00989338131045
 
 
 
 
 
 

  سورة البقرة 

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الامثال في القرآن   ||   تأليف : العلامة المحقق جعفر سبحاني

( 73 )

سورة البقرة
 
1

التمثيل الاَوّل


قال سبحانه: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنّا وَإِذَا خَلَوْا إِلى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُون * اللهُ يَسْتَهْزِىَُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ في طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُون * أُولئِكَ الَّذينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالهُدَى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدين * مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِى اسْتَوقَدَ نَاراً فَلَمّا أَضَاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ في ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ * صُمّ بُكمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُون ). (1)
تفسير الآيات
الوقود ـ بفتح الواو ـ الحطب، استوقد ناراً، أو أوقد ناراً، كما يقال: استجاب بمعنى أجاب.
افتتح كلامه سبحانه في سورة البقرة بشرح حال طوائف ثلاث:
الاَُولى: الموَمنون، واقتصر فيهم على آيتين.
الثانية: الكافرون، واقتصر فيهم على آية واحدة.
الثالثة: المنافقون، وذكر أحوالهم وسماتهم ضمن اثنتى عشرة آية.

____________
1 ـ البقرة: 14ـ 18.

===============

( 74 )

وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدل على أنّ النفاق بوَرة الخطر، وانّهم يشكلون خطورة جسيمة على المجتمع الاِسلامى. وقد مثل بمثلين يوقفنا على طبيعة نواياهم الخبيثة وما يبطنون من الكفر.
بدأ كلامه سبحانه في حقهم بأنّ المنافقين هم الذين يبطنون الكفر ويتظاهرون بالاِيمان (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنّا وَإِذا خَلَوا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِئُون ).
ثمّ إنّه سبحانه يردّ عليهم، بقوله: (اللهُ يَسْتَهْزِىَُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ في طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُون) والمراد أنّه سبحانه يجازيهم على استهزائهم.
ثمّ وصفهم بقوله: (أُولئِكَ الَّذينَ اشْتَرَوا الضَّلالَةَ بِالهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدين )، أي أخذوا الضلالة وتركوا الهدى، واستبدلوا الكفر بالاِيمان، فلم يكونوا رابحين في هذه التجارة والاستبدال، ثمّ وصفهم بالتمثيل الآتى:
نفترض أنّ أحداً، ضلّ في البيداء وسط ظلام دامس وأراد أن يقطع طريقه دون أن يتخبّط فيه، ولا يمكن أن يهتدي ـ والحال هذه ـ إلاّ بإيقاد النار ليمشي على ضوئها ونورها ويتجنب المزالق الخطيرة، وما أن أوقد النار حتى باغتته ريح عاصفة أطفأت ما أوقده، فعاد إلى حيرته الا َُولى .
فحال المنافقين كحال هذا الرجل حيث إنّهم آمنوا بادىَ الاَمر واستناروا بنور الاِيمان ومشوا في ضوئه، لكنّهم استبدلوا الاِيمان بالكفر فعمَّهم ظلام الكفر لا يهتدون سبيلاً.
هذا على القول بأنّ المنافقين كانوا موَمنين ثمّ عدلوا إلى الكفر، وأمّا على

===============

( 75 )

القول بعدم إيمانهم منذ البداية، فالنار التي استوقدوها ترجع إلى نور الفطرة الذي كان يهديهم إلى طريق الحق، ولكنّهم أخمدوا نورها بكفرهم بآيات الله تبارك و تعالى.
والحاصل: أنّ حال هوَلاء المنافقين لمّا أظهروا الاِيمان وأبطنوا الكفر كحال من ضلَّ في طريقه وسط الظلام في مكان حافل بالاَخطار فأوقد ناراً لاِنارة طريقه فإذا بريح عاصفة أطفأت النار وتركته في ظلمات لا يهتدي إلى سبيل.
وهذا التمثيل الذي برع القرآن الكريم في تصويره يعكس حال المنافقين في عصر الرسالة، ومقتضى التمثيل أن يهتدي المنافقون بنور الهداية فترة من الزمن ثمّ ينطفىَ نورها بإذن الله سبحانه، وبالتالي يكونوا صمّاً بكماً عمياً لا يهتدون، فالنار التي اهتدى بها المنافقون عبارة عن نور القرآن، وسنّة الرسول، حيث كانوا يتشرّفون بحضرة الرسول ويستمعون إلى كلامه وحججه في بيانه ودلائله في إرشاده وتلاوته لكتاب الله ، فهم بذلك كمن استوقد ناراً للهداية، فلمّـا أضاءت لهم مناهج الرشد ومعالم الحقّ تمرّدوا على الله بنفاقهم، فخرجوا عن كونهم أهلاً للتوفيق والتسديد، فأوكلهم الله سبحانه إلى أنفسهم الاَمّارة وأهوائهم الخبيثة، وعمّتهم ظلمات الضلال بسوء اختيارهم.
وعلى هذا ابتدأ سبحانه بذكر المثل بقوله: (مَثَلُهمْ كَمَثلِ الَّذى استوقَد ناراً فلَمّا أَضاءَت ما حوله )وتمّ المثل إلى هنا .
ثمّ ابتدأ بذكر الممثل بقوله: (ذَهَبَ الله بِنُورهِمْ وَتَرَكَهُمْ في ظُلماتٍ لا يُبصرون).
فإن قلت: فعلى هذا فما هو جواب "لمّا" في قوله (فلمّا أَضاءَت

