00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة الرعد من ( آية 1 ـ 27 ) 

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : التبيان في تفسير القرآن ( الجزء السادس )   ||   تأليف : شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي

13 - سورة الرعد

قال قتادة هي: مدنية إلا آية منها فانها مكية وهي قوله " لا يزال الذين كفروا تصيبهم بماصنعوا قارعة ".

وقال مجاهد: هي مكية وليس فيها ناسخ ولامنسوخ.

وهي ثلاث وأربعون آية في الكوفي وأربع في المدنيين وخمس في البصري.

الآية: 1 - 19

بسم الله الرحمن الرحيم

(المر تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق ولكن أكثر الناس لايؤمنون(1))

آية بلاخلاف.

لم يعد احد " المر " آية وعد الكوفيون " طه " و " حم " آية قالوا، لان (طه) مشاكلة لرؤوس الآي التي بعدها بالالف مع انه لايشبه الاسم المفرد، كما أشبه " صاد " وقاف " و " نون " لانها بمنزلة (باب) و " نوح "، وعد " كهيعص " لانه يشاكل رؤوس الآي بعده بالارداف.

وقد بينا في أول سورة البقرة أقوال المفسرين في تأويل اوائل السور بالحروف(1). وان اقواها ان يقال أنها اسماء السور واجبنا عما اعترض عليه، فلاوجه لاعادته.

___________________________________

(1) في 1: 47 - 51.

[212]

وروي عن ابن عباس ان معنى قوله " المر " انا الله أرى.

وقال غيره: معناه انا الله أعلم. وروي انها حروف تدل على اسم الرب.

وقوله " تلك آيات الكتاب " ومعناه هذه تلك آيات الكتاب التي تقدمت صفتها. والبشارة بها بما فيها من الهداية، كما تقول تلك الدلالة اي التي وصفها بأنه لا غنا لاحد عنها، فيقول: هذا تنبيها عليها، وتفخيما لشأنها.

وقال الحسن والجبائي: يعني بالكتاب القرآن.

وقال مجاهد وقتادة: يعني به الانجيل.

والاول اصح.

وآيات الكتاب هي الكتاب، ولكن أضيف إلى نفسه، لما اختلف لفظه كما قال " حق اليقين "(1) وغير ذلك مما قد مضى ذكره، وكمايقال مسجد الجامع، والمسجد الجامع، والآيات الدلالات المعجبة المؤدية إلى المعرفة بالله وانه لايشبه الاشياء، ولاتشبهه، والكتاب الصحيفة التي فيها الكتابة، وقد يكون مصدركتب، تقول: كتب كتابا وكتابة.

" والذي أنزل اليك من ربك الحق " يحتمل وجهين من الاعراب: الرفع والجر، فالرفع على الابتداء وخبره الحق، والجر على انه عطف على الكتاب، وهو غيره - على قول مجاهد - ويجوز ان تكون صفة - في قول الحسن - كماقال الشاعر:

إلى الملك القرم وابن الهمام *** وليث الكتيبة في المزدحم(2)

" ولكن اكثر الناس لايؤمنون " اي لايصدق اكثر الناس بأنه كذلك، ويكفرون به. والحق وضع الشئ في موضعه على ماتقتضيه الحكمة والانزال النقل من علو إلى سفل أنزله إنزالا، ونزله تنزيلا، وضده الاصعاد.

___________________________________

(1) سورة الواقعة آية 95(2) مر تخريجه في 2: 98.

[213]

قوله تعالى: (ألله الذي رفع السموات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لاجل مسمى يدبر الامر يفصل الايات لعلكم بلقاء ربكم توقنون(2))

آية بلا خلاف.

أخبر الله تعالى في هذه الآية بمايدل على وحدانيته وكونه على صفات لا يشاركه فيها احد من المخلوقين من كونه قادرا لنفسه، لانه قال تعالى هو الذي رفع السموات بغير عمد ترونها.

وقيل فيه قولان: الاول - قال ابن عباس ومجاهد: يعنى ليس ترونها دعامة تدعمها، ولا فوقها علاقة تمسكها. الثاني - قال قتادة واياس بن معاوية: ان المعنى إنه رفع السموات بلاعمد ونحن نراها.

وقال الجبائي: تأويل ابن عباس ومجاهد خطأ لانه لو كان لها عمد، لكانت اجساما غلاظا ورؤيت، وكانت تحتاج إلى عمد آخر إلا هو تعالى. وهذاهو الصحيح.

والوجه في قوله " بغير عمد " انه لوكان لها عمد لرئيت.

ومثله قول الشاعر: على لاحب لايهتدي لمناره(1) والمعنى انه لامنارله، لانه لوكان له منار لاهتدي به، وقد بينا نظائر ذلك فيما مضى(2).

و (عمد) جمع عمود يقال: عمد، كما يقال: اديم وادم.

قال ابو عبيدة: وهذا الجمع قليل.

وقد قرئ في الشواذ (عمد) بضم العين والميم، وهو القياس.

والعمود السارية، ومثله الدعائم والسند واصله منع الميل، فمنه التعميد والاعتماد، قال النابغة:

وخيس الجن اني قد اذنت لهم *** يبنون تدمر بالصفائح والعمد(3)

___________________________________

(1) مر هذا البيت في 1: 189، 279، 444، 2: 88، 356، 423، 562، 3: 380.

(2) راجع ماسبق ان اشرنا اليه في التعليقة قبل هذه رقم 1.

(3) ديوانه (دار بيروت) 33 ومعنى (خيس) ذلل. و (تدمر) بلد بالشام.

[214]

وقوله " ثم استوى على العرش " معناه استولى بالاقتدار عليه ونفوذ السلطان واصله استواء التدبير، كما ان اصل القيام الانتصاب ثم قال: قائم بالتدبير، فالمعنى مستو على العرش بالتدبير المستقيم من جهته بجميع الامور.

و (ثم) دخلت على معنى " ثم استوى على العرش " بالتدبير للاجسام التي قدكونها، فهي تدل على حدوث التدبير.

وقال ابوعلي: هي لتسخير الشمس والقمر لكنه قدم في صدر الكلام، كما قال " ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين "(1) والمعنى حتى يجاهد من نعلم من المجاهدين.

وقوله " وسخر الشمس والقمر " فالتسخير والتذليل والتوطئة نظائر، والمسخر هو المهيأ، لانه يجري بنفسه من غير معاناة صاحبه فيما يحتاج اليه كتسخير النار للاسخان والماء للجريان، والفرس للركوب.

وقوله " كل يجري لاجل مسمى " اجراه على لفظ كل، ومثله كل منطلق اي اكلهم، ورفع كلا، لانه مستأنف، وذهب بمعنى الاثنين في الشمس والقمر إلى الجمع، كماقال " فان كان له اخوة "(2) وإنما هما أخوان.

و (الاجل) هوالوقت ضروب لحدوث أمر وانقطاعه، فاجل الدنيا الوقت المضروب، لانقضائها واجل الآخرة، الوقت المضروب لحدوثها، واجل الدين وقت حدوث أدائه، واجل العمر الوقت المضروب لانقضائه، والاجل المسمى - ههنا - قيل يوم القيامة.

وقوله " يدبر الامر فالتدبير تصريف الامور على مايقتضيه مستقبل حاله في عاقبته، فتدبير السموات والارض فيه دلالة على مدبر حكيم، قد جعل جميع ذلك لما يصلح في عاقبته، وعاجلته. ودخلت الالف واللام على (الشمس) وهي واحدة لاثاني لها، لان في إسمها معنى الصفة، لانه لو وجد مثلها لكان شمسا، وكذلك (القمر) لو خلق الله مثله لكان قمرأ، وليس كذلك زيدوعمرو.

___________________________________

(1) سورة محمد آية 31.

(2) سورة النساء آية 11.

[215]

وقوله " يفصل الآيات " اي يميز الدلالات واختلاف مدلولاتها، من كونه قادرا عالما حكيما لايشبه شيئا، ولايشبهه شئ " لعلكم بلقاء ربكم توقنون " معنا لكي توقنوا لقاء ثواب طاعات الله ولقاء عقاب معاصيه، فسمى لقاء ثوابه وعقابه لقاء‌ه مجازا.

قوله تعالى: (وهو الذي مد الارض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشي الليل النهار إن في ذلك لايات لقوم يتفكرون(3))

آية بلاخلاف.

ذكر الله تعالى في الآية الاولى بالسماء والشمس والقمر، لان اكثر مافي العالم متعلق بذلك وجار مجراه كالنبات والحرث والنسل، ثم ذكر في هذه الآية الارض وتدبيره لها على مافيه من المصلحة لينبه بذلك من ذهب عن الاستدلال به على حكمته تعالى، وتوحيده، فقال " وهوالذي مد الارض " يعنى بسطها طولا وعرضا " وجعل فيها رواسي " يعني جبالا راسيات ثابتات، يقال: رسي هذا الوتد وأرسيته.

وواحد (الرواسي) راسية " وانهارا " اي وخلق فيها أنهارا يجري المياه فيها " ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين " ثم ابتدأ فقال: وجعل فيها من جميع الثمرات زوجين أي ضربين.

قال الحسن يعني لونين من كل ماخلق من البنات.

والزوج يكون واحدا ويكون اثنين، وههنا واحد.

وقريش تقول: للانثى زوج وللذكر زوج قال الله تعالى " اسكن انت وزوجك الجنة "(1) لادم.

ومعنى " يغشي الليل النهار " اي يجلل الليل النهار والنهار بالليل.

والمعنى انه يذهب كل واحد منهما بصاحبه ومثله " يكور الليل على

___________________________________

(1) سورة البقرة آية 35 وسورة الاعراف آية 19.

[216]

النهار ويكور النهار على الليل "(1) والمعنى ان أحدهما يذهب الآخر.

ثم أخبر تعالى ان فيما ذكره من الدلالات لآيات واضحات لمن فكر، واعتبربها، لان من لم يفكر فيها ولم يعتبر، كأنه لاآية له.

