71 - سورة نوح
مكية في قول ابن عباس والضحاك وغيرهما.
وهي ثمان وعشرون آية في الكوفي، وتسع عشرون في البصري، وثلاثون في المدنيين
بسم الله الرحمن الرحيم
(إنا أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن ياتيهم عذاب اليم(1) قال يا قوم إني لكم نذير مبين(2) أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون(3) يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون(4) قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا(5) فلم يزدهم دعائي إلا فرارا(6))
ست آيات.
قرأ (ان عبدوا الله) بكسر النون عاصم وحمزة وابوعمرو، على اصل التقاء الساكنين. الباقون بالضم اتباعا للضمة على الباء في (عبدوا الله) وقرأ الفراء (دعائي) ممدوا إلا شبلا عن ابن كثير، فانه قصر، وفتح الياء مثل عصاي قال ابوعلي: فتح الياء وإسكانها حسنان، فاما قصر الكلمة فلم اسمعها، ويجوز أن تكون لغة.
[132]
يقول الله تعالى مخبرا عن نفسه (إنا أرسلنا نوحا) أي بعثنا نوحا نبيا (إلى قومه أن انذر قومك) أي بأن انذر قومك، فموضع (أن) نصب بسقوط الباء.
وقال قوم: موضعه الجر لقوة حذفها مع (أن).
وقال آخرون: يجوز أن تكون (أن) بمعنى أي المفسره، فلا يكون لها موضع من الاعراب.
وقرأ ابن مسعود (أرسلنا نوحا إلى قومه أنذر) بلا (أن) لان معنى الارسال معنى القول فكأنه قال: قلنا له: أنذر قومك. والانذار التخويف بالاعلام بموضع المخافة ليتقى. ونوح عليه السلام قد انذر قومه بموضع المخافة وهي عبادة غير الله، وإنتهاك محارمه، وأعلمهم وجوب طاعته وإخلاص عبادته.
وقوله (من قبل أن يأتيهم عذاب اليم) معناه اعلمهم وجوب عبادة الله وخوفهم خلافه من قبل أن ينزل عليهم العذاب المؤلم، فانه إذا نزل بهم العذاب لم ينتفعوا با لانذار ولاتنفعهم عبادة الله حينئذ، لانهم يكونون ملجئين إلى ذلك.
وقال الحسن: أمره بأن ينذرهم عذاب الدنيا قبل عذاب الاخرة.
ثم حكى أن نوحا عليه السلام امتثل ما أمره الله به و (قال) لقومه (ياقوم إني لكم نذير مبين أن اعبدوا الله واتقوه) أي مخوفكم عبادة غير الله اوأحذركم معصية الله مظهر ذلك لكم (واتقوه) بترك معاصيه (وأطيعون) فيما أمركم به لان طاعتي مقرونة بطاعة الله، وتمسككم بطاعتي لطف لكم في التمسك بعبادة الله، واتقاء معاصيه، فلذلك وجب عليكم ما أدعوكم اليه على وجه الطاعة، وطاعة الله، واجبة عليكم لمكن النعمة السابغة عليكم التي لا يوازيها نعمة منعم.
ثم بين لهم ما يستحقون على طاعة الله وطاعة رسوله فقال متى فعلتم ذلك (يغفر لكم من ذنوبكم) ودخلت (من) زائدة وقيل (من) معناها (عن) والتقدير يصفح لكم عن ذنوبكم، وتكون عامة.
[133]
وقيل: إنها دخلت للتبعيض، ومعناها يغفر لكم ذنوبكم السالفة، وهي بعض الذنوب التي تضاف اليهم، فلما كانت ذنوبهم التي يستأنفونها لايجوز الوعد بغفرانها مطلقا - لما في ذلك من الاغراء بالقبيح - قيدت هذا التقييد.
وقيل: معناها (يغفر لكم من ذنوبكم) بحسب ما تكون التوبة متعلقة بها، فهذا على التبعيض إن لم يقلعوا إلا عن البعض. وهذا على مذهب من يقول: تصح التوبة من قبيح مع المقام على قبيح آخر يعلم قبحه.
