00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة الكهف من ( آية 45 ـ آخر السورة )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : التبيان في تفسير القرآن ( الجزء السابع)   ||   تأليف : شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي

قوله تعالى: (واضرب لهم مثل الحيوة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات ألارض فاصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شئ مقتدرا(45) ألمال والبنون زينة الحيوة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا(46))

آيتان بلا خلاف.

أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله أن يضرب المثل للدنيا تزهيدا فيها، وترغيبا في الآخرة بأن قال: إن مثلها كمثل ماء أنزله الله من السماء " فاختلط به نبات الارض " أي نبت بذلك الماء المنزل من السماء نبات، فالتفت بعضه ببعض يرون حسنا وغضاضة.

ثم عاد (هشيما) أي مكسورا مفتتا " تذروه الرياح " فتنقله من موضع إلى موضع فانقلاب الدنيا بأهلها كانقلاب هذا النبات. ثم قال " وكان الله على كل شئ " اراده " مقتدرا " أي قادرا، لا يجوز عليه المنع منه. والتذرية تطيير الريح الاشياء الخفيفة على كل جهة، يقال: ذرته الريح تذروه ذروا، وذرته تذريه وأذرته اذراء قال الشاعر:

فقلت له صوب ولاتجهدنه *** فيذرك من أخرى القطاة فتزلق(1)

___________________________________

(1) تفسير القرطبى 10 / 413 وهو في مجمع البيان 3 / 470

[52]

وأذريت الرجل عن الدابة إذا ألقيته عنها، والهشيم النبات اليابس المتفتت.

وقال الحسن: معنى " وكان الله على كل شئ مقتدرا " أي كان قادرا ان يكونه قبل أن يكون، وقيل أن يكون. وهو اخبار عن الماضي ودلالة على المستقبل، وهذا المثل للمتكبرين الذين اغتروا بأموالهم، واستنكفوا من مجالسة فقراء المؤمنين، فأخبرهم الله أن ما كان من الدنيا لايراد به الله، فهو كالنبت الحسن على المطر لامادة له فهو يروق ما خالطه ذلك الماء، فاذا انقطع عنه عاد هشيما تذروه الرياح لا ينتفع به.

وقوله " المال والبنون زينة الحياة الدنيا " اخبار منه تعالى أن كثرة الاموال التي يتمولها الانسان ويملكها في الدنيا. والبنين الذين يرزقهم الله زينة الحياة الدنيا، أي جمال الدنيا وفخرها " والباقيات الصالحات " يعني الطاعات لله تعالى، لانه يبقى ثوابها أبدا، فهي خير من نفع منقطع لاعاقبة له، والباقبات يفرح بها ويدوم خيرها، وهي صالحات بدعاء الحكيم اليها وأمره بها.

وقال ابن عباس " الباقيات الصالحات " الطاعات لله.

وروي في أخبارنا أن من الباقيات الصالحات، والامور الثابتات: القيام بالليل لصلاة الليل. والامل الرجاء، ومعنى " خير أملا " أن الرجاء للعمل الصالح والامل له خير من الامل للعمل الطالح.

[53]

قوله تعالى: (ويوم نسير الجبال وترى الارض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا(47) وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا(48) ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لايغادر صغيرة ولاكبيرة إلا أحصيها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولايظلم ربك أحدا(49))

ثلاث آيات

قرأ ابن كثير وابن عامر وأبوعامر " تسير " لتأنيث الجبال ورفع الجبال، لانه اسم ما لم يسم فاعله، ولانه قال " وسيرت الجبال فكانت سرابا "(1)، ولان ابيا قرأ " ويوم سيرت الجبال، فاذا كان الماضي (سيرت) كان المضارع تسير.

الباقون " نسير " بالنون، اخبار من الله تعالى عن نفسه. ونصب الجبال وهو مفعول به ل‍ (نسير) وحجتهم قولهم " وحشرناهم فلم نغادر منهم احدا " ونصب " ويوم نسير " باضمار فعل، وتقديره واذكر يا محمد صلى الله عليه وآله يوم نسير الجبال.

وقوله " وترى الارض بارزة " أي ظاهرة فلا يتستر منها شئ، لان الجبال إذا سيرت عنها وصارت دكا ملساء ظهرت وبرزت.

وقيل " وترى الارض بارزة " أي يبرز ما فيها من الكنوز والاموات، فهو مثل قول النبي صلى الله عليه وآله (ترمي الارض بافلاذ كبدها) وأجاز بعض البصريين ان ينصب " ويوم " بقوله " والباقيات الصالحات خير ثوابا " في يوم تسير الجبال ف‍ " الباقيات الصالحات " قيل الطاعات.

وقيل الصلوات الخمس وقيل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر.

وروي عن أبي جعفر (ع) أنه قال (القيام بالليل لصلاة الليل).

وسمع بعضهم عزى صديقا له، فقال: ابنك كان زينة الدنيا، ولو بقي كان سيدا مثلك، وإذ استأثر الله به، فجعله من الباقيات الصالحات، والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا، فتسلى بذلك.

يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله اذكر يوم نسير الجبال، والتسيير تطويل السير

___________________________________

(1) سورة 78 - النبأ - آية 20

[54]

وقد يكون بمعنى ان يجعله يسير، وهذا هو معنى تسيير الجبال، وانما يسيرها (الله تعالى، ويخبر به، لما في ذلك من الاعتبار في الدنيا. وقيل يسيرها)(1) بأن يجعلها هباء منبثا، ومعنى " وترى الارض بارزة " أي لاشئ يسترها، يحشر الخلائق حتى بكونوا كلهم على صعيد واحد، ويرى بعضهم بعضا، وكل ذلك من هول يوم القيامة، أخبر الله به للاعتبار به والاستعداد بما يخلص من أهواله.

وقوله " وحشرناهم " أي بعثناهم وأحييناهم بعد أن كانوا أمواتا " فلم نغادر منهم احدا " أي لم نترك واحدا منهم لانحشره. والمغادرة الترك، ومنه الغدر ترك والوفاء، ومنه الغدير لترك الماء فيه.

وقيل: نغادر نخلف. وقيل: أغدرت وغادرت واحد.

وقوله " وعرضوا على ربك صفا " قيل معناه انهم يعرضون صفات بعد صف كالصفوف في الصلاة.

وقيل المعنى انهم يعرضون على ربهم لا يخفى منهم أحد فكأنهم صف واحد.

وقيل: انهم يعرضون، وهم صف، ويقال لهم " لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة " يعني جئتم إلى الموضع الذي لا يملك الامر فيه أحد إلا الله، كما خلقناكم أول مرة لا تملكون شيئا.

وروي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال (يحشرون حفاة عراة عزلا) فقالت عائشة: أفما يحتشمون يومئذ، فقال النبي صلى الله عليه وآله (لكل امرء منهم يومئذ شأن يغنيه) ويقال لهم أيضا " بل زعمتم " في دار الدنيا " أن لن نجعل لكم موعدا " يعني يوم القيامة، وانكم انكرتم البعث والنشور.

ثم قال الله تعالى " ووضع الكتاب " يعني الكتب التي فيها أعمالهم مثبتة " فترى المجرمين مشفقين مما فيه " اي يخافون من وقوع المكروه بهم والاشفاق الخوف من وقوع المكروه مع تجويز ألا يقع، وأصله الرقة، ومنه الشفق: الحمرة الرقيقة التي

___________________________________

(1) ما بين القوسين ساقط من المطبوعة

[55]

تكون في السماء، وشفقة الانسان على ولده رقته عليه.

وقوله " ويقولون " الواو واو الحال وتقديره قائلين " يا ويلتنا " وهذه لفظة، من وقع في شدة دعا بها و " ما لهذا الكتاب " اي شئ لهذا الكتاب " لايغادر صغيرة ولاكبيرة " أي لايترك صغيرة ولاكبيرة من المعاصي " إلا احصاها " بالعدد وحواها.

و (لايغادر) في موضع نصب على الحال " ووجدوا ما عملوا حاضرا " اخبار منه تعالى أنهم يجدون جزاء ما عملوا في ذلك الموضع، ولا يبخس الله أحدا حقه في ذلك اليوم ولا ينقصه ثوابه الذي استحقه.

وقيل معناه ووجدوا أعمالهم مثبتة كلها ويعاقب كل واحد على قدر معصيته.

الآية: 50 - 74

قوله تعالى: وإذ قلنا للملئكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دونى وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا(50) ما أشهدتهم خلق السموات والارض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا(51) ويوم يقول نادوا شركاء‌ي الذين زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم وجعلنا بينهم موبقا(52))

ثلاث آيات بلا خلاف.

قرأ حمزة وحده " ويوم نقول " بالنون، على أن الله تعالى هو المخبر عن نفسه بذلك، لانه قال قبل ذلك " وما كنت متخذ المضلين عضدا، ويوم نقول " حمله على ما تقدم، والجمع والافراد بذلك المعنى. الباقون بالياء، بمعنى قل يا محمد

[56]

يوم يقول الله أين شركائي الذين زعمتم، ولو كان بالنون لكان الاشبه بما بعده ان يكون جمعا، فيقول شركاؤنا، فأما قوله " الذين زعمتم " فالراجع إلى الموصول محذوف، والمعنى الذين زعمتموهم اياهم أي زعمتموهم شركاء، فحذف الراجع من الصلة، ولابد من تقديره كقوله " أهذا الذي بعث الله رسولا "(1) يقول الله تعالى لنبيه واذكر الوقت الذي قال الله فيه " للملائكة اسجدوا لآدم " وانهم " سجدوا إلا ابليس " وقد فسرناه فيما تقدم.(2)

وقيل: إنما كرر هذا القول في القرآن لاجل ما بعده مما يحتاج إلى اتصاله به، فهو كالمعنى الذي يفيد أمرا في مواضع كثيرة، والاخبار عنه باخبار مختلفة، كقولهم برهان كذا كذا وبرهان كذا كذا، للمعنى الذي يحتاج إلى احكامه في أمور كثيرة.

وقوله " كان من الجن " قيل معناه صار من الجن المخالفين لامر الله.

وقال قوم: ذلك يدل على أنه لم يكن من الملائكة، لان الجن جنس غير الملائكة، كما ان الانس غير جنس الملائكة والجن، ومن زعم انه كان من الملائكة يقول: معنى كان من الجن يعنى من الذين يستترون عن الابصار(3) لانه مأخوذ من الجن وهو الستر، ومنه المجن لانه يستر الانسان.

وقال ابن عباس: نسب إلى الجنان التي كان فيها، كقولك كوفي وبصري، وقال قوم: بل كانت قبيلته التى كان فيها يقال لهم الجن، وهم سبط من الملائكة، فنسب اليهم.

وقال ابن عباس: لو لم يكن ابليس في الملائكة ما أمر بالسجود.

وقال وهم يتوالدون كما يتوالد بنو آدم.

وروى عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى " كان من الجن "

___________________________________

(1) سورة 25 - الفرقان - آية 41.

(2) سورة البقرة آية 34 المجلد الاول صفحة 147 وقد مر أيضا في 4 / 383 في تفسير آية 10 من سورة الاعراف.

(3) في المخطوطة (الانسان) بدل (الابصار)

[57]

قال: كان ابليس من الملائكة فلما عصى لعن فصار شيطانا.

ومن قال إن ابليس له ذرية والملائكة لاذرية لهم ولا يتناكحون ولا يتناسلون عول على خبر غير معلوم.

فأما الاكل والشرب ففي الملائكة ولو علم انه مفقود، فانا لانعلم أن ابليس كان يأكل ويشرب، فأما من قال إن الملائكة رسل الله، ولايجوز عليهم أن يرتدوا. فلا نسلم لهم أن جميع الملائكة رسل الله، وكيف نسلم ذلك، وقد قال الله تعالى " الله يصطفى من الملائكة رسلا "(1) فأدخل (من) للتبعيض، فدل على أن جميعهم لم يكونوا رسلا أنبياء، كما انه تعالى قال " ومن الناس "(2) فدل على أن جميع الناس لم يكونوا انبياء.

