[300]
الآية 94 - 104
[ قل إن كانت لكم الدار الاخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صدقين(94) ]
العبادة غير موضعها، وأن يكون اعتراضا، بمعنى أنتم قوم عادتكم الظلم.
وإذ أخذنا ميثقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ماء_اتينكم بقوة واسمعوا: أي قلنا لهم: خذوا ما امرتم به في التوراة بجد، واسمعوا سماع طاعة. قالوا سمعنا: قولك. وعصينا: أمرك.
وأشربوا في قلوبهم العجل: تداخلهم حبه، ورسخ في قلوبهم صورته، لفرط شغفهم فيه، كما يتداخل الصبغ الثوب، والشرب أعماق البدن، و (في قلوبهم) بيان لمكان الاشراب.
بكفرهم: بسبب كفرهم، لانهم كانوا مجسمة أو حلولية ولم يروا جسما أعجب منه، فتمكن في قلوبهم ما سول لهم السامري. قل بئسما يأمركم به إيمنكم: بالتوراة، لانه ليس فيها عبادة العجاجيل.
وإضافة الامر إلى إيمانهم تهكم كما قال قوم شعيب: " أصلاتك تأمرك "(1) و كذلك إضافة الايمان إليهم، والمخصوص بالذم محذوف، أي هذا الامر، أو ما يعمه وغيره من قبائحهم المعدودة في الآيات الثلاث، إلزاما عليهم. إن كنتم مؤمنين: تشكيك في إيمانهم، وقدح في صحة دعواهم له.
وكرر رفع الطور لما نيط به من زيادة ليست مع الاولى، وتلك الزيادة التنبيه
___________________________________
(1) سورة هود: الآية 87. (*)
[301]
[ ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظلمين(95) ولتجدنهم أحرص الناس على حيوة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر والله بصير بما يعملون(96) ]
على أن طريقهم مع الرسول طريقة أسلافهم مع موسى (عليه السلام).
قل إن كانت لكم الدار الاخرة عند الله خالصة: والمراد بالدار الآخرة الجنة.
و (خالصة) منصوب على الحال من الدار، أي خاصة بكم، كما قلتم: " لن يدخل الجنة إلا من كان هودا "(1).
من دون الناس: أي سائر الناس أو المسلمين، واللام للعهد.
فتمنوا الموت إن كنتم صدقين: لان من أيقن أنه من أهل الجنة اشتاق إليها، وتمنى سرعة الوصول إلى النعيم، والتخلص من الدار ذات النوائب، كما قال أمير المؤمنين ويعسوب الدين، وهو يطوف بين الصفين في غلالة(2) - فقال ابنه الحسن (عليه السلام): ما هذا بزي المحاربين ! ! - يا بني إن أباك لا يبالي وقع على الموت، أو وقع الموت عليه(3).
وقال عمار بصفين: الآن الاقي الاحبة محمدا وحزبه(4).
وقال حذيفة حين احتضر: جاء حبيب على فاقة لا أفلح من ندم أي
___________________________________
(1) سورة البقرة: الآية 111.
(2) والغلالة شعار يلبس تحت الثوب، لانه يتغلل فيها، أي يدخل، وفي التهذيب: الغلالة الثوب الذي يلبس تحت الثياب أو تحت درع الحديد، لسان العرب: ج 11، ص 502، حرف اللام في (غلل).
(3) مجمع البيان: ج 1 - 2، ص 164، في تفسير الآية 94.
(4) مجمع البيان: ج 1 - 2، ص 164، ذيل الآية 94، من سورة البقرة. (*)
[302]
على التمني(1).
وأما ما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، ولكن ليقل: اللهم أحيني ما دامت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي(2). فإنما نهى عن التمني للضر، لانه يدل على الجزع، والمأمور به الصبر وتفويض الامور إليه.
ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظلمين: والمراد بما قدمت أيديهم، ما أسلفوا من موجبات النار، من الكفر بمحمد وما جاء به وتحريف كتاب الله وسائر أنواع الكفر والعصيان.
ولما كانت اليد العاملة مختصة بالانسان آلة لقدرته بها عامة صنائعة، ومنها أكثر منافعه، عبر بها عن النفس تارة، والقدرة اخرى. وقوله: " ولن يتمنوه أبدا " من المعجزات لانه إخبار بالغيب.
روى الكلبي عن ابن عباس أنه قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول لهم: إن كنتم صادقين في مقالتكم فقولوا: اللهم أمتنا، فوالذي نفسي بيده لا يقولها رجل إلا غص بريقه(3) فمات مكانه(4).
وروي عنه (عليه السلام): أيضا أنه لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ولرأوا مقاعدهم من النار(5).
ولتجدنهم أحرص الناس على حيوة: من وجد بمعنى علم المتعدي إلى مفعولين، في قولهم وجدت زيدا ذا الخفاظ، ومفعولاه هم أحرص، وتنكير حياة،
___________________________________
(1) الكشاف: ج 1، ص 166.
(2) مجمع البيان: ج 1، ص 164، ذيل الآية 94، من سورة البقرة.
(3) يقال: غصصت بالماء أغص غصصا فأنا غاص وغصان إذا شرقت به، أو وقف في حلقك فلم تكد تسيغه - النهاية لابن الاثير: ج 3، ص 370، باب الغين مع الصاد.
(4) مجمع البيان: ج 1 - 2، ص 164، ذيل الآية 95، من سورة البقرة.
(5) مجمع البيان: ج 1 - 2، ص 164، ذيل الآية 95، من سورة البقرة. (*)
[303]
لانه اريد فرد من أفرادها، وهي الحياة المتطاولة، وقرئ باللام.
ومن الذين أشركوا يود أحدهم: محمول على المعنى، فكأنه قال: أحرص من الناس ومن الذين أشركوا، وإفرادهم بالذكر للمبالغة، فإن حرصهم شديد، إذ لم يعرفوا إلا الحياة العاجلة، والزيادة في التوبيخ والتقريع فإنه لما زاد حرصهم وهو مقرون بالجزاء على حرص المنكرين، دل ذلك على علمهم بأنهم صائرون إلى النار.
ويجوز أن يراد: وأحرص من الذين أشركوا، فحذف لدلالة الاول عليه، وأن يكون خبرا مبتدأ محذوف صفته (يود أحدهم) على أنه اريد بالذين أشركوا اليهود، لانهم قالوا: " عزير ابن الله "، أي ومنهم ناس يود أحدهم، وهو على الاولين بيان لزيادة حرصهم على طريق الاستئناف.
لو يعمر ألف سنة: حكاية لودادتهم، و (لو) بمعنى ليت، وكان أصله لو اعمر، فاجري على الغيبة لقوله تعالى: " يود " كقولك: " حلف بالله ليفعلن ".
وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر: الضمير لاحدهم، و (أن يعمر) فاعل مزحزحه، أي وما أحدهم ممن يزحزحه من النار تعميره، أو لما دل عليه يعمر، و أن يعمر بدل، أو مبهم وأن يعمر موضحه.
وأصل (سنة) سنوة، لقولهم سنوات، وقيل: سنهة كجبهة لقولهم سانهة، و تسنه النخل إذا أتت عليه السنوات، والزحزحة: التبعيد. والله بصير بما يعملون: فيجازيهم.
وفي هذه الآية دلالة على أن الحرص على طول البقاء لطلب الدنيا ونحوه مذموم، وإنما المحمود طلب البقاء للازدياد في الطاعة، وتلافي الفائت بالتوبة والانابة، ودرك السعادة بالاخلاص في العبادة، وإلى هذا المعنى أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) في قوله: بقية عمر المؤمن لا قيمة له، يدرك بها ما فات، ويحيي بها ما أمات(1).
