00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة النور 

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : التبيان في تفسير القرآن ( الجزء السابع)   ||   تأليف : شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي

24 - سورة النور

مدنية بلا خلاف، وهي أربع وستون آية في البصري والكوفي واثنتان في المدنيين.

الآية: 1 - 30

بسم الله الرحمن الرحيم

(سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون(1))

آية واحدة بلا خلاف.

قرأ ابن كثير وابوعمرو (وفرضناها) بتشديد الراء. الباقون بتخفيفها.

وفسر ابوعمرو قراء‌ته بمعنى فصلناها(1) وبيناها بفرائض مختلفه، والتقدير هذه (سورة) لان النكرة لا يبتدأ بها.

وقال غيره: معنى التشديد حددنا فيها الحلال والحرام.

وقال قتادة: معنى التشديد: قد بيناها.

وقيل: معنى التشديد: جعلناها عليكم وعلى من بعدكم إلى قيام الساعة، ومن خفف أراد من الفريضة أي فرض فيها الحلال والحرام، والفرض مأخوذ من فرض القوس وهو الحز الذي فيه الوتر، والفرض ايضا نزول القرآن قال

___________________________________

(1) وفى بعض النسخ الخطية (فمعنى قراء‌ة ابي عمرو: وفصلناها)

[404]

الله تعالى (ان الذي فرض عليك القرآن) أي انزل. وارتفع (سورة) على تقدير هذه (سورة) إلا انه حذف على تقدير التوقع لما ينزل من القرآن.

والسورة المنزلة الشريفة قال الشاعر:

ألم تر أن الله اعطاك سورة *** ترى كل ملك دونها يتذبذب(2)

فسميت السورة من القرآن بذلك لهذه العلة.

والفرض هو التقدير - في اللغة - وفصل بينه وبين الواجب، بأن الفرض واجب بجعل جاعل، فرضه على صاحبه، كما انه أوجبه عليه، والواجب قد يكون واجبا من غير جعل جاعل، كوجوب شكر المنعم، فجرى مجرى دلالة الفعل على الفاعل في انه يدل من غير جعل جاعل كما تجعل العلامة الوضعية، إلا أن الله تعالى لا يوجب على العبد الا ما له صفة الوجوب في نفسه، كما لا يرغب الا في ما هومرغوب في نفسه.

وقوله (انزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون) فمعنى (الآيات) الدلالات على ما يحتاج إلى علمه مما قد بينه الله في هذه السورة، ونبه على ذلك من شأنها لينظر فيه طالب العلم ويفوز ببغيته منه، والتقدير، وفرضنا فرائضها. واضاف الفرائض إلى السورة، وهي بعضها، لدلالة الكلام عليه، لانها مفهومة منها و (بينات) معناه ظاهرات واضحات.

وقوله (لعلكم تذكرون) معناه لكي تذكروا الدلائل التي فيها، فتكون حاضرة لكم لتعملوا بموجبه وتلتزموا معانيه.

___________________________________

(1) سورة 28 القصص آية 85.

(2) قائله النابغة الذبياني ديوانه " دار بيروت " 18 وقد مر في 1 / 19، 3 / 366 من هذا الكتاب.

[405]

قوله تعالى: (ألزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين(2) ألزاني لاينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لاينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين(3))

آيتان بلا خلاف.

قرأ ابن كثير الا ابن فليح (رآفة) بفتح الهمزة على وزن (فعالة). الباقون بسكونها، وهما لغتان في المصدر، يقال: رأف رأفة مثل كرم كرما.

وقيل: رآفة مثل سقم سقامة. والرأفة رقة الرحمة.

أمر الله تعالى في هذه الآية: أن يجلد الزاني، والزانية اذا لم يكونا محصنين (كل واحد منهما مئة جلدة) واذا كانا محصنين أو أحدهما، كان على المحصن الرجم بلا خلاف.

وعندنا انه يجلد اولا مئة جلدة ثم يرجم، وفي اصحابنا من خص ذلك بالشيخ والشيخة إذا زنيا وكانا محصنين، فأما اذا كانا شابين محصنين لم يكن عليهما غير الرجم، وهو قول مسروق. وفي ذلك خلاف ذكرناه في خلاف الفقهاء.

والاحصان الذي يوجب الرجم هو أن يكون له زوج يغدو اليه ويروح على وجه الدوام، وكان حرا. فأما العبد، فلا يكون محصنا، وكذلك الامة لا تكون محصنة، وانما عليهما نصف الحد: خمسون جلدة، والحر متى كان عنده زوجة يتمكن من وطئها مخلى بينه وبينها سواء كانت حرة او أمة، او كان عنده أمة يطؤها بملك اليمين، فانه متى زنا وجب عليه الرجم، ومن كان غائبا عن زوجته شهرا فصاعدا أو كان محبوسا او هي محبوسة هذه المدة، فلا أحصان.

ومن كان محصنا على ما قدمناه ثم ماتت زوجته أو طلقها بطل احصانه. وفى جميع ذلك خلاف بين الفقهاء ذكرناه في الخلاف.

[406]

والخطاب بهذه الآية وان كان متوجها إلى الجماعة، فالمراد به الائمة بلا خلاف، لانه لاخلاف أنه ليس لاحد اقامة الحدود إلا للامام أو من يوليه الامام. ومن خالف فيه لا يعتد بخلافه.

والزنا هو وطؤ المرأة في الفرج من غير عقد شرعي ولا شبهة عقد شرعي مع العلم بذلك أو غلبة الظن. وليس كل وطئ حرام زنا، لانه قد يطؤ امرأته في الحيض والنفاس، وهو حرام، ولايكون زنا، وكذلك لو وجد امرأة على فراشه، فظنها زوجته او أمته فوطأها لم يكن ذلك زنا، لانه شبهة.

وقوله " ولا تأخذهم بهما رأفة في دين الله " قال مجاهد وعطاء ابن أبي رياح وسعيد بن جبير وابراهيم: معناه لا تمنعنكم الرأفة والرحمة من اقامة الحد.

وقال الحسن وسعيد بن المسيب وعامر الشعبي وحماد: لا يمنعكم ذلك من الجلد الشديد.

(والرأفة) بسكون الهمزة. والرآفة - بفتح الهمزة - مثل الكأبة والكآبة، والسأمة والسآمة، وهما لغتان، وبفتح الهمزة قرأ ابن كثير على ما قدمناه.

وقوله " إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر " أي إن كنتم تصدقون بما وعد الله وتوعد عليه، وتقرون بالبعث والنشور، فلا تأخذكم في من ذكرناه الرأفة، ولا تمنعكم من اقامة الحد على من ذكرناه، وقوله " وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين " قال مجاهد وابراهيم: الطائفة رجل واحد.

وعن ابي جعفر (ع) ان اقله رجل واحد.

وقال عكرمة: الطائفة رجلان فصاعدا.

وقال قتادة والزهري: هم ثلاثة فصاعدا.

وقال ابن زيد: اقله اربعة.

وقال الجبائي: من زعم ان الطائفة اقل من ثلاثة فقد غلط من جهة اللغة، ومن جهة المراد بالآية، من احتياطه بالشهادة.

[407]

وقال: ليس لاحد ان يقيم الحد إلا الائمة وولاتهم، ومن خالف فيه فقد غلط، كما انه ليس للشاهد ان يقيم الحد. وقد دخل المحصن في حكم الآية بلا خلاف.

وكان سيبويه يذهب إلى ان التأويل: في ما فرض عليكم، الزانية والزاني، ولولا ذلك لنصب بالامر.

وقال المبرد: إذا رفعته ففيه معنى الجزاء، ولذلك دخل الفاء في الخبر، والتقدير التي تزني، والذي يزني، ومعناه من زنى فاجلدوه، فيكون على ذلك عاما في الجنس.

وقال الحسن: رجم النبي صلى الله عليه وآله الثيب(1) وأراد عمر ان يكتبه في آخر المصحف ثم تركه، لئلا يتوهم انه من القرآن.

وقال قوم: إن ذلك منسوخ التلاوة دون الحكم. وروي عن علي (ع) ان المحصن يجلد مئة بالقرآن، ثم يرجم بالسنة. وانه امر بذلك.

وقوله " الزاني لا ينكح إلا زانية او مشركة، والزانية لاينكحها إلا زان او مشرك... " الآية.

قيل: انها نزلت على سبب، وذلك انه استأذن رجل من المسلمين النبي صلى الله عليه وآله ان يتزوج امرأة من اصحاب الرايات، كانت تسافح، فأنزل الله تعالى الآية.

وروي ذلك عن عبدالله بن عمر، وابن عباس: وقال حرم الله نكاحهن على المؤمنين، فلا يتزوج بهن الا زان او مشرك.

وقال مجاهد والزهري والشعبي: ان النى استؤذن فيها ام مهزول. وقيل النكاح - ههنا - المراد به الجماع، والمعنى الاشتراك في الزنا، يعني انهما جميعا يكونان زانيين، ذكر ذلك ابن عباس. وقد ضعف الطبري ذلك، قال: لا فائدة في ذلك.

ومن قال بالاول، قال: الآية وان كان ظاهرها الخبر، فالمراد به النهي.

وقال سعيد بن جبير: معناه انها زانية مثله. وهو قول الضحاك وابن زيد.

وقال سعيد ابن المسيب: كان ذلك حكم كل

___________________________________

(1) في المخطوط (البنت)

[408]

زان وزانية، ثم نسخ بقوله (وانكحوا الايامى منكم والصالحين)(1)، وبه قال اكثر الفقهاء.

وقال الرماني: وجه التأويل انهما مشتركان في الزنا، لانه لاخاف انه ليس لاحد من اهل الصلاة ان ينكح زانية وان الزانية من المسلمات حرام على كل مسلم من اهل الصلاة، فعلى هذا له ان يتزوج بمن كان زنى بها.

وعن ابي جعفر (ع) (ان الآية نزلت في اصحاب الرايات، فأما غيرهن فانه يجوز ان يتزوجها، وان كان الافضل غيرها، ويمنعها من الفجور). وفى ذلك خلاف بين الفقهاء.

قوله تعالى: (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون(4) إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فان الله غفور رحيم(5))

آيتان بلا خلاف.

قال سعيد بن جبير: هذه الآية نزلت في عائشة.

وقال الضحاك في نساء المؤمنين: وهوالاولى، لانه اعم فائدة، وإن كان يجوز أن يكون سبب نزولها في عائشة، فلا تقصير الآية على سببها.

يقول الله تعالى ان " الذين يرمون المحصنات " أي يقذفون العفائف من النساء بالزناء، والفجور، وحذف قوله بالزنا لدلالة الكلام عليه، ولم يقيموا على ذلك أربعة من الشهود، فانه يجب على كل واحد منهم ثمانون جلدة.

وقال الحسن: يجلد

___________________________________

(1) سورة 24 النور آية 32

[409]

وعليه ثيابه. وهو قول ابي جعفر (ع). ويجلد الرجل قائما، والمراة قاعدة. وقال ابراهيم ترمى ثيابه في حد الزنا.

وقوله " ولا تقبلوا لهم شهادة ابدا " نهي من الله تعالى عن قبول شهادة القاذف على التأبيد، وحكم عليهم بأنهم فساق. ثم استثنى من ذلك الذين تابوا من بعد ذلك. واختلفوا في الاستثناء إلى من يرجع، فقال قوم: انه من الفساق، فاذا تاب قبلت شهادته حد اولم يحد. وهو قول سعيد بن المسيب. وقال عمر لابي بكرة: إن تبت قبلت شهادتك. فأبى ابوبكرة أن يكذب نفسه. وهو قول مسروق والزهري والشعبي وعطاء وطاوس ومجاهد وسعيد بن جبير وعمر بن عبدالعزيز والضحاك، وهو قول ابي جعفر وابي عبدالله (ع). وبه قال الشافعي من الفقهاء وأصحابه، وهو مذهبنا.

وقال الزجاج: يكون تقديره، ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا إلا الذين تابوا. ثم وصفهم بقوله " وأولئك هم الفاسقون " وقال شريح وسعيد بن المسيب، والحسن وابراهيم: الاستثناء من الفاسقين دون قوله " ولا تقبلوا لهم شهادة ابدا " وبه قال أهل العراق، قالوا: فلا يجوز قبول شهادة القاذف ابدا. ولا خلاف في انه إذا لم يحد - بأن تموت المقذوفة ولم يكن هناك مطالب، ثم تاب - أنه يجوز قبول شهادته. وهذا يقتضي الاستثناء من المعنيين على تقدير: وأولئك هم الفاسقون في قذفهم، مع امتناع قبول شهادتهم إلا التائبين منهم. والحد حق المقذوفة لا يزول بالتوبة.

وقال قوم: توبته متعلقة باكذابه نفسه. وهو المروي في أخبارنا، وبه قال الشافعي.

وقال مالك بن أنس: لا يحتاج إلى ذلك فيه.

قال أبوحنيفة: ومتى كان القاذف عبدا او أمة فعليه أربعون جلدة.

[410]

وقد روى أصحابنا: أن الحد ثمانون في الحر والعبد، وظاهر العموم يقتضي ذلك، وبه قال عمر بن عبدالعزيز، والقاسم بن عبدالرحمن.

قوله تعالى: (والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين(6) والخامسة أن لعنت الله عليه إن كان من الكاذبين(7) ويدرؤا عنها العذاب أن تشهدا أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين(8) والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين(9) ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم(10))

خمس آيات بلا خلاف.

قرأ اهل الكوفة الا أبا بكر " فشهادة احدهم اربع شهادات " برفع العين. الباقون بفتحها.

وقرأ نافع ويعقوب " ان لعنة الله.... وان غضب الله عليها " بتخفيف النون فيهما، وسكونها، ورفع " لعنة الله " وقرأ نافع " غضب الله " - بكسر الضاد وفتح الباء، ورفع الهاء - من اسم الله.

وقرأ يعقوب - بفتح الضاد ورفع الباء وخفض الهاء - من اسم الله. الباقون بفتح الضاد ونصب الباء وخفض الهاء.

وقرأ حفص " الخامسة ان غضب الله " بالنصب. الباقون بالرفع.

من رفع قوله " اربع " جعله خبر الابتداء، والابتداء " فشهادة احدهم " قال أبو حاتم: من رفع فقد لحن، لان الشهادة واحدة، وقد أخبر عنها بجمع، فلا يجوز ذلك، كما لايجوز (زيد أخوتك) وهذا خطأ، لان الشهادة، وإن كانت بلفظ الوحدة فمعناها الجمع، كقولك صلاتي خمس، وصومي شهر.

[411]

وقال الزجاج: تقديره " فشهادة أحدهم " التي تدرؤ العذاب " أربع شهادات " ومن قرأ بالنصب جعله مفعولا به أي يشهد أربع شهادات.