===============

( 76 )

قلت: الجواب محذوف، لاَجل الوجازة، وهو قوله "خمدت".
فإن قلت: فعلى هذا فبم يتعلّق قوله: (ذهب الله بنورهم
قلت: هو كلام مستأنف راجع إلى بيان حال الممثل، وتقدير الكلام هكذا: فلَمّا أَضاءَت ما حوله خمدت فبقوا خابطين في ظلام متحيرين متحسّرين على فوات الضوء، خائبين بعد الكدح من إيقاد النار.
فحال المنافقين كحال هوَلاء، أشعلوا ناراً ليستضيئوا بنورها لكن (ذَهَب الله بنورهم وتَرَكَهُمْ في ظُلمات لا يُبصرون ).
وبكلمة موجزة: ما ذكرنا من الجمل هو المفهوم من الآية، والاِيجاز بلا تعقيد من شوَون البلاغة. (1)
فقوله سبحانه: (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) بمعنى أنّ ذلك كان نتيجة نفاقهم وتمرّدهم وبالتالي تبدّد قابليتهم للاهتداء بنور الحقّ (فَتَرَكَهُمْ في ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُون) أي في أهوائهم وسوء اختيارهم يتخبّطون في ظلمات الضلال، لا يبصرون طريق الحقّ والرشاد.
ترى أنّ التمثيل يحتوي على معانى عالية وكثيرة بعبارات موجزة، ولو حاول القرآن أن يبيّن تلك المعاني عن غير طريق التمثيل يلزم عليه بسط الكلام كما بسطناه، وهذا من فوائد المثل، حيث يوَدي معاني كثيرة بعبارات موجزة.
ثمّ إنّه سبحانه يصفهم بأنّهم لما عطّلوا آذانهم فهم صمّ، وعطّلوا ألسنتهم فهم بكم، وعطّلوا عيونهم فهم عمى، قال: (صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُون ).
والمراد من التعطيل أنّهم لم يكونوا ينتفعون بهذه الاَدوات التي بها تعرف
____________
1 ـ لاحظ الكشاف:1|153.

===============

( 77 )

الحقائق، فما كانوا يسمعون آيات الله بجدٍّ، ولا ينظرون إلى الدلائل الساطعة للنبوة إلاّ من خلال الشك. (1)
إلى هنا تمّ استعراض حال المنافقين بحال من أوقد ناراً للاستضاءة، ولكن باءت مساعيه بالفشل.
وممّا يدل على أنّ المنافقين آمنوا بالله ورسوله في بدء الاَمر ثمّ طغى عليهم وصف النفاق، قوله سبحانه: (ذلِكَ بأَنّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِـعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُون ). (2)
وممّا يدل على أنّ الاِسلام نور ينوّر القلوب والاَنفس قوله سبحانه: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلاِسْلام فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولئِكَ في ضَلالٍ مُبِينٍ ). (3)
وأمّا الظلمة التي تحيط بهم بعد النفاق وتجعلهم صمـّاً بكماًعمياً، فالمراد ظلمات الضلال التي لا يبصرون فيها طريق الهدى والرشاد، يقول سبحانه: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلياوَُهُمُ الطّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصحَابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُون ). (4)
وبذلك ظهر أنّ تفسير الظلمة التي يستعقبها إطفاء النور بظلمة القبر وحياة البرزخ ومابعدها من مواقف الحساب والجزاء غير سديد، وإن كان هناك ظلمة للمنافق لكنّها من نتائج الظلمة الدنيوية.