وقوله " زوجين اثنين " انما اكد ب‍ (اثنين) وان كان قوله " زوجين " افاد العدد لامرين: احدهما - على وجه التأكيد وهو مستعمل كثيرا. الثاني - ان الزوجين قد يقع على الذكر والانثى. وعلى غيرهما، فاراد ان يبين ان المرادبه ههنا لونين أوضربين دون الذكورة والانوثة، وذلك فائدة لايفيدها قوله " زوجين " فلا تكرار فيه بحال. وهو قول الحسن والجبائي وغيرهما.

قوله تعالى: (وفي الارض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الاكل إن في ذلك لايات لقوم يعقلون(4))

آية بلاخلاف.

قرأ ابن كثير وأهل البصرة وحفص " وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان " بالرفع فيهن. الباقون بالخفض.

وروى ابوشعيب القواس عن حفص ضم الصاد من صنوان في الموضعين. الباقون بكسرها.

وقر أ ابن عامر وعاصم ويعقوب " يسقى " بالياء. الباقون بالتاء.

وقرأ اهل الكوفة الاعاصما يفضل بالياء. الباقون بالنون.

___________________________________

(1) سورة الزمر آية 5.

[217]

قال ابوعلي النحوي: من قرأ " وزرع " مرفوعا جعله محمولا على قوله " في الارض " ويكون تقديره وفي الارض قطع متجاورات وجنات من اعناب وفي الارض زرع ونخيل صنوان، فالجنة على هذا تقع على الارض التي فيها النخيل. دون غيرها.

ويقوي ذلك قول زهير:

كأن عيني غربي مقتلة *** من النواضح تسقي جنة سحقا(1)

السحق جمع سحوق يوصف بها النخيل اذا بسقت فكأنه سمى الارض ذات النخل جنة، ولم يذكر ان فيها غيرها، فكما ان الجنة تكون من النخيل من غير ان يكون منها شئ آخر، كذلك تكون من الكروم، وان لم يكن فيها غيرها.

فاما من قرأ بالخفض فانه حمل الزرع والنخيل على الاعناب، كأنه قال جنات من أعناب ومن زرع، ومن نخيل.

وقد تسمى الارض إذا كان فيها النخل والكرم والزرع جنة، قال الله تعالى " جعلنا لاحدهما جنتين من اعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا "(2) ويقوي ذلك قول الشاعر:

أقبل سيل جاء من أمر الله *** يجرد جرد الجنة المغلة(3)

فقوله (المغلة) في وصف الجنة يدل على ان الجنة يكون فيها الزرع، لان الغلة لايقال إلا فيما يكال ويوزن، فلذلك قال الفقهاء: اذا قال: أوصيت له بغلة هذه القرية انه يكون على مافيها، من الحال من الثمرة وغيرها وقت التلفظ بالوصية دون مايحدث بعد.

و (الصنوان) فيماذهب اليه ابوعبيدة صفة النخل قال: والمعنى ان يكون الاصل واحدا ثم يتشعب من الرؤس فيصير نخلا ويحملن وقال وقوله

___________________________________

(1) ديوانه: 140 (دار بيروت).

(2) سورة الكهف آية 32.

(3) مجمع البيان 3: 275.

[218]

" يسقى بماء واحد " لانها تشرب من اصل واحد " ونفضل بعضها على بعض في الاكل " وهو الثمرة، واجاز غيره ان يكون (الصنوان) من صفة الجنات: فال ابوعلي فكأنه في المعنى يراد به مافي الجنات. وان جرى على لفظ الجنات. وعلى هذا يجوز ان ترفع وان جررت النخل غير أنه لم يقرأ به.

ومن ضم الصاد من صنوان جعله مثل ذئب وذؤبان، وربما يعاقب فعلان وفعلان على بناء واحد نحو خشن وخشان. واظن سيبويه حكى الضم في صنوان والكسر اكثر.

ومن قرأ " تسقى " بالتاء اراد تسقى هذه الاشياء " بماء واحد " ويقوى ذلك قوله " ونفضل بعضها على بعض " فحمله على التأنيث.

ومن قرأ بالياء فعلى تقدير ما ذكرناه.

ومن قرأ " يفضل " بالياء. رده إلى الله، وتقديره ويفضل الله بعضها على بعض ومن قرأ بالنون، فعلى الاخبار عن الله عزوجل أنه قال " ونفضل " نحن " بعضها على بعض ".

اخبر الله تعالى على وجه التنبيه لعباده على الاستدلال بآياته بان قال في الارض التي خلقتها قطع متجاورات.

قال ابن عباس ومجاهد والضحاك: معناه سبخة وغير سبخة.

وقيل عامرة وغير عامرة. والمتجاورة المتقاربة بعضها من بعض.

وقوله " وجنات من اعناب " فالجنة البستان الذي يجنه الشجر وهي منفصلة من الروضة والزهرة " من أعناب " جمع عنب وهو ثمر الكرم يقع على انواع كثيرة، والزرع القاء الحب للنبات في الارض، والغرس جعل الاصل من الشجر الثابت. في الارض، والصنوان المتلاصق وهي الفسيلة تكون في اصل النخلة.

ويقال: هو ابن أخيه صنو أبيه اي لصنو ابيه في ولادته، ويجوز في جمع صنو اصناء. كعدل واعدال.

ويقال: صنو بضم الصاد وإذا كثرت، فهو الصني والصنى، وقال البراء بن عازب وابن عباس ومجاهد وقتادة: الصنوان النخلات التي اصلها واحد.

وقال الحسن: الصنوان النخلتان اصلهما واحد " يسقى بماء‌واحد " معناه ان ماذكرناه يسقى بماء‌واحد " ونفضل بعضها على بعض في الاكل " بان

[219]

يكون بعضه حلوا وبعضه حامضا وبعضه مرا في الاكل.

والاكل الطعام الذي يصلح للاكل، فدل بذلك على بطلان قول من يقول بالطبع، لانه لوكان قولهم صحيحا لما اختلفت طعوم هذه الاشياء مع ان التربة واحد والماء واحد، وجميع احوالها المعقولة متساوية، فلما تفاضلت مع ذلك دل على ان المدبر لها عالم حكيم ففعله بحسب المصلحة " ان في ذلك لايات لقوم يعقلون " اخبار منه تعالى ان فيما ذكرناه دلالات لقوم يعقلونها ويتدبرونها لان من لاعقل له لاينتفع بالاستدلال بها، وانما ينتفع بذلك ذوو الالباب والعقول.

قوله تعالى: (وإن تعجب فعجب قولهم أإذا كنا ترابا أإنا لفي خلق جديد أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الاغلال في اعناقهم وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون(5))

آية في الكوفي.

وفي المدنيين والبصري آيتان تمام الاولى قوله " لفي خلق جديد ".

قرأ ابن عامر وابوجعفر " اذا " بهمزة واحدة على الخبر. الباقون بهمزتين على الاستفهام.

وحقق الهمزتين اهل الكوفة وروح.

وقرأ نافع وابن كثير وابوعمرو ورويس بتخفيف الاولى وتليين الثانية.

وفصل بينهما بالف نافع الا ورشا وابوعمرو.

واما " إنا " فقرأه بهمزة واحدة على الخبر نافع والكسائي ويعقوب.

الباقون بهمزتين على الاستفهام.

وحقق الهمزتين ابن عامر وعاصم وحمزة وخلف الا ان هشاما يفصل بينهما بالف.

وقرأ ابن كثير وابوعمرو، وابوجعفر بتحقيق الاولى وتليين الثانية إلا ان ابا عمرو واباجعفر يفصلان بينهما بالف، وابن كثير لايفصل. وكذلك اختلافهم في الموضعين في (سبحان) وسورة المؤمنين والسجدة ولقمان. والثاني من اللذين في الصافات. وماسوى ذلك من الاستفهامين

[220]

يذكر في موضعه ان شاء الله قال ابوعلي الفارسي من قرأ (أإذا، أإنا) بالاستفهام فيهما، فموضع (اذا) نصب بفعل مضمر يدل عليه قوله " انا لفي خلق جديد " لان هذا الكلام يدل على نبعث ونحشر، فكأنه قال أنبعث اذا كنا ترابا.

ومن لم يدخل الاستفهام في الجملة الثانية كان موضع (اذا) نصبا بما دل عليه قوله " انالفي خلق جديد " فكأنه قال انبعث اذاكنا ترابا، ومابعد (ان) لايعمل فيما قبله بمنزلة الاستفهام، فكماقدرت هذا الناصب في (اذا) مع الاستفهام، لان الاستفهام لايعمل مابعده فيما قبله كذلك نقدره في (إنا) لان مابعدها ايضا لا يعمل فيما قبلها.

وقراء‌ة ابن عباس " اذا كنا ترابا " على الخبر (أإنا) على الاستفهام ينبغي ان يكون على مضمر كما حمل ماتقدم على ذلك، لان بعد الاستفهام منقطع مما قبله فاما ابوعمرو، فانه يفصل بين الهمزتين بألف، كما يفصل في " أأنذرتهم " وكمايفصل بين النونات في (اخشينان) ويأتي بعد ذلك بالهمزة بين بين، وليست (يا) ياء محضة، كما ان الهمزة في السائل ليست ياء محضة، وانما هي همزة بين بين، وابن كثير ان اتي بياء ساكنة بعد الهمزة من غير مد فليس ذلك على التخفيف القياسي، لانه لوكان كذلك، لوجب ان يجعل الهمزة بين بين، كما فعل في سم في المتصل وفي اذ قال ابراهيم - في المنفصل لذلك، ولكنه يبدل من الهمزة ابد الا محضا كما حكى سيبويه انه سمع من العرب من يقول (بئس) وقد جاء في الشعر يومئذ على القلب.

