00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة الحج 

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : التبيان في تفسير القرآن ( الجزء السابع)   ||   تأليف : شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي

22 - سورة الحج

قال قتادة هي مدنية إلا اربع آيات فانها مكيات من قوله " وما ارسلنا من قبلك من رسول ولا نبي " إلى قوله (عذاب مقيم) وقال مجاهد وعياش بن ابي ربيعة: هي مدنية كلها.

وهي ثمان وسبعون آية في الكوفي وست في المدنيين وخمس في المكي.

الآية: 1 - 25

بسم الله الرحمن الرحيم

(يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شئ عظيم(1) يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وماهم بسكارى ولكن عذاب الله شديد(2) ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد(3) كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير(4))

أربع آيات بلا خلاف.

[288]

قرا اهل الكوفه إلا عاصما " سكرى " بلا الف بسكون الكاف في الموضعين. الباقون " سكارى ".

هذا خطاب من الله تعالى لجيمع المكلفين من البشر يأمرهم بأن يتقوا معاصي الله لانه يستحق بفعل المعاصي والاخلال بالواجبات العقوبات يوم القيامة.

ثم اخبر " ان زلزلة الساعة " يعني القيامة " شئ عظيم " والزلزلة شدة الحركة على حالة هائلة، ومنه زلزلة الارض لما يلحق من الهول، وكان اصله زلت قدمه إذا زالت عن الجهة بسرعة.

ثم ضوعف فقيل: زلزل الله اقدامهم، كما قيل: دكة ودكدكة، والزلزلة والزلزال - بكسر الزاي - مصدر. والزلزال - بالفتح - الاسم قال الشاعر

يعرف الجاهل المضلل ان الدهر *** فيه النكراء والزلزال(1)

وقال علقمه والشعبي: الزلزلة من اشراط القيامة.

وروى الحسن في حديث رفعه عن النبي صلى الله عليه وآله انها يوم القيامة. والعظيم المختص بمقدار يقصر عنه غيره، وضده الحقير. والكبير نقيض الصغير. وفي الآية على أن المعدوم يسمى شيئا، لان الله تعالى سمى الزلزلة يوم القيامة شيئا، وهي معدومة اليوم.

وقوله " يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما ارضعت " قال الفراء والكوفيون: يجوز ان يقال: مرضع بلا هاء، لان ذلك لايكون في الرجال، فهو مثل حائض وطامث.

وقال الزجاج وغيره من البصريين: إذا أجريته على الفعل قلت ارضعت فهي مرضعة، فاذا قالوا مرضع، فالمعنى انها ذات رضاع.

وقيل في قولهم: حائض وطامت معناه انها ذات حيض وطمث.

وقال قوم: اذا قلت: مرضعة، فانه يراد بها ام الصبي المرضع.

___________________________________

(1) تفسير الطبري 17 / 80

[289]

واذا اسقطت الهاء، فانه يراد بها المرأة التي معها صبي مرضعة لغيرها.

والمعنى ان الزلزلة هي شئ عظيم، في يوم ترون فيها الزلزلة، على وجه " تذهل كل مرضعة " اي يشغلها عن ولدها اشتغالها بنفسها، وما يلحقها من الخوف.

وقال الحسن: تذهل المرضعة عن ولدها لغير فطام، وتضع الحامل لغير تمام.

والذهول الذهاب عن الشئ دهشا وحيرة، تقول: ذهلت عنه ذهولا، وذهلت - بالكسر - ايضا، وهو قليل، والذهل السلو، قال الشاعر: صحا قلبه يا عز أو كاد يذهل(1) وهذا تهويل ليوم القيامة، وتعظيم لما يكون فيه من الشدة على وجه لو كان هناك مرضعة لشغلت عن الذي ترضعه، ولو كان هناك حامل لاسقطت من هول ذلك اليوم، وإن لم يكن هناك حامل ولا مرضعة.

وقوله (وترى الناس سكارى وما هم بسكارى) معناه تراهم سكارى من الفزع، وما هم بسكارى من شرب الخمور. وانما جاز " وترى الناس سكارى، وما هم بسكارى "، لانها رواية تخيل.

وقيل: معناه كأنهم سكارى من ذهول عقولهم لشدة ما يمربهم، فيضطربون كاضطراب السكران من الشراب.

وقرأ ابوهريرة (وترى الناس) بضم التاء، والناس منصوب على أنه مفعول ثان.

وتقديره وترى أن الناس.

وتكون " سكارى " نصبا على الحال.

ومن قرأ " سكرى " جعله مثل جرحى وقتلى.

وقيل: هما جمعان كسكران وسكرانة، قال ابوزيد: يقولون: مريض ومراضى، ومرضى.

فمن قرأ " سكرى " فلان السكر كالمرض والهلاك، فقالوا:

___________________________________

(1) تفسير الطبري 17 / 80

[290]

(سكرى) مثل هلكى ومثل عكلى. ومن قرأ " سكارى " فلانه روي أن النبي صلى الله عليه وآله قرأ كذلك.

ثم علل تعالى ذلك، فقال ليس هم بسكارى " ولكن عذاب الله شديد " فمن شدته يصيبهم ما يصيبهم من الاضطراب.

ثم اخبر تعالى ان " من الناس من يجادل " أي يخاصم " في الله " فيما يدعوهم اليه من توحيد الله ونفي الشرك عنه " بغير علم " منه بل للجهل المحض " ويتبع " في ذلك " كل شيطان مريد " يغويه عن الهدى ويدعوه إلى الضلال.

وذلك يدل على أن المجادل في نصرة الباطل مذموم، وأن من جادل بعلم ووضع الحجة موضعها بخلافه.

و (المريد) المتجرد للفساد.

وقيل أصله الملاسة، فكأنه متملس من الخير، ومنه صخرة مرداء أي ملساء، ومنه الامرد.

والمريد الداهية المنكرة.

ويقال: تمرد فلان. والممرد من البناء المتطاول المتجاوز.

وقوله " كتب عليه انه من تولاه فانه يضله ويهديه إلى عذاب السعير " يقول الله تعالى انه كتب في اللوح المحفوظ ان من تولى الشيطان واتبعه واطاعه فيما يدعوه اليه، فانه يضله.

وقال الزجاج: معناه كتب عليه أنه من تولاه يضله، فعطف (أن) الثانية على الاولى تأكيدا، فلذلك نصبت (أن) الثانية. والاكثر في التأكيد أن لايكون معه حرف عطف غير انه جائز: كما يجوز: زيد - فانهم - في الدار.

وقال قوم: نصبت (أن) الثانية، لان المعنى فلانه يضله عن طريق الحق " ويهديه إلى عذاب السعير " أي عذاب النار الذي يستعر ويلتهب.

والهاء في " كتب عليه " راجعة إلى الشيطان، وتقديره كتب على الشيطان أنه من تولى الشيطان واتبعه، فان الشيطان يضله، فالهاء في يضله عائدة إلى (من) في قوله " من تولاه ".

[291]

قوله تعالى: (يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فانا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الارحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا وترى الارض هامدة فاذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج(5))

آية واحدة بلا خلاف.

قرأ ابوجعفر " وربأت ". الباقون (ربت).

خاطب الله تعالى بهذه الآية جميع المكلفين من البشر.

فقال لهم " ان كنتم في ريب من البعث " والنشور.

والريب اقبح الشك " فانا خلقناكم من تراب " قال الحسن: المعنى خلقنا آدم من تراب الذي هو أصلكم وأنتم نسله.

وقال قوم: أراد به جميع الخلق، لانه إذا أراد خلقهم من نطفة، والنطفة يجعلها الله من الغذاء، والغذاء ينبت من التراب والماء، فكان أصلهم كلهم التراب، ثم احالهم بالتدريج: إلى النطفة، ثم أحال النطفة علقه، وهي القطعة من الدم جامدة. ثم أحال العلقة مضغة، وهي شبه قطعة من اللحم مضوغة. والمضغة مقدار ما يمضغ من اللحم.

وقوله " مخلقة وغير مخلقة " قال قتادة: تامة الخلق، وغير تامة. وقيل: مصورة وغير مصورة. وهي السقط - في قول مجاهد -.

[292]

وقوله " لنبين لكم " معناه لندلكم على مقدورنا، بتصريفه في ضروب الخلق وقوله " ونقر في الارحام ما نشاء إلى أجل مسمى " مستأنف، فلذلك رفع.

وقال مجاهد: معناه نقره إلى وقت تمامه.

وقوله " ثم نخرجكم طفلا يعني نخرجكم " من بطون أمهاتكم، وانتم أطفال. والطفل الصغير من الناس، ونصب طفلا على المصدر، وهو في موضع جمع.

وقيل: هو نصب على التمييز، وهو جائز، وتقديره نخرجكم أطفالا، وقيل الطفل إلى قبل مقاربة البلوغ.

وقوله " ثم لتبلغوا أشدكم " يعني وقت كمال عقولكم وتمام خلقكم. وقيل: وقت الاحتلام والبلوغ، وهو جمع (شد). والاشد في غير هذا الموضع قد بينا اختلاف المفسرين فيه(1).

وقوله " ومنكم من يتوفى " يعني قبل بلوغ الاشد. وقيل: قبل أن يبلغ أرذل العمر " ومنكم من يرد إلى ارذل العمر " وقيل معناه أهونه واخسه عند أهله. وقيل: احقره. وقيل هي حال الخرف.

وانما قيل: ارذل العمر، لان الانسان لا يرجو بعده صحة وقوة، وانما يترقب الموت والفناء، بخلاف حال الطفولية، والضعف الذي يرجو معها الكمال والتمام والقوة، فلذلك كان أرذل العمر.

وقوله " لكيلا يعلم من بعد علم شيئا " معناه إنا رددناه إلى أرذل العمر لكي لا يعلم، لانه يزول عقله من بعد أن كان عاقلا عالما بكثرة من الاشياء، ينسا جميع ذلك.

وقوله " وترى الارض هامدة " اي دارسة داثرة يابسة، يقال: همد يهمد همودا إذا درسته ودثرته.

قال الاعشي:

___________________________________

(1) انظر 4 / 343 و 6 / 117، 476

[293]

قالت فتيلة ما لجسمك شاحبا *** وأرى ثيابك باليات همدا(1)

وقوله تعالى " فاذا انزلنا عليها الماء " يعني الغيث والمطر " اهتزت وربت " فالاهتزاز شدة الحركة في الجهات.

والربو الزيارة فيها اي تزيد بما يخرج منها من النبات، وتهتز بما يذهب في الجهات " وانبتت " يعني الارض " من كل زوج بهيج " فالبهيج الحسن الصورة، الذي يمتع في الرؤية.

وقال الزجاج: (ربت) و (ربأت) لغتان.

وقال الفراء: ان ذهب ابوجعفر في قراء‌ته (ربأت) إلى انه من الربئة التي تجربين الناس، فهو مذهب. وإلا فهو غلط، ويلغط العرب كقولهم: حلات السويق، ولبأت بالحج، ورثأت الميت.

وقد قرأ الحسن البصري في يونس " ولا أدرأكم به " وهو مما يرخص في القراء‌ة.

قوله تعالى: (ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شئ قدير(6) وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور(7) ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولاهدى ولاكتاب منير(8) ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله له في الدنيا خزي ونذيقه يوم القيمة عذاب الحريق(9) ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد(10))

خمس آيات بلا خلاف.

يقول الله تعالى ان الذي ذكرناه انما دللنا به لتعلم ان " الله هو الحق " وانه

___________________________________

(1) ديوانه 54 وروايته (سايئا) بدل (شاحبا)

[294]

الواحد الذي لايستحق العبادة سواه، ومن اعتقده كذلك، فمعتقده على ما هو به، وهو محق، والحق هو ما كان معتقده على ما أعتقده " وانه يحيي الموتى " لان من قدر على انشاء الخلق إبتداء ونقله من حال إلى حال على ما وصف، فانه يقدر على إعادته حيا بعد كونه ميتا، ويعلم ايضا انه قادر على كل ما يصح أن يكون مقدورا له، واصل الوصف بالحق من قولهم: حقه يحقه حقا، وهو نقيض الباطل.

والفرق بين الحق والعدل أن العدل جعل الشئ على قدر ما تدعوا اليه الحكمة، والحق في الاصل جعل الشئ لماهوله في ما تدعو اليه الحكمة غير انه نقل إلى معنى مستحق لصفات التعظيم، فالله تعالى لم يزل حقا أي انه لم يزل مستحقا لمعنى صفة التعظيم بأنه الاله الواحد الذي هو على كل شئ قدير.

ثم اخبر تعالى ان في جملة الناس من يخاصم " ويجادل في الله " وصفاته " بغير علم " بل للجهل المحض " ولا هدى " أي ولا حجة " ولاكتاب منير " أي ولا حجة كتاب ظاهر، وهذا يدل ايضا على ان الجدال بالعلم صواب، وبغير العلم خطأ، لان الجدال بالعلم يدعو إلى اعتقاد الحق، وبغير العلم يدعو إلى الاعتقاد بالباطل، ولذلك قال تعالى " وجادلهم بالتي هى احسن "(1) " وقوله " ثاني عطفه " نصب على الحال يعني الذي يجادل بغير علم يثني عطفه.

قال مجاهد وقتادة: يلوي عنقه كبرا.

وقيل انها: نزلت في النضر بن الحارث ابن كلدة - ذكره ابن عباس -.