____________
1 ـ انظر مجمع البيان:1|54؛ آلاء الرحمن:1|73.
2 ـ المنافقون:3.
3 ـ الزمر:22.
4 ـ البقرة:257.

===============

( 78 )

فاستشهاد صاحب المنار على كون المراد هو ظلمة القبر و البرزخ بقوله سبحانه: (يَوْمَ يَقُولُ المُنافِقُونَ وَالمُنافِقاتُ لِلَّذينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِس مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالتَمِسُوا نُوراً... ) (1)ليس بأمر صحيح، والآية ناظرة إلى حياتهم الدنيوية التي يكتنفها الاِيمان والنور ، ثمّ تحيط بهم الظلمة والضلالة، ولا نظر للآية لما بعد الموت.
سوَال وإجابة
إنّ مقتضى البلاغة هو الاِتيان بصيغة الجمع حفظاً للتطابق بين المشبّه والمشبّه به، مع أنّه سبحانه أفرد المشبّه به (كالذي استوقد ناراً) وجمع المشبّه أعني قوله: (مثلهم) (ذهب الله بنورهم )، فما هو الوجه؟
أجاب عنه صاحب المنار بقوله: إنّ العرب تستعمل لفظ "الذي" في الجمع كلفظي "ما" و "مَن" ومنه قوله تعالى: (وَخُضْتُمْ كَالّذِى خَاضُوا ) (2)وإن شاع في "الذي" الافراد، لاَنّ له جمعاً، وقد روعي في قوله (استوقد) لفظه، وفي قوله (ذهب الله بنورهم) معناه. والفصيح فيه مراعاة التلفظ أوّلاً، ومراعاة المعنى آخراً، والتفنّن في إرجاع الضمائر ضرب من استعمال البلغاء. (3)
ولنا مع هذا الكلام وقفة، وهي أنّ ما ذكره مبني على أنّ قوله سبحانه: (ذَهَبَ الله بنورهِمْ وَتَرَكهم في ظُلماتٍ لا يُبصرون) في تتمة المثل، وأجزاء المشبه به، ولكنّك قد عرفت خلافه، وانّ المثل تمّ في قوله: (فلمّا أضاءت ما
____________
1 ـ الحديد:13.
2 ـ التوبة:69.
3 ـ تفسير المنار:1|169.

===============

( 79 )

حوله )، وذلك بحذف جواب "لمّـا"، لكونه معلوماً في الجملة التالية، وهو عبارة عن إخماد ناره فبقى في الظلام خائفاً متحيّراً.
وإلاّ فلو كان قوله (ذهب الله بنورهم) من أجزاء المشبّه به، وراجعاً إلى مَن استوقد ناراً، يلزم أن تكون الجملة التالية أعني قوله: (صمّ بكمٌ عُمىٌ) كذلك، أي من أوصاف المستوقد، مع أنّها من أوصاف المنافق دون أدنى ريب، ولو أردنا أن نصيغ المشبه والمشبه به بعبارة مفصّلة، فنقول:
المشبه به: الذي استوقد ناراً فلمّا أضاءت ما حوله أُطفأت ناره.
والمشبه: المنافقون الذين استضاءوا بنور الاِسلام فترة ثمّ ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون، صمّ بكم عمي فهم لا يرجعون.
وأمّا وجه الافراد، فهو أنّه إذا كان التشبيه بين الاَعيان فيلزم المطابقة، لاَنّ عين كلّ واحد منهم غير أعيان الآخر. ولذلك إنّما يكون التشبيه بين الاَعيان إذا روعي التطابق في الجمع والاِفراد، يقول سبحانه: (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ ) (1)، وقوله: (كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ ). (2)
وأمّا إذا كان التشبيه بين الاَفعال فلا يشترطون التطابق لوحدة الفعل من حيث الماهية والخصوصيات، يقال في المثل: ما أفعالكم كفعل الكلب. أي ما أفعالكم إلاّ كفعل الكلب.
وربما يقال: إنّ الموصول " الذي" بمعنى الجمع ، قال سبحانه: (وَالَّذِي جَاءَ بِالصّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ) (3) (4)