___________________________________
(1) مجمع البيان: ج 1 - 2، ص 166، ذيل الآية 96، من سورة البقرة. (*)
[304]
[ قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين(97) من كان عدوا لله وملئكته ورسله وجبريل وميكل فإن الله عدو للكفرين(98) ]
قل من كان عدوا لجبريل: قال ابن عباس: سبب نزول هذه الآية ما روي أن ابن صوريا وجماعة من يهود أهل فدك، لما قدم النبي (صلى الله عليه وآله) المدينة سألوه فقالوا: يا محمد كيف نومك، فقد اخبرنا عن نوم النبي الذي يأتي في أخر الزمان.
فقال: تنام عيناي وقلبي يقظان. قالوا: صدقت يا محمد.
فاخبرنا عن الولد يكون من الرجل والمرأة؟ فقال (صلى الله عليه وآله): أما العظام والعصب والعروق فمن الرجل، وأما اللحم والدم والشعر والظفر فمن المرأة.
قالوا: صدقت يا محمد، فما بال الولد يشبه أعمامه وليس فيه من شبه أخواله شئ، أو يشبه أخواله وليس فيه من شبه أعمامه شئ؟ فقال: أيهما علا ماؤه كان الشبه له.
قالوا: صدقت يا محمد، قالوا: أخبرنا عن ربك ما هو؟ فانزل الله سبحانه: قل هو الله أحد، إلى آخره.
فقال له ابن صوريا: خصلة واحدة إن قلتها آمنت بك و اتبعتك، أي ملك يأتيك بما ينزل الله عليك؟ فقال: جبرئيل.
قال: ذلك عدونا ينزل بالقتال والشدة والحرب، وميكائيل ينزل باليسر والرخاء، فلو كان ميكائيل هو الذي يأتيك لآمنا بك(1).
___________________________________
(1) مجمع البيان: ج 1 - 2، ص 167، في سبب نزول آية 97. (*)
[305]
وفي جبريل ثمان لغات قرئ بهن، أربع من المشهورات، جبرئيل كسلسبيل قراء_ة الحمزة(1) والكسائي(2)، وجبريل بكسر الراء وحذف الهمزة قراء_ة ابن كثير(3)، وجبرئل كجحمرش قراء_ة عاصم برواية أبي بكر(4)، وجبريل كقنديل قراء_ة الباقين.
وأربع في الشواذ جبرائل وجبرائيل وجبرال وجبرين ومنع صرفه للعجمة والتعريف، ومعناه عبدالله.
فإنه نزله: أي جبرئيل نزل القرآن، والارجاع إلى غير المذكور يدل على فخامة شأنه، كأنه لتعينه وفرط شهرته لم يحتج إلى سبق ذكره. على قلبك: فإنه القابل الاول للوحي ومحل الفهم والحفظ.
وكان حقه على قلبي، لكنه جاء على حكاية كلام الله تعالى، كأنه قال: قل ما تكلمت به من قولي من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك. بإذن الله: بأمره، حال من فاعل نزل. مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين: أحوال من مفعوله.
وجواب الشرط (فإنه نزله) على وجهين: أحدهما: أن من عادى منهم جبرئيل فلا وجه له، فإنه نزله كتابا مصدقا لما بين يديه من الكتب، فلو أنصفوا لاحبوه وشكروا له صنيعه في إنزاله ما ينفعهم و يصحح المنزل عليهم.
والثاني: أن من عاداه فالسبب في عداوته أنه نزل عليك بالوحي، وهم كارهون له.
وقيل: جواب الشرط محذوف، مثل فليمت غيظا، أو فهو عدو لي وأنا عدوا له، كما قال: من كان عدوا لله وملئكته ورسله وجبريل وميكل فإن الله عدو للكفرين: أي من كان معاديا بالله أي يفعل فعل المعادي من المخالفة والعصيان، فإن حقيقة العداوة طلب الاضرار به، وهذا يستحيل على الله تعالى.
