00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة الحجر من ( آية 1 ـ 64 ) 

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : التبيان في تفسير القرآن ( الجزء السادس )   ||   تأليف : شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي

15 - سورة الحجر

مكية في قول قتادة ومجاهد.

وهي تسع وتسعون آية بلاخلاف.

الآية: 1 - 40

بسم الله الرحمن الرحيم

(الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين(1) ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين(2))

آيتان بلاخلاف.

قرأ أهل المدينة وعاصم " ربما " بالتخفيف. الباقون بالتشديد.

وروي عن أبي عمرو: الوجهان.

قال أبوعلي أنشد أبوزيد:

ماوي ياربتما غارة *** شعواء كاللذعة بالميسم(1)

قال الازهري: الماوي الرحمة، وأنشد ايضا ابوزيد:

ياصاحبا ربه إنسان حسن *** يسأل عنك اليوم ارتسأل عن(2)

___________________________________

(1) مجمع البيان 3: 326 واللسان (ربب)، (ما).

(2) مجمع البيان 3: 227

[314]

وقال قطرب، والسكري: ربما، وربما، وربتما، ورب، رب: ست لغات، قال سيبويه (رب) حرف وتلحقها (ما) على وجهين: احدهما - ان تكون نكرة بمعنى شئ كقوله:

ربما تجزع النفوس من الام‍ *** - ر له فرجة كحل العقال(1)

ف‍ (ما) في هذا البيت إسم، لمايقدر من عود الذكر اليه من الصفة.

والمعنى: رب شئ، تكرهه النفوس، واذا عاد اليه الهاء كان إسما، ولم يجز أن يكون حرفا.

والضرب الاخر ان تدخل (ما) كافة نحو الآية، ونحو قول الشاعر:

ربما أوفيت في علم *** يرفعن ثوبي شمالات(2)

والنحويون يسمون (ما) هذه كافة يريدون: أنها بدخولها كفت الحرف عن العمل الذي كان هيأها لدخولها على مالم تكن تدخل عليه، ألا ترى ان (رب) انماتدخل على الاسم المفرد، نحو رب رجل يقول ذلك، وربه رجل يقول، ولاتدخل على الفعل، فلما دخلت (ما) عليها هيأتها للدخول على الفعل، كماقال " ربما يود الذين كفروا " فوقع الفعل بعدها - في الآية - وهو على لفظ المضارع، ووقع في قوله (ربما أوفيت في علم) على لفظ الماضي، وهكذا ينبغي في القياس لانها تدل على أمر قدوقع ومضى، وإنماوقع - في الآية - على لفظ المضارع، لانه حكاية لحال آتية كماان قوله " وإن ربك ليحكم بينهم "(3) حكاية الحال آتية ايضا، ومن حكاية الحال قول القائل:

جارية في رمضان الماضي *** تقطع الحديث بالايماض(4)

ومن زعم ان الآية على اضمار (كان) وتقديره ربماكان يود، فقد خرج عن قول سيبويه، لانهم لايضمرون على مذهبه (كان) في قول القائل: عبدالله المقتول اي كن عبدالله المقتول.

واما اضمار (كان) بعد إن خيرا فخيرا، فإنما جاز ذلك،

___________________________________

(1) قائله أمية بن ابي الصلت. اللسان " فرج " وروايته " تكره " بدل " تجزع ".

(2) قائله جذيمة الابرش. اللسان " شمل ".

وشمالات: جمع شمال، ويقصد هنا ريح الشمال.

(3) سورة النحل 16 اية 124.

(4) اللسان " رمض " " خصص " ومجمع البيان 3: 327

[315]

لاقتضاء الحرف له، فصار اقتضاء الحرف له كذكره، فاما ماأنشده ابن حبيب، فيهان ابن مسكين:

لقد رزيت كعب بن عوف وربما *** فتى لم يكن يرضى بشئ يضيمها(1)

فان قوله (فتى) يحتمل ضروبا: احدها - ان يكون لماجرى ذكر (رزيت) استغنى بجري ذكره عن اعادته، فكانه قال: ربما رزيت فتى، فأنتصب فتى برزيت المضمرة، كقوله " آلان وقد عصيت "(2) فاستغنى بذكر آمنت المعلوم عن اظهاره بعد، ويجوز ان يكون انتصب ب‍ (رزيت) هذه المذكورة، كأنه قال: لقد رزيت كعب بن عوف فتى وربما لم يكن يرضي اي رزيت فتى لم يكن يضام، ويكون هذا الفصل وهو اجنبي بمنزله قوله: ابوأمه حي أبوه يقاربه(3) ويجوز ان يكون رفعا بفعل مضمر كانه قال ربما لم يرضى فتى كقوله: وقلما وصال على طول الصدود يدوم(4) ويجوز ان تكون (ما) نكرة بمنزلة شي ء ويكون فتى وصفا لها، كأنه قال: رب شئ فتى لم يكن كذا، فهذه الاوجه فيها ممكنة، ويجوز في الآية ان تكون (ما) بمنزلة شئ و (ود) صفة له، لان (ما) لعمومها تقع على كل شئ فيجوز ان يعنى بها الود كأنه رب ود يوده الذين كفروا، ويكون يود في هذا الوجه حكاية حال لانه لم يكن كقوله " ارجعنا نعمل صالحا "(5) وقوله " ياليتنا نرد ولانكذب "(6)

___________________________________

(1) مجمع البيان 3: 327 .

(2) سورة يونس اية 91 .

(3) البيت مشهو يستشهدون به على التعقيد المعنوى في كتب المعاني والبيان وتمامه:

ومامثله في الناس إلا مملكا *** ابوأمه حي أبوه يقاربه

(4) اللسان " طول " وتمام البيت:

صددت فأطولت الصدود وقلما *** وصال على طول الصدود يدوم

(5) الم السجدة 32 اية 12.

(6) سورة الانعام 6 آية 27

[316]

واما من خفف، فلانه حرف مضاعف والحروف المضاعفة قد تحذف، وان لم يحذف غير المضاعف، فمن المضاعف الذي حذف (ان، وان، ولكن) قدحذف كل واحد من الحروف، وليس كل المضاعف يحذف، لاني لا أعلم الحذف في (ثم)، قال الهذلي:

ازهير إن يشب القذال فانني *** رب هيضل لجب لففت بهيضل(1)

واما دخول التاء في (ربتما) فان من الحروف مايدخل عليه حرف التأنيث نحو (ثم، وثمت، ولا، ولات) قال الشاعر:

ثمت لايحزونني غير ذالكم *** ولكن سيحزنني المليك فيعقبا 2)

فلذلك الحق التاء في قوله " ربتما " وقال المبرد: قال الكسائي: العرب لاتكاد توقع (رب) على أمر مستقبل، وهذا قليل في كلامهم، وإنما المعنى عندهم ان يوقعوها على الماضي، كقولهم: ربما فعلت ذلك، وربما جاء‌ني فلان.

وإنما جاء هذا في القرآن، على ماجاء في التفسير، ان ذلك يكون يوم القيامة.

وإنما جاز هذا، لان كل شئ ء من أمر الله خاصة فانه وإن لم يكن وقع بعد، فهو كالماضي الذي قدكان، لان وعده آت لامحالة، وعلى هذا عامة القرآن، نحوقوله " ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الارض "(3) وقوله " وسيق الذين اتقوا "(4) " وجاء‌ت كل نفس معها سائق وشهيد "(5) ومع هذا يحسن ان يقال - في الكلام - اذا رأيت الرجل يفعل مايشاء، تخاف عليه، ربما يندم، وربما يتمنى ان لاتكون فعلت، قال: وهذا كلام عربي حسن، ومثله قال الفراء والمبرد وغيرهم.

فان قيل لم قال " ربما يود الذين كفروا " ورب للتقليل؟ قلنا عنه جوابان: احدهما - انه شغلهم العذاب عن تمني ذلك الا في القليل

___________________________________

(1) مجمع البيان 3: 328 واللسان (هضل) نسبه إلى ابي كبير.

(2) مجمع البيان 3: 328.

(3) سورة الزمر - 39 - آية 68.

(4) سورة الزمر آية 73.

(5) سورة ق 50 آية 21

[317]

والثاني - انه أبلغ في التهديد كما تقول: ربما ندمت على هذا، وأنت تعلم أنه يندم ندما طويلا، أي يكفيك قليل الندم، فكيف كثيره.