وقوله " ففسق عن أمر ربه " معناه خرج عن أمر ربه إلى معصيته بترك السجود لآدم. وأصل الفسق الخروج إلى حال تضر، يقال: فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها وفسقت الفارة إذا خرجت من حجرها قال رؤبة:

يهوين في نجد وغورا غايرا *** فواسقا عن قصدها جوائرا(3)

وقال ابوعبيدة: هذه التسمية لم أسمعها في شئ من أشعار الجاهلية، ولا أحاديثها، وانما تكلمت بها العرب بعد نزول القرآن، قال المبرد: والامر على ما ذكر أبوعبيدة، وهي كلمة فصيحة على ألسنة العرب، وأوكد الامور ما جاء في القرآن.

وقال قطرب: معنا " ففسق عن امر ربه " عن رده أمر ربه، كقولهم كسوته عن عرى وأطعمته عن جوع، ثم خاطب تعالى الخلق الذين أشركوا بالله غيره، فقال " أفتتخذونه يعنى ابليس وذريته أولياء " أي أنصارا توالونهم من دون الله " وهم "

___________________________________

(1، 2) سورة 22 - الحج - آية 75.

(3) ملحق ديوانه 190 ومجاز القرآن 1 / 406 وتفسير الطبري 51 / 158 والكشاف 3 / 110 واللسان والتاج (فسق) وغيرها.

[58]

يعني ابليس " وذريته عدو لكم " يريدون بكم الهلاك والدمار " بئس " البدل " للظالمين بدلا " ونصب (بدلا) على التمييز.

ثم قال " ما اشهدتهم خلق السموات " وقيل معناه ما أشهدتهم ذلك مستعينا بهم، وقيل معناه ما أشهدت بعضهم خلق بعض. ووجه اتصال ذلك بما قبله اتصال الحجة التي تكشف حيرة الشبهة، لانه بمنزلة ما قيل إنكم قد أقبلتم على اتباع ابليس وذريته حتى كأن عندهم ما تحتاجون اليه، فلو اشهدتهم خلق السموات والارض وخلق أنفسهم، فلم يخف عليهم باطن الامور وظاهرها لم تزيدوا على ما أنتم عليه في امركم.

ثم قال تعالى " وما كنت متخذ المضلين عضدا " يعني اعوانا، وهو قول قتادة وهو من اعتضد به إذا استعان به. وفي عضد خمس لغات، وهي عضد وعضد وعضد وعضد وعضد.

ثم اخبر تعالى عن حالهم يوم القيامة فقال واذكر يوم يقول الله تعالى للمشركين نادوا شركائي الذين زعمتم - على وجه التقريع والتوبيخ - واستغيثوا بهم، فدعوهم يعني المشركين يدعون أولئك الشركاء الذين عبدوهم مع الله، فلا يستجيبون لهم ثم قال تعالى " وجعلنا بينهم موبقا " قال ابن عباس أي مهلكا، وبه قال قتادة والضحاك وابن زيد، وهو من أو بقته ذنوبه أي اهلكته.

وقال الحسن معنا " موبقا " أي عداوة، كأنه قال عداوة مهلكة.

وقال أنس بن مالك: هو واد في جهنم من قيح ودم. وحكى الكسائي وبق يبق وبوقا، فهو وابق إذا هلك، وحكى الزجاج: وبق الرجل يوبق وبقا. والوبق مصدر وبق.

[59]

قوله تعالى: (ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا(53) ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الانسان أكثر شئ جدلا(54) وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاء‌هم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الاولين أو يأتيهم العذاب قبلا(55))

ثلاث آيات بلا خلاف.

قرأ اهل الكوفة " قبلا " بضم القاف والباء. الباقون بكسر القاف وفتح الياء.

فمن قرأ بضم القاف والباء أراد جمع قبيل نحو قميص وقمص.

وقال قوم: القبيلة بنو أب.

والقبيل يعبر بها عن الجماعة وإن اختلفت أنسابهم واحتجوا بقول النابغة:

جوانح قد أيقن ان قبيله *** إذا ما التقى الجمعان اول غالب(1)

وجمع القبيلة قبائل.

والقبائل أيضا قبائل الرأس، وهي عروق مجرى الدمع من الرأس، وسمي أيضا شئونا، واحدها شأن.

ومن قرأ بكسر القاف وفتح الباء أراد مقابلة، أي معاينة. ويحتمل أيضا الضم، ذلك، ذكره الفراء والزجاج، وهما لغتان.

اخبر الله تعالى عن المجرمين والعصاة أنهم إذا شاهدوا نار جهنم ورأوها " فظنوا " اي علموا " انهم مواقعوها " ولم يجدوا عن دخلولها معدلا ولا مصرفا، لان معارفهم ضرورية، فالظن ههنا بمعنى العلم. وقد يكون الظن غير العلم، وهو ما قوي عند الظان كون المظنون على ما ظنه مع تجويزه ان يكون على خلافه. والاجرام قطع العمل إلى الفساد. واصله القطع، يقال: هذا زمن الجرام أى زمن الصرام يعني زمان قطع الثمرة عن النخل.

والمواقعة ملابسة الشئ، بشدة، ومنه وقائع الحروب وأوقع به ايقاعا. وتواقعوا تواقعا. والتوقع الترقب لوقوع الشئ، والمصرف المعدول.

___________________________________

(1) ديوانه (دار بيروت) 10

[60]

وهو موضع الذي يعدل اليه، صرفه عن كذا يصرصرفا.

والموضع مصرف قال ابوكثير:

ازهير هل عن شيبة من مصرف *** أم لاخلود لباذل متكلف(1)

وقوله " ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل " اخبار من الله تعالى انه نقل المعاني في الجهات المختلفة في هذا القرآن، فتصريف المثل فيه تنقيله في وجوه البيان على تمكين الافهام. والمعنى بينا للناس من كل مثل يحتاجون اليه.

ثم اخبر تعالى عن حال الانسان فقال " وكان الانسان اكثر شئ جدلا " أي خصومة. والجدل شدة الفتل عن المذهب بطريق الحجاج. واصله الشدة، ومثه الاجدل الصقر لشدته، وسير مجدول شديد الفتل.

وقوله " وما منع الناس ان يؤمنوا إذ جاء‌هم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الاولين " معناه ما منعهم من الايمان بعد مجئ الدلالة وان يستغفروا ربهم على سبق من معاصيهم إلا طلب ان يأتيهم سنة الاولين، من مجئ العذاب من حيث لايشعرون، او مقابلة من حيث يرون.

وإنما هم بامتناعهم من الايمان بمنزلة من يطلب هذا حتى يؤمن كرها، لانهم لايؤمنون حتى يروا العذاب الاليم، كما يقول القائل لغيره ما منعك ان تقبل قولي إلا ان تضرب، إلا انك لم تضرب، لان مشركي العرب طلبوا مثل ذلك، فقالوا " اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فامطر علينا حجارة من السماء او ائتنا بعذاب اليم "(2)

___________________________________

(1) ديوان الهذليين 2 / 104 وتفسير الطبري 15 / 160 واللسان (صرف) وشواهد الكشاف 192 ومجاز القرآن 1 / 407.

(2) سورة 8 الانفال آية 32

[61]

قوله تعالى: (وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق واتخذوا آياتى وما أنذروا هزوا(56) ومن أظلم ممن ذكر بايات ربه فأعرض عنها ونسى ما قدمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا(57) وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا(58))

ثلاث آيات بلا خلاف

أخبر الله تعالى أنه لم يرسل رسله إلى الخلق، إلا مبشرين لهم بالجنة إذا أطاعوا، ومخوفين لهم من النار إذا عصوا، فالبشارة الاخبار بما يظهر سرورة في بشرة الوجه يقال بشره تبشيرا وبشارة، وأبشره إبشارا إذا استبشر بالامر. ومنه البشر لظهور بشرته.

ثم قال " ويجادل الذين كفروا بالباطل " أي يناظر الكفار دفعا عن مذاهبهم بالباطل. وذلك انهم ألزموه أن يأتيهم أو يريهم العذاب على ما توعدهم ما هو لاحق بهم إن أقاموا على كفرهم.

والباطل المعني الذي معتقده على خلاف ما هو به، كالمعني في انه ينبغي أن تكون آيات الانبياء على ما تقتضي الاهواء، كالمعني في أنه: يجب عبادة الاوثان على ما كان عليه الكبراء " ليدحضوا به الحق " والادحاض الاذهاب بالشئ إلى الهلاك، ودحض هو دحضا. ومكان دحض أي مزلق مزل، لايثبت فيه خف ولاحافر، ولاقدم، قال الشاعر:

[62]

وردت ونحن اليشكري حذاره *** وحاد كما حاد البعير عن الدحض(1)

ثم اخبر تعالى عنهم أنهم " اتخذوا آيات الله " ودلالته وما خوفوا به من معاصية " هزوا " اي سخرية يسخرون منه.

ثم قال تعالى " ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه " اي من أظلم لنفسه ممن نبه على أدلته وعرفه الرسل اياها " فاعرض عنها " جانبا، ولم ينظر فيها " ونسي ما قدمت يداه " أي نسي ما فعله من المعاصي التي يستحق بها العقاب.

وقال البلخي: معناه تذكر واشتغل عنه استخفافا به، وقلة معرفة بعاقبته، لا انه نسيه.

ثم قال تعالى " انا جعلنا على قلوبهم أكنة " وهي جمع كنات كراهية أن يفقهوه، وقيل لئلا يفقهوه " وفي آذانهم وقرا " أي ثقلا.

وقد بينا معنى ذلك فيما مضى وجملته أنه على التشبيه في جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه كقوله " واذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كان لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا "(2) والمعنى كأن قلوبهم في أكنة عن أن تفقه. وفى آذانهم وقرا أن تسمع، وكأنه مستحيل أن يجيبوا الداعي إلى الهدى.

ويقوي ذلك قوله " ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فاعرض عنها " فدل انه كان يسمعها حتى صح إعراضه عنها.

وقال البلخي: يجوز ان يكون المراد انا إذا فعلنا ذلك ليفقهوا فلن يفقهوا، لانه شبههم بذلك ويجوز ان يكون المراد بذلك الحكاية عنهم انهم قالوا ذلك، كما حكى تعالى " وقالوا قلوبنا في اكنة مما تدعونا اليه وفي آذاننا وقرو من بيننا وبينك حجاب "(3) ثم قال إن كان الامر على ذلك فلن يهتدوا إذا أبدا.

___________________________________

(1) تفسير الطبري 15 / 61.

(2) سورة 31 - لقمان آية 7.

(3) سورة 41، حم السجدة فصلت آية 5

[63]

وقوله " وإن تدعهم إلى الهدى " مع ما جعلنا فيهم " فلن يهتدوا إذا ابدا " ولا يرجعون اليها، بسوء اختيارهم، وسوء توفيقهم، من الله جزاء على معاصيهم، وذلك يختص بمن علم الله أنه لايؤمن منهم، ويجوز أن يكون الجعل في الآية بمعنى الحكم والتسمية، ثم قال " وربك " يا محمد " الغفور ذو الرحمة " يعني الساتر على عباده إذا تابوا، ذو الرحمة بهم " لو يؤاخذهم بما كسبوا " عاجلا " لعجل لهم العذاب " لكن لا يؤاخذهم، لان لهم موعدا وعدهم الله ان يعاقبهم فيه وهو يوم القيامة " لن يجدوا من دونه موئلا " اي ملجأ - في قول ابن عباس وقتادة وابن زيد - وقال مجاهد: يعني محرزا، وقال ابوعبيدة: يعني منجا ينجيهم، ويقال: لا وألت نفسه بمعنى لانجت قال الاعشى:

وقد اخالس رب البيت غفلته *** وقد يحاذر مني ثم ما يئل(1)

وقال الآخر:

لاوألت نفسك خليتها *** للعامريين ولم تكلم(2)

___________________________________

(1) ديوانه 147 وتفسير الطبري 15 / 163 وتفسير القرطبى 11 / 8 ومجاز القرآن 1 / 408.