___________________________________
(1 و 2 و 3 و 4) مجمع البيان: ج 1 - 2، ص 166. (*)
[306]
[ ولقد أنزلنا إليك ء_ايت بينت وما يكفر بها إلا الفسقون(99) أو كلما عهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون(100) ولما جاء_هم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتب كتب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون(101) ]
وقيل: المراد به معاداة أوليائه، وصدر الكلام به تفخيما لشأنهم، وإفراد الملكين بالذكر لفضلهما، كأنهما من جنس آخر، ووضع الظاهر موضع الضمير للدلالة على أنه تعالى عاداهم لكفرهم، وأن عداوة الملائكة والرسل كفر فكيف بعداوة أمير المؤمنين ويعسوب الدين وإمام المتقين ! وقرأ نافع ميكائل كميكاعل(1)، وأبوعمرو(2) ويعقوب(3) وعاصم(4) برواية حفص ميكال كميعاد، وقرئ ميكيل وميكائل وميكال.
ولقد أنزلنا إليك ء_ايت بينت وما يكفر بها إلا الفسقون: أي المتمردون من الكفرة، والفسق إذا استعمل في نوع من المعاصي دل على أعظمه كأنه متجاوز عن حده.
قال ابن عباس: إن ابن صوريا قال لرسول الله (صلى الله عليه وآله): يا محمد، ما جئتنا بشئ نعرفه، وما انزل عليك آية بينة فنتبعك لها. فأنزل الله هذا الآية(5).
أو كلما عهدوا عهدا: الهمزة حرف استفهام للانكار، ويحتمل أن يكون
___________________________________
(1 و 2 و 3 و 4) تفسير البيضاوي: ج 1، ص 72.
(5) مجمع البيان: ج 1 - 2، ص 168، في سبب نزول آية(99) من سورة البقرة. (*)
[307]
للتقرير، وقال بعضهم: يحتمل أن تكون زائدة، كزيادة الفاء في قولك: أفالله لتفعلن، والاول أصح، والواو للعطف على محذوف، تقديره أكفروا بالآيات، وكلما عاهدوا، وقرئ بسكون الواو على أن التقدير إلا الذين فسقوا أو كلما عاهدوا، وقرئ (عوهدوا) و (عهدوا).
نبذه فريق منهم: نقضه، وأصل النبذ الطرح، لكنه يغلب فيما ينسى.
وإنما قال فريق: لان بعضهم لم ينقض، وقرئ (نقضه) بل أكثرهم لا يؤمنون: رد لما يتوهم أن الفريق هم الاقلون، أو أن من لم ينبذ جهارا فهم يؤمنون به خفاء.
ولما جاء_هم رسول من عند الله: كعيسى ومحمد (صلى الله عليه وآله).
مصدق لما معهم: من التوراة.
نبذ فريق من الذين أوتوا الكتب كتب الله: أي التوراة، لان كفرهم بالرسول المصدق لها كفر بها فيما يصدقه.
وقيل: المراد بكتاب الله القرآن.
وراء ظهورهم: مثل لاعراضهم عنه بالاعراض عما يرمى به وراء الظهر لعدم الالتفات اليه.
كأنهم لا يعلمون: أنه كتاب الله، يعني أن علمهم به رزين ولكن يتجاهلون عنادا، قال الشعبي: هو بين أيديهم يقرؤونه ولكن نبذوا العمل به(1)، وقال سفيان بن عيينه: أدرجوه في الحرير والديباج وحلوه بالذهب والفضة ولم يحلوا حلاله ولم يحرموا حرامه، فذلك النبذ.
هذا إذا حمل الكتاب على التوراة(2)، وأما إذا حمل على القرآن، فإنه لما جاء_هم الرسول بهذا الكتاب فلم يقبلوه، صاروا نابذين له.