فان قيل: لم قال " تلك آيات الكتاب وقران " والكتاب هو القرآن؟ ولم أضاف الآيات إلى الكتاب، وهي القرآن؟ وهل هذا إلا اضافة الشئ إلى نفسه؟ ! قلنا: إنما وصفه بالكتاب والقرآن، لاختلاف اللفظين، ومافيهما من الفائدتين وإن كانا لموصوف واحد، لان وصفه بالكتاب يفيد انه مما يكتب ويدون، والقرآن يفيد أنه مما يؤلف ويجمع بعض حروفه إلى بعض قال الشاعر:

إلى الملك القرم وابن الهمام *** وليث الكتيبة في المزدحم(1)

وقال مجاهد وقتادة: المراد بالكتاب: ماكان قبل القرآن من التوراة والانجيل، فعلى هذا سقط السؤال: فأما إضافة الشئ إلى نفسه، فقد بينا الوجه فيما مضى فيه، وانه يجري مجرى قولهم مسجد الجامع وصلاة الظهر ويوم الجمعة.

وقوله تعالى " لحق اليقين "(2) وهو مستعمل مشهور وبينا الوجه فيه، ووصف القرآن بانه مبين لانه يظهر المعنى للنفس، والبيان ظهور المعنى للنفس بما يميزه من غيره، لان معنى إبانته منه فصل منه، فاذا ظهر النقيضان في معنى الصفة فقد بانت وفهمت.

و (الود) التمنى يقال: وددته اذا تمنيته، ووددته اذا أحببته أود فهيما جميعا ودا.

وقال الحسن: اذا رأى المشركون المؤمنين دخلوا الجنة تمنوا أنهم كانوا مسلمين، وقال مجاهد: اذا رأى المشركون المسلمين يغفر لهم ويخرجون من النار يودون لو كانوا مسلمين.

___________________________________

(1) مرهذا البيت في 2: 98.

(2) سورة الحاقة 69 آية 51.

[318]

قوله تعالى: (ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الامل فسوف يعلمون(3) وماأهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم(4) ماتسبق من أمة أجلها وما يستأخرون(5) وقالوا ياأيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون(6) لوما تأتينا بالملئكة إن كنت من الصادقين(7) ماننزل الملئكة إلا بالحق وماكانوا إذا منظرين(8) إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون(9))

سبع آيات.

يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم على وجه التهديد للكفار: اترك هؤلاء يأكلوا ما يشتهون، ويستمتعوا في هذه الدنيا بمايريدون ويشغلهم الامل " فسوف يعلمون " وبال ذلك فيمابعد يعني يوم القيامة ووقت الجزاء على الاعمال.

ثم اخبر تعالى انه لم يهلك أهل قرية فيما مضى على وجه العقوبة الا وكان لها كتاب معلوم يعنى أجل مكتوب قد علمه الله تعالى لابد ان يبلغونه لماسبق في علمه، ويجوز إلا ولها بالواو وبغير الواو، لانه جاء بعد التمام، ولو جاء بعد النقصان لم يجز، نحو رجلا هو قائم، ولايجوز وهو قائم، وكذلك في الظرف في خبر كان، وقال لم تكن أمة فيما مضى تسبق اجلها فتهلك قبل ذلك ولاتتأخر عن اجلها الذي قدر لها بل اذا استوفت أجلها اهلكها الله.

ثم قال له: ان هؤلاء الكفار يقولون لك " ياأيها الذي نزل عليه الذكر " يعنون القرآن نزل عليك على قولك، لانهم لم يكونوا من المعترفين بذلك " انك لمجنون " في ادعائك أنه أنزل عليك الذكر بوحي الله اليك، ولم تكن ممن يقرأ.

[319]

وقوله " لو ماتأتينا بالملائكة " معناه هلا تأتينا، وهودعاء إلى الفعل وتحضيض عليه، ومثله قوله " لولاانزل عليه ملك " قال الشاعر:

تعدون عقر النيب أفضل مجدكم *** بني ضو طرى لولا الكمي المقنعا(1)

وقدجاء (لوما) في معنى (لولا) التي لها جواب قال ابن مقيل:

لوما الحياء ولوما الدين عبتكما *** ببعض مافيكما اذعبتما عوري(2)

اي لولا الحياء.

والمعنى في الآية هلا تأتينا بالملائكة إن كنت صادقا في انك نبي، وقال ابوعبيد عن ابن جريج: فيه تقديم وتأخير يعنى قوله " ولو فتحنا " هو جواب " لو ماتأتينا " والمعنى: فلو فعلنا ذلك بهم ايضا لما آمنوا، ومابينهما كلام مقدم والمراد به التأخير، قال المبرد: هذا الذي ذكره جائز لكن فيه بعد لانه يلبس بأن يكون فتح عليهم من انفسهم فعرج بهم. والله اعلم.

وكلا الامرين غير ممتنع الا ان العرب تمنع مما فيه لبس.

وقوله " ماننزل الملائكة الا بالحق " قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم بالنون ونصب الملائكة. الباقون بالتاء ورفع الملائكة إلا أبابكر عن عاصم فانه ضم التاء على مالم يسم فاعله.

فحجة من قرأ بالنون قوله " ولو اننا نزلنا إليهم الملائكة "(3) وحجة من قرأ " تنزل الملائكة " بفتح التاء قوله " تنزل الملائكة والروح فيها "(4). وحجة من قرأ على مالم يسم فاعله قوله " ماتنزل الملائكة الا بالحق "

وقوله تعالى " ونزل الملائكة تنزيلا "(5).

ومعنى قوله " ماننزل الملائكة الا بالحق " يعنى بالحق الذي لايلبس معه الباطل طرفه عين.

وقال الحسن ومجاهد: معناه إلا بعذاب الاستئصال اي لم

___________________________________

(1) مر تخريجه في 1: 309، 435.

(2) شواهد الكشاف 126 ومجاز القرآن 1: 346 وتفسير القرطبي 10: 4 ومجمع البيان 3: 330.

(3) سورة الانعام اية 111.

(4) سورة القدراية 4.

(5) سورة الفرقان اية 25

[320]

يؤمنوا بالآيات، كماكانت حال من قبلهم حين جاء‌تهم الآيات التي طلبوا، فلم يؤمنوا.

ومعنى " وماكانوا اذا منظرين " أنه إن نزل عليهم الملائكة ولم يؤمنوا لم ينظرهم الله، بل كان يعاجلهم العقوبة.

وقوله " انانحن نزلنا الذكر " يعنى القرآن في - قول الحسن والضحاك، وغيرهم - " واناله لحافظون " قال قتادة: لحافظون من الزيادة والنقصان.

ومثله قوله " لايأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه "(1) وقال الحسن: لحافظون حتى نجزي به يوم القيامة اي لقيام الحجة به على الجماعة من كل من لزمته دعوة النبي صلى الله عليه وسلم.

وقال الفراء: الهاء في قوله " واناله لحافظون " يجوز ان تكون كناية عن النبي، فكأنه قال: انا نحن نزلنا القرآن وانا لمحمد لحافظون، وقال الجبائي: معناه وانا له لحافظون من ان تناله أيدي المشركين، فيسرعون إلى ابطاله، ومنع المؤمنين من الصلاة به.

وفي هذه الآية دلالة على حدوث القرآن، لان مايكون منزلا ومحفوظا لايكون الامحدثا، لان القديم لايجوز عليه ذلك ولايحتاج إلى حفظه.

قوله تعالى: (ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الاولين(10) وما يأتيهم من رسول إلاكانوا به يستهزؤن(11) كذلك نسلكه في قلوب المجرمين(12) لايؤمنون به وقد خلت سنة الاولين(13))

أربع ايات بلاخلاف.

يقول الله (عزوجل) لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم تسلية له عن كفر قومه " لقد ارسلنا من قبلك في شيع الاولين " قال ابن عباس وقتادة: شيع الامم واحدهم شيعة لمتابعة بعضهم بعضا في الاحوال التي يجتمعون عليها في الزمن الواحد من مملكة

___________________________________

(1) سورة حم السجد 41 (فصلت) آية 42

[321]

أو عمارة أو بادية أو نحو ذلك من الامور الجارية في العادة، والمرسل محذوف لدلالة (أرسلنا) عليه.