وقال ابوعلي الفارسي: ينبغي أن يكون قوله " فشهادة احدهم " مبنيا على ما يكون مبتدأ، وتقديره: فالحكم أو فالفرض ان يشهد أحدهم أربع شهادات، أو فعليهم أن يشهدوا، ويكون قوله " انه لمن الكاذبين " على هذا من صلة (شهادة أحدهم)، وتكون الجملة التي هي قوله " انه لمن الصادقين " في موضع نصب، لان الشهادة كالعلم، والجملة في موضع نصب، بأنه مفعول به " واربع شهادات تنتصب انتصاب المصادر.

ومن رفع " أربع شهادات " لم يكن قوله " انه لمن الصادقين " إلا من صلة " شهادات " دون " شهادة " كما أن قوله " بالله " من صلة (شهادات) دون صلة (شهادة) لانك لو جعلته من صلة (شهادة) فصلت بين الصلة والموصول.

ومن نصب " أربع شهادات " فقياسه ان ينصب " والخامسة " لانها شهادة، وإذا رفع " أربع شهادات " ونصب " الخامسة " قدر له فعلا ينصبها به، وتقديره ويشهد الخامسة.

ومن رفع " أربع شهادات " ورفع " الخامسة " جعلها معطوفة عليه، وإذا نصب الخامسة، لم يجعلها معطوفة عليه وجعلها مفعولا، وقدر فعلا ينصبها به.

وقال: ابوعلي: قراء‌ة نافع في تخفيف (ان) الوجه فيها أنها المخففة من الثقيلة، ولا تخفف في الكلام أبدا وبعدها اسم إلا ويراد إضمار القصة، ومثله قوله " وآخر دعواهم أن الحمد لله "(1). وانما خففت الثقيلة المفتوحة على اضمار القصة والحديث، ولم تكن المكسورة كذلك، لان الثقيلة المفتوحة موصولة.

ويستقبح النحويون قراء‌ة نافع في قوله " ان غضب الله " لان من شأن المخففة من الثقيلة ألا تلي فعلا إلا وفي الكلام عوض، كقوله " ألا يرجع "(2) وقوله " علم ان

___________________________________

(1) سورة 10 يونس آية 10.

(2) سورة 20 طه آية 89

[412]

سيكون "(1) فان (لا) و (السين) عوض من الثقيلة.

ووجه قراء‌ة نافع انه قد جاء في الدعاء ولفظه لفظ الخبر، وقد يجئ في الشعر وإن لم يفصل بين (ان) وبين ما يدخل عليها من الفعل، فعلى قول نافع (لعنة الله) رفع بالابتداء و (غضب) فعل ماض، واسم الله رفع بفعله.

ومعنى الآية ان من قذف محصنة حرة مسلمة بفاحشة من الزنا، ولم يأت بأربعة شهداء جلد ثمانين. ومن رمى زوجته بالزنا تلاعنا. والملاعنة أن يبدأ الرجل فيحلف اربع مرات بالله الذي لا إله إلا هو انه صادق فيما رماها به، ويحتاج ان يقول أشهد بالله أني صادق، لان شهادته أربع مرات تقوم مقام أربعة شهود في دفع الحد عنه، ثم يشهد الخامسة ان لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما رماها به.

(واذا جحدت المرأة ذلك شهدت أربع شهادات بالله انه لمن الكاذبين فيما رماها به و)(2) تشهد الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين. ثم يفرق بينهما، ولا يجتمعان أبدا، كما فرق رسول الله صلى الله عليه وآله بين هلال بن أمية وزوجته. وقضى أن الولد لها، ولايدعى لاب، ولاترمى هي، ولايرمى ولدها.

وقال ابن عباس: متى لم تحلف وجمت، وإن لم يكن دخل بها جلدت الحد، ولم ترجم إذا لم تلتعن، وعند أصحابنا: انه لا لعان بينهما ما لم يدخل بها، فمنى رماها قبل الدخول وجب عليه حد القاذف، ولا لعان بينهما.

وفرقة اللعان تحصل عندنا بتمام اللعان من غير حكم الحاكم، وتمام اللعان إنما يكون اذا تلاعن الرجل والمرأة معا.

وقال قوم: تحصل بلعان الزوج الفرقة.

وقال أهل العراق: لاتقع الفرقة إلا بتفريق الحاكم بينهما.

ومتى رجمت عند النكول ورثها الزوج، لان زناها لا يوجب التفرقة بينهما. ولو جلدت - إذا لم يكن دخل بها - فهما على الزوجية. وذلك يدل على ان الفرقة انماتقع بلعان الرجل والمرأة معا.

___________________________________

(1) سورة 73 المزمل آية 20.

(2) ما بين القوسين ساقط من المطبوعة

[413]

قال الحسن: اذا تمت الملاعنة بينهما ولم يكن دخل بها، فلها نصف الصداق، لان الفرقة جاء‌ت من قبله. واذا تم اللعان اعتدت عدة المطلقة عند جميع الفقهاء، ولا يتزوجها أبدا بلا خلاف. وآية اللعان نزلت في عاصم بن عدي.

وقيل: نزلت في هلال ابن امية - في قول ابن عباس - ومتى فرق بينهما اثم اكذب نفسه جلد الحد ولا ترجع اليه امرأته.

وقال ابوحنيفة ترجع اليه. وإذا أقر بالولد بعد اللعان ألحق به يرثه الابن ولا يرثه الاب.

وقال الشافعي: يتوارثان. و (الدرؤ) الدفع و (العذاب) الذي يدرؤ عنهما بشهادتهما (الحد)، لانه بمنزلة من يشهد عليها أربعة شهود بالزنا.

وقال قوم: هو الحبس لانه لم تتم البينة بأربعة شهود، وانما إلتعان الرجل درأ عنه الحد في رميه.

قال الجبائي: في الآية دلالة على ان الزنا ليس بكفر، لانه ليس لصاحبه حكم المرتد. وفيها دلالة على انه يستحق اللعن من الله بالزنا.

وقوله (ولولا فضل الله عليكم ورحمته وان الله تواب رحيم) نصب قوله (وان الله) لانه عطف على موضع (أن) الاولى. وجواب (لولا) محذوف، وتقديره: لولا فضل الله عليكم ورحمته لفضحكم بما ترتكبون من الفاحشة، ولعاجلكم بالعقوبة او لهلكتم وما يجري مجراه.

ومثله قولهم: لو رايت فلانا وفى يده السيف اي لرأيت شجاعا ولرأيت هائلا، قال جرير:

كذب العواذل لو رايت مناخنا *** بحزيز رامة والمطي سوام(1)

وفى المثل (لو ذات سوار لطمتني)

___________________________________

(1) ديوانه " دار بيروت " 452

[414]

قوله تعالى: (إن الذين جاؤا بالافك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الاثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم(11) لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين(12) لولا جاؤا عليه بأربعة شهداء فاذ لم يأتوا بالشهداء فاولئك عند الله هم الكاذبون(13) ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم في ما أفضتم فيه عذاب عظيم(14) إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بافواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم(15))

خمس آيات بلا خلاف.

يقول الله تعالى مخاطبا لامة محمد صلى الله عليه وآله " إن الذين جاؤا بالافك " يعني الذين أتوا بالافك، وهو الكذب الذي قلب فيه الامر عن وجهه، واصله الانقلاب، ومنه (المؤتفكات) وأفك يأفك افكا إذا كذب. لانه قلب المعنى عن حقه إلى باطله، فهو آفك، مثل كاذب، وقوله " عصبة منكم " يعني جماعة منكم، ومنه قوله " ليوسف واخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة "(1) ويقال: تعصب القوم إذا اجتمعوا على هيئة، فشد

___________________________________

(1) سورة 12 يوسف آية 8

[415]

بعضهم بعضا. والعصبة في النسب العشيرة المقتدرة، لانه يجمعها التعصب.

وقال ابن عباس: منهم (عبدالله بن أبي بن سلول) وهو الذي تولى كبره، وهو من رؤساء المنافقين.

و (مسطح بن اثاثة، وحسان بن ثابت، وحمنة بنت جحش) وهو قول عائشة، وكان سبب الافك ان عائشة ضاع عقدها في غزوة بني المصطلق، وكانت تباعدت لقضاء الحاجة، فرجعت تطلبه، وحمل هودجها على بعيرها ظنا منهم بها أنها فيه، فلما صارت إلى الموضع وجدتهم قد رحلوا عنه، وكان صفوان ابن معطل السلمي الذكواني من وراء الجيش فمر بها، فلما عرفها أناخ بعيره حتى ركبته، وهو يسوقه حتى أتى الجيش بعد ما نزلوا في قائم الظهيرة. هكذا رواه الزهري عن عائشة.

وقوله " لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم " خطاب لمن قرب بالافك من عائشة، ومن اغتم لها، فقال الله تعالى لا تحسبوا غم الافك شرا لكم بل هوخير لكم، لان الله (عزوجل) يبرئ ساحته ببراء‌تها، وينفعها بصبرها واحتسابها، وما ينل منها من الاذى والمكروه الذي نزل بها، ويلزم أصحاب الافك ما استحقوه بالاثم الذى ارتكبوه في أمرها.

ثم اخبر تعالى فقال " لكل امرئ منهم ما اكتسب من الاثم " أي له جزاء ما اكتسب من الاثم من العقاب.

ثم قال " والذي تولى كبره منهم " يعني (ان ابي بن سلول) تحمل ومعظمه و (كبره) مصدر من معنى الكبير من الامور.

قال ابوعبيدة: فرقوا بينه وبين مصدر الكبر في السن، يقال: فلان ذو كبر أي ذو كبرياء.

وقرأ ابوجعفر المدني بضم الكاف. الباقون بكسرها، فالكبر بضم الكاف من كبر السن، وهو كبير قومه أي معظمهم، والكبر والعظم واحد.

وقيل: دخل حسان على عائشة فانشدها قوله في بيته:

[416]

 

حصان رزان ما تزن بريبة *** وتصبح غرثى من لحوم القوافل(1)

فقالت له: لكنك لست كذلك.

وقوله " له عذاب عظيم " يعني جزاء على ما اكتسبه من الاثم.

وقوله " لولا اذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بانفسهم خيرا " معناه هلا حين سمعتم هذا الافك من القائلين ظن المؤمنون بالمؤمنين الذين هم كانفسهم خيرا، لان المؤمنين كلهم كالنفس الواحدة فيما يجري عليها من الامور، فاذا جرى على أحدهم محنة، فكأنه جرى على جماعتهم، وهو كقوله " فسلموا على أنفسكم "(2) وهو قول مجاهد، قال الشاعر في (لولا) بمعنى (هلا):

تعدون عقر النيب أفضل مجدلكم *** بني ضوطرى لولا الكمي المقنعا(3)

اي فهلا تعدون قتل الكمي.

وقوله تعالى " وقالوا هذا افك مبين " معناه وهلا قالوا هذا القول كذب ظاهر.

ثم قال تعالى " لولا جاؤا عليه بأربعة شهداء " اى هلا جاؤا على ما قالوه ببينة أربعة من الشهداء " فاذ لم يأتوا بالشهداء فاولئك " الذين قالوا هذا الافك " هم الكاذبون " عند الله، والمعنى انهم كاذبون في عيبهم، فمن جوز صدقهم، فهو راد لخبر الله تعالى، فالآية دالة على كذب من قذف عائشة، وافك عليها. فأما في غيرها إذا رماها الانسان، فانا لا نقطع على كذبه عند الله، وإن اقمنا عليه الحد، وقلنا هو كاذب في الظاهر، لانه يجوز أن يكون صادقا عند الله، وهو قول الجبائي.

ثم قال تعالى على وجه الامتنان على المؤمنين " ولولا فضل الله عليكم ورحمته

___________________________________

(1) تفسير القرطبي 12 / 200.

(2) سورة 24 النور آية 61.

(3) قائلة جرير ديوانه (دار بيروت) 265، وقد مر في 1 / 319، 435 و 6 / 319 ورواية الديوان:

تعدون عقر النيب افضل سعيكم *** بني ضوطرى هلا الكمي المقنعا

[417]

في الدنيا والاخرة لمسكم في ما أفضتم فيه عذاب عظيم " جزاء على خوضكم في قصة الافك وافاضتكم فيه. وقيل في الآية تقديم وتأخير، وتقديره: ولولا فضل الله عليكم ورحمته لمسكم في ما افضتم فيه عذاب عظيم في الدنيا والاخرة.

وقوله " اذ تلقونه بالسنتكم " تقديره: لمسكم عذاب عظيم حين تلقونه بالسنتكم، ومعناه برواية بعضكم عن بعض لتشييعه - في قول مجاهد - وروي عن عائشة أنها قرأت " تلقونه " من ولق الكذب، وهو الاستمرار على الكذب ومنه: ولق فلان في السير إذا استمر به، ويقال.

في الولق من الكذب: الالق والالق، تقول: ألقت وانتم تألقونه.

أنشد الفراء:

من لي بالمرر واليلامق *** صاحب أدهان وألق آلق(1)

فتح الالف من ادهان، وقال الراجز:

إن الحصين زلق وزملق *** جاء‌ت به عيس من الشام تلق

وينشد ايضا:

ان الحصين زلق وزملق *** جاء‌ت به عنس من الشام تلق

مجوع البطن كلاليم الحلق وقوله " تقولون بافواكم ما ليس به علم " من وجه الافك " وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم " اي تظنونه حقيرا وهو عند الله عظيم لانه كذب وافتراء.

___________________________________

(1) تفسير الطبري 18 / 70

[418]

قوله تعالى: (ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم(16) يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين(17) ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم(18) إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لاتعلمون(19) ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رؤف رحيم(20))

خمس آيات بلا خلاف.

يقول الله تعالى للمؤمنين: وهلا حين سمعتم من هؤلاء العصبة ما قالوا من الافك " قلتم " في جوابهم " ما يكون لنا ان نتكلم بهذا " أي ليس لنا ذلك بل هو محرم علينا، وقلتم " سبحانك " ياربنا " هذا " الذي قالوه " بهتان عظيم " أي كذب وزور عظيم عقابه في الظاهر. فالبهتان الكذب الذي فيه مكابرة تحير، يقال: بهته يبهته بهتا وبهتانا إذا حيره بالكذب عليه.

ثم قال تعالى " يعظكم الله ان تعودوا " أي كراهة أن تعودوا " لمثله " أو لئلا تعودوا إلى مثله من الافك " أبدا " أي طول اعماركم، لا ترجعوا إلى مثل هذا القول " إن كنتم مؤمنين " مصدقين بالله ونبيه، قابلين وعظ الله.

وقال ابن زيد: الوعظ يمنع ان يقول القائل أنا سمعته، ولم أختلقه.