واعلم أنه تعالى دل بالآيتين على أن جل اليهود أربع فرق: فرقة آمنوا بالتوراة و قاموا بحقوقها كمؤمني أهل الكتاب وهم الاقلون، المدلول عليهم بقوله " بل أكثرهم لا يؤمنون " وفرقة جاهروا بنبذ عهودها وتخطي حدودها تمردا وفسوقا، وهم
___________________________________
(1 و 2) مجمع البيان: ج 1 - 2، ص 169. (*)
[308]
[ واتبعوا ما تتلوا الشيطين على ملك سليمن وما كفر سليمن ولكن الشيطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هروت ومروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتريه ما له في الاخرة من خلق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون(102) ]
المعنيون بقوله: " نبذ فريق منهم " وفرقة لم يجاهروا بنبذها ولكن نبذوها لجهلهم بها وهم الاكثرون، وفرقة تمسكوا بها ظاهرا ونبذوها خفية عالمين بالحال بغيا وعنادا، و هم المتجاهلون.
واتبعوا ما تتلوا الشيطين: معطوف على نبذ، أي نبذوا كتاب الله واتبعوا كتب السحر التي تقرؤها أو تتبعها الشياطين من الجن والانس، أو منهما. على ملك سليمن: أي على عهد سليمان.
قيل: كانوا يسترقون السمع ويضمون إلى ما سمعوا أكاذيب ويلقونها إلى الكهنة، وهم يدونونها ويعلمون الناس، وفشا ذلك في عهد سليمان حتى قيل: إن الجن تعلم الغيب، وإن ملك سليمان تم بهذا العلم، وإنه تسخر به الانس والجن والريح له.
[309]
روى العياشي بإسناده عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام قال: لما هلك سليمان وضع ابليس السحر ثم كتبه في كتاب وطواه وكتب على ظهره: هذا ما وضع آصف بن برخيا للملك سليمان بن داود من ذخائر كنوز العلم، من أراد كذا وكذا، فليقل كذا وكذا، ثم دفنه تحت السرير، ثم استأثره لهم، فقال الكافرون ما كان يغلبنا سليمان إلا بهذا، وقال المؤمنون: هو عبدالله ونبيه، فقال الله في كتابه (واتبعوا ما تتلوا) إلى آخره(1).
وما كفر سليمن: تكذيب لمن زعم ذلك، وعبر عن السحر بالكفر ليدل على أنه كفر، وأن من كان نبيا كان معصوما. ولكن الشيطين كفروا: باستعماله. وقيل: بما نسبوا إلى سليمان من السحر.
وقيل: عبر عن السحر بالكفر.
وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي (ولكن) بالتخفيف، ورفع (الشياطين)(2).
يعلمون الناس السحر: إغواء وإضلالا، والجملة حال عن الضمير في " كفروا ".
والمراد بالسحر ما يستعان في تحصيله بالتقرب إلى الشياطين مما لا يستقل به الانسان، وذلك لا يستتب إلا لمن يناسبه في الشرارة وخبث النفس، فإن التناسب شرط في التضام والتعاون، وبهذا تبين الساحر عن النبي.
وأما ما يتعجب منه كما يفعله أصحاب الحيل بمعونة الآلات والادوية، أو يريك صاحب خفة اليد فليس بسحر، وتسميته سحرا على التجوز، أو لما فيه من الدقة، لانه في الاصل لما خفي سببه.
وما أنزل على الملكين: عطف على السحر، والمراد بهما واحد، والعطف لتغاير الاعتبار، أو لانه أقوى منه، أو على (ما تتلوا)
___________________________________
(1) تفسير العياشي: ج 1، ص 52، ح 74.
(2) مجمع البيان: ج 1 - 2، ص 170. (*)
[310]
قيل: هما ملكان أنزلا لتعليم السحر ابتلاء من الله تعالى للناس وتمييزا بينه و بين المعجزة.
