00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة براءة من ( آية 74 ـ 110 ) 

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : التبيان في تفسير القرآن ( الجزء الخامس)   ||   تأليف : شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي

قوله تعالى: يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغنيهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيرا لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذبا أليما في الدنيا والاخرة وما لهم في الارض من ولي ولا نصير(74)

آية.

اختلفوا فيمن نزلت فيه هذه الاية، فقال عروة وابن اسحاق ومجاهد: إنها نزلت في الخلاس بن سويد بن الصامت بأنه قال: فان كان ما جاء به محمد حقا لنحن شر من الحمير، ثم حلف بالله أنه ما قال.

وقال قتادة: نزلت في عبدالله بن ابي بن سلول حين قال " لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الاعز منها الاذل "(1) وقال الحسن: كان ذلك في جماعة من المنافقين.

وقال الواقدي والزجاج: نزلت في اهل العقبة فانهم ائتمروا أن يغتالوا رسول الله في عقبة في الطريق عند مرجعهم من تبوك. وأرادوا ان يقطعوا اتساع راحلته، واطلعه الله على ذلك. وكان ذلك

___________________________________

(1) سورة 63 المنافقون آية 8

[261]

من معجزاته صلى الله عليه واله لانه لايمكن معرفة مثل ذلك إلا بوحي من الله تعالى، فسار رسول الله في العقبة وحده وأمر الناس كلهم بسلوك بطن الوادي وكانوا اثني عشر رجلا أو خمسة عشر رجلا على الخلاف فيه. وعرفهم واحدا واحدا عمار بن ياسر وحذيفة، وكان احدهما يقود ناقة رسول الله والاخر يسوقها، والحديث مشروح في كتاب الواقدي.

وقال ابوجعفر عليه السلام كانوا ثمانية من قريش واربعة من العرب وقوله " وهموا بما لم ينالوا " قيل فيه ثلاثة اقوال: احدهما - قال مجاهد: هم المنافقون بما لم يبلغوه من التنفير برسول الله.

الثاني - قال قتادة: هموا بما ذكر في قوله " ليخرجن الاعز منها الاذل " فلم يبلغوا ذلك.

والثالث - عن مجاهد أنهم هموا بقتل من أنكر عليهم ذلك.

وقال بعضهم: كان المنافقون قالوا: لو رجعنا وضعنا التاج على رأس عبدالله ابن ابي، فلما اوقفوا على ذلك حلفوا بأنهم ما قالوا ذلك ولا هموا به، فاخبر الله تعالى عن حالهم انهم يحلفون بالله ما قالوا، ثم اقسم تعالى بانهم قالوا ذلك، لان لام لقد لام القسم وانهم قالوا كلمة الكفر، وهي كل كلمة فيها جحد لنعم الله او بلغت منزلتها في العظم، وكانوا يطعنون في الاسلام والنبوة، وأخبر انهم هموا بما لم يبلغوه.

والهم مقاربة الفعل بتغليبه في النفس تقول: هم بالشئ يهم هما، ومنه قوله " ولقد همت به وهم بها لولا رأى "(1) وليس الهم من العزم في شئ إلا ان يبلغ نهاية العزم في النفس. والنيل لحوق الامر. ومنه قوله (نال السيف ونال ما اشتهى او قدر او تمنى) فهؤلاء قدروا في انفسهم من كيد الاسلام مالم يبلغوه.

وقوله " وما نقموا إلا ان اغناهم الله ورسوله من فضله " يعني ما فتح الله عليهم من الفتوح وأخذ الغنائم واستغنوا بعد أن كانوا محتاجين وقيل في معناه قولان: احدهما - انهم عملوا بضد الواجب فجعلوا موضع شكر الغنى أن نقموا

___________________________________

(1) سورة 12 يوسف آية 24.

[262]

قال الشاعر:

مانقموا من بني أمية إلا *** انهم يحلمون ان غضبوا(1)

والاخر - انهم بطروا النعمة بالغنى فنقموا بطرا واشرافهم لايفلحون بهذه الحال ولابعدها.

والفضل الزيادة في الخير على مقدارما.

والتفضل هو الزيادة من الخير الذي كان للقادر عليه ان يفعله وأن لايفعله.

ثم قال تعالى " فان يتوبوا " هؤلاء المنافقون ويرجعوا إلى الحق " يك خيرا لهم " في دينهم ودنياهم " فانهم ينالون بذلك رضى الله ورسوله والجنة " وإن يتولوا " اي يعرضوا عن الرجوع إلى الحق وسلوك الطريق الصحيح " يعذبهم الله عذابا أليما " اي مؤلما " في الدنيا " بما ينالهم من الحسرة والغم وسوء الذكر وانواع المصائب وفي " الاخرة " بعذاب النار " وما لهم في الارض " اي ليس لهم في الارض " من ولي " اي محب " ولا نصير " يعني من ينصرهم ويدفع عنهم عذاب الله.

وقيل: إن خلاسا تاب بعد ذلك، وقال: استثنى الله تعالى لي التوبة فقبل الله توبته.

قوله تعالى: ومنهم من عاهد الله لئن آتينا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين(75)

آية.

اخبر الله تعالى أن من جملة المنافقين الذين تقدم ذكرهم " من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن " أي منه " ولنكونن من الصالحين " بانفاقه في طاعة الله وصلة الرحم والمواساة وأن يعمل الاعمال الصالحة التي يكون بها صالحا.

وقيل: نزلت الاية في بلنعة بن حاطب كان محتاجا فنذر لئن استغنى ليصدقن فأصاب اثني عشر الف درهم، فلم يتصدق، ولم يكن من الصالحين. هكذا قال الواقدي.

___________________________________

(1) مر تخريجه في 3 / 559

[263]

وقال ابن اسحاق: هما بلتعة ومقنب بن قشير.

وقيل: سبب ذلك أنه قتل مولى له فأخذ ديته اثني عشر ألف درهم: أعطاه النبي صلى الله عليه واله.

فان قيل: كيف يصح أن يعاهد الله من لايعرفه؟ قلنا: إذا وصفه بأخص صفاته جاز منه أن يصرف عهده اليه وإن جاز أن يكون غير عارف وقال الجبائي: كانوا عارفين، وانما كفروا بالنبي صلى الله عليه واله.

والمعاهدة هي أن يقول علي عهد الله لافعلن كذا، فانه يكون قد عقد على نفسه وجوب ماذكره، لان الله تعالى حكم بذلك وقدر وجوبه عليه في الشرع.

والاية دالة على وجوب الوفاء بالعهد. واللام الاولى من قوله " لئن آتانا من فضله " والثانية من قوله " لنصدقن " جميعهما لام القسم غير أن الاولى وقعت موقع الجواب، والتقدير علينا عهد الله لنصدقن إن آتانا من فضله. ولا يجوز أن تكون اللام الاولى لام الابتداء، لان لام الابتداء لاتدخل إلا على الاسم المبتدأ، لانها تقطع ما قبلها أن يعمل فيما بعدها إلا في باب (إن) فانها زحلقت إلى الخبر لئلا يجتمع تأكيدان، ويجوز ان يقو ل: ان رزقني الله مالا صلحت بفعل الصلاة والصوم لان ذلك واجب عليه آتاه ما لا أولم يؤته.

قوله تعالى: فلما آتيهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون(76)

آية

أخبر الله تعالى عن هؤلاء المنافقين الذين عاهدوا الله، وقالوا متى آتانا الله من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين أنه آتاهم ما اقترحوه ورزقهم ما تمنوه من الاموال، وانهم لما آتاهم ذلك شحت نفوسهم عن الوفاء بالعهد. ومعنى (لما) معنى (اذا) إلا أن (لما) الغالب عليها الجزاء، وهي إسم، لانها تقع في جواب (متى) على تقدير الوقت كقولك: متى كان هذا، فيقول السامع: لما كان ذلك.

و (لما) و (لو) لايكونان إلا لما مضى بخلاف (إن)

[264]

و (إذا) فانهما لما يستقبل الا أن (لو) على تقدير نفي وجوب الثاني لانتفاء الاول و (لما) يدل على وقوع الثاني لوقوع الاول.

والبخل منع النائل لشدة الاعطاء، ثم صار في اسماء الذي منع الواجب، لان من منع الزكاة فهو بخيل.

قال الرماني: ولايجوز أن يكون البخل منع الواجب بمشقة الاعطاء قال الزهير:

ان البخيل ملوم حيث كان ول‍ *** كن الجواد على علاته هرم(1)

قال: لانه يلزم على ذلك ان يكون الجود هو بذل الواجب من غير مشقة.

وإنما قال زهير ما قاله لان البخل صفة نقص.

قال الرماني: ومن منع ما لا يضره بذله ولاينفعه منعه مما تدعو اليه الحكمة فهو بخيل، لانه لايقع المنع على هذه الصفة إلا لشدة في النفس، وإن لم يرجع إلى ضرر، وقال عبدالله بن عمر والحسن ومحمد ابن كعب القرطي: يعرف المنافق بثلاث خصال: إذا حدث كذب، وإذا وعد خلف وإذا ائتمن خان.

وخالفهم عطاء ابن ابي رياح في ذلك وقال: إن النبي صلى الله عليه واله إنما قال ذلك في قوم من المنافقين.

وروي ان الحسن رجع إلى قول عطاء.

وقوله " وتولوا " اي أعرضوا عما عاهدوا الله عليه.

وقوله " وهم معرضون " اخبار منه بأنهم معرضون عن الحق بالكلية.

قوله تعالى: فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون(77)

آية.

بين الله تعالى أنه أعقب هؤلاء المنافقين ومعناه أورثهم وأداهم إلى نفاق في

___________________________________

(1) اللسان (هرم).

[265]

قلوبهم بخلهم بما آتاهم الله من فضله مع الاعراض عن أمر الله، وهو قول الحسن وقال مجاهد: معناه أعقبهم ذلك بحرمان التوبة كما حرم ابليس، وجعل ذلك إمارة ودلالة على أنهم لايتوبون أبدا لاحد شيئين: من قال: اعقبهم بخلهم رد الضمير اليه.

والمعنى يلقون جزاء بخلهم.

ومن ذهب إلى ان الله أعقبهم رد الضمير إلى اسم الله.

وقوله " بما أخلفوا الله ما وعدوه " فالاخلاف نقض ما تقدم به العقد من وعد أو عزم وأصله الخلاف، لانه فعل خلاف ما تقدم به العقد. والوعد متى كان بأمر واجب أو ندب أو أمر حسن قبح الاخلاف، وان كان الوعد وعدا بقبيح كان إخلافه حسنا.

وقوله " وبما كانوا يكذبون " يقوي قول من قال: إن الضمير عائد إلى الله لانه بين انه فعل ذلك جزاء على اخلافهم وعده وجزاء على ما كانوا يكذبون في اخبارهم عليه.

قوله تعالى: ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجويهم وأن الله علام الغيوب(78)

آية.

الالف في قوله " ألم يعلموا " الف استفهام والمراد به الانكار.

يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه واله " ألم يعلموا " هؤلاء المنافقون " أن الله يعلم سرهم " يعني ما يخفون في أنفسهم وما يتناجون بينهم، والمعنى انه يجب عليهم أنت يعلموا ذلك.

تقول: اسره إسرارا، واستسر استسرارا، وساره مسارة وسرارا، وتسارا إسرارا، والاسرار اخفاء المعنى في النفس والنجوى رفع الحديث باظهار المعنى لمن يسلم عنده من اخراجه إلى عدو فيه لانه من النجاة تقول: ناجاه مناجاة، وتناجوا تناجيا فكأن هؤلاء المنافقون يسرون في أنفسهم الكفر ويتناجون به بينهم.