وقوله " ومايأتيهم من رسول الا كانوا به يستهزؤن " اخبار منه تعالى أنه لم يبعث رسولا فيما مضى الاوكانت اممهم تستهزئ بهم، واستهزاؤهم بهم حملهم عليهم واستبعادهم مادعوا اليه واستيحاشهم منه، واستكبارهم له، حتى توهموا أنه مما لايكون، ولايصح مع مخالفته لما وجدوا عليه آباؤهم وأجدادهم واسلافهم، فكان عندهم كأنه دعا إلى خلاف المشاهدة والى مافيه جحد الضرورة والمكابرة. والهزؤ إظهار مايقصد به العيب على ايهام المدح، وهو بمعنى اللعب والسخرية.

وقوله " كذلك نسلكه في قلوب المجرمين لايؤمنون به وقد خلت سنة الاولين " قيل في معناه قولان: احدهما - كذلك نسلك القرآن الذي هو الذكر باخطاره على البال ليؤمنوا به، فهم لايؤمون به، ماضين على سنة من تقدمهم، من تكذيب الرسل، كما سلكنا دعوة الرسل في قلوب من سلف من الامم. ذهب اليه البلخي والجبائي.

وقال الحسن وقتادة: يسلك الاستهزاء بإخطاره على البال ليجتنبوه، ولوكان المراد أنه يسلك الشرك في قلوبهم، لكان يقول: انهم لايؤمنون بالشرك ولو كانوا كذلك، كانوا محمودين غير مذمومين، يقال: سلكه فيه يسلكه سلكا وسلوكا، واسلكه اسلاكا، قال عدي بن زيد:

وكنت لزاز خصمك لم اعرد *** وقد سلكوك في يوم عصيب(1)

وقال الآخر:

___________________________________

(1) انظر 6: 38 تعليقة 1

[322]

حتى اذا سلكوهم في قتائدة *** شلاكما تطرد الجمالة الشردا(1)

ومعنى قوله: " وقدخلت سنة الاولين " اي في اهلاك من اقام على الكفر بالمعجزات بعد مجئ ماطلب من الآيات، ويحتمل ان يكون المراد وقد خلت سنة الاولين في تكذيب رسلهم والكفر بما جاؤوا به.

قوله تعالى: (ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون(14) لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون(15))

آيتان.

قرأ ابن كثير وحده " سكرت " بالتخفيف. الباقون بالتشديد.

قال أبو عبيدة: (سكرت) معناه غشيت.

والمعنى في الآية سكرت الابصار، فلا ينفذ نورها، ولاتدرك الاشياء على حقيقتها، وكأن المعنى انقطاع الشئ عن سننه الجاري، فمن ذلك (سكره سكرا) إنما هورده عن سننه، وقال: السكير في الرأي قبل ان يعزم على شئ، فاذا عزم على امر ذهب السكير وهو ان ينقطع عماعليه من المضاء في حال الصحو، فلا ينفذ رأيه على حد نفاذه في صحوه، ووجه التثقيل ان الفعل مسندالى جماعة مثل قوله " مفتحة لهم الابواب "(2) ووجه التخفيف ان هذا النحو من الفعل المسند إلى الجماعة قد يخفف، قال الشاعر: مازلت اغلق ابوابا وأفتحها(3)

___________________________________

(1) قائله عبد مناف بن ربع الهذلي ديوانه 2 / 42 وتفسير الطبري 14 / 7، 18 وتفسير القرطبي 12 / 119 ومجاز القرآن 1 / 37، 331 ومجمع البيان 3 / 330 ومعجم البلدان (قتائدة) واللسان والتاج (قتد) وقد مر في 1 / 128، 149 من هذا الكتاب.

(2) سورة ص 38 اية 50.

(3) اللسان (غلق) نسبه إلى الفرزدق ولم اجده في ديوانه وروايته

مازلت افتح ابوبا واغلقها *** حتى اتيت ابا عمروبن عمار

[323]

اخبر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم ان هؤلاء الكفار لشدة عنادهم وغلظة كفرهم وتمردهم وعتوهم " لو فتحنا عليهم بابامن السماء " فصاروا " فيه يعرجون " والعروج الصعود في الهواء تعلقا به نحو السماء، عرج الملك يعرج عروجا، فلو عرج هؤلاء عروج الملك، لقالوا هذا القول.

والتسكير إدخال اللطيف في المسام، ومنه السكر بالشراب، والسكر السد بالتراب " لقالوا انما سكرت أبصارنا " بما ادخل فيها من اللطيف في مسامها، حتى منعنا من رؤية الاشياء على حقيقتها. وأصل السكر السد بما ادخل في المسام.

وقال مجاهد والضحاك وابن كثير: معنى " سكرت " سدت قال المثنى بن جندل الطهوري:

جاء الشتاء واجثأل القنبر *** واستخفت الافعى وكانت تظهر

وطلعت شمس عليها مغفر *** وجعلت عين الحرور تسكر(1)

اي تسد بشدة البرد، وقنبر وقنبر - بضم الباء وفتحها - لغتان، مثل جندب وجندب قال رؤبة:

قبل انصداع الفجر والتهجر *** وخوضهن الليل حتى تسكر(2)

اي يسد بظلمته، وحكى الفراء: ان من العرب من يقول: سكرت الريح إذا سكنت.

وقال ابن عباس وقتادة والضحاك: المعنى " لو فتحنا عليهم بابا من السماء " فظلت الملائكة تعرج إلى السماء، وهم يرونها على مااقترحوه، " لقالوا: إنما سكرت أبصارنا " وقال الحسن: يظل هؤلاء المشركون يعرجون فيه.

___________________________________

(1) مجاز القران 1 / 348 وتفسير الطبري 14 / 9 واللسان والتاج (سكر، قبر) وتفسير الطبري 14 / 8 ومجمع البيان 3 / 330 والشوكاني (الفتح القدير) 3 / 8، 11 (اجتأل) اجتمع، وتقبض، وانقبض.

و (القنبر) و (القنبار) جمعه قنابر، وتقول: العامة: قنبرة. وهم جماعة يجتمعون لجر مافي الشباك من الصيد، وهي لغة عمانية.

ومعنى (استخفت الافعى) اي تخبأت الحية الكبيرة. بعد ان كانت تظهر. وطلعت الشمس عليها غيوم. و (الحرور) الريح الحارة.

(2) تفسير الطبري 14 / 9

[324]

" بل نحن قوم مسحورون " أي يقولون: سحرنا، فنحن مسحورون والسحر حيلة خفية، توهم معنى المعجزة من غير حقيقة، ولهذا من عمل بالسحر كان كافرا، لانه يدعي المعجزة للكذابين، فلا يعرف نبوة الصادقين.

وقال أبوعبيدة: سكرت أبصار القوم إذا ادير بهم، وغشيهم كالساتر فلم يبصروا.

وروي ابن خالوية عن الزهري أنه قرأ " سكرت " بفتح السين وكسر الكاف، والتخفيف أي اختلطت وتغيرت عقولهم.

قوله تعالى: (ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين(16) وحفظناها من كل شيطان رجيم(17) إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين(18))

ثلاث آيات بلاخلاف.

أخبر الله تعالى أنه جعل في السماء بروجا. والجعل قد يكون تصيير الشئ عن صفة لم يكن عليها. وقد يكون بالايجاد له. والله تعالى قادر ان يجعل في السماء بروجا من الوجهين، والبرج: ظهور منزل ممتنع بارتفاعه، فمن ذلك برج الحصن، وبرج من بروج السماء الاثني عشر، وهي منازل الشمس والقمر.

وأصله الظهور، يقال: تبرجت المرأة إذا أظهرت زينتها.

وقال الحسن ومجاهد وقتادة: المراد بالبروج النجوم.

وقوله " وحفظناها من كل شيطان رجيم " يحتمل ان تكون الكناية راجعة إلى السماء، والى البروج. وحفظ الشئ جعله على ماينفي عنه الضياع، فمن ذلك حفظ القرآن بدرسه ومراعاته، حتى لاينسى، ومنه حفظ المال بإحرازه بحيث لايضيع بتخطف الايدي له، وحفظ السماء من كل شيطان بالمنع بما أعد له من الشهاب. والرجم بمعنى المرجوم، والرجم الرمي بالشئ بالاعتماد من غير آلة مهيأة للاصابة، فان النفوس يرمى عنها ولاترجم.

[325]

وقوله " الامن استرق السمع " معنى (الا) (لكن) فكأنه قال: لكن من استرق السمع من الشيطان يتبعه شهاب مبين قال الفراء: أي لايخطئ، وقال المفسرون: قوله " إلا من استرق السمع " مثل قوله " إلا من خطف الخطفة "(1) ومعناه معناه، والاستراق أخذ الشئ خفيا، وليس طلبهم استراق السمع مع علمهم بالشهب خروج عن العادة في صفة العقلاء، لانهم قد يطمعون في في السلامة من بعض الجهات، والشهاب عمود من نور يمد لشدة ضيائه كالنار وجمعه شهب.