وقوله " ليضل عن سبيل الله " من فتح الياء معناه يفعل هذا ليضل عن طريق الحق المؤدي إلى توحيد الله. ومن ضم الياء اراد انه يفعل ذلك ليضل غيره. ثم اخبر تعالى ان من هذه صفته " له في الدنيا خزي " وأنه يذيقه " عذاب

___________________________________

(1) سورة 16 النحل آية 125

[295]

الحريق " يوم القيامة أي العذاب الذي يحرق بالنار.

ثم قال " ذلك بما قدمت يداك " أي يقول الله تعالى عند نزول العذاب به (ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد " ومعناه إن ما يفعل بالظالم نفسه من عذاب الحريق جزاء على ما كسبت يداه، فذكر اليدين مبالغة في إضافة الجرم اليه، وهذا يدل على أن ذكر اليدين قد يكون لتحقيق الاضافة.

وقوله " وإن الله " اي ولان الله " ليس بظلام للعبيد " وإنما ذكره بلفظ المبالغة، وإن كان لايفعل القليل من الظلم لامرين: احدهما - انه خرج مخرج الجواب للمجبرة، وردا عليهم، لانهم ينسبون كل ظلم في العالم اليه تعالى، فبين أنه لو كان، كما قالوا لكان ظلاما وليس بظالم. والثاني - أنه لو فعل أقل قليل الظلم لكان عظيما منه، لانه يفعله من غير حاجة اليه، فهو أعظم من كل ظلم فعله فاعله لجاجته اليه.

[296]

قوله تعالى: (ومن الناس من يعبد الله على حرف فان أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين(11) يدعو من دون الله ما لا يضره وما لاينفعه ذلك هو الضلال البعيد(12) يدعو لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير(13) إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الانهار إن الله يفعل ما يريد(14) من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والاخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ(15) وكذلك أنزلناه آيات بينات وأن الله يهدي من يريد(16))

ست آيات بلا خلاف.

قرأ ابن عامر وأبوعمرو، ورويس، وورش " ثم ليقطع " ثم " ليقضوا "(1) - بسكون اللام - فيهما، ووافقهم قنبل في " ثم ليقضوا ". الباقون بسكون اللام.

معنى قوله " ومن الناس من يعبد الله على حرف " أي في الناس من يوجه عبادته إلى الله على ضعف في العبادة، كضعف القيام على حرف جرف، وذلك من اضطرابه في استيفاء النظر المؤدي إلى المعرفة. فأدنى شبهة تعرض له ينقاد لها، ولايعمل في حلها. والحرف والطرف والجانب نظائر.

والحرف منتهى الجسم، ومنه الانحراف الانعدال إلى الجانب.

وقلم محرف قد عدل بقطعته عن الاستواء إلى جانب، وتحريف القول هو العدول به عن جهة الاستواء، فالحرف معتدل إلى الجانب عن الوسط.

وقال مجاهد: معنى على حرف شك.

وقال الحسن: يعبد الله على حرف يعني المنافق يعبده بلسانه دون قلبه.

وقيل على حرف الطريقة لا يدخل فيها على تمكين.

وقوله " فان أصابه خير اطمان به وإن أصابته فتنة انقلب على وجه " قال ابن عباس: كان بعضهم إذا قدم المدينة فان صح جسمه ونتجت فرسه مهرا حسنا وولدت امرأته غلاما رضي به واطمأن اليه، وإن اصابه وجع المدينة، وولدت امرأته جارية، وتأخرت عنه الصدقة، قال ما اصبت منذ كنت على ديني هذا إلا شرا. وكل ذلك من عدم البصيرة.

وقيل: انها نزلت في بني أسد كانوا نزلوا حول المدينة.

و (الفتنة) - ههنا - معناه المحنة بضيق المعيشة، وتعذر المراد من أمور الدنيا.

___________________________________

(1) سورة 22 الحج آية 29

[297]

ثم اخبر الله تعالى أن من هذه صفته على خسران ظاهر، لانه يخسر الجنة، وتحصل له النار.

ثم اخبر عن ذكره انه " يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه " يعني الاصنام والاوثان، لانها جماد لاتضر ولاتنفع، فانه يعبدها دون الله.

ثم قال تعالى " ذلك هو الضلال البعيد " يعني عبادة مالا يضر ولا ينفع من العدول عن الصواب، والانحراف عن الطريقة المستقيمة إلى البعيد عن الاستقامة.

و " ذلك " في موضع نصب ب‍ (يدعو) ومعناه (الذي) كأنه قال: الذي هو الضلال البعيد يدعوه.

وقوله " يدعو لمن " مستأنف على ما ذكره الزجاج.

وقوله " يدعو لمن ضره أقرب من نفعه " يعني يدعوا هذه الاصنام التي ضررها أقرب من نفعها، لان الضرر بعبادتها عذاب النار، والنفع ليس فيها. وإنما جاز دخول اللام في " لمن ضره " لان (يدعو) معلقة، وإنما هي تكرير للاولى، كأنه قال: يدعو - للتأكيد - للذي ضره أقرب من نفعه يدعو. ثم حذفت (يدعو) الاخيرة اجتزاء بالاولى. ولايجوز قياسا على ذلك ضربت لزيد، ولو قلت بدلا من ذلك يضرب لمن خيره اكثر من شره يضرب، ثم حذفت الخبر جاز.

والعرب تقول عندي لما غيره هو خير منه، كأنه قال للذي غيره خير منه عندي، ثم حذف الخبر من الثاني، والابتداء من الاول، كأنه قال عندي شئ غيره خيرمنه وعلى هذا يقال: اعطيك لما غيره خير منه، على حذف الخبر. وقيل: في خبر (لمن ضرره) أنه (لبئس المولى). وقيل: يدعو بمعنى يقول. والخبر محذوف. وتقديره يقول لمن ضره أقرب من نفعه: هو آلهة، قال عنترة:

[298]

يدعون عنتر والرماح كأنها *** أشطان بئر في لبان الادهم(1)

اي يقولون يا عنتر، وقيل تقدر اللام التأخر، وإن كانت متقدمة. والمعنى يدعو من لضره أقرب من نفعه.

وقوله " لبئس المولى ولبئس العشير " فالمولى هو الولي، وهو الناصر الذي يولي غيره نصرته إلا أنها نصرة سوء، والعشير الصاحب المعاشر أي المخالط - في قول ابن زيد - وقال الحسن: المولى - ههنا - الولي.

وقيل: ابن العم اي بئس القوم لبني عمهم بما يدعونهم اليه من الضلال.

وقيل: اللام لام اليمين، والتقدير يدعو وعزتي لمن ضره أقرب من نفعه.

ثم اخبر تعالى انه " يدخل الذين آمنوا " بالله وأقروا بواحدانيته وصدقوا رسله " وعملوا " الاعمال " الصالحات " التي امرهم بها " جنات " أي بساتين " تجري من تحتها الانهار ان الله يفعل ما يريد " من ذلك لا اعتراض عليه في ذلك.

ثم قال " من كان يظن ان لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظرها يذهبن كيده ما يغيظ " فالهاء في قوله " ينصره الله " قال ابن عباس وقتادة: عائدة إلى النبي صلى الله عليه وآله، والمعنى من كان يظن أن الله لا ينصرنبيه ولا يعينه على عدوه، ويظهر دينه فليمت غيظا. والنصرة المعونة - في قول قتادة - وقال مجاهد والضحاك: أن الكناية عائدة إلى (من) والمعنى إن من ظن أن لا ينصره الله.

وقال ابن عباس: النصرة - ههنا - الرزق.

والمعنى من ظن ان الله تعالى لا يرزقه، والعرب تقول: من ينصرني نصره الله أي من يعطيني أعطاه الله.

وقال الفقعسي:

___________________________________

(1) ديوانه (دار بيروت) 29 من معلقته

[299]

وإنك لا تعط امرء‌ا فوق حظه *** ولا تملك الشق الذي الغيث ناصره(1)

اي معطيه وجايده، ويقال نصر الله أرض فلان أي جاد عليها بالمطر وقوله " فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع " قيل في معنى (المساء) قولان: احدهما - قال ابن عباس: اراد سقف البيت. والسبب الحبل.

وقال ابن زيد: إلى السماء سماء الدنيا والسبب المراد به الوحي إلى النبي صلى الله عليه وآله " ثم ليقطع " الوحي عن النبي صلى الله عليه وآله والمعنى من ظن أنه لايرزقه الله على وجه السخط لما اعطى " فليمدد " بحبل إلى سماء بيته واضعا له في حلقه، على طريق كيد نفسه ليذهب غيظه به.

وهذا مثل ضربه الله لهذا الجاهل. والمعنى مثله مثل من فعل بنفسه هذا، فما كان إلا زائدا في بلائه وقيل: هذا مثل رجل وعدته وعدا، ووكدت على نفسك الوعد، وهو يراجعك.

لايثق بقولك له، فتقول له: فاهب فاختنق، يعني اجهد جهدك فلا ينفعك، وهذه الآية نزلت في قوم من المسلمين نفروا من اتباع النبي صلى الله عليه وآله خيفة من المشركين يخشون أن لا يتم له أمره.

وقرأ ابن مسعود " يدعو من ضره أقرب من نفعه " بلا لام. الباقون باثبات اللام، ووجهه أن (من) كلمة لايبين فيها الاعراب فاستجازوا الاعتراض باللام دون الاسم الذي يبين فيه الاعراب، ولذلك قالت العرب: عندي لما غيره خير منه. وقد يجوز أن يكون (يدعو) الثانية من صلة الضلال البعيد، ويضمر في يدعو الهاء ثم يستأنف الكلام باللام. ولو قرئ بكسر اللام كان قويا.

قال الفراء: كأن يكون المعنى يدعو إلى ما ضره أقرب من نفعه، كما قال تعالى " الحمد لله الذي هدانا لهذا "(2) أي إلى هذه إلا انه لم يقرأ به احد.

___________________________________

(1) تفسير القرطبي 12 / 22 والطبري 17 / 87.

(2) سورة 7 الاعراف آية 42

[300]

وقوله " وكذلك أنزلناه " اي مثل ما ذكرنا من الادلة الواضحة أنزلناه " آيات " واضحات، لان " الله يهدي من يريد " منه فعل الطاعات ويدله عليها.

قوله تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئن والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيمة إن الله على كل شئ شهيد(17) ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الارض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء(18) هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رؤسهم الحميم(19) يصهر به ما في بطونهم والجلود(20) ولهم مقامع من حديد(21) كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق(22))

ست آيات.

اقسم الله تعالى لان (إن) يتلقى بها القسم، فأسم تعالى " إن الذين آمنوا " بالله وصدقوا بواحدانيته وصدقوا أنبياء‌ه " والذين هادوا " يعني اليهود " والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا " مع الله غيره " إن الله يفصل بينهم يوم القيامة "

[301]

فخبر " ان الذين آمنوا " قوله " إن الله يفصل " فدخل (إن) على الخبر تأكيدا، كما يقول القائل: إن زيدا إن الخبر عنده لكثير، وقال جرير:

إن الخليفة ان الله سربله *** سربال ملك به ترجى الخواتيم(1)

وقال الفراء لايجوز أن تقول: إن زيدا انه صائم لاتفاق الاسمين.

قال الزجاج: يجوز ذلك، وهو جيد بالغ.

ومعنى قوله " يفصل بينهم " يعني إن الله يفصل بين الخصوم في الدين يوم القيامة بما يضطر إلى العلم بصحة الصحيح ويبيض وجه المحق، ويسود وجه المبطل. والفصل هو التمييز بين الحق والباطل. وإظهار احدهما من الآخر.

وقوله " إن الله على كل شئ شهيد " أي عالم بما من شأنه أن يشاهد، فالله تعالى يعلمه قبل أن يكون، لانه علام الغيوب. ثم خاطب نبيه صلى الله عليه وآله والمراد به جميع المكلفين فقال " ألم تر " ومعناه ألم تعلم " أن الله يسجد له من في السموات ومن في الارض " من العقلاء.

ويسجد له " الشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب " فسجود الجماد هو ما فيه من ذلة الخضوع التي تدعو العارفين إلى السجود، سجود العبادة لله المالك للامور، وسجود العقلاء هو الخضوع له تعالى والعبادة له.

وقوله " من في السموات ومن في الارض " وإن كان ظاهره العموم، فالمراد به الخصوص إذا حملنا السجود على العبادة والخضوع، لانا علمنا أن كثيرا من الخلق كافرون بالله تعالى. فلذلك قال (وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب) ارتفع (كثير) بفعل مقدر، كأنه قال (وكثير) أبي السجود، ف‍ (حق عليه العذاب) دل عليه، لانهم يستحقون العقاب بجحدهم وحدانية الله، وإشراكهم معه غيره.

وقيل: سجود كل شئ - سوى

___________________________________

(1) ديوانه (دار بيروت) 431 وروايته: (يكفي الخليفة)

[302]

المؤمنين - سجود ظله حين تطلع الشمس وحين تغيب - في قول مجاهد - كأنه يجعل ذلك لما فيه من العبرة بتصريف الشمس في دورها عليه سجودا.

وقوله (وكثير حق عليه العذاب) يعني لابائه السجود.

وقيل: بل هو يسجد بما يقتضيه عقله من الخضوع، وإن كفر بغير ذلك من الامور، وأنشدنا في السجود بمعنى الخضوع قول الشاعر:

بجمع تضل البلق في حجراته *** ترى الاكم فيها سجدا للحوافر(1)

وقوله (ومن يهن الله فما له من مكرم) معناه من يهنه الله بالشقوة بادخاله جهنم (فما له من مكرم) بالسعادة بادخاله الجنة، لانه الذي يملك العقوبة والمثوبه (ان الله يفعل ما يشاء) يعني يكرم من يشاء، ويهين من يشاء إذا استحق ذلك.

