من شؤون التوحيد ويجتمع كلها في أنها اتباع للحق فيعود جميع الاحكام حينئذ كلية ودائمة وثابتة من غير تخلف واختلاف. قوله تعالى الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله إلى قوله الطاغوت مقايسة بين الذين آمنوا والذين كفروا من جهة وصف قتالهم وبعبارة اخرى من جهة نية كل من الطائفتين في قتالهم ليعلم بذلك شرف المؤمنين على الكفار في طريقتهم وأن سبيل المؤمنين ينتهي إلى الله سبحانه ويعتمد عليه بخلاف سبيل الكفار ليكون ذلك محرضا آخر للمؤمنين على قتالهم. قوله تعالى فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا الذين كفروا لوقوعهم في سبيل الطاغوت خارجون عن ولاية الله فلا مولى لهم إلا ولي الشرك
[ 421 ]
وعبادة غير الله تعالى وهو الشيطان فهو وليهم وهم أوليائه. وإنما استضعف كيد الشيطان لانه سبيل الطاغوت الذي يقابل سبيل الله والقوة لله جميعا فلا يبقى لسبيل الطاغوت الذي هو مكيدة الشيطان إلا الضعف ولذلك حرض المؤمنين عليهم ببيان ضعف سبيلهم وشجعهم على قتالهم ولا ينافي ضعف كيد الشيطان بالنسبة إلى سبيل الله قوته بالنسبة إلى من اتبع هواه وهو ظاهر.
(بحث روائي)
في المجمع في قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم الآية، قال سمي الاسلحة حذرا لانها الآلة التي بها يتقي الحذر: قال وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام قال وروي عن أبي جعفر عليه السلام: أن المراد بالثبات السرايا وبالجميع العسكر. وفي تفسير العياشي عن سليمان بن خالد عن أبي عبد الله عليه السلام: يا أيها الذين آمنوا فسماهم مؤمنين وليس هم بمؤمنين ولا كرامة، قال يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا إلى قوله - فأفوز فوزا عظيما ولو أن أهل السماء والارض قالوا قد أنعم الله علي إذ لم أكن مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لكانوا بذلك مشركين، وإذا أصابهم فضل من الله قال - يا ليتني كنت معهم فاقاتل في سبيل الله.
اقول وروى هذا المعنى الطبرسي في المجمع والقمي في تفسيره عنه عليه السلام والمراد بالشرك في كلامه عليه السلام الشرك المعنوي لا الكفر الذي يسلب ظاهر أحكام الاسلام عمن تلبس به وقد تقدم بيانه.
وفيه عن حمران عن الباقر عليه السلام في قوله تعالى والمستضعفين من الرجال الآية قال نحن اولئك.
أقول ورواه أيضا عن سماعة عن الصادق عليه السلام ولفظه فأما قوله والمستضعفين الآية فاولئك نحن، الحديث والروايتان في مقام التطبيق والشكوى من بغي الباغين من هذه الامة وليستا في مقام التفسير. وفي الدر المنثور أخرج أبو داود في ناسخه وابن المنذر وابي أبي حاتم والبيهقي في سننه من طريق عطاء عن ابن عباس: في سورة النساء - " خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا " عصبا وفرقا، قال نسخها " وما كان المؤمنون لينفروا كافة الآية. أقول الآيتان غير متنافيتين حتى يحكم بنسخ الثانية للاولى، وهو ظاهر بل لو كان فإنما هو التخصيص أو التقييد والحمد لله.
|