[266]

وقيل: السر والنجوى واحد مكرر باختلاف اللفظين كما يقول القائل: آمرك بالوفاء وأنهاك عن الغدر والمعنى واحد مكرر باختلاف اللفظين.

وقوله " ان الله علام الغيوب " معناه يعلم كل ما غاب عن العباد مما غاب عن احساسهم او ادراكهم من موجود أو معدوم من كل وجه يصح ان يعلم منه، لانها صفة مبالغة واقتضى ذكر العمل - هاهنا - حال المنافقين في كفرهم سرا وإظهارهم الايمان جهرا، فقيل لهم ان المجازي لكم يعلم سركم ونجواكم، كما قال: ذو الرمة في معنى واحد بلفظين مختلفين:

لمياء في شفتيها حوة لعس *** وفي اللثات وفي انيابها شنب

فاللعس حوة وكرر لاختلاف اللفظين، ويمكن ان يكون لما ذكر الحوة خشي أن يتوهم السامع سوادا قبيحا فبين انه لعس لانه يستحسن ذلك.

قوله تعالى: ألذين يلمزون المطّوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم(79)

آية.

قيل: نزلت هذه الاية في علية بن زيد الحارثي وزيد بن اسلم العجلاني فجاء عليه بصاع نم تمر فنثره في الصدقة، وقال: يا رسول الله عملت في النخل بصاعين فصاعا تركته لاهلي وصاعا اقرضته ربي، وجاء زيد بن أسلم بصدقة فقال: معتب ابن قشير وعبدالله بن نهيك إنما أراد الرياء.

وقال قتادة وغيره من المفسرين: إن هذه الاية نزلت حجاب بن عثمان، لانه أتى النبي صلى الله عليه واله بصاع من تمر وقال: يا رسول الله إني عملت في النخل بصاعين من تمر فتركت للعيال صاعا واهديت لله صاعا. وجاء عبدالرحمن بن عوف بأربعة آلاف دينار وهي شطر ماله للصدقة، فقال المنافقون: إن عبدالرحمن لعظيم الرياء، وقالوا في الاخر: إن

[267]

الله لغني عما أتى به، فأنزل الله تعالى الاية فقال " الذين يلمزون المطوعين " أي ينسبونهم إلى النقص في النفس يقولون: لمزه يلمزه لمزا إذا انتقصه وعابه والمطوعين على وزن (المتفعلين) وتقديره المتطوعين. فأدغمت التاء في الطاء، ومعناه المتقلين من طاعة الله بما ليس بواجب عليهم، لان الخير قد يكون واجبا وقد يكون ندبا وقد يكون مباحا ولايستحق المدح الا على الواجب والندب دون المباح، وقوله " والذين لايجدون الاجهدهم " والجهد هو الحمل على النفس بما يشق تقول: جهده يجهده جهدا وجهدا - بالضم والفتح - كالوجد والوجد والضعف والضعف.

وقال الشعبي: الجهد في العمل والجهد في القوت.

وقوله " فيسخرون منهم " يعني المنافقين يهزؤون بالمطوعين " سخر الله منهم " اي يجازيهم على سخريتهم بأنواع العذاب " ولهم عذاب اليم " اي مؤلم موجع. ولما كان ضرر سخريتهم عائدا عليهم جاز ان يقال " سخر الله منهم " لاانه يفعل السخرية.

الآية: 80 - 99

قوله تعالى: إستغفر لهم أولا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لايهدي القوم الفاسقين(80)

آية.

قوله " استغفر لهم " صيغته صيغة الامر والمراد به المبالغة في الاياس من المغفرة انه لو طلبها طلبة المأمور بها أو تركها ترك المنهي عنها لكان ذلك سواء في ان الله لايفعلها، كما قال في موضع آخر " سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم "(1).

والاستغفار طلب المغفرة من الله تعالى بالدعاء بها والمغفرة ستر المعصية برفع العقوبة عليها. وتعليق الاستغفار بالسبعين مرة، والمراد

___________________________________

(1) سورة 63 المنافقون آية 6

[268]

به المبالغة لا العدد المخصوص، ويجري ذلك مجرى قول القائل: لو قلت ألف مرة ما قبلت، والمراد بذلك إني لا أقبل منك، وكذلك الاية المراد بها نفي الغفران جملة.

وما روي عن النبي صلى الله عليه واله أنه قال (والله لازيدن على السبعين) خبر واحد لايلتفت اليه، ولان في ذلك ان النبي صلى الله عليه واله استغفر للكفار وذلك لايجوز بالاجماع.

وقد روي أنه قال (لو علمت اني لوزدت على السبعين مرة لغفر لفعلت).

وكان سبب نزول هذه الاية ان النبي صلى الله عليه واله كان اذا مات ميت صلى عليه واستغفر له، ولم يكن بمنزلة المنافقين بعد، فأعلمه الله تعالى ان في جملة من تصلي عليهم من هو منافق وإن استغفاره له لاينفع قل ذلك ام كثر، ثم نهى الله نبيه أن يصلي على أحد منهم وأن يستغفر له حين عرفه اياهم بقوله " ولا تصل على أحد منهم مات ابدا ولا تقم على قبره "(1) الاية.

وقوله " ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله " اشارة منه تعالى إلى ان ارتفاع الغفران انما كان لانهم كفروا بالله وجحدوا نعمه، وكفروا برسوله فجحدوا نبوته " والله لايهدي القوم الفاسقين " فمعناه انه لايهديهم إلى طريق الجنة والثواب.

فأما الهداية إلى الايمان بالاقرار بالتوحيد لله والاعتراف بنبوة النبي صلى الله عليه واله فقد هدى الله اليه كل مكلف متمكن من النظر والاستدلال، بأن نصب له على ذلك الدلالة وأوضحها له.

قوله تعالى: فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لاتنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون(81)

آية.

اخبر الله تعالى بأن جماعة من المنافقين الذين خلفهم النبي صلى الله عليه واله ولم يخرجهم

___________________________________

(1) سورة 9 التوبة آية 85.

[269]

معه إلى تبوك لما استأذنوه في التأخر فأذن لهم، فرحوا بقعودهم خلاف رسول الله. والمخلف المتروك خلف من مضى، ومثله المؤخر عمن مضى تقول: خلف تخليفا وتخلف تخلفا. والفرح ضد الغم، والغم ضيق الصدر بفوت المشتهى، وعند البصريين من المعتزلة هو اعتقاد وصول الضرر اليه في المستقبل او دفع الضرر المظنون والمعلوم عنه.

ومعنى خلاف رسول الله قال أبوعبيدة: بعد رسول الله وأنشد:

عقب الربيع خلافهم فكأنما *** بسط الشواطب بينهن حصيرا(1)

وقال غيره: معناه المصدر من قولك خالف خلافا وهو نصب على المصدر.

وقوله " وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله " اخبار منه تعالى ان هؤلاء المخلفين فرحوا بالتأخر وكرهوا إنفاق أموالهم والجهاد بنفوسهم في سبيل الله، فالجهاد بالمال هو تحمل لمشقة الانفاق في وجوه البر، والجهاد بالنفس هو تعريضها لما يشق عليها اتباعا لامر الله.

وقوله " لاتنفروا في الحر " معناه انهم قالوا لنظرائهم ومن يقبل منهم: لاتخرجوا في الوقت الحار، فقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه واله قل لهم " نار جهنم اشد حرا لو كانوا يفقهون " لانهم توقوا بالقعود عن الخروج حر الشمس، فخالفوا بذلك أمر الله وأمر رسوله، واستحقوا حر نار جهنم، وكفى بهذا الاختيار جهلا ممن اختاره.

وقوله " لو كانوا يفقهون " معناه لو كانوا يفقهون وعظ الله وتحذيره وتزهيده في معاصيه.

قوله تعالى: فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون(82)

آية.

___________________________________

(1) قائله الحارث بن خالد المخزومي. الاغاني 3 / 333 وروايته (الرذاذ) بدل (الربيع) واللسان (عقب)، (خلف).

[270]

قوله " فليضحكوا " صيغته صيغة الامر والمراد به التهديد، وإنما قلنا: إنه بصورة الامر، لان اللام ساكنة ولو كانت لام الاضافة لكانت مكسورة لانها تؤذن بعملها للجزاء المناسب لها، فلذلك الزمت الحركة.

والمراد بالاية الاخبار عن حال هؤلاء المنافقين وأنها في وجه الضحك كحال المأمور منه فيما يؤل اليه من خير أو شر على صاحبه، فلذلك دخله معنى التهدد، والضحك حال تفتح وانبساط يظهر في وجه الانسان عن تعجب مع فرح، والضحاك هو الانسان خاصة. والبكاء حال يظهر عن غم في الوجه مع جري الدموع على الخد، وهو ضد الضحك تقول: بكا بكاء‌ا، وأبكاه الله ابكاء‌ا، وبكاه تبكية وتباكى تباكيا واستبكى استبكاء‌ا ومعنى الاية أن يقال لهؤلاء المنافقين: فاضحكوا بقليل تمتعكم في الدنيا فانكم ستبكون كثيرا يوم القيامة إذا حصلتم في العقاب الدائم " جزاء بما كانوا يكسبون " نصب (جزاء) على المصدر أي تجزون على معاصيكم، ذلك جزاء على أفعالكم التي اكتسبتموها.

قوله تعالى: فان رجعك الله إلى طائفة منهم فاستاذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين(83)

آية.

قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه واله " فان رجعك الله " يعني ان ردك الله " إلى طائفة منهم يعني جماعة. فالرجوع هو تصيير الشئ إلى المكان الذي كان فيه، تقول: رجعته رجعا كقولك رددته ردا، وقد يكون التصيير إلى الحال التي كان عليها كرجوع الماء إلى حال البرودة.

والطائفة الجماعة التي من شأنها أن تطوف ولهذا لايقال في جماعة الحجارة طائفة، وقد يسمى الواحد بأنه طائفة بمعنى نفس طائفة والاول اظهر.

[271]

وقوله " فاستأذنوك للخروج " اي طلبوا منك الاذن في الخروج في غزوة أخرى، والاذن رفع التبعة في الفعل وأصله أن يكون بقول يسمع بالاذن.

والخروج الانتقال عن محيط، فقال الله لنبيه صلى الله عليه واله قل لهم حينئذ " لن تخرجوا معي أبدا " اي لا يقع منكم الخروج أبدا، فالابد الزمان المستقبل من غير انتهاء إلى حد، ونظير للماضي (قط) إلا انه مبني كما بني أمس لتضمنه حروف التعريف واعرب (الابد) كما اعرب (غد) لان المستقبل أحق بالتنكير.

وقوله " ولن تقاتلوا معي عدوا " اخبار بأنهم لايفعلون ذلك ابدا ولا يختارونه.

وقوله " إنكم رضيتم بالقعود " أول مرة فاقعدوا مع الخالفين " معناه اخبار منه تعالى انهم رضوا بالقعود أول مرة فينبغي ان يقعدوا مع الخالفين.

وقيل في معناه ثلاثة اقوال: احدها - قال الحسن وقتادة: هم النساء والصبيان.

وقال ابن عباس: هم من تأخر من المنافقين.

وقال الجبائي: هم كل من تأخر لمرض او نقص وقيل: معناه مع اهل الفساد مشتقا من قولم: خلف خلوفا اي تغير إلى الفساد.

وقيل: الخالف كل من تأخر عن الشاخص.

قوله تعالى: ولاتصلّ على أحد منهم مات أبدا ولاتقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون(84)

آية.

هذا نهي من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه واله عن أن يصلي على أحد من المنافقين او يقوم على قبره ومعناه أن يتولى دفنه او ينزل في قبر كما يقال: قام فلان بامر فلان.