وقوله (هذان خصمان) يعنى الفريقين من المؤمنين والكفار يوم بدر، وهم حمزة بن عبدالمطلب قتل عتبة بن أبي ربيعة، وعلي بن أبي طالب (ع) قتل الوليد بن عتبة، وعبيدة بن الحارث قتل شيبة بن ربيعة - في قول ابي ذر - وقال ابن عباس: هم اهل الكتاب، وأهل القرآن.

وقال الحسن ومجاهد وعطاء: هم المؤمنون والكافرون " اختصموا في ربهم " لان المؤمنين قالوا بتوحيد الله وأنه لايستحق العبادة سواه. والكفار اشركوا معه غيره، وانما جمع قوله " اختصموا " لانه أراد ما يختصون فيه او أراد بالخصمين القبيلتين وخصومهم.

ثم قال تعالى " فالذين كفروا " بالله وجحدوا وحدانيته " قطعت لهم ثياب من نار " ومعناه إن النار تحيط بهم كاحاطة الثياب التي يلبسونها.

و " يصب من فوق رؤسهم الحميم " روي في خبر مرفوع: انه يصب على رؤسهم الحميم، فينفذ إلى أجوافهم فيسلب ما فيها. والحميم الماء المغلي.

وقيل: ثياب نحاس من نار تقطع لهم، وهي أشد ما يكون حمى.

___________________________________

(1) انظر 1 / 311 تعليقة 5

[303]

وقوله " يصهر به ما في بطونهم والجلود " فالصهر الاذابة.

والمعنى يذاب بالحميم الذي يصب من فوق رؤسهم ما في بطونهم من الشحوم وتساقط من حره الجلود.

تقول: صهرت الالية بالنار إذا أذبتها، أصهرها صهرا قال الشاعر:

تروي لقى ألقي في صفصف *** تصهره الشمس فما ينصهر(1)

يعني ولدها، وتروي معناه أن تحمل له الماء في حوصلتها، فتصير له رواية كالبعير الذي يحمل عليه الماء، يقال: رويت للقوم إذا حملت لهم الماء.

واللقي كل شئ ملقى من حيوان او غيره، وقال الآخر: شك السفافيد الشواء المصطهر وقوله تعالى " ولهم مقامع من حديد " فالمقامع جمع مقمعة، وهي مدقة الرأس ومثله المنقفة، قمعه قمعا إذا ردعه عن الامر. فالزبانية بأيديهم عمد من حديد يضربون بها رؤسهم إذا أرادوا الخروج من النار من الغم الذي يلحقهم، والعذاب الذي ينالهم ردوا بتلك المقاطع فيها وأعيدوا إلى حالتهم التي كانوا فيها من العقاب.

وقيل: يرفعهم زفيرها حتى إذا كادوا أن يخرجوا منها ضربوا بالمقامع، حتى يهووا فيها.

وقيل: لهم ذوقوا عذاب الحريق، فالذوق طلب ادراك الطعم، فهو اشد لاحساسه عند تفقده وطلب ادراك طعمه.

فأهل النار يجدون ألمها وجدان الطالب لا دراك الشئ، والحريق الغليظ من النار المنتشر العظيم الاهلاك.

وقيل: هو بمعنى محرق كأليم بمعنى مؤلم، فهؤلاء أحد الخصمين، والآخرون هم المؤمنون الذين وصفهم في الآية بعدها.

___________________________________

(1) تفسير القرطبي 12 / 27 والطبري 17 / 92 وللسان (صهر) نسبه لابن أحمر

[304]

قوله تعالى: (إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الانهار يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير(23) وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد(24) إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بالحاد بظلم نذقه من عذاب أليم(25))

ثلاث آيات

قرأ نافع وأبوبكر " ولؤلؤا " بالنصب. الباقون بالجر.

لما حكى الله تعالى أمر الخصمين اللذين يختصمان، من الكفار، والمؤمنين.

ثم بين ما للكفار من عذاب النار، وإصهار ما في بطونهم، والمقامع من الحديد، وغير ذلك، بين ما للمؤمنين، وهم الفريق الآخر في هذه الآية، فقال: " إن الله يدخل الذين آمنوا " بالله وأقروا بواحدانيته، وصدقوا رسله " وعلموا " الاعمال " الصالحات جنات تجري من تحتها الانهار يحلون فيها " أي يلبسون الحلي " من أساور من ذهب " والاساور جمع أسوار، وفيه ثلاث لغات اسوار - بالالف - وسوار وسورا. فمن جعله أسوار، جمعه على أساورة. ومن جعله سورا، وسورا، جمعه أسورة.

وفى قراء‌ة عبدالله " أساوير " واحدها إسوار أيضا، وسوار وأساور، مثل كراع وأكارع، وجمع الاسورة سورا " ولؤلؤا " فمن جره عطفه على " من ذهب " وتقديره: يحلون أساور من ذهب ولؤلئ، ومن نصبه عطفه على الموضع، لان (من) وما بعدها

[305]

في موضع نصب، فعطف " ولؤلؤا " على الموضع، وتقديره: ويحلون لؤلوا. وقد روي عن عاصم همز الاولى وتليين الثانية. وروي ضده، وهو تليين الاولى وهمز الثانية. الباقون يهمزونهما. وكل ذلك جائز في العربية. واللؤلؤ الكبار، والمرجان الصغار.

ويجوز أن يكون اللؤلؤ مرصعا في الذهب، فلذلك قال: يحلون لؤلؤا وقوى القراء‌ة بالنصب أنه في المصاحف مكتوبا بالالف، قال ابوعمرو: كتب كذلك، كما كتبوا كفروا بالالف.

ثم اخبر ان لباسهم في الجنة حرير، فحرم الله على الرجال لبس الحرير في الدنيا وشوقهم اليه في الآخرة. ثم قال " وهدوا " يعني أهل الجنة إلى الصواب من القول.

قال الجبائي: هدوا إلى البشارات من عندالله بالنعيم الدائم.

وقيل: معناه إلى القرآن.

وقيل: إلى الايمان.

وقال الكلبى إلى قول لا إله إلا الله.

وقال قوم: هو القول الذي لا فحش فيه، ولا صخب " وهدوا إلى صراط الحميد " قيل: إلى الاسلام وقيل: إلى الجنة. فالحميد هوالله المستحق الحمد.

وقيل: المستحمد إلى عباده بنعمه - في قول الحسن - أي الطالب منهم أن يحمدوه.

وروي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال ما احد أحب اليه الحمد من الله - عزوجل -.

ثم قال تعالى (إن الذين كفروا) بوحدانيته واختصاصه بالعبادة.

(ويصدون) أي ويمنعون غيرهم (عن) اتباع (سبيل الله) بالقهر والاغواء (والمسجد الحرام) أي ويمنعونهم عن المسجد الحرام أن يجيئوا اليه حجاجا وعمارا (الذي) جعله الله تعالى (للناس) كافة قبلة لصلاتهم ومنسكا لحجهم، والمراد بالمسجد الحرام المسجد بقبة.

وقيل الحرام كله " سواء العاكف فيه والباد " قال ابن عباس وقتادة: العاكف المقيم فيه، والباد الطارئ.

ونصب (سواء) حفص عن

[306]

عاصم على انه مفعول ثان من قوله (جعلناه للناس سواء) أي مساويا، كما قال (انا جعلناه قرآنا عربيا).(1)

ويرتفع (العاكف) في هذه القرء‌اة بفعله أي يستوي العاكف والبادي. ومن رفع (سواء) جعله ابتداء‌ا وخبرا، كما تقول: مررت برجل سواء عنده الخير والشر، وتقديره العاكف والبادي سواء فيه بالنزول فيه.

وقال مجاهد: معناه إنهم سواء في حرمته وحق الله عليهما فيه.

واستدل بذلك قوم على أن أجرة المنازل في أيام الموسم محرمة، وقال غيرهم: هذا ليس بصحيح، لان المراد به سواء العاكف فيه والباد، في ما يلزمه من فرائض الله تعالى فيه، فليس لهم أن يمنعوه من الدور، والمنازل، فهي لملاكها. وهو قول الحسن. وانما عطف بالمستقبل على الماضي من قوله (كفروا، ويصدون) لان المعنى ومن شأنهم الصد، ونظيره (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله)(2) ويجوز في (سواء) الرفع والنصب والجر، فالنصب على أن يكون المفعول الثاني ل‍ (جعلناه) على ما بيناه، والرفع على تقدير: هم سواء فيه. والجر على البدل من قوله (للناس سواء).

وقوله (ومن يرد فيه بالحاد بظلم) معناه من أرادته فيه بالحاد كما قال الشاعر:

اريد لانسى ذكرها فكأنما *** تمثل لي ليلى بكل سبيل(3)

ذكره الزجاج. والباء في قوله (بالحاد) مؤكدة. والباء في قوله (بظلم) للتعدية، ومثله قول الشاعر:

بواد يمان ينبت الشث صدره *** واسفله بالمرخ والشبهان(4)

___________________________________

(1) سورة 43 الزخرف آية 3.

(2) سورة 13 الرعد آية 30.

(3) مر هذا البيت في 3 / 174 و 4 / 184.

(4) تفسير القرطبي 12 / 36 والطبري 17 / 94 واللسان (شثث) وروايته (فرعه) بدل (صدره)

[307]

والمعنى ينبت المرخ. ومثله قوله (تنبت بالدهن)(1). أي تنبت الدهن.

وقال الاعشى:

ضمنت برزق عيالنا أرماحنا *** نيل المراجل والصريح الاجردا(2)

وقال امرؤ القيس:

ألا هل أتاها والحوادث جمة *** بأن امرأ القيس بن تملك بيقرا(3)

وقال الآخر:

فلما جزت بالشرب هزلها العصا *** شجيح له عند الازاء نهيم(4)

وقال الآخر:

ألم يأتيك والابناء تنمى *** بما لاقت لبون بني زياد(5)

ويجوز ان يكون المعنى، ومن يرد فيه منعا (بالحاد) أي يميل بظلم، فتكون حينئذ معدية للارادة، وذلك انه يمكن أن يريد منعا لا بالحاد، كما يمكن أن يميل لابظلم، وكما يمكن أن يمر لا بشئ.

وقال ابن عباس: المعنى فيه من يرد استحلال ما حرم الله.

و (الالحاد) هوالميل عن الحق.

وقوله " نذقه من عذاب اليم " يعني مؤلم.

وحكى الفراء: انه قرئ " ومن يرد " بفتح الياء - من الورود، ومعناه من ورده ظلما على غير ما أمر الله به، إلا انه شاذ.

وقال مجاهد: معناه من ظلم فيه وعمل شينا واشرك بالله غيره.

___________________________________

(1) سورة 23 المؤمنون آية 20.

(2) ديوانه 57 وروايته:

ضمنت لنا اعجاز هن قدورنا *** وضروعهن لنا الصريح الاجردا

(3) شرح ديوانه (للسندوبى) 86.

(4) تفسير الطبري 17 / 95.

(5) مر تخريجه في 6 / 190

[308]

وقال ابن مسعود: من استحل ما حرمه الله.

وقال ابن عباس: هو استحلال الحرم متعمدا.

وقال حسان بن ثابت: هواحتكار الطعام بمكة.

وقيل نزلت في ابي سفيان وأصحابه، حين صدوا رسول الله صلى الله عليه وآله عن عمزة الحديبية.

الآية: 26 - 50

قوله تعالى: (وإذ بوأنا لابرهيم مكان البيت أن لاتشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود(26) وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق(27) ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الانعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير(28) ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم ولطوفوا بالبيت العتيق(29) ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه وأحلت لكم الانعام إلا ما يتلى عليكم فاجتنبوا الرجس من الاوثان واجتنبوا قول الزور(30))

خمس آيات بلا خلاف.

يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله واذكر يا محمد " اذ بوأنا لابراهيم مكان البيت " ومعناه جلعنا له علامة يرجع اليها.

وقال قوم: معنى بوأنا وطأناله.

وقال السدي: كانت العلامة ريحا هبت، فكشف حول البيت، يقال لها الحجوج.

[309]

وقال قوم: كانت: سحابة تطوقت حيال الكعبة، فبنى على ظلها. واصل بوأنا من قوله " باؤا بغضب من الله " أي رجعوا بغضب منه.

ومنه قول الحارث بن عباد (بؤ بشسع كليب) أي ارجع، قال الشاعر:

فان تكن القتلى بواء فانكم *** فتى ما قتلتم آل عوف ابن عامر(1)

اي قد رجع بعضها ببعض في تكافئ.

وتقول: بوأته منزلا أي جعلت له منزلا يرجع اليه، والمكان والموضع والمستقر نظائر. والبيت مكان مهيأ بالبناء للبيتوتة، فهذا اصله. وجعل البيت الحرام على هذه الصورة.

وقوله " ألا تشرك بي شيئا " معناه وأمرناه ألا تشرك بي شيئا في العبادة (وطهر بيتي) قال قتادة: يعني من عبادة الاوثان. وقيل: من الادناس. وقيل من الدماء، والفرث، والاقذار التى كانت ترمى حول البيت، ويلطخون به البيت إذا ذبحوا.

وقوله (للطائفين) يعني حول البيت (والقائمين والركع السجود) يعني طهر حول البيت للذين يقومون هناك للصلاة والركوع والسجود.

وقال عطاء: والقائمين في الصلاة.