مدح الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم تعجبه من الكفار في عبادتهم مالايملك لهم نفعا ولاضرا. ثم اخبر ان هذا موضع العجب، وذمهم بعجبهم من اعادتهم ثانية مع علمهم بالنشأة الاولى، وفيما بين الله تعالى من خلق السموات والارض، ومابينهما من عجائب افعاله التي تدل على انه قادر على الاعادة، كمادلت على الانشاء، لان هذامما ينبغي ان يتدبره العاقل، وقد قيل: (لاخير فيمن لايتعجب من العجب وأرذل منه المتعجب من غير عجب) والعجب والتعجب واحد. وهو تغير النفس بماخفي سببه عن الكافر وخرج عن العادة، فهؤلاء الجهال توهموا انهم اذا صاروا ترابا لايمكن ان يصيروا حيوانا.

والذي انشأهم اول مرة قادر ان يعيدهم ثانية. ثم اخبر تعالى عنهم، فقال: هؤلاء هم الذين جحدوا نعم الله، وكفروا بآياته

[221]

ودلالاته، وهم الذين يحشرهم الله يوم القيامة، والاغلال في اعناقهم.

والغل طوق يقيد به اليد في العنق، وأصله الغل في الشئ إذا انتسب فيه.

وغل: اذا خان بانتسابه في مال الحرام والاعناق جمع عنق، وهو مغرز الرأس.

وقيل ان المعنى في ذلك انهم يؤاخذون بأعمالهم، وهي الاغلال، كما قال " اذ الاغلال في اعناقهم "(1) فكأنهم بمنزلة من الغل في عنقه لما لزمهم من الكفر به، فقال و " اولئك اصحاب النار هم فيها خالدون " اخبار منه تعالى انهم بعد الغل في اعناقهم يجعلون في النار مؤبدين فيها معذبين بأنواع العذاب.

قوله تعالى: (ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب(6))

آية بلاخلاف.

أخبر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بأن هؤلاء الكفار يطلبون منك مايسوؤهم ان يعجل لهم، كما قالوا " امطر علينا حجارة من السماء او ائتنا بعذاب أليم "(2) قبل ان يسألوا الاحسان بالانتظار لهم، وقد حكم الله تعالى ان يمهلهم التوبة. ثم يأخذ من أقام على القبح بالعقوبة.

والاستعجال طلب التعجيل، والتعجيل تقديم الشئ قبل وقته الذي يقدر له.

والسيئة خصلة تسوء النفس، ساء‌ه يسوء‌ه سوء‌ا، وهو ساء وهي سايئة وسئ وسيئة قال الشاعر:

ولاسئ يردي إذا ماتلبسوا *** إلى حاجة يوما مخلسه بزلا

والحسنة خصلة تسر النفس وقد يعبر بهما عن الطاعة، والمعصية.

___________________________________

(1) سورة المؤمن (غافر) آية 71.

(2) سورة الانفال آية 32.

[222]

وقوله " خلت من قبلهم المثلاث " أي مضت بانقضائها كمضي اهل الدار عنها، يقال: خلت الديار بهلاك أهلها وخلوهم بخلو مكانهم منها، والمثلاث العقوبات التي تزجر عن مثل ماوقعت لاجله واحدها مثلة مثل سمرة وصدقة، وفي الجمع سمرات وصدقات، ويقال مثلت به أمثل مثلا بفتح الميم وسكون الثاء، وأمثلته من صاحبه إمثالا إذا قصصته منه وتميم تقول: مثلة على وزن غرفة، ثم قال " وان ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم " على وجه الاخبار عن نفسه بالرحمة بخلقه والتفضل عليهم بأنه يغفر للناس على كونهم ظالمين وذلك يدل على بطلان قول من قال إن اصحاب الكبائر لايجوز ان يعفو الله عنهم إلا بالتوبة، لانه تعالى لم يشرط في ذلك التوبة ومن شرط في الآية التوبة اوخصها بالصغائر كان تاركا للظاهر.

وقوله " وان ربك لشديد العقاب " اخبار منه تعالى بأنه كما يغفر تارة مع الظلم، كذلك قد يعاقب مع الاصرار عذابا شديدا فلا تغتروا بذلك ولاتعولوا على مجرد العفو لانه يجوز ان لايعفو.

قوله تعالى: (ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه إنما أنت منذر ولكل قوم هاد(7))

آية بلاخلاف.

اخبر الله تعالى ان هؤلاء الكفار الذين تقدم ذكرهم يقولون هلا انزل على محمد آية يقتر حونها مثل ماحكى الله عنهم من نحو تفجير الانهار بحيث سألوا سقي البلاد ونقل جبال مكة عن اماكنها لتتسع على أهلها وإنزال كتاب من السماء إلى الارض يقرؤن فيه الامور التي دعاهم اليها، فقال الله تعالى له ليس أمر بالآيات اليك إنماأمرها إلى الله ينزلها على مايعلمه من مصالح العباد " وانما انت منذر " اي معلم لهم على وجه التخويف لهم معاصي الله وعقابه، " ولكل قوم هاد " يهديهم إلى الحق.

[223]

وللناس في معناه خمسة اقوال:

احدها - روي عن ابن عباس بخلاف فيه ان الهادي هوالداعي إلى الحق.

والثاني - قال مجاهد وقتادة وابن زيد: انه نبي كل أمة.

الثالث - في رواية اخرى عن ابن عباس وسعيدبن جبير ورواية عن مجاهد والضحاك: ان الهادي هو الله.

الرابع - قال الحسن وقتادة في رواية وأبوالضحى وعكرمة: انه محمد صلى الله عليه وسلم، وهو اختيار الجبائي.

والخامس - ماروي عن ابي جعفر، وأبي عبدالله (ع) إن الهادي هو امام كل عصر، معصوم يؤمن عليه الغلط وتعمد الباطل.

وروى الطبري باسناده عن عطاء عن سعيدبن جبير عن ابن عباس قال لما نزلت " إنما انت منذر ولكل قوم هاد " وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على صدره، وقال انا المنذر ولكل قوم هاد " وأومأ بيده إلى منكب علي (ع)، فقال انت الهادي ياعلي بك يهتدي المهتدون من بعدي.

قوله تعالى: (الله يعلم ماتحمل كل أنثى وماتغيض الارحام وما تزداد وكل شئ عنده بمقدار(8) عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال(9))

آيتان بلاخلاف.

قرأابن كثير " المتعالي " بياء في الوصل والوقف الا المالكي والعطار عن الزبيبى ويعقوب، وروى المالكي والعطار عن الزبيبي بياء في الوقف دون الوصل. الباقون بغيرياء في الحالين.

وروي عن ابي عمير - في رواية شاذة - مثل ابن كثير، قال أبوعلي: اثبات الياء في الحالين هوالقياس، وليس مافيه الالف واللام من هذا الباب كما لا الف فيه ولام نحو قاض وغاز.

قال سيبويه إذا لم يكن في موضع تنوين يعنى اسم الفاعل فان الاثبات اجود في الوقف نحو هذا

[224]

القاضي، وهذا الغازي، لانها ثابتة في الوصل يريد ان الياء مع الالف واللام تثبت ولاتحذف كما تحذف من اسم الفاعل إذا لم يكن فيه الالف واللام، نحو هذا قاض، فاعلم، فالياء مع غير الالف واللام تحذف في الوصل، فاذا حذفت في الوصل كان القياس ان تحذف في الوقف. وهي اللغة والاقيس.

فأما إذا حذفت الالف واللام، ولايحذف اللام - في اللغة التي هي اكثر عند سيبويه، فأما من حذف في الوصل والوقف فلان سيبويه زعم ان من العرب من يحذف هذا في الوقف شبهه بماليس فيه الف ولام إذ كانت تذهب الياء في الوصل في التنوين لولم يكن الف ولام واما حذفهم لها في الوصل فلم يكن القياس، لانه لم يضطر إلى حذفه لشئ كما اضطر مالا الف ولام فيه للتقاء الساكنين، فكر هوا حركة الياء بالضم والكسر لكن حذف، كما حذف في الفواصل ومااشبه الفواصل تشبيها. بالقوافي.

اخبر الله تعالى انه عزوجل " يعلم ماتحمل كل انثى " من علقة او مضغة ومن ذكر او انثى ومن زائد اوناقص وعلى جميع احواله وصفاته، لانه عالم لنفسه.

(والحمل) بفتح الحاء ماكان في البطن - وبكسرها - ماكان على الظهر وقوله " وماتغيض الارحام " وماتزداد، وقيل فيه ثلاثة اقوال: الاول ماينقص من ستة أشهر ومايزداد لان الولد يولد لستة اشهر فيعيش ويولد لسنتين فيعيش ذهب اليه الضحاك.

الثاني - قال الحسن ماينقص بالسقط وما يزداد بالتمام.

الثالث - قال ابن زيد ماينقص بغور النطفة وظهور دم الحيض فينقص تلك الايام، لانه لايعتد بها في الحمل وينقص حال الولد ومايزداد من الاشهر، وفي حال الولد.

وقال الفراء الغيض النقصان، تقولون: غاضت المياه اي نقصت، وفي الحديث (اذا كان الشتاء غيضا والولد غيضا وغاضت الكرم غيضا وفاضت اللئام فيضا) وقال الزجاج الغيض النقصان.

وقوله " وكل شئ عنده بمقدار " قيل في معناه قولان:

[225]

احدهما - ان جميع مايفعله الله على مقدار ماتدعو اليه الحكمة من غير نقصان ولازيادة، وقال قتادة: معناه كل شئ عنده بمقدار في الرزق والاجل.

والمقدار مثال يقدر به غيره. ثم اخبر تعالى أنه عالم بما غاب عن الحواس وبما ظهر لها فالغيب كون الشئ بحيث يخفى عن الحس، يقال غاب يغيب، فهو غائب.

والشهادة حصول الشئ بحيث يظهر للحس ومنه الشاهد خلاف الغائب. ويقال شهد في المصر اذا حضر فيه.