وقال ابن عباس: بالشهاب يخبل ويحرق، ولايقتل.

وقال الحسن: يقتل قال ذو الرمة:

كأنه كوكب في إثر عفرية *** مسوم في سواد الليل منقضب(2)

والاتباع إلحاق الثاني بالاول، أتبعه اتباعا، وتبعه يتبعه إذا طلب اللحاق به، وكذلك اتبعه اتباعا بالتشديد " مبين " اي ظاهر مبين.

وقال الفراء: قوله " إلا من استرق السمع " استثناء صحيح، لان الله تعالى لم يحفظ السماء ممن يصعد اليها ليسترق السمع، ولكن اذا سمعه والقاه إلى الكهنة اتبعه شهاب مبين، فأما استراقهم السمع، فقال المفسرون: إن فيهم من كان يصعد السماء فيسمع الوحي من الملائكة، فاذا نزل إلى الارض اغوى به شياطينه او ألقاه إلى الكهان، فيغوون به الخلق، فلما بعث الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم منعهم من ذلك، وكان قبل البعثة لم يمنعهم من ذلك تغليظا في التكليف.

قال الزجاج: والدليل على انه لم يكن ذلك قبل النبي ان أحدا من الشعراء لم يذكره قبل بعثة لنبي صلى الله عليه وسلم مع كثرة ذكرهم الشهب بعد ذلك.

___________________________________

(1) سورة 37 الصافات آية 10.

(2) مجمع البيان 3 / 330 واللسان قضب)

[326]

قوله تعالى: (والارض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شئ موزون(19) وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين(20) وإن من شئ إلا عندنا خزائنه وماننزله إلا بقدر معلوم(21))

ثلاث آيات بلاخلاف.

قوله " والارض مددناها " عطفا على قوله " ولقد جعلنا في السماء بروجا.. والارض " ويجوز ان يكون ومددنا الارض مددناها، كماقال " والقمر قدرناه "(1) ومعنى " مددناها " بسطناها، وجعلنا لها طولا وعرضا " والقينا فيها " يعني طرحنا فيها " رواسي " يعني جبالا ثابتة.

واصله الثبوت، ويقال: رست السفينة اذا ثبتت، والمراسي ماتثبت به.

وقيل جعلت الجبال أوتادا للارض وقيل جعلت أعلاما يهتدي بها أهل الارض.

وقوله " انبتنا فيها " يعني أخرجنا النبات في الارض، والنبات ظهور النامي عن غيره، حالا بعد حال والاغلب عليه ظهوره من الارض، وقد يكون من غيره، كنبات الشعر على البدن والرأس.

" من كل شئ موزون " قيل في معناه قولان: احدهما - قال ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد والجبائي: من كل شئ مقدرمعلوم. والثاني - قال الحسن وابن زيد: من الاشياء التي توزن من الذهب والفضة والنحاس والحديد وغير ذلك.

والوزن وضع احد الشيئين بازاء الآخر على ما يظهر به مساواته في المقدار وزيادته، يقال وزنه يزنه وزنا فهو موزون، " وجعلنا لكم فيها معايش " جمع معيشة، وهي طلب اسباب الرزق مدة الحياة، فقد يطلبها الانسان لنفسه بالتصرف والتكسب، وقد يطلب له فإن أتاه اسباب الرزق من غير طلب فذلك العيش الهني.

وقوله " ومن لستم له برازقين " (من) في موضع نصب عطفا على (معايش)،

___________________________________

(1) سورة يس آية 39

[327]

وقال مجاهد: المراد به العبيد والاماء والدواب، والانعام، قال الفراء: العرب لاتكاد تجعل (من) الا في الناس خاصة، قال، فان كان من الدواب والمماليك حسن حينئذ، قال وقد يجوز ان يجعل (من) في موضع خفض نسقا على الكاف والميم في (لكم) قال المبرد: الظاهر المخفوض لايعطف على المضمر المخفوض نحو مررت بك وزيد إلا ان يضطر شاعر، على مامضى ذكره في سورة النساء، وانشد الفراء في ذلك:

نعلق في مثل السواري سيوفنا *** ومابينها والكعب غوط نفانف(1)

فرد الكعب على (بينها) وقال آخر:

هلا سألت بذي الجماجم عنهم *** وأبا نعيم ذي اللواء المحرق(2)

فرد أبا نعيم على الهاء في عنهم.

قال ويجوز ان يكون في موضع رفع، لان الكلام قدتم، ويكون التقدير على قوله " لكم فيها ".. " ومن لستم له برازقين ".

وقوله " وان من شئ الاعندنا خزائنه " فخزائن الله مقدوراته، لانه تعالى يقدر ان يوجد ماشاء من جميع الاجناس، فكأنه قال: وليس من شئ إلا والله تعالى قادر على ماكان من جنسه إلى مالانهاية له.

وقوله " وماننزله الابقدر معلوم " اي لست انزل من ذلك الشئ " إلا بقدر معلوم " اي مايصلحهم وينفعهم دون مايفسدهم ويضرهم، حسب ماسبق في علمي.

___________________________________

(1) مر هذا البيت في 3: 98.

(2) تفسير الطبري 14: 12 (الطبعة الاولى) ومجمع البيان 3: 333

[328]

قوله تعالى: (وأرسلنا الرياح لواقع فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وماأنتم له بخازنين(22) وإنا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون(23) ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين(24) وإن ربك هو يحشرهم إنه حكيم عليم(25))

أربع آيات.

قرأ حمزة وحده " الريح لواقح " الباقون " الرياح " على الجمع، قال ابوعبيدة لااعرف لذلك وجها، إلا ان يريد أن الريح تأتي مختلفة من كل وجه، فكانت بمنزلة رياح وحكى الكسائي أرض اغفال، وأرض سباسب.

قال المبرد: يجوز ذلك على بعد، ان يجعل الريح جنسا، وليس بجيد، لان الرياح ينفصل بعضها عن بعض، بمعرفة كل واحدة، وليست كذلك الارض، لانها بساط واحد.

وقال الفراء: هو مثل ثوب اخلاق وانشد:

جاء الشتاء وقميصي أخلاق *** شراذم يضحك منه التواق(1)

ومن قراء " الرياح لواقح " احتمل ذلك شيئين.

احدهما - ان يجعل الريح هي التي تلقح بمرورها على التراب والماء، فيكون فيها اللقاح، فيقال فيها ريح لاقح، كمايقال: ناقة لاقح. والثاني - ان بصفها باللقح وان كانت تلقح، كما قيل ليل نائم وسركاتم.

يقول الله تعالى انه بعث " الرياح الواقع " للسحاب والاشجار تعدادا لنعمه على عباده وامتنانا عليهم، واحدها ريح، وتجمع ايضا أرواحا، لانها من الواو، قال الشاعر:

مشين كما اهتزت رماح تسفهت *** أعاليها مر الرياح النواسم(2)

فاللواقح التي تلقح السحاب، حتى يحمل الماء أي تلقي اليه مايحمل به الماء يقال: لقحت الناقة اذا حملت، وألقحها الفحل إذا ألقى اليها الماء فحملته، فكذلك الرياح هي كالفحل للسحاب، (ولواقح) في موضع ملاقح.

___________________________________

(1) تفسير الطبري 14: 13 واللسان " خلق "، " توق ".

(2) مرهذا البيت في 2: 372 من هذا الكتاب.

[329]

وقيل في علة ذلك قولان: احدهما، لانه في معنى ذات لقاح كقولهم: هم ناصب أي ذو نصب قال النابغة:

كليني لهم يااميمة ناصب *** وليل أقاسيه بطئ الكواكب(1)

اي منصب، وقال نهشل بن حري النهشلي:

ليبك يزيد ضارع لخصومه *** ومختبط مما تطيح الطوائح(2)

اي المطاوح، وقال قتادة وابراهيم والضحاك: معنى هذا القول: ان الرياح تلقح السحاب الماء.

وقال ابن مسعود: إنها لاقحة يحملها الماء، ملقحة بإلقائها إياه إلى السحاب.