وقال الزجاج: دخلت (من) لتخص الذنوب من سائر الاشياء، لا لتبعيض الذنوب.
وأكثر النحويين وأكثر القراء على إظهار الراء عند اللام في (يغفر لكم) وأختار ابوعمرو الادغام، لان إذهاب التكرير لا يخل، لان الثاني مثل الاول. وإنما يخل إذهاب ماله حس في المسموع، كالذي لحروف الصفير وبحروف المد واللين وقوله (ويؤخركم إلى أجل مسمى) عطف على الجزاء فلذلك جزمه، والمعنى إنكم إن اطعتم الله ورسوله غفر لكم ذنوبكم وأخركم إلى الاجل المسمى عنده وفي الاية دليل على الاجلين، لان الوعد بالاجل المسمى مشروط بالعبادة والتقوى، فلما لم يقع اقتطعوا بعذاب الاستئصال قبل الاجل الاقصى بأجل أدنى. وكل ذلك مفهوم هذا الكلام. وقيل تقديره إن الاجل الاقصى لهم إن آمنوا، وليس لهم إن لم يؤمنوا، كما أن الحنة لهم إن آمنوا وليست لهم إن لم يؤمنوا.
ثم اخبر (ان أجل الله) الاقصى اذا جاء لا يؤخر (لو كنتم تعلمون) صحة ذلك وتؤمنون به، ويجوز ذلك أن يكون اخبارا من الله عن نفسه، ويجوز ان يكون حكاية عن نوح أنه قال ذلك لقومه.
ثم حكى تعالى ما قال نوح لله تعالى فانه قال يا (رب اني دعوت قومي ليلا ونهارا) إلى عبادتك وخلع الانداد من دونك والى الاقرار بنبوتي (فلم يزدهم دعائي
[134]
الا فرارا) أي لم يزدادوا بدعائي الا فرارا عن قبوله وبعدا عن استماعه، وانما سمي كفرهم عند دعائه زيادة في الكفر، لانهم كانوا على كفر بالله وضلال عن حقه، ثم دعاهم نوح إلى الاقرار به وحثهم على الاقلاع عن الشرك، فلم يقبلوا، فكفروا بذلك، فكان ذلك زيادة في الكفر، لان الزيادة اضافة شئ إلى مقدار بعد حصوله منفردا، ولو حصلا ابتداء في وقت واحد لم يكن أحدهما زيادة على الاخر، ولكن قد يكون زيادة على العطية.
قيل: وإنما جاز أن يكون الدعاء إلى الحق يزيد الناس فرارا منه للجهل الغالب على النفس، فتارة يدعو إلى الفرار مما نافره، وتارة يدعو إلى الفساد الذي يلائمه ويشاكله فمن ههنا لم يمتنع وقوع مثل هذا، والفرار ابتعاد عن الشئ رغبة عنه او خوفا منه، فلما كانوا يتباعدون عن سماع دعائه رغبة عنه كانوا قد فروا منه.
قوله تعالى: (وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا(7) ثم إني دعوتهم جهارا(8) ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا(9) فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا(10) يرسل السماء عليكم مدرارا(11) ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا(12) مالكم لا ترجون لله وقارا(13) وقد خلقكم أطوارا(14))
ثمان آيات.
[135]
لماحكى الله تعالى عن نوح أنه قال يارب اني دعوت قومي إلى طاعتك ليلا ونهارا فلم يزدادوا عند دعائي إلا بعدا عن القبول قال (وإني كلما دعوتهم) إلى اخلاص عبادتك (لتغفر لهم) معاصيهم جزاء على ذلك (جعلوا أصابعهم في آذانهم) لئلا يسمعوا كلامي ودعائي (واستغشوا ثيابهم) أي طلبوا ما يستترون به من الثياب ويختفون به لئلا يرونه.
وقال الزجاج: معناه إنهم كانوا يسدون آذانهم ويغطون وجوههم لئلا يسمعوا كلامه.