____________
1 ـ المنافقون:4.
2 ـ الحاقة:7.
3 ـ الزمر:33.
4 ـ انظر التبيان في تفسير القرآن:1|86.

===============

( 80 )

سورة البقرة
2

التمثيل الثاني



قال سبحانه: (أَوْ كَصَيّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلّ شَىْءٍ قَدِير ). (1)
تفسير الآيات
الصيّب: المطر، وكلّ نازل من علوّ إلى أسفل، يقال فيه: صاب يصوب، وهو عطف على قوله (كَمَثَلِ الّذي استوقَدَ ناراً )، ولما كان المثل الثاني أيضاً مثلاً للمنافقين، فمقتضى القاعدة أن يقول "وكصيّب" مكان (أو كصيّب) ولكن ربّما يستعمل "أو" بمعنى "و" قال الشاعر:
نال الخلافة أو كانت له قدراً كما أتى ربّه موسى على قدر
ويحتمل أن يكون "أو" للتخيير، بأن مَثل المنافقين بموقد النار، أو بمن وقع في المطر.

____________
1 ـ البقرة:19ـ20.

===============

( 81 )

والرعد: هو الصوت الذي يُسمَع في السحاب أحياناً عند تجمعه.
والبرق: هو الضوء الذي يلمع في السحاب غالباً، وربما لمع في الاَُفق حيث لا سحاب، وأسباب هذه الظواهر اتحاد شحنات السحاب الموجبة بالسالبة كما تقرر ذلك في علم الطبيعيات.
والصاعقة: نار عظيمة تنزل أحياناً أثناء المطر والبرق، وسببها تفريغ الشحنات التي في السحاب بجاذب يجذبها إلى الاَرض.
والاِحاطة بالشيء: الاِحداق به من جميع الجهات.
والخطف: السلب والاَخذ بسرعة، ومنه نهي عن الخطفة بمعنى النهبة.
قوله: (وَإِذا أَظلَم )بمعنى إذا خفت ضوء البرق.
إلى هنا تمّ تفسير مفردات الآيات، فلنرجع إلى بيان حقيقة التمثيل الوارد في الآية، ليتضح من خلالها حال المنافقين، فانّ حال المشبه يعرف من حال المشبه به، فالمهم هو التعرّف على المشبه به.
والاِمعان في الآيات يثبت بأنّ التمثيل يبتدأ من قوله (أو كصيّبٍ من السَّماء) وينتهي بقوله: (وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا ).
وأمّا قوله: (وَاللهُ محيطٌ بِالكافرين) جملة معترضة جىء بها في أثناء التمثيل، وقوله بعد انتهاء التمثيل: (وَلَو شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) يرجع إلى المشبه.
هذا ما يرجع إلى مفردات الآيات وكيفية انسجامها، والمهمّ هو ترسيم ذلك المشهد الرهيب.
فلنفترض أنّ قوماً كانوا يسيرون في الفلوات وسط أجواء سادها الظلام

===============

( 82 )

الدامس، فإذا بصيّب من السماء يتساقط عليهم بغزارة ، فيه رعود قاصفة وبروق لامعة تكاد تخطف الاَبصار من شدتها وصواعق مخيفة، فتولاّهم الرعب والفزع والهلع ممّا حدا بهم إلى أن يجعلوا أصابعهم في آذانهم خشية الموت للحيلولة دون سماع ذلك الصوت المخيف، فعندئذٍ وقفوا حيارى لا يدرون أين يولّون وجوهم، فإذا ببصيص من البرق أضاء لهم الطريق فمشوا فيه هنيئة، فلما استتر ضوء البرق أحاطت بهم الظلمة مرة أُخرى وسكنوا عن المشي.
ونستخلص من هذا المشهد أنّ الهول والرعب والفزع والحيرة قد استولى على هوَلاء القوم لا يدرون ماذا يفعلون، وهذه الحالة برمَّتها تصدق على المنافقين، ويمكن تقريب ذلك ببيانين:
البيان الاَوّل: التطبيق المفرق لكلّ ما جاء من المفردات في المشبه به، كالصيّب والظلمات والرعد والبرق، على المشبَّه، وقد ذكر المفسرون في ذلك وجوهاً أفضلها ما ذكره الطبرسي تحت عنوان الوجه الثالث.
وقال: إنّه مثل للاِسلام، لاَنّ فيه الحياة كما في الغيث الحياة، وشبه ما فيه من الظلمات بما في إسلامهم من إبطان الكفر، ومافيه من الرعد بما في الاِسلام من فرض الجهاد وخوف القتل، وبما يخافونه من وعيد الآخرة لشكّهم في دينهم، وما فيه من البرق بما في إظهار الاِسلام من حقن دمائهم ومناكحتهم وموارثتهم، وما فيه من الصواعق كما في الاِسلام من الزواجر بالعقاب في العاجل والآجل. ويقوى ذلك ما روي عن الحسن (عليه السلام) انّه قال: "مثل إسلام المنافق كصيّب هذا وصفه". (1)
وربّما يقرّر هذا الوجه بشكل آخر، وهو ما أفاده المحقّق محمد جواد
____________
1 ـ مجمع البيان:1|57.