وقال ابن عباس وابن عمر وقتادة وجابر: صلى رسول الله صلى الله عليه واله على عبدالله ابن أبي بن ابي سلول والبسه قمصيه قبل أن ينهي عن الصلاة على المنافقين.

وقال أنس: أراد أن يصلي عليه فأخذ جبرائيل بثوبه.

[272]

وقال له " لاتصل على احد منهم مات أبدا ولاتقم على قبره ".

والصلاة على الاموات فرض على الكفايات إذا قام به قوم سقط عن الباقين.

واقل من يسقط به الفرض واحد وهي دعاء ليس فيها قراء‌ة ولاتسبيح، وفيه خلاف.

وفيها خمس تكبيرات عندنا، وعند الفقهاء أربع تكبيرات، فالتكبيرة الاولى يشهد بعدها الشهادتين ويكبر بالثانية، ويصلي بعدها على النبي صلى الله عليه واله ويكبر الثالثة ويدعو للمؤمنين والمؤمنات، ويكبر الرابعة ويدعوا للميت إن كان مؤمنا وعليه إن كان منافقا، ويكبر الخامسة ويقف يومي إلى يمينه حتى ترفع الجنازة، وليس فيها تسليم.

وسمعت أبا الطيب الطبري وكان امام أصحاب الشافعي يقول: الخلاف بيننا وبينكم في عبارة، لان عندكم ينصرف بالخامسة. وعندنا بالتسليم، فجعلتم مكان التسليم التكبير. وذلك خلاف في عبارة.

وقوله " مات " موضع (مات) جر لانه صفة ل‍ (أحد) لان تقديره على احد ميت منهم و " أبدا " منصوب متصل، و (أحد) هذه هي التي تكون في النفي دون الايجاب لانه يصح النهي عن الصلاة عليهم مجتمعين ومتفرقين، كما يصح في النفي ولايمكن في الايجاب لانه كنفي الضدين في حال واحدة، فانه لايصح اثباتها في حال أصلا.

والقبر حفرة يدفن فيها الميت، تقول: قبرته اقبره قبرا فأنا قابر وهو مقبور وأقبرت فلانا اقبارا اذا جعلته بقبره.

وقوله " إنهم كفروا بالله ورسوله " والمعنى انما نهيتك عن الصلاة عليهم لانهم كفروا بالله ورسوله، فهي للتعليل، وانما كسرت لتحقيق الاخبار بأنهم على الصفة التي ذكرها وأنهم " ماتوا وهم فاسقون " اي خارجون عن طاعة الله إلى معصيته.

[273]

قوله تعالى: ولاتعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون(85)

آية

قد مضى تفسير مثل هذه الاية فلا وجه لاعادته(1) وبينا أنه خطاب للنبي صلى الله عليه واله والمراد به الامة، ينهاهم الله أن يعجبوا بما اعطى الله الكفار من الاموال والاولاد في الدنيا حتى يدعوهم ذلك إلى الصلاة عليهم، ولا ينبغي ان يغتروا بذلك فانما يريد الله ان يعذبهم بها في الدنيا، لانهم لاينفقونها في طاعة الله ولايخرجون حق الله منها. ويجوز أن يعذبهم بها في الدنيا بما يلحقهم فيها من المصائب والغموم وبما يأخذها المسلمون على وجه الغنيمة وبما يشق عليهم من إخرجها في الزكاة والانفاق في سبيل الله مع اعتقادهم بطلان الاسلام وتشدد ذلك عليهم ويكون عذابا لهم، وان نفوسهم تزهق اي تهلك بالموت " وهم كافرون " أي في حال كفرهم، فلذلك عذبهم الله في الاخرة. والاعجاب هو ايجاد السرور بما يتعجب منه من عظيم الاحسان، تقول: اعجبني امره اعجابا اذا سررت بموضع التعجب منه والزهق خروج النفس بمشقة شديدة ومنه قوله " فاذا هو زاهق "(2) أي هالك.

وقيل: في وجه حسن تكرار هذه الاية دفعتين قولان: احدهما - قال ابوعلي: يجوز أن تكون الايتان في فريقين من المنافقين كما يقول القائل: لايعجبك حال زيد ولا يعجبك حال عمرو.

الثاني - أن يكون الغرض البيان عن قوة هذا المعنى فيما ينبغي ان يحذر منه مع أنه للتذكير في موطنين بعد احدهما عن الاخر، فيجب العناية به، وليس ذلك بقبيح، لان الواحد منا يحسن به أن يقوم في مقام بعد مقام، ويكرر الوعظ والزجر والتخويف ولايكون ذلك قبيحا.

___________________________________

(1) في تفسير آية 56 من هذه السورة.

(2) سورة 21 الانبياء آية 18

[274]

قوله تعالى: وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولوا الطَول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين(86)

آية.

بين الله تعالى في هذه الاية أنه إذا أنزل سورة من القرآن على النبي صلى الله عليه واله " أن آمنوا " ومعناه بأن آمنوا فحذفت الباء وجعل " أن آمنوا " في موضع نصب والتقدير بالايمان على وجه الامر ولايجوز الحذف مع صريح المصدر، وإنما جاز مع (أن) للزوم الصلة والحمل على التأويل في اللفظ كما حمل على المعنى. وهذا خطاب للمؤمنين وأمر لهم بأن يدوموا على الايمان ويتمسكوا به في مستقبل الاوقات ويدخل فيه المنافق ويتناوله الامر بأن يستأنف الايمان ويترك النفاق ثم يجاهدا بعد ذلك بنفوسهم وأموالهم لانه لاينفعهم الجهاد مع النفاق.

وقوله " استأذنك أولوا الطول " معناه أن ذوي الغنى من المنافقين إذا انزلت السورة يأمرهم فيها بالايمان والجهاد يستأذنون النبي صلى الله عليه واله في القعود والتأخر عنه. مع اعتقادهم بطلان الاسلام فيشد ذلك عليهم ويكون عذابا لهم - وهو قول الحسن وابن عباس - فانهما قالا: إنما لحق هؤلاء الذم لانهم أقوى على الجهاد.

وقوله " وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين " اخبار منه تعالى أن هؤلاء المنافقين من ذوي الغنى يقولون للنبي صلى الله عليه واله: اتركنا نكن مع القاعدين من الصبيان والزمنى والمرضى الذين لا يقدرون على الخروج.

قال الرماني: والسورة جملة من القرآن تشتمل على آيات قد احاطت بها كما يحبط سور القصر بما فيه، وسؤر الهر بقيته من الماء. والجهاد بالقتال دفعا عن النفس معلوم حسنه عقلا لانه مركوز في العقل وجوب التحرز من المضار، وليس في العقل ما يدل على انه يجب على الانسان ان يمنع غيره من الظلم وإنما يعلم ذلك سمعا.

[275]

قوله تعالى: رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون(87)

آية.

اخبر الله تعالى بأن هؤلاء الذين قالوا " ذرنا نكن مع القاعدين " من المنافقين رضوا لنفوسهم أن يكونوا مع الخوالف وهم النساء والصبيان والمرضى والمقعدون.

قال الزجاج: الخوالف النساء لتخلفهن عن الجهاد، ويجوز أن يكون جمع خالفة في الرجال، والخالف والخالفة الذي هو غير نجيب، ولم يأت في (فاعل) (فواعل) صفة إلا حرفين قولهم: فارس وفوارس. وهالك وهوالك.

وقوله " وطبع على قلوبهم " قيل في معناه قولان: احدهما - انه تعالى يجعل نكته سوداء في قلب المنافق والكافر لتكون علامة للملائكة يعرفون بها أنه ممن لا يفلح أبدا. الثاني - أن يكون المراد بذلك الذم لها بأنها كالمطبوع عليها فلا يدخلها صبر ولاينتفي عنها شر، لان حال الذم لها يقتضي صفات الذم، كما أن حال المدح يقتضي صفات المدح، كما قال جرير في قصيدة أولها:

أتصحوا أم فؤادك غير صاح *** عشية هم صحبك بالرواح

ألستم خير من ركب المطايا *** واندى العالمين بطون راح(1)

ولا تحمل الا على المدح دون الاستفهام.

والطبع في اللغة هو الختم تقول: طبعه وختمه بمعنى واحد.

___________________________________

(1) مر تخريجه في 1 / 132، 400 وقد مر في 2 / 327

[276]

قوله تعالى: لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون(88)

آية.

لما أخبر الله تعالى عن حال المتأخرين عن النبي صلى الله عليه واله والقاعدين عن الجهاد معه وأنهم منافقون قد طبع على قلوبهم فهم لا يفقهون. أخبر عن الرسول صلى الله عليه واله ومن معه من المؤمنين المطيعين لله ورسوله بأنهم يجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم بالاموال التي ينفقونها في مرضاة الله وعدة الجهاد ويقاتلون الكفار بنفوسهم. ثم اخبر عما أعدلهم من الجزاء على أفعالهم تلك وانقيادهم لله ورسوله، فقال " أولئك " يعني النبي والذين معه " لهم الخيرات " في الجنة ونعيمها وخيراتها، وانهم المفلحون ايضا الفائزون بكرامة الله.

والخيرات هي المنافع التي تسكن النفس اليها وترتاح بها من النساء الحسان وغيره من نعيم الجنان واحده خيرة - هذا قول ابي عبيدة - وقال رجل من بني عدي:

ولقد طعنت مجامع الربلات *** ربلات هند خيرة الملكات(1)

والفلاح النجاح بالوصول إلى البغية من نجح الحاجة وهو قضاؤها.

قوله تعالى: أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم(89)

آية.

بين الله تعالى انه " أعد " لهؤلاء المؤمنين والرسول " جنات " يعني بساتين " تجري من تحتها " ومعناه من تحت اشجارها " الانهار ".

والاعداد جعل الشئ مهيئا لغيره تقول: اعد إعدادا واستعد له استعدادا وهو من العدد، لانه قد عد الله جميع ما يحتاج إلى تقديمه له من الامور ومثله الاتخاذ.

والوجه في اعداد ذلك قبل مجئ وقت الجزاء أن تصوره لذلك ادعى إلى الطاعة وآكد في الحرص عليها.

___________________________________

(1) مجاز القرآن 1 / 267 واللسان (خير) الربلة لحمة الفخذ

[277]

ويحتمل أن يكون المراد أنه سيجعل لهم جنات تجري من تحتها الانهار غير أنه ترك للظاهر.

وقوله " ذلك الفوز العظيم " اشارة إلى ما أعده لهم واخبار منه بأنه الفوز العظيم.

والفوز النجاة من الهلكة إلى حال النعمة، وسميت المهلكة مفازة تفاؤلا بالنجاة وإنما وصفه بالعظيم لانه حاصل على جهة الدوام.

قوله تعالى: وجاء المعذرون من الاعراب ليؤذن لهم وقعد الذين كذبوا الله ورسوله سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم(90)

آية.

قرأ يعقوب وقتيبة (المعذرون) بسكون العين وتخفيف الذال.

الباقون بفتح العين وتشديد الذال، وجه قراء‌ة من قرأ بالتخفيف أنه اراد جاء‌وا بعذر.

ومن قرأ بالتشديد احتمل أمرين: احدهما - انه اراد المعتذرون، كان لهم عذر أولم يكن، وإنما أدغم التاء في الذال لقرب مخرجهما مثل قوله " يذكرون ويدكرون " وغير ذلك، وأصله يتذكرون. الثاني - انه أراد المقصرون، والمعذر المقصر، والمعذر المبالغ الذي له عذر.