(2) تفسير الطبري 15 / 162 وتفسير القرطبي 11 / 8 ومجمع البيان 3 / 475

[64]

أي لانجت نفسك

 قوله تعالى: (وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا(59) وإذ قال موسى لفتيه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضى حقبا(60) فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سربا(61))

ثلاث آيات بلا خلاف.

قرأ عاصم " لمهلكهم " بفتح الميم. واللام، في رواية أبي بكر عنه.

وفي رواية حفص - بفتح الميم وكسر اللام - الباقون بضم الميم وفتح اللام، من فتح الميم واللام جعله مصدرا، لهلك يهلك مهلكا، مثل طلع مطلعا، ومن كسر اللام جعله وقت هلاكهم أو موضع هلاكهم مثل مغرب الشمس.

وحكى سيبويه عن العرب: أتت الناقة على مضربها ومنتجها - بالكسر - أي وقت ضرابها ونتاجها.

وإن في الف (لمضربا) بفتح الراء أي ضربا جعلها مصدرا ومن ضم الميم وفتح اللام - وهو الاختيار - فلان المصدر من (أفعل) والمكان يجئ على (مفعل) كقوله " ادخلني مدخل صدق "(1) كذلك: أهلكه الله مهلكا.

وكل فعل كان على (فعل يفعل) مثل ضرب يضرب فالمصدر مضرب بالفتح، والزمان والمكان (مفعل) بكسر العين، وكل فعل كان مضارعه (يفعل) بالفتح نحو يشرب ويذهب، فهو مفتوح أيضا نحو المشرب والمذهب.

وكل فعل كان على (فعل يفعل) بضم العين في المضارع نحو يدخل ويخرج، فالمصدر والمكان منه بالفتح نحو المدخل والمخرج إلا ما شذ منه نحو المسجد، فانه من سجد يسجد، وربما جاء في (فعل يفعل) المصدر بالكسر كقوله " إلى الله مرجعكم "(2) أي رجوعكم، ونحو قوله " ويسئلونك عن المحيض "(3) ونحو قوله " وجعلنا النهار معاشا "(4) فهذا مصدر وربما جاء على المعيش مثل المحيض كما قال الشاعر:

___________________________________

(1) وسورة 17 - الاسرى - آية 80.

(2) سورة - 5 - المائدة آية 51، 108.

(3) سورة 2 - البقرة آية 222.

(4) سورة 78 (عم) - النبأ - آية 11

[65]

اليك أشكوا شدة المعيش *** ومر ايام نتفن ريشي

اخبر الله تعالى أن تلك القرى أهلكناهم يعني أهل القرية، ولذلك قال: (هم): ولم يقل (ها) لان القرية هي المسكن مثل المدينة والبلدة. والبلدة لاتستحق الهلاك، وانما يستحق العذاب اهلها، ولذلك قال " لما ظلموا " يعني أهل القرية الذين أهلكناهم.

والاهلاك اذهاب الشئ بحيث لايوجد، فيقل هؤلاء أهلكوا بالعذاب.

والاهلاك والاتلاف واحد، وقولهم الضائع هالك من ذلك لانه بحيث لا يوجد.

وقوله " وجعلنا لمهلكهم " أي لوقت اهلاكهم - في من ضم الميم - أو لوقت هلاكهم - في من فتحها - " موعدا " أي ميقاتا وإجلا فلما بلغوه جاء‌هم العذاب. والموعد الوقت الذي وعدوا فيه بالاهلاك.

وقوله " وإذ قال موسى لفتاه " معناه واذكر اذ قال موسى لفتاه لما في قصته من العبرة بأنه قصد السفر فوفق الله (عزوجل) في رجوعه أكثر مما قصد له ممن أحب موسى أن يتعلم منه ويستفيد من حكمته التي وهبها الله له. وقيل إن فتى موسى (ع) كان يوشع بن نون.

وقيل ابن يوشع، وسمي فتاه لملازمته إيلاه " لا ابرح " أي لا ازال كما قال الشاعر:

وابراح ما أدام الله قومي *** بحمد الله منتطقا مجيدا(1)

أي لا ازال، ولايجوز أن يكون بمعنى لا أزول، لان التقدير، لا أزال أمشي حتى أبلغ.

ومعنى (لايزال يفعل كذا) أي هو دائب فيه.

وقيل انه كان وعد بلقاء الخضر عند مجمع البحرين.

وقوله " أو امضي حقبا " معناه لا أبرح حتى ابلغ مجمع البحرين إلى أن امضي حقبا.

___________________________________

(1) قائله خداش بن زهير: تفسير القرطبي 11 / 9 ومجمع البيان 3 / 479 واللسان (نطق).

[66]

قال ابن عباس: والحقب الدهر.

وقيل هو سنة بلغة قيس. وقيل سبعون سنة - ذكره مجاهد - وقال عبدالله بن عمر: هو ثمانون سنة.

وقال قتادة: الحقب الزمان.

وقال قتادة: مجمع البحرين: بحر فارس والروم.

وقوله " فلما بلغا مجمع بينهما " يعني بين البحرين " نسيا حوتهما " وانما نسيه يوشع بن نون وأضافه اليهما، كما يقال نسي القوم زادهم، وانما نسيه بعضهم. وقيل نسي يوشع أن يحمل الحوت، ونسي موسى أن يأمره فيه بشئ.

وقوله " فاتخذ سبيله " يعني الحوت " في البحر سربا " قال ابن عباس وابن زيد ومجاهد: أحيا الله الحوت، فاتخذ طريقه في البحر مسلكا. وقيل ان الحوت كانت سمكة مملحة فطفرت من موضعها إلى البحر ذاهبة.

وقال الفراء: كان مالحا، فلما حيي بالماء الذي أصابه من العين، وقع في البحر. ووجد مذهبه، فكان كالسرب.

وروي عن أبي بن كعب أن مجمع بينهما أفريقية، وأراد الله أن يعلم موسى أنه وإن آتاه التوراة، فانه قد آتى غيره من العلم ما ليس عنده، فوعده بلقاء الخضر.

وقوله " مجمع بينهما " يعني موسى وفتاه بلغا مجمع البحرين.

وقال قتادة قيل لموسى آية لقياك إياه أن تنسى بعض متاعك، وكان موسى وفتاه تزودا حوتا مملوحا حتى إذا كانا حيث شاء الله، رد الله إلى الحوت روحه فسرب في البحر، فذالك قوله " فاتخذ سبيله في البحر سربا " أي مذهبا يقال سرب يسرب سربا إذا مضى لوجهه في سفر غير بعيد ولا شاق وهي السربة فاذا كانت شاقة، فهي (السبأ) ة بالهمزة.

وروي ان الله تعالى بعث ماء من عين الجنة، فاصاب ذلك الماء تلك السمكة فحييت وطفرت إلى البحر، ومضت.

وروي عن ابن عباس أنه قال: لما وفد موسى إلى طور سيناء، قال رب أي عبادك أعلم؟ قال الذي يبغي علم الناس إلى علمه، لعله يجد كلمة تهديه إلى هدى أوترده عن ردى.

قال رب من هو؟ قال الخضر تلقاه عند الصخرة التي عندها العين التي تنبع من الجنة.

[67]

وقال الحسن: كان موسى سأل ربه هل أحد أعلم مني من الآدميين فأوحى الله اليه: نعم عبدي الخضر (ع)، فقال موسى (ع): كيف لي بلقائه؟ فاوحى الله اليه أن يحمل حوتا في متاعه ويمضي على وجهه حتى يبلغ مجمع البحرين، بحر فارس والروم، وهما المحيطان بهذا الخلق. وجعل العلم على لقائه أن يفقد حوته، فاذا فقدت الحوت فاطلب حاجتك عند ذلك فانك تلقى الخضر عند ذلك.

وقال الحسن كان الحوت طريا.

وقال ابن عباس: كان مملوحا.

قال الحسن: فمضى على وجهه هو وفتاه حتى " بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سربا " يعنى الحوت.

ثم " قال لفتاه آتنا غداء‌نا " ففتش متاعه ففقد الحوت، قال " أرأيت إذ أو؟؟ إلى الصخرة " وكانت الصخرة عند مجمع البحرين " فاني نسيت الحوت وما انسانيه إلا الشيطان أن أذكره فاتخذ سبيله في البحر " يعني الحوت وانقطع الكلام.

فقال موسى (ع) عند ذلك " عجبا " كيف كان ذلك.

وقال لفتاه " ذلك ما كنا نبغ فارتدا على اثارهما قصصا " وقال الزجاج: يحتمل أن يكون ذلك من قول صاحبه فانه أخبر بأن اتخاذ الحوت طريقا في البحر كان عجبا.

قوله تعالى: (فلما جاوزا قال لفتيه آتنا غداء‌نا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا(62) قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فاني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا(63) قال ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا(64))

ثلاث آيات

[68]

اخبر الله تعالى ان موسى وفتاه لما جاوزا أي خرجا من ذلك الموضع.

والمجاوزة الخروج عن حد الشئ، يقال: تجاوز الله عن فلان أى تجاوز عن عقابه بمعنى أزل الله العقاب عنه.

والفتى الرجل الشاب وجمعه فتية وفتيان مثل صبية وصبيان.

وانما أضيف إلى موسى، لانه كان يلزمه ليتعلم منه العلم وصحبه في سفره.

وقيل انه كان يخدمه، والعرب تسمي الخادم للرجل فتى، وإن كان شيخا، والامة فتاة وإن كانت عجوزا، ويسمى التلميذ فتى، وإن كان شيخا، والفتى عند العرب السخي على الطعام وعلى المال والشجاع.

و (الغداء) طعام الغداة و (العشاء) طعام العشي. والتغدي أكل طعام الغداة والتعشي أكل طعام العشي، و (النصب) التعب والوهن يكون عند الكد، ومثله الوصب.

فقال له فتاه في الجواب " أرأيت " الوقت الذي اوينا إلى الصخرة " أي اقمنا عندها " فاني نسيت الحوت " ثم قال " وما انسانية " يعني الحوت " إلا الشيطان اذكره " أي وسوسني وشغلني بغيره حتى نسيت، فلذلك اضافة إلى الشيطان، لما كان عند فعله.

ومعنى " وما انسانيه " أي الحوت، يعني نسيت أن اذكر كيف اتخذ سبيله في البحر. وجاز نسيان مثل ذلك مع كمال العقل لانه كان معجزا. وضم الهاء من (انسانيه) حفص عن عاصم، لان الاصل في حركة الهاء الضم. ومن كسرها فلان ما قبلها (ياء) فحركها بما هو من جنسها.

وقوله " واتخذ سبيله في البحر عجبا " يعني أن موسى (ع) لما رأى الحوت قد حيي وهو يسلك الطريق إلى البحر، عجب منه ومن عظم شأنه، وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد.

وقوله " ذلك ما كنا نبغي " حكاية عما قال موسى عند ذلك من أن ذلك الذي كنا نطلب من العلامة، يعني نسيانك الحوت، لانه قيل له: صاحب الذي تطلبه - وهو الخضر - حيث ينسى الحوت. ذكره مجاهد.

[69]

فارتدا يقصان أي يتبعان آثارهما حتى انتهيا إلى مدخل الحوت. ذكره ابن عباس.

وقيل نسي ذكر الحوت لموسى (ع) فرجعا إلى الموضع الذي حييت فيه السمكة وهو الذي كان يطلب منه العلامة فيه. وقيل الصخرة موضع الوعد.