وقوله " فانزلنا من السماء ماء " يعني غيثا ومطرا " فاسقيناكموه " اي جعلته سقيا، لارضكم تشربه، يقال: سقيته، فيما يشربه، تسقيه واسقيته فيما تشربه ارضه، وقد تجئ أسقيته بمعنى سقيته، كقوله تعالى " نسقيكم مما في بطونه من بين فرت ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين "(3)، وقال ذو الرمة:

وقفت على ربع لمية ناقتي *** فمازلت أبكى عنده وأخاطبه

واسقيه حتى كاد مما أبثه *** تكلمني احجاره وملاعبه(4)

اي ادعو له بالسقيا.

" وماانتم له برازقين " اي لستم تقدرون ان ترزقوا احدا ذلك الماء، لولا تفضل الله عليكم.

ثم اخبر تعالى انه هوالذي يحيي الخلق اذا شاء وكان ذلك صلاحا لهم، ويميتهم اذا اراد وكان صلاحهم، وانه هوالذي يرث الخلق، لانه اذا افنى الخلق ولم يبق احدكانت الاشياء كلها راجعة اليه ينفرد بالتصرف فيها وكان هوالوارث لجميع الاملاك.

___________________________________

(1) ديوانه " دار بيروت " 9 وقد مر في 5: 368، 6: 95.

(2) مر هذا البيت في 4: 310.

(3) سورة النحل آية 66.

(4) ديوانه 213 وتفسير الشوكاني " الفتح القدير " 3: 48 وتفسير الطبري 14: 14 والمحاسن والاضداد للجاحظ 335 ومجمع البيان 3: 333، 359 واللسان والتاج (سقى) وقدمر الثاني في 4: 129

[330]

وقوله " ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستاخرين " قيل في معناه ثلاثة اقوال: احدهما - قال مجاهد وقتادة من مضى ومن بقي.

وثانيها - قال الشعبي: اول الخلق وآخره.

وثالثها - قال الحسن: المتقدمين في الخير والمبطئين.

وقال الفرا: لماقال النبي صلى الله عليه وسلم إن اله يصلي على الصف الاول، أراد بعض المسلمين ان يبيع داره النائية ليدنو إلى المسجد، فيدرك الصف الاول. فأنزل الله الآية، وأنه يجازي فقراء الناس على نياتهم. ثم اخبر تعالى ان الذي خلقك يامحمد هوالذي يحشرهم بعد اماتتهم، ويبعثهم يوم القيامة، لانه حكيم في افعاله عالم بما يستحقونه من الثواب والعقاب.

(والحشر) جمع الحيوان إلى مكان، يقال: هؤلاء الحشار، لانهم يجمعون الناس إلى ديوان الخراج.

و (الحكيم) العالم بما لايجوز فعله، لقبحه، او سقوط الحمد عليه، مع انه لايفعله، فعلى هذا يوصف تعالى فيما لم يزل بانه حكيم.

والحكيم المحكم لافعاله بمنع الخلل ان يدخل في شئ منها، فعلى هذا لايوصف تعالى فيمالم يزل بانه حكيم.

قوله تعالى: (ولقد خلقنا الانسان من صلصال من حما مسنون(26) والجان خلقناه من قبل من نار السموم(27))

آيتان بلاخلاف.

اخبر الله تعالى أنه خلق الانسان، والمراد به آدم بلاخلاف.

وقيل في معنى الصلصال قولان: احدهما - إنه الطين اليابس الذي يسمع له عند النقر صلصلة. ذهب اليه ابن عباس والحسن وقتادة.

والثاني - قال مجاهد: هو مثل الخزف الذي يصلصل.

[331]

وقال مجاهد: الصلصال المنتن - في رواية عنه - مشتق من صل اللحم وأصل إذا انتن، والاول اقوى، لقوله تعالى " خلق الانسان من صلصال كالفخار(1) " ومايبس كالفخار فليس بمنتن، وقال الفراء: الصلصال طين الحرار إذا خلط بالرمل اذا جف كان صلصالا، واذا طبخ كان فخارا، والصلصلة القعقعة، وهي صوت شديد متردد في الهواء كصوت الرعد، يقال لصوت الرعد صلصلة، وللثوب الجديد قعقعة، واصل الصلصلة الصوت يقال: صل يصل وهو صليل اذا صوت، قال الشاعر:

رجعت إلى صدر كجرة حنتم *** إذا فرغت صفرا من الماء صلت(2)

وقيل: خلق آدم على صورة الانسان من طين، ثم ترك حتى جف، فكانت الريح اذا مرت به سمع له صلصلة.

وقوله " من حمإ مسنون " فالحمأ جمع حمأة، وهو الطين المتغير إلى السواد، يقال: حمئت البئر وأحمأتها أنا اذا بلغت الحمأة.

وقيل في معنى (المسنون) قولان: احدهما - المصبوب من قولهم: سننت الماء على الوجه وغيره اذا صببته، وعن ابن عباس: انه الرطب، فعلى هذا يكون رطبا مصبوبا ثم يبس فيصير كالفخار. الثاني - انه المتغير، من قولهم: سننت الحديدة على المسن اذا غيرتها بالتحديد، والاصل الاستمرار في جهة، من قولهم هو على سنن واحد.

ومعنى قوله " والجان خلقناه من قبل " المراد به ابليس، خلقه الله قبل آدم - في قول الحسن وقتادة - " من نار السموم " اي من النار الحارة.

وقال عبدالله: هذه السموم جزء من سبعين جزء من السموم التي خرج منها الجان، وهو مأخوذ من دخولها بلطفها في مسام البدن ومنه السم القاتل، يقال: سم يومنا يسم سموما اذا هبت له ريح السموم.

___________________________________

(1) سورة الرحمن آية 14 - 15.

(2) قائله عمروبن شأس. اللسان " حنتم " ومجمع البيان 3: 335

[332]

قوله تعالى: (وإذ قال ربك للملئكة إني خالق بشرا من صلصال من حما مسنون(28) فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين(29) فسجد الملئكة كلهم أجمعون(30) إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين(31))

أربع آيات بلاخلاف.

لفظة (إذ) تدل على مامضى من الزمان، ولابد لها من فعل متعلق به، والتقدير واذكر يامحمد " اذقال ربك للملائكة إني خالق بشرا " اي اخلقه فيما بعد، قبل ان يخلقه، والمراد بالبشر آدم، وسمي بشرا لانه ظاهر الجلد، لايرى فيه شعر، ولاصوف كسائر الحيوان.

ثم قال " من صلصال من حما مسنون " وقد فسرناه.

وقوله " فإذا سويته " معناه سويت صورته الانسانية، والتسوية جعل واحد من الشيئين على مقدار الآخر وقد يسوى بين الشيئين في الحكم.

وقوله: " ونفخت فيه من روحي " فالنفخ الاجراء لريح في الشئ باعتماد، نفخ ينفخ إذا اجرى الريح باعتماد، فلما أجرى الله الروح على هذه الصفة في البدن، كان قد نفخ الروح فيه، وأضاف روح آدم إلى نفسه تكرمة له، وهي اضافة الملك، لما شرفه وكرمه، والروح جسم رقيق روحاني فيها الحياة التي بها يجئ الحي، فاذا خرجت الروح من البدن، كان ميتا في الحكم، فاذا انتفت الحياة من الروح، فهو ميت في الحقيقة.

وقوله " فقعوا له ساجدين " أمرمن الله تعالى، إلى الملائكة ان يسجدوا لآدم.

وقيل في وجه سجودهم له قولان: احدهما - انه سجود تحية وتكرمة لآدم، عبادة لله تعالى.

وقيل: أنه على معنى السجود إلى القبلة. والاول عليه اكثر المفسرين. ثم استثنى من جملتهم

[333]

ابليس انه لم يسجد، " وأبى ان يكون مع الساجدين " لآدم.

وابليس مشتق من الابلاس، وهو اليأس من روح الله إلا انه شبه بالاعجمي من جهة انه لم يستعمل إلا على جهة العلم، فلم يصرف.

وقال قوم: إنه ليس بمشتق، لانه أعجمي بدلالة انه لاينصرف.

والاباء: الامتناع، والسجود خفض الجبهة بالوضع على بسط من الارض او غيره، واصله الانخفاض قال الشاعر: ترى الاكم فيها سجد اللحوافر(1) واختلفوا في هذا الاستثناء، فقال قوم: ان ابليس كان من الملائكة، فلذلك استثناه، وقال آخرون: إنماكان من جملة المأمورين بالسجود لآدم، فلذلك استثناه من جملتهم، وقال آخرون: هو استثناء منقطع ومعناه (لكن) وقد بينا الصحيح من ذلك في سورة البقرة(2) ومن قال: لم يكن من الملائكة قال: الملائكة خلقوا من نور، وإبليس خلق من نار، والملائكة لايعصون، وإبليس عصى بكفره بالله.