وأما المعتذر فانه يقال لمن له عذر ولمن لا عذر له قال لبيد:

إلى الحول ثم اسم السلام عليكما *** ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر(1)

معناه جاء بعذر.

وقال الزجاج: يجوز أن يكون المعذرون الذين يعتذرون فيوهمون أن لهم عذرا ولاعذر لهم وروي عن ابن عباس انه قرأ بالتخفيف، وقال: لعن الله المعذرين أراد من يعتذر بغير عذر، وبالتخفيف من بلغ أقصى العذر.

___________________________________

(1) ديوانه القصيدة: 21، وخزانة الادب 2 / 217 وتفسير الطبري 1 / 119 14 / 117 واللسان (عذر).

[278]

وأصل التعذير التقصير مع طلب إقامة العذر، عذر في الامر تعذيرا اذا لم يبالغ فيه.

والفرق بين الاعتذار والتعذير، أن الاعتذار قد يكون بعذر من غير تصحيح الامر، والتعذير تقصير يطلب معه اقامة العذر فيه.

واختلفوا في معنى " وجاء المعذرون " على قولين: قال قتادة واختاره الجبائي: انه من عذر في الامر تعذيرا إذا قصر.

وقال مجاهد: جاء أهل العذر جملة على معنى المعتذرين.

وقال الحسن: اعتذروا بالكذب.

وقال قوم: إنما جاء بنو عفار، خفاف بن ايماء بن رخصة وقومه.

ومعنى الاية أن قوما من الاعراب جاء‌وا إلى النبي صلى الله عليه واله يظهرون أنهم مؤمنون ولم يكن لهم في الايمان والجهاد نية فيعرفون نفوسهم عليه وغرضهم أن يأذن النبي صلى الله عليه واله لهم في التخلف، فجعلوا عرضهم أنفسهم عليه عذرا في التخلف عن الجهاد وقوله " وقعد الذين كذبوا الله ورسوله " يعني المنافقين، لانهم الذين كذبوا الله ورسوله فيما كانوا يظهرون من الايمان، فقال الله " سيصيب الذين كفروا منهم عذاب اليم " اي ينالهم عذاب مؤلم موجع في الاخرة.

قوله تعالى: ليس على الضعفاء ولاعلى المرضى ولا على الذين لايجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ماعلى المحسنين من سبيل والله غفور رحيم(91)

آية.

عذر الله تعالى في هذه الاية من ذكره ووصفه، فقال " ليس على الضعفاء " وهو جمع ضعيف، وهو الذي قوته ناقصة بالزمانة وغيرها " ولا على المرضى " وهو جمع مريض وهم الاعلاء " ولا على الذين لايجدون ما ينفقون " يعني من ليس معه نفقة الخروج وآلة السفر " حرج " يعني ضيق وجناح.

وأصل الضيق الذي يتعذر معه الامر.

وقوله " اذا نصحوا لله ورسوله " شرط تعالى في رفع الجناح والاسم عن

[279]

المذكورين ان ينصحوا الله ورسوله بأن يخلصوا العمل من الغش، يقال: نصح في عمله نصحا، وناصح نفسه مناصحة، ومنه التوبة النصوح.

ثم قال " ماعلى المحسنين من سبيل " أي ليس على من فعل الحسن الجميل طريق.

والاحسان هو ايصال النفع إلى الغير لينتفع به مع تعريه من وجوه القبح.

ويصح أن يحسن الانسان إلى نفسه ويحمل على ذلك، وهو إذا فعل الافعال الجميلة التي يستحق بها المدح والثواب.

وقوله " والله غفور رحيم " معناه ساتر على ذوي الاعذار بقبول العذر منهم " رحيم " بهم لا يلزمهم فوق طاقتهم.

وقال قتادة: نزلت هذه الاية في عابد بن عمرو المزني وغيره.

وقال ابن عباس: نزلت في عبدالله بن معقل المزني، فانه وجماعة معه جاء‌وا إلى رسول الله صلى الله عليه واله فقالوا له: احملنا فقال رسول الله صلى الله عليه واله لاأجد ما احملكم عليه.

قوله تعالى: ولاعلى الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تقيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ماينفقون(92)

آية.

هذه الاية عطف على الاولى والتقدير ليس على الذين جاء‌وك - وسألوك حملهم حيث لم يكن لهم حملان، فقلت لهم يا محمد " لا أجد ما أحملكم عليه " اي ليس لي حملان فحينئذ " تولوا وأعينهم تفيض من الدمع " يبكون " حزنا أن لايجدوا ما ينفقون " في هذا الطريق ويتابعونك - حرج وأثم ولا ضيق وإنما حذف لدلالة الكلام عليه.

والحمل إعطاء المركوب من فرس أو بعير أو غير ذلك تقول حمله يحمله حملا إذا أعطاه ما يحمل عليه.

وحمل على ظهره حملا، وحمله الامر تحميلا وتحمل تحملا، واحتمله احتمالا، وتحامل تحاملا.

واللام في قوله " لتحملهم "

[280]

لام الغرض، والمعنى جاؤك وأرادوا منك حملهم وتقول: وجدت في المال وجدا وجدة، ووجدت الضالة وجدانا ووجدت عليه - من الموجدة - وجدا.

والفيض الجري عن امتلاء من حزن قلوبهم، والحزن ألم في القلب لفوت أمر مأخوذ من حزن الارض وهي الغليظة المسلك.

وقال مجاهد: نزلت هذه الاية في نفر من مزينة، وقال محمد بن كعب القرطي وابن اسحاق: نزلت في سبعة نفر من قبائل شتى.

وقال الحسن: نزلت في ابي موسى واصحابه.

وقال الواقدي: البكاؤن سبعة من فقراء الانصار، فلما بكوا حمل عثمان منهم رجلين، والعباس بن عبدالمطلب رجلين، ويامين بن كعب بن نسيل النصري من بني النضير ثلاثة، ومن جملة البكائين عبدالله بن معقل.

وقال الواقدي: كان الناس بتبوك ثلاثين الفا، وعشرة آلاف فارس.

قوله تعالى: إنما السبيل على الذين يستأذنوك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون(93)

آية.

بين الله تعالى في هذه الاية ان السبيل والطريق بالعقاب والحرج انما هو للذين يطلبون الاذن من رسول الله في المقام، وهم مع ذلك اغنياء يتمكنون من الجهاد في سبيل الله، الراضين بكونهم مع الخوالف من النساء والصبيان ومن لاحراك به.

ثم قال: وطبع الله على قلوبهم بمعنى وسم قلوبهم بسمة تعرفها الملائكة فيميزون بينهم وبين غيرهم من المؤمنين، ويحتمل أن يكون المراد انه بمنزلة المطبوع في أن لايدخلها الايمان كما لو طبعوا على الكفر.

ومثله قوله " صم بكم عمي " ومعناه لترك تلفظهم بالحق وعدولهم عن سماع الحق وانصرافهم عن النظر إلى الصحيح كأنهم صم بكم عمي، وهم لا يعلمون ذلك، ولايدرون إلى ما يصير أمرهم من عقاب الابد، ولايعرفون ما يلزمهم من احكام الشرع ما يعرفه المؤمنون.

[281]

وقال البلخي: معناه لالفهم للخلاف والمعصية كأنهم لايعلمون، والتقدير ان حكم هؤلاء المذكورين بهذه الاوصاف بخلاف من قد تحصن من العقاب بالايمان، لانهم قد فتحوا على انفسهم ابواب العذاب.

قوله تعالى: يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لاتعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم وسيرى الله عملكم ورسوله ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون(94)

آية.

اخبر الله تعالى ان هؤلاء القوم الذين تأخروا عن الخروج مع النبي صلى الله عليه واله من غير عذر كان يبيحهم ذلك اذا عاد النبي صلى الله عليه واله والمؤمنون إنهم كانوا يجيؤن اليهم ويعتذرون اليهم عن تأخرهم بالاباطيل والكذب، فقال الله تعالى لنبيه: قل يا محمد لهم " لا تعتذروا " فلسنا نصدقكم على ما تقولون، فان الله تعالى قد اخبرنا من اخباركم واعلمنا من امركم ما قد علمنا به كذبكم " وسيرى الله عملكم ورسوله " أي سيعلم الله فيما بعد عملكم هل تتوبون من نفاقكم أم تقيمون عليه؟ ويحتمل أن يكون المراد أنه يحل في الظهور محل ما يرى " ثم تردون " اي ترجعون إلى من يعلم الغيب والشهادة يعني السر والعلانية الذي لايخفى عليه بواطن أموركم " فينبئكم " بما كنتم تعملون " أي فيخبركم باعمالكم كلها حسنها وقبيحها فيجازيكم عليها أجمع.

والاعتذار اظهار ما يقتضي العذر ويمكن ان يكون صحيحا ويمكن ان يكون فاسدا كاعتذار هؤلاء المنافقين.

والفرق بين الاعتذار والتوبة ان التوبة اقلاع عن

[282]

سيئة قد وقعت، والاعتذار اظهار مايقتضي انها لم تقع، ولذلك يجوز ان يتوب إلى الله ولا يجوز ان يعتذر اليه.

والاعتذار الذي له قبول هو ما كان صاحبه محقا، فأما الاعتذار بالباطل فهو أسوء لحال صاحبه قال الشاعر:

إذا اعتذر الجاني محا العذر ذنبه *** وكل امرئ لايقبل العذر مذنب(1)

قوله تعالى: سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأويهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون(95)

آية.

أخبر الله تعالى عن هؤلاء الذين يعتذرون بالباطل إلى النبي والمؤمنين في تأخرهم عن الخروج معهم أنهم سيقسمون أيضا على ذلك للمؤمنين " اذا انقلبتم اليهم " يعني اذا رجعتم اليهم " لتعرضوا عنهم " اي لتصفحوا عنهم ولا توبخوهم ولا تعنفوهم.

ثم أمر الله تعالى المؤمنين والنبي صلى الله عليه واله أن يعرضوا عنهم اعراض المقت وبين " انهم رجس " اي هم كالنتن في قبحه وهم انجاس ويقال: رجس نجس على الاتباع، وان " مأواهم " يعني مصيرهم ومآلهم ومستقرهم " جهنم جزاء " اي مكافاة على ما كانوا يكسبونه من المعاصي.

والجزاء مقابلة العمل بما يقتضيه من خير او شر.

قال احمد بن يحيى ثعلب: اللام في قوله " لتعرضوا عنهم " ليست لام غرض وانما معناه لاعراضكم، وانما علق - هاهنا - بذلك لئلا يتوهم أنه اذا رضي المؤمنون فقد رضي الله عنهم أيضا فذكر ذلك ليزول هذه الالباس لان المنافقين لم يحلفوا لهم لكي يعرضوا، ولكنهم حلفوا تبرئا من النفاق ولاعراض المسلمين عنهم وأنشد:

سموت ولم تكن أهلا لتسمو *** ولكن المضيع قد يصاب

أراد ما كنت للسمو.

___________________________________

(1) العقد الفريد 2 / 15

[283]

قوله تعالى: يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين(96)

آية.

بين الله تعالى أن هؤلاء المنافقين يقسمون بالله طلبا لمرضاتكم عنهم " فان ترضوا " ايها المؤمنون " عنهم فان الله لايرضى عن القوم الفاسقين " الخارجين من طاعته إلى معصيته، والمعنى انه لاينفعهم رضاكم مع سخط الله عليهم وارتفاع رضاه عنهم: رضي المؤمنون عنهم او لم يرضوا، وانما علق هاهنا بذلك لئلا يتوهم أنه اذا رضى المؤمنون فقد رضي الله عنهم أيضا، فذكر ذلك ليزول هذا الالباس ولان المراد بذلك انه اذا كان الله لايرضى عنهم فينبغي لكم ايضا أن لاترضوا عنهم.