فالاستغشاء طلب الغشى، فلما طلبوا التغشي بثيابهم فرارا من الداعي لهم، كانوا قد استغشوا (وأصروا) أي اقاموا على كفرهم ومعاصيهم عازمين على فعل مثله، فالاصرار الاقامة على الامر بالعزيمة عليه فلما كانوا مقيمين على الكفر بالعزم عليه كانوا مصرين. وقيل إن الرجل منهم كان يذهب بابنه إلى نوح، فيقول لابنه: احذر هذا لا يغوينك، فان ابي قد ذهب بي اليه وأنا مثلك، فحذرني كما حذرتك، ذكره قتادة.
وقوله (واستكبروا استكبارا) أي طلبوا بامتناعهم من القبول مني واخلاص عبادتك تجبرا في الارض وعلوا فيها.
ثم حكى أنه قال (ثم اني دعوتهم جهارا) أي اعلانا (ثم اني أعلنت لهم) أي أظهرت الدعاء لهم إلى عبادتك تارة (وأسررت لهم) أي وأخفيت لهم الدعاء إلى مثل ذلك كرة أخرى (فقلت) لهم (واستغفروا ربكم) أي اطلبوا المغفرة على كفركم ومعاصيكم من الله تعالى (إنه كان غفارا) لكل من طلب منه المغفرة ويغفر فيما بعد لمن يطلب منه ذلك ومتى فعلتم ذلك واطعمتوه ورجعتم عن كفركم ومعاصيكم (يرسل) الله تعالى (السماء عليكم مدرارا) أي كثيرة الدرور بالغيث والمطر، وقيل: إنهم كانوا قحطوا وأجدبوا وهلكت اولادهم ومواشيهم، فلذلك رغبهم في ترك ذلك بالرجوع إلى الله، والدرور تجلب الشئ حالا بعد حال على الاتصال يقال: در درا ودرورا فهو دار، والمطر الكثير الدرور مدرارا.
[136]
وقيل: ان عمر لما خرج يستسقي لم يزد على الاستغفار وتلا هذه الاية.
وقوله (ويمددكم بأموال وبنين) عطف على الجزاء. وتقديره إنكم متى اطعتموه وعبدتموه مخلصين أرسل عليكم المطر مدرارا وأمدكم بأموال وبنين، فالامداد إلحاق الثاني بالاول على النظام حالا بعد حال، يقال: أمده بكذا يمده امدادا، ومد النهر وأمده نهر آخر. والاموال جمع الحال، وهو عند العرب النعم. والبنون جمع إبن، وهو الذكر من الولد (ويجعل لكم جنات) أى بساتين تجنها الاشجار (ويجعل لكم أنهارا) وهو جمع نهر وهو المجرى الواسع للماء دون سعة البحر وفوق الجدول في الاتساع لان الجدول النهر الصغير يرى شدة جرية لضيقه ويخفى في النهر ضربا من الخفاء لسعته ثم قال لهم على وجه التبكيت (مالكم) معاشر الكفار (لا ترجون لله وقارا) أي عظمة - في قول ابن عباس ومجاهد والضحاك - والمراد - ههنا - سعة مقدوراته تعالى، وأصل الوقار ثبوت ما به يكون الشئ عظيما من الحكم والعلم الذي يمتنع معه الخرق، ومنه قره في السمع ووعاه في القلب إذا ثبت في السمع وحفظه القلب.
وقيل: معنى ترجون تخافون.
قال أبوذؤيب:
اذا لسعته النحل لم يرج لسعها * وخالفها في بيت نوب عوامل(1)
أي لم يخف، وكأنه قال: مالكم لاترجون لله عاقبة عظيمة من الثواب بالخلود في النعيم أو تخافون عاقبة عصيانه بالدخول في عذاب النار (وقد خلقكم أطوارا) فالاطوار انتقال الاحوال حالا بعد حال.
وقيل: معناه صبيا ثم شابا ثم شيخا ثم غير عاقل ثم عاقلا وضعيفا ثم قويا.
وقال: ابن عباس وقتادة ومجاهد والضحاك وابن زيد: نطفة ثم علقة ثم مضغة.