قوله تعالى: (فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما(65))

آية.

قوله " فوجدا عبدا من عبادنا " أي صادفاه وادر كاه، وهو الوجود، ومنه وجدان الضالة أي مصادفتها وادراكها. والعبد المملوك من الناس، فكل انسان عبد لله، لانه مالك له، وقادر عليه وعلى أن يصرفه اتم التصريف، وهو يملك الانسان وما يملك وقوله " آتيناه رحمة من عندنا " أي اعطيناه رحمة أي نعمة من عندنا " وعلمناه من لدنا علما " والتعلم تعريض الحي لان يعلم، إما بخلق في قلبه، وإما بالبيان الذي يرد عليه كما أن من أرى الانسان شيئا فقد عرضه، لان يراه، إما بوضع الرؤية في بصره عند من قال الادراك معنى، أو بالكشف له عن المرئي.

قوله تعالى: (قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا(66) قال إنك لن تستطيع معي صبرا(67))

آيتان.

[70]

قال ابوعلي يحتمل أن (رشدا) منصوبا على انه مفعول له ويكون متعلقا ب‍ (اتبع) كأنه قال اتبعك للرشد، أو طلب الرشد على أن تعلمني، فيكون على هذا حالا من قوله (اتبعك) ويجوز أن يكون مفعولا به، وتقديره اتبعك على أن تعلمني رشدا مما علمته، ويكون العلم الذي يتعدى إلى مفعول واحد يتعدى بالتضعيف إلى مفعولين.

والمعنى على ان تعلمني امرا ذا رشد أو علما ذا رشد.

" قال له " يعني لذلك العبد الذي علمه الله العلم " هل اتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا ". والاتباع والانقياد واحد، اتبعه في مسيره، واتبعه في مذهبه، واتبعه في أمره ونهيه، واتبعه فيما دعاه اليه، والرشد - بفتح الراء والشين - قراء‌ة ابي عمرو.

الباقون - بضم الراء وسكون الشين - إلا ابن عامر - في رواية ابن ذكوان - فانه ضمهما، وهما لغتان، مثل أسد وأسد، ووثن ووثن. واختلفوا في الذي كان يتعلم موسى منه، هل كان نبيا؟ أم لا؟ فقال الجبائي: كان نبيا، لانه لايجوز ان يتبع النبي من ليس بنبي، ليتعلم منه العلم، لما في ذلك من الغضاضة على النبي.

وقال ابن الاخشاد: ويجوز أن لايكون نبيا على أن لايكون فيه وضع من موسى.

وقال قوم: كان ملكا.

وقال الرماني: لايجوز أن يكون إلا نبيا، لان تعظيم العالم المعلم فوق تعظيم المتعلم منه. وقيل إنه سمي (خضرا) لانه كان إذا صار في مكان لانبات فيه اخضر ما حوله، وكان الله تعالى قد اطلعه من علم بواطن الامور على ما لم يطلع عليه غيره.

فان قيل: كيف يجوز أن يكون نبي اعلم من نبي؟ في وقته.

قيل عن ذلك ثلاثة اجوبة: أحدها - انه يجوز أن يكون نبي اعلم من نبي في وقته عند من قال: ان الخضر كان نبيا.

والثاني - أن يكون موسى اعلم من الخضر بجميع مايؤدي عن الله على عباده، وفى كل ما هو حجة فيه، وانما خص الخضر بعلم ما لا يتعلق بالاداء.

[71]

الثالث - إن موسى استعلم من جهة ذلك العلم فقط، وإن كان عنده علم ما سوى ذلك.

فقال الخضر لموسى (ع) " انك لن تستطيع معي صبرا " ومعناه يثقل عليك الصبر ولايخف عليك، ولم يرد أنه لايقدر عليه، لان موسى (ع) كان قادرا متصرفا، وانما قال له ذلك لان موسى كان يأخذ الامور على ظواهرها، والخضر كان يحكم بما أعلمه الله من بواطن الامور، فلايسهل على موسى مشاهدة ذلك، ولو اراد نفي الاستطاعة التي هي القدرة لما قال: " وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا " لانه دل على انه لهذا لايصبر ولو كان على نفي القدرة، سواء علم او لم يعلم لم يستطع.

قوله تعالى: (وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا(68) قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا(69) قال فان اتبعتني فلا تسئلني عن شئ حتى أحدث لك منه ذكرا(70))

ثلاث آيات بلا خلاف.

هذا حكاية ما قال الخضر لموسى (ع) حين قال " انك لمن تستطيع معي صبرا " اي كيف تصبر على مالم تعلم من بواطن الامور، ولاتخبرها، فقال له موسى (ع) عند ذلك " ستجدني " اي ستصادفني إن شاء الله صابرا، ولم يقل ذلك على وجه التكذيب، لكن لما اخبر به على ظاهر الحال فقيده بالمشيئة لله، لانه جوز

[72]

أن لايصبر فيما بعد بأن يعجز عنه ليخرج بذلك من كونه كاذبا " ولا اعصي لك امرا " اي لا اخالف او امرك، ولا اتركها.

فقال الخضر: " فان اتبعتنى " واقتفيت اثري " فلا تسألني عن شئ حتى احدث لك منه ذكرا " معناه لا تسألني عن باطن امر حتى اكون انا المبتدئ لك بذلك. والصبر تجرع مرارة تمنع النفس عما تنازع اليه. واصله حبس النفس عن امر من الامور.

و (الذكر) العلم، والذكر ادراك النفس للمعنى بحضوره كحضور نقيضه، ويمكن ان يجامعه علم يصحبه او جهل او شك. و " خبرا " نصب على المصدر. والتقدير لم تخبره خبرا.

وقرأ نافع " تسألن " بتشديد النون. الباقون بتخفيفها وإثبات الياء إلا ابن عامر، فانه حذف الياء.

قال أبوعلي قول ابن كثير ومن اتبعه: انهم عدوا (تسأل) إلى المفعول الذي هو المتكلم مثل (لاتضربني) و (لاتظلمنى) ونافع إنما فتح اللام، لانه لما ألحق الفعل النون الثقيلة بنى الفعل معها على الفتح وحذف الياء، وكسرت النون ليدل على الياء المحذوفة.

قوله تعالى: (فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا(71) قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا(72) قال لا تؤاخذني بما نسيت ولاترهقني من أمري عسرا(73) فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا(74))

أربع آيات

[73]

قرأ اهل الكوفة إلا عاصما " ليغرق أهلها " بالياء، ورفع أهلها. الباقون بالتاء ونصب الاهل.

فمن قرأ بالتاء ونصب الاهل، فلقوله " أخرقتها لتغرق " بذلك " اهلها " أي فعلت ذلك وغرضك اهلاك اهلها على وجه الانكار.

ومن قرأ بالياء أسند الغرق إلى الاهل، فكانه قال: فعلت ذلك ليغرقوا هم.

وقرأ اهل الكوفة وابن عامر " زكية " بلا الف. وقرأ الباقون زاكية بألف.

وقرأ ابن عامر ونافع - في رواية الاصمعي عنه وابوبكر عن عاصم - " نكرا " بضم النون والكاف. الباقون بتخفيف الكاف.

قال الكسائي (زاكية، وزكية) لغتان مثل قاسية وقسية.

قال أبوعمرو: الزاكية التي لم تذنب قط، والزكية التي إذا أذنبت تابت، و (النكر) بالتثقيل والتخفيف لغتان مثل الرعب والرعب.

اخبر الله تعالى عن موسى (ع) وصاحبه الذي تبعه ليتعلم منه أنهما ذهبا حتى إذا بلغا البحر، فركبا في السفينة فخرق صاحبه السفينة أي شق فيها شقا، لما أعلمه الله من المصلحة في ذلك، فقال له موسى منكر لذلك على ظاهر الحال: " أخرقتها لتغرق أهلها " أي غرضك بذلك أن تغرق أهلها الذين ركبوها. ويحتمل أن يكون قال ذلك مستفهما أي فعلت ذلك لتغرق أهلها أم لغير ذلك. والاول أقوى لقوله بعد ذلك " لقد جئت شيئا امرا " فالامر المنكر - في قول مجاهد وقتادة - وقال ابو عبيدة: داهية عظيمة وانشد:

لقد لقي الاقرآن منه نكرا *** داهية دهياء إدا إمرا(1)

___________________________________

(1) تفسير القرطبى 11 / 19 ومجاز القرآن 1 / 409 وتفسير الطبري 15 / 169 واللسان والصحاح والتاج (أمر) وشواهد الكشاف 30

[74]

ومن سكن (النكر) فعلى لغة من سكن (رسل).

و (الامر) مأخوذ من الامر، لانه الفاسد الذي يحتاج أن يؤمر بتركه إلى الصلاح، ومنه رجل إمر إذا كان ضعيف الرأي، لانه يحتاج أن يؤمر حتى يقوي رأيه. ومنه آمر القوم إذا كثروا حتى احتاجوا إلى من يأمرهم وينهاهم، ومنه الامر من الامور أى الشئ الذى من شأنه ان يؤمر فيه، ولهذا لم يكن كل شئ أمرا.

فقال له الخضر " ألم أقل لك " فيما قبل " انك لن تستطيع معي صبرا " أي لايخف عليك ما تشاهده من أفعالي ويثقل عليك، لانك لاتعرف المصلحة فيه، ولم يرد بالاستطاعة المقدرة، لان موسى كان قادرا في حال ما خاطبه بذلك، ولم يكن عاجزا، وهذا كما يقول الواحد منا لغيره أنا لا أستطيع النظر اليك، وانما يريد أنه يثقل علي، دون نفي القدرة في ذلك.

فقال له موسى في الجواب عن ذلك " لا تؤاخذني بما نسيت " وروي أنه قال ذلك لما رأى الماء لا يدخل السفينة مع خرقها.

فعلم أن ذلك لمصلحة يريدها الله، فقال " لا تؤاخذني بما نسيت " وقيل في معنى نسيت ثلاثة أقوال: احدها - ما حكي عن أبي بن كعب، أنه قال: معناه بما غفلت من النسيان الذي هو ضد الذكر.

والثاني - ما روي عن ابن عباس أنه قال معناه: بما تركت من عهدك.

الثالث - لا تؤاخذني بما كأني نسيته، ولم ينسه في الحقيقة - في رواية أخرى - عن ابي بن كعب الانصاري.

وقوله " ولاترهقني من أمري عسرا " قيل معناه لا تغشني، من قولهم رهقه الفارس إذا غشيه وادركه، وغلام مراهق إذا قارب أن يغشاه حال البلوغ. والارهاق ادراك الشئ بما يغشاه. وقيل معنى أرهقه الامر إذا ألحقه اياه.

[75]

ثم أخبر تعالى انهما مضيا " حتى إذا لقيا غلاما " أي رأيا غلاما " فقتله " قال له موسى " اقتلت نفسا زاكية " ومعناه طاهرة من الذنوب. ومن قرأ " زكية " فمعناه بريئة من الذنوب. وذلك انها كانت صغيرة لم تبلغ حد التكليف على ما روي في الاخبار.

وقوله " بغير نفس " أي بغير قود، ثم قال له " لقد جئت شيئا نكرا " أي منكرا.

وقيل معناه جئت بما ينبغي أن ينكر، وقال قتادة النكر أشد من الامر، وانما قيل لما لايجوز فعله منكرا، لانه مما تنكر صحته العقول ولاتعرفه.

الآية: 75 - 110

قوله تعالى: (قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا(75) قال إن سالتك عن شئ بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا(76) فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فاقامه قال لو شئت لتخذت عليه أجرا(77))

ثلاث آيات بلا خلاف.