===============

( 83 )

البلاغي (المتوفّى1352هـ) فقال: الاِسلام للناس ونظام اجتماعهم كالمطر الصيّب فيه حياتهم وسعادتهم في الدارين وزهرة الاَرض بالعدل والصلاح والاَمن وحسن الاجتماع، ولكن معاندة المعاندين للحق وأهله جعلت الاِسلام كالمطر لا يخلو من ظلمات شدائد وحروب ومعاداة من المشركين ورعود قتل وقتال وتهديدات مزعجات لغير الصابرين من ذوي البصائر والذين ارخصوا نفوسهم في سبيل الله ونيل السعادة، وفيه بروق من النصر وآمال الظفر واغتنام الغنائم وعزّ الانتصار والمنعة والهيبة. فهم إذا سمعوا صواعق الحرب أخذهم الهلع والحذر من القتل وشبهت حالهم في ذلك بأنّهم (يجعلون أصابعهم في آذانهم من )أجل (الصواعق حذر الموت) وخوفاً من أن تخلع قلوبهم من هول أصواتها، وسفهاً لعقولهم أين يفرون عن الموت وماذا يجديهم حذرهم والله محيط بالكافرين. (1)
وهذان التقريران يرجعان إلى التطبيق المفرّق كما عرفت.
البيان الثاني: التطبيق المركّب، وهو إنّ الغاية من وراء هذا التمثيل أُمور ثلاثة ترجع إلى بيان حالة المنافقين.
وقبل أن نستوعب البحث عنها نذكر نص كلام الزمخشري في هذا الصدد.
قال الزمخشري: والصحيح الذي عليه علماء البيان لا يتخطّونه أنّ التمثيلين جميعاً من جملة التمثيلات المركبة دون المفرقة لا يتكلف لواحد واحد شيء يقدر شبهه به وهو القول الفصل والمذهب الجزل. (2)
إذا عرفت ذلك، فإليك البحث في الاَُمور الثلاثة:

____________
1 ـ آلاء الرحمن:1|74.
2 ـ الكشاف:1|162ـ 163.

===============

( 84 )

الاَوّل: إحاطة الرعب والهلع بالمنافقين إثر انتشار الاِسلام في الجزيرة العربية ودخول القبائل فيه وتنامي شوكته، مما أوجد رعباً في قلوبهم وفزعاً في نفوسهم المضطربة، ويجدون ذلك بلاءً أحاط بهم كالقوم الذين يصيبهم الصيّب من السماء فيه ظلمات و رعد وبرق وإليه أشار قوله سبحانه: (أو كصيّب من السماء فيه رعد وبرق ).
الثاني: انّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لمّا كان يخبرهم عن المستقبل المظلم للكافرين والمدبرين عن الاِسلام والاِيمان خصوصاً بعد الموت صار ذلك كالصاعقة النازلة على روَوسهم فكانوا يهربون من سماع آيات الله ويحذرون من صواعق براهينه الساطعة، مع أنّ هذا هو منتهى الحماقة، لاَنّ صمّ الآذان ليس من أسباب الوقاية من أخذ الصاعقة ونزول الموت وإلى ذلك يشير قوله سبحانه: (يَجْعَلُون أَصابعهُمْ في آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَر المَوت وَالله مُحيطٌ بِالكافِرين ).
الثالث: كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يدعوهم إلى أصل الدين ويتلوا عليهم الآيات البيّنة ويقيم لهم الحجج القيّمة، فعنئذٍ يظهر لهم الحق، فربّما كانوا يعزمون على اتّباعه والسير وراء أفكاره، ولكن هذه الحالة لم تدم طويلاً، إذ سرعان ما يعودون إلى تقليد الآباء، وظلمة الشهوات والشبهات، وإلى ذلك يشير قوله سبحانه: (يَكادُ الْبَرقُ يَخْطَفُ أَبْصارهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشوا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا ).
إلى هنا تمّ التطبيق المركب لكن في مقاطع ثلاثة.
ثمّ إنّه سبحانه أعقب التمثيل بقوله: (وَلَو شَاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وأَبْصارِهِم إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَىءٍ قَدير) أي انّه سبحانه قادر أن يجعلهم صمّـاً وعمياًحتى لا ينجع فيهم وعظ واعظ ولا تجدي هداية هادٍ.
وذهاب سمعهم وأبصارهم نتيجة أعمالهم الطالحة التي توصد باب