ومنه قوله " فمن شهدمنكم الشهر فليصمه "(1) اي من حضر المصر فيه، وانما قال " عالم الغيب " مع ان الله تعالى لايغيب عنه شئ، لانه اراد ماغاب عن احساس العباد. وقيل انه اراد انه يعلم المعدوم والموجود، فالغيب هو المعدوم.

وقال الحسن: الغيب السر، والشهادة العلانية.

وقوله " الكبير المتعال " فالكبير هوالسيد المقتدر. ومعناه الاكبر بسعة مقدوره.

والمتعالي المقتدر بمايستحيل ان يكون أعلى منه في الاقتدار أومساويا له، فهو أقدر من كل قادر، ولهذا استحالت مساواته في المقدور، لان من لا يساويه أحد في المقدور فهو أعلى في المقدور، كأنه قال: تعالى مقدوره إلى مايستحيل ان يكون اعلى منه.

وقال الحسن: المتعالي عما يقول المشركون فيه.

قوله تعالى: (سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار(10))

آية بلاخلاف.

معنى الآية ان الله تعالى الذي وصف نفسه بأنه الكبير المتعالي على غيره بسعة قدرته سواء عليه الاشياء في أنه يعلمها على اختلاف حالاتها، وانه يعلم الانسان

___________________________________

(1) سورة البقرة آية 185

[226]

على تصرف احواله مما يسر في نفسه اي يخفيه او يعلنه أو يستتر بالليل او يسرب بالنهار، كل ذلك سواء في ظهوره له، فيجب ان يحذر من هذه صفته، ويعلم انه يأتي بالآيات بحسب مايعلمه من مصلحة خلقه.

وقال الزجاج: المعنى ان الظاهر في الطرقات والمستخفي في الظلمات والجاهر بنطقه والمضمر في نفسه في معلوم الله " سواء " اي ليس ببعض ذلك اعلم من بعض.

وقال الحسن: " سارب بالنهار " اي مستتر فيه.

وقال قطرب: يجوز ان يكون معنى " مستخف بالليل " اي ظاهر بالليل " وسارب بالنهار " اي مستتر فيه.

قال الزجاج: هذا جائز في اللغة، يقال منه انسرب الوحش اذا دخل في كناسه.

وقال ابورجاء: السارب الذاهب على وجهه، يقال انسرب فلان انسرابا.

وقال ابن عباس وقتادة: السارب الظاهر من خفى كان فيه.

ويقال: فلان سارب في مذهبه اي ظاهر يقال: خلا سربه اي طريقه، ويقال: فلان آمن في سر به بالفتح والخفض معا قال قيس بن الخطيم:

أنى سربت وكنت غير سروب *** وتقرب الاحلام غير قريب(1)

وقال قوم: السارب الذي يسلك في سربه اي في مذهبه، يقال منه: سرب يسرب سروبا.

وقال بعضهم السارب الجاري في خروجه إلى الامر بسرعة * يقال انسرب الماء من خروز القربة، قال ذو الرمة:

مابال عينك منها الماء منسكب *** كأنها من كلى مفرية سرب(2)

فالاستخفاء طلب الاختفاء، خفي يخفى نقيض ظهره يظهر ظهورا.

واختفى اختفاء وأخفاه إخفاه، وتخفى تخفيا.

والاسرار إخفاء المعنى في النفس، فأسر القول معناه أخفى في نفسه، والجهر رفع الصوت بالقول، يقال: لصوته جهارة اي قوة في رفعه اياه، وهو يجاهر بأمره اي يظهره ويعلنه. والسواء هو الاعتدال في الوزن.

___________________________________

(1) اللسان (سرب).

(2) مجمع البيان 3: 279 واللسان (سرب) والطبرى 13: 66 وروايته. (تنسكب) بدر (منسكب).

[227]

و (من) في موضع الذي، وهما مرتفعان و " سواء " رفع بالابتداء، وهو يطلب اثنين. تقول: سواء زيد وعمرو، اي هما مستويان.

قوله تعالى: (له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله إن الله لايغير ما بقوم حتى يغيروا مابأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوء‌ا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال(11))

آية بلاخلاف.

اختلفوا في الهاء في قوله " له " إلى من ترجع، فقال ابن زيد: على اسم النبي صلى الله عليه وسلم في قوله " انما انت منذر " وقال غيره: على اسم الله في قوله " عالم الغيب والشهادة " وقال قوم: على (من) في قوله " من اسر القول ومن جهر " فكأنه قال للانسان معقبات وهوالاقوى.

والمعقبات في هذا الموضع هم الملائكة، فقال الحسن وقتادة ومجاهد: ملائكة الليل تعقب ملائكة النهار، وقال ابن عباس - في رواية - انهم الامراء والولاة لهم حرس واعوان يحفظونهم.

وقال الحسن: هم اربعة أملاك يجتمعون عند صلاة الفجر، والمعقبات المتناوبات التي يخلف كل واحد منها صاحبه، ويكون بدلا منه.

وأصل التعقيب كون شئ بعد آخر، فالمعقبات الكائنات على خلف بعضها لبعض بعد ذهابه، والمعقب الطالب دينه مرة بعد اخرى قال لبيد:

حتى تهجر في الرواح وهاجه *** طلب المعقب حقه المظلوم(1)

ومنه العقاب لانه يستحق عقيب المعصية. والعقاب لانه يعقب بطلبه لصيده

___________________________________

(1) مجمع البيان 3: 279 وتفسير الطبري 13: 72.

[228]

مرة بعد مرة، والعقب لانه يعقب به لشده على الشئ مرة بعد مرة، وهو جمع الجمع، لان واحده معقب مثل رجالة ورجالات.

وفي قراة أهل البيت " له معقبات من خلفه ورقيب بين يديه " قالوا لان المعقب لايكون الامن خلفه.

وقوله " يحفظونه من امر الله " قيل في معناه اقول: احدها - قال الحسن وقتادة: المعنى بأمر الله، كماتقول جئتك من دعائك اياي اي بدعائك، وفي قراء‌ة اهل البيت " بأمر الله " وقال مجاهد وابراهيم: يحفظونه من امر الله من الجن والهوام.

والمعنى ذلك الحفظ من امر الله.

وقال قوم: معناه عن أمر الله، كمايقال أطعمه عن جوع ومن جوع.

وقال الفراء: فيه تقديم وتأخير، كأنه قال له معقبات من بين يديه ومن خلفه من أمر الله يحفظونه، وانما قال يحفظونه على التذكير مع قوله " له معقبات " على التأنيث حملا على المعنى، وفي تفسير اهل البيت إن معناه يحفظونه بأمر الله.

وقوله " ان الله لايغير مابقوم حتى يغيروا مابأنفسهم " معناه ان الله لا يسلب قوما نعمة حتى يعملوا بمعاصيه التي يستوجبون بها العقاب فانه حينئذ يعاقبهم ويغير نعمه عليهم. وفي ذلك دلالة على فساد قول المجبرة: إن الله يعذب الاطفال، لانهم لم يغيروا مابأنفسهم بمعصية كانت منهم. والتغيير تصيير الشئ على خلاف ماكان مما لو شوهد شوهد على خلاف ماكان.

وقوله " واذااراد الله بقوم سوء‌ا " يعنى هلاكا " فلا مرد له ومالهم من دونه من وال " معناه لايقدر أحد على دفعه ولانصرته عليه بل هو تعالى الغالب. لكل شئ القاهر لمن يريد قهره، والوالي فاعل من ولي يلي فهو وال وولي مثل عالم وعليم، والله ولي المؤمن اي ناصره، والمعنى لايتولاهم أحد الا الله.

[229]

قوله تعالى: (هوالذي يريكم البرق خوفا وطمعا ينشئ السحاب الثقال(12) ويسبح الرعد بحمده والملئكة من خيفته ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء‌ وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال(13))

آيتان بلاخلاف.

اخبر الله تعالى انه هوالذي يرى الخلق البرق اي يجعلهم على صفة الرؤية بايجاد المرئي لهم وجعله إياهم على هذه الصفة التي يرون معها المرتيات من كونهم احياء ورفع الموانع والافات منهم يقال: أراه يريه إراء‌ة إذا جعله رائيا مثل أقامه يقيمه إقامة، وهو مشتق من الرؤية.

والبرق ماينقدح من السحاب من اللمعان كعمود النار وجمعه بروق وفيه معنى السرعة، يقال: امض في حاجتك كالبرق، والخوف انزعاج النفس بتوهم وقوع الضرر، خاف من كذا يخاف خوفا فهو خائف. والشئ مخوف.

والطمع تقدير النفس لوقوع مايتوهم من المحبوب. ومثله الرجاء والامل.

وقيل في معني قوله " خوفا وطمعا " قولان: احدهما - قال الحسن: خوفا من الصواعق التي تكون مع البرق وطمعا في الغيث الذي يزيل الجدب والقحط.

وقال قتادة: خوفا للمسافرين من اذاه وطمعا للمقيم في الرزق به، وهما منصوبان على أنه مفعول له.

وقوله " وينشئ السحاب الثقال " والانشاء فعل الشئ من غير سبب مولد، ولذلك قيل النشأة الاولى، والنشأة الثانية. ومثله الاختراع والابتداع.

والسحاب هوالغيم، وسمي به، لانه ينسحب في السماء. واذا قيل سحابة جمعت

[230]

على سحائب كقولك غمامة وغمائم والسحاب جمع سحابة، والثقال جمع ثقيل مثل شريف وشراف وكريم وكرام. والثقل الاعتماد إلى جهة السفل، والمعنى إن السحاب ثقال بالماء، وهوقول مجاهد.

وقوله " ويسبح الرعد بحمده " فالتسبيح تنزيه الله عزوجل عمالايجوز عليه، والتنزيه له من كل صفة نقص تضاف اليه، واصله البراء‌ة من الشئ قال الشاعر:

اقول لما جاء‌ني فخره *** سبحان من علقمة الفاخر(1)

اي براء‌ة منه.