معنى قوله " ألم اقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا " تحقيق ما قال له أولا مع نهيه عن العود لمثل سؤاله، لانه لايجوز أن يكون توبيخا، لانه جار مجرى الذم في أنه لايجوز على الانبياء (ع) فقال له موسى في الجواب عن ذلك " ان سألتك " أي ان استخبرتك عن شئ تعمله بعد هذا " فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا " ومعناه إقرار من موسى بأن صاحبه قد قدم اليه ما يوجب العذر عنده، فلا يلزمه ما أنكره.

[76]

وروي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه تلا هذه الآية، فقال: (استحيى نبي الله موسى).

والعذر وجود ما يسقط اللوم من غير جهة التكفير بتوبة واجتناب كبير لوقوع سهولم يتعرض له.

وفي (لدن) خمس قراء‌ات، فقرأ ابن كثير وأبوعمرو وابن عامر وحمزة والكسائي بالتثقيل.

الثاني - بضم الدال وتخفيف النون قرأ به نافع.

الثالث - قرأ ابوبكر بضم اللام وسكون الدال واشمام من غير اشباع.

الرابع - قرأ الكسائي عن أبي بكر بضم اللام وسكون الدال.

الخامس - في رواية عن أبي بكر بفتح اللام وسكون الدال، وهذه كلها لغات معروفة.

ثم أخبر الله تعالى عنهما ايضا أنهما مضيا حتى " أتيا أهل قرية استعطعما أهلها " أي طلبا منهم ما يا كلانه فامتنعوا من تضييفهما " فوجدا فيها " يعني القرية " جدارا " يريد ان ينقض.

فاقامه " ومعناه وجدا حائطا قارب أن ينقض فشبهه بحال من يريد أن يفعل في التباني، كماقال الشاعر:

يريد الرمح صدر ابي براء *** ويرغب عن دماء بني عقيل(1)

ومثله تراني آثارهما، ودار فلان ينظر إلى دار فلان.

وقال سعيد بن جبير: معنى قوله " فأقامه " انه رفع الجدار بيده فاستقام.

والانقضاض السقوط بسرعة، يقال انقضت الدار اذا سقطت وتهدمت قال ذو الرمة: فانقض كالكوكب الدري منصلتا فقال له موسى " لو شئت لاتخذت عليه أجرا " وقد قرأ ابن كثير وأبوعمرو

___________________________________

(1) تفسير الطبري 15 / 171 والقرطبي 11 / 26 ومجاز القرآن 1 / 410 والكشاف 1 / 577 واللسان (رود) وغيرها وقد مر في 6 / 121 من هذا الكتاب

[77]

" لتخذت " الباقون " لاتخذت " يقال: تخذ يتخذ بالتخفيف قال الشاعر:

وقد تخذت رجلي لدى جنب غرزها *** نسيفا كافحوص القطاة المطرق(1)

المطرق التي تريد أن تبيض، وقد تعسر عليها، والافحوص والمفحص عش الطائر، وابن كثير يظهر الذال، وابوعمرو يدغم.

والباقون على وزن (افتعلت) مثل اتقى يتقي.

وقد حكي تقى يتقي خفيفا، قال الشاعر:

جلاها الصيقلون فاخلصوها *** خفافا كلها يتقى باثر

ومن ادغم فلقرب مخرجيهما ومن اظهر فلتغاير مخرجيهما وقال الفراء في قوله " لو شئت " قال موسى لو شئت لم تقمه حتى يقرونا، فهو الاجر وانشدوا في " يريد أن ينقض " قول الشاعر:

إن دهرا يلف شملي بجمل *** لزمان يهم بالاحسان(2)

أي كانه يهم، وانما هو سبب الاحسان المؤدي اليه وقال آخر:

يشكو إلى جملي طول السرى *** صبرا جميلا فكلانا مبتلى(3)

والجمل لم يشك شيئا.

وقال عنترة: وشكا إلى بعبرة وتحتحم(4) وكل ذلك يراد به ما ظهر من الامارة الدالة على المعاني.

___________________________________

(1) مجاز القرآن 1 / 411 وتفسير الطبري 15 / 172 والاصمعيات 47 واللسان والتاج (فحص، طرق، نسف).

(2) تفسير الطبري 15 / 171 والقرطبى 11 / 26 ومجمع البيان 3 / 487.

(3) مر هذا البيت في 6 / 112 من هذا الكتاب.

(4) ديوانه 30 من معلقته. وتفسير الطبري 15 / 172

[78]

قوله تعالى: (قال هذا فراق بيني وبينك سانبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا(78) أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فاردت أن أعيبها وكان وراء‌هم ملك يأخذ كل سفينة غصبا(79) وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا(80) فاردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكوة وأقرب رحما(81) واما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنزلهما وكان أبوهما صالحا فاراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا(82))

خمس آيات بلا خلاف

قرأ اهل المدينة وابوعمرو " أن يبدلهما " - بفتح الياء وتشديد الدال - هنا - وفى التحريم " أن يبدله " وفي نون " أن يبدلنا " بالتشديد فيهن. الباقون بالتخفيف.

فاما التي في سورة النور " وليبدلنهم " فخففها ابن كثير وابوبكر ويعقوب. وشدده الباقون.

وقرأ ابن عامر وابوجعفر ويعقوب " رحما " بضم الحاء الباقون باسكانها. وروى العبسي (ما لم تسطع) بتشديد الطاء. الباقون بتخفيفها.

قال ابوعلي (بدل، وابدل) متقاربان مثل (نزل، وانزل) إلا ان (بدل) ينبغي ان يكون أرجح، لقوله تعالى " لا تبديل لكلمات الله "(1) ولم يجئ الابدال كما جاء التبديل، ولم يجئ الابدال في موضع من القرآن، وقد جاء " وإن

___________________________________

(1) سورة 10 - يونس - آية 64

[79]

اردتم استبدال زوج مكان زوج "(1) فهذا قد يكون بمعنى الابدال كما ان قوله الشاعر: فلم يستجبه عنك ذاك مجيب(2) بمعنى فلم يجبه.

وقال قوم: ابدلت الشئ من الشئ إذا ازلت الاول وجعلت الثاني مكانه.

كقول ابي النجم: عزل الامير للامير المبدل(3) وبدلت الشئ من الشئ إذا غيرت حاله وعينه.

والاصل باق، كقولهم بدلت قميصي جبة، واستدلوا بقوله " كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها "(4) فالجلد الثاني هو الاول، ولو كان غيره لم يجز عقابه.

واما (رحم ورحم) فلغتان مثل العمر والعمر، والرعب والرعب.

وحكي لغة ثالثة - بفتح الراء واسكان الحاء - كما يقال: اطال الله عمرك وعمرك.

والمعنى واقرب رحمة وعطفا، وقربى وقرابة قال الشاعر: ولم تعوج رحم من تعوجا(5) وقال آخر: يامنزل الرحم على ادريس(6) حكى الله تعالى عن صاحب موسى انه قال له " هذا فراق بيني وبينك " ومعناه هذا وقت فراق اتصال ما بيني وبينك، فكرر (بين) تأكيدا، كما يقال: أخزى الله

___________________________________

(1) سورة 4 - النساء - آية 19.

(2) مر هذا البيت كاملا في 1 / 36، 86 و 2 / 131 و 3 / 88 و 4 / 182 و 5 / 119 و 6 / 233.

(3) تفسير الطبري 18 / 110.

(4) سورة 4 - النساء - آية 55.

(5) تفسير الطبري 16 / 4.

(6) مجمع البيان 3 / 485 وبعده (ومنزل اللعن على ابليس). وهو في القرطبي 18 / 37 إديسا، ابليسا)

[80]

الكاذب مني ومنك أي أخزى الله الكاذب منا.

وقيل في " هذا " انها اشارة إلى احد شيئين: احدهما - هذا الذى قلته فراق بيني وبينك. والثاني - هذا الوقت فراق بيني وبينك.

ثم قال له " سأنبئك " أي ساخبرك " بتأويل مالم تستطع عليه صبرا " ولم يخف عليك رؤيته، ثم بين واحدا واحدا، فقال " اما " السبب في خرقي " السفينة " انها " كانت لمساكين " أي للفقراء الذين لاشئ لهم يكفيهم، قد اسلمتهم قلة ذات أيديهم " يعملون في البحر " أى يعملون بها في البحر ويتعيشون بها " فاردت أن اعيبها " والسبب في ذلك انه " كان وراء‌هم ملك يأخذ كل سفينة غصبا " فقيل إن الملك كان يأخذ السفينة الصحيحة، ولا يأخذها إذا كانت معيبة.

وقد قرئ في الشواذ " يأخذ كل سفينة صحيحة غصبا " روى ذلك عن أبي، وابن مسعود.

والوراء والخلف واحد، وهو نقيض جهة القدام على مقابلتها.

وقال قتادة: وراء‌هم - ههنا - بمعنى أمامهم.

ومنه قوله " من ورائهم جهنم "(1) و " من ورائهم برزخ "(2) وذلك جائز على الاتساع، لانها جهة مقابلة لجهة، فكأن كل واحد من الجهتين وراء الآخر قال لبيد:

أليس ورائي ان تراخت منيتي *** لزوم العصا تحنو عليها الاصابع(3)

وقال آخر:

ايرجوا بنو مروان سمعي وطاعتي *** وقومي تميم والفلاة ورائيا(4)

وقال الفراء: يجوز ذلك في الزمان دون الاجسام، تقول: البرد والحر وراء‌نا

___________________________________

(1) سورة 45 الجاثية آية 9.

(2) سورة 23 المؤمنون آية 101.

(3) البيت في مجمع البيان 3 / 467.

(4) قائله سوار بن المضرب. تفسير الطبرى 16 / 2 وتفسير القرطبى 11 / 35، واكثر كتب النحو

[81]

ولاتقول: زيد وراء‌ك.

وقال الرماني وغيره: يجوز في الاجسام التي لاوجه لها كحجرين متقابلين كل واحد منهما وراء الآخر.

وقرأ ابن عباس " وكان أمامهم ملك " وقال الزجاج (وراء‌هم) خلفهم، لانه كان رجوعهم عليه. ولم يعلموا به.

ثم قال " وأما الغلام فكان ابواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا " وقيل: إن قوله " فخشينا " من قول الخضر.

وقيل: انه من قول الله تعالى، ومعناه علمنا.

وقيل: معنى خشينا كرهنا، فبين أن الوجه في قتله ما لابويه من المصلحة في ثبات الدين، لانه لو بقي حيا لارهقهما طغيانا وكفرا أى اوقعهما فيه، فيكون ذلك مفسدة، فأمر الله بقتله لذلك، كما لو أماته.

وفى قراء‌ة أبي " واما الغلام فكان كافرا وكان ابواه مؤمنين ".

ثم قال " فأردنا أن يبدلهما " يعني أن يبدل الله لابويه خيرا من هذا الغلام (زكاة) يعنى صلاحا وطهارة (وأقرب رحما) أى ابر بوالديه من المقتول - في قول قتادة - يقال: رحمه رحمة ورحما.

وقيل: الرحم والرحم القرابة قال الشاعر: ولم يعوج رحم من تعوجا(1) وقال آخر: وكيف بظلم جارية ومنها اللين والرحم(2) وقيل معناه وأقرب أن يرحما به. ثم أخبر الخضر عن الحال الجدار الذى اقامه وأعلم انه (كان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنزلهما) فقال ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد: كانت صحف من علم.

وقال الحسن: كان لوحا من ذهب مكتوب فيه الحكم.

وقال قتادة وعكرمة: كان كنز مال. والكنز في اللغة هو كل مال مذخور من ذهب وفضة وغير ذلك.

___________________________________

(1) تفسير الطبري 6 / 4.

(2) تفسير القرطبى 11 / 37

[82]

وقوله " وكان أبوهما صالحا " يعني أبا اليتيمين فأراد الله " أن يبلغا اشدهما " يعنى كما لهما من الاحتلام وقوة العقل " ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك " أي نعمة من ربك.