وإذا قال: طاف، فهو من الطائفين، وإذا قعد، فهو من العكف، وإذا صلى، فهو من الركع السجود. وفى الآية دلالة على جواز الصلاة في الكعبة.

وقوله (وأذن في الناس بالحج) قال الحسن: والجبائي: هو أمر للنبي صلى الله عليه وآله أن يؤذن للناس بالحج ويأمرهم به، وانه فعل ذلك في حجة الوداع.

وقال ابن عباس: ان إبراهيم قام في المقام، فنادى (يا أيها الناس إن الله قد دعاكم إلى الحج) فأجابوا (بلبيك اللهم لبيك).

وقوله (يأتوك رجالا) أي مشاة على أرجلهم، فرجال جمع رجال مثل

___________________________________

(1) انظر 6 / 158

[310]

صاحب وصحاب، وقائم وقيام (وعلى كل ضامر) أي على كل جمل ضامر، وهو المهزول، أضمره السير (من كل فج عميق) أي طريق بعيد، قال الراجز: يقطعن بعد النازح العميق وإنما قال (يأتين) لانه في معنى الجمع.

وقيل: لان المعنى وعلى كل ناقة ضامر.

وقوله (ليشهدوا منافع لهم) قيل الاجر والثواب في الآخرة، والتجارة في الدنيا.

وقال أبوجعفر (ع): المغفرة.

وقوله (ويذكروا اسم الله في أيام معلومات) قال الحسن وقتادة: الايام المعلومات عشر من ذي الحجة، والايام المعدودات أيام التشريق.

وقال ابوجعفر (ع) الايام المعلومات أيام التشريق، والمعدودات العشر، لان الذكر الذي هو التكبير في أيام التشريق.

وانما قيل لهذه الايام: معدودات، لقلتها.

وقيل لتلك: معلومات، للحرص على علمها بحسابها، من أجل وقت الحج في آخرها.

وقوله (على ما رزقهم من بهيمة الانعام) يعني مما يذبح من الهدي.

وقال ابن عمر: الايام المعلومات أيام التشريق، لان الذبح فيها الذي قال الله تعالى (ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الانعام).

وقوله (فكلوا منها واطعموا البائس الفقير) قال مجاهد وعطاء: أمرنا بأن نأكل من الهدي. وليس بواجب. وهو الصحيح، غير انه مندوب اليه. والبائس الذي به ضر الجوع، والفقير الذي لاشئ له، يقال: بؤس فهو بائس إذا صار ذا بؤس، وهو الشدة. أمر الله تعالى أن يعطى هؤلاء من الهدي.

وقوله " ثم ليقضوا تفثهم " فالنفث مناسك الحج، من الوقوف، والطواف، والسعي، ورمي الجمار، والحلق بعد الاحرام من الميقات. وقال ابن عباس وابن

[311]

عمر: التفث جمع المناسك.

وقيل التفث قشف(1) الاحرام، وقضاؤه بحلق الرأس، والاغتسال، ونحوه.

قال الازهري: لا يعرف التفث في لغة العرب إلا من قول ابن عباس.

وقوله " وليوفوا نذورهم " أي يوفوا بما نذروا، من نحر البدن - في قول ابن عباس - وقال مجاهد: كل ما نذر في الحج. وقرأ ابوبكر عن عاصم " وليوفوا " مشدة الفاء، ذهب إلى انه التكبير.

وقوله " وليطوفوا بالبيت العتيق " أمر من الله تعالى بالطواف بالبيت.

قال ابن زيد: سمي البيت عتيقا، لانه أعتق من ان تملكه الجبابرة عن آدم. وقيل: لانه اول بيت بني. كقوله تعالى " إن اول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا "(2) ثم حدده إبراهيم (ع).

وقيل: لانه أعتق من الغرق أيام الطوفان، فغرقت الارض كلها إلا موضع البيت، روي عن أبي جعفر (ع).

والطواف المأمور به من الله في هذه الآية، قال قوم: هو طواف الافاضة بعد التعريف إما يوم النحر، وإما بعده، وهو طواف الزيارة، وهو ركن بلا خلاف.

وروى أصحابنا ان المراد - ههنا - طواف النساء الذي يستباح به وطؤ النساء، وهو زيادة على طواف الزيارة.

وقوله " ذلك ومن يعظم حرمات الله " بأن يترك ما حرمه الله.

وقوله " واحلت لكم الانعام إلا ما يتلى عليكم " يعني إلا ما يتلى عليكم في كتاب الله: من الميتة، والدم، ولحم الخنزير، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وما أكل السبع، وما ذبح على النصب.

وقيل: واحلت لكم الانعام، من الابل، والبقر، والغنم، في حال إحرامكم " إلا مايتلى عليكم " من الصيد، فانه يحرم على المحرم.

وقوله " فاجتنبوا الرجس من الاوثان " معنى (من) لتبيين الصفة، والتقدير

___________________________________

(1) وفي المخطوطة فشق).

(2) سورة 3 آل عمران آية 96

[312]

فاجتنبوا الرجس الذي هو الاوثان.

وروى أصحابنا أن المراد به اللعب بالشطرنج، والنرد، وسائر انواع القمار " واجتنبوا قول الزور " يعني الكذب.

وروى اصحابنا أنه يدخل فيه الغناء وسائر الاقوال الملهية بغير حق.

قوله تعالى: (حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق(31) ذلك ومن يعظم شعائر الله فانها من تقوى القلوب(32) لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق(33) ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الانعام فالهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين(34) ألذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلوة ومما رزقناهم ينفون(35))

خمس آيات بلا خلاف.

قوله " حنفاء " نصب على الحال من الضمير في قوله " واجتنبوا قول الزور " ومعنى " حنفاء " مستقيمي الطريقة، على أمر الله.

وأصل الحنف الاستقامة.

وقيل للمائل القدم: أحنف تفاؤلا بالاستقامة.

وقيل: أصله الميل.

والحنيف المائل إلى العمل بما أمر الله، والاول أقوى، لانه أشرف في معنى الصفة.

وقوله " غير مشركين به " أي غير مشركين بعبادة الله غيره. والاشراك تضييع حق عباده الله بعبادة غيره.

[313]

أو ما يعظم عظم عبادة غيره، وكل مشرك كافر، وكل كافر مشرك.

ثم قال تعالى " ومن يشرك بالله فكانما خر من السماء " أي من أشرك بعبادة الله غير الله، كان بمنزلة من وقع من السماء، " فتخطفه الطير " أي تتناوله بسرعة وتستلبه. والاختطاف والاستلاب واحد.

يقال: خطفه يخطفه خطفا، وتخطفه تخطفا إذا أخذه من كل جهة بسرعة.

وقرا ابن عامر " فتخطفه " بتشديد الطاء، بمعنى فتختطفه، فنقل فتحة الطاء إلى الخاء، وأدغم التاء في الطاء. الباقون بالتخفيف، وهو الاقوى لقوله " الا من خطف الخطفة "(1).

وقوله (أو تهوي به الريح في مكان سحيق) والسحيق البعيد.

والمعنى أن من أشرك بالله غيره كان هالكا بمنزلة من زل من السماء، واستلبه الطير ورمى به الريح في مكان بعيد، فانه لايكون إلا هالكا.

وقيل: شبه المشرك بحال الهاوي في أنه لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا يوم القيامة.

وقيل: شبه أعمال الكفار أنها تذهب فلا يقدر على شئ منها - في قول الحسن - وقوله " ذلك ومن يعظم شعائر الله فانها من تقوى القلوب " قال سيبويه: تقديره ذلك الامر من يعظم، قالشعائر علامات مناسك الحج كلها، منها رمي الجمار، والسعي بين الصفا والمروة وغير ذلك - في قول ابن زيد - وقال مجاهد: هي البدن، وتعظيمها استسمانها واستحسانها.

والشعيرة العلامة التي تشعر بها، لما جعلت له، وأشعرت البدن إذا علمتها بما يشعر أنها هدي.

وقوله " فانها من تقوى القلوب " فالكناية في قوله " فانها " تعود إلى التعظيم. ويجوز أن تعود إلى الخصلة من التعظيم. وقيل: شعائر الله دين الله.

وقوله " فانها من تقوى القلوب " معناه إن تعظيم الشعائر من تقوى القلوب أي من خشيتها.

___________________________________

(1) سورة 37 الصافات آية 10

[314]

ثم قال " لكم فيها منافع إلى أجل مسمى " قال ابن عباس، ومجاهد: ذلك مالم يسم هديا او بدنا.

وقال عطاء: ما لم يقلد، وقيل: منافعها ركوب ظهرها وشرب ألبانها إذا احتاج اليها.

وهو المروي عن ابي جعفر صلى الله عليه وآله.

وقوله " إلى اجل مسمى " قال عطاء بن ابي رياح: إلى أن تنحر. وقيل: المنافع التجارة. وقيل: الاجر، وقيل: جميع ذلك. وهو أعم فائدة.

وقوله (ثم محلها إلى البيت العتيق) معناه إن محل الهدي والبدن إلى الكعبة.

وعند اصحابنا: إن كان الهدي في الحج، فمحله منى، وإن كان في العمرة المفردة، فمحله مكة قبالة الكعبة بالخرورة.

وقيل: الحرم كله محل لها، والظاهر يقتضي أن المحل البيت العتيق، وهو الكعبة.

وقال قوم " إلى اجل مسمى " يعني يوم القيامة.

ثم اخبر تعالى انه جعل لكل أمة من الامم السالفة منسكا. وقرأ حمزة والكسائي " منسكا " بكسر العين. الباقون بالفتح، وهما لغتان، وهو المكان للعبادة المألوفة الذي يقصده الناس.

وقال الحسن: المنسك المنهاج وهو الشريعة جعل الله لكل أمة من الامم السالفة منسكا أي شريعة. كقوله " لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه "(1) وقال مجاهد " منسكا " يعني عبادة في الذبح، والنسكة الذبيحة. يقال: نسكت الشاة أي ذبحتها فكأنه المذبح، وهو الموضع الذي يذبح فيه.

وقال محمد بن ابي موسى: محل المناسك الطواف بالبيت.

وقوله " ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الانعام " أي جعلنا ذلك للامم وتعبدناهم به " ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الانعام " يعني من الابل والبقر والغنم إذا ارادوا تذكيتها. وفي ذلك دلالة على وجوب التسمية عند الذبيحة.

___________________________________

(1) سورة 22 الحج آية 67

[315]

ثم اخبر تعالى فقال " فالهكم إله واحد " أي معبودكم الذي ينبغي أن توجهوا العبادة اليه واحد لا شريك له " فله اسلموا " أي استسلموا " وبشر المخبتين " قال قتادة: يعنى المتواضعين.

وقال مجاهد: يعني المطمئنين إلى ذكر ربهم. واشتقاق المخبت من الخبت، وهو المكان المطمئن.

وقيل: المنخفض، ومعناهما واحد، ثم وصف تعالى المخبتين، فقال " الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم " والمعنى إذا ذكر ثواب الله، على طاعاته، وعقابه على معاصيه، خافوا عقابه وخشيوا من ترك طاعاته " والصابرين على ما اصابهم " يعني يصبرون على ما يبتليهم الله، من بلائه في دار الدنيا من أنواع المصائب والامراض والاوجاع " والمقيمي الصلاة " يعني الذين يقيمون الصلاة، فيؤدونها بحقوقها، ويداومون عليها.

" ومما رزقناهم ينفقون " أي مما ملكهم الله وجعل لهم التصرف فيه ينفقون في مرضاته. وفى ذلك دلالة على أن الحرام ليس برزق الله. لان الله مدح من ينفق في سبيل الله مما رزقه، والحرام ممنوع من التصرف فيه، والانفاق منه فكيف يكون رزقا.

[316]

قوله تعالى: (والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف فاذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون(36) لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هديكم وبشرالمحسنين(37) إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لايحب كل خوان كفور(38) أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير(39) ألذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز(40))

خمس آيات بلا خلاف.

قرأ يعقوب " لن تنال الله لحومها ولكن تناله " بالتاء فيهما. الباقون بالياء فيهما. وقد مضى ذكر نظائره.

وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي " أذن " بفتح الالف " يقاتلون " بكسر التاء.

وقرأ نافع وحفص " أذن " بضم الالف " يقاتلون " بفتح التاء.

وقرأ ابوعمرو، وابوبكر عن عاصم " أذن " بضم الالف " يقاتلون " بكسر التاء.

وقرأ ابن عامر " أذن " بفتح الالف " يقاتلون " بفتح التاء.

وقرأ ابن كثير وأبوعمرو " إن الله يدفع، ولولا دفع الله " بغير ألف في الموضعين الباقون " يدافع "، " ولولا دفاع الله " باثبات الالف في الموضعين.

وقرأ أهل الكوفة وإبن كثير وابوجعفر " لهدمت " بتخفيف الدال. الباقون بتشديدها، وهما لغتان. والتشديد للتكثير.

قال الحسن: هدمها تعطيلها، فاذا هدمت مواضع الصلاة فكأنهم هدموا الصلاة.

وقيل: إن الصلوات بيوت النصارى، يسمونها صلوتا، وقال أبوالعالية

[317]

الصلوات بيوت الصابئين وانشد:

اتق الله والصلوت فدعها *** إن في الصوم والصلوت فسادا(1)

يريد بيت النصارى ومعنى الصوم - في البيت - ذرق النعام.

و " ودفع الله، ودفاع الله " (لغتان والاغلب أن يكون (فعال) بين اثنين.

وقد يكون للواحد مثل عافاه الله وطارقت النعل)(2) وقال ابن عمر: دفاع الله، ويدافع: لحن.