والملائكة لاتأكل ولاتشرب ولا تنكح، وإبليس بخلاف ذلك، قال الحسن: إبليس أب الجن، كما ان آدم أب الانس قوله تعالى: (قال ياإبليس مالك ألا تكون مع الساجدين(32) قال لم أكن لاسجد لبشر خلقته من صلصال من حما مسنون(33))

آيتان بلاخلاف.

هذا خطاب من الله تعالى لابليس يقول له: لم لاتكون مع الساجدين، تسجد كماسجدوا. واختلفوا في كيفية هذا الخطاب، فقال الجبائي: قال الله له

___________________________________

(1) مر هذا الشعر في: 148، 263، 311، 4: 233، 383، 6.

(2) انظر 1: 147 في تفسير آية 34 من سورة البقرة.

[334]

ذلك على لسان بعض رسله وهو ألاليق، لانه لايصح ان يكلمه الله بلاواسطة في زمان التكليف.

وقال آخرون: كلمه، بالانكار عليه والاهانة له، كما قال " اخسؤوا فيها ولا تكلمون "(1). هذا ينبغي ان يكون حكاية عمايقوله له في الآخرة، فقال إبليس مجيبا لهذا الكلام: ماكنت بالذي اسجد لبشر " خلقته من صلصال من حما مسنون " وقد فسرناه. ولم يعلم وجه الحكمة في ذلك، لان في ذلك قلبا للشئ عن الحالة الحقيرة في الضعة إلى هذه الحالة الجليلة، وأي ذلك كان، فانه لايقدر عليه غير الله، وانه لاينتفع للعظم في الصفة مع إمكان قلبه إلى النقص في الصفة، وكذلك لايضر النقص في الصفة، مع إمكان قلبه إلى الاعظم، فلو نظر في ذلك لزالت شبهته في خلقه من نار وخلق آدم من طين، قال المبرد: قوله " مالك ألاتكون " (لا) زائدة مؤكدة، والتقدير مامنعك ان تسجد، ف‍ (أن) في قول الخليل وأصحابه في موضع نصب، لانه إذا حذف حرف الجر ونصب مابعده، وقال غيره: في موضع خفض، لان المعنى مامنعك من ان تكون، فحذف (من)

قوله تعالى: (قال فاخرج منها فإنك رجيم(34) وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين(35) قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون(36) قال فإنك من المنظرين(37) إلى يوم الوقت المعلوم(38))

خمس آيات بلاخلاف.

هذاخطاب من الله تعالى لابليس لما احتج لامتناعه من السجود لادم بماليس بحجة، بل هو حجة عليه، فاخرج منها.

قال الجبائي: أمره بالخروج من الجنة.

وقال غيره أمره بالخروج من السماء.

___________________________________

(1) سورة المؤمنون آية 109

[335]

" فانك رجيم " أي مرجوم بالذم والشتم (فعيل) بمعنى مفعول.

وقد يكون (فعيل) بمعنى فاعل مثل رحيم بمعنى راحم.

" وان عليك اللعنة " اي عليك مع ذلك اللعنة، وهي الابعاد من رحمة الله، ولذلك لايجوز ان تلعن بهيمة، فأمالعن إبليس إلى يوم الدين، فإن الله قدلعنه، والمؤمنون لعنوه لعنة لازمة إلى يوم الدين، وهو يوم القيامة.

ثم يحصل بعد ذلك على الجزاء بعذاب النار.

وقيل الدين - ههنا - الجزاء، ومثله " مالك يوم الدين " اي يوم الجزاء.

ويقال لفلان دين اي طاعة يستحق بها الجزاء، وفلان يدين للملوك أي يدخل في عادتهم في الجزاء، فقال حينئذ ابليس: يارب " انظرني إلى يوم يبعثون " اي أخر في وقتي إلى يوم يحشرون، يعني القيامة، يحشرهم الله للجزاء.

والانظار والامهال واحد، فقال الله تعالى له: اني انظرتك وأخرتك وجعلتك من جملة " المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم " فقال قوم: هو يوم القيامة، أنظره الله في رفع العذاب عنه إلى يوم القيامة، وفي التبقية إلى آخر أحوال التكليف " ويوم يبعثون " يوم القيامة.

وقد قيل: إن يوم الوقت المعلوم هو آخر أيام التكليف، وأنه سأل الانظار إلى يوم القيامة، لان لايموت، اذ يوم القيامة لايموت فيه احد، فلم يجبه الله إلى ذلك.

وقيل له " إلى يوم الوقت المعلوم " الذي هو آخر ايام التكليف.

وقال البلخي: اراد بذلك إلى يوم الوقت المعلوم، الذي قدر الله أجله فيه، وهومعلوم، لانه لايجوز ان يقول تعالى لمكلف اني ابقيك إلى يوم معين لان في ذلك اغراء له بالقبيح.

واختلفوا في تجويز، إجابة دعاء الكافر، فقال الجبائي: لايجوز، لان اجابة الدعاء ثواب، لمافيه من اجلال الداعي باجابته إلى ماسأل وقال ابن الاخشاد: يجوز ذلك، لان الاجابة كالنعمة في احتمالها ان تكون ثوابا وغير ثواب، لانه قد يحسن منا ان نجيب الكافر إلى ماسأل استصلاحا له ولغيره، فأما قولهم: فلان مجاب الدعوة، فهذه صفة مبالغة لاتصح لمن كانت إجابته نادرة من الكفار.

[336]

قوله تعالى: (قال رب بما أغويتني لازينن لهم في الارض ولاغوينهم أجمعين(39) إلا عبادك منهم المخلصين(40))

آيتان بلاخلاف.

لماأجاب الله تعالى إبليس إلى الانظار إلى يوم الوقت المعلوم، قال عند ذلك يارب " بما أغويتني " اي فيما خيبتني من رحمتك، لان الغي الخيبة قال الشاعر.

فمن يلق خيرا يحمد الناس امره *** ومن يغو لايعدم على الغي لائما(1)

وقال قوم: معناه بما نسبتني إلى الغي ذما لي، وحكمت علي بالغي.

وقال البلخي: معناه فيما كلفتني السجود لآدم الذي غويت عنده، فسمي ذلك غواية، كماقال " فزادتهم رجسا إلى رجسهم "(2) لما ازدادوا عندها، على ان هذا حكاية قول إبليس، ويجوز ان يكون اعتقد ان الله خلق فيه الغواية، فكفر بذلك، كما كفر بالامتناع من السجود.

والباء في قوله " فبما أغويتني " قيل في معناها قولان: احدهما - ان معناها القسم، كقولك بالله لافعلن.

والآخر - بخيبتي " لاغوينهم " كأنها سبب لاغوائهم، كقولك بمعصيته ليدخلن النار، وبطاعته ليدخلن الجنة.

والاغواء الدعاء إلى الغي، والاغواء خلاف الارشاد، فهذا أصله، وقد يكون الاغواء بمعنى الحكم بالغي، على وجه الذم والتزيين جعل الشئ منقبلا في النفس من جهة الطبع والعقل، بحق ام بباطل.

واغواء الشيطان تزيينه الباطل حتى يدخل صاحبه فيه، ويرى ان الحظ بالدخول فيه.

و " لاغوينهم " اي أدعوهم إلى ضد الرشاد، ثم أستثنى من جملتهم عباد الله المخلصين الذين أخلصوا عبادتهم لله وامتنعوا من اجابة الشيطان، في ارتكاب المعاصي، لانه ليس للشيطان عليهم

___________________________________

(1) مرهذا البيت في 2: 312، 4: 391، 5: 548.

(2) سورة التوبة آية 126

[337]

سبيل، كماقال تعالى " ان عبادي ليس لك عليهم سلطان " يعنى عباد الله الذين فعلوا ما أمرهم به وانتهوا عما نهاهم عنه.

ومن كسر اللام فلقوله " وأخلصوا دينهم لله "(1) ومن فتحها أراد ان الله أخلصهم بأن وفقهم لذلك، ولطف لهم فيه.

___________________________________

(1) سورة النساء آية 146.

الآية: 41 - 99

قوله تعالى: (قال هذا صراط علي مستقيم(41) إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين(42) وإن جهنم لموعدهم أجمعين(43) لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم(44))

أربع آيات بلاخلاف.

قرأ يعقوب " صراط علي " بتنوين علي، ورفعه على أنه صفة ل‍ (صراط) بمعنى رفيع، وبه قرأ ابن سير بن وقتادة. الباقون بفتح الياء على الاضافة إلى الياء.