ثم قال صاحب موسى: وما فعلت ذلك من قبل نفسي وأمري بل بأمر الله فعلت.

ثم قال " ذلك " الذي قلته لك " تأويل مالم تسطع عليه صبرا " وثقل عليك مشاهدته واستبشعته.

وفي الآية دلالة على وجوب اللطف، لان مفهومه أنه تدبير من الله في عباده لم يكن يجوز خلافه، وقد عظم الله شأنه بما يفهم منه هذا المعنى.

وقال الجبائي: لايجوز أن يكون صاحب موسى الخضر، لان خضرا كان من الانبياء الذين بعثهم الله من بني اسرائيل بعد موسى.

قال: ولا يجوز ايضا أن يبقى الخضر إلى وقتنا هذا، كما يقوله من لا يدري، لانه لانبي بعد نبينا، ولانه لو كان لعرفه الناس، ولم يخف مكانه. وهذا الذي ذكره ليس بصحيح، لانا لانعلم أولا أن خضرا كان نبيا، ولو ثبت ذلك لم يمتنع أن يبقى إلى وقتنا هذا، لان تبقيته في مقدرر الله تعالى، ولا يؤدي إلى انه نبي بعد نبينا، لان نبوته كانت ثابتة قبل نبينا. وشرعه - إن كان شرعا خاصا - انه منسوخ بشرع نبينا. وإن كان يدعو إلى شرع موسى أو من تقدم من الانبياء، فان جميعه منسوخ بشرع نبينا صلى الله عليه وآله فلا يؤدي ذلك إلى ما قال.

وقوله: لو كان باقيا لرؤي ولعرف غير صحيح، لانه لا يمتنع أن يكون بحيث لا يتعرف إلى احد، فهم وإن شاهدوه لايعرفونه.

[83]

وفى الناس من قال: إن موسى الذي صحب الخضر ليس هو موسى بن عمران وانما هو بن ميشا، رجل من بني اسرائيل. والله اعلم بذلك.

وروي عن جعفر بن محمد (ع) في قوله تعالى " وكان تحته كنز لهما " قال: سطران ونصف ولم يتم الثالث، وهي (عجبا للموقن بالرزق كيف يتعب وعجبا للموقن بالحساب كيف يغفل وعجبا للموقن بالموت كيف يفرح) وفى بعض الروايات زيادة على ذلك (أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله) وذكر أنهما حفظا، لصلاح أبيهما، ولم يذكر منهما صلاح. وكان بينهما وبين الاب الذي حفظا به سبعة أباء، وكان سياحا. واستشهد على أن الخشية بمعنى العلم بقوله تعالى " إلا أن يخافا الا يقيما حدود الله "(1) وقوله " وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا "(2) أي علمت.

واستشهد على أنه بمعنى الكراهية بقول الشاعر:

يا فقعسي لم اكلته لمه *** لو خافك الله عليه حرمه(3)

قال قطرب يريد لو كره أن تأكله لحرمه عليك.

___________________________________

(1) سورة 2 البقرة آية 229.

(2) سورة 4 النساء آية 124.

(3) مر هذا الرجز في 2 / 245 من هذا الكتاب.

[84]

قوله تعالى: (ويسئلونك عن ذي القرنين قل ساتلو عليكم منه ذكرا(83) إنا مكنا له في الارض وآتيناه من كل شئ سببا فاتبع سببا(84) حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة ووجد عندها قوما(85) قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا(86) قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا(87))

خمس آيات كوفي وحجازي وست بصري وشامي.

عد اسماعيل والكوفيون والبصري والشامي " من كل شئ سببا آية وعد المدني الاخر والمكي والبصري والشامي عندها قوما " آية جعلوا (فاتبع سببا " بعض الآية الاولى ولم يعد أهل الكوفة " قوما " آخر آية بان جعلوا آخر الآية حسنا ".

قرأ ابن عامر وأهل الكوفة " فأتبع " بقطع الهمزة، وفتحها، وتخفيف التاء وسكونها، فيهن الباقون " فاتبع " جعلوها ألف وصل وشددوا التاء، وفتحوها.

وقرأ ابن عامر وأهل الكوفة إلا حفصا وابوجعفر " حامية " بالف وتخفيف الهمزة. الباقون " حمئة " بلا الف، مهموز.

قال أبوعلي النحوي (تبع) فعل يتعدى إلى مفعول واحد، فاذا نقلته بالهمزة يتعدى إلى معفولين.

قال الله تعالى " واتبعناهم في هذه الدنيا لعنة "(1) وقال " واتبعوا في هذه الدنيا لعنة "(2) لما نبى الفعل للمفعولين قام أحد المفعولين مقام الفاعل.

واما (اتبعوا) فافتلعوا، فتعدى إلى مفعول واحد، كما تعدى افعلوا اليه، مثل شويته واشتويته، وحفرته واحتفرته.

وقوله " فاتبعوهم مشرقين "(3) تقديره فاتبعوهم جنودهم فحذف أحد المفعولين، كما حذف من قوله " لينذر بأسا شديدا من لدنه "(4) ومن قوله

___________________________________

(1) سورة 28 (القصص) آية 42.

(2) سورة 11 (هود) آية 60.

(3) سورة 26 (الشعراء) آية 61.

(4) سورة 8 (الكهف) آية 2

[85]

" لايكادون يفقهون قولا "(1) والمعنى لايكادون يفقهون أحدا، ولينذر الناس بأسا شديدا، فمن قطع الهمزة فتقديره فاتبع أمره سببا او اتبع ما هو عليه سببا (والسبب ههنا الطريق مثل السبيل. والسبب الحبل. والسبب القرابة).(2)

وقال ابوعبيدة " في عين (حمئة " بالالف ذات حمأة.

وقال ابوعلي من قرأ حمئه بغير الف فهي فعله.

ومن قرأ (حاميه)(3) فهي فاعلة من حميت فهي حامية، قال الحسن: يعني حارة.

ويجوز فيمن قرأ (حامية) أن تكون فاعلة من الحمأة، فخفف الهمزة وقلبها ياء على قياس قول أبي الحسن. وإن خفف الهمزة على قول الخليل كانت بين بين.

وقرأ ابن عباس " في عين حمئة " وقال هي ماء وطين.

وتقول العرب: حمأت البئر إذا أخرجت منها الحمأة، واحمأتها إذا طرحت فيها الحمأة. وحمئت تحمأ ومعنى حمئة صار فيها الحمأه.

فاما قولهم هذا حم لفلان، ففيه أربع لغات حمو وحمو وحماء وحم. وذكر اللحياني لغة خامسة وسادسة: الحمو مثل العفو، والحمأ مثل الخطأ. وكل قرابة من قبل الزوج، فهم الاحماء وكل قرابة من قبل النساء فهم الاختان والصهر يجمعهما، وأم الرجل ختنه وابوه ختنه وام الزوج حماة وأبوها حمو.

وقال ابوالاسود الدؤلي شاهد لابي عمرو في عين حمئة:

تجئ بملئها طورا وطورا *** تجئ بحمأة وقليل ماء

يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وآله يسألونك يا محمد عن ذي القرنين واخباره وسيرته، وكان السائل عن ذلك قوما من اليهود. وقيل كانوا قوما من مشركي العرب، فقل لهم يا محمد، سأتلوا عليكم " يعني سأقرأ عليكم من خبره ذكرا.

___________________________________

(1) سورة 18 (الكهف) آية 94.

(2) هذه الجملة التى بين القوسين كانت متأخرة في المطبوعة عن هذا الموضع اسطر.

(3) ما بين القوسين ساقط من المطبوعة

[86]

ثم قال تعالى مخبرا له " انا مكنا له في الارض " أي بسطنا يده فيها وقويناه " وآتيناه من كل شئ سببا " ومعناه علما يتسبب به إلى ما يريده - في قول ابن عباس وقتادة وابن زيد والضحاك وابن جريج - و " قيل آتيناه من كل شئ سببا " يعني ما يتوصل به إلى مراده.

ويقال للطريق إلى الشئ سبب وللحبل سبب وللباب سبب " فاتبع سببا " أي سببا من الاسباب التي أوتي.

ومن قرأ بقطع الهمزة أراد فلحق سببا، يقال ما زلت أتبعه حتى اتبعته أي لحقته.

وقوله " فاتبع سببا " قال مجاهد وقتادة والضحاك وابن زيد: معناه طرقا من المشرق والمغرب.

وقيل معنى " وآتيناه من كل شئ سببا " ليسيعين به على الملوك وفتح الفتوح، وقتل الاعداء في الحروب " فاتبع سببا " أي طريقا إلى ما أريد منه.

وقيل سمي (ذي القرنين) لانه كان في رأسه شبه القرنين.

وقيل سمي بذلك لانه ضرب على جابي رأسه.

وقيل: لانه كانت له ضفيرتان.

وقيل لانه بلغ قرئي الشمس مطلعها ومغربها.

وقيل: لانه بلغ قطري الارض من المشرق والمغرب.

وقوله " حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة " أي في عين ماء ذات حمأة - في قول ابن عباس ومجاهد وقتادة وسعيد بن جبير - ومن قرأ " حامية " أراد حارة، في قول الحسن.

وقرئ به في احدى الروايتين عن ابن عباس كقول ابي الاسود الدؤلي.

تجئ بملئها طورا وطورا *** تجئ بحمأة وقليل ماء

وقال ابوعلي الجبائي، والبلخي: المعنى وجدها كانها تغرب في عين حمئة، وإن كانت تغيب وراء‌ها.

قال البلخي لان الشمس اكبر من الارض بكثير، وأنكر ذلك ابن الاخشاد.

وقال: بل هي في الحقيقة تغيب في عين حمئة على ظاهر القرآن.

وقوله " ووجدنا عندها قوما قلنا ياذا القرنين اما أن تعذب واما ان تتخذ

[87]

فيهم حسنا " معناه إما أن تعذبهم بالقتل لاقامتهم على الشرك بالله " وإما ان تتخذ فيهم حسنا " بان تأسرهم فتعلمهم الهدى وتستنقذهم من العمى، فقال ذو القرنين - لما خيره الله في ذلك " اما من ظلم نفسه " بأن عصى الله وأشرك به " فسوف نعذبه " يعني بالقتل ويرد فيما بعد " إلى ربه فيعذبه، يوم القيامة " عذابا نكرا " أي عظيما منكرا تنكره النفس من جهة الطبع، وهو عذاب النار، وهو أشد من القتل في الدنيا.

قوله تعالى: (وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا(88) ثم أتبع سببا(89) حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا(90) كذلك وقد أحطنا بما لديه خبرا(91))

خمس آيات في الكوفي والبصري وأربع في المدنيين عدا " ثم اتبع سببا " آية.

قرأ اهل الكوفة إلا أبا بكر " فله جزاء الحسنى " بالنصب والتنوين. الباقون بالرفع، والاضافة. فمن أضاف احتمل أن يكون أراد فله جزاء الطاعة، وهي الحسنى. ويحتمل أن يكون أراد فله الجنة وأضافه إلى الحسنى وهي الجنة، كما قال " وانه لحق اليقين "(1) ومن نون أراد فله الحسنى أي الجنة، لان الحسنى هي الجنة لامحاله.

ونصبه يحتمل أمرين: أحدهما - ان يكون نصبا على المصدر في موضع الحال أي فلهم الجنة يجزون بها جزاء.

___________________________________

(1) سورة 69 الحاقة آية 51

[88]

والثاني - قال قوم: هو نصب على التمييز وهو ضعيف، لان التمييز يقبح تقديمه كقولك تفقأزيد شحما، وتصبب عرقا، وله دن خلا، ولايجوز له دن، وأما عرقا فما أحد اجازه إلا المازني. وشاهد الاضافة قوله " لهم جزاء الضعف "(1) والحسنى ههنا الجزاء.