ومن فتح الالف في (اذن) وكسر التاء في (يقاتلون) فالمعنى أذن الله للذين يقاتلون أن يقاتلوا من ظلمهم، وكذلك المعنى في قراء‌ة الباقين.

ومعنى (بأنهم ظلموا) أي من أجل انهم ظلموا.

يقول الله تعالى (والبدن جعلناها) فنصب البدن بفعل مضمر يدل عليه (جعلناها) ومثله " والقمر قدرناه "(3) فيمن نصب القمر والبدن جمع بدنة، وهي الابل المبدنة بالسمن.

قال الزجاج: يقولون: بدنت الناقة إذا سمنتها.

ويقال لها بدنة من هذه الجهة.

وقيل: أصل البدن الضخم، وكل ضخم بدن. وبدن بدنا إذا ضخم، وبدن تبدينا، فهو بدن، ثقل لحمه للاسترخاء كما يثقل الضخم. والبدنة الناقة، وتجمع على بدن وبدن. وتقع على الواحد والجمع قال الراجز:

على حين تملك الامورا *** صوم شهور وجبت نذورا

وحلق رأسي وافيا مغضورا *** وبدنا مدرعا موفورا(4)

قال عطاء: البدن البقرة والبعير.

وقيل: البدنة إذا نحرت علقت يد واحدة، فكانت على ثلاث، وكذلك تنحر، وعند أصحابنا تشد يداها إلى إبطيها، وتطلق رجلاها. والبقر تشديد يداها ورجلاها ويطلق ذنبها، والغنم تشد يداها ورجل واحدة وتطلق الرجل الاخرى.

___________________________________

(1) لم أجد في مظانه.

(2) ما بين القوسين ساقط من المطبوعة.

(3) سورة 36 يس آية 29.

(4) تفسير الطبري 17 / 107

[318]

وقوله " جعلناها لكم من شعائرالله " معناه جعلناها لكم فيها عبادة لله بمافي سوقها إلى البيت وتقليدها بما ينبئ أنها هدي.

ثم نحرها للاكل واطعام القانع والمعتر.

وقيل " من شعائرالله " معناه من معالم الله " لكم فيها خير " أي منافع في دينكم ودنياكم، مثل ما فسرناه.

وقوله " فاذكروا اسم الله عليها صواف " أمر من الله أن يذكر اسم الله عليها إذاإقيمت للنحر، صافة. وصواف جمع صافة، وهي المستمرة في وقوفها على منهاج واحد، فالصف استمرار جسم يلي جسماعلى منهاج واحد. والتسمية إنما تجب عند نحرها دون حال قيامها.

وقوله " فاذا وجبت جنوبها " معناه وقعت لنحرها، والوجوب الوقوع، ومنه يقال: وجبت الشمس إذا وقعت في المغيب للغروب، ووجب الحائط إذا وقع، ووجب القلب إذا وقع فيه مايضطرب به. ووجب الفعل إذا وقع ما يلزم به فعله. ووجبت المطالبة إذا وقع ما يدعوا إلى قبولها. ووجب البيع إذا وقع.

وقال أوس ابن حجر:

ألم تكسف الشمس والبدرو ال‍ *** كواكب للجبل الواجب(1)

أي الواقع، وقرئ " صواف " على ثلاثة أوجه: صواف بمعنى مصطفة، وعليه القراء " وصوافي " بمعنى خالصة لله. وهي قراء‌ة الحسن.

" صوافن " بمعنى معلقة في قيامها، بازمتها وهي قراء‌ة ابن مسعود، وهو مشتق من صفن الحصان إذا ثنى احدى يديه حتى قام على ثلاث، ومنه قوله " والصافنات الجياد "(2)

___________________________________

(1) ديوانه (دار بيروت): 10 وتفسير القرطبي 12 / 62.

(2) سورة 38 ص آية 30

[319]

قال الشاعر:

الف الصفون فما يزال كأنه *** مما يقوم على الثلاث كسيرا(1)

والصافن من الخيل الذي يقوم على ثلاث، ويثني سنبك الرابعة.

وقوله " فكلوا منها واطعموا القانع والمعتر " فقال قوم: الاكل والاطعام واجبان.

وقال آخرون: الاكل مندوب والاطعام واجب.

وقال قوم: لو اكل جميعه جاز، وعندنا يطعم ثلثه، ويعطى ثلثه القانع والمعتر. ويهدي الثلث الباقى.

والقانع الذي يقنع بما أعطي أو بما عنده ولا يسأل، والمعتر الذي يتعرض لك ان تطعمه من اللحم.

وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة: المعتر الذي يسأل، والقانع الذي لا يسأل، وقال الحسن وسعيد بن جبير: القانع الذي يسأل قال الشماخ:

لمال المرئ يصلحه فيغني *** مفاقرة أعف من الفنوع(2)

أي من السؤال.

وقال الحسن: المعتر يتعرض، ولا يسأل.

وقال مجاهد: القانع جارك الغني، والمعتر الذي يعتريك من الناس.

ويقال قنع الرجل إلى فلان قنوعا إذا سأل قال لبيد:

وأعطاني المولى على حين فقره *** إذا قال الصبر حلتي وقنوعي(3)

وقنعت بكسر النون اقنع قناعة وقناعا إذا اكتفيت.

وقوله " كذلك سخرناها لكم " أي مثل ذلك ذللنا هذه الانعام لكم تصرفوها على حسب اختياركم، بخلاف السباع الممتنعة بفضل قوتها، لكي تشكروه على نعمه

___________________________________

(1) تفسير القرطبي 12 / 62.

(2) تفسير الطبري 17 / 190 واللسان (فقر) وتفسير القرطبى 12 / 64.

(3) تفسير الطبري 17 / 10 وروايته (اصبر) بدل (الصبر) وشرح ديوانه (طبع الكويت: 71) روايته (اذا أبصر خلتي وخشوعي)

[320]

التي أنعم بها عليكم‌ء ثم قال تعالى " لن ينال الله لحومها... " والمعنى لن يتقبل الله اللحوم، ولا الدماء، ولكن يتقبل التقوى فيها وفي غيرها، بأن يوجب في مقابلتها الثواب.

وقيل: لن يبلغ رضا الله لحومها، ولا دماؤها، ولكن ينالها التقوى منكم.

ثم قال " كذلك سخرها لكم " يعني الانعام " لتكبروا الله على ما هداكم " أي لتعظموه ثم تشكروه على هدايته إياكم إلى معرفته وطريق ثوابه.

وقيل: معناه لتسموا الله تعالى على الذباحة.

وقيل: لتكبروا الله في حال الاحلال بما يليق به في حال الاحرام.

ثم قال تعالى " وبشر المحسنين " يا محمد، الذين يفعلون الافعال الحسنة وينعمون على غيرهم.

ثم قال " إن الله يدافع عن الذين آمنوا " أي نصرهم ويدفع عنهم عدوهم، تارة بالقهر، وأخرى بالحجة " إن الله لايحب كل خوان كفور " إخبار منه تعالى أنه لايحب الخوان، وهو الذي يظهر النصيحة، ويضمر الغش للنفاق، أو لاقتطاع المال.

وقيل: إن من ذكر اسم غير الله على الذبيحة، فهو الخوان، والكفور هو الجحود لنعم الله وغمط آياديه.

ثم اخبر انه " اذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا " قيل: إن هذه الآية نزلت في المهاجرين الذين أخرجهم أهل مكة من أوطانهم، فلما قووا، أمره الله بالجهاد، وبين أنه أذن لهم في قتال من ظلمهم واخرجهم من أوطانهم.

ومعنى " بأنهم ظلموا " أي من أجل أنهم ظلموا.

ثم أخبر أنه " على نصرهم لقدير " ومعناه انه سينصرهم.

قال الجبائي: لا فائدة له الا هذا المعنى.

[321]

وهذه الآية اول آية نزلت في الامر بالقتال.

ثم بين حالهم فقال " الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق " بل ظلما محضا " الا أن يقولوا ربنا الله " والمعنى الا أن يقولوا الحق، فكأنه قال الذين أخرجوا بغير حق، الا الحق الذي هو قولهم ربنا الله.

وقال سيبويه (إلا) بمعنى (لكن) وتقديره لكنهم يقولون: ربنا الله، فهو استثناء منقطع، وهو كقولك ما غضبت علي إلا أني منصف، وما تبغض فلانا إلا أنه يقول الحق، أي جعلت ذلك ذنبه.

وقال الفراء: تقديره إلا بأن يقولوا، فتكون (أن) في موضع الجر.

ثم قال " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع " في أيام شريعة موسى " وبيع " في ايام شريعة عيسى " ومساجد " في ايام شريعة محمد صلى الله عليه وآله - في قول الزجاج - وقال مجاهد: صوامع الرهبان، وبيع النصارى، وهو قول قتادة. وعن مجاهد ايضا ان البيع كنائس اليهود.

وقال الضحاك: الصلوات كنائس اليهود يسمونها صلوتا.

وقيل مواضع صلوات المسلمين مما في منازلهم.

وقيل: الصلوات أراد والظاهر انه أراد نفس الصلاة لا يقر بها سكران.

وقيل تقديره: وتركت صلوات - ذكره الاخفش - وقوله " يذكر فيها اسم الله كثيرا " يعني في المساجد والمواضع التي ذكرها.

ثم قال " ولينصرن الله من ينصره " أي من نصر أولياء الله، ودفع عنهم فان الله ينصره، ويدفع عنه.

ويجوز أن يكون المراد: من ينصر دين الله ويذب عنه فان الله ينصره " إن الله لقوي عزيز " أي قادر قاهر، لا ينال أحد منه مالا يريده،

___________________________________

(1) سورة 4 النساء آية 42

[322]

ولا يتعذر عليه من يريد ضره.

وقال الحسن: إن الله يدفع عن هدم مصليات أهل الذمة بالمؤمنين.

وقرأ عاصم الجحدري " وصلوت " بالتاء - في رواية هارون - وقال غيره: صلوت بالتاء والصاد واللام مضمومتان، وقال: هي مسجاد للنصارى.

وقرأ الضحاك (صلوث) بثلاث نقط، وقال: هي مساجد اليهود. وهذه شواذ لا يقرأ بها، ولايعرف لها في اللغة اصل.

قوله تعالى: (ألذين إن مكناهم في الارض أقاموا الصلوة وآتوا الزكوة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الامور(41) وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود(42) وقوم إبراهيم وقوم لوط(43) وأصحاب مدين وكذب موسى فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير(44) فكاين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد(45))

خمس آيات في الكوفي والمدنيين.

وفي الباقي أربع آيات. قرأ ابوعمرو وحده " أهلكتها " بالتاء.

لقوله في الآية التي فيما بعد (فأمليت) الباقون (اهلكناها) بالنون.

يقول الله تعالى (الذين ان مكناهم في الارض) ف‍ (الذين) صفه من تقدم ذكره من المهاجرين في سبيل الله، وموضعه النصب، وتقديره (لينصرن الله من ينصره... الذين ان مكناهم) ومعناه أعطيناهم كل ما لا يصح الفعل إلا معه، لان

[323]

التمكين إعطاء ما يصح معه الفعل، فان كان هذا الفعل لا يصح إلا بآلة، فالتمكين باعطاء تلك الآلة لمن فيه القدرة، وكذلك ان كان لايصح الفعل إلا بعلم، ونصب دلالة، وصحة سلامة، ولطف وغير ذلك، فاعطاء جميع ذلك واجب.

وإن كان الفعل يكفي - في صحة وجوده - مجرد القدرة، فخلق القدرة هو التمكين. ثم وصفهم. فقال: هؤلاء الذين هاجرو في سبيل الله، (إن مكناهم في الارض أقاموا الصلاة) يعني ادوها بحقوقها، وقيل: معناه داموا عليها (وآتوا الزكاة) أي واعطوا ما افترض الله عليهم في أموالهم من الزكوات وغيرها (وامروا بالمعروف ونهوا عن المنكر). وفي ذلك دلالة على أن الامر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب، لان ما رغب الله فيه، فقد اراده، وكل ما أراده من العبد، فهو واجب إلا أن يقوم دليل على ذلك انه نفل، لان الاحتياط يقتضي ذلك.

و (المعروف) هو الحق، وسمي معروفا لانه تعرف صحته. وسمي المنكر منكرا، لانه لايمكن معرفة صحته.

وقوله " ولله عاقبة الامور " معناه تصير جميع الاملاك لله تعالى، لبطلان كل ملك سوي ملكه.

ثم قال لنبيه صلى الله عليه وآله مسليا له عن تكذيب قومه له وقلة قبولهم منه: " وان يكذبوك " يا محمد في ماتدعيه من النبوة " فقد كذبت قبلهم قوم نوح " نوحا، وكذبت قوم " عاد " هودا وقوم " ثمود " صالحا " وقوم أبراهيم " ابراهيم " وقوم لوط " لوطا " واصحاب مدين " شعيبا " وكذب " اصحاب موسى " موسى " وانما قال " وكذب موسى " ولم يقل وقوم موسى، لان قومه بني اسرائيل، وكانوا آمنوا به وإنما كذبه قوم فرعون " فامليت للكافرين " اي أخرت عقابهم وحلمت عنهم " ثم أخذتهم " فاستاصلتهم بانواع الهلاك " فيكف كان نكير " أي عذابي لهم، وانما اقتصر على ذكر أقوام بعض الانبياء، ولم يسم أنبياء‌هم، لدلالة الكلام عليه.