===============

( 85 )

التوفيق أمامهم فيصيرون صمّـاً وبكماً وعمياً.
ثمّ إنّ الآيات القرآنية تفسر تلك الحالة النفسانية التي كانت تسود المنافقين في مهجر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث كانوا في حيطة وحذر من أن تنزل عليهم سورة تكشف نواياهم، كما يشير إليه قوله سبحانه: (يَحْذَرُ المُنافِقُونَ أَن تُنَزَّل عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِءُوا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُون ). (1)
ومن جانب آخر يشاهدون تنامي قدرة الاِسلام وتزايد شوكته على وجه يستطيع أن يقطع دابرهم من أديم الاَرض، يقول سبحانه: (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالمُرجِفُونَ فِي المَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاّ قَلِيلاً * مَلْعُونينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتّلُوا تَقْتِيلاً ). (2)
هذا بعض ما يمكن أن يقال حول التمثيل الوارد في حق المنافقين، ولكن المهمَّ تطبيق هذا التمثيل على منافقي عصرنا، فدراسة حال المنافقين في عصرنا هذا من أهم وظيفة المفسّر، فانّ حقيقة النفاق واحدة، ترجع إلى إظهار الاِيمان وإبطان الكفر لغاية الاِضرار بالاِسلام والمسلمين، وهم يقيمون في خوف ورعب، وفي الوقت نفسه صم بكم عمي فهم لا يرجعون.

____________
1 ـ التوبة:64.
2 ـ الاَحزاب: 60ـ61.

 

( 86 )

سورة البقرة
3

التمثيل الثالث



قال سبحانه: (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمّا الّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحَقُّ مِنْ رَبّهِمْ وَأَمّا الّذينَ كَفَروا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاّ الْفاسِقِينَ * الَّذينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الاََرضِ أُولئِكَ هُمُ الخاسِرُون ). (1)
تفسير الآيات
الحياء تغيّر وانكسار يعتري الاِنسان من تخوّف مايعاب به ويُذمّ، يقال: فلان يستحي أن يفعل كذا، أي أنّ نفسه تنقبض عن فعله.
فعلى هذا فالحياء من مقولة الانفعال، فكيف يمكن نسبته إلى الله سبحانه مع أنّه لا يجوز عليه التغيّر والخوف والذم؟
الجواب: إنّ إسناد الحياء كإسناد الغضب والرضا إلى الله سبحانه، فإنّها جميعاً تسند إلى الله سبحانه متجردة عن آثار المادة، ويوَخذ بنتائجها، وقد اشتهر قولهم: "خذوا الغايات واتركوا المبادىَ" فالحياء يصدُّ الاِنسان عن إبراز ما
____________
1 ـ البقرة:26ـ27.

===============

( 87 )