لما حكى الله تعالى ما قال ذو القرنين إن من ظلم نعذبه، وإن له عند الله عذابا نكرا، أخبر ان من صدق بالله ووحده وعمل الصالحات التي أمر الله بها " فله جزاء الحسنى وسنقول له من امرنا يسرا " اي قولا جميلا ثم قال " ثم اتبع سببا حتى إذا بلغ مطلع الشمس " أي الموضع الذي تطلع منه مما ليس وراء‌ه أحد من الناس فوجد الشمس " تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا " اي انه لم يكن بتلك الارض جبل ولاشجر، ولابناء، لان أرضهم لم يكن يبنى عليها بناء، فكانوا إذا طلعت الشمس عليهم يغورون في المياه والاسراب، وإذا غربت تصرفوا في أمورهم - في قول الحسن وقتادة وابن جريج - وقال قتادة هي الزنج.

وقوله " كذلك " معناه كذلك هم. ثم قال " وقد أحطنا بما لديه خبرا " أي كذلك علمناهم وعلمناه. ويحتمل أن يكون المراد كذلك، اتبع سببا " إلى مطلع الشمس، كما اتبعه إلى مغربها.

وقوله " ثم اتبع سببا " يعني طريقا ومسلكا لجهاد الكفار.

وقال الحسن ان ذا القرنين كان نبيا ملك مشارق الارض ومغاربها.

وقال عبدالله بن عمر كان ذو القرنين والخضر نبيين وكذلك لقمان كان نبيا.

___________________________________

(1) سورة 34 (سبأ) آية 27

[89]

قوله تعالى: (ثم أتبع سببا(92) حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لايكادون يفقهون قولا(93) قالوا يا ذا القرنين إن ياجوج ومأجوج مفسدون في الارض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا(94) قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما(95))

أربع آيات.

قرأ ابن كثير وابوعمرو وعاصم في رواية حفص " السدين " - بالفتح - الباقون بالضم.

وقرأ أهل الكوفة إلا عاصما وحده " يفقهون " بضم الياء وكسر القاف.

الباقون بفتح الياء والقاف.

وقرأ عاصم وحده " يأجوج ومأجوج " بالهمز. الباقون بلا همز.

وقرأ اهل الكوفة إلا عاصما " خراجا " بالف. الباقون " خرجا " بغير الف.

اخبر الله تعالى عن حال ذي القرنين أنه اتبع طريقا إلى جهاد الكفار إلى ان بلغ بين السدين ووصل إلى ما بينهما، وهما الجبلان اللذان جعل الردم بينهما - في قول ابن عباس وقتادة والضحاك.

والسد وضع ما ينتفي به الخرق، يقال: سده يسده سدا فهو ساد، والشئ مسدود، وانسد انسدادا، ومنه سدد السهم، لانه سد عليه طرق الاضطراب. ومنه السداد الصواب، والسد الحاجز بينك وبين الشئ.

قال الكسائي: الضم والفتح في السد بمعنى واحد.

وقال أبوعبيدة وعكرمة: (السد) - بالضم - من فعل الله، وبالفتح من فعل الآدميين.

وقوله " وجد من دونهما " يعني دون السدين " قوما لايكادون يفقهون قولا " اي لايفهمونه. ومن ضم الياء أراد لايفهمون غيرهم، لاختلاف

[90]

لغتهم عن سائر اللغات، وانما قال " لا يكادون " لانهم فقهوا بعض الشئ عنهم، وإن كان بعد شدة، ولذلك حكي عنهم أنهم قالوا " إن ياجوج وماجوج مفسدون في الارض " والفقه فهم متضمن المعنى، والفهم للقول هو الذي يعلم به متضمن معناه يقال: فقه يفقه وفقه يفقه.

وقوله " قالوا يا ذا القرنين إن ياجوج ومأجوج مفسدون في الارض " حكاية عما قال القوم الذين وجدهم ذو القرنين من دون السدين، فقالوا إن هؤلاء مفسدون في الارض أي في تخريب الديار، وقطع الطرق، وغير ذلك. " فهل نجعل لك خراجا " فمن قرأ بالالف، فانه أراد الغلة.

ومن قرأ بلا ألف أراد الاجر " على أن تجعل بيننا وبينهم " يعني بيننا وبين يأجوج ومأجوج " سدا " قال لهم ذو القرنين " ما مكني فيه ربي خير " من الاجر الذي تعرضون علي " فاعينوني بقوة اجعل بينكم وبينهم ردما " فالردم أشد الحجاب - في قول ابن عباس -، يقال: ردم فلان موضع كذا يردمه ردما، وردم ثوبه ترديما إذا اكثر الرقاع فيه، ومنه قول عنترة:

هل غادر الشعراء من متردم *** أم هل عرفت الدار بعد توهم(1)

اي هل تركوا من قول يؤلف تأليف الثوب المرقع.

وقيل الردم السد المتراكب وقرأ ابن كثير " مكنني " بنونين. الباقون بنون واحدة مشددة.

من شدد أدغم كراهية المثلين.

ومن لم يدغم قال: لانها من كلمتين، لان النون الثانية للفاعل، والياء للمتكلم، وهو مفعول به.

وقوله " اعينوني بقوة " أي برجال يبنون، و (الخرج) المصدر لما يجرج من

___________________________________

(1) ديوانه (دار بيروت) 15 وهو مطلع معلقته، وتفسير الطبري 16 / 17 والقرطبي 11 / 59

[91]

المال، والخراج الاسم لما يخرج عن الارض ونحوها. وترك الهمزة في (ياجوج وما جوج) هو الاختيار، لان الاسماء الاعجمية لاتهمز مثل (طالوت، وجالوت، وهاروت، وماروت).

ومن همز قال: لانه ماخوذ من اجج الثار ومن الملح الاجاج، فيكون (مفعولا) منه في قول من جعله عربيا، وترك صرفه للتعريف والتأنيث، لانه اسم قبيلة ولو قال: لو كان عربيا لكان هذا اشقتاقه ولكنه أعجمي فلا يشتق لكان أصوب قال رؤبة:

لو ان ياجوج وماجوج معا *** وعاد عاد واستجاشوا تبعا(1)

فترك الصرف في الشعر، كما هو في التنزيل، وجمع يأجوج يآجيج، مثل يعقوب ويعاقيب لذكر الحجل، وولد القبج السلك والانثى سلكة ومن جعل (ياجوج وماجوج) فاعولا جمعه يواجيج بالواو، مثل طاغوت وطواغيت. وهاروت وهواريت.

واما مأجوج في قول من همز، ف‍ (مفعول) من أج، كما أن ياجوج (يفعول) منه. فالكلمتان على هذا من أصل واحد في الاشتقاق، ومن لم يهمز ياجوج، كان عنده (فاعول) من (يج) كما ان ماجوج (فاعول) من (مج) فالكلمتان على هذا من أصلين، وليسا في أصل واحد، كما كانا كذلك فيمن همزهما، وإن كانا من العحمي فهذه التقديرات لاتصح فيهما. وانما مثل بها على وجه التقدير على ما مضى.

وقال الجبائي والبخلي وغيرهما: إن ياجوج وماجوج قبيلان من ولد آدم.

وقال الجبائي: قيل: انهما من ولد يافث بن نوح، ومن نسلهم الاتراك.

وقال سعيد ابن جبير: قوله " مفسدون في الارض " معناه يأكلون الناس.

وقال قوم: معناه انهم سيفسدون، ذهب اليه قتادة.

___________________________________

(1) ديوانه 92 ومجاز القرآن 1 / 414 تفسير الطبري 16 / 12 والقرطبي 11 / 55 واللسان والتاج (اجج)

[92]

قوله تعالى: (آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله نارا قال آتوني أفرغ عليه قطرا(96) فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا(97) قال هذا رحمة من ربي فاذا جاء وعد ربى جعله دكاء وكان وعد ربي حقا(98))

ثلاث آيات بلا خلاف.

قرأ " الصدفين " - بضم الصاد والدال - ابن كثير، وابوعمرو، وابن عامر، الباقون - بفتح الصاد والدال - إلا أبا بكر عن عاصم، فانه ضم الصاد وسكن الدال.

وقرأ أهل الكوفة إلا حفصا " قال آتوني " قصرا. الباقون ممدودا.

وقرأ حمزة وحده " فما اسطاعوا " مشددة الطاء بالادغام، وهو ضعيف - عند جميع النحويين - لان فيه جمعا بين ساكنين.

حكى الله تعالى عن ذي القرنين أنه قال للقوم الذين شكوا اليه فساد ياجوج وماجوج في الارض وبذلوا له المال، فلم يقبله، وقال لهم اعينوني برجال واعطوني وجيئوا بزبر الحديد، لاعمل منه - في وجوه ياجوج وماجوج - الردم. والزبرة الجملة المجتمعة من الحديد والصفر ونحوهما، واصله الاجتماع، ومنه (الزبور) وزبرت الكتاب إذا كتبته، لانك جمعت حروفه. والحديد معروف حددته تحديدا إذا أرهتفه، ومنه حد الشئ نهايته.

وقال ابن عباس ومجاهد: زبر الحديد قطع الحديد.

وقال قتادة: فلق الحديد.

[93]

وقوله " حتى إذا ساوى بين الصدفين " تقديره انهم جاؤا بزبر الحديد وطرحوه حتى إذا ساوى بين الصدفين مما جعل بينهما أي وازى رؤسهما. والصدفان جبلان - في قول ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، وابراهيم - وقيل: هما جبلان كل واحد منهما منعزل عن الآخر كأنه قد صدف عنه، وفيه ثلاث لغات - ضم الصاد والدال وفتحهما وتسكين الدال وضم الصاد - فال الراجز:

قد أخذت ما بين عرض الصدفين *** ناحيتيها وأعالي الركنين(1)

وقال ابوعبيدة: الصدفان جانبا الجبل.

وقوله " قال انفخوا " يعني قال ذو القرنين انفخوا النار على الحديد، والزبر فنفخوا " حتى إذا جعله نارا " أي مائعا مثل النار، قال لهم " آتوني " اي اعطوني. وقرئ بقطع الهمزة ووصلها، فمن قطع، فعلى ما قلناه، ومن وصل خفض وقصر، وقيل معناه جيؤني " افرغ عليه قطرا " نصب (قطرا) ب‍ (أفرغ) ولو نصبه ب‍ (آتوني) لقال أفرغه. والقطر النحاس في قول ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة - وأراد بذلك أن يلزمه.

وقال ابوعبيدة: القطر الحديد المذاب وانشد:

حساما كلون الملح صاف حديده *** جرازا من اقطار الحديد المنعت(2)

وقال قوم: هو الرصاص النقر، واصله القطر، وكل ذلك إذا أذيب قطر كما يقطر الماء.

وقوله فما اسطاعوا أن يظهروه أي لم يقدروا أن يعلوه " وما استطاعوا له نقبا " من اسفله - في قول قتادة. وفي (استطاع) ثلاث لغات، استطاع يستطيع، واسطاع يسطيع، بحذف

___________________________________

(1) تفسير الطبري 16 / 8.

(2) مجاز القرآن 1 / 415 وتفسير الطبري 16 / 19

[94]

التاء، واستاع يستيع بحذف الطاء، استثقلوا اجتماعهما من مخرج واحد. فأما اسطاع يسطيع، فهي من أطاع يطيع، جعلوا السين عوضا من ذهاب حركة العين.

ثم " قال " ذو القرنين " هذا " الذي يسهل فعله من الردم بين الجبلين نعمة " من ربي " عليكم " فاذا جاء وعد ربي " لاهلاكه عند اشراط الساعة " جعله دكاء " أي مدكوكا مستويا بالارض، من قولهم: ناقة دكاء، لاسنام لها، بل هي مستوية السنام.

ومن قرأ " دكا " منونا أراد دكه دكا، وهو مصدر.