ثم قال تعالى " وكأين من قرية " معناه وكم من أهل قرية " اهلكناها " لما

[324]

استحقوا الاهلاك في حال كونها " ظالمة " لنفسها " فهي خاوية على عروشها " أي اهلكناها في حال كونها ظالمة لنفسها حتى تهدمت الحيطان على السقوف. وقال الضحاك على عروشها سقوفها.

وقوله " وبئر معطلة وقصر مشيد " معناه وكم من بئر معطلة أي لا أهل لهاء والتعطيل ابطال العمل بالشئ ولذلك قيل للدهري: معطل، لانه، أبطل العمل بالعلم على مقتضى الحكمة. ويقال: خوت الدار خواء، ممدود وهي خاوية، وخوى جوف الانسان من الطعام خوى، مقصور، وهو خاو.

وقيل في خفض " وبئر معطلة وقصر مشيد " قولان: احدهما - بالعطف على قرية، فيكون المعنى إهلاكا كالقرية. والثاني - بالعطف على العروش، فيكون المعنى ان بها البئر المعطلة والقصر المشيد.

ومعنى وقصر مشيد أي مجصص، والشيد الجص - في قول عكرمة ومجاهد - وقال قتادة: معناه رفيع، وهو المرفوع بالشيد.

وقال عدي بن زيد:

شاده مرمرا وجلله كا *** سا فللطير في ذراه وكور(1)

وقال امرؤ القيس:

وتيماء لم يترك بها جذع نخلة *** ولا أجما إلا مشيدا بجندل(2)

وقال آخر: كحية الماء بين الطين والشيد(3)

___________________________________

(1) شرح ديوان امرئ القيس (اخبار المراقسة) 360 وتفسير القرطبى 12 / 74 والطبري 17 / 116 واللسان (شيد).

(2) شرح ديوانه: 157 وروايته (أطما) بدل (أجما).

(3) تفسير الطبري 17 / 116 والقرطبي 12 / 74 وتمامه:

لاتحسبين وان كنت امرء‌ا غمرا *** كحية الماء بين الطين والشيد

[325]

ويقال شدته أشيده إذا زينته.

وقال الكلبي قصر مشيد: معناه حصين.

وقيل: ان البئر والقصر معروفان باليمين.

وفي تفسير أهل البيت إن معنى " وبئر معطلة " أي ولكم من عالم لا يرجع اليه، ولا ينتفع بعلمه، ولا يلتفت اليه.

ومعنى الآية: أفلم يسيروا في الارض فينظروا إلى آثار قوم أهلكهم الله بكفرهم وأبادهم بمعصيتهم، ليروا من تلك الاثار بيوتا خاوية، قد سقطت على عروشها، وبئر الشرب قد باد أهلها وعطل رساوها وغار معينها وقصرا مشيدا مزينا بالجص، قد خلا من السكن، وتداعي بالخراب، فيتعظوا بذلك، ويخافوا من عقوبة الله، وبأسه الذي نزل بهم.

قوله تعالى: (أفلم يسيروا في الارض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فانها لا تعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور(46) ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يوما عند ربك كالف سنة مما تعدون(47) وكاين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير(48) قل يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين(49) فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم(50))

خمس آيات بلاخلاف.

[326]

قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي " مما يعدون " بالياء، على الخبرعن الكفار. الباقون بالتاء، على الخطاب.

لما اخبر الله تعالى عن اهلاك الامم الماضية جزاء على كفرهم ومعاصيهم، نبه الذين يرتابون بذلك.

فقال " أفلم يسيروا في الارض فتكون لهم قلوب يعقلون بها " إذا شاهدوا آثار ما أخبرنا به، وسمعوا صحة ما ذكرناه عمن أخبرهم بصحته من الذين عرفوا أخبار الماضين. وفيها دلالة على أن العقل هو العلم، لان معنى (يعقلون بها) يعلمون بها مدلول ما يرون من العبرة. وفيها دلالة على أن القلب محل العقل والعلوم، لانه تعالى وصفها بأنها هي التي تذهب عن إدراك الحق، فلولا أن التبيين يصح أن يحصل فيها * لما وصفها بأنها تعمى، كما لا يصح أن يصف اليد والرجل بذلك.

والهاء في (انها لا تعمى) هاء عماد، وهو الاضمار على شروط التفسير، وانما جاز أن يقول: ولكن تعمى القلوب التي في الصدور، للتأكيد لئلا يتوهم بالذهاب إلى غير معنى القلب، لانه قد يذهب إلى ان فيه اشتراكا كقلب النخلة، فاذا قيل هكذا كان أنفى للبس بتجويز الاشتراك واما قوله (يقولون بافواههم ما ليس في قلوبهم)(1) فلان القول قد يكون بغير الفم.

والمعنى في الآية ان الابصار وإن كانت عميا، فلا تكون في الحقيقة كذلك، اذا كان عارفا بالحق. وانما يكون العمى عمى القلب الذي يجحد معه معرفة الله ووحدانيته.

ثم قال (ويستعجلونك) يا محمد (بالعذاب) أن ينزل عليهم، ويستبطؤنه، وان الله لايخلف ما يوعد به (وان يوما عند ربك كالف سنة مما تعدون) قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة: يوم من أيام الآخرة، يكون كألف سنة من ايام الدنيا.

وقال ابن زيد، وفى رواية اخرى عن ابن عباس: انه أراد يوما من الايام التي خلق الله فيها السموات والارض.

___________________________________

(1) سورة 3 آل عمران آية 167

[327]

والمعنى (وان يوما عند ربك) من ايام العذاب، في الثقل والاستطالة (كألف سنة مما تعدون) في الدنيا، فكيف يستعجلونك بالعذاب لولا جهلهم، وهو كقولهم: ايام الهموم طوال، وايام السرور قصار.

قال الشاعر:

يطول اليوم لا القاك فيه *** ويوم نلتقي فيه قصير(1)

وأنشد ابوزيد:

تطاولن أيام معن بنا *** فيوم كشهرين اذ يستهل(2)

وقال جرير: ويوم كأبهام الحبارى لهوته(3) وقيل " وان يوما عند ربك كالف سنة مما تعدون " في طول الامهال للعباد لصلاح من يصلح منهم، أو من نسلهم، فكأنه ألف سنة لطوال الاناة.

وقيل (وان يوما عند ربك كالف سنة مما تعدون) في مقدار العذاب في ذلك اليوم، أي انه لشدته وعظمه كمقدار عذاب ألف سنة من ايام الدنيا على الحقيقة. وكذلك نعيم الجنة، لانه يكون في مقدار يوم السرور والنعيم مثل ما يكون في الف سنة من أيام الدنيا لو بقي ينعم ويلتذ فيها.

ثم قال تعالى (وكم من قرية أمليت لها) فلاملاء والاملال والتأخير نظائر (وهي ظالمة) اي مستحقة لتعجيل العقاب، لكن اخذتها وأهلكتها والي المصير،

___________________________________

(1) هذا البيت ساقط من المطبوعة.

(2) هو في مجمع البيان 4 / 90.

(3) وفي المخطوطة (ويوم كأبهام الحبارى لطوله) ولم اجده في ديوان جرير وانما يوجد ابيات تشبه هذا وهي:

ويوم كابهام القطاء مزين *** إلى صاه غالب لي باطله

لهوت بجني عليه سموطه *** وإنس مجاليه وانس شمائله

[328]

لكل أحد، بأن يزول ملك كل مالك ملك شيئا في دار الدنيا.

ثم قال لنبيه (قل يا أيها لناس انما أنا لكم نذير مبين) اي مخوف من معاصي الله بعقابه، مبين لكم ما يجب عليكم فعله، وما يجب عليكم تجنبه (فالذين آمنوا) اي صدقوا بالله واقروا برسله (لهم مغفرة) من الله تعالى لمعاصيهم ولهم (رزق كريم) اي مع اكرامهم بالثواب الذي لا يقاربه تعظيم وتبجيل.

الآية: 51 - 78

قوله تعالى: (والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك أصحاب الجحيم(51) وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم(52) ليجعل مايلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد(53) وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم(54) ولايزال الذين كفروا في مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم(55))

خمس آيات بلا خلاف.

[329]

قرأ ابن كثير وابوعمرو (معجزين) بالتشديد، بمعنى مثبطين ومبطئن، وهو قول مجاهد. الباقون (معاجزين) بالالف.

قال قتادة: معناه مشاقين معاندين.

يقول الله تعالى ان (الذين سعوا في آيات الله معجزين) ومعناه إن الذين يعجزون المؤمنين في قبول هذه الآيات اي يعجزونهم عن اقامتها بجحدهم تدبير الله (عزوجل) لها. ويحتمل ان يكون معناه يعجزونهم عن تصحيحها. والسعي الاسراع في المشي، ومن قوله (يا ايها الذين آمنوا اذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع)(1) وسعى يسعى سعيا، فهو ساع، وجمعه سعاة، واستسعاه في الامر استسعاء.

وقال قتادد: ظنوا انهم يعجزون الله أي يفوتونه وأن يعجزوه.

وقال مجاهد: معناه مبطئين عن اتباع آيات الله.

ومن قرأ (معاجزين) اراد انهم يجادلون عجز الغالب.

ومن قرأ (معجزين) بالتشديد اراد طلب اظهار العجز.

وقال ابن عباس: معنى (معاجزين) مشاقين.

وقيل معنى (معجزين) مسابقين، يقال: اعجزني الشئ بمعني سبقني وفاتني.

وقال ابوعلي: معاجزين ظانين ومعتقدين انهم يفوتونا، لانكارهم البعث.

ومعجزين أي ينسبون من اتبع النبي صلى الله عليه وآله إلى العجز.

وقال مجاهد: معناه مثبطين للناس عن النبي صلى الله عليه وآله واتباعه.

وقوله " أولئك أصحاب الجحيم " معناه الذين يسعون في آيات الله طالبين إظهار عجزه ان لهم عذاب الجحيم، وهم ملازمون لها.

وقوله " وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته " روي عن ابن عباس وسعيد بن جبير والضحاك ومحمد بن كعب ومحمد ابن قيس: انهم قالوا: كان سبب نزول الآية انه لما تلى النبي صلى الله عليه وآله " افرأيتم اللات

___________________________________

(1) سورة الجمعة آية 9

[330]

والعزى ومنوة الثالثة الاخرى "(1) القى الشيطان في تلاوته (تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى) ومعنى الآية التسلية للنبي صلى الله عليه وآله وانه لم يبعث الله نبيا، ولا رسولا إلا اذا تمنى - يعني تلا - القى الشيطان في تلاوته بما يحاول تعطيله، فيرفع الله ما القاه بمحكم آياته.

وقال المؤرج: الامنية الفكرة، بلغة قريش.

وقال مجاهد: كان النبي صلى الله عليه وآله إذا تأخر عنه الوحي تمنى أن ينزل عليه فيلقي الشيطان في أمنيته، فينسخ الله ما يلقي الشيطان ويحكم آياته.

وقال ابوعلي الجبائي: انما كان يغلط في القراء‌ة سهوا فيها، وذلك جائز على النبي، لانه سهو لايعرى منه بشر، ولايلبث ان ينبهه الله تعالى عليه.

وقال غيره: إنماقال ذلك في تلاوته بعض المنافقين عن اغواء الشياطين، وأوهم أنه من القرآن.

وقال الحسن: انما قال: هي عند الله كالغرانيق العلى، يعني الملائكة في قولكم، وإن شفاعتهن لترتجى في اعتقادكم.

والتمني في الآية معناه التلاوة، قال الشاعر:

تمنى كتاب الله أول ليلة *** وآخره لاقى حمام المقادر(2)

وقال الجبائي: انما سها النبي صلى الله عليه وآله في القراء‌ة نفسها. فأما الرواية بأنه قرأ تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى، فلا أصل لها، لان مثله لا يغلط على طريق السهو، وانما يغلط في المتشابه.

وقوله " فينسخ الله ما يلقي الشيطان " أي يزيل الله ما يلقيه الشيطان من الشبهة " ثم يحكم الله آياته " حتى لا يتطرق عليها ما يشعثها.

وقال البلخي: ويجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وآله سمع هاتين الكلمتين من قومه وحفظهما فلما قرأ النبي صلى الله عليه وآله وسوس بهما اليه الشيطان، وألقاهما في فكره، فكاد أن يجريهما على لسانه، فعصمه الله، ونبهه، ونسخ وسواس الشيطان، وأحكم آياته، بأن قرأها النبي صلى الله عليه وآله محكمة سليمة مما أراد الشيطان.

___________________________________

(1) سورة 53 النجم آية 19 - 20.

(2) مر هذا البيت في 1 / 319

[331]

ويحوز أن يكون النبي صلى الله عليه وآله حين اجتمع اليه القوم، واقترحوا عليه أن يترك ذكر آلهتهم بالسوء، أقبل عليهم يعظهم ويدعوهم إلى الله، فلما انتهى رسول الله إلى ذكر اللات والعزى.

قال الشيطان هاتين الكلمتين رافعا بها صوته، فالقاهما في تلاوته في غمار من القوم وكثرة لغطهم، فظن الكفار ان ذلك من قول النبي، فسجدوا عند ذلك.

وقوله " والله عليم حكيم " معناه إنه عالم بجيمع المعلومات، واضع الاشياء مواضعها. والآية تدل على أن كل رسول نبي، لانه تعالى ذكر انه أرسلهم، وانما قال من رسول ولانبي، لاختلاف المعنيين، لان الرسول يفيد أن الله أرسله، والنبي يفيد أنه عظيم المنزلة يخبر عن الله.