وقيل: معناه على ألوان مختلفة بيضاء وسوداء وشقراء وصفراء.
___________________________________
(1) مرفي 2 / 210 و 3 / 315 و 7 / 491 و 8 / 187
[137]
قوله تعالى: (ألم تروا كيف خلق الله سبع سموات طباقا(15) وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا(16) والله أنبتكم من الارض نباتا(17) ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا(18) والله جعل لكم الارض بساطا(19) لتسلكوا منها سبلا فجاجا(20))
ست آيات.
يقول الله تعالى مخاطبا لخلقه المكلفين، ومنبها لهم على توحيده وإخلاص عبادته (ألم تروا) ومعناه ألم تعلموا (كيف خلق الله سبع سموات) أي اخترع سبع سموات (طباقا) أي واحدة فوق الاخرى فالطباق مصدر طابقت مطابقة وطباقا والطباق منزلة فوق منزلة.
ونصب (طباقا) على احد وجهين: احدهما - على الفعل وتقديره وجعلهن طباقا. والاخر - جعله نعتا ل (سبع).
وجعل (القمر فيهن نورا) روي أن الشمس يضئ ظهرها لما يليها من السموات، ويضئ وجهها لاهل الارض، وكذلك القمر.
والمعنى وجعل الشمس والقمر نورا في السموات والارض.
وقال قوم: معنى (فيهن) معهن، وحروف الصفات بعضها يقوم مقام بعض.
وقال قوم: معناه في حيزهن، وإن كان في واحدة منها، كما يقول القائل: إن في هذه الدور لبئرا وإن كان في واحدة منها، وكذلك يقولون: هذا المسجد في سبع قبائل وإن كان في احداها. والجعل حصول الشئ على المضى بقادر عليه. وقد يكون
[138]
ذلك بحدوث نفسه. وقد يكون بحدوث غيره له.
والجعل على أربعة اوجه: اولها - أحداث النفس، كجعل البناء والنساجة وغير ذلك. والثاني - بقلبه، كجعل الطين خزفا. والثالث - بالحكم كجعله كافرا أو مؤمنا والرابع - بالدعاء إلى الفعل كجعله صادقا وداعيا.
والنور جسم شعاعي فيه ضياء كنور الشمس، ونور القمر، ونور النار، ونور النجوم، وشبه بذلك نور الهدى إلى الحق، فالله تعالى جعل القمر ضياء في السموات السبع - في قول عبدالله بن عمر - وقيل: جعله نورا في ناحيتهن (وجعل الشمس سراجا) فالسراج جسم يركبه النور للاستصباح به، فلما كانت الشمس قد جعل فيها النور للاستضاءة به كانت سراجا، وهي سراج العالم كما أن المصباح سراج هذا الانسان.
وقوله (والله أنبتكم من الارض نباتا) فالانبات إخراج النبات من الارض حالا بعد حال. والنبات هو الخارج بالنمو حالا بعد حال، والتقدير في (أنبتكم نباتا) أي فنبتم نباتا، لان أنبت يدل على نبت، من جهة انه متضمن به.
وقوله (ثم يعيدكم فيها) فالاعادة النشأة الثانية، فالقادر على النشأة الاولى قادر على الثانية، لانه باق قادر على اختراعه من غير سبب يولده، والمعنى إن الله يردكم في الارض بأن يميتكم فتصيروا ترابا كما كنتم أول مرة (ويخرجكم اخراجا) منها يوم القيامة كما قال (منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى)(1) ثم قال (والله جعل لكم الارض بساطا) أي مبسوطة يمكنكم المشي عليها والاستقرار فيها. وبين أنه إنما جعلها، كذلك (لتسلكوا منها سبلا فجاجا) فالفجاج
___________________________________
(1) سورة 20 طه آية 55
[139]
جمع (فج) وهى الطريقة المتسعه المتفرقة، وقيل: طرقا مختلفة - ذكره ابن عباس - والفج المسلك بين جبلين، ومنه الفج الذي لم يستحكم أمره، كالطريق بين جبلين.