ومن قرأ بالمد أراد جعل الجبل أرضا دكاء منبسطة وجمعها دكاء‌ات.

وقال ابن مسعود: في حديث مرفوع إن ذلك يكون بعد قتل عيسى الدجال.

وقيل إن هذا السد وراء بحر الروم بين جبلين هناك يلي مؤخرهما البحر المحيط.

وقيل: إنه وراء در بند، وبحر خزران من ناحية (أرمينية وآذر بيجان) يمضي اليه.

وقيل: ان مقدار ارتفاع السد مئتي ذرع وإنه من حديد يشبه الصمت وعرض الحائط نحو من خمسين ذراعا.

وقوله " وكان وعد ربي حقا " معناه ما وعد الله بأنه يفعله، لابد من كونه، فانه حق لا يجوز ان يخلف وعده وروي ان رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: اني رأيت سد يأجوج ومأجوج، فقال صلى الله عليه وآله فكيف رأيته قال رأيته كأنه رداء محبر، فقال له رسول لله صلى الله عليه وآله قد رأيته.

 

[95]

قوله تعالى: (وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا(99) وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا(100) ألذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لايستطيعون سمعا(101))

ثلاث آيات بلاخلاف.

يقول الله تعالى مخبرا عن حال تلك الامم انهم تركوا أي بقوا ولم يخترموا، بل اديموا على الصفات التي يبقون بها " يومئذ يموج " بضعهم " في بعض " فلو اقتطعوا عنها لكان قد أخذوا عن تلك الاحوال، وبعض الشئ ما قطع منه، يقال: بعضته أي فرقته بأن قطعته ابعاضا، والبعض جزء من كل، فان شئت قلت البعض مقدار من الكل وإن شئت قلت: هو مقدار ينقص بأخذه من الجميع، و (الموج) اضطراب الماء بتراكب بعضه على بعض، والمعنى انهم يموجون في بناء السد، ويخوضون فيه متعجبين من السد.

ومعنى " يومئذ " يوم انقضاء السد، فكانت حال هؤلاء كحال الماء الذي يتموج باضطراب أمواجه. والترك في الحقيقة لايجوز على الله إلا أنه يتوسع فيه فيعبر به عن الاخلال بالشئ بالترك.

وقوله " ونفخ في الصور " فالنفخ اخراج الريح من الجوف باعتماد، يقال نفخ ينفخ نفخا ومنه انتفخ إذا امتلا ريحا ومنه النفاخة التي ترتفع فوق الماء بالريح. والصور قال عبدالله بن عمر في حديث يرفعه: انه قرن ينفخ فيه، ومثله روي عن ابن عباس وأبي سعيد الخدري.

وقيل انه ينفخ فيه ثلاث نفخات: الاولى - نفخة الفزع التي يفزع من في السماوات والارض.

والثانية - نفخة الصعق.

والثالثة - نفخة القيام لرب العالمين، وقال الحسن: الصور جمع صورة فيحيون بأن ينفخ في الصور الارواح، وهو قول أبي عبيدة: وقوله " فجمعناهم جمعا " يعني يوم القيامة يحشرهم الله أجمع " وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا " أي ابرزناها واظهرناها حتى يروها فاذا استبانت وظهرت

[96]

قيل اعرضت، ومنه قول عمرو:

واعرضت اليمامة واشمخرت *** كأسياف بايدي مصلتينا(1)

وقوله " الذين كانت اعينهم في غطاء عن ذكري " شبه الله أعين الكفار الذين لم ينظروا في أدلة الله وتوحيده ولم يعرفوا الله، بأنها كانت في غطاء. ومعناه كأنها في غطاء، " وكانوا لا يستطيعون سمعا " معناه إنه كان يثقل عليهم الاستماع.

وقال البلخي: يجوز أن يكون المراد إنهم لا يسمعون، كما قال تعالى " هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة "(2) وانما أراد بذلك هل يفعل أم لا؟ لانهم كانوا مقرين بأن الله قادر، لانهم كانوا مقرين بعيسى (ع).

قوله تعالى: (أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلا(102) قل هل ننبئكم بالاخسرين أعمالا(103) ألذين ضل سعيهم في الحيوة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا(104))

ثلاث آيات في الكوفي والبصري وشامي، تمام الثانية قوله " اعمالا " وآيتان في المدنيين.

قرأ الاعشى ويحيى بن يعمر إلا النقار " افحسب " بتسكين السين وضم الباء، وهي قراء‌ة علي (ع) الباقون بكسر السين وفتح الباء. يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله " افحسب الذين كفروا " بتوحيد الله وجحدوا

___________________________________

(1) تفسير الطبري 16 / 22.

(2) سورة 5 (المائدة) آية 115

[97]

ربوبيته " أن يتخذوا عبادي من دونه أولياء " أي انصارا يمنعونهم من عقابي لهم على كفرهم، وقد أعددت " جهنم للكافرين نزلا " أي مأوى ومنزلا - في قول الزجاج وغيره - وقال قوم: النزل الطعام جعل الله لهم طعاما والنزل الربع.

ومن ضم الباء من " أحسب " معناه حسبهم على اتخاذهم عباد الله من دونه أولياء أن جعل لهم جهنم نزلا ومأوى.

وقيل بل هم لهم اعداء يعني، الذين عبدوا المسيح والملائكة " ثم أمر نبيه (ع) أن يقول " لهم هل ننبئكم بالاخسرين " أي نخبركم بالاخسرين " أعمالا " وهم " الذين يحسبون انهم يحسنون صنعا " وإن افعالهم طاعة وقربة وقيل انهم اليهود والنصارى، وقيل الرهبان منهم.

وروى عن أمير المؤمنين (ع) انه قال: هم أهل حروراء من الخوارج وسأله ابن الكوا عن ذلك، فقال (ع): انت واصحابك منهم وهم " الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا " أي جاز عنهم وهلك، وهم مع ذلك " يحسبون " أي يظنون أنهم يفعلون الافعال الجميلة والحسبان هو الظن وهو ضد العلم.

وفى الآية دلالة على أن المعارف ليست ضرورية، لانهم لو عرفوا الله تعالى ضرورة لما حسبوا غير ذلك، لان الضروريات لايشك فيها.

وقوله " الاخسرين اعمالا " نصب على التمييز. ومن قرأ " أفحسب " بضم البا. وسكون السين كما عنده " أن يتخذوا " في موضع رفع، ومن جعلها فعلا ماضيا جعل (أن) في موضع نصب بوقوع حسب عليه.

[98]

قوله تعالى: (أولئك الذين كفروا بايات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيمة وزنا(105) ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا(106) إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا(107))

ثلاث آيات بلا خلاف.

اخبر الله تعالى عن الكفار الذين تقدم وصفهم بأنهم الذين جحدوا أدلة ربهم وأنكروا " لقاء‌ه " أي لقاء ثوابه وعقابه في الآخرة من حيث انكروا البعث والنشور بأنهم " قد حبطت اعمالهم " لانهم أوقعوها على غير الوجه الذي أمرهم الله به " فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا " وصفهم الله بأنهم لا وزن لهم، كما يقال في التحقير للشئ: هذا لا شئ من حيث أنه لايعتد به.

ويقال للجاهل لاوزن له لخفته وسرعة طيشه وقلة تثبته فيما ينبغي أن يتثبت فيه.

وقال قوم: معناه لانقيم لهم وزنا لطاعتهم، لانهم أحبطوها.

وقال البلخي: معناه إن اعمالهم لا يستقيم وزنها لفسادها.

ثم قال: وانما كان " ذلك " كذلك، لان جهنم " جزاؤهم بما كفروا " أي جحدوا الله واتخذوا آياته ورسله هزوا أي سخرية، يقال هزئ يهزء هزوا، فهو هازئ.

ثم أخبر عن حال الذين صدقوا النبي وآمنوا بالله وعملوا الصالحات إن " لهم جنات الفردوس نزلا " أي مأوى. والفردوس البستان الذي يجمع الزهر والثمر وسائر ما يمتع ويلذ، وقال كعب: هو البستان الذي فيه الاعناب.

وقال مجاهد: الفردوس البستان بالرومية.

وقال قتادة: هو أطيب موضع في الجنة.

وروي انه أعلى الجنة وأحسنها في خبر مرفوع.

وقال الزجاج: الفردوس البستان الذي يجمع محاسن كل بستان.

[99]

وقوله " نزلا " أي مأوى وقيل نزلا أي ذات نزول.

وحكى الزجاج أن الفردوس الاودية التي تنبت ضروبا من النبت.

والنزل - بضم النون والزاي - من النزول والنزل بفتحهما الربع.

قوله تعالى: (خالدين فيها لا يبغون عنها حولا(108) قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا(109) قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا(110))

ثلاث آيات بلا خلاف.

قرأ اهل الكوفه إلا عاصما " قبل أن ينفد " بالياء. الباقون بالتاء.

فمن قرأ بالتاء، فالتأنيث الكلمات، ومن قرأ بالياء، فلان التأنيث ليس بحقيقي.

وقد مضى نظائر ذلك.

اخبر الله تعالى عن أحوال المؤمنين الذين وصفهم بالاعمال الصالحة وأن لهم جنات الفردوس جزاء على أعمالهم بانهم خالدون في تلك الجنات.

ونصب " خالدين " على الحال.

وقوله " لا يبغون عنها حولا " أي لا يطلبون عنها التحول والانتقال إلى مكان غيرها.

وقال مجاهد: الحول التحول أي لايبغون متحولا. وقد يكون معناه التحول من حال إلى حال، ويقال حال عن مكانه حولا مثل صغر صغر او كبر كبرا. ثم أمر نبيه صلى الله عليه وآله أن يقول لجميع المكلفين: قل لو كان ماء البحر مدادا في

[100]

الكثرة لكتابة كلمات الله لنفد ماء البحر ولم تنفد كلمات الله بالحكم، والبحر مستقر الماء الكثير الواسع الذي لايرى جانباه من وسطه وجمعه أبحر وبحار وبحور، والمداد هو الجائي شيئا بعد شئ على اتصال. والمداد الذي يكتب به. والمدد المصدر. وهو مجئ شئ بعد شئ.

وقال مجاهد: هو مداد العلم.

والكلمة الواحدة من الكلام، ولذلك يقال للقصيدة: كلمة، لانها قطعة واحدة من الكلام، والصفة المفردة: كلمة.

و (مددا) نصب على التمييز، وهذا مبالغة لوصف ما يقدر الله تعالى عليه من الكلام والحكم.

ثم قال قل لهم " انما انا بشر مثلكم " لست بملك. آكل واشرب " يوحى إلي انما الهكم إله واحد " أي يوحى الي بأن معبودكم الذي يحق له العبادة واحد " فمن كان " منكم " يرجو لقاء ربه " لقاء ثوابه او عقابه ويرجو معناه يأمل.

وقيل معناه يخاف " فليعمل عملا صالحا " أي طاعة يتقرب بها اليه " ولا يشرك بعبادة " الله أحدا غيره: من ملك ولا بشر ولا حجر، ولامدر ولا شجر، فتعالى الله عن ذلك علو كبيرا.

وقال سعيد بن جبير معنى " لايشرك بعبادة ربه أحدا " أي لا يرائي بعبادة الله غيره.

وقال الحسن: لايعبد معه غيره.

وقيل إن هذه الآية آخر ما نزل من القرآن.

وقال ابن جريج قال حي بن اخطب: تزعم يا محمد إنا لم نؤت من العلم إلا قليلا، وتقول ومن يؤتى الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا، فكيف يجتمعان، فنزل قوله تعالى " قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي " ونزل " ولو أن ما في الارض من شجرة اقلام... "(1) الآية.

___________________________________

(1) سورة 31 (القمان) آية 27




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21336211

  • التاريخ : 28/03/2024 - 20:52

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net