وقد قال بعض المفسرين: إن المراد بالتمني في الآية تمني القلب، والمعنى انه ما من نبي ولا رسول إلا وهو يتمنى بقلبه ما يقربه إلى الله من طاعاته، وإن الشيطان يلقي في أمنيته بوسوسته واغوائه ما ينافي ذلك، فينسخ الله ذلك عن قلبه بأن يلطف له ما يختار عنده ترك ما اغواه به.

وقوله " ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض " بيان من الله تعالى أنه يجعل ما يلقيه الشيطان من الامنية فتنة، فمعنى (ليجعل) يحتمل امرين: احدهما - الحكم والتسمية، كما تقول جعلت حسني قبيحا، ويكون المراد انه ينسخ ما يلقي الشيطان طلبا للفتنة والاغواء. والثاني - انه أراد ليجعل نسخ ما يلقي الشيطان فتنة، لان نفس فعل الشيطان لا يجعله الله فتنة، لان ذلك قبيح، والله تعالى منزه عن القبائح اجمع، فمعنى الفتنة في الآية المحنة، وتغليظ التكليف " للذين في قلوبهم مرض " أي شك ونفاق وقلة معرفة " والقاسية قلوبهم " يعني من قسى قلبه عن اتباع الحق. وقيل: هم الظالمون.

ثم اخبر تعالى " إن الظالمين " لنفوسهم " لفي شقاق بعيد " أي مشاقة

[332]

بعيدة من الله تعالى، وبين انه يفعل ذلك " ليعلم الذين أوتوا العلم " بالله وصفته وأن أفعاله صواب " انه الحق من ربك " فيصدقوا به " فتخبت له قلوبهم " أي تطمئن اليه وتسكن. وبين ان الله تعالى يهدي من يؤمن إلى صراط مستقيم، بأن يلطف له ما يعلم انه يهتدي عنده " إلى صراط مستقيم ".

ثم قال " ولا يزال الذين كفروا في مرية منه " يعني من القرآن. ومعناه الاخبار عمن علم الله تعالى من الكفار انهم لا يؤمنون بالآية خاصة. وهو قول ابن جريج إلا أن (تأتيهم الساعة) يعني القيامة (بغتة) أي فجأة، وعلى غفلة (أو يأتيهم عذاب يوم عقيم) قال الضحاك: هو عذاب يوم القيامة.

وقال مجاهد وقتادة: هو عذاب يوم بدر.

وقيل معنى (عقيم) أي لا مثل له في عظم امره لقتال الملائكة قال الشاعر:

عقم النساء بأن يلدن شبيهه *** إن النساء بمثله لعقيم(1)

___________________________________

(1) البيت في مجمع البيان 4 / 92

[333]

قوله تعالى: (الملك يومئذ لله يحكم بينهم فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم(56) والذين كفروا وكذبوا بآياتنا فاولئك لهم عذاب مهين(57) والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا وإن الله لهو خير الرازقين(58) ليدخلنهم مدخلا يرضونه وإن الله لعليم حليم(59) ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله إن الله لعفو غفور(60))

خمس آيات بلا خلاف.

قرأ ابن عامر " ثم قتلوا " بالتشديد. الباقون بالتخفيف. من شدد أراد التكثير. ومن خفف، فلانه يحتمل القليل والكثير.

يقول الله تعالى إن الملك في اليوم الذي وصفه بأنه " عقيم " وانه لامثل له في عظم الاهوال، فيه الملك لله تعالى وحده. لاملك لاحد معه. وانما خص ذلك به، لان في الدنيا قد ملك الله تعالى أقواما أشياء كثيرة. والملك اتساع المقدور لمن له تدبير الامور، فالله تعالى يملك الامور لنفسه، وكل مالك سواه، فانما هو مملك له بحكمه، اما بدليل السمع او بدليل العقل.

وقوله (يحكم بينهم) أي يفصل في ذلك اليوم بين الخلائق، وينصف بينهم في الحكم، والحكم الخبر بالمعنى الذي تدعو اليه الحكمة، ولهذا قيل: الحكم له، لان كل حاكم غيره، فانما يحكم باذنه واعلام من جهته إما من جهة العقل او جهة السمع.

ثم اخبر تعالى ان (الذين آمنوا) اي صدقوا بواحدنيته، وصدقوا أنبياء‌ه (وعملوا الصالحات) التي أمر الله بها انهم (في جنات النعيم) منعمين فيها.

(وإن الذين كفروا) اي جحدوا ذلك (وكذبوا) بآيات الله، فان لهم عذابا مهينا، يهينهم ويذلهم. والهوان الاذلال بتصغير القدر، ومثله الاستخفاف والاحتقار، أهانه يهينه إهانة فهو مهان مذلل.

وقيل نزلت الآية في قوم من المشركين أتوا جماعة من المسلمين، فقاتلوهم في الاشهر الحرم بعد ان نهاهم المسلمون عن ذلك، فأبوا، فنصروا عليهم.

وقيل إن النبي صلى الله عليه وآله عاقب بعض المشركين لما مثلوا بقوم من اصحابه يوم أحد.

[334]

وقوله (والذين هاجروا في سبيل الله) يعني الذين خرجوا من ديارهم واوطانهم بغضا للمشركين الذين كانوا يؤذونهم بمكة (ثم قتلوا او ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا) يعني الجنة (وان الله لهو خيرا الرازقين) ثم اقسم تعالى انه ليدخلن هؤلاء المهاجرين في سبيل الله الذين قتلوا (ليدخلنهم مدخلا يرضونه) ويؤثرونه يعني الجنة، وما فيها من انواع النعيم.

وقرأ نافع " مدخلا " بفتح الميم، يريد المصدر او اسم المكان، وتقديره: ليدخلنهم فيدخلون مدخلا يرضونه أو مكانا يرضونه. والباقون بضم الميم وهو الاجود، لانه من ادخل يدخل مدخلا لقوله " وأدخلني مدخل صدق "(1) وإن الله لعليم بأحوالهم، حليم عن معاجلة الكفار بالعقوبة.

وقوله " ذلك ومن عاقت بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله " قيل نزلت في قوم من المشركين لقوا جماعة من المسلمين فقاتلوهم في الاشهر الحرم بعد أن نهاهم المسلمون عن ذلك، فأبوا. فنصروا عليهم.

وقيل: إن النبي صلى الله عليه وآله عاقب بعض المشركين لما مثلوا بقوم من أصحابه يوم أحد، والاول لم يكن عقوبة، وإنما هو كقولهم الجزاء بالجزاء. والاول ليس بجزاء، وانما هو لازدواج الكلام.

___________________________________

(1) سورة 17 الاسرى آية 80

[335]

قوله تعالى: (ذلك بأن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وأن الله سميع بصير(61) ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير(62) ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الارض مخضرة إن الله لطيف خبير(63) له ما في السموات وما في الارض وإن الله لهو الغني الحميد(64) ألم تر أن الله سخر لكم ما في الارض والفلك تجري في البحر بأمره ويمسك السماء أن تقع على الارض إلا باذنه إن الله بالناس لرؤف رحيم(65))

خمس آيات بلا خلاف قرأ أهل العراق إلا ابا بكر " وإن ما يدعون " بالياء. الباقون بالتاء.

معنى ذلك ان " ذلك " الامر " بأن الله يولج الليل في النهار " أي يدخل الليل على النهار، والايلاج الادخال باكراه، ولج يلج ولوجا وأولج إيلاجا واتلج اتلاجا.

وانما قال يولج الليل في النهار - ههنا - لان ذلك يقتضي أن ذلك صادر من مقتدر لولاه لم يكن كذلك.

وقيل: معنى " يولج الليل في النهار " أن يدخل ما انتقص من ساعات الليل في النهار، وما انتقص من ساعات النهار في الليل.

ومعنى " وإن الله سميع بصير " - ههنا - أنه يسمع ما يقول عباده في هذا بصير به، لا يخفى عليه شئ منه حتى يجازي به.

وقوله " بأن الله هو الحق " وصفه بأنه الحق يحتمل أمرين: احدهما - انه ذو الحق في قوله وفعله. الثاني - انه الواحد في صفات التعظيم التي من اعتقدها، فهو محق، وقوله " وإن مايدعون من دونه هو الباطل " من قرأ بالتاء خاطب بذلك الكفار.

ومن قرأ بالياء أخبر عنهم بأن ما يدعونه من دون الله من الاصنام والاوثان هو الباطل، على الحقيقة " وإن الله هو العلي الكبير " فالعلي القادر الذي كل شئ سواه تحت معنى صفته، بأنه قادر عليه، ولا يجوز وصفه ب‍ (رفيع) على هذا المعنى،

[336]

لان صفة علي منقولة اليه، ولم تنقل صفة (رفيع) ووصفه بأنه الكبير، يفيد أن كل شئ سواه يصغر مقداره عن معنى صفته، لانه القادر الذي لا يعجزه شئ، العالم الذي لا يخفى عليه شئ.

وقوله " ألم تر " خطاب للنبي صلى الله عليه وآله والمراد به جميع المكلفين يقول الله لهم ألم تعلموا " أن الله أنزل من السماء ماء " يعني غيثا ومطرا " فتصبح الارض " بذلك " مخضرة " بالنبات " ان الله لطيف خبير " فاللطيف معناه أنه المختص بدقيق التدبير الذي لايخفى عنه شئ ولايتعذر عليه، فهو لطيف باستخراج النبات من الارض بالماء، وابتداع ما يشاء " خبير " بما يحدث عنه وما يصلح له.

وقوله " فتصبح الارض " انما رفع (فتصبح) لانه لم يجعله جوابا للاستفهام، لان الظاهر وإن كان الاستفهام فالمراد به الخبر، كأنه قال: قد رأيت أن الله ينزل من السماء ماء، فتصبح الارض مخضرة، إلا انه نبه على ما كان رآه ليتأمل ما فيه قال الشاعر:

ألم تسأل الربع القواء فينطق *** وهل يخبرنك اليوم بيدا سملق(1)

لان المعنى قد سألته فنطق.

ثم أخبر تعالى أن " له " ملك " ما في السماوات وما في الارض " لاملك لاحد فيه. ومعناه إن له التصرف في جميع ذلك لا اعتراض عليه.

وأخبر " إن الله هو الغني الحميد " فالغني هو الحي الذي ليس بمحتاج، فهو تعالى المختص بأنه لو بطل كل شئ سواه لم تبطل نفسه القادرة العالمة. الذي لا يجوز عليه الحاجة بوجه من الوجوه، وكل شئ سواه يحتاج اليه، لانه لولاه لبطل، لانه لا يخلو من مقدوره أو مقدور مقدوره.

و (الحميد) معناه الذي يستحق الحمد على أفعاله، وهو بمعنى انه محمود.

___________________________________

(1) تفسير الطبري 17 / 134

[337]

ثم قال " ألم تر " يا محمد والمراد جميع المكلفين " ان الله سخر لكم ما في الارض " من الجماد والحيوان اي قد ذلله لكم، تتصرفون فيه كيف شئتم، وينقاد لكم، على ما تؤثرونه. وان الفلك تجري في البحر بأمر الله اي بفعل الله، لانها تسير بالريح، وهو تعالى المجري لها و (يمسك السماء أن تقع على الارض) أي يمنعها من الوقوع على الارض، ولا يقدر على إمساكها أحد سواه مع عظمها وثقلها " الا باذنه " اي لا تقع السماء على الارض إلا اذا أذن الله في ذلك بأن يريد ابطالها واعدامها.

ومعنى (أن تقع) ألا تقع. وقيل معناه كراهية أن تقع.

ثم أخبر انه تعالى (بالناس) لرؤف رحيم) أي متعطف منعم عليهم.

قوله تعالى: (وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم إن الانسان لكفور(66) لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعنك في الامر وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم(67) وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون(68) ألله يحكم بينكم يوم القيمة فيما كنتم فيه تختلفون(69) ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والارض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير(70))

خمس آيات بلا خلاف.

لما ذكر الله تعالى انه الذي سخر للخلق ما في الارض من الحيوان وذللها لهم واجرى

[338]

الفلك في البحر، كنا عنه بأن قال " وهو الذي أحياكم " ايضا بعد ان لم تكونوا كذلك، يقال أحياه الله، فهو محي له " ثم يميتكم " بعد هذا الاحياء " ثم يحييكم " يوم القيامة للحساب إما إلى الجنة، وإما إلى النار ثم اخبر عن الانسان بانه (كفور) أي جحود لنعم الله بما فعل به من انواع النعم، وجحوده ما ظهر من الآيات الدالة على الحق في كونه قادرا على الاحياء والاماتة.

والاحياء بعدها، لا يعجزه شئ من ذلك. ثم اخبر تعالى أن " لكل أمة منسكا " أي مذهبا " هم ناسكوه " أي يلزمهم العمل به.

وقيل: المنسك جميع العبادات التي أمر الله بها.

وقيل: المنسك الموضع المعتاد لعمل خير او شر، وهو المألف لذلك.

ومناسك الحج من هذا، لانها مواضع العبادات فيه، فهي متعبدات الحج.

وفيه لغتان فتح السين، وكسرها.

وقال ابن عباس " منسكا " اي عيدا.

وقال مجاهد وقتادة: متعبدا في إراقة الدم بمنى، وغيرها.

وقوله " فلا ينازعنك في الامر " لانهم كانوا يقولون " أتأكلون ما قتلتم، ولا تأكلون الميتة التى قتلها الله.

وقيل: لا ينازعنك في الامر " نهي لهم عن منازعة النبي صلى الله عليه وآله وقيل: نهي له لان المنازعة تكون من اثنين، فاذا وجه النهي إلى من ينازعه، فقد وجه اليه.