" ويبين الله لكم الايات " يعني الدلالات والحجج " والله عليم حكيم " أي عالم بمايكون منكم، حكيم فيما يفعله، ولا يضع الشئ إلا في موضعه.

[419]

ثم اخبر تعالى " ان الذين يحبون " ويؤثرون " ان تشيع الفاحشة " أي تظهر الافعال القبيحة " في الذين آمنوا لهم عذاب اليم " أي موجع جزاء على ذلك " في الدنيا " باقامة الحد عليهم، وفي " الاخرة " بعذاب النار " والله يعلم " ذلك وغيره " وانتم لاتعلمون " ان الله تعالى يعلم ذلك.

ثم قال " ولولا فضل الله عليكم ورحمته وان الله رؤف رحيم " لاهلككم وعاجلكم بالعقوبة، وحذف الجواب لدلالة الكلام عليه. وفي الآية على أن العزم على الفسق فسق، لانه إذا الزمه الوعيد على محبة شياع الفاحشة من غيره، فاذا أحبها من نفسه وأرادها كان أعظم.

[420]

قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فانه يأمر بالفحشاء والمنكر ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم(21) ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم(22) إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والاخرة ولهم عذاب عظيم(23) يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون(24) يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين(25))

خمس آيات بلا خلاف.

قرأ ابوجعفر المدني " ولا يتأل " على وزن (يتفعل) الهمزة مفتوحة بعد التاء، واللام مشددة مفتوحة. الباقون " يأتل " على وزن (يفتعل). الهمزة ساكنة.

وقرأ اهل الكوفة إلا عاصما " يوم يشهد " بالياء، لان تأنيث الالسنة ليس بحقيقي، ولانه حصل فصل بين الفعل والفاعل. الباقون بالتاء، لان الالسنة مؤنثة.

هذا خطاب من الله تعالى للمؤمنين المعترفين بتوحيد الله المصدقين لرسله، ينهاهم فيه عن اتباع خطوات الشيطان، وخطوات الشيطان تخطية الحلال إلى الحرام.

والمعنى لا تسلكوا مسالك الشيطان، ولا تذهبوا مذهبه، والاتباع الذهاب فيما كان من الجهات التي يدعو الداعي اليها بذهابه فيها، فمن وافق الشيطان فيما يدعو اليه من الضلال، فقد اتبعه.

والاتباع اقتفاء أثر الداعي إلى الجهة بذهابه فيها، وهو بالتثقيل والتخفيف بمعنى الاقتداء به. والمعنى لاتتبعوا الشيطان بموافقته فيما يدعو اليه.

ثم قال " ومن يتبع خطوات الشيطان " فيما يدعوه اليه " فانه " يعني الشيطان " يأمر بالفحشاء " يعني القبائح " والمنكر " من الافعال. والفحشاء كل قبيح عظيم. والمنكر الفساد الذي ينكره العقل ويزجر عنه.

ثم قال تعالى " ولو لا فضل الله عليكم ورحمته " بان يلطف لكم، ويزجركم عن ارتكاب المعاصي " ما زكى منكم من أحدا ابدا " ف‍ (من) زائدة، والمعنى ما فعل احد منكم الافعال الجميلة إلا بلطف من جهته أو وعيد من قبله.

وقال ابن زيد: معناه لولا فضل الله ما أسلم احد منكم.

[421]

وفى ذلك دلالة على أن احدا لا يصلح في دينه إلا بلطف الله (عزوجل) له، لان ذلك عام لجميع المكلفين الذين يزكون بهذا الفضل من الله.

وقوله " ولكن الله يزكي من يشاء " معناه من يعلم أن له لطفا يفعله به ليزكو عنده. وقيل: يزكي من يشاء بالثناء عليه. والاول أجود (والله سميع عليم) معناه إنه يفعل المصالح والالطاف على ما يعلمه من المصلحة للمكلفين. لانه يسمع أصواتهم ويعلم أحوالهم. وفي الآية دلالة على أنه تعالى يريد لخلقه خلاف ما يريده الشيطان، لانه ذكره عقيب قوله (يأمر بالفحشاء والمنكر).

وقوله (ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة) فالايتلاء القسم، يقال آلى يؤلي إيلاء إذا حلف على أمر من الامور، ويأتل (يفتعل) من الالية على وزن (يقتضي) من القضية، ومن قرأ (يتأل) فعلى وزن (يتفعل)، والمعنى لايحلف أن لايؤتي.

وقال ابن عباس وعائشة وابن زيد: إن الآية نزلت في أبي بكر، ومسطح بن أثاثة، وكان يجري عليه، ويقوم بنفقته، فقطعها وحلف ان لا ينفعه أبدا، لما كان منه من الدخول مع أصحاب الافك في عائشة، فلما نزلت هذه الآية عاد أبوبكر له إلى ما كان، وقال: والله اني لاحب ان يغفرالله لي، والله لا أنزعها عنه ابدا. وكان مسطح ابن خالة أبي بكر، وكان مسكينا ومهاجرا من مكة إلى المدينة، ومن جملة البدريين.

وقال الحسن ومجاهد: الآية نزلت في يتيم كان في حجر أبي بكر، حلف الا ينفق عليه.

وروي عن ابن عباس وغيره: أن الآية نزلت في جماعة من اصحاب - رسول الله حلفوا أن لا يواسوا أصحاب الافك.

وقال قوم: هذا نهي عام لجميع أولي الفضل والسعة أن يحلفوا ألا يؤتوا أولي القربى والمساكين والفقراء، وهو أولى

[422]

واعم فائدة، ويدخل فيه ماقالوه. وكان مسطح احد من حده النبي صلى الله عليه وآله في قذف الافك.

وقال ابوعلي الجبائي: قصة مسطح دالة على انه قد يجوز أن تقع المعاصي ممن شهد بدرا بخلاف قول النوابت.

وقوله تعالى (وليعفوا وليصفحوا) أمر من الله تعالى للمرادين بالآية بالعفو عمن أساء اليهم، والصفح عنهم. واصل العافي التارك للعقوبة على من اذنب اليه، والصفح عن الشئ ان يجعله بمنزلة مامر صفحا. ثم قال لهم (ألا تحبون أن يغفر الله لكم) معاصيكم جزاء على عفوكم وصفحكم عمن اساء اليكم (والله غفور رحيم) اي ساتر عليكم منعم.

ثم اخبر تعالى (إن الذين يرمون المحصنات) ومعناه الذين يقذفون العفائف من النساء (الغافلات) عن الفواحش (لعنوا في الدنيا والآخرة) اي أبعدوا من رحمة الله (في الدنيا) باقامة الحد عليهم ورد شهادتهم (وفي الآخرة) بأليم العقاب، والابعاد من الجنة (ولهم) مع ذلك (عذاب عظيم) عقوبة لهم على قذفهم المحصنات. وهذا وعيد عام لجميع المكلفين، في قول ابن عباس وابن زيد واكثر اهل العلم.

وقال قوم: في عائشة، لما رأولها نزلت فيها هذه الآية توهموا ان الوعيد خاص فيمن قذفها، وهذا ليس بصحيح، لان عند اكثر العلماء المحصلين: ان الآية إذا نزلت على سبب لم يجب قصرها عليه، كآية اللعان، وآية القذف، وآية الظهار، وغير ذلك. ومتى حملت على العموم دخل من قذف عائشة في جملتها.

وقوله (يوم تشهد عليهم السنتهم وأيديهم وارجلهم) تقديره: ولهم عذاب عظيم في هذا اليوم. وهو يوم القيامة. وشهادة الايدي والارجل باعمال الفجار. قيل في كيفيتها ثلاثة اقوال:

[423]

احدها - ان الله تعالى يبنيها بنية يمكنهم النطق بها والكلام من جهتها.

الثاني - ان يفعل الله تعالى في هذه البنية كلاما يتضمن الشهادة، فكأنها هي الناطقة.

والثالث - ان يجعل فيها علامة تقوم مقام النطق بالشهادة، وذلك اذا جحدوا معاصيهم.

واما شهادة الالسن فيجوز ان يكونوا يشهدون بألسنتم إذا رأوا ان لا ينفعهم الجحد.

واما قوله تعالى (اليوم نختم على افواههم) فقالوا: إنه يجوز ان يخرج الالسنة ويختم على الافواه، ويجوز ان يكون الختم على الافواه إنما هو في حال شهادة الايدي والارجل.

وقال الجبائي: ويجوز ان يبنيها بنية مخصوصة، ويحدث فيها شهادة تشهد بها.

وقوله (يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق) يعني جزاء‌هم الحق، والدين - ههنا - الجزاء، ويجوز ان يكون المراد جزاء دينهم الحق، وحذف المضاف واقام المضاف اليه مقامه (ويعلمون ان الله هو الحق المبين) اي يعلمون الله ضرورة في ذلك اليوم، ويقرون انه الحق، الذين ابان الحجج والآيات في دار التكليف، وهو قول مجاهد، وقرئ (الحق) بالرفع، والنصب، فمن رفعه جعله من صفة الله، ومن نصبه جعله صفة للدين.

قوله تعالى: (ألخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات أولئك مبرؤن مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم(26))

آية بلا خلاف.

[424]

قيل في معنى الآية أربعة اقوال: احدها - قال ابن عباس ومجاهد والحسن والضحاك: معناه (الخبيثات) من الكلم (للخبيثين) من الرجال أي صادرة منهم.

الثاني - في رواية أخرى عن ابن عباس: أن (الخبيثات) من السيآت (للخبيثين) من الرجال، والطيبات من الحسنات للطيبين من الرجال.

الثالث - قال ابن زيد: (الخبيثات) من النساء (للخبيثين) من الرجال، كأنه ذهب إلى اجتماعها للمشاكلة بينهما.

والرابع - قال الجبائي: (الخبيثات) من النساء الزواني (للخبيثين) من الرجال الزناة، على التعبد الاول ثم نسخ، وقيل الخبيثات من الكلم إنما تلزم الخبيثين من الرجال وتليق بهم.

والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات عكس ذلك على السواء في الاقوال الاربعة. والخبيث الفاسد الذي يتزايد في الفساد تزايد النامي في النبات، ونقضيه الطيب. والحرام كله خبيث. والحلال كله طيب.

وقوله " أولئك مبرؤن مما يقولون " قال مجاهد معناه: الطيبون من الرجال مبرؤن من خبيثات القول، يغفرها الله لهم. ومن كان طيبا، فهو مبرؤ من كل قبيح. ومن كان خبيثا، فهو مبرؤ من كل طيب بأن الله يرده عليه. ولا يقبله منه.

وقال الفراء وغيره: يرجع ذلك إلى عائشة، وصفوان بن معطل كما قال " فان كل له أخوة "(1) والام تحجب بالاخوين، فجاء على تغليب لفظ الجمع الذي يجري مجرى الواحد في الاعراب، وانما قال " مبرؤن.... " الآية، لانه ذكر صفة الجمع، والمبرأ المنزه عن صفة الذم، المنفي عنه صفة العيب، يقال: برأه الله من كذا، إذا

___________________________________

(1) سورة 4 النساء آية 10

[425]

نفاه عنه. والله تعالى يبرئ المؤمنين من العيوب التي يضيفها اليهم أعداؤهم، ويفضح من يكذب عليهم.

وقوله " لهم مغفرة ورزق كريم " أي لهؤلاء الطيبين من الرجال والنساء مغفرة من الله لذنوبهم، وعطية من الله كريمة، فالرزق الكريم هو الذي يعطي الخير على الادرار المهنأ، من غير تنغيص الامتنان، وهو رزق الله تعالى الذي يعم جميع العباد، ويخص من يشاء بالزيادة في الافعال.

وقال قتادة " لهم مغفرة من الله ورزق كريم " في الجنة.

قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون(27) فان لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملون عليم(28) ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم والله يعلم ما تبدون وما تكتمون(29) قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون(30))

أربع آيات بلا خلاف.

[426]

هذا خطاب من الله تعالى للمؤمنين ينهاهم أن يدخلوا بيوتا لا يملكونها، وهي ملك غيرهم إلا بعد أن يستأنسوا، ومعناه يستأذنوا، والاستئناس الاستئذان - في قول ابن عباس وابن مسعود وابراهيم وقتادة - وكأن المعنى يستأنسوا بالاذن.

وروي عن ابن عباس أنه قال: القراء‌ة " حتى تستأذنوا " وانما وهم الكتاب. وهو قول سعيد ابن جبير، وبه قرأ أبي بن كعب.

وقال مجاهد: حتى تستأنسوا بالتنحنح والكلام الذي يقوم مقام الاستئذان. وقد بين الله تعالى ذلك في قوله " واذا بلغ الاطفال منكم الحلم فليستأذنوا "(1) قال عطاء: وهو واجب في أمه وسائر أهله والاستئناس طلب الانس بالعلم أو غيره، كقول العرب: اذهب فاستأنس هل ترى احدا، ومنه قوله " فان آنستم منهم رشدا "(2) اي علمتم.

وقوله " وتسلموا على أهلها " معناه على أهل البيوت ينبغي أن تسلموا عليهم وإذا أذنوا لكم في الدخول فادخلوها. وروى ابوموسى عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: (الاستئذان ثلاث، فان اذنوا، وإلا فارجع) فدعاه عمر، فقال لتأتيني بالبينة وإلا عاقبتك، فمضى أبوموسى، فأتى بمن سمع الحديث معه. والفرق بين الاذن في الدخول، وبين الدعاء اليه، أن الدعاء اليه، يدل على ارادة الداعي، وليس كذلك الاذن. وفى الدعاء رغبة الداعي او المدعو، وليس كذلك الاذن وقوله " ذلكم خيرلكم " يعني الاستئذان خير لكم من تركه، لتتذكروا في ذلك، فلا تهجموا على العورات.

وقوله " فان لم تجدوا فيها احدا " يعني ان لم تعلموا في البيوت احدا يأذن لكم في الدخول " فلا تدخلوها " لانه ربما كان فيما مالا يجوز أن تطلعوا عليه إلا بعد أن يأذن اربابها في ذلك، يقال: وجد اذا علم.

___________________________________

(1) سورة 24 النور آية 59.

(2) سورة 4 النساء آية 5

[427]

وقوله (وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا) أي لا تدخلوا إذا قيل لكم: لا تدخلوا، فان ذلك (أزكى لكم) اي اطهر (والله بما تعملون عليم) أي عالم بأعمالكم لا يخفى عليه شئ منها.

ثم قال (ليس عليكم جناح) أي حرج وإثم (ان تدخلوا بيوتا غيرمسكونة فيهامتاع لكم) أي منافع.

وقيل: في معنى هذه البيوت أربعة اقوال:

احدها - قال قتادة: هي الخانات، فان فيها استمتاعا لكم من جهة نزولها، لا من جهة الاثاث الذي لكم فيها.