و (الرعد) اصطكاك اجرام السحاب بقدرة الله تعالى وفيه أعظم العبرة واوضح الدلالة، لانه مع ثقله وهوله، وغلظ جرمه حتى يسمع مثل الرعد في عظمه معلق بقدرته تعالى لايسقط إلى الارض منه شئ ثم ينقشع كأنه لم يكن، ولاشي منه، وقدذكرنا اختلاف المفسرين في الرعد في سورة البقرة(2). والحمد الوصف بالجميل من الاحسان على وجه التعظيم.

وقيل في معنى قوله " ويسبح الرعد بحمده " ثلاثة اقوال: احدها - يسبح بمافيه من الدلالة على تعظيم الله ووجوب حمده، فكأنه هو المسبح لله عزوجل.

الثاني - انه يسبح بما فيه من الآية التي تدعو إلى تسبيح الله تعالى.

الثالث - ان الرعد ملك يزجر السحاب بالصوت الذي يسمع، وهو تسبيح الله بمايذكره من تعظيم الله.

وقوله " والملائكة من خيفته، تقديره ويسبحه الملائكة من خيفته. والفرق بين الخيفة والخوف، ان الخيفة صفة للحال مثل قولك: هذه ركبة اي حال من

___________________________________

(1) مر هذا البيت في 1: 134، 3: 81، 5: 241، 395.

(2) في 1: 92.

[231]

الركوب الحسن، وكذلك هذه خفية شديدة. والخوف مصدره مطلق غير مضمن بالحال.

وقوله " ويرسل الصواعق " وهي جمع صاعقة وهي نار لطيفة تسقط من السماء بحال هائلة من شدة الرعد وعظم الامر يقال: إنها قد تسقط على النخلة وكثير من الاشجار تحرقها، وعلى الحيوان فتقتله.

وقوله " فيصيب بها " يعني بالصاعقة من يشاء من عباده.

وقوله " وهم يجادلون في الله " يعني هؤلاء الجهال مع مشاهدتهم لهذه الآيات يخاصمون اهل التوحيد، ويحاولون فتلهم عن مذهبهم بجدالهم. والجدال فتل الخصم عن مذهبه بطريق الحجاج.

وقوله " وهوشديد المحال " فالشدة قوة العقدة وفي بدن فلان شدة اي قوة كقوة العقدة، وشدة العقاب قوته يغلظ على النفس، كقوة العقدة، والمحال الاخذ بالعقاب، يقال ماحلت فلانا اماحله مماحلة ومحالا، ومحلت به أمحل محلا إذا فتلته إلى هلكه. والميم أصلية في المحل يقال محلني يافلان اي قوني.

وقال الجبائي: شديد الكيد للكفار، وسني المحل سني الهلاك بالقحط.

واصله الفتل إلى الهلاك قال الاعشي:

فرع نبع يهتز في غصن المج‍ *** - د غزير الندى شديد المحال(1)

وقيل فيمن نزلت هذه الآية قولان: احدهما - قال أنس بن مالك وعبدالرحمن صحار العبدي، ومجاهد: انها نزلت في رجل من الطغاة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يجادله، فقال يامحمد مم ربك أمن لؤلؤ ام ياقوت أم من ذهب ام من فضة؟ فأرسل الله عليه صاعقة، فذهبت بقحفه.

___________________________________

(1) ديوانه (داربيروت) 166 وتفسير الطبري 13: 75 المحال: العقوبة

[232]

وقال ابن جريج: نزلت في أربد، لماأراد هو وعامر بن الطفيل قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فجفت يده على قائم سيفه، فرجع خائبا، فارسل الله (عزوجل) عليه في طريقه صاعقة فأحرقته وابتلى عامرا بغدة كغدة البعير قتلته حتى قال عند موته: غدة كغدة البعير وموت في بيت سلولية.

وفي ذلك يقول لبيد ابن ربيعة في أربد، وكان اخاه:

اخشى على أربد الحتوف ولا *** أرهب نوء السماك والاسد

ففجعني البرق والصواعق باك‍ *** - فارس يوم الكريهة النجد(1)

قوله تعالى: (له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لايستجيبون لهم بشئ إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وماهو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال(14))

آية بلاخلاف.

أخبر الله تعالى بأن له (عزوجل) دعوة الحق.

وقيل في معناه ثلاثة أقوال: احدها - قال ابن عباس وقتادة وابن زيد إنها شهادة ان لا إله على اخلاص التوحيد. الثاني - قال الحسن: الله هوالحق، فمن دعاه دعا الحق. وقال قوم: كل دعوة هي حق جاز ان تضاف إلى الله، قال ابوعلي دعوة الحق هي الدعوة التي يدعى الله بهاعلى اخلاص التوحيد، والدعوة طلب فعل الشئ، فالانسان يدعو ربه ان يدخله في رحمتة وهو أهل المغفرة والرحمة، وكل مالابسه الانسان، فقد دخل فيه. والمعنى لله من خلقه الدعوة الحق.

وقوله " والذين يدعون من دونه " قيل في معناه قولان:

___________________________________

(1) تفسير الطبرى (الطبعة الاولى) 13: 71، 74 ومجمع البيان 3: 283

[233]

احدهما - قال الحسن: والذين يدعون من الاوثان لحاجاتهم. الثاني - الذين يدعون أربابا.

وقيل ان المعنى الذين يدعون غيره مقصرين عن دعائهم له، كما قال الشاعر:

اتوعدني وراء بني رياح *** كذبت لتقصرن يداك دوني(1)

اي عني، " لايستجيبون لهم بشئ " فالاستجابة متابعة الداعي فيمادعا اليه بموافقة إرادته والاستجابة، والاجابة واحد إلا ان صيغة الاستجابة تفيد طلب الموافقة، قال الشاعر:

وداع دعا يامن يجيب إلى الندى *** فلم يستجبه عند ذاك مجيب(2)

وقوله " إلا كباسط كفيه إلى الماء " معناه قال مجاهد: كباسط كفه إلى الماء مشيرا اليه من غير تناول الاناء ليبلغ فاه ببسط كفه ودعائه له.

وقال الحسن معناه كباسط كفيه إلى الماء، فمات قبل ان يصل اليه، والعرب تضربه مثلا لمن سعى فيما لا يدركه كالقابض على الماء قال الشاعر:

فأني واياكم وشوقا اليكم *** كقابض ماء‌لم تسقه انامله(3)

وقال الآخر:

فاصبحت مماكان بيني وبينها *** من الودمثل القابض الماء باليد(4)

" وماهو ببالغه " إخبار منه تعالى ان من كان كذلك لايبلغ الماء فاه.

ثم أخبر تعالى فقال " ومادعاء الكافرين إلا في ضلال " أي ليس دعاؤهم الاوثان من دون الله إلا الاضلال عن الحق وعدولا عن طريقه وأنه جاز مجرى ماذكره من باسط كفيه

___________________________________

(1) تفسير الطبري 2: 90، 13: 76.

(2) قدمر هذا البيت في 1: 36، 86، 2: 131، 3: 88، 4: 182، 5: 119 وهو في اللسان والتاج (جوب) وامالي القالي 2: 115 ومجاز القرآن 1: 67، 326.

(3) قائلة ضابي بن الحارث البرجمي. تفسير الطبري 13: 76 ومجمع البيان 3: 284.

(4) مجاز القرآن 1: 327 والطبري 13: 76 والقرطبي 9: 301 والشوكاني 3: 96 ومجمع البيان 3: 284.

[234]

إلى الماء، وهوبعيد منه من غير أن يتناوله ويدعوه إلى فمه، فان ذلك لايصل اليه أبدا.

قوله تعالى: (ولله يسجد من في السموات والارض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والاصال(15))

آية بلاخلاف.

أخبر الله تعالى ان جميع من في السموات والارض يسجدون له إما طوعا منهم او كرها.

وقيل في معنى ذلك ثلاثة اقوال: احدها - قال الحسن وقتادة وابن زيد: ان المؤمن يسجد طوعا، والكافر يسجد كرها بالسيف، ويكون المعنى على هذا إن السجود واجب لله، فالمؤمن يفعله طوعا والكافر يؤخذ بالسجود كرها اي هذا الحكم في وجوب السجود لله.

الثاني - ان المؤمن يسجد لله طوعا، والكافر في حكم الساجد كرها بما فيه من الحاجة اليه، والذلة التي تدعو إلى الخضوع لله تعالى.

الثالث - قال ابوعلي: سجود الكره بالتذليل للتصريف من عافية إلى مرض، وغنى إلى فقر وحياة إلى موت كتذليل الاكم للحوافر في قول الشاعر: ترى الاكم فيها سجدا للحوافر(1) وقال الزجاج: يجوز ان يكون المعنى إن فيمن سجد لله من يسهل ذلك عليه وفيهم من يشق عليه فيكرهه، كماقال " حملته أمه كرها وضعته كرها "(2).

وقوله " وظلالهم بالغدو والاصال " أي وتسجد ظلالهم.

وقيل في معناه قولان: احدهما - ان سجود الظلال بمافيه من تغير الذلة التي تدعو إلي صانع غير مصنوع له العزة والقدرة.

___________________________________

(1) قد مر هذا البيت في 1: 263، 4: 233، 6 / 197، 235.

(2) سورة الاحقاق 46 آية 15

[235]

والثاني - قيل سجود الظل لانه يقصر بارتفاع الشمس ويطول بانحطاطها، وذلك من آيات الله الدالة عليه، والسجود هو وضع الوجه على الارض على وجه الخضوع مذلة لمن وضع له، وأصله التذليل من قول الشاعر:

بجمع تظل البلق في حجراته *** ترى الاكم فيها سجدا للحوافر(1)

واصل السجود هوالميل والتطأطؤ يقال: سجد البعير وأسجده صاحبه إذا طأطأه ليركبه شبه السجود في الصلاة بذلك وعلى هذا يحمل سجود الظلال وسجود الكفار، ويراد بذلك حركاتهم وتصاريفهم، فان ذلك أجمع يدل على أن الله الخالق لهم والمدبر لمعايشهم، والطوع الانقياد للامر الذي يدعا اليه من قبل النفس وهو نقيض الكره، والكره الجر إلى الامر على إباء النفس، واصله الكراهة ضد الارادة، إلا انه جعل نقيض الطوع.