قوله تعالى: الاعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألاّ يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم(97)

آية.

أخبر الله تعالى في هذه الاية أن الاعراب الجفاة الذين لايعرفون الله ورسوله حق معرفتهما أشد كفرا ونفاقا وجحودا لنعم الله، وأعظم نفاقا من غيرهم.

وقيل: انها نزلت في اعراب كانوا حول المدينة من اسد وغطفان، فكفرهم اشد، لانهم أقصى وأجفى من أهل المدن، ولانهم أبعد عن سماع التنزيل ومخالطة أهل العلم والفضل، ويقال: رجل عربي إذا كان من العرب وإن سكن البلاد، وإعرابي اذا كان ساكنا في البادية.

وروي أن زيد بن صوحان كانت يده اليسرى قد قطعت يوم اليمامة وكان قاعدا يوما يروي الحديث والى جانبه إعرابي، فقال له: ان حديثك

[284]

يعجبني وان يدك تريبني فقال زيد: إنها الشمال، فقال: والله ما أدري اليمين يقطعون أو الشمال، فقال زيد: صدق الله، وقرأ " الاعراب أشد كفرا " الاية.

وقوله " وأجدر " معناه أخلق وأولى وأقرب إلى " أن " لايعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله " من الشرائع والاحكام.

وموضع (أن) نصب لان تقديره أجدر بأن، فحذف الباء فانتصب، وتقديره أجدر بترك العلم غير أن الباء لا تحذف مع المصدر الصريح، وإنما تحذف مع (أن) للزوم العلم بها وحملها على التأويل.

و (أجدر) مأخوذ من جدر الحائط.

وقوله " والله عليم حكيم " معناه عالم بأحوالهم وبواطنهم حكيم فيما يحكم به عليهم من الكفر وغير ذلك من أفعاله.

قوله تعالى: ومن الاعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدواثر عليهم دائرة السوء والله سميع عليم(98)

آية.

قرأ ابن كثير وابوعمرو " دائرة السوء " بضم السين. الباقون بفتح السين.

من فتح أراد المصدر، وإنما أضاف الدائرة إلى السوء تأكيدا كما يقال: عيني رأسه وشمس النهار، تقول: سؤته أسوء‌ه سوء‌ا ومساء‌ة ومسائية، وقوله " ما كان أبوك امرأ سوء "(1) لايجوز فيه غير فتح السين، وكذلك في قوله " وظننتم ظن السوء "(2) لان الضم بمعنى الاسم، وتقديره عليهم دائرة العذاب والبلاء.

أخبر الله تعالى ان من جملة هؤلاء المنافقين من الاعراب من يتخذ ما ينفقه في الجهاد وغيره من طرق الخير " مغرما " اي غرما من قولهم: غرمته غرما وغرامة.

والغرم لزوم نائبة في المال من غير جناية، ومنه قوله " من مغرم مثقلون "(3)

___________________________________

(1) سورة 19 مريم آية 28.

(2) سورة 48 الفتح آية 12.

(3) سورة 52 الطور آية 40 وسورة 68 القلم آية 46.

[285]

وأصل المغرم لزوم الامر، ومنه قوله " إن عذابها كان غراما "(1) أي لازما، وحب غرام أي لازم، والغريم كل واحد من المتداينين، وغرمته كذا الزمته إياه في ماله.

وقوله " ويتربص بكم الدوائر " فالتربص التمسك بالشئ لعاقبة ومنه التربص بالطعام لزيادة السعر، فهؤلاء يتربصون بالمؤمنين لعاقبة من الدوائر. والدائرة جمعها دوائر وهي العواقب المذمومة.

وقال الفراء والزجاج: كانوا يتربصون بهم الموت والقتل، وإنما خص رفع النعمة بالدوائر دون رفع النقمة، لان النعمة أغلب واعم لان كل واحد لايخلو من نعم الله وليس كذلك النقمة، لانها خاصة. والنعمة عامة.

وقد قيل: دارت لهم الدنيا بخلاف دارت عليهم.

ثم قال تعالى " عليهم دائرة السوء " يعني على هؤلاء المنافقين دائرة العذاب والبلاء - في قراء‌ة من قرأ بالضم - وقوله " والله سميع عليم " معناه - هاهنا - انه يسمع ما يقوله هؤلاء المنافقون ويعلم بواطن أمورهم، ولايخفى عليه شئ من حالهم وحال غيرهم.

قوله تعالى: ومن الاعراب من يؤمن بالله واليوم الاخر ويتخذ ماينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم(99)

آية.

قرأ ورش واسماعيل " قربة " بضم الراء، اتبع الضمة التي قبلها.

وقال ابو علي: لايجوز ان يكون اتباعا لما قبله لان ذلك إنما يجوز في الوقف آخر الكلم وإنما الضمة فيها الاصل، وإنما خففت في قولهم: رسل وطنب، فقالوا: رسل وطنب فاذا جمع فلا يجوز فيه غير ضم الراء، لان الحركة الاصلية لابدمن ردها في الجمع.

___________________________________

(1) سورة 25 الفرقان آية 65.

[286]

لما ذكر الله تعالى ان من جملة الاعراب من يتخذ انفاقه في سبيل الله مغرما ذكر ان من جملتهم ايضا " من يؤمن بالله " اي يصدق به وباليوم الاخر يعني يوم القيامة وانه يتخذ ماينفقه في سبيل الله قربات عند الله.

قال الزجاج: يجوز في (قربات) ثلاثة اوجه - ضم الراء وإسكانها وفتحها - وما قرى ء إلا بالضم، والقربة هي طلب الثواب والكرامة من الله تعالى بحسن الطاعة، وهي تدني من رحمة الله والتقدير انه يتخذ نفقته وصلوات الرسول اي دعاء‌ه له قربة إلى الله.

وقال ابن عباس والحسن: معنى وصلوات الرسول استغفاره لهم، وقال قتادة: معناه دعاؤه بالخير والبركة قال الاعشى:

تقول بنتي وقد قربت مرتحلا *** يا رب جنب ابي الاوصاب والوجعا

عليك مثل الذي صليت فاغتمضي *** نوما فان لجنب المرء مضطجعا(1)

ثم قال " ألا إنها " يعني صلوات الرسول " قربة لهم " اي تقربهم إلى ثواب الله.

ويحتمل ان يكون المراد ان نفقتهم قربة إلى الله.

وقوله " سيدخلهم الله في رحمته " وعد منه لهم بان يرحمهم ويدخلهم فيها، وفيه مبالغة " فان الرحمة وسعتهم وغمرتهم، ولو قال فيهم رحمة الله لافاد انهم اتسعوا للرحمة من الله تعالى وقوله " إن الله غفور رحيم " معناه إنه يستر كثيرا على العصاة ذنوبهم ولا يفضحهم بها لرحمته بخلقه " وغفور رحيم " جميعا من الفاظ المبالغة فيما وصف به نفسه من المغفرة والرحمة.

___________________________________

(1) ديوانه 720 القصيدة 13 وقد مر البيت الثاني في 1 / 193

الآية: 100 - 119

قوله تعالى: والسابقون الاولون من المهاجرين والانصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الانهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم(100)

آية.

قرأ ابن كثير وحده " جنات تجري من تحتها " باثبات (من) وكذلك هو في مصاحف اهل مكة. الباقون بحذف (من) ونصبوا تحتها على الظرف وقرأ يعقوب " والانصار والذين " بضم الراء. الباقون بجرها.

من رفع عطف على قوله " والسابقون الاولون " ورفع على الابتداء والخبر قوله " رضي الله عنهم " ومن جر عطفه على " المهاجرين " كأنه قال: من المهاجرين ومن الانصار.

ومن اثبت (من) فلان في القرآن مواضع لا تحصى " جنات تجري من تحتها " ومن أسقطها تبع مصحف غير أهل مكة. والمعنى واحد.

اخبر الله تعالى أن الذين سبقوا أولا إلى الايمان بالله ورسوله والاقرار بهما من الذين هاجروا من مكة إلى المدينة والى الحبشة، ومن الانصار الذين سبقوا اولا غيرهم إلى الاسلام من نظرائهم من أهل المدينة، والذين تبعوا هؤلاء بأفعال الخير والدخول في الاسلام بعدهم وسلوكهم منهاجهم.

وقال الفراء: يدخل في ذلك من يجئ بعدهم إلى يوم القيامة.

وقال الزجاج: مثله.

ثم اخبر أن الله رضي عنهم ورضي أفعالهم ورضوا هم ايضا عن الله لما أجزل لهم من الثواب على طاعاتهم وإيمانهم به وبنبيه. والسبق كون الشئ قبل غيره.

ومنه قيل في الخيل السابق، والمصلي هو الذي يجئ في اثر السابق يتبع صلاه.

وإنما كان السابق إلى الخير أفضل لانه داع اليه بسبقه - والثاني تابع - فهو امام فيه وكذلك من سبق إلى الشر كان اسوء حالا لهذه العلة.

والاتباع طلب الثاني لحال الاول أن يكون على مثلها على ما يصح ويجوز، ومثله الاقتداء.

والاحسان هو النفع الواصل إلى الغير مع تعريه من وجوه القبح.

فأما قولهم أحسن فمن فعله فقد يكون بفعل النفع وبفعل الضرر، لانه تعالى اذا فعل في الاخرة العقاب يقال

[288]

إنه أحسن لكن لايقال: أحسن اليه.

وقوله " واعد لهم جنات تجري تحتها الانهار " اخبار منه تعالى انه مع رضاه عنهم ورضاهم عنه أعد لهم الجنات يعني البساتين التي تجري تحت اشجارها الانهار، وقيل: ان انهارها اخاديد في الارض فلذلك قال: تحتها " خالدين فيها ابدا " اي يبقون فيها ببقاء الله لا يفنون، منعمين.

وقوله " ذلك الفوز العظيم " معناه إن ذلك النعيم الذي ذكره هو الفلاح العظيم الذي تصغر في جنبه كل نعمة.

واختلفوا فيمن نزلت فيه هذه الاية، فقال ابوموسى وسعيد بن المسيب وابن سيرين وقتادة: نزلت فيمن صلى القبلتين، وقال الشعبي: نزلت فيمن بايع بيعة الرضوان وهي بيعة الحديبية، وقال: من اسلم بعد ذلك وهاجر فليس من المهاجرين الاولين.

وقال ابوعلي الجبائي: نزلت في الذين أسلموا قبل الهجرة.

وروي أن عمر قرأ " والانصار " بالرفع " الذين اتبعوهم " باسقاط الواو، فقال أبي: والذين اتبعوهم بأمير المؤمنين فرجعوا إلى قوله.

قوله تعالى: وممن حولكم من الاعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم(101)

آية.

معنى قوله " وممن حولكم " من جملة من حولكم يعني حول مدينتكم وحول الشئ المحيط به، وهو مأخوذ من حال يحول إذا دار بالانقلاب. ومنه المحالة لانها تدور في المحول.

وقوله " من الاعراب " والاعراب هم الذين يسكنون البادية إذا كانوا مطبوعين على العربية وليس واحدهم عربا، لان العرب قد يكونوا حاضرة والاعراب بادية.

وقوله " منافقون " معناه من يظهر الايمان ويبطن الكفر " ومن

[289]

أهل المدينة " أيضا منافقون، وانما حذف لدلالة الاول عليه " مردوا على النفاق " يقال: مرد على الشئ يمرد مرودا فهو مارد ومريد إذا عتا وطغى وأعيا خبثا، ومنه (شيطان مارد، ومريد) وقال ابن زيد: معناه أقاموا عليه لم يتوبوا كما تاب غيرهم.