وقيل: رجلان سميا ملكين باعتبار صلاحهما، ويؤيده قراء_ة الملكين بالكسر.
وما روي أنهما مثلا بشرين وركب فيهما الشهوة، فتعرضا لامرأة يقال لها زهرة فحملتهما على المعاصي والشرك ثم صعدت إلى السماء بما تعلمت منهما - فمحكي عن اليهود.
وقيل: (ما انزل) نفي معطوف على ما كفر تكذيب لليهود في هذه القصة.
ببابل: ظرف، أو حال من الملكين، أو من الضمير في (انزل) والمشهور أنه بلد من سواد كوفة(1).
هروت ومروت: عطف بيان للملكين، ومنع صرفهما للعجمة والعلمية، ولو كانا من الهرت والمرت، وهو الكسر كما زعم بعضهم لانصرفا، ومن جعل (ما) نافية أبدلهما من الشياطين بدل البعض وما بينهما اعتراض، وقرئ بالرفع على تقديرهما هاروت وماروت.
وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر: فمعناه على الاول: ما يعلمان أحدا حتى يبينا له ويقولا له: إنما نحن إبتلاء من الله فمن تعلم منا وعمل به كفر، ومن تعلم وتوقى عمله ثبت على الايمان، فلا تكفر باعتقاد جوازه والعمل به، وعلى الثاني: ما يعلمانه حتى يقولا: إنا مفتونان فلا تكن مثلنا.
فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه: أي من السحر ما يكون
___________________________________
(1) بابل بكسر الباء: اسم ناحية منها الكوفة والحلة، ينسب إليها السحر والخمر، وقال أبومعشر: الكلدانيون هم الذين كانوا ينزلون بابل في الزمن الاول، ويقال: إن أول من سكنها نوح (عليه السلام) وهو أول من عمرها، وكان قد نزلها بعقب الطوفان، فسار هو ومن خرج معه من السفينة اليها لطلب الدف_ء فأقاموا بها وتناسلوا فيها وكثروا من بعد نوح وملكوا عليهم ملوكا وابتنوا بها المدائن، وقال أبوالمنذر: إن مدينة بابل كانت اثنى عشر فرسخا في مثل ذلك، ومدينة بابل بناها بيوراسب الجبار ولما استتم بناؤها جمع إليها كل من قدر عليه من العلماء وبنى لهم اثني عشر قصرا على عدد البروج وسماها باسمائهم فلم تزل عامرة حتى كان الاسكندر وهو الذي خربها معجم البلدان: ج 1، في (بابل)، ص 309. (*)
[311]
[ ولو أنهم ء_امنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون(103) يأيها الذين ء_امنوا لا تقولوا رعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكفرين عذاب أليم(104) ]
سبب تفريقهما.
وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله: لان الاسباب كلها مؤثرة بأمره تعالى.
ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا: أي اليهود.
لمن اشتريه: أي استبدله بكتاب الله.
ما له في الاخرة من خلق: نصيب.
ولبئس ما شروا به أنفسهم: باعوا أو اشتروا على ما مر.
لو كانوا يعلمون: قبحه على التعيين والمثبت لهم أولا على التوكيد القسمي العقل الغريزي، أو العلم الاجمالي بقبح الفعل، أو ترتب العقاب من غير تحقيق، فلا منافات بين ما سبق وبين هذا.
ولو أنهم ء_امنوا: بالرسول وما جاء به.
واتقوا: بترك المخالفة.
لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون: جهلهم لترك التدبر أو العمل بالعلم.
يأيها الذين ء_امنوا لا تقولوا رعنا وقولوا انظرنا: كان المسلمون يقولون لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، إذا ألقى عليهم شيئا من العلم: راعنا يا رسول الله، أي راقبنا وتأن بنا حتى نفهمه ونحفظه، وكانت لليهود كلمة يتسابون بها عبرانية، كما
|