والظلال جمع ظل وهوستر الشخص مابازائه.

والظل الظليل هو ستر الشمس اللازم.

واما الفئ فهو الذي يرجع بعدذهاب ضوئه، ومنه الظلة، لانها ساترة.

والظل والظلال مثل زق وزقاق.

الآصال جمع أصل، والاصل جمع أصيل، وهو العشي، فكأنه قيل أصل الليل الذي ينشأ منه، لانه مأخوذ من الاصيل، وهومابين العصر إلى مغرب الشمس، قال ابوذؤيب:

لعمري لانت البيت اكرم أهله *** واقعد في افنائه بالاصائل(2)

___________________________________

(1) قدمر في 1: 263، 4: 233.

(2) تفسير الطبري 13 / 77 وروايته (وابعد) بدل (واقعد)

[236]

قوله تعالى: (قل من رب السموات والارض قل الله قل أفاتخذتم من دونه أولياء لايملكون لانفسهم نفعا ولاضرا قل هل يستوي الاعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شئ وهو الواحد القهار(16))

آية في الكوفي وآيتان في البصري والمدنيين تمام الاولى " والنور ".

قرأ أهل الكوفة إلا " حفصا أم هل يستوي " بالياء. الباقون بالتاء، من قرأ بالتاء فلانه مسند إلى مؤنث لم يفصل بينه وبين فاعله بشئ كماقال " قالت الاعراب "(1)، و " قالت اليهود "(2) و " اذ قالت أمة "(3) وقدجاء في مثل ذلك التذكير، كقوله " وقال نسوة "(4) ومن قرأ بالياء، فلانه تأنيث غير حقيقي والفعل مقدم.

هذا خطاب من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم، يأمره بأن يقول لهؤلاء الكفار " من رب السماوات والارض " أي من مدبر هما ومصرفهما على مافيهما من العجائب، فانهم لايمكنهم أن يدعوا أن مدبر السماوات والارض الاصنام التي يعبدونها، فاذا لم يمكنهم ذلك، فقل لهم رب السماوات والارض ومابينهما من انواع الحيوان والنبات والجماد " الله " تعالى، فاذا أقروا بذلك فقل لهم على وجه التبكيت لهم والتوبيخ لفعلهم: أفاتخذتم من دون الله اولياء توجهون عبادتكم اليهم؟ ! فالصورة صورة الاستفهام والمراد به التقريع والتوبيخ.

ثم بين ان هؤلاء الذين اتخذتموهم أولياء من الاصنام والاوثان لايملكون لانفسهم نفعا ولا ضرا، ومن لايملك لنفسه ذلك فانه بأن لايملك لغيره، اولى وأحرى، ومن كان كذلك كيف يستحق العبادة ثم قال لهم " هل يستوى الاعمى والبصير " ام هل يتساوى الاعمى عن طريق الحق والعادل عنه إلى الضلال.

والبصير الذي اهتدى إلى الحق، فإنهما لايتساويان ابدا، كمالا يتساوى الظلمات والنور.

___________________________________

(1) سورة الحجرات آية 14.

(2) سورة البقرة آية 113 والتوبة آية 3 والمائدة 19، 65.

(3) سورة الاعراف آية 164.

(4) سورة يوسف 12 آية 30،

[237]

ثم قال هل جعلوا يعني هؤلاء الكفار لله شركاء في العبادة خلقوا أفعالا مثل خلق الله، من خلق الاجسام والالوان والطعوم والاراجيح، والمو ت والحياة، والشهوة والنفار، وغير ذلك من الافعال التي مختص تعالى بالقدرة عليها فاشتبه ذلك عليهم، فظنوا انها تستحق العبادة، لان افعالها مثل افعال الله، فاذا لم يكن ذلك شبيها بل كان معلوما لهم ان جميع ذلك ليست من جهة الاصنام، فقل لهم الله خالق كل شئ اي هوخالق جميع ذلك يعني ماتقدم من الافعال التي يستحق بها العبادة.

وقوله " وهوالواحد القهار " اي الخالق لذلك واحد لاثاني له وهو الذي يقهر كل قادر سواه لايقدر على امتناعه منه. ومن تعلق من المجبرة بقوله " قل الله خالق كل شئ " على ان أفعال العباد مخلوقة لله، فقد أبعد، لان المراد ما قدمناه من أنه تعالى خالق كل شئ يستحق بخلقه العبادة دون مالا يستحق به ذلك. ولوكان المراد ماقالوه لكان فيه حجة للخلق على الله تعالى وبطل التوبيخ الذي تضمنته الآية إلى من وجه عبادته إلى الاصنام، لانه إذا كان الخالق لعبادتهم الاصنام هو الله على قول المجبرة فلاتوبيخ يتوجه على الكفار، ولالوم يلحقهم بل لهم ان يقولوا: إنك خلقت فينا ذلك فما ذنبنا فيه ولم توبخنا على فعل فعلته؟

فتبطل حينئذ فائدة الآية. على أنه تعالى إنما نفى ان يكون أحد يخلق مثل خلقه، ونحن لانقول إن احدا يخلق مثل خلق الله، لان خلق الله اختراع مبتدع، وافعال غيره مفعولة في محل القدرة عليه مباشرا او متولدا في غيره بسبب حال في محل القدرة ولايقدر أحدنا على اختراع الافعال في غيره على وجه من الوجوه، ولان احدنا يفعل ما يجربه نفعا او يدفع به ضررا، والله تعالى لايفعل لذلك فبان الفرق بين خلقنا وخلقه. ولان احدنا يفعل بقدرة محدثة. يفعلها الله فيه والله تعالى يفعل، لانه قادر لنفسه. وايضا فان ههنا اجناسا لانقدر عليها، وهو تعالى قادر على جميع الاجناس، ونحن لانقدر ان نفعل بقدرة واحدة في وقت واحد في محل واحد

[238]

من جنس واحد اكثر من جزء واحد، والله تعالى يقدر ان يفعل مالانهاية له فبان الفرق بيننا وبينه من هذه الوجوه.

قوله تعالى: (أنزل من السماء ماء فسالت اودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أومتاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فاما الزبد فيذهب جفاء واما ما ينفع الناس فيمكث في الارض كذلك يضرب الله الامثال(17))

آية واحدة بلاخلاف.

قرأ اهل الكوفة إلا ابابكر " ومما يوقدون " بالياء الباقون بالتاء قال أبو علي: من قرأ بالتاء فلما قبله من الخطاب، وهو قوله " قل أفاتخذتم " ويجوزان يكون خطابا عاما، يراد به الكافة، فكان المعنى " مما توقدون " عليه ايها الموقدون زبد مثل زبد الماء الذي عليه السيل " فاما الزبد فيذهب جفاء " لاينتفع به كما ينتفع بما يخلص بعدالزبد من الماء والذهب والفضة والصفر.

ومن قرأ بالياء، فلان الغيبة قد تقدم في قوله " ام جعلوا لله شركاء " ويجوز ان يراد به جميع الناس ويقوي ذلك قوله " واما ماينفع الناس " فكما ان الناس يعم المؤمن والكافر كذلك الضمير في " يوقدون " وقال " ومما يوقدون عليه في النار " كقوله " فاوقد لي ياهامان على الطين "(1) فهذا إيقاد على ماليس في النار، وان كان يلحقه وهجها ولهبها وأما قوله " بورك من في النار "(2) فالمعنى على من في قرب النار، وليس يراد به متوغلها " ومن حولها "(3) ومن لم يقرب منها قرب الآخرين

___________________________________

(1) سورة القصص 28 آية 38.

(2، 3) سورة النمل 27 آية 8

[239]

ألا ترى ان قوله " وممن حولكم من الاعراب منافقون "(1) لم يقرب المنافقون الذين حولهم فيه قرب المخالطين لهم حيث يحضرونه ويشهدونه في مشاهدهم.

قال الحسن يقول الذي " أنزل من السماء ماء فسالت اودية بقدرها " إلى قوله " ابتغاء حلية " الذهب والفضة والمتاع والصفر والحديد " كذلك يضرب الله الحق والباطل " كما أوقد على الذهب والفضة والصفر والحديد، فيخلص خالصه، " كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ماينفع الناس فيمكث في الارض " قال فكذلك الحق بقي لاهله فانتفعوا به.

وقرأ الحسن " بقدرها " بتخفيف الدال وهما لغتان يقال أعطى قدر شبر وفي المصدر بالتخفيف لا غير تقول: قدرت اقدر قدرا، وفي المثل التخفيف، والتثقيل تقول: هم يختصمون في القدر بالسكون والحركة قال الشاعر:

الا يالقوم للنوائب والقدر *** وللامر يأتي المرء من حيث لايدري(2)

أخبر الله تعالى انه هوالذي ينزل من السماء ماء يعني الامطار والغيوث، فتسيل هذه المياه أودية بقدرها من القلة والكثرة. والسيل جري الماء من الوادي على وجه الكثرة.

يقال جاء السيل يغرق الدنيا، وسال بهم السيل إذا جحفهم بكثرته. والوادي سفح الجبل العظيم المنخفض الذي يجتمع فيه ماء المطر، ومنه اشتقاق الدية، لانه جمع المال العظيم الذي يؤدى عن القتيل، والقدر إقران الشئ بغيره من غير زيادة ولانقصان. والوزن يزيد وينقص، فاذا كان مساويا، فهو القدر.

وقوله " فاحتمل السيل زبدا رابيا " فالاحتمال رفع الشئ على الظهر بقوة الحامل له، ويقال علا صوته على فلان فاحتمله، ولم يغضبه، فقوله هذا يحتمل وجهين: معناه له قوة يحمل بها الوجهين، والزبد وضر الغليان، وهو خبث الغليان ومنه زبد القدر، وزبد السيل، وزبد البعير. والجفاء ممدود مثل الغثاء وأصله

___________________________________

(1) سورة التوبة 9 آية 101.