والثاني - قال محمد بن الحنفية: هي الخانات التي تكون في الطرق مسبلة. ومعنى (غير مسكونة) اي لا ساكن لها معروف.

والثالث - قال عطاء: هي الخرابات للغائط والبول.

والرابع - قال ابن زيد: هي بيوت التجار التي فيها امتعة الناس.

وقال قوم: هي بيوت مكة.

وقال مجاهد: هي مناخات الناس في اسفارهم يرتفقون بها.

وقال قوم: هي جميع ذلك حملوه على عمومه لان الاستئذان إنما جاء لئلا يهجم على ما لا يجوز من العورة. وهو الاقوى، لانه اعم فائدة.

وقوله (والله يعلم ما تبدون وما تكتمون) اي لا يخفى عليه ما تظهرونه، ولا ما تكتمونه، لانه عالم بجميع ذلك. ثم خاطب النبي صلى الله عليه وآله فقال (قل) يا محمد (للمؤمنين يغضوا من ابصارهم) عن عورات النساء وما يحرم النظر اليه. وقيل: العورة من النساء ما عدا الوجه والكفين والقدمين، فأمروا بغض البصر عن عوراتهن، ودخلت (من) لا بتداء الغاية. ويجوز ان تكون للتبعيض، والمعنى أن يطرق وإن لم يغمض. وقيل: العورة من الرجل العانة إلى مستغلظ الفخذ من أعلى الركبة، وهو العورة من الاماء، قالوا:

[428]

ويدل على ان الوجه والكفين والقدمين ليس من العورة من الحرة، ان لها كشف ذلك في الصلاة، وإذا كانت محرمة مثل ذلك، بالاجماع، والقدمان فيهما خلاف.

وقوله (ويحفظوا فروجهم) أمر من الله تعالى أن يحفظ الرجال فروجهم عن الحرام، وعن إبدائها حيث ترى فانهم متى فعلوا ذلك كان ازكى لاعمالهم عند الله وإن الله خبير بما يعملون ويصنعون اي عالم بما يعملونه اي على اي وجه يعملونه.

وقال مجاهد: قوله (فان لم تجدوا فيها احدا) معناه فان لم يكن لكم فيها متاع، فلا تدخلوها إلا باذن، فان قيل لكم ارجعوا فارجعوا، وهذا بعيد، لان لفظة (احد) لا يعبر بها إلا عن الناس، ولا يعبر بها عن المتاع.

الآية: 31 - 64

قوله تعالى: (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمارهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين أولي الاربة من الرجال او الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعا ايه المؤمنون لعلكم تفلحون(31))

آية بلا خلاف.

[429]

قرأ ابن عامر وابوبكر عن عاصم وابوجعفر (غير اولي الاربة) نصبا. الباقون بالجر.

وقرأ ابن عامر (أيه المؤمنون) بضم الهاء، ومثله (يا أيه الساحر)(1) و (أيه الثقلان)(2). الباقون (ايها) بفتح الهاء مع الالف فيها.

وكلهم وقف بلا الف إلا الكسائي، واهل البصرة والزبيبي من طريق العطار، والمالكي، فانهم وقفوا بالف.

قال ابوعلي: الوقف بالالف أجود، لانها سقطت في الوصل لاجتماع الساكنين.

لما امر الله تعالى الرجال المؤمنين في الآية الاولى بغض أبصارهم عن عورات النساء، وامرهم بحفظ فروجهم عن ارتكاب الحرام، أمر المؤمنات في هذه الآية ايضا من النساء بغض أبصارهن عن عورات الرجال، وما لايحل النظر اليه. وامرهن ان يحفظن فروجهن إلا عن ازواجهن على ما اباحه الله لهم، ويحفظن ايضا اظهارها بحيث ينظر اليها، ونهاهن عن إبداء زينتهن إلا ما ظهر منها.

قال ابن عباس: يعني القرطين والقلادة والسوار والخلخال والمعضد والمنحر، فانه يجوز لها إظهار ذلك لغير الزوج، فاما الشعر فلا يجوز ان تبديه إلا لزوجها.

والزينة المنهي عن إبدائها زينتان، فالظاهرة الثياب، والخفية الخلخال، والقرطان والسوار - في قول ابن مسعود -

وقال ابراهيم: الظاهر الذي ابيح الثياب فقط.

وعن ابن عباس - في رواية أخرى - أن الذي ابيح الكحل والخاتم والحذاء والخضاب في الكف.

وقال قتادة: الحذاء والسوار والخاتم.

وقال عطاء: الكفان والوجه.

وقال الحسن: الوجه والثياب.

وقال قوم: كلما ليس بعورة يجوز اظهاره. واجمعوا أن الوجه والكفين ليسا بعورة، لجواز اظهارها في الصلاة، والاحوط قول ابن مسعود، والحسن بعده.

___________________________________

(1) سورة 43 الزخرف آية 49.

(2) سورة 55 الرحمن آية 31

[430]

وقوله " وليضربن بخمرهن على جيوبهن " فالخمار غطاء رأس المرأة المنسبل على جبينها وجمعه خمر، وقال الجبائي: هي المقانع. ثم كرر النهي عن اظهار الزينة تأكيدا وتغليظا واستثنى من ذلك: الازواج وآباء النساء. وإن علوا، وآباء الازواج وابنائهم، أو اخوانهن وبني أخوانهن أو بني اخواتهن، أو نسائهن يعني نساء المؤمنين دون نساء المشركين إلا اذا كانت أمة وهو معنى قوله " أو ما ملكت أيمانهن " أي ما الاماء - في قول ابن جريج - فانه لا باس باظهار الزينة لهؤلاء المذكورين، لانهم محارم.

وقوله " أو التابعين غير أولي الاربة من الرجال " قال ابن عباس: هو الذي يتبعك ليصيب من طعامك ولاحاجة له في النساء، وهو الابلة. وبه قال قتادة وسعيد بن جبير وعطاء.

وقال مجاهد: هو الطفل الذي لا أرب له في النساء لصغره.

وقيل: هو العنين، ذكره عكرمة، والشعبي.

وقيل: هو المجبوب. وقيل: هو الشيخ الهم.

والاربة الحاجة، وهي فعلة من الارب، كالمشية من المشي، والجلسة من الجلوس.

وقد أربت لكذا آرب له أربا إذا احتجت اليه، ومنه الاربة - بضم الالف - العقدة، لان ما يحتاج اليه من الامور يقتضي العقدة عليه، ولان الحاجة كالعقدة حتى تنحل بسد الخلة، ولان العقدة التي تمنع من المنفعة يحتاج إلى حلها، ولان العقدة عمدة الحاجة.

وقوله " او الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء " يعني الصغار الذين لم يراهقوا، فانه يجوز إبداء الزينة لهم.

وقوله " ولا يضربن بارجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن " معناه لا تضرب إمرأة برجلها، ليعلم صوت الخلخال في رجلها، كما كان يفعله نساء أهل الجاهلية. وذلك يدل على ان إظهار الخلخال لا يجوز.

[431]

ثم أمر الله تعالى المكلفين، فقال " وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون " أي لتفوزوا بثواب الجنة. ومن نصب (غير) يجوز أن يكون على الاستثناء، ويجوز أن يكون على الحال. ومن كسرجعله نعتا ل‍ " التابعين، غير " وإن لم يوصف به المعارف، فانما المراد ب‍ (التابعين) ليس بمعين. وابن عامر انما ضم الهاء ووقف بلا ألف في (أيه) اتباعا للمصحف.

قال ابوعلي: وقراء‌ته ضعيفة، لان آخر الاسم هو الياء الثانية في أي، فينبغي أن يكون المضموم آخر الاسم ولا يجوز ضم الهاء، كما لا يجوز ضم الميم في قوله " اللهم " ولانه آخر الكلام، وها للتنبيه، فلا يجوز حذف الالف بحال.

قوله تعالى: (وأنكحوا الايامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم(32) وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا واتوهم من مال الله الذي آتيكم ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن اردن تحصنا لتبتغوا عرض الحيوة الدنيا ومن يكرههن فان الله من بعد إكراههن غفور رحيم(33))

آيتان بلا خلاف.

[432]

هذا خطاب من الله للمكلفين من الرجال يأمرهم الله تعالى أن يزوجوا الايامى اللواتي لهم عليهن ولاية، وأن يزوجوا الصالحين المستورين الذين يفعلون الطاعات من المماليك والاماء إذا كانوا ملكا لهم، والايامى جمع (أيم) وهي المرأة التي لا زوج لها سواء كانت بكرا أو ثيبا.

ويقال للرجل الذي لا زوجة له: أيم ايضا ووزن أيم (فيعل) بمعنى (فعيل) فجمعت كجمع يتيم ويتيمة ويتامى، وقال جميل:

احب الايامى اذ بثينة ايم *** وأحببت لما أن غنيت الغوانيا(1)

ويجوز جمعه أيايم، ويقال: امرأة أيم وايمة إذا لم يكن لها زوج، قال الشاعر:

فان تنكحي أنكح وإن تتأيمي *** يدا الدهر ما لم تنكحي أتأيم(2)

وقال قوم: الايم التي مات زوجها، ومنه قوله (عليه السلام): (والايم أحق بنفسها) يعني الثيب.

ومعنى أنكحوا زوجوا، يقال: نكح إذا تزوج، وأنكح غيره اذا زوجه.

وقيل: ان الامر بتزويج الايامى إذا أردن ذلك أمر فرض، والامر بتزويج الامة إذا أرادت ندب، وكذلك العبد.

وقوله " ان يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم " معناه لا تمتنعوا من انكاح المرأة أو الرجل اذا كانوا صالحين، لاجل فقرهما، وقلة ذات أيديهما، فانهم وإن كانوا كذلك، فان الله تعالى يغنيهم من فضله، فانه تعالى واسع المقدور، كثير الفضل، عليم بأحوالهم وبما يصلحهم، فهو يعطيهم على قدر ذلك.

وقال قوم: معناه إن يكونوا فقراء إلى النكاح يغنهم الله بذلك عن الحرام. فعلى الاول تكون الآية خاصة في الاحرار. وعلى الثاني عامة في الاحرار، والمماليك.

وقوله " وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله " أمر

___________________________________

(1) ديوانه (دار بيروت) 48.

(2) لسان العرب (أيم) وتفسير الطبري 18 / 88 والقرطبي 12 / 240

[433]

من الله تعالى لمن لا يجد السبيل إلى أن يتزوج، بأن لايجد طولا من المهر، ولايقدر على القيام بما يلزمهامن النفقة والكسوة، أن يتعفف، ولايدخل في الفاحشة، ويصبر حتى يغنيه الله من فضله.

وقوله " والذين يبتغون الكتاب مما ملكت ايمانكم " معناه إن الانسان اذا كانت له أمة أو عبد يطلب المكاتبة. وهي أن يقوم على نفسه وينجم عليه ليؤدي قيمة نفسه إلى سيده، فانه يستحب للسيد أن يجيبه إلى ذلك ويساعده عليه لدلالة قوله تعالى " فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا " وهذا أمر ترغيب بلا خلاف عند الفقهاء.

وقال عمرو بن دينار، وعطاء والطبري: هو واجب عليه إذا طلب.

وصورة المكاتبة أن يقول الانسان لعبده، أو امته: قد كاتبتك على ان تعطيني كذا وكذا دينارا أو درهما في نجوم معلومة على أنك إذا أديت ذلك فانت حر، فيرضى العبد بذلك، ويكاتبه عليه ويشهد بذلك على نفسه، فمتى أدى ذلك، وهو مال الكتابة في النجوم التي سماها صار حرا، وان عجز عن اداء ذلك كان لمولاه أن يرده في الرق.

وعندنا ينعتق منه بحساب ما أدى ويبقى مملوكا بحساب ما بقي عليه إذا كانت الكتابة مطلقة، فان كانت مشروطة بأنه متى عجز رده في الرق، فمتي عجز جاز له رده في الرق.

و (الخير) الذي يعلم منه هو القوة على التكسب. وتحصيل ما يؤدي به مال الكتابة.

وقال الحسن: معناه ان علمتم منهم صدقا.

وقال ابن عباس وعطاء: ان علمتم لهم مالا.

وقال ابن عمرو: ان علمتم فيهم قدرة على التكسب، قال: لانه إذا لم يقدر على ذلك قال اطعمني(1) اوساخ أيدي الناس، وبه قال سلمان.

___________________________________

(1) في المخطوطة (استطعم) بدل (قال اطعمني)

[434]

واختلفوا في الامر بالكتابة مع طلب المملوك لذلك وعلم مولاه أن فيه خيرا.

فقال عطاء: هو الفرض.

وقال مالك، والثوري، وابن زيد: هو على الندب. وهو مذهبنا.

وقوله " وآتوهم من مال الله الذي آتاكم " أمر من الله تعالى أن يعطي السيد مكاتبه من ماله الذي أنعم الله عليه، بأن يحط شيئا منه.

وروى عبدالرحمن السلمي عن علي (ع) أنه قال: يحط عنه ربع مال الكتابة.

وقال سفيان احب ان يعطيه الربع، او أقل، وليس بواجب وقال ابن عباس وعطاء وقتادة: أمره بأن يضع عنه من مال الكتابة شيئا.

وقال الحسن وابراهيم: حثه الله تعالى على معونته.

وقال قوم: المعنى آتوهم سهمهم من الصدقة الذي ذكره في قوله " وفي الرقاب "(1) ذكره ابن زيد عن أبيه، وهو مذهبنا. واختلفوا في الحط عنه، فقال قوم: هو واجب. وقال آخرون - وهو الصحيح - انه مرغب فيه.

وقوله " ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء ان اردن تحصنا " نهي عن اكراه الامة على الزنا.

قال جابر بن عبدالله: نزلت في عبدالله بن ابي بن سلول، حين اكره أمته مسيكة على الزنا، وهذا نهي عام لكل مكلف عن أن يكره أمته على الزنا طلبا لمهرها وكسبها.

وقوله " ان اردن تحصنا " صورته صورة الشرط وليس بشرط وانما ذكر لعظم الافحاش في الاكراه على ذلك. وقيل: انها نزلت على سبب فوقع النهي عن المعني على تلك الصفة.

وقوله " ومن يكرههن " يعني على الفاحشة " فان الله من بعد اكراههن غفور رحيم " اي لهن " غفور رحيم " ان وقع منها صغير في ذلك، والوزر على المكره.

___________________________________

(1) سورة 9 التوبة آية 61

[435]

قوله تعالى: ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين(34) ألله نور السموات والارض مثل نوره كمشكوة فيها مصباح المصباح في زجاجة ألزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضئ ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الامثال للناس والله بكل شئ عليم(35))

آيتان بلا خلاف.