وقال ابن اسحاق: معناه لجوا فيه وأبوا غيره.

وقال الفراء: معناه مرنوا عليه وتجرء‌وا عليه وقال الزجاج: فيه تقديم وتأخير والتقدير وممن حولكم من الاعراب منافقون مردوا على النفاق ومن اهل المدينة ايضا مثل ذلك. وأصل المرود الملاسة.

ومنه قوله " صرح ممرد من قوارير "(1) اي مملس ومنه الامرد الذي لا شعر على وجهه، والمرودة والمرداء الرملة التي لاتنبت شيئا، والتمراد بيت صغير يتخذ للحمام مملس بالطين، والمرداء الصخرة الملساء.

" لاتعلمهم " معناه لاتعرفهم يا محمد " نحن نعلمهم " اي نعرفهم.

وقوله " سنعذبهم مرتين " قيل في معناه أقوال: احدها - قال الحسن وقتادة والجبائي: يعني في الدنيا وفي القبر.

وقال ابن عباس: نعذبهم في الدنيا بالفضيحة لان النبي صلى الله عليه واله ذكر رجلا منهم واخرجهم من المسجد يوم الجمعة في خطبته قال: اخرجوا فانكم منافقون، والاخرى في القبر.

وقال مجاهد: يعني في الدنيا بالقتل والسبي والجوع.

وفي رواية اخرى عن ابن عباس: أن إحداهما اقامة الحدود عليهم، والاخرى عذاب القبر، وقال الحسن: إحداهما أخذ الزكاة منهم: والاخرى عذاب القبر، وقال ابن اسحاق: إحداهما غيظهم من اهل الاسلام، والاخرى عذاب القبر. وكل ذلك محتمل غير أنا نعلم ان المرتين معا قبل ان يردوا إلى عذاب النار يوم القيامة.

وقوله " ثم يردون إلى عذاب عظيم " معناه ثم يرجعون يوم القيامة إلى عذاب عظيم مؤبد في النار.

وروي أن الاية نزلت في عيينة بن حصين واصحابه.

___________________________________

(1) سورة 27 النمل آية 44.

[290]

قوله تعالى: وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم(102)

آية.

روي عن ابن عباس أنه قال: نزلت هذه الاية في عشرة أنفس تخلفوا عن غزوة تبوك فيهم أبولبابة، فربط سبعة منهم أنفسهم إلى سواري المسجد إلى أن قبلت توبتهم.

وقيل: كانوا سبعة منهم ابولبابة.

وقال ابوجعفر عليه السلام: نزلت في ابي لبابة. ولم يذكر غيره، وكان سبب نزولها فيه ما جرى منه في غزوة بني قريظة وبه قال مجاهد.

وقال الزهري: نزلت في أبي لبابة خاصة حين تأخر عن تبوك.

واكثر المفسرين ذكروا أن أبا لبابة كان من جملة المتأخرين عن تبوك.

وروي عن ابن عباس أنها نزلت في قوم من الاعراب.

وقيل: نزلت في خمسة عشر نفسا ممن تأخر عن تبوك.

هذه الاية عطف على قوله " ومن أهل المدينة " أي ومنهم " آخرون " اعترفوا بذنوبهم " أي أقروا بها مع معرفتهم بها فان الاعتراف هو الاقرار بالشئ عن معرفة. والاقرار مشتق من قر الشئ إذا ثبت. والاعتراف من المعرفة.

وقوله " خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا " معناه انهم يفعلون افعالا جميلة، ويفعلون افعالا سيئة قبيحة، فيجتمعان، وذلك يدل على بطلان القول بالاحباط، لانه لو كان صحيحا لكان أحدهما إذا طرا على الاخر أحبطه، فلا يجتمعان، فكيف يكون خلطا.

وقوله " عسى الله ان يتوب عليهم " قال الحسن وكثير من المفسرين: إن (عسى) من الله واجبة.

وقال قوم: انما قال (عسى) حتى يكونوا على طمع واشفاق فيكون ذلك أبعد من الاتكال على العفو واهمال التوبة، والتقدير في قوله " خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا " اي بآخر سئ ومثله قولك: خلطت الماء واللبن اي بالبن.

[291]

وقد يستعمل ذلك في الجمع من غير امتزاج كقولهم: خلطت الدارهم والدنانير.

وقال قوم: هو يجري مجرى قولهم: استوى الماء والخشبة اي مع الخشبة.

وقال اهل اللغة: خلط في الخير مخففا وخلط في الشر مشددا.

وقوله " ان الله غفور رحيم " تعليل لقبول التوبة من العصاة لانه غفور رحيم.

قوله تعالى: خذ من أموالهم صدقة تطهّرهم وتزكيهم بها وصلّ عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم(103)

آية.

قرأ اهل الكوفة الا ابابكر " إن صلاتك " على التوحيد ونصب التاء الباقون على الجمع وكسر التاء، لانه جمع السلامة.

فمن قرأ على التوحيد فلانه مصدر يقع على القليل والكثير، فلا يحتاج إلى جمعه.

ومثله " لصوت الحمير "(1) ومما ورد في القرآن بلفظ التوحيد والمراد به الجمع قوله " وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء "(2) وقوله " أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة "(3) ومن جمع فلاختلاف الصلاة، كما ان قوله " ان انكر الاصوات "(4) جمع لاختلاف ضروبه والصلاة في اللغة الدعاء قال الاعشى في الخمر:

وقابلها الريح في دنها *** وصلى على دنها وارتسم(5)

ومعنى " صل عليهم " ادع لهم، فان دعاء‌ك سكن لهم بمعنى تسكن اليه

___________________________________

(1) سورة 31 لقمان آية 19.

(2) سورة 8 الانفال آية 35.

(3) سورة 4 النساء آية 76 وسورة 22 الحج آية 78 وسورة 24 النور آية 56 وسورة 58 المجادلة آية 13 وسورة 73 المزمل آية 20.

(4) سورة 31 لقمان آية 19.

(5) ديوانه: 29 القصيدة 4 وقد سلف في 1 / 56، 193

[292]

نفوسهم وتطيب به، ولفظ التوحيد - هاهنا - أحسن لان المراد دعاء النبي صلى الله عليه واله لهم لاأداء الصلوات، والجمع على ضروب دعائه.

وقولهم: صلى الله على رسول الله وعلى ملائكته، ولايقال: إنه دعاء لهم من الله كما لايقال في نحو (ويل للمكذبين) أنه دعاء عليهم، لكن المعنى أن هؤلاء ممن يستحق عندكم أن يقال فيهم هذا اللغو من الكلام. ومثله قوله " بل عجبت ويسخرون "(1) فيمن ضم التاء هذا مذهب سيبويه، وذكر الفراء وغيره أن هؤلاء الذين تابوا وأفلعوا قالوا للرسول: خذ من أموالنا ما تريد، فقال رسول الله: لا أفعل حتى يؤذن لي فيه، فأنزل الله " خذ من أموالهم صدقة " فأخذ منهم بعضا وترك الباقي وروي ذلك عن ابن عباس وزيد بن اسلم وسعيد بن جبير وقتادة والضحاك، وهي في أبي لبابة وجد بن قيس وأوس وحذام.

وقوله " خذ من اموالهم صدقة " امر من الله تعالى أن يأخذ من المالكين لنصاب الزكاة: الورق إذا بلغ مئنين، والذهب إذا بلغ عشرين مثقالا، والابل إذا بلغت خمسا، والبقر إذا بلغت ثلاثين، والغنم إذا بلغت أربعين، والغلات اذا بلغت خمسة أوسق.

وقوله " خذ من أموالهم " يدل على أن الاخذ من اختلاف الاموال، لانه جمعه. ولو قال: خذ من مالهم أفاد وجوب الاخذ من جنس واحد متفق. و (من) دخلت للتبعيض، فكأنه قال: خذ بعض مختلف الاموال.

وظاهر الاية لا يدل على انه يجب أنه يأخذ من كل صنف لانه لو اخذ من صنف واحد لكان قد اخذ بعض الاموال وإنما يعلم ذلك بدليل آخر.

والصدقة عطية ماله قيمة للفقر والحاجة.

والبر عطية لاجتلاب المودة. ومثله الصلة.

وقوله " تطهرهم وتزكيهم بها " انما ارتفع (تطهرهم) لاحد امرين: احدهما - ان تكون صفة للصدقة وتكون التاء للتأنيث، وقوله " بها " تبيين له والتقدير صدقة مطهرة.

___________________________________

(1) سورة 37 الصافات آية 12

[293]

والثاني - أن تكون التاء خطابا للنبي صلى الله عليه واله والتقدير فانك تطهرهم بها، وهو صفة للصدقة ايضا الا انه اجتزاء بذكر (بها) في الثاني عن الاول.

وقيل: انه يجوز ان يكون على الاستئناف، وحمله على الاتصال أولى، ولا يجوز ان يكون جوابا للامر لانه لو كان كذلك لكان مجزوما.

وقوله " وتزكيهم " تقديره وأنت تزكيهم على الاستئناف. وقيل في هذه الصدقة قولان: قال الحسن: انها هي كفارة الذنوب التي أصابوها، وقال أبوعلي: هي الزكاة الواجبة. وأصل التطهير إزالة النجس، والمراد - هاهنا - إزالة النجس: الذبوب بما يكفرهم من الطاعة.

وقوله " وصل عليهم " أمر من الله تعالى للنبي أن يدعو لمن يأخذ منه الصدقة.

وقال الجبائي: يجب ذلك على كل ساع يجمع الزكوات ان يدعوا لصاحبها بالخير والبركة، كما فعل رسول الله صلى الله عليه واله.

وقوله " والله سميع عليم " معناه انه تعالى يسمع دعاء‌ك لهم بنياتهم في الصدقة التي يخرجونها.

قوله تعالى: ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم(104)

آية.

الالف في قوله " ألم يعلموا " الف استفهام والمراد بها التنبيه على ما يجب ان يعلم المخاطب اذا رجع إلى نفسه وفكر فيما نبه عليه علم وجوبا. وإنما وجب ان يعلم ان الله يقبل التوبة، لانه اذا علم ذلك كان ذلك داعيا له إلى فعل التوبة والتمسك بها والمسارعة اليها، وما هذه صورته وجب عليه ان يعلمه ليتخلص به من العقاب ويحصل له الثواب.

وسبب ذلك انهم لما سألوا النبي صلى الله عليه واله ان يأخذ من ما لهم ما يكون كفارة لذنوبهم فامتنع النبي من ذلك وقال: حتى يؤذن لي فيه فبين الله تعالى انه ليس إلى النبي قبول توبتكم وان ذلك إلى الله تعالى دونه، فانه

[294]

الذي يقبل التوبة ويقبل الصدقات. وفعل التوبة يستحق به الثواب اللانها طاعة.

فأما اسقاط عقاب المعاصي المتقدمة عندها فالعقل لا يوجب ذلك.

وانما علم ذلك سمعا لان السمع قطع العذر بأن الله يسقط العقاب عند التوبة الصحيحة.

وقد بينا في غير موضع فيما تقدم ان التوبة التي يسقط العقاب عندها قطعا هي الندم على القبيح والعزم على ان لا يعود إلى مثله في القبح، لان الامة مجمعة على سقوط العقاب عند هذه التوبة وفيما خالف هذه التوبة خلاف.

وقوله " ويأخذ الصدقات " معناه انه يأخذها بتضمن الجزاء عليها كما تؤخذ الهدية كذلك.

وقال ابوعلي الجبائي: جعل الله أخذ النبي صلى الله عليه واله والمؤمنين للصدقة أخذا من الله على وجه التشبيه والمجاز، ومن حيث كان بأمره.