(2) مجمع البيان 3: 286

[240]

الهمزة يقال جفا الوادي جفاء.

قال الفراء: كل شئ ينضم بعضه إلى بعض فأنه يجئ على (فعال) مثل الحطام والقماش والغشاء والجفاء، فاذا أردت المصدر، فهو مقصور.

وقوله " رابيا " معناه زائدا، يقال ربا يربو ربا فهو راب. ومنه الربا المحرم.

وقوله " ومما توقدون عليه " اي ومن ذلك توقدون عليه زبد مثله، والايقاد القاء الحطب في النار أوقد ايقادا واستوقدت النار واتقدت وتوقدت.

وقوله " ابتغاء حلية " معناه طلب حلية من الذهب والفضة أو متاع يعني الصفر والحديد، والمتاع ماتمتعت به قال الشاعر:

تمتع يامشعث إن شيئا *** سبقت به الممات هوالمتاع(1)

" زبد مثله " يعني من الذي يوقد عليه زبد مثل زبد السيل، ومثل الشئ ماسد مسده، وقام مقامه، فيما يرجع إلى ذاته.

وقوله " كذلك يضرب الله الحق والباطل " اي يضرب المثل للحق والباطل، وضرب المثل تسييره في البلادحتى يتمثل به الناس وقوله " قاماالزبد فيذهب جفاء " اخبار منه تعالى ان الزبد الذي يعلو على الماء والنار يذهب باطلا وهالكا، قال أبوعبيدة قال أبوعمرو، وتقول العرب أجفأت القدر إذا غلت فانصب زبدها، وسكنت فلايبقى منه شئ والجفاء ممدود مثل الغثاء، واصله الهمز.

وقوله " واما ماينفع الناس " من الماء الصافي، والذهب، والفضة، والحديد، والصفر " فيمكث في الارض " اي يلبث ويثبت. والمكث الكون في المكان على مرور الزمان مكث يمكث مكثا وتمكث تمكثا والمكث طول المقام.

وقوله " كذلك يضرب الله الامثال " اي يضرب الله مثل الحق والباطل بالماء الذي ينزل من السماء، وبجواهر الارض، فإن لهما جميعا زبدا، هذا عند سيله

___________________________________

(1) قائلة المشعث العامري. مجاز القرآن 1: 328 واللسان والتاج (متع) ومعجم المر زباني 475 وتفسير الطبري (الطبعة الاولى) 13: 81.

[241]

وجريه، وهذاعند اذابته بالنار وهو وسخه وخبثه، فالحق ثابت كالماء الذي يبقي في الارض ينبت به الزرع والشجر وكالجواهر التي في ايدي الناس تصبر على النار، فلاتبطل فينتفعون بها.

والباطل كزبد هذين يذهب، لامنفعة فيه بعدان يرى له حركة واضطراب.

وفي ذلك تنبيه لمن تقدم ذكره من المشركين الذين سألوا الآيات على سبيل التكذيب والعناد.

قوله تعالى: (للذين استجابوا لربهم الحسنى والذين لم يستجيبوا له لو أن لهم مافي الارض جميعا ومثله معه لافتدوا به أولئك لهم سوء الحساب ومأواهم جهنم وبئس المهاد(18))

آية بلا خلاف.

أخبر الله تعالى في هذه الآية ان الذين يجيبون دعاء الله إلى طريق التوحيد والعمل بشريعته وتصديق نبيه ويطلبون مرضاته في فعل مادعاهم اليه، لهم الحسني، وهي المنفعة العظمى في الحسن، وقال المفسرون: أراد بالحسنى الجنة والخلود في نعيمها. وان الذين لم يجيبوا دعاء‌ه ولم يقروا بنبيه ولم يعملوا بما دعاهم اليه " لو ان لهم مافي الارض جميعا " ملكا لهم ويضيفوا اليه مثله في الكثرة لافتدوا بجميع ذلك أنفسهم من عذاب النار وطلبوا به الخلاص منه، لو قبل ذلك منهم.

والافتداء جعل أحد الشيئين بدلا من الآخر على وجه الاتقاء به، فهؤلاء لايقيهم من عذاب الله شئ - نعوذ بالله منه - ثم أخبر تعالى ان لهؤلاء سوء الحساب.

وقيل في معناه قولان: قال ابراهيم النخعي: ان سوء الحساب هو مؤاخذة العبد بذنبه لايغفر له شئ منه.

[242]

وقال الجبائي: معناه واخذه به على وجه التوبيخ والتقريع.

والحساب إحصاء ماعلى العبد وله، يقال: حاسبته حسابا ومحاسبة، وحسبه يحسبه حسبا وحسبانا.

وقوله " ومأواهم جهنم وبئس المهاد " فالمهاد الفراش الذي يوطأ لصاحبه، وانما قيل لجهنم: مهاد أي هي موضع المهاد لهم.

قوله تعالى: (أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الالباب(19))

آية بلاخلاف.

أخبر الله تعالى ان من يؤمن بالله ويعلم ان ماأنزل اليك يامحمد من ربك الحق، لايكون مثل من يشهد ذلك وعمي عنه، فاخرج الكلام مخرج الاستفهام والمراد به الانكار، أي لايكون هذان مستويين، وبين ان الفرق بينهما بمنزلة الفرق بين الاعمى والبصير.

وقوله " انما يتذكر اولوا الالباب " معناه إنما يتذكر في ذلك ويفكر فيه ويستدل به ذوو العقول والمعرفة.

والالباب هي العقول، واحدها لب ولب الشئ أجل مافيه واخلصه واجوده، فلب الانسان عقله لانه أجل مافيه، ولب النخلة قلبها، ولب الطلعة ثمرتها التي فيها، وانما شبه العلم بالبصر، والجهل بالعمى، لان العلم يهتدى به إلى طريق الرشد من الغي كما يهتدى بالبصر إلى طريق النجاة من طريق الهلاك، وعكس ذلك حال الجهل والغي.

قال الرماني: وجه الاحتجاج بالآية انه إذا كانت حال الجاهل كحال الاعمى، وحال العالم كحال البصير وأمكن هذا الاعمى ان يستفيد بصرا، فما الذي يبعده عن طلب العلم الذي يخرجه عن حال الاعمى بالجهل؟ !. وهذا إلزام طلب العلم، لانه خروج عن حال الاعمى بالجهل إلى البصير بالعلم.

[243]

وقوله " انما يتذكر أولوا الالباب " معناه إنما ينتفع بالذكر من كان له لب، كقولك: إنما يترك السرف والبغي من له عقل وعلم بالعواقب، وان كان كثير ممن له عقل لايترك ذلك ولايفكر في العواقب.

الآية: 20 - 43

قوله تعالى: (ألذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق(20))

آية بلاخلاف.

موضع " الذين " رفع لانه صفة لاولى الالباب، فكأنه قال إنما يتذكر أولوا الالباب الذين صفتهم أنهم يوفون بعهد الله ولاينقضون مواثيقه.

والايفاء جعل الشئ على المقدار من غير زيادة ولانقصان، والعهد العقد المتقدم على الامر بما يفعل، والنهي عما يجتنب يقال: عهد لله عهدا، وعاهده معاهدة.

وتعهده تعهدا وتعاهده تعاهدا، والنقض حل العقد بفعل ماينافيه، والنقيض معنى تنافي صحته صحة غيره.

والنقض في المعاني إيجاد مالايمكن ان يصح مع غيره، كاعتقاد ان زيدا في الدار وليس هو فيها على وجه واحد.

والميثاق العهد الواقع على إحكام.

توثق توثقا واستوثق استيثاقا، وواثقه مواثقة، ووثق به وثوقا وارثقه ايثاقا، ووثقه ثوثيقا.

والعهد الذي جعله في عقول العباد ماجعل فيهامن اقتضاء صحة أمور الدين وفساد أمور أخر، كاقتضاء الفعل الفاعل، وأنه لايصح الفعل الا ان يكون فاعله قادرا، وان المحكم لايصح الا من عالم، وان الصانع لابد ان يرجع إلى صانع غير مصنوع، والا أدى إلى مالانهاية له، وان للعالم مدبر لايشبهه، ولا يحتاج إلى مدبر الحاجته وماأشبه ذلك.

وقد يكون ايضاعلى العهد الذي عاهد عليه النبي صلى الله عليه وسلم.

وفي الآية دلالة على وجوب الوفاء بالعهود التي تنعقد بين الخلق سواء‌كان بين المسلمين او الكفار، من الهدنة وغيرها.

[244]

قوله تعالى: (والذين يصلون ماأمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب(21))

آية بلاخلاف.

هذه الآية عطف على الاولى، وهي من صفة الذين يوفون بعهد الله ولاينقضون ميثاقه، وانهم مع ذلك " يصلون ماأمر الله به أن يوصل " والوصل ضد الفصل يقال وصله يصله وصلا، وأوصله إيصالا، واتصل اتصالا، وتواصلوا تواصلا، وواصلة مواصلة، ووصله توصيلا، والوصل ضم الثاني إلى الاول من غير فاصلة.

وقيل: المعنى يصلون الرحم.

وقال الحسن: المعنى يصلون محمد صلى الله عليه وسلم.

وقوله " ويخشون ربهم " اي يخافون عقابه فيتركون معاصيه " ويخافون سوء الحساب " وقد فسرناه.

والخوف والخشية والفزع نظائر، وهو انزعاج النفس مما لاتأمن معه من الضرر، وضدالامن الخوف.

والسوء ورود مايشق على النفس، ساء يسوء‌ه سوء‌ا، وأساء اليه إساء‌ة.

والاساء‌ة ضد الاحسان.

وقيل " سوء الحساب " مناقشة الحساب.