قرأ " دري " مشددة، بضم الدال من غير همز، ابن كثير ونافع وابن عامر وحفص عن عاصم.

وقرأ - بكسر الدال والهمز - ابوعمرو، والكسائي.

وقرأ - بضم الدال والهمز - حمزة وعاصم، في رواية ابي بكر.

وقرأ ابن كثير وابوعمرو " توقد " بفتح التاء والدال.

وقرأ - بالياء مخففة مرفوع مضموم الياء - نافع وابن عامر وحفص عن عاصم والكسائي. - وقرأ - بضم التاء والدال مخففة مرفوعة - حمزة، وابوبكر عن عاصم.

فمن قرأ " دري " بكسر الدال، فهو من (درأت) اي رفعت. والكوكب (دري) لسرعة رفعه في الانقضاض، والجمع الدراري، وهي النجوم التى تجئ وتذهب.

وقال قوم: هي احد الخمسة المضيئة: زحل، والمشتري، والمريخ، والزهرة، وعطارد.

[436]

ومن قرأ - بضم الدال - نسبه إلى الدر في صفائه وحسنه.

ومن ضم الدال وهمز، فهو غير معروف عند أهل اللغة، لانه ليس في الكلام (فعيل) - ذكره الفراء - وقال ابوعبيدة: وجهه ان يكون - بفتح الدال - كأنه (فعيل).

قال سيبويه: ليس في الكلام (فعيل) وانما تكسر الفاء مثل (سكيت).

وروى المفضل عن عاصم انه قرأ - بكسر الدال - من غير همز، ولا مد، ومعناه: انه جاز كالنجوم الدراري الجارية. مأخوذ من در الوادي إذا جرى، ووجه قراء‌ة ابن كثير في " توقد " أنه على (فعل) ماض، وضم الدال ابن محيصن اراد (تتوقد).

ومن ضم الياء مثل نافع وابن عامر، رده على الكوكب.

وقال الفراء: رده على المصباح.

ومن ضم التاء والدال رده على الزجاجة.

اقسم الله تعالى انها انزل " آيات " يعني دلالات " مبينات " يعني مفصلات، بينهن الله وفصلهن، فيمن قرأ - بفتح الياء - ومن كسرالياء: معناه ان هذه الآيات والحجج تبين المعاني وتظهر ما بطن فيها.

وقوله " ومثلا من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين " معناه انه انزل اليكم اخبار من كان قبلكم من امم الرسل، وجعل ذلك عبرا لنا. وقيل لتعتبروا بذلك وتستدلوا به على ما يرضاه الله منكم فتفعلوه وعلى ما يسخطه فتتجنبوه.

وقوله " الله نور السموات والارض مثل نوره كمشكاة " قيل في معناه قولان: احدهما - ان الله هادي اهل السموات والارض - ذكره ابن عباس - في رواية، وأنس. والثاني - انه منور السموات والارض بنجومها وشمسها وقمرها - في رواية اخرى - عن ابن عباس، وقال ابوالعالية والحسن مثل ذلك. ثم قال تعالى " مثل نوره كمشكاة فيها مصباح " الهاء في قوله " نوره " قيل

[437]

إنها تعود على المؤمن، وتقديره مثل النور الذي في قلبه بهداية الله، وهو قول ابي ابن كعب والضحاك.

وقال ابن عباس: هي عائدة على اسم الله، ومعناه مثل نور الله الذي يهدي به المؤمن.

وقال الحسن: مثل هذا القرآن في القلب كمشكاة.

وقيل: مثل نوره وهو طاعته - في قول ابن عباس - في رواية: وقيل: مثل نور محمد صلى الله عليه وآله.

وقال سعيد بن جبير: النور محمد، كأنه قال مثل محمد رسول الله صلى الله عليه وآله فالهاء كناية عن الله.

والمشكاة الكوة التي لا منفذ لها - في قول ابن عباس وابن جريج - وقيل: هومثل ضرب لقلب المؤمن، والمشكاة صدره، والمصباح القرآن، والزجاجة قلبه - في قول ابي ابن كعب، وقال: فهو بين اربع خلال إن أعطي شكر، وإن ابتلي صبر، وإن حكم عدل، وإن قال صدق. وقيل: المشكاة عمود القنديل الذي فيه الفتيلة، وهو مثل الكوة.

وقال كعب الاحبار: المشكاة محمد صلى الله عليه وآله والمصباح قلبه، شبه صدر النبي بالكوكب الدري.

ثم رجع إلى المصباح أي قلبه شبهه بالمصباح كأنه في زجاجة و " الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضئ " اي يتبين للناس ولو لم يتلكم انه نبي.

ومن قال " الله نور السموات " يعني منورها بالشمس والقمر والنجوم، ينبغي ان يوجه ضرب المثل بالمشكاة على ان ذلك مثل ما في مقدوره، ثم تنبث الانوار الكثيرة عنه.

ضرب الله تعالى المثل لنوره الدي هو هدايته في قلوب المؤمنين بالمشكاة، وهي الكوة التي لا منفذ لها إذا كان فيها مصباح، وهو السراج، ويكون المصباح في زجاجة، وتكون الزجاجة مثل الكوكب الدري - فمن ضم الدال - منسوب إلى الدر في صفائه ونوره.

ومن كسر الدال شبهها بالكوكب في سرعة تدفعه بالانقضاض.

ثم عاد إلى وصف المصباح، فقال " يوقد من شجرة مباركة زيتونة " اي

[438]

يشتعل من دهن شجرة مباركة، وهي الزيتونة الشامية، قيل لان زيتون الشام ابرك.

وقيل: وصفه بالبركة لان الزيتون يورق من اوله إلى آخره.

وقوله " لا شرقية ولا غربية " قال ابن عباس - في رواية - معناه لا شرقية بشروق الشمس عليها فقط ولا غربية بغروبها عليها فقط، بل هي شرقية غربية تأخذ حظها من الامرين، فهو اجود لزيتها.

وقيل: معناه انها وسط البحر، روي ذلك عن ابن عباس أيضا.

وقال قتادة: هي ضاحية للشمس، وقال الحسن: ليست من شجر الدنيا " يكاد زيتها يضئ ولو لم تمسسه نار " اي زيتها من صفائه وحسنه يكاد يضئ من غير ان تمسه نار وتشتعل فيه.

وقال ابن عمر الشجرة ابراهيم (ع) والزجاجة التي كأنها كوكب دري محمد صلى الله عليه وآله.

وقوله " نور على نور " قيل: معناه نور الهدى إلى توحيده، على نور الهدى بالبيان الذي اتى به من عنده.

وقال زيد بن اسلم " نور على نور " معناه يضئ بعضه بعضا.

وقيل " نور على نور " معناه انه يتقلب في خمسة انوار، فكلامه نور، وعلمه نور، ومدخله نور، ومخرجه نور، ومسيره نور إلى النور يوم القيامة إلى الجنة.

وقال مجاهد: ضوء النار على ضوء النور على ضوء الزيت على ضوء المصباح على ضوء الزجاجة.

وقوله " يهدي الله لنوره من يشاء " أي يهدي الله لدينه وإيمانه من يشاء بأن يفعل له لطفا يختار عنده الايمان إذا علم ان له لطفا.

وقيل: معناه يهدي الله لنبوته من يشاء، ممن يعلم انه يصلح لها.

وقيل: معناه " يهدي الله لنوره " اي يحكم بايمانه لمن يشاء، ممن آمن به.

وقوله " ويضرب الله الامثال للناس " معناه يضرب الله الامثال للذين يفكرون فيها ويعتبرون بها " والله بكل شئ عليم " لا يخفى عليه خافية.

[439]

قوله تعالى: (في بيوت أذن الله ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والاصال(36) رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلوة وإيتاء الزكوة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والابصار(37) ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغيرحساب(38))

ثلاث آيات في الكوفي والبصري تمام الآية الاولى " الآصال " وفي الباقي آيتان آخرهما الابصار " و " حساب ".

قرأ ابن عامر وابوبكر وابن شاهي عن حفص " يسبح " بفتح الباء. الباقون بكسرها، فمن فتح الباء، وقرأ على مالم يسم فاعله احتلمت قراء‌ته في رفع (رجال) وجهين: احدهما - أن يكون الكلام قدتم عند قوله " والاصال " ثم قال " رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكرالله " فالتجارة الجلب، والبيع ما يبيع الانسان على يده. والوجه الثاني - أن يرفع (رجال) باضمار فعل يفسره الاول، فيكون الكلام تاما عند قوله " والاصال " يم يبتدئ " رجال " بتقدير يسبحه رجال.

وقال ابوعلي: يكون أقام الجار والمجرور مقام الفاعل، ثم فسر من يسبحه، فقال " رجال " أي يسبحه رجال، ومنه قول الشاعر:

[440]

ليبك يزيد ضارع لخصومة(1) كأنه قال ليبك يزيد. قيل من يبكيه؟ فقال: يبكيه ضارع.

وقال المبرد: يجوز ان يكون يسبح نعتا للبيوت، وتقديره في بيوت اذن الله برفها وذكراسمه ويسبح له فيها رجال لا تلهيهم تجارة.

ومن قرأ بكسر الباء - ورفع رجالا بفعلهم، فعلى هذه القراء‌ة لا يجوز الوقف إلا على " رجال " وعلى الاول على قوله " والاصال ". والآصال جمع أصيل. وقرأ أبومحلم " الاصال " بكسرالالف جعله مصدرا.

وقوله " في بيوت اذن الله " قيل في العامل في (في) قولان: احدهما - (المصابيح) في بيوت، والعامل استقرار المصابيح، وهو قول ابن زيد. والثاني - توقد في بيوت، وهذه البيوت هي المساجد - في قول ابن عباس والحسن ومجاهد - وقال عكرمة: هي سائر البيوت وقال الزجاج: يجوز ان تكون (في) متصلة وبيسبح ويكون فيها كقولك في الدار قام زيد فيها.

وقوله " اذن الله ان ترفع " قال مجاهد: معناه أذن الله أن تبنى، وترفع بالبناء، كما قال " واذ يرفع ابراهيم القواعد من البيت واسماعيل "(2) وقال الحسن: معناه أن تعظم، لانها مواضع الصلوات.

وقوله " ويذكر فيها اسمه " أي يذكر الله في هذه البيوت. وقيل تنزه من النجاسات والمعاصي.

وقوله " يسبح له فيها بالغدو والاصال " قال ابن عباس: معناه يصلي له فيها بالغداة والعشي، وهو قول الحسن والضحاك.

وقال ابن عباس: كل تسبيح في القرآن فهو صلاة.

___________________________________

(1) انظر 4 / 310 تعليقة 2 و 6 / 329.

(2) سورة 2 البقرة آية 127

[441]

وقوله " رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكرالله " أي لا تشغلهم ولا تصرفهم التجارة والبيع عن ذكر الله وتعظيمه. وروي عن ابي جعفر وابي عبدالله (ع) انه تعالى مدح قوما إذا دخل وقت الصلاة تركوا تجارتهم وبيعهم، واشتغلوا بالصلاة.

وقوله " واقام الصلاة وايتاء الزكاة " أي لا تصرفهم تجارتهم عن ذكر الله، وعن اقامة الصلاة، وحذف التاء لان الاضافة عوض عنها، لانه لايجوز أن تقول: اقمته إقاما، وانما يجوز إقامة، والهاء عوض عن محذوف، لان أصله اقوام، فلما اضافه قامت الاضافة مقام الهاء " وايتاء الزكاة " أي ولايصرفهم ذلك عن اعطاء الزكاة التي افترضها الله عليهم.

وقال ابن عباس: الزكاة الطاعة لله وقال الحسن: هي الزكاة الواجبة في المال قال الشاعر (في حذف الهاء والعوض عنها بالاضافة).

 

إن الخليط اجد والبين فانجردوا *** واخلفوك عدى الامر الذي وعدوا(1)

يريد عدة الامر فحذف الهاء لما اضاف.

وقوله تعالى " يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والابصار " أي يخافون عذاب يوم أو اهوال يوم تتقلب فيه القلوب من عظم اهواله، والابصار من شدة ما يعاينوه. وقيل تتقلب فيه القلوب ببلوغها الحناجر، وتقلب الابصار بالعمى بعد النظر وقال البلخي: معناه إن القلوب تنتقل من الشك الذي كانت عليه، إلى اليقين والايمان. وإن الابصار تتقلب عما كانت عليه، لانها تشاهد من أهوال ذلك اليوم مالم تعرفه، ومثله قوله " لقد كنت في غفلة من هذا "(2) الآية.

___________________________________

(1) تفسير الطبري 18 / 102 واللسان (وعد)

(2) سورة 50 ق آية 22

[442]

وقال الجبائي: تتقلب القلوب والابصار عن هيئاتها بأنواع العقاب كتقلبها على الجمر.

وقوله " ليجزيهم الله أحسن ما عملوا " أي يفعلون ذلك طلبا لمجازات الله إياهم بأحسن ما عملوا من ثواب الجنة، ويزيدهم على ذلك من فضله وكرمه. ثم اخبر تعالى انه " يرزق " على العمل بطاعته تفضلا منه تعالى " من يشاء بغير حساب " والثواب لايكون إلا بحساب والتفضل يكون بغير حساب.

قوله تعالى: (والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاء‌ه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفيه حسابه والله سريع الحساب(39) أو كظلمات في بحر لجي يغشيه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يريها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور(40))

آيتان بلا خلاف.

ثم اخبر تعالى عن احوال الكفار، فقال والذين كفروا بتوحيد الله واخلاص العبادة وجحدوا انبياء‌ه " اعمالهم " التي عملوها يعني التي يعتقدون أنها طاعات وقربات " كسراب بقيعة " فالسراب شعاع يتخيل كالماء يجري على الارض نصف النهار حين يشتد الحر والآل شعاع يرتفع بين السماء والارض - كالماء - ضحوة النهار، والال يرفع الشخص فيه. وانما قيل سراب، لانه يتسرب أي يجري كالماء و (قيعة) جمع قاع، وهو المنبسط من الارض الواسع. وفيه يكون السراب

[443]

ومثله جار وجيرة، ويجمع ايضا على (اقواع، وقيعان)، والشعاع بالقاع يتكثف فيرى كالماء، فاذا قرب منه صاحبه انفش كالضباب، فلم يرده شيئا، كما كان.

وقال ابن عباس: القيعة الارض المستوية.

والمعنى: إن الكافر لم يجد شيئا على ما قدر.

وقوله " ووجد الله عنده فوفاه حسابه " والمعنى ان الذي قدره من جزاء أعماله لا يجده، ويعلمه الله عند عمله فيوفيه جزاء‌ه على سوء أفعاله.

وقوله " والله سريع الحساب " أي سريع المجازاة، لان كل ما هوآت سريع قريب.