وقد روي عن النبي صلى الله عليه واله ان الصدقة قد تقع في يد الله قبل ان تصل إلى يد السائل، والمراد بذلك انها تنزل هذا التنزيل ترغيبا للعباد في فعلها، وذلك يرجع إلى تضمن الجزاء عليها.

وقوله " وان الله هو التواب الرحيم " عطف على قوله " الم يعلموا " ولذلك فتح (أن) لانها مفعول به.

والتواب في صفة الله معناه انه يقبل التوبة كثيرا وفي صفة العبد يفيد انه يفعل التوبة كثيرا وقيل في معنى " وتاب الله عليكم "(1) صفح عنكم ولم يكونوا اذنبوا فيتوبوا ليتوب الله عليهم وكذلك قوله " علم الله انكم كنتم تختانون انفسكم فتاب عليكم "(2) بمعنى صفح لانهم لم يتوبوا.

قوله تعالى: وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون(105)

آية.

___________________________________

(1) سورة 58 المجادلة آية 13.

(2) سورة 2 البقرة آية 187

[295]

هذا امر من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه واله أن يقول للمكلفين " اعملوا " ما أمركم الله به من الطاعة واجتنبوا معاصيه فان الله " سيرى عملكم ورسوله والمؤمنون " وفي ذلك ضرب من التهديد، كما قال مجاهد، والمراد بالرؤية هاهنا العلم الذي هو المعرفة ولذلك عداه إلى مفعول واحد، ولو كان بمعنى العلم الذي ليس بمعرفة لتعدى إلى مفعولين، وليس لاحد أن يقول: ان اعمال العباد من الحركات يصح رؤيتها لمكان هذه الاية، لانه لو كان المراد بها العلم لعداه إلى الجملة وذلك أن العلم الذي يتعدى إلى مفعولين ما كان بمعنى الظن، وذلك لا يجوز على الله وانما يجوز عليه ما كان بمعنى المعرفة.

وروي في الخبر أن أعمال العباد تعرض على النبي صلى الله عليه واله في كل اثنين وخميس فيعلمها، وكذلك تعرض على الائمة عليهم السلام فيعرفونها، وهم المعنيون بقوله " والمؤمنون "، وإنما قال " فسيرى الله " على وجه الاستقبال. وهو عالم بالاشياء قبل وجودها. لان المراد بذلك انه سيعلمها موجودة بعد أن علمها معدومة وكونه عالما بأنها ستوجد من كونه عالما بوجودها إذا وجدت لايجدد حال له بذلك.

وقوله " وستردون إلى عالم الغيب والشهادة " معناه سترجعون إلى الله الذي بعلم السر والعلانية " فينبئكم " اي يخبركم " بما كنتم تعملون " ويجازيكم عليه.

قوله تعالى: وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم(106)

آية.

قرأ أهل المدينة عن أبي بكر " مرجون " بغير همزة. الباقون بالهمزة والوجه فيهما أنهما لغتان.

ويقال: أرجأت وأرجيت بمعنى واحد.

وهذه الاية عطف على قوله " ومن أهل المدينة مردوا على النفاق.. وآخرون اعترفوا بذنوبهم.. وآخرون مرجون لامر الله " والارجاء تأخير الامر

[296]

إلى وقت، يقال: أرجأت الامر إرجاء وأرجيته بالهمزة وترك الهمزة لغتان.

وقوله " اما يعذبهم وإما يتوب عليهم " فلفظة (إما) لوقوع أحد الشيئين والله اعلم بما يصير اليه امرهم إلا ان هذا للعباد، خوطبوا بما يعلمون.

والمعنى وليكن امرهم عندكم على هذا اي على الخوف والرجاء.

والاية تدل على صحة قولنا في جواز العفو عن العصاة، لانه تعالى بين ان قوما من هؤلاء العصاة أمرهم مرجأ إلى الله: ان شاء عذبهم وان شاء قبل توبتهم فعفا عنهم فلو كان سقوط العقاب عند التوبة واجبا، لما جاز تعليق ذلك بالمشيئة على وجه التخيير، لانهم ان تابوا وجب قبول توبتهم عند الخصم واسقاط العقاب عنهم، وان أصروا ولم يتوبوا فلا يعفي عنهم، فلا معنى للتخيير - على قولهم - وانما يصح ذلك على ما نقوله: من أن مع حصول التوبة تحسن المؤاخذة فان عفا فبفضله وان عاقب فبعدله.

وقوله " وإما يتوب عليهم " معناه وإما يقبل توبتهم.

وقوله " والله عليم حكيم " معناه عالم بما يؤل اليه حالهم " حكيم " فيما يفعله بهم. والفرق بين الاخر والاخر أن الاخر يفيد أنه بعد الاول، والاخر مقابل لاحد في تفصيل ذكر اثنين احدهما كذا والاخر كذا.

وقال مجاهد وقتادة: الاية نزلت في هلال بن امية الرافعي وفزارة بن ربعي وكعب بن مالك من الاوس والخزرج، وكان كعب بن مالك رجل صدق غير مطعون عليه، وانما تخلف توانيا عن الاستعداد حتى فاته المسير وانصرف رسول الله ولم يعتذر اليه بالكذب.

وقال: والله مالي من عذر، فقال صلى الله عليه واله: صدقت فقم حتى يقضي الله فيك. وجاء الرجلان الاخر ان فقالا مثل ذلك وصدقا، فنهي رسول الله صلى الله عليه واله عن كلامهم بعد ما عذر المنافقين وجميع المتخلفين، وكانوا نيفا وثمانين رجلا فاقام هؤلاء الثلاثة على ذلك خمسين ليلة حتى هجرهم ولدانهم ونساؤهم طاعة لرسول الله صلى الله عليه واله بأمره.

وبنى كعب خيمة على سلع يكون فيها وحده.

[297]

وقال في ذلك:

أبعد دور بني القين الكرام وما *** شادوا علي بنيت البيت من سعف

ثم نزلت التوبة عليهم في الليل فأصبح المسلمون يبتدرونهم يبشرونهم، قال كعب: فجئت إلى رسول الله في المسجد وكان اذا سر يستبشر كأن وجهه فلقة قمر فقال لي ووجهه يبرق من السرور: ابشر بخير يوم طلع عليك شرفه منذ ولدتك أمك قال كعب، فقلت له: أمن عند الله او من عندك يا رسول الله؟ قال فقال: من عند الله.

وتصدق كعب بثلث ما له شكرا تالله على توبته.

قوله تعالى: والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون(107)

آية.

قرأ ابن عامر وأهل المدينة " الذين اتخذوا " باسقاط الواو الباقون باثبات الواو. فمن أثبت الواو، عطفه على ما تقدم من الايات وتقديره: ومنهم الذين اتخذوا مسجدا ضرارا ومن حذفها ابتدأ الكلام وحذف الخبر لطول الكلام قال الزهري، ويزيد بن رومان، وعبدالله بن أبي بكر.

وعاصم بن عمر بن قتادة: نزلت هذه الاية في اثني عشر رجلا من المنافقين، قال الفراء: كانوا من بني عمرو ابن عوف من الانصار.

وقال غيره: كانوا من بني غنم ابن عوف من الانصار الذين بنوا مسجد الضرار.

وقيل انهم كانوا خمسة عشر رجلا منهم عبدالله بن نفيل - في قول الواقدي - وقال ابن اسحاق: هو نفيل بن الحارث ولم يذكر عبدالله وهذا المختلف في اسمه هو الذي كان ينقل حديث النبي إلى المنافقين فأعلم الله نبيه ذلك.

وأخبر الله عنهم انهم بنوا المسجد الذي بنوه ضرارا اي مضارة. ونصب على أنه مفعول له أي بنوه للمضارة.

والضرار هو طلب الضر ومحاولته كما أن الشقاق

[298]

محاولة ما يشق، تقول: ضاره مضارة وضرارا.

والاية تدل على ان الفعل يقع بالارادة على وجه القبح دون الحسن، أو الحسن دون القبح، لانهم لو بنوا المسجد للصلاة فيه لكان حسنا، لكن لما قصدوا المضارة كان ذلك قبيحا ومعصية.

وقوله " وتفريقا بين المؤمنين " أي بنوه للمضارة والكفر والتفريق بين المؤمنين. وانما يكون تفريقا بين المؤمنين بأن يتحزبوا، فحزب يصلي فيه وحزب يصلي في غيره لتختلف الكلمة وتبطل الالفة. واتخذوه ايضا ليكفروا فيه بالطعن على النبي صلى الله عليه واله والاسلام والمسلمين.

وقوله " وارصادا لمن حارب الله ورسوله " معناه اتخذوا له ليكون متى أراد الاجتماع معهم حضره وأنس به، وهو رجل يقال له ابوعامر الراهب لحق بقيصر فتنصر وبعث الهيم سآتيكم بجند فأخرج به محمدا واصحابه. فبنوه يترقبونه، وهو الذي حزب الاحزاب وحارب مع المشركين، فلما فتحت مكة هرب إلى الطائف، فلما اسلم اهل الطائف لحق بالشام وخرج إلى الروم وتنصر، وابنه عبدالله قتل يوم احد - وهو غسيل الملائكة - ذهب اليه اكثر المفسرين كابن عباس ومجاهد وقتادة.

وأصل الارصاد الارتقاب تقول: رصده يرصده رصدا وأرصد له وراصده مراصدة وتراصد تراصدا وارتصده إرتصادا.

وقوله " وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى " معناه إن هؤلاء يحلفون على أنهم ما أرادوا ببناء هذا المسجد إلا الحسنى يعني إلا الفعلة الحسنى، فقال الله تعالى تكذيبا لهم " والله يشهد انهم لكاذبون " وكفى بمن يشهد الله بكذبه خزيا ووجه رسول الله صلى الله عليه واله قبل قدومه من تبوك عاصم بن عون العجلاني ومالك بن الدخثم وكان مالك من بني عوف، فقال لهما (انطلقا إلى هذا المسجد الظالم اهله فاهدماه ثم حرقاه) فخرجا يشتدان سريعين على أقدامها ففعلا ما أمرهما به فثبت قوم من جملتهم زيد بن حارثة بن عامر حتى أحترقت البتة.

[299]

قوله تعالى: لا تقم فيه أبدا لمسجد أسّس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين(108)

آية.

نهى الله نبيه - وعنى معه جميع المؤمنين - أن يقوموا في المسجد الذي بني ضرارا " ابدا " أو يصلوا فيه، وأقسم ان المسجد الذي " أسس على التقوى من أول يوم أحق ان تقوم فيه " وقيل في مسجد الذي اسس على التقوى قولان: احدهما - قال ابن عباس والحسن وعطية: إنه مسجد قباء.

وقال ابن عمرو ابن المسيب: هو مسجد المدينة.

وقال عمر بن شبه: المسجد الذي اسس على التقوى مسجد رسول الله صلى الله عليه واله والذي اسس على تقوى ورضوان مسجد قباء كذلك فصل بينهما، ورواه عن أشياخه. والنقوى خصلة من الطاعة يحترز بها من العقوبة، والمتقي صفة مدح لاتطلق الا على مستحق الثواب.

وواو (تقوى) ابدلت من الياء، لانه من تقيت وانما ابدلت للفرق بين الاسم والصفة في الابنية.

ومثله شروى من شريت، فأما الصفة فنحو خزيا.

ولو قيل: كيف يبنى (فعلى) من قصيت؟ قلت: قصوى في الاسم وقصيا في الصفة.