وقرئ " فلا ينزعنك " والمعنى لا يغلبنك على الامر.

ثم قال لنبيه صلى الله عليه وآله " وادع إلى ربك " يا محمد " انك لعلى هدى مستقيم " أي على طريق واضح.

ثم قال " وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون " معناه إن جادلوك على وجه المراء والتعنت الذي يعمله السفهاء، فلا تجادلهم على هذا الوجه، وادفعهم بهذا القول.

وقل " الله أعلم بما تعملون " وهذا أدب من الله حسن، ينبغي أن يأخذ به كل احد " الله يحكم بينكم " أي يفصل بينكم " يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون " من توحيد الله وصفاته واخلاص عبادته، وألا نشرك به غيره.

[339]

ثم قال لنبيه صلى الله عليه وآله " ألم تعلم " والمراد به جميع المكلفين " أن الله يعلم ما في السماء والارض " من قليل وكثير، لا يخفى عليه شئ من ذلك " إن ذلك في كتاب " يعني مثبتا في اللوح المحفوظ الذي أطلع عليه ملائكته " ان ذلك على الله يسير " أي سهل غير متعذر.

قوله تعالى: (ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا وما ليس لهم به علم وما للظالمين من نصير(71) وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا قل أفانبئكم بشر من ذلكم النار وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير(72) يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب(73) ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز(74) الله يصطفي من الملئكة رسلا ومن الناس إن الله سمعيع يصير(75))

خمس آيات بلا خلاف.

يقول الله تعالى مخبرا عن حال الكفار الذين يعبدون مع الله الاصنام، والاثان:

[340]

انهم " يعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا " أي لا حجة ولا برهانا، وإنما قيل للبرهان سلطان، لانه يتسلط على انكار المنكر، فكل محق في مذهبه، فله برهان يتسلط به على الانكار لمذهب خصمه.

وقوله " وما ليس لهم به علم " معناه ولا هو معلوم لهم ايضا من جهة الدلالة، لان الانسان قد يعلم صحة أشياء يعمل بها من غير برهان أدى اليها كعلمه بوجوب شكر المنعم، ووجوب رد الوديعة، ومدح الحسن وذم المسئ، وغير ذلك، مما يعلمه بكمال عقله، وإن لم يكن معلوما بحجة، فلذلك قال " وما ليس لهم به علم ".

ثم اخبر انه ليس " للظالمين " أنفسهم بارتكاب المعاصي وترك المعرفة بالله من ينصرهم ويدفع عنهم عذاب الله إذا نزل بهم.

ثم اخبر تعالى عن حال الكفار وشدة عنادهم، فقال " واذا تتلى عليهم آياتنا " يعني من القرآن وغيره من حجج الله تعالى الظاهرات البينات " تعرف " يا محمد " في وجوه الذين كفروا " بنعم الله، وجحدوا ربوبيته " المنكر " من القول " يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا " فالسطوة اظهار الحال الهائلة للاخافة، يقال: سطا عليه سطوة وسطوا وسطا به ايضا فهو ساط. والانسان مسطو به.

والانسان يخاف سطوات الله ونقماته.

والسطوة والاستطالة والبطشة نظائر في اللغة.

والمعنى إن هؤلاء الكفار إذا سمعوا آيات الله تتلى عليهم، قاربوا أن يوقعوا بمن يتلوها المكروه.

ثم قال لنبيه صلى الله عليه وآله " قل " يا محمد " أفأنبؤكم بشر من ذلكم " أي بشر من اعتدائكم على التالي لآيات الله.

وقيل: بشر عليكم مما يلحق التالي منهم.

ثم ابتدأ فقال " النار وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير " وقيل التقدير كان قائلا قال ما ذلك الشر؟ فقيل " النار وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير " اي بئس

[341]

الموضع، وكان يجوز في (النار) الجر على البدل من (ذلكم) لانه في موضع جر ب‍ (من) وكان يجوز النصب بمعنى أعرفكم شرا من ذلكم النار، والذي عليه القراء الرفع.

ثم اخبر تعالى عن النار بأن الله وعدها الذين كفروا وبئس المرجع.

ثم خاطب جميع المكلفين من الناس، فقال " يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له " يعني ضرب مثل، جعل، كقولهم ضرب على أهل الذمة الجزية، لانه كالتثبيت شبهه بالضرب المعروف، وكذلك الضربة.

والمثل: شبه حال الثاني بالاولى في الذكر الذي صار كالعلم. ومن حكم المثل أن لا يتغير، لانه صار كالعلم. كقولهم " أطري انك فاعلة ".

ثم قال " ان الذين تدعون من دون الله " قرأ يعقوب بالياء على الخبر الباقون بالتاء على الخطاب، كقوله " يا أيها الناس ".

والذي عبدوه من دون الله الاصنام والاوثان " لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له " على ذلك وعاون بعضهم بعضا مع صغر الذباب، فكيف بالعظيم من الاشياء.

ثم زاد في ضرب المثل، فقال " وإن يسلبهم الذباب شيئا... " يعني هؤلاء الكفار، ومن جرى مجراهم لو سلبهم الذباب شيئا وطار، لما قدروا على استنقاذه منه وتخليصه من يديه.

ثم اخبر تعالى بانه " ضعف الطالب " يعني من الاوثان " والمطلوب " من الذباب - وهو قول ابن عباس - ولم يأت بالمثل، لان في الكلام دلالة عليه، كأنه قال يا أيها الناس مثلكم مثل من عبد آلهة اجتمعت لان تخلق ذبابا، فلم يقدروا عليه، وإن يسلبها الذباب شيئا، فلم تستنقذه منه.

ومثل ذلك في الحذف قول امرئ القيس:

وجدك لو شئ اتانا رسوله *** سواك ولكن لم نجد عنك مدفعا(1)

وتقديره لو أتانا رسول غيرك لرددناه وفعلنا به، ولكن لم نجد عنك مدفعا، فاختصر لدلالة الكلام عليه.

___________________________________

(1) شرح ديوانه 131 وقد مر في 5 / 529 و 6 / 253 مع اختلاف يسير

[342]

وقال قوم: اراد أن الكافرين جعلوا لي الامثال من الاصنام التي عبدوها فاستمعوا لما ضرب لي من الامثال. ثم أخبر عنها كيف هي، وكيف بعدها مما جعلوه مثلا، ويدل عليه قوله " ما قدروا الله حق قدره " واختلفوا في معنى " ما قدروا الله حق قدره " فقال الحسن: معناه ما عظموه حق عظمته، إذ جعلوا له شريكا في عبادته. وهو قول المبرد والفراء.

وقال قوم: معناه ما عرفوه حق معرفته.

وقال آخرون: ما وصفوه حق صفته. وهو مثل قول أبي عبيدة.

قال: يقول القائل: ما عرفت فلانا على معرفته، اي ما عظمته حق تعظيمه.

وفي ذلك دلالة على أن من جوز عبادة غير الله فهو كافر، وكذلك من جوز ان يكون المنعم - بخلق النفس، والبصر، والسمع، والعقل - غير الله، فهو كافر بالله.

ثم اخبر تعالى عن نفسه، فقال " ان الله لقوي " أي قادر على ما يصح ان يكون مقدورا " عزيز " لا يقدر احد على منعه.

ثم قال تعالى " الله يصطفى من الملائكة رسلا " أي يختار منهم من يصلح للرسالة " ومن الناس " أي ويختار من الناس ايضا مثل ذلك. وفى ذلك دلالة على انه ليس جميع الملائكة رسلا، لان (من) للتبعيض عند اهل اللغة، وكما ان الناس ليس جميعهم أنبياء فكذلك الملائكة.

وقوله " إن الله سميع بصير " أي يسمع جميع ما يدرك بالسمع من الاصوات ودعاء من يدعوه خالصا، ودعاء من يدعو على وجه الاشراك به بصير بأحوالهم.

[343]

قوله تعالى (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم وإلى الله ترجع الامور(76) يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون(77) وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتبيكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سميكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلوة وآتوا الزكوة واعتصموا بالله هو موليكم فنعم المولى ونعم النصير(78))

ثلاث آيات بلا خلاف

لما اخبر الله تعالى عن نفسه بأنه " سميع بصير " وصف أيضا نفسه بأنه " يعلم ما بين أيديهم " يعني ما بين أيدي الخلائق من القيامة وأحوالها، وما يكون في مستقبل أحوالهم، " وما خلفهم " أي ما يخلفونه من دنياهم.

وقال الحسن: يعلم مابين أيديهم: أول اعمالهم، وما خلفهم آخر أعمالهم " واليه ترجع الامور " يعني يوم القيامة ترجع جميع الامور إلى الله تعالى بعد ان كان ملكهم في دار الدنيا منها شيئا كثيرا.

ثم خاطب تعالى المؤمنين فقال " يا ايها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا " أي صلوا، على ما امرتكم به، من الركوع والسجود فيها (واعبدوا ربكم) الذي خلقكم ولا تشركوا به شيئا (وافعلوا الخير) والخير النفع الذي يجل موقعه، وتعم السلامة به، ونقيضه الشر، وقد أمر الله بفعل الخير، ففعله طاعة له.

وقوله (لعلكم تفلحون) أي افعلوا الخير لكي تفوزوا بثواب الجنة وتتخلصوا من عذاب النار. وقيل معناه افعلوه على رجاء الصلاح منكم بالدوام على افعال الخير واجتناب المعاصي والفوز بالثواب. ثم أمرهم بالجهاد فقال (وجاهدوا في الله حق جهاده) قال ابن عباس: معناه

[344]

جاهدوا المشركين، ولاتخافوا في الله لومة لائم، وقال الضحاك: معناه اعملوا بالحق لله حق العمل.

وقوله (هو اجتباكم) فالاجتبا هو اختيار الشئ لما فيه من الصلاح. وقيل: معناه اختاركم لدينه. وجهاد اعدائه، والحق يجتبى، والباطل يتقى، ولا بد أن يكون ذلك خطابا متوجها إلى من اختاره الله بفعل الطاعات، دون أن يكون ارتكب الكبائر الموبقات. وإن كل سبق منه جهاد في سبيل الله.

وقوله (وما جعل عليكم في الدين من حرج) معناه لم يجعل عليكم ضيقا في دينكم، ولا ما لا مخرج منه. وذلك أن منه ما يتخلص منه بالتوبة، ومنه ما يتخلص منه برد المظلمة، وليس في دين الاسلام ما لا سبيل إلى الخلاص من عقابه. وفيه من الدليل - كالذي في قوله (ولو شاء الله لاعنتكم)(1) - على فساد مذهب المجبرة في العدل. ومثله قوله (لايكلف الله نفسا إلا وسعها)(2) وقوله (ملة ابيكم ابراهيم) يحتمل نصب (ملة) وجهين: احدهما - اتبعوا (ملة أبيكم) وإلزموا، لان قبله (جاهدوا في الله حق جهاده) والاخر - كملة أبيكم إلا انه لما حذف حرف الجر اتصل الاسم بالفعل فنصب.

وقال الفراء: نصبه بتقدير: وسع ملتكم، كما وسع ملة أبيكم.

وقوله (ملة أبيكم ابراهيم) معناه انه يرجع جميعهم إلى ولادة ابراهيم، وافاد هذا ان حرمة ابراهيم على المسلمين كحرمة الوالد على الولد، كما قال (وازواجه امهاتهم)(3) - في قول الحسن.

وقوله " هو سماكم المسلمين " قال ابن عباس ومجاهد: الله سماكم المسلمين، فهو كناية عن الله.

وقال ابن زيد: هو كناية عن ابراهيم وتقديره ابراهيم سماكم المسلمين

___________________________________

(1) سورة 2 البقرة آية 220.

(2) سورة 2 البقرة آية 286.

(3) سورة 33 الاحزاب آية 6

[345]

بدليل قوله " ومن ذريتنا أمة مسلمة لك "(1).

وقوله " من قبل " اي من قبل القرآن. - في قول مجاهد - وقيل: ملة ابراهيم داخلة في ملة محمد صلى الله عليه وآله، فلذلك قال " ملة ابيكم ابراهيم هو سماكم المسلمين من قبل. وفي هذا " يعني القرآن.

وقال السدي: معناه: وفي هذا الاوان ليكون الرسول شهيدا عليكم بطاعة من أطاع في تبليغه، وعصيان من عصى " وتكونوا شهداء على الناس " بأعمالهم في ما بلغتوهم من كتاب بربهم وسنة نبيهم.

ثم أمرهم باقامة الصلاة، فقال " فاقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله " أي بدين الله الذي لطف به لعباده - في قول الحسن - وقيل: معناه امتنعوا بالله من أعدائكم " هومولاكم " أي أولى بكم، وبتدبيركم، وتصريفكم " فنعم " ما لككم " المولى " يعني الله " ونعم النصير " أي الناصر، والدافع عن الخلق الله تعالى.

وقيل: " نعم المولى " من لم يمنعكم الرزق لما عصيتموه " ونعم النصير " حين أعانكم لما أطعتموه. وروي أن الله أعطى هذه الامة ثلاث اشياء لم يعطها أحدا من الامم: جعلها الله شهيدا على الامم الماضية، وقال لهم " ماجعل عليكم في الدين من حرج "(2) وقال (ادعوني استجب لكم)(3).

___________________________________

(1) سورة 2 البقرة آية 128.

(2) سورة 22 الحج آية 78.

(3) سورة 40 المؤمن آية 60




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21398692

  • التاريخ : 18/04/2024 - 06:20

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net