وقال الجبائي:، لانه تعالى يحاسب الجميع في وقت واحد، وذلك يدل على انه لا يتكلم بآلة.

وانه ليس بجسم، لانه لو كان متكلما بآلة لما تأتى ذلك إلا في أزمان كثيرة. ثم شبه الله تعالى أفعال الكافر بمثال آخر، فقال " او كظلمات في بحر لجي " أي افعاله مثل ظلمات، يعني ظلمة البحر وظلمة السحاب، وظلمة الليل، لان الكافر حاله ظلمة، واعتقاده ظلمة، ومصيره إلى ظلمة، وهو في النار يوم القيامة نعوذ بالله منها.

وتلخيص الكلام أن اعمال هؤلاء الكفار كالسراب يحسبه الظمآن - من بعد - ماء يرويه حتى إذا دنى منه لم يجده شيئا أي حتى اذا مات لم يجد عمله شيئا لانه بطل بكفره، ووجد الله عند عمله يجازيه عليه. ثم ضرب مثلا آخر فقال او كظلمات يعني انه في حيرة من كفره مثل هذه الظلمات " ومن لم يجعل الله له نورا " في قلبه ويهديه به " فما له من نور " يهتدي به.

وقوله " في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب، ظلمات بعضها فوق بعض " مبالغة في تشبيه هذه الافعال بالظلمات المتكاثفة على ما وصفه الله تعالى، ولجة البحر معظمة، الذي تتراكب فيه امواجه لايرى ساحله. والظلمات مثل التحير، والتحير الجهل الذي يغشى القلب.

وقوله " حتى اذا أخرج يده لم يكد يراها " انما قال لم يكد يراها مع أنه

[444]

بدون هذه الظلمات لا يراها، لان (كاد يراها) معناه قارب ان يراها، ولم يكد يراها لم يقارب أن يراها، فهي نفي مقاربة الرؤية على الحقيقة. وقيل دخل (كاد) بمعنى النفي كما يدخل الظن بمعنى اليقين، كأنه قال: يكفيه ان يكون على هذه المنزلة فكيف أقصى المنازل. وقيل يراها بعد جهد وشدة، رؤية تخيل لصورتها.

وقال الحسن لم يكد يراها لم يقارب الرؤية قال الشاعر: ما كدت اعرفه إلا بعد الانكار وقالوا كاد العروس يكون أميرا. وكاد النعام يطير.

وقوله " ومن لم يجعل الله له نورا، فما له من نور " معناه من لم يجعل الله له هداية إلى الرشد، فما له من نور، أي فما له ما يفلح به على وجه من الوجوه.

وقيل: من لم يجعل الله له نورا يوم القيامة يهديه إلى الجنة، فما له من نور يهديه اليها.

وفي الآية دلالة على فساد قول من يقول: إن المعارف ضرورة، لانه لايصح مع المعرفة الضرورية الحسبان.

[445]

قوله تعالى: (ألم تر أن الله يسبح له من في السموات والارض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون(41) ولله ملك السموات والارض وإلى الله المصير(42) ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالابصار(43) يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لاولي الابصار(44))

أربع آيات في البصري والكوفي وثلاث في غيرها. لانهم لم يعدوا " بالابصار " آخر آية.

قرأ ابوجعفر المدني " يذهب بالابصار " بضم الياء. الباقون بفتحها. وقد مضى ذكر مثله.

يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وآله " ألم تر " يا محمد والمراد به جميع المكلفين أي ألم تعلم ان الذي ذكره في الآية لايرى بالابصار وانما يعلم بالادلة، " أن الله يسبح له من في السموات والارض " فالتسبيح التنزيه لله تعالى عن جميع ما لايجوز عليه، ولا يليق به، فمن نفى عنه الصاحبة والولد، فقد سبحه، لانه يرأه مما لا يجوز عليه، ومن نفى عنه أن يكون له شريك في ملكه او عبادته، فقد سبحه، لانه برأه مما لا يجوز عليه، وكذلك من نفى عنه فعل القبيح، فقد سبحه، لانه برأه مما لا يجوز عليه. وتسبيح من في السموات والارض إنما هو بما فيها من الدلالات على توحيده، ونفي الصاحبة عنه، ونفي تشبيهه بخلقه وتنزيهه عما لا يليق به، مما يدل على ذلك ويدعو اليه، كأنه المسبح له.

وقوله " والطير صافات " معناه وتسبحه الطير صافات في حال اصطفافها في الهواء، لانها إذا صفت اجنحتها في الهواء وتمكنت من ذلك كان في ذلك دلالة وعبرة على أن ممكنها من ذلك لا يشبه شيئا من الخلوقات.

[446]

وقوله " كل قد علم صلاته وتسبيحه " معناه: إن جميع ذلك قد علم الله تعالى صلاته، يعني دعاء‌ه إلى توحيده، وتسبيحه، وتنزيهه عما لا يليق به.

وقال مجاهد: الصلاة للانسان، والتسبيح لكل شئ.

وقيل: كل قد علم صلاته أي صلاة نفسه، وتسبيح نفسه، فيكون الضمير في علم ل‍ (كل)، وعلى الاول يعود على اسم الله، والاول أجود، لان هذه الاشياء كلها لا يعلم كيفية دلالتها غيرالله. وانما الله تعالى عالم بذلك، ويقويه قوله " والله عليم بما يفعلون " أي عالم بأفعالهم، لا يخفى عليه شئ منها، فيجازيهم بحسبها.

ثم اخبر تعالى فقال " ولله ملك السموات والارض "، والملك المقدور الواسع لمن يملك السياسة والتدبير، فملك السموات والارض لا يصح إلا لله وحده لاشريك له، لانه لا يقدر على خلق الاجسام غيره، وليس مما يصح أن يملكه العبد، لانه لا يمكنه أن يصرفه أتم التصريف، فالملك التام، لا يصح الا لله تعالى.

وقوله " والى الله المصير " اي اليه المرجع يوم القيامة، إلى ثوابه او عقابه.

ثم قال " الم تر " اي الم تعلم (ان الله يزجي سحابا) اى يسوق سحابا إلى حيث يريده، ومنه زجا الخراج إذا انساق إلى أهله وازجاه فلان أي ساقه " ثم يؤلف بينه " أي بين بعضه وبعض، لان لفظ سحاب جمع، واحده سحابة، وهو كقولهم: جلس بين النخل، لان لفظ بين لا تستعمل إلا في شيئين فصاعدا.

وقوله " ثم يجعله ركاما " وهو المتراكب بعضه فوق بعض " فترى الودق " يعني المطر، يقال: ودقت السحابة، تدق ودقا إذا أمطرت قال الشاعر:

فلا مزنة ودقت ودقها *** ولا ارض ابقل إبقالها(1)

" يخرج من خلاله " فالخلال جمع خلل.

وقوله " وينزل من السماء من جبال فيها من برد " معنى (من) الاولى، لا بتداء الغاية، لان (من السماء) ابتداء

___________________________________

(1) مر تخريجه في 1 / 216 و 5 / 361

[447]

الانزال بالمطر، والثانية للتبعيض، لان البرد بعض الجبال التي في السماء، والثالثة لتبيين الجنس، لان جنس الجبال جنس البرد.

وقيل في السماء جبال برد مخلوقة في السماء.

وقال البلخي: يجوز أن يكون البرد يجتمع في السحاب كالجبال ثم ينزل منها.

وقيل السماء هو السحاب، لان كل ما علا مطبقا فهو سماء.

وقال الفراء: يجوز أن يكون المراد وينزل من السماء قدر جبال من برد، كما تقول: عندي بيتان من تبن أي قدر بيتين.

وقال الحسن: في السماء جبال برد، وقيل المعنى: قدر جبال يجعل منها بردا على ما حكيناه عن الفراء.

وقوله " فيصيب به " يعني بذلك البرد " فيصيب به من يشاء " ان يهلك أو يهللك ماله " ويصرفه عمن يشاء " على حسب اقتضاء المصلحة.

وقوله " يكاد سنا برقه " أي ضياء البرق، فسنا البرق مقصور، وسناء المجد ممدود.

وقال ابن عباس وابن زيد: يعني ضوء برقه يكاد يختطف الابصار.

وقال قتادة: لمعان برقه.

وقوله " يقلب الله الليل والنهار " يعني يجئ بالنهار عقيب الليل، وباليل عقيب النهار.

وقيل: يزيد من هذا في ذاك وينقص من ذاك في هذا " ان في ذلك لعبرة " اي دلالة (لاولي الابصار) يعني ذوي العقول الذين يبصرون بقولهم. وفي الآية دلالة على وجوب النظر، وفساد التقليد، لانه تعالى مدح المعتبرين بعقولهم بما نبه من الدلالات والآيات الدالة على توحيده وعدله وغير ذلك.

[448]

قوله تعالى: (والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شئ قدير(45))

آية بلا خلاف.

قرا حمزة والكسائي وخلف (والله خالق) على وزن (فاعل). الباقون (خلق) على فعل ماض.

من قرأ (خالق) فلقوله (خالق كل شئ)(1) ومن قرأ خلق، فلانه فعل ذلك فيما مضى، ولقوله (ألم تر ان الله خلق السموات)(2) وقوله (خلق كل شئ فقدره تقديرا)(3).

اخبر الله تعالى انه خالق كل شئ يدب من الحيوان من ماء. ثم فصله فقال منهم من يمشي على بطنه كالحياة والسمك والدود، وغير ذلك. ومنهم من يمشي على رجلين كالطير وابن آدم، وغير ذلك، ومنهم من يمشي على أربع كالبهائم والسباع وغير ذلك. ولم يذكر ما يمشي على أكثر من أربع، لانه كالذي يمشي على أربع في مرء‌ى العين، فترك ذكره، لان العبرة تكفي بذكر الاربع.

وقال البلخي: لان عند الفلاسفة أن ما زاد على الاربع لايعتمد عليها.

واعتماده على الاربع فقط، وانما قال (من ماء) لان أصل الخلق من ماء، ثم قلب إلى النار، فخلق الجن منه، وإلى الريح فخلق الملائكة منه، ثم إلى الطين فخلق آدم (ع). ودليل أن اصل الحيوان كله الماء قوله تعالى (وجعلنا من الماء كل شئ حي)(4) وانما قال منهم تغليبا لما يعقل على ما لا يعقل إذا اختلط في خلق كل دابة.

وقيل (من ماء) اى من نطفة، ذكره الحسن، وجعل قوله (كل دابة) خاصا، فيمن خلق من نطفة.

وقوله (يخلق الله ما يشاء) اى يخترع ما يشاء، وينشئه من الحيوان،

___________________________________

(1) سورة 40 المؤمن آية 62 وسورة 6 الانعام آية 102 وسورة 13 الرعد آية 18.

(2) سورة 14 إبراهيم آية 19.

(3) سورة 25 الفرقان آية 2 " 4 " سورة 21 الانبياء آية 30

[449]

وغيره (ان الله على كل شئ قدير) لا يتعذر عليه شئ يريده.

قوله تعالى: (لقد أنزلنا آيات مبينات والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم(46) ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين(47) وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون(48) وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين(49) أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون(50))

خمس آيات بلا خلاف.

اقسم الله تعالى في هذه الآية انه انزل (آيات مبينات) أي دلالات واضحات تظهر بها المعاني، وتتميز، مما خالفها حتى تعلم مفصلة. ومن كسر الياء، جعلها من المبينة المظهرة مجازا، من حيث يتبين بها، فكأنها المبينة.

وقوله (والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) معناه والله يلطف لمن يشاء بما يعلم انه يهتدي عنده (إلى صراط مستقيم) واضح: من توحيده وعد له وصدق أنبيائه. والهداية الدلالة التي يهتدي بها صاحبها إلى الرشد، وقد تطلق على ما يصح أن يهتدى بها، كما قال تعالى (وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على

[450]

الهدى)(1) لان المراد في الآية اللطف على ما قلناه.

وقال الجبائي: قوله (يهدي من يشاء) يعني المكلفين دون من ليس بمكلف، ويجوز أن يكون المراد هدايتهم في الآخرة إلى طريق الجنة، والصراط المستقيم الايمان لانه يؤدي إلى الجنة.

وقوله (ويقولون آمنا بالله وبالرسول واطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين) قيل انها نزلت في صفة المنافقين، لانهم يقولون بألسنتهم: آمنا بالله وصدقنا رسوله، فاذا انصرفوا إلى أصحابهم قالوا خلاف ذلك، فأخبر الله تعالى أن هؤلاء ليسوا بمؤمنين على الحقيقة.

ثم اخبر عن حال هؤلاء فقال: " وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم " في شئ يختلفون فيه " اذا فريق منهم " يعني المنافقين " معرضون " عن ذلك. ولا يختارونه، لانه يكون الحق عليهم.

ثم قال " وإن يكن لهم الحق " وتتوجه لهم الحكومة " يأتوا اليه " يعني إلى النبي صلى الله عليه وآله منقادين " مذعنين " والاذعان هو الانقياد من غير اكراه، فهؤلاء المنافقون إذا دعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله ليحكم بينهم في شئ اختلفوا فيه، امتنعوا ظلما، لانفسهم، وكفروا بنبيهم، ففضحهم الله بما أظهر من جهلهم ونفاقهم. و قيل انها نزلت في رجل من المنافقين كان بينه وبين رجل من اليهود حكومة، فدعاه اليهودي إلى رسول الله، ودعاه المنافق إلى كعب بن الاشرف.

وقيل انها نزلت في علي (ع) ورجل من بني أمية دعاه علي إلى رسول الله، ودعاه الاموي إلى اليهود، وكان بينهما منازعة في ماء وأرض.

وحكى البلخي انه كانت بين علي (ع) وعثمان منازعة في أرض اشتراها من علي، فخرجت فيها أحجار، واراد ردها بالعيب، فلم يأخذها، فقال بيني وبينك رسول الله، فقال الحكم ابن أبي العاص ان حاكمته إلى ابن عمه حكم له، فلا تحاكمه اليه، فانزل الله الآية.

___________________________________

(1) سورة 41 حم السجدة (فصلت) آية 17

[451]

ثم قال تعالى منكرا عليهم " أفي قلوبهم مرض " أي شك في قلوبهم، وسمي الشك مرضا، لانه آفة تصد القلب عن ادراك الحق، كالآفة في البصر تصد عن ادراك الشخص، وانما جاء على لفظ الاستفهام، والمراد به الانكار، لانه أشد في الذم والتوبيخ أى ان هذا كفر، قد ظهر حتى لا يحتاج فيه إلى البينة، كما جاز في نقيضه على طريق الاستفهام، لانه أشد مبالغة في المدح، كما قال جرير:

ألستم خير من ركب المطايا *** واندى العالمين بطون راح(1)

فقال الله تعالى " أفي قلوبهم مرض " أى شك في النبي " أم ارتابوا " بقوله وبحكمه (أم يخافون أن يحيف الله ورسوله عليهم) أى يجور عليهم، والحيف الجور بنقض الحق، ويحيف عليهم: يظلمهم، لانه لا وجه للامتناع عن المجئ إلا أحد هذه الثلاثة.