وإنما عدد تعالى هذه الضروب من النعم امتنانا على خلقه وتنبيها لهم على استحقاقه للعبادة الخالصة من كل شرك، ودلالة لهم على انه عالم بمصالح خلقه، ومدبر لهم على ما تقتضيه الحكمة، فيجب أن يشكروه على هذه النعمة ولا يقابلونها بالكفر والجحود.
قوله تعالى: (قال نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا(21) ومكروا مكرا كبّارا(22) وقالوا لا تذرنّ آلهتكم ولا تذرنّ ودّا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا(23) وقد أضلوا كثيرا ولا تزد الظالمين إلا ضلالا(24) مما خطيئاتهم أغرقوا فادخلوا نارا فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا(25) وقال نوح رب لا تذر على الارض من الكافرين ديّارا(26) إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا(27) رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظالمين إلا تبارا(28))
قرأ (ماله وولده) بالفتح نافع وعاصم وابن عامر. والباقون بضم الواو وسكون اللام، وهما لغتان مثل حزن وحزن ونخل ونخل وعدم وعدم.
وقال قوم: الولد - بالضم - جمع ولد مثل رهن ورهن وعرب وعرب وعجم وعجم.
[140]
وقرأ نافع (ودا) بضم الواو. الباقون بفتحها، وهما لغتان، وهو اسم الصنم.
وقال قوم: بالضم المحبة، وبالفتح الصنم.
والسواع - ههنا - صنم، وفى غير هذا الساعة من الليل. ومثله السعواء.
وقرأ ابوعمرو (خطاياهم) على جمع التكسير. الباقون (خطيئاتهم) على جمع السلامة.
حكى الله تعالى عن نوح أنه (قال) داعيا الله (يا رب انهم) يعني قومه (عصوني) فيما آمرهم به وأنهاهم عنه، فالمعصية مخالفة المراد إلى المكروه المزجور عنه. ومخالفة ما أراده الحكيم تكون على وجهين: احدهما - على المأذون فيه من غير أن يريده. والاخر - إلى المكروه المزجور عنه، فهو بالاول مقصر عن ما هو الاولى فعله. وبالثاني عاص.
وقوله (واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا) تمام الحكاية عن نوح أنه وصف به قومه بأنهم عصوه فيما دعاهم اليه واتبعوا الذي لم يزده ماله وولده إلا خسارا يعني هلاكا، فالخسار الهلاك بذهاب رأس المال ففيه معنى الهلاك وليس كذلك الخسران، لانه محتمل للقليل الذي لا يجحفه ذهابه والكثير الذي يجحف وأما الخسار ففيه معنى ذهاب الكثير، ولهذا بني على صفة الهلاك.
وقوله (ومكروا مكرا كبارا) فالمكر الفتل بالحيلة الخفية إلى خلاف الجهة الموافقة بما فيها من المضرة، مكر يمكر مكرا، فهو ماكر، والشئ ممكور به، قال ذو الرمة:
عجزاء ممكورة خمصانة قلق * عنها الوشاح وتم الجسم والقصب(1)
أي ملتفة مفتولة.
والكبار الكبير - في قول مجاهد وابن زيد - يقولون عجيب
___________________________________
(1) مر في 4 / 513، 541 و 5 / 128
[141]
وعجاب بالتخفيف والتشديد. ومثله جميل وجمال وجمال وحسن وحسان.
(وقالوا) يعني الكفار بعضهم لبعض (لاتذرن آلهتكم) أي لا تتركوا عبادة أصنامكم (ولا تذرن ودا ولا سواعا) وهما صنمان لهم كانوا يعبدونهما، فكانت (ود) لكلب (وسواع) لهمدان (ويغوث) لمذحج (ويعوق) لكنانة (ونسرا) لحمير - في قول قتادة -.
وقوله (قد أضلوا كثيرا) معناه ضل بهم خلق كثير.
وقيل: معناه إن عبادتهم أضلت خلقا عن الثواب لمن استحق العقاب، وأضلهم بالذم والتحسر عن حال أهل الفلاح، وإنما جمع الاصنام بالواو لما أسند اليها ما يسند إلى العالم من استحقاق العبادة، ولم يصرفوا (يغوث) و (يعوق) لانه على لفظ المضارع من الافعال، وهي معرفة، وقد نونهما الاعمش، واخراجهما مخرج النكرات أي صنما من الاصنام.