وقيل في معناه قولان. احدهما - إن ذلك على وجه التهديد، كقولك لمن تتهدده وتتوعده: على طريقك، والى مصيرك، كماقال " إن ربك لبالمرصاد "(2) وهوقول مجاهد وقتادة. الثاني - إنه يراد به الدين المستقيم، وأن الله يبينه وينفي الشبهة عنه بهداية المستدل على طريق الدليل.

وقوله " ان عبادي ليس لك عليهم سلطان " اخبار منه تعالى ان عباده الذين

___________________________________

(2) سورة الفجر آية 14

[338]

يطيعونه وينتهون إلى أمره ويجتنبون معاصيه ليس للشيطان عليهم سلطان ولا قدرة اكثر من ان يغويهم، فإذا لم يقبلوا منه ولايتبعونه، فلايقدر لهم على ضر ولانفع.

وقال الجبائي: ذلك يدل على ان الجن لايقدرون على الاضرار ببني آدم، لانه على عمومه.

وقال غيره: الآية تدل على نفي السلطان بالاغواء، لانهم اذا لم يقبلوا منه ولايتبعونه، فكأنه لاسلطان له عليهم، ولايمتنع ان يقدروا على غير ذلك من الاضرار. ثم استثنى تعالى من جملة العباد من يتبع ابليس على إغوائه وينقاد له ويقبل منه، لانه اذا قبل منه، صار له عليه سلطان، بعدوله عن الهدى إلى مايدعوه اليه من اتباع الهوى، فيظفر به إبليس.

ثم اخبر تعالى ان جهنم موعد جميع العصاة والخارجين عن طاعته، ومن يتبع ابليس على إغوائه. و (جهنم) لاتنصرف لانها معرفة مؤنثة، وقد يقال للنار اذا عظمت واشتدت: هذه جهنم، تشبيها بجهنم المعروفة، وهذا لم ينكر، ثم اخبر عن صفة جهنم بأن " لها سبعة ابواب " وقال علي (ع) والحسن وقتادة وابن جريج: ابوابها أطباق بعضها فوق بعض " لكل باب جزء " من المستحقين للعقوبة على قدر استحقاقهم من العقاب، في القلة والكثرة بحسب كثرة معاصيهم وقلتها.

قوله تعالى: (إن المتقين في جنات وعيون(45) أدخلوها بسلام آمنين(46) ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين(47) لايمسهم فيها نصب وماهم منها بمخرجين(48))

أربع ايات بلاخلاف.

[339]

لمااخبر الله تعالى عن الكفار ان مستقرهم جهنم، ووصف جهنم، اخبر - ههنا - ماللمتقين، فقال " ان للمتقين " الذين يتقون عقاب الله باجتناب معاصيه وفعل طاعته " جنات " وهي البساتين التي تنبع فيها المياه، كماتفورمن الفوارة، ثم يجري في مجاريه، وانما يشوقهم إلى الثواب بالجنان، لانها من اسباب لذات الدنيا المؤدية اليها، كما ان النار من اسباب الآلام لمن حصل فيها.

والفرق بين الجنة والروضة: ان الجنة لابد ان يكون فيها شجر، لان اصلها من ان الشجر يجنها، والروضة قد تكون بغير شجر، يقال: روضة خضرة ورباض مونقات.

وقوله " ادخلوها " اي يقال للمتقين " ادخلوها بسلام آمنين " بسلامة وهي البراء‌ة من كل آفة ومضرة، كما قال " واذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما "(1) اي براء‌ة منكم، ومعنى " آمنين " اي ساكني النفس إلى انتفاء الضرر. والامانة الثقة بالسلامة من الخيانة.

وقوله " ونزعنا ما في صدورهم من غل " فالغل الحقد الذي ينعقد في القلب، ومنه الغل الذي يجعل في العنق، والغلول الخيانة التي تطوق عارها صاحبها، فبين تعالى ان الاحقاد التي في صدور اهل الدنيا تزول بين اهل الجنة ويصبحون " اخوانا " متحابين " على سرر " وهي جمع سرير، وهو المجلس الرفيع موطأ للسرور، ويقال في جمعه: اسرة ايضا، وهو مأخوذ من السرور، لانه مجلس سرور " متقابلين " اي كل واحد منهم مقابل لصاحبه ومحاذ لاخيه، فانه بذلك يعظم سرورهم.

والتقابل وضع كل واحد بازاء الآخر على التشاكل وقال قوم: ان نزع الغل يكون قبل دخول الجنة.

وقال آخرون: يكون ذلك بعد دخولهم فيها.

وقوله " لايمسهم فيها نصب " اخبار منه تعالى: ان هؤلاء المؤمنين الذين حصلوا في الجنة " اخوانا على سرر متقابلين " لايمسهم في الجنة نصب وهو التعب والوهن الذي من العمل، للوهن الذي يلحق.

___________________________________

(1) سورة 25 الفرقان آية 63

[340]

ثم اخبر انهم مع ذلك لايخرجون من الجنة بل يبقون فيها مؤبدين. و (اخوانا) نصب على الحال. وقال قوم هو نصب على التمييز.

قوله تعالى: (نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم(49) وأن عذابي هو العذاب الاليم(50))

آيتان بلاخلاف.

أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم ان يخبر عبادالله الذين خلقهم لعبادته على وجه الترغيب لهم في طاعته والتخويف عن معصيته، باني انا الذي أعفو واستر على عبادي معاصيهم، ولا افضحهم بها يوم القيامة اذا تابوا منها، لرحمتي وانعامي عليهم، وان مع ذلك عذابي وعقوبتي " هوالعذاب الاليم " المؤلم الموجع، فلا تعولوا على محض غفراني، وخافوا عقابي، وكونوا على حذر باجتناب معاصي والعمل بطاعتي.

قوله تعالى: (ونبئهم عن ضيف إبرهيم(51) إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون(52) قالوا لاتوجل إنا نبشرك بغلام عليم(53) قال أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون(54))

أربع آيات بلاخلاف.

قرأ نافع " تبشرون " بكسر النون مع التخفيف بمعنى تبشرونني وحذف النون استثقالا، لاجتماع المثلين، وبقيت الكسرة الدالة على الياء المفعولة، والنون الثانية محذوفة، لان التكرير بها وقع، ولم تحذف الاولى لانها علامة الرفع ومثله قول الشاعر:

[341]

تراه كالثغام يعل مسكا *** بسوء الغاليات اذا قليني(1)

أراد قلينني، فحذف إحدى النونين.

وقال اهل الكوفة: ادغم ثم حذف، وحجتهم " وكادوا يقتلونني "(2) وقوله " اتعدانني "(3) فأظهر النونات، وأما حرف المشدد نحو " تأمروني "(4) و " أتحاجوني "(5) وماأشبه ذلك. وشدد النون وكسرها ابن كثير. الباقون بفتح النون.

قال أبوعلي: من شدد النون أدغم النون الاولى التي هي علامة الرفع في الثانية المتصلة بالياء التي للمضمر المنصوب للمتكلم، وفتحها، لانه لم يعد الفعل إلى مفعول به، كما عداه غيره. وحذف المفعول كثير. ولولم يدغم، وبين، كان حسنا في القياس مثل (يقتلونني) في جواز البيان والادغام. ومن فتح النون جعلها علامة الرفع، ولم يعد الفعل فيجتمع نونان.

أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم ان يخبر من تقدم ذكره " عن ضيف ابراهيم " والضيف هو المنضوي إلى غيره لطلب القرى، وجمعه ضيوف وأضياف وضيفان " إذ دخلوا عليه " يتعلق ب‍ (ضيف) وضيف يقع على الواحد والاثنين والجمع، فلذلك قال " إذ دخلوا عليه " فكنى بكناية الجمع. وسماهم ضيفا، وهم ملائكة، لانهم دخلوا بصورة البشر " فقالوا سلاما " نصبه على المصدر، والمعنى سلمت سلاما على وجه الدعاء، والنحية. ومثله قوله " وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما "(6) والمعنى سلمنا منكم سلاما، والسلامة نقيض البلاء والافة المخوفة، والنجاة نقيض الهلاك.

وقوله " قال إنا منكم وجلون " اخبار عما أجاب به ابراهيم ضيفانه بأنه خائف منهم، والوجل الخوف، فأجابه الضيفان، وقالوا " لاتوجل " أي لا تخف انا جئناك " نبشرك بغلام عليم ".