يضمره من الكلام، والله سبحانه ينفى النتيجة، أي لا يمنعه شيء عن إبراز ما هو حق، قال سبحانه: (فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُوَْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِ مِنْكُمْ وَاللهُ لا يَسْتَحْيِ مِنَ الحَقّ ). (1)
وأمّا ضرب المثل فقد مرّ الكلام فيه، وقلنا: إنّ لاستخدام كلمة "ضرب المثل" في التمثيل بالاَمثال وجوهاً:
منها: أنّ ضرب المثل في الكلام يذكر لحال ما يناسبها، فيظهر من حسنها أو قبحها ما كان خفياً، وهو مأخوذ من ضرب الدراهم، وهو حدوث أثر خاص فيها، كأن ضرب المثل يقرع به أذن السامع قرعاً ينفذ أثره في قلبه، ولا يظهر التأثير في النفس بتحقير شيء وتقبيحه إلاّ بتشبيهه بما جرى العرف بتحقيره ونفور النفوس منه. (2)
البعوضة: حيوان حقير يشبه خرطومه خرطوم الفيل، أجوف وله قوّة ماصة تسحب الدم، وقد منح الله سبحانه هذا الحيوان قوة هضم ودفع كما منحه أُذناً وأجنحة تتناسب تماماً مع وضع معيشته، وتتمتع بحساسية فائقة، فهي تفر بمهارة عجيبة حين شعورها بالخطر، وهي مع صغرها وضعفها يعجز عن دفعها كبار الحيوانات. وقد اكتشف علماء الحيوان موَخراً انّ البعوضة قادرة على تشخيص فريستها من مسافة تقرب عن 65 كيلومتراً.
قال أمير الموَمنين علي (عليه السلام) في حقّها: "كيف ولو اجتمع جميع حيوانها، مناطيرها وبهائمها، وما كان من مراحها وسائمها، وأصناف أسناخها وأجناسها، ومتبلدة أُممها وأكياسها، على إحداث بعوضة ما قدرت على إحداثها، ولا عرفت
____________
1 ـ الاَحزاب:53.
2 ـ تفسير المراغى:1|70.

===============

( 88 )

كيف السبيل إلى إيجادها، ولتحيّـرت عقولها في علم ذلك وتاهت وعجزت قواها وتناهت، ورجعت خاسئة حسيرة، عارفة بأنّها مقهورة، مقرة بالعجز عن إنشائها، مذعنة بالضعف عن إفنائها". (1)
يقول الاِمام جعفر بن محمد الصادق 8بشأن خلقة هذا الحيوان الصغير:
"إنّما ضرب الله المثل بالبعوضة على صغر حجمها خلق الله فيها جميع ما خلق في الفيل مع كبره وزيادة عضوين آخرين، فأراد الله سبحانه أن ينبّه بذلك الموَمنين على لطيف خلقه وعجيب صنعته". (2)
إلى هنا تمّ تفسير مفردات الآية، وأمّا تفسير الآية برمّتها فقد نقل المفسرون في سبب نزولها وجـهين0
الاَوّل: أنّ الله تعالى لما ضرب المثلين قبل هذه الآية للمنافقين، أعني قوله: (مثلهم كمَثل الذي استوقد ناراً) وقوله: (أو كصيّب من السماء) قال المنافقون: الله أعلى وأجل من أن يضرب هذه الاَمثال، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
الثاني: أنّه سبحانه لما ضرب المثل بالذباب والعنكبوت تكلّم فيه قوم من المشركين وعابوا ذكره، فأنزل الله هذه الآية. (3)
ولا يخفى ضعف الوجه الاَوّل، فإنّ المنافقين لم ينكروا ضرب المثل، وإنّما أنكروا المثلين اللّذين مثّل بهما سبحانه حال المنافقين، وعند ذلك لا يكون التمثيل بالبعوضة جواباً لردّ استنكارهم، لاَنّهم أنكروا المثلين اللّذين وردا
____________
1 ـ نهج البلاغة: الخطبة186.
2 ـ مجمع البيان:1|67.
3 ـ مجمع البيان: 1|67.

===============

( 89 )