ثم اخبر تعالى فقال: ليس لشئ من ذلك، بل لانهم الظالمون نفوسهم وغيرهم، والمانعون لهم حقوقهم، وإنما افرد قوله (ليحكم بينهم) بعد قوله (إلى الله ورسوله)، لانه حكم واحد يوقعه النبي صلى الله عليه وآله بأمر الله.

___________________________________

(1) قائله جرير، ديوانه (دار بيروت) 77

[452]

قوله تعالى: (إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون(51) ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون(52) وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن قل لا تقسموا طاعة معروقة إن الله خبير بما تعملون(53) قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فان تولوا فانما عليه ماحمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين(54))

أربع آيات بلا خلاف

قرأ ابوبكر وأبوعمرو (ويتقه) ساكنة القاف. لان الهاء لما اختلطت بالفعل وصارت مزدوجة ثقلت الكلمة، فخففت بالاسكان. وقيل: انهم توهموا أن الجزم واقع عليها. وقرأ ابن كثير، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وورش (ويتقهي) بكسر الهاء لمجاورة القاف المكسورة، وبعد الهاء ياء.

وروى قالون باختلاس الحركة، وهو الاجود عند النحويين، لان الاصل يتقيه باختلاس الحركة، فلما سقطت الياء للجزم بقيت الحركة مختلسة، كما كانت.

وروى حفص باسكان القاف وكسر الهاء، لانه كره الكسرة في القاف واسكنها تخفيفا، كما قال الشاعر:

عجبت لمولود وليس له أب *** ومن والد لم يلده ابوان(1)

ويجوز أن يكون أسكن القاف والهاء ساكنة، فكسر الهاء لالتقاء الساكنين، ولان من العرب من يقول لم يتق مجزوم القاف بعد حذف الياء.

لما اخبر الله تعالى عن المنافقين أنهم إذا دعوا إلى الله ورسوله في الحكم بينهم فيما يتنازعون فيه، فانهم عند ذلك يعرضون عن ذلك، ولا يجيبون اليه، أخبر أن المؤمنين بخلافهم وانهم إذا قيل لهم تعالوا (إلى الله ورسوله ليحكم بينهم) ينبغي (ان يقولوا) في الجواب عن ذلك (سمعنا وأطعنا) أى قبلنا هذا القول وانقدنا اليه وأجبنا إلى حكم الله ورسوله.

ثم اخبر تعالى عن هؤلاء المؤمنين بانهم (هم الفائزون) الذين فازوا بثواب الله وكريم نعمه. وعن أبي جعفر (ع) أن المعني بالآية أمير المؤمنين (ع) وصفه بخلاف ما وصف خصمه الذي ذكره في الآية الاولى.

___________________________________

(1) مر تخريجه في 7 / 4

[453]

ثم قال تعالى (ومن يطع الله ورسوله) بان يفعل ما أمره به ويبادر اليه (ويخشى الله ويتقه) بأن يخاف عقابه، فيجتنب معاصيه، فان من هذه صفته من الفائزين.

و (الفوز) اخذ الحظ الجزيل من الخير، تقول: فاز يفوز فوزا، فهو فائز.

وسميت المهلكة مفازة تفاؤلا، فكأنه قيل: منجاة.

ثم أخبر تعالى عن جماعة من المنافقين بأنهم " أقسموا بالله جهد أيمانهم " أي حلفوا به أغلظ أيمانهم، وقدر طاقتهم " لئن امرتهم " يا محمد بالخروج " ليخرجن " يعني إلى الغزو، فقال الله تعالى لهم " لا تقسموا " أي لاتحلفوا " طاعة معروفة " وقيل: في معناه قولان: احدهما - هذه طاعة معروفة منكم يعني بالقول دون الاعتقاد. أي إنكم تكذبون ذكره مجاهد. والثاني - طاعة وقول معروف أمثل من هذا القسم، والقول المعروف هو المعروف صحته. فان ذلك خير لكم من هذا الحلف.

ثم اخبر تعالى بأنه " خبير " أي عالم " بما تعملون " لا يخفى عليه شئ على أي وجه توقعون أفعالكم، فيجازيكم بحسبها. وفى ذلك تهديد.

ثم قال " فان تولوا فانما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم " أي تتولوا، فحذفت التاء، وليس كقوله " فان تولوا فانما هم في شقاق "(1) لان الاول مجزوم، وهو للمخاطبين، لانه قال " وعليكم ما حملتم " ولو كان لغير المخاطبين، لقال وعليهم، كما قال " فان تولوا فانما هم في شقاق " وكان يكون في موضع نصب لانه بمنزلة قولك: فان قاموا، والجزاء يصلح فيها لفظ المستقبل والماضي من (فعل يفعل) كما قال (فان فاؤا فان الله)(2).

___________________________________

(1) سورة 2 البقرة آية 137.

(2) سورة 2 البقرة آية 226

[454]

وقوله (فان تولوا فانماهم في شقاق) في موضع نصب ذكره الفراء، وقوله (فانما عليه) يعني على المتولي جزاء ما حمل أي كلف، فانه يجازى على قدر ذلك، وعليكم جزاء ما كلفتم إذا خالفتم (وإن تطيعوه تهتدوا) يعني ان اطعتم رسوله تهتدوا.

ثم اخبر انه ليس (على الرسول إلا البلاغ) الظاهر والقبول يتعلق بكم، ولا يلزمه عهدته، ولا يقبل منكم اعتذار تركه بامتناع غيره.

قوله تعالى: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الارض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فاولئك هم الفاسقون(55))

آية بلا خلاف.

قرأ ابن كثير وابوبكر عن عاصم (وليبدلنهم) بالتخفيف. الباقون بالتشديد.

وقرأ ابوبكر عن عاصم (كما استخلف) بضم التاء على ما لم يسم فاعله. الباقون بفتحها.

قال ابوعلي: الوجه فتح التاء، لان اسم الله قد تقدم ذكره، والضمير في (يستخلفنهم) يعود إلى الاسم، فكذلك قوله (كما استخلف) لان المعنى ليستخلفنهم استخلافا كاستخلافه الذين من قبلهم. ومن ضم التاء ذهب إلى ان المراد به مثل المراد بالفتح. في هذه الآية وعد من الله تعالى للذين آمنوا من اصحاب النبي صلى الله عليه وآله وعملوا

[455]

الصالحات، بأن يستخلفهم في الارض، ومعناه يورثهم أرض المشركين من العرب والعجم (كما استخلف الذين من قبلهم) يعني بني اسرائيل بأرض الشام بعد اهلاك الجبابرة بأن أورثهم ديارهم وجعلهم سكانها.

وقال الجبائي: (استخلف الذين من قبلهم) يعني في زمن داود وسليمان.

وقال النقاش: يريد بالارض أرض مكة، لان المهاجرين سألوا ذلك، والاول قول المقداد بن الاسود، وروى عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: (لايبقى على الارض بيت مدر، ولا وبر إلا ويدخله الاسلام بعز عزيز أو ذل ذليل).

وفي ذلك دلالة على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وآله لانه أخبر عن غيب وقع مخبره على ما أخبر، وذلك لا يعلمه إلا الله تعالى (وليمكنن لهم دينهم الذي أرتضى لهم) يعني يمكنهم من إظهار الاسلام الذي ارتضاه دينا لهم (وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا) أي نصرهم بعد أن كانوا خائفين بمكة وقت غلبة المشركين آمنين بقوة الاسلام وانبساطه. ثم اخبر عن المؤمنين الذين وصفهم بأنهم يعبدون الله تعالى وحده لا يشركون بعبادته سواه من الاصنام والاوثان وغيرهما. ويجوز ان يكون موضعه الحال. ويجوز أن يكون مستأنفا.

ثم قال (ومن كفر بعد ذلك) يعني بعد الذي قصصنا عليك ووعدناهم به (فاولئك هم الفاسقون) وانما ذكر الفسق بعد الكفر مع أن الكفر أعظم من الفسق، لاحد امرين: احدهما - انه أراد الخارجين في كفرهم إلى أفحشه، لان الفسق في كل شئ هو الخروج إلى اكبره. الثاني - أراد من كفرتلك النعمة بالفساد بعدها، فسق وليس يعني الكفر بالله، ذكره ابوالعالية.

[456]

والتبديل - تغيير حال إلى حال أخرى، تقول: بدل صورته تبديلا، وتبدل تبدلا، والابدال رفع الشئ بأن يجعل غيره مكانه، قال ابوالنجم: عزل الامير بالامير المبدل(1) والتبديل رفع الحال إلى حال أخرى.

والابدال رفع النفس إلى نفس أخرى. والاصل واحد، وهو البدل.

واستدل الجبائي، ومن تابعه على إمامة الخلفاء الاربعة بأن قال: الاستخلاف المذكور في الآية لم يكن إلا لهؤلاء، لان التمكين المذكور في الآية إنما حصل في أيام ابي بكروعمر، لان الفتوح كانت في أيامهم، فأبو بكر فتح بلاد العرب وطرفا من بلاد العجم، وعمر فتح مداين كسرى إلى حد خراسان وسجستان وغيرهما، فاذا كان التمكين والاستخلاف ههنا ليس هو إلا لهؤلاء الائمة الاربعة. واصحابهم علمنا أنهم محقون.

والكلام على ذلك من وجوه: احدها - ان الاستخلاف - ههنا - ليس هو الامارة والخلافة. بل المعنى هو ابقاؤهم في أثرمن مضى من القرون، وجعلهم عوضا منهم وخلفا، كما قال " هو الذي جعلكم خلائف في الارض "(2) وقال " عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الارض "(3) وقال " وربك الغني ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء "(4) وكقوله " وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة "(5) أي جعل كل واحد منهما خلف صاحبه، وإذا ثبت ذلك، فلاستخلاف والتمكين الذي ذكره الله

___________________________________

(1) قد مر تخريجه في 7 / 79.

(2) سورة 35 فاطر آية 39.

(3) سورة 7 الاعراف آية 128.

(4) سورة 6 الانعام آية 133.

(5) سورة 25 الفرقان آية 62

[457]

في الآية، كانا في أيام النبي صلى الله عليه وآله حين قمع الله اعداء‌ه وأعلا كلمته ونشر ولايته، واظهر دعوته، وأكمل دينه، ونعوذ بالله أن نقول: لم يمكن الله دينه لنبيه في حياته حتى تلا في ذلك متلاف بعده، وليس ذلك التمكين كثرة الفتوح والغلبة على البلدان، لان ذلك يوجب أن دين الله لم يتمكن بعد إلى يومنا هذا لعلمنا ببقاء ممالك للكفر كثيرة لم يفتحها المسلمون، ويلزم على ذلك إمامة معاوية وبني أمية، لانهم تمكنوا اكثر من تمكن أبي بكر وعمر، وفتحوا بلادا لم يفتحوها.

ولو سلمنا أن المراد بالاستخلاف الامالة للزم أن يكون منصوصا عليهم، وذلك ليس بمذهب اكثر مخالفينا، وإن استدلوا بذلك على صحة إمامتهم احتاجوا أن يدلوا على ثبوت امامتهم بغير الآية، وانهم خلفاء الرسول حتى تتناولهم الآية.

فان قالوا: المفسرون ذكروا ذلك.

قلنا: لم يذكر جميع المفسرين ذلك، فان مجاهدا قال: هم أمة محمد صلى الله عليه وآله.

وعن ابن عباس وغيره: قريب من ذلك.

وقال أهل البيت (ع) إن المراد بذلك المهدي (ع) لانه يظهر بعد الخوف، ويتمكن بعد ان كان مغلوبا، فليس في ذلك اجماع المفسرين. وهذا أول ما فيه. قد استوفينا ما يتعلق بالآية في كتاب الامامة، فلا نطول بذكره - ههنا - وقد تكلمنا على نظير هذه الآية، وان ذلك ليس بطعن على واحد منهم، وانما المراد الممانعة من أن يكون فيها دلالة على الامامة، وكيف يكون ذلك. ولو صح ما قالوه لما احتيج إلى اختياره، ولكان منصوصا عليه، وليس ذلك مذهبا لاكثر العلماء، فصح ما قلناه.

[458]

قوله تعالى: (وأقيموا الصلوة وآتوا الزكوة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون(56) لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الارض ومأويهم النار ولبئس المصير(57))

آيتان بلا خلاف.

قرأ حفص وابن عامر وحمزة " لايحسبن " بالياء. الباقون بالتاء.

فمن قرأ - بالياء - فموضع (الذين) رفع. ومن قرأ - بالتاء - فموضعه نصب، و (معجزين) المفعول الثاني، والمفعول الثاني لمن قرأ - بالياء - قوله " في الارض ".

وقال ابوعلي: المفعول الثاني على هذه القراء‌ة محذوف، وتقديره: ولا يحسبن الذين كفروا اياهم معجزين.

وقال الاخفش: من قرأ - بالياء - يجوز أن يكون (الذين) في موضع نصب، على تقدير لا يحسبن محمد الذين، فيكون محمد الفاعل.

امر الله تعالى في الآية الاولى جميع المكلفين باقامة الصلاة وايتاء الزكاة اللذين أوجبهما عليهم وان يطيعوا الرسول فيما يأمرهم به ويدعوهم اليه، ليرحموا جزاء على ذلك، ويثابوا بالنعم الجزيلة.

ثم قال " لاتحسبن " يا محمد اى لا تظنن " الذين كفروا معجزين في الارض " اي لا يفوتوني.

ومن قرأ - بالياء - قال تقديره: لا يظنن من كفرأنه يفوتني، ويعجزني أي مكان ذهب في الارض.

ثم اخبر تعالى: ان مأوى الكافرين ومستقرهم النار، عقوبة لهم على كفرهم وانها بئس المرجع وبئس المستقر والمأوى.

وانما وصفها بذلك لما ينال الصائر اليها من العذاب والآلام والشدائد، وإن كانت من فعل الله وحكمته صوابا.

[459]

قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلوة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلوة العشاء ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم(58) وإذا بلغ الاطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم كذلك يبين الله لكم آياته والله عليم حكيم(59) والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وأن يستعففن خير لهن والله سميع عليم(60))

ثلاث آيات بلا خلاف.

قرأ اهل الكوفة إلا حفصا " ثلاث عورات " بفتح الثاء. الباقون بالرفع.