___________________________________

(1) قائله عمربن معد يكرب. الكتاب لسيبويه 2: 67 وشرح المفضليات 78 والانصاف 377 ومجاز القرآن 1: 352 ومجمع البيان 3: 339.

(2) سورة 7 الاعراف آية 149.

(3) سورة 46 الاحقاف اية 17.

(4) سورة 39 الزمر اية 64.

(5) سورة الانعام اية 80،.

(6) سورة 25 الفرقان اية 63

[342]

والتبشير الاخبار بمايسر، بمايظهر في بشرة الوجه سرورا به يقال: بشرته أبشره بشارة وأبشر ابشارا بمعنى استبشر، وبشرته تبشيرا، وانما وصفه بأنه " عليم " قبل كونه، لدلالة البشارة به على انه سيكون بهذه الصفة، لانه إنمابشر بولد يرزقه الله اياه ويكون عليما، فقال لهم ابراهيم " أبشرتموني على ان مسني الكبر " اي كيف يكون لي ولد وقد صرت كبيرا، لان معنى " مسني الكبر " أي غيرني الكبر عن حال الشباب التي يطمع معها في الولد، إلى حال الهرم.

وقيل في معناه قولان: احدهما - انه عجب من ذلك لكبره، فقاله على هذا الوجه.

والآخر - انه استفهم فقال: أأمر الله ان تبشرونني، في قول الجبائي.

ومعنى (على ان مسني) أي بأن مسني، كما قال " حقيق على ان لاأقول "(1) بمعنى بأن لا أقول.

قوله تعالى: (قالوا بشرناك بالحق فلاتكن من القانطين(55) قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون(56))

آيتان بلاخلاف.

قرأ أبوعمرو والكسائي " يقنط " بكسر النون، حيث وقع، الباقون بفتحها، وكلهم قرأ " من بعد ماقنطوا "(2) بفتح النون، قال ابو علي: قنط يقنط ويقنظ لغتان بدلالة إجماعهم على قوله " من بعد ماقنطوا " بفتح النون وقدحكي: يقنط بضم النون، وهي شاذة، وهذا يدل على ان ماضيه على (فعل) لانه ليس في الكلام (فعل يفعل).

وقدحكي عن الاعمش أنه قرأ " من بعدما قنطوا " بكسر النون، وهي شاذة لايقرأ بها.

وفي هذه الآية حكاية ماقالت الملائكة لابراهيم، حين عجب ان يكون له

___________________________________

(1) سورة 7 الاعراف آية 104.

(2) سورة 42 الشورى آية 28

[343]

ولد لكبر سنه وعلو عمره، إنا بشرناك بذلك على وجه الحق والصحيح، وأخبرناك به على وجه الصدق، فلاتكن بعد ذلك من جملة القانطين، يعني الآيسين فأجابهم ابراهيم عند ذلك بأن قال: و " من " الذي " يقنط " أي ييأس " من رحمة " الله وحسن إنعامه، إلا من كان عادلا عن الحق ضالا عن سبيل الهدى، وهذا يقوي قول من قال: إنه راجعهم في ذلك على وجه الاستفهام دون الشك في اقوالهم.

قوله تعالى: (قال فما فخطبكم أيها المرسلون(57) قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين(58) إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين(59) إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين(60))

أربع آيات بلاخلاف.

فقال ابراهيم (ع) بعدذلك للملائكة " ماخطبكم " اي ماالامر الجليل الذي بعثتم له، والخطب الامر الجليل، ومثله ماشأنك، وماأمرك، ومنه الخطبة، لانها في الامر الجليل، فأجابته الملائكة بأنا " أرسلنا إلى قوم مجرمين " وقوم الرجل: هم الذين يقيمون بنصرته، والنفر الذين ينفرون في مهام الامور. وقوم لوط هم الذين كان يجب عليهم القيام بنصرته ومعونته على أمره.

وقال قوم: إنه يقع على الرجال دون النساء. والمجرم المنقطع عن الحق إلى الباطل، وهو القاطع لنفسه عن المحاسن إلى المقابح، والمعنى " انا أرسلنا إلى " من وصفنا لنهلكهم، وننزل بهم العقوبة.

ثم استثنى من ذلك (آل لوط) وأخبر انهم ينجونهم كلهم، يقال: نجيت فلانا وانجيته، فمن قرأ بالتشديد أراد التكثير.

ثم استثنى من جملة آل لوط امرأته، وبين انها هالكة مع الهالكين، (وقدرنا) اي كتبنا " انها لمن الغابرين " والغابر الباقي في من يهلك. والغابر الباقي في مثل الغيرة، مما يوجب الهلكة.

قال الشاعر:

[344]

فما ونى محمد مذ أن غفر *** له الاله مامضى وماغبر(1)

وآل الرجل أهله الذين يرجعون إلى ولايته، ولهذا يقال أهل البلد، ولا يقال آل البلد، ولكن آل الرجل اتباعه الذين يرجع أمرهم اليه بولايته ونصرته وقيل: إن امرأة لوط كانت في جملة الباقين. ثم اهلكت فيمابعد " وقدرنا " بالتخفيف مثل (قدرنا) بالتشديد، وكلهم قرأ - هاهنا - مشددا إلا أبابكر عن عاصم، فانه خففها، ويكون ذلك من التقدير، كماقال " ومن قدر عليه رزقه "(2).

وقال ابوعبيدة: في الآية معنى فقر، وكان ابويوسف يتأوله فيها، لان الله تعالى استثنى آل لوط من المجرمين، ئم استثنا استثناء رده على استثناء كان قبله، وكذلك كل استثناء في الكلام إذاجاء بعد آخر عاد المعنى إلى أول الكلام، كقول الرجل: لفلان علي عشرة إلا أربعة إلادرهم، فأنه يكون اقرار بسبعة، وكذلك لوقال: علي خمسة إلادرهما إلا ثلثا، كان إقرار بأربعة وثلث، وكذلك لو قال لامرأته أنت طالق ثلاثا إلا اثنتين إلا واحدة كانت طالقا إثنتين، قال: واكثر مايستثنى ما هو أقل من النصف، ولم يسمع اكثر من النصف الابيت أنشده الكسائي:

ادو ا التى نقصت سبعين من مئة *** ثم ابعثوا حكما بالعدل حكاما

فجعلها مئة إلا سبعين، وهو يريد ثلاثين، وضعف المبرد الاحتجاج بهذا البيت، ولم يجز إستثناء الاكثر من الجملة ولانصفها، وإنما جاز استثناء مادون النصف من الجملة حتى قال: لايجوز ان يقال: له عندي عشرة إلا نصف ولا عشرة إلا واحد، قال: لان تسعة ونصف أولى بذلك، وكذلك لايجوز: له الف إلا مئة، لان تسعة مئة أولى بذلك، وإنما يجوز الف إلا خمسين وإلا سبعين والا تسعين، قال: وعلى هذا النحو بني هذا الباب.

والصحيح الاول، عند اكثر العلماء من المتكلمين والفقهاء واكثر النحويين.

___________________________________

(1) قائله العجاج ديوانه 15 واللسان (ثبت)، وقد مر قسم من هذا الرجز في 4: 588: 589 تعليقة 4.

(2) سورة الطلاق آية 7

[345]

قوله تعالى: (فلما جاء آل لوط المرسلون(61) قال إنكم قوم منكرون(62) قالوا بل جئناك بماكانوا فيه يمترون(63) وأتيناك بالحق وإنا لصادقون(64))

أربع آيات بلاخلاف.

أخبر الله تعالى ان الملائكة الذين بعثهم الله لاهلاك قوم لوط، لماجاؤوا لوطأ وقومه، وكانوا في صورة لايعرفهم بها لوط، انكرهم، وقال لهم " انكم هم منكرون " اي لاتعرفون مع الاستيحاش منكم، لانه لم يثبتهم في ابتداء مجيئهم فلما اخبروه بأنهم رسل الله جاؤوا بعذاب قومه وسؤاله الامر، عرفهم حينئذ، وقالوا " بل جئناك بماكانوا فيه يمترون " اي بالعذاب الذي كانوا يشكون فيه ويكذبون به، وقد يوصف الجاهل بالشك من جهة مايعرض له فيه من حيث لا يرجع إلى ثقة فيما هو عليه.

وقالوا له ايضا انا جئناك بالحق فيما أخبرناك به من عذاب قومك، ونحن صادقون فيه.




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21336024

  • التاريخ : 28/03/2024 - 19:42

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net