ثم قال نوح (ولا تزد الظالمين إلا ضلالا) ومعناه إلا عذابا وسمي العذاب ضلالا كقوله (إن المجرمين في ضلالا وسعر)(1) وقيل: كانت هذه الاصنام المذكورة يعبدها قوم نوح، ثم عبدتها العرب فيما بعد - في قول ابن عباس وقتادة والضحاك وابن زيد - ولا يجوز في صفة الحكيم الاضلال عن الايمان.
وقوله (مما خطاياهم) (ما) صلة وتقديره من خطاياهم بمعنى من أجل ما ارتكبوه من الخطايا والكفر (أغرقوا) على وجه العقوبة (فادخلوا) بعد ذلك (نارا) ليعاقبوا فيها (فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا) أي من يدفع عنهم ما نزل بهم من العقاب المستحق على كفرهم.
ثم حكى ما قال نوح أيضا فانه قال (رب لا تذر على الارض من الكافرين
___________________________________
(1) سورة 54 القمر آية 47
[142]
ديارا) قال قتادة: ما دعا عليهم إلا بعد ما أنزل عليه (أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن)(1) فلذلك قال (إنك) يارب (ان تذرهم) يعني تتركهم ولا تهلكهم (يضلوا عبادك) عن الدين بالاغواء عنه والدعاء إلى خلافه (ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا) وإلا فلم يعلم نوح الغيب، وإنما قال ذلك بعد أن اعلمه الله ذلك وإنما جاز أن يقول (ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا) فيسيمهم بالكفر والفجور قبل أن يعملوه، لانه على وجه الحكاية والاخبار بما يكون منهم لو وجدوا لا على وجه الذم لهم، لاقتضاء العقل على أنه لا يذم على الكفر من لم يكن منه كفر، فكأنه قال ولا يلدوا إلا من إذا بلغ كفر، و (الديار) فيعال من الدوران، أي ولا تذر على الارض منهم أحدا يدور في الارض بالذهاب والمجئ قال الشاعر:
وما نبالي إذا ما كنت جارتنا * ألا يجاورنا إلاك ديار(2)
أي إلا ياك، فجعل المتصل موضع المنفصل ضرورة.
وقال الزجاج: تقول ما في الدار أحد، ولا بها ديار، وأصله ديوار (فيعال) فقلبت الواو ياء.
وأدغمت احداهما في الاخرى. والفاجر من فعل الفجور، وهي الكبيرة التي يستحق بها الذم.
و (الكفار) من اكثر من فعل الكفر لانه لفظ مبالغة. وكافر يحتمل القليل والكثير.
ثم حكى ان نوحا سأل الله تعالى فقال (رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات) قيل المراد بالبيت مسجده. وقيل أراد سفينته. وذلك على وجه الانقطاع اليه تعالى، لانه لا يفعل معصية يستحق بها العقاب. فأما والده والمؤمنون والمؤمنات الذين استغفر لهم فيجوز أن يكون منهم معاص يحتاج أن يستغفرها لهم.
___________________________________
(1) سورة 11 هود آية 36.
(2) أوضح المسالك 1 / 60
[143]
وقوله (ولا تزد الظالمين إلا تبارا) فالتبار الهلاك والعقاب، وكل من أهلك فقد تبر، ولذلك سمي كل شئ مكسر تبرا، ويجوز أن يكون معناه لا تزدهم إلا ضالا أي عذابا على كفرهم.
وقال البلخي: لا تزدهم إلا منعا من الطاعات عقوبة لهم على كفرهم، فانهم إذا ضلوا استحقوا منع الالطاف التي يعفل بالمؤمنين فيطيعون عندها، ويمتثلون أمر الله، ولا يجوز أن يفعل بهم الضلال عن الحق، لانه سفه فتعال الله عن ذلك علوا كبيرا.
[144]
|