قال ابوعلي النحوي: من رفع، فعلى أنه خبرابتداء محذوف، وتقديره هذه ثلاث عورات، لانه لما قال " الذين ملك ايمانكم، والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات " وفصل الثلاث بقوله " من قبل صلاة الفجر، وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة، ومن بعد صلاة العشاء " صار كأنه قال: هذه ثلاث عورات، فاجمل بعد التفصيل. ومن

[460]

نصب جعله بدلا من قوله " ثلاث مرات " وإنما أبدل " ثلاث عورات " وليس بزمان من (ثلاث مرات) وهي زمان، لانه مشتمل على زمان من حيث ان التقدير: أوقات ثلاث عورات، فلما حذف المضاف أقام المضاف اليه مقامه.

و (العورات) جمع عورة، وحكم ما كان على وزن (فعلة) من الاسماء أن تحرك العين منه، نحو صفحة وصفحات، وجفنة وجفنات إلا ان عامة العرب يكرهون تحريك العين فيما كان عينه واوا أوياء، لانه كان يلزمه الانقلاب إلى الالف، فاسكنوا لذلك، فقالوا عورات وجوزات وبيضات.

وقرأ الاعمش - بفتح الواو - من (عورات) ووجهه ما حكاه المبرد أن هذيلا يقولون في جمع جوزة وعورة ولوزة: جوزات، وعورات، ولوزات، فيحركون العين فيها، وأنشد بعضهم:

ابوبيضات رائح متأوب *** رفيق بمسح المنكبين سبوح(1)

فحرك الياء من بيضات، والاجود عند النحويين ما ذكرناه. هذه الآية متوجهة إلى المؤمنين بالله المقرين برسوله، يقول الله لهم: مروا عبيدكم واماء‌كم أن يستأذنوا عليكم إذا أرادوا الدخول إلى مواضع خلواتكم.

وقال ابن عباس وابو عبدالرحمن: الآية في النساء والرجال من العبيد.

وقال ابن عمر: هي في الرجال خاصة.

وقال الجبائي: الاستئذان واجب لى كل بالغ في كل حال، ويجب على الاطفال في هذه الاوقات الثلاثة بظاهر هذه الآية.

وقال قوم: في ذلك دلالة على انه يجوز أن يؤمر الصبي الذي يعقل، لانه أمره بالاستئذان.

وقال آخرون: ذلك أمر للآباء أن يأخذوا الاولاد بذلك، فظاهر الآية يدل على وجوب الاستئذان ثلاث مرات في ثلاث أوقات من ساعات الليل والنهار.

ثم فسر الاوقات فقال " من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلوة العشاء " الاخرة

___________________________________

(1) تفسير القرطبي 12 / 305 واللسان (بيض)

[461]

لان الغالب على الناس أن يتعروا في خلواتهم في هذه الاوقات ذكره مجاهد. ثم بين أنه ليس عليكم ولا عليهم جناح فيما بعد ذلك من الاوقات أن يدخلوا عليكم من غير اذن، يعني في الذين لم يبلغوا الحلم، وهو المراد بقوله " طوافون عليكم بعضكم على بعض " ثم قال: مثل ما بين لكم هذه العورات بين الله لكم الدلالات على الاحكام " والله عليم " بما يصلحكم " حكيم " فيما ذكره وغيره من أفعاله.

ثم قال " واذا بلغ الاطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم " يعني يرتفع من دخوله بغير اذن إذا بلغ، وصار حكمه حكم الرجال في وجوب الاستئذان على كل حال.

ثم قال مثل ما بين لكم هذا بين لكم ادلته " والله عليم حكيم " ثم قال " والقداعد من النساء اللاتي لايرجون نكاحا " يعني المسنات من النساء اللاتي قعدن عن التزويج، لانه لايرغب في تزويجهن.

وقيل: هن اللاتي ارتفع حيضهن، وقعدن على ذلك، اللاتي لا يطمعن في النكاح أي لا يطمعع في جماعهن لكبرهن " فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن " قيل هو القناع الذي فوق الخمار وهو الجلباب، والرداء الذي يكون فوق الشعار. وفى قراء‌ة أهل البيت (ع) " ان يضعن من ثيابهن " وبه قرأ ابي.

وقوله " غير متبرجات بزينة " أي لا تقصد بوضع الجلباب اظهار محاسنها، وما ينبغي لها أن تستره. والتبرج إظهار المرأة من محاسنها ما يجب عليها ستره. ثم اخبر تعالى أن الاستعفاف عن طرح الجلباب خير لهن في دينهن " والله سميع " لاقوالكم " عليم " بما تضمرونه " حليم " عليكم لا يعاجلكم بالعقوبة على معاصيكم. وانما ذكر القواعد من النساء، لان الشابة يلزمها من التستر اكثر مما يلزم العجوز، ومع ذلك فلا يجوز للعجوز أن تبدي عورة لغير محرم، كالساق والشعر والذراع.

[462]

قوله تعالى: (ليس على الاعمى حرج ولا على الاعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخونكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا فاذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة كذلك يبين الله لكم الايات لعلكم تعقلون(61))

آية بلا خلاف.

يقول الله تعالى انه " ليس على الاعمى حرج " وهو الذي كف بصره " ولا على الاعرج حرج " وهو الذي يعرج من رجليه او احداهما " ولا على المريض حرج " وهو الذي يكون عليلا، والحرج الضيق في الدين، مشتق من الحرجة، وهي الشجر الملتف بعضه ببعض لضيق المسالك فيه. وحرج فلان إذا أثم. وتحرج من كذا إذا تأثم من فعله. نفى الله الحرج عن هؤلاء لما يقتضيه حالهم من الافات التى بهم مما تضيق على غيرهم.

واختلفوا في تأويل ذلك، فقال الحسن وابن زيد والجبائي: ليس عليهم حرج في التخلف عن الجهاد، ويكون قوله " ولا على انفسكم " كلاما متسأنفا.

[463]

وقال ابن عباس: ليس من مؤاكلتهم حرج، لانهم كانوا يتحرجون من ذلك.

قال الفراء: كانت الانصار تتحرج من ذلك، لانهم كانوا يقولون: الاعمى لا يبصر فتأكل جيد الطعام دونه ويأكل رديئة.

والاعرج لا يتمكن من الجلوس. والمريض يضعف عن المأكل.

وقال مجاهد: ليس عليكم في الاكل من بيوت من سمي على جهة حمل قراباتهم إليهم يستتبعونهم في ذلك حرج.

وقال الزهري: ليس عليهم حرج في أكلهم من بيوت الغزاة إذا خلفوهم فيه باذنهم.

وقيل: كان المخلف في المنزل المأذون له في الاكل يتحرج، لئلا يزيد على مقدار المأذون له فيه.

وقال الجبائي: الآية منسوخة بقوله " يا ايها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين أناه "(1) ويقول النبي صلى الله عليه وآله (لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفسه) والذي روي عن أهل البيت (ع): انه لا بأس بالاكل لهؤلاء من بيوت من ذكرهم الله بغير اذنهم، قدر حاجتهم من غير اسراف.

وقوله " ولا على انفسكم ان تأكلوا من بيوتكم " قال الفراء: لما نزل قوله " لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا ان تكون تجارة "(2) ترك الناس مؤاكلة الصغير والكبير ممن أذن الله تعالى في الاكل معه، فقال تعالى وليس عليكم في أنفسكم، وفي عيالكم حرج أن تأكلوا منهم ومعهم إلى قوله " أو صديقكم " أي بيوت صديقكم " أو ما ملكتم مفاتحه " أي بيوت عبيدكم وأموالهم.

وقال ابن عباس: معنى ما ملكتم مفاتحه هو الوكيل وما جرى مجراه.

وقال مجاهد والضحاك: هو ما ملكه الرجل نفسه في بيته.

وواحد المفاتح مفتاح - بكسر الميم - وفي المصدر (مفتح) بفتح الميم.

وقال قتادة: معنى قوله " او صديقكم " لانه لا بأس في الاكل من بيت صديقه بغير اذنه.

___________________________________

(1) سورة 33 الاحزاب آية 53.

(2) سورة 4 النساء آية 28

[464]

وقوله " ليس عليكم جناح ان تأكلوا جميعا أو اشتاتا " قيل: يدخل فيه أصحاب الآفات على التغليب للمخاطب كقولهم: انت وزيد قمتما، ولا يقولون قاما.

وقال ابن عباس: معناه لابأس ان يأكل الغني مع الفقير في بيته.

وقال ابن عباس والضحاك: هي في قوم من العرب كان الرجل منهم يتحرج أن يأكل وحده.

وقال ابن جريج: كانوا من كنانة.

وقال ابوصالح: كانوا إذا نزل بهم ضيف تحرجوا أن يأكلوا معه، فأباح الله الاكل منفردا ومجتمعا.

والاولى حمل ذلك على عمومه، وانه يجوز الاكل وحدانا وجماعا.

وقوله " فاذا دخلتم بيوتا فسلموا على انفسكم " قال الحسن: معناه ليسلم بعضكم على بعض.

وقال ابراهيم: اذا دخلت بيتا ليس فيه أحد فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.

وقال قوم: أراد بالبيوت المساجد.

والاولى حمله على عمومه. فاما رد السلام، فهو واجب على المسلمين.

وقال الحسن: يجب الرد على المعاهد، ولا يقول الراد ورحمة الله.

وقوله تعالى " تحية من عند الله مباركة طيبة " يعني هذا السلام تحيون به تحية من عند الله مباركة طيبة، لما فيها من الاجر الجزيل والثواب العظيم.

ثم قال كما يبين الله لكم هذه الاحكام والآداب " كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون " أي يبين الله لكم الادلة على جميع الاحكام، وجميع ما يتعبدكم به لتعقلوا ذلك، وتعملوا بموجبه.

[465]

قوله تعالى: (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه إن الذين يستأذنوك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فاذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم(62) لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم(63) ألا إن لله ما في السموات والارض قد يعلم ما أنتم عليه ويوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا والله بكل شئ عليم(64))

ثلاث آيات بلا خلاف

يقول الله تعالى ليس المؤمنون على الحقيقة إلا " الذين آمنوا بالله " أي صدقوا بتوحيده وعد له، وأقروا بصدق رسوله واذا كانوا مع رسوله " على أمر جامع " وهو الذي يقتضي الاجتماع عليه والتعاون فيه: من حضور حرب أو مشورة في أمر، أو في صلاة جمعة، وما اشبه ذلك، لم ينصرفوا عن رسوله او عن ذلك الامر، إلا بعد أن يأذن لهم الرسول في الانصراف متى طلبوا الاذن من قبله. والاستئذان طلب الاذن من الغير.

ثم قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله " إن الذين يستأذنوك " يا محمد، فهم الذين يصدقون بالله ورسوله على الحقيقة، دون الذين ينصرفون بلا استئذان. ثم قال لنبيه صلى الله عليه وآله أيضا متى ما استأذنوك هؤلاء المؤمنون أن يذهبوا لبعض مهماتهم وحاجاتهم " فأذن لمن شئت منهم " فخيره بين ان يأذن وألا يأذن، وهكذاحكم الامام.

[466]

وقوله " واستغفر لهم الله " أي اطلب لهم المغفرة من الله. واستغفار النبي صلى الله عليه وآله هو دعاؤه لهم باللطف الذي تقع معه المغفرة " إن الله غفور رحيم " أي ساتر لذنوبهم منعم عليهم.

ثم أمر المكلفين فقال تعالى " لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا " وقيل في معناه قولان: احدهما - احذروا دعاء‌ه عليكم إذا أسخطتموه، فان دعاء‌ه موجب، ليس كدعاء غيره، ذكره ابن عباس. والثاني - قال مجاهد وقتادة: ادعوه بالخضوع والتعظيم، وقولوا له " يا رسول الله، ويا نبي الله، ولا تقولوا: يامحمد، كما تقول بعضكم لبعض.

وقوله " قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا " معناه إذا تسلل واحد منكم من عند النبي صلى الله عليه وآله فان الله عالم به.

وقال الحسن: معنى " لواذا " فرارا من الجهاد.

قال الفراء: كان المنافقون يحضرون مع النبي الجمعة، فاذا نزلت آية فيها ذم للمنافقين ضجروا، وطلبوا غره(1) واستتر بعضهم ببعض، يقال: لا وذت بفلان ملاوذة، ولواذا.

قال الزجاج: الملاوذة المخالفة، ولذت به ألوذ لياذا. ثم حذرهم من مخالفة رسوله بقوله " فليحذر الذين يخالفون عن أمره " وانما دخلت (عن) في قوله " عن أمره " لان المعنى يعرضون عن أمره.

وفى ذلك دلالة على أن أوامر النبي صلى الله عليه وآله على الايجاب، لانها لو لم تكن كذلك لما حذر من مخالفته، وليس المخالف هو ان يفعل خلاف ما أمره فقط، لان ذلك ضرب من المخالفة. وقد يكون مخالفا بألا يفعل ما أمره به. ولو كان الامر على الندب لجاز تركه، وفعل خلافه.

___________________________________

(1) معناه طلبوا اختصار الحديث أي طيه على غره

[467]

وقوله " أن تصيبهم فتنة " أي فليحذروا من أن تصيبهم فتنة: أي بلية تظهر ما في قلوبهم من النفاق. والفتنة شدة في الدين تخرج ما في الضمير " او يصيبهم عذاب اليم " في الآخرة جزاء على خلافهم الرسول.

ويجوز أن يكون المراد: ان تصيبهم عقوبة في الدنيا، أو يصيبهم عذاب مؤلم في الآخرة.

وقيل: معناه " أن تصيبهم فتنة " أي قبل أن يصيبهم عذاب في الآخرة.

وقوله " ألا إن لله ما في السموات والارض " المعنى ان له ملك ما في السموات والارض، والتصرف في جميع ذلك، ولايجوز لاحد الاعترض عليه، ولايجوز مخالفة أمر رسوله، ولا يخالف أمره، لان الهاء في قوله " عن أمره " يحتمل أن تكون راجعة إلى الرسول ويحتمل أن تكون راجعة إلى الله، وقد مضى ذكرهما قبلها. ثم بين انه " يعلم ما انتم عليه " من الايمان والنفاق، لا يخفى عليه شئ من احوالكم لا سرا ولا علانية.

وقوله " ويوم يرجعون اليه " أي يوم يردون اليه يعني يوم القيامة، الذي لا يملك فيه احد شيئا سواه. ومن ضم الياء: أراد يردون. ومن فتحها نسب الرجوع اليهم.

وقوله " فينبئهم بما عملوه " أي يعلمهم جميع ما عملوه من الطاعات والمعاصي ويوافيهم عليها. " والله بكل شئ عليم " لا يخفى عليه شئ من ذلك الذي عملوه سرا وجهرا.




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21399174

  • التاريخ : 18/04/2024 - 12:09

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net