والحساب احصاء‌ما على العامل وله، وهو - ههنا - إحصاء‌ما على المجازى وله.

قوله تعالى: (والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلوة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرءون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار(22))

آية بلاخلاف.

هذه الآية ايضا من تمام وصف الذين يوفون بعهد الله ولاينقضون ميثاقه ويصلون ماامر الله بوصله، ويصبرون على ترك معاصي الله، والقيام بما أوجبه عليهم، والصبر على بلاء الله وشدائده من الامراض والفقر وغير ذلك. والصبر

[245]

حبس النفس عما تنازع اليه مما لايجوز من الفعل وهو تجرع مرارة تمنع النفس مما تحب من الامر.

ومعنى قوله " ابتغاء وجه ربهم " اي يفعلون ذلك طلب عظمة ربهم.

والعرب تقول ذلك في تعظيم الشئ يقولون: هذا وجه الرأي، وهذا نفس الرأي المعظم، فكذلك سبيل وجه ربهم اي نفسه المعظم بمالاشئ اعظم منه، ولا شئ يساويه في العظم. والمعنى ابتغاء ثواب ربهم.

وقوله " وأقاموا الصلاة " يعني اقاموها بحدودها.

وقيل: معناه داوموا على فعلها و " انفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية " اي ظاهرا وباطنا، مايجب عليهم من الزكاة، وما ندبوا اليه من الصدقات. والسر إخفاء المعنى في النفس، ومنه السرور، لانه لذة تحصل في النفس، ومنه السرير، لانه مجلس سرور.

وقوله " ويدرؤن بالحسنة السيئة " معناه يدفعون بفعل الطاعة المعاصي، يقال: درأته ادرؤه درء‌ا إذا دفعة.

وقال ابن زيد: الصبر على وجهين: احدهما - الصبرلله على مااحب والآخر - الصبر على ماكره، كما قال " سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار " وقيل يدرؤن سفه الجهال بمافيهم من الحلوم.

وقيل: انهم يدفعون ظلم الغير عن نفوسهم بالرفق والمواعظ الحسنة.

ثم قال تعالى مخبرأ ان هؤلاء الذين وصفهم بهذه الصفات " لهم عقبى الدار " اي عاقبة الدار، وهي الجنة التي وعدالله الصابرين بها.

قوله تعالى: (جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملئكة يدخلون عليهم من كل باب(23) سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار(24))

آيتان في الكوفي والبصري.

وآية في الباقي تمام الاولى في الكوفي والبصري.

" من كل باب "

[246]

يقول الله تعالى إن من وصفه بالصفات المذكورة " لهم عقبى الدار " وهي " جنات عدن " قال الزجاج: (جنات) بدل على قوله " عقبى الدار " والجنات البساتين التي يحفها الشجر واحدها جنة وأصله الستر من قوله " جن عليه الليل "(1) وجنه اذا ستره.

و (العدن) الاقامة الطويلة، عدن بالمكان إذا اقام به يعدن عدنا، ومنه المعادن التي يخرج منها الذهب والفضة وغيرهما.

وقوله " ومن صلح من آبائهم وازواجهم وذرياتهم " اي ويدخل هذه الجنات الذين عملوا الصالحات من آباء المؤمنين، ومن أزواجهم وذرياتهم. والصلاح استقامة الحال إلى مايدعو إليه العقل او الشرع.

والمصلح من يفعل الصلاح، والصالح المستقيم الحال في نفسه.

وقوله " والملائكة يدخلون عليهم من كل باب " اي يدخلون من كل باب بالتحية والكرامة، وفي ذلك تعظيم الذكر للملائكة. وفي الآية دلالة على ان ثواب المطيع لله سروره بما يراه في غيره من أحبته، لانهم يسرون بدخول الجنة مع من صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم، وهم أولادهم، وذلك يقتضي سرورهم بهذا الخبر.

وقوله " سلام عليكم بماصبرتم " اي يقول هؤلاء الملائكة الداخلون عليهم " سلام عليكم.

والسلام التحية بالكرامة على انتفاء كل امر يشوبه من مضرة.

والقول محذوف لدلالة الكلام عليه.

والعقبى الانتهاء الذي يؤدي اليه الابتداء من خير او شر، فعقبى المؤمن الجنة فهي نعم الدار، وعقبى الكافر النار، وهي بئس الدار.

و (الباء) في قوله " بما صبرتهم " يتعلق بمعنى " سلام عليكم " لانه دل على السلامة لكم بما صبرتم، ويحتمل ان يتعلق بمحذوف، وتقديره هذه الكرامة لكم بما صبرتم. وقيل في معنى " بماصبرتم " قولان: احدهما - ان تكون (ما) بمعنى المصدر، فكأنه قال: بصبركم. والثاني - ان تكون بمعنى (الذي) كأنه قال بالذي صبرتم على فعل طاعاته وتجنب معاصيه.

___________________________________

(1) سورة الانعام 6 آية 76

[247]

قوله تعالى: (والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الارض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار(25))

آية بلاخلاف.

لما ذكر الله تعالى الذين يوفون بعهده، ولاينقضون ميثاقه، ووصفهم بالصفات التي يستحقون بها الجنة، وهي عقبى الدار، اخبر بعد ذلك عن حال من ينقض عهده من بعد اعطائه المواثيق، ويقطع ماامر الله به ان يوصل، وهو ما بيناه من صلة الرحم اوصله النبي صلى الله عليه وسلم ويفسد مع ذلك في الارض، ومعناه ان يعمل فيها بمعاصي الله والظلم لعباده، واخراب بلاده، فهؤلاء لهم اللعنة، وهي الابعاد من رحمة الله، والتبعيد من جنته، " ولهم سوء الدار " يعني عذاب النار، والخلود فيها.

وقد بينا معنى النقض، وأنه التفريق بين شيئين متآلفين، ومثله الهدم، ونقض العهد هو العمل بخلاف موجبه، والعهد عقد يتقدم به في الامر وعهد الله عقده، وهو لزوم العمل بالحق في جميع ما اوجبه عليه، والميثاق احكام العقد بأبلغ مايكون مثله، وميثاق العهد توثيقه بأوكد مايكون من الامر.

والقطع نقيض الوصل، وقطع ماامر الله به ان يوصل، في كل عمل يجب تنميته، من صلة رحم او غيره من الفروض اللازمة، والافساد نقيض الاصلاح.

قوله تعالى: (ألله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وفرحوا بالحيوة الدنيا وماالحيوة الدنيا في الآخرة إلا متاع(26))

آية بلاخلاف.

اخبر الله تعالى انه " يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر " ومعناه يوسعه على من يشاء

[248]

من عباده، بحسب مايعلم من مصلحته، ويضيقه على آخيرين اذا علم ان مصلحتهم. في ذلك.

وقوله " وفرحوا بالحياة الدنيا " معناه وسروا - هؤلاء الذين بسط لهم في الرزق - بالرزق في الحياه الدنيا فنسوا فناء‌ه وبقاء امر الآخرة. ويحتمل ان يكون اراد به أنهم فرحوا فرح البطر، كقوله " ان الله لايحب الفرحين "(1) والفرح هوالسرور، وهولذة في القلب بنيل المشتهى، ومنه قوله " فرحين بما آتاهم الله من فضله "(2).

ثم قال تعالى " وماالحياة الدنيا في الآخرة الامتاع " ومعناه ليست هذه الحياة الدنيا بالاضافة إلى الحياة في الآخرة " إلا متاع " اي إلا قليل ذاهب في - قول مجاهد - وانما كان كذلك، لان هذه فانية وتلك دائمة باقية.

والمتاع ما يقع من الانتفاع به في العاجلة، وأصله التمتع، وهو التلذذ بالامر العاجل، ولذلك وصفت الدنيا بأنها متاع.

والقدر قطع الشئ على مساواة غيره من غير زيادة ولانقصان، والمقدار المثال الذي يعمل فيه غيره في مساواته، ومعنى ويقدر - ههنا - يضيق.

وقال ابن عباس: ان الله تعالى خلق الخلق فجعل الغنا لبعضهم صلاحا، والفقر لبعضهم صلاحا، فذلك الخيار للفريقين.

قوله تعالى: (ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب(27))

آية بلاخلاف.

حكى الله تعالى في هذه الآية عن الكفار الذين وصفهم انهم يقولون " لولا أنزل " على محمد " آية " يعني علامة ومعجزة. والمعنى هلا انزل عليه آية من ربه

___________________________________

(1) سورة القصص 28 آية 76.

(2) سورة آل عمران 3 آية 170

[249]

يقترحونها، ويعلمون انها انزلت من ربه، وذلك لمالم يستدلوا، فيعلموا مدلول الآيات التي اتى بها لم يعتدوا بتلك الآيات، فقالوا هذا القول جهلا منهم بها، فأمر الله نبيه ان يقول لهم " ان الله يضل من يشاء " بمعنى انه يحكم على من يشاء بالضلال اذا ضل عن طريق الحق، ويجوز ان يكون المراد " يضل من يشاء " عن طريق الجنة بسوء أفعالهم وعظم معاصيهم، ولايجوز ان يريد بذلك الاضلال عن الحق، لان ذلك سفه لايفعله الله تعالى.

وقوله " ويهدي اليه من أناب " اي يحكم لمن رجع إلى طاعة الله والعمل بها بالجنة ويهديه اليها. والهداية الدلالة التي تؤدي إلى طريق الرشد بدلا من طريق الغي، والمراد بها - ههنا - الحكم له بسلوك طريق الجنة رفعا لقدره، ومدحا لصاحبه. والاضلال العدول بالمار عن طريق النجاة إلى طريق الهلاك، والمراد - ههنا - الحكم له بالعدول عن طريق الجنة وسلوك طريق النار، والانابة الرجوع إلى الحق بالتوبة، يقال: ناب ينوب نوبة اذا رجع مرة بعد مرة.




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21335882

  • التاريخ : 28/03/2024 - 18:39

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net