وقوله " من أول يوم " معناه اول الايام اذا ميزت يوما يوما، لان افعل بعض الضيف اليه. ومثله اعطيت كل رجل في الدار اي كل الرجال إذا ميزوا رجلا رجلا. والفرق بين من اول يوم، ومنذ اول يوم، ان (منذ) اذا كانت حرفا، فهي الوقت الخاص كقولك: منذ اليوم ومنذ الشهر ومنذ السنة، وليس كذلك (من) وإذا كانت اسما وقع على ما بعدها على تقدير كلامين و (من) على النهاية لانها نقيض (إلى) قال زهير:

[300]

لمن الديار بقنة الحجر *** أقوين من حجج ومن شهر(1)

وقوله " أحق أن تقوم فيه " مع أن القيام في الاخر قبيح منهي عنه، وانما قال ذلك على وجه المظاهرة بالحجة بأنه لو كان من الحق الذي يجوز لكان هذا أحق.

ويجوز على هذا أن تقول: عمل الواجب أصلح من تركه.

وقيل: المراد به القيام فيه حق ظاهروا وباطنا اذ كانت الصلاة في المساجد على ظاهرها حق.

وقوله " فيه رجال " الاول ظرف للقيام. والثاني ظرف لكون الرجال وقوله " يحبون ان يتطهروا " قال الحسن: معناه يريدون أن يتطهروا من الذنوب وقيل: يتطهرون بالماء من الغائط والبول، وهو المروي عن ابي جعفر وابي عبدالله عليهما السلام ثم قال " والله يحب المطهرين " اي يريد منافع المتطهرين من الذنوب وكذلك المتطهرين من النجاسة بالماء.

وروي عن النبي صلى الله عليه واله أنه قال لاهل قباء (ماذا تفعلون في طهركم فان الله أحسن عليكم الثناء) قالوا: نغسل أثر الغائط فقال (أنزل الله فيكم والله يحب المطهرين).

وقيل: إن سبب نزول هذه الاية أن أهل مسجد ضرار جاء‌وا اليه، فقالوا يا رسول الله بنينا مسجدا للضعيف في وقت المطر نسألك أن تصلي فيه وكان متوجها إلى تبوك فوعدهم أن يفعل إذا عاد فنهاه الله عن ذلك.

وقوله " والذين اتخذوا مسجدا " مبتدأ وخبره في قوله " لاتقم فيه ابدا " كما تقول: والذي يدعوك إلى الغي فلا تسمع دعاء‌ه. والتقدير في الاية لاتقم في مسجدهم أبدا. واسقط ذلك اختصارا.

___________________________________

(1) اللسان (حجر) وتفسير القرطبي 8 / 260

[301]

قوله تعالى: أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لايهدي القوم الظالمين(109)

آية.

قرأ نافع وابن عباس " أسس بنيانه " بضم الهمزة وكسر السين ورفع النون من بنيانه في الموضعين جميعا. الباقون بفتح الهمزة ونصب النون من بنيانه.

وقرأ ابن عامر الا الداحوني عن هشام وحمزة وخلف وأبوا بكر الا الاعشى والبرجمي " جرف " بسكون الراء. الباقون بضمها.

وقرأ ابوعمرو والكسائي والداحوني عن ابي ذكوان وهبة الله عن حفص من طريق النهرواني والدوري عن سليم من طريق ابن فرج وابوبكر الا الاعشى والبرجمي " هار " بالامالة.

وافقهم على الوقف علي ببن مسلم وابن غالب ومحمد في الوقف من طريق السوسي من طريق ابن جيش.

قال ابوعلي الفارسي: البنيان مصدر، وهوجمع كشعير وشعيرة لانهم قالوا في الواحد بنيانة قال أوس:

كبنيانة القري موضع رحلها *** وآثار نسعيها من الدف أبلق

وجاء بناء المصادر على هذا المثل في غير هذا الحرف نحو الغفران وليس بنيان جمع بناء، لان فعلانا اذا كان جمعا نحو كثبان وقضبان لم تلحقه تاء التأنيث، وقد يكون ذلك في المصادر، نحو: أكل وأكلة وضرب وضربة من ذلك.

وقال ابوزيد يقال: بنيت أبني بنيا وبناء وبنية وجمعها البنى وأنشد:

بنى السماء فسواها ببنيتها *** ولم تمد باطناب ولا عمد

فالبناء والبنية مصدر ان ومن ثم قوبل به الفراش في قوله " الذي جعل لكم الارض فراشا والسماء بناء "(1) فالبناء لما كان رفعا للمبني قوبل به الفراش الذي هو خلاف البناء. ومن ثم وقع على ماكان فيه ارتفاع في نصبته وان لم يكن مبنيا فأما من فتح الهمزة وبنى الفعل للفاعل، فلانه الباني والمؤسس فأسند الفعل اليه وبناه له كما اضاف البنيان اليه في قوله " بنيانه " فكما ان المصدر مضاف إلى الفاعل كذلك يكون الفعل مبنيا له.

___________________________________

(1) سورة 2 البقرة آية 22.

[302]

ومن بنى الفعل للمفعول لم يبعد ان يكون في المعنى كالاول، لانه إذا أسس بنيانه فتولى ذلك غيره بأمره كان كبنائه هو له. والاول أقوى لما قلناه.

وقال ابوعلي (الجرف) - بضم العين - هو الاصل، والاسكان تخفيف ومثله الشغل. والشغل. ومثله الطنب والطنب. والعنق والعنق، يجوز في جميعه التثقيل والتخفيف.

وكلاهما حسن وقال ابوعبيدة " على شفا جرف هار " مثل، قال: لان ما يبنى على التقوى فهو أثبت أساسا من بناء يبنى على شفا جرف ويجوز ان تكون المعادلة وقعت بين البنائين، ويجوز أن تكون بين البناء‌ين. فاذا عادلت بين البنائين كان المعنى المؤسس بنيانه متقنا خير ام المؤسس بنيانه غير متقن لان قوله " على شفا جرف " يدل على أن بانيه غير متق لله. ويجوز أن يكون على تقدير حذف المضاف كأنه قال: أبناء من أسس بنيانه على تقوى خير أم بناء من أسس بنيانه على شفا جرف. والبنيان مصدر يراد به المبني، كما أن الخلق يراد به المخلوق إذا أردت ذلك، وضرب الامير اذا اردت به المضروب. وكذلك نسج اليمن يراد به المنسوج، فانما قلنا ذلك لانه لايجوز أن يراد به الحدث، لانه إنما يؤسس المبني الذي هو عين.

يبين ذلك قوله " على شفا جرف " والحدث لايكون على شفا جرف.

والجار في قوله " على تقوى " وفي قوله " على شفا جرف " في موضع نصب، والتقدير افمن اسس بنيانه متقيا خير ام من اسس بنيانه معاقبا على بنيانه، وفاعل (انهار) البنيان، وتقديره انهار البنيان بالباني في نار جهنم، لانه معصية وفعل لما كرهه الله من الضرار والكفر والتفريق بين المؤمنين.

ومن أمال " هار " فقد أحسن لما في الراء من التكرير فكأنك لفظت براء‌ين مكسورتين وبحسب كثرة الكسرات تحسن الامالة. ومن لم يمل فلان كثيرا من العرب لايميلون هذه الالفات. وترك الامالة هو الاصل.

وأما ألف " هار " فمنقلبة عن الواو، لانهم قالوا: تهور البناء إذا تساقط وتداعى، والانهيار والانهيال متقاربان في المعنى.

والالف في قوله " أفمن " الف استفهام يراد بها - هاهنا - الانكار

[303]

ومعنى " خير " في الاية أفضل، وليس فيه إشتراك، يقولون: هذا خير، وهذا شر، ولايراد به (أفعل من) قال الشاعر:

والخير والشر مقرونان في قرن *** فالخير متبع والشر محذور

وأما قوله: وافعل الخير معناه افعلوا الافضل.

و (الشفا جرف) الشئ وشفيره وجرفه نهايته في المساحة ويثنى شفوان، والجرف جرف الوادي وهو جانبه الذي ينحفر بالماء أصله فيبقى واهيا، وهو من الجرف والاجتراف، وهو اقتلاع الشئ من أصله.

ومعنى (انهارا) انصدع بالتهدم هار الجرف يهور هورا فهو هائر وتهور تهورا وانهار انهيارا، ويقال ايضا: هار يهار، وأصل هار هائر إلا انه قلب كما قال الشاعر: لاث به الاشاء والعبري(1) اي لائث بمعنى دائر، ومثله شاك في السلاح وشائك والاشاء النخل، والعبري السدر الذي على ساقي الانهار، ومعنى لاث أي مطيف به.

شبه الله تعالى بنيان هؤلاء المنافقين مسجد الضرار ببناء يبنى على شفير جهنم فانهار ذلك البناء بأهله في نار جهنم، ووقع فيه.

وروي عن جابر بن عبدالله انه قال: رأيت المسجد الذي بني ضرارا يخرج منه الدخان، وهو قول ابن جريح.

قوله تعالى: لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم(110)

آية.

قرأ ابن عامر وحمزة وحفص وابوجعفر ويعقوب " تقطع " بفتح التاء الباقون بضمها. وقرأ يعقوب وحده " إلى ان " على أنه حرف جر.

___________________________________

(1) اللسان (عبر) (لوث) (لثي) والتاج (عبر) ومجاز القرآن 1 / 269

[304]

وقوله " لايزال " من اخوات (كان) ترفع الاسم وتنصب الخبر وانما عمل في الاسم والخبر، لانه إنما يتعلق في معنى الجملة، فيدل على انه يدوم إذ المعنى فيه أن يكون الشئ على الصفة أبدا.

قال ابوعلي: البنيان مصدر واقع على المبني وتقديره لايزال بناء المبني الذي بنوه ريبة أي شكا في قلوبهم فيما كان من إظهار اسلامهم وثباتا على النفاق إلى أن تقطع قلوبهم بالموت والبلى لايخلص لهم إيمان ولا ينزعون عن النفاق إلى ان تقطع قلوبهم بالموت والبلى.

ومن قرأ " إلى ان تقطع " فانه يريد حتى تبلى وتقطع بالبلى أي لا تثلج قلوبهم بالايمان ابدا ولا ينزعون عن الخطيئة في بناء المسجد ولا يتوبون.

ومن ضم الياء اضاف الفعل إلى المقطع المبلي للقلوب بالموت، ومن فتحها اسند الفعل إلى القلوب لما كانت هي البالية، كما قالوا: مات زيد ومرض عمرو، ووقع الحائط. وفي قراء‌ة ابي (حتى الممات).

ومعنى قوله " الذي بنوا " مع قوله " بنيانهم " انما هو ليعلم ان البناء ماض دون المستقبل اذ قد تجوز الاضافة على جهة الاستقبال كقولك للغير: أقبل على عملك. وقيل في معنى الريبة في الاية ثلاثة اقوال: احدها - ان هذا البنيان الذي بنوه لايزال شكا في قلوبهم. وقيل معناه حزازة في قلوبهم، وقيل حسرة في قلوبهم يترددون فيها.

وقوله " الا ان تقطع قلوبهم " موضع " ان تقطع " نصب والتقدير الا على تقطع قلوبهم غير ان حرف الاضافة يحذف مع (ان) ولا يحذف مع المصدر. ومعنى (إلا) هاهنا (حتى) لانه استثناء من الزمان المستقبل، والاستثناء منه منته اليه فاجتمعت مع (حتى) في هذا الموضع على هذا المعنى.

قال الزجاج: يحتمل ان يكون المراد الا ان يتوبوا توبة تتقطع بها قلوبهم ندما واسفا على تفريطهم.

وقوله " والله عليم حكيم " اي عالم بنيتهم في بناء مسجد الضرار " حكيم " في امره بنقضه والمنع من الصلاة فيه.




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21335661

  • التاريخ : 28/03/2024 - 16:41

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net