في حقهما، فلا يكون عدم استحيائه سبحانه من التمثيل بالبعوضة ردّاً على اعتراضهم.
وأمّا الثاني، فقد ورد ضرب المثل بالذباب والعنكبوت في مكة المكرمة، لاَنّ الاَوّل ورد في سورة الحج، وهي سورة مكية، والآخر ورد في سورة العنكبوت، وهي أيضاً كذلك. وهذه الآية نزلت في المدينة، فكيف تكون الآية النازلة في مهجر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) جواباً على اعتراض المشركين في موطنه؟
وعلى كلّ تقدير فالآية بصدد بيان أنّ الملاك في صحة التمثيل ليس ثقل ما مثّل به أو كبره، فلا التمثيل بالبعوضة عيب ولا التمثيل بالاِبل والفيل كمال، وإنّما الكمال أن يكون المثل مبيناً لحقيقة وواقعة غفل عنها المخاطب من دون فرق بين كون الممثل صغيراً أو كبيراً.
وبعبارة أُخرى: إذا كان الغرض التأثير فالبلاغة تقضي بأن تضرب الاَمثال لما يراد تحقيره بحقيرها ولما يراد التنفير بما اعتادت النفوس النفور منها، فالملاك هو كون المثل مفيداً لما يريد المتكلم تحقيقه، من غير فرق بين حقير الاَشياء وكبيرها، وهو سبحانه يشير إلى ذلك المعنى بقوله: (إِنَّ الله لا يَسْتَحْيي أن يضربَ مثلاً ما بَعوضة) (بل) فوقها في الصغر كالجراثيم التي لا ترى إلاّ بالمجهر، كما تقول: فلان لا يبالي أن يبخل بنصف درهم فما فوقه أي مما فوقه في القلة.
ولو أُريد ما فوقه في الكثرة يقول مكانه "فضلاً عن الدرهم والدرهمين".
فما في كلام بعض المستشرقين من أنّ الصحيح أن يقول "فما دونه" غير تام. للفرق بين قوله: "فما فوقه" وقوله "فضلاً" و الاَوّل بقرينة المقام بمعنى فما فوقه في الصغر والحقارة لا بمعنى "فضلاً".
وربما تفسر الآية بأنّه لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها في

===============

( 90 )

الكبر، ولكن الاَوّل هو الاَوفق لمقصود المتكلم . كما يقال عند لوم المتجرى: بأنّك تقترف جريمة لاَجل دينار بل فوقه، أي نصف دينار، والمراد من الفوقية هو الفوقية في الحقارة.
وقد أورد الزمخشري على نفسه سوَالاً، وهو: كيف يضرب الله المثل لما دون البعوضة وهي في النهاية في الصغر؟ ثمّ أجاب:
إنّ جناح البعوضة أقل منها وأصغر بدرجات، وقد ضربه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مثلاً للدنيا، وفي خلق الله حيوان أصغر منها ومن جناحها ربما رأيت في تضاعيف الكتب العتيقة دويبة لا يكاد يجليها للبصر الحاد إلاّ تحركها فإذا سكنت، فالسكون يواريها، ثمّ إذا لوّحت لها بيدك حادت عنها وتجنبت مضرتها، فسبحان من يدرك صورة تلك وأعضاءها الظاهرة والباطنة، وتفاصيل خلقتها، ويبصر بصرها، ويطلع على ضميرها، ولعل في خلقه ما هو أصغر منها وأصغر سبحان الذي خلق الاَزواج كلّها مما تنبت الاَرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون.(1)
وقال البيضاوي: لما كانت الآيات السابقة متضمنة لاَنواع من التمثيل عقب ذلك ببيان حسنه، وما هو الحق له والشرط فيه، وهو أن يكون على وفق الممثل له من الجهة التي تعلق بها التمثيل في العظم والصغر، والخسة والشرف، دون الممثل، فانّ التمثيل إنّما يصار إليه لكشف المعنى الممثل له، ورفع الحجاب عنه وإبرازه في صورة المشاهد المحسوس، ليساعد فيه الوهم العقل ويصالحه عليه، فانّ المعنى الصرف إنّما يدركه العقل مع منازعة من الوهم، لاَنّ من طبعه الميل إلى الحس وحب المحاكاة، ولذلك شاعت الاَمثال في الكتب الاِلهية وفشت في عبارات البلغاء، وإشارات الحكماء، فيمثل الحقير بالحقير كما يمثل العظيم
____________
1 ـ الكشاف:1|205ـ 206.

===============

( 91 )

بالعظيم، وإن كان المثل أعظم من كلّ عظيم، كما مثل في الاِنجيل على الصدور بالنخالة، والقلوب القاسية، بالحصاة، ومخاطبة السفهاء، بإثارة الزنابير، وجاء في كلام العرب: أسمع من قراد، وأطيش من فراشة، وأعز من مخ البعوض. (1)
وربّما يتصور أنّ التمثيل بالاَشياء الحقيرة الخسيسة لا يليق بكلام الفصحاء، وعلى هذا فالقرآن المشتمل على النمل والذباب والعنكبوت والنحل لا يكون فصيحاً فضلاً عن كونه معجزاً.
وأجاب عنه صدر المتألهين الشيرازي (المتوفّى عام 1050هـ)بقوله: إنّ الحقارة لا تنافي التمثيل بها، إذا شرط في المثال أن يكون على وفق الممثل له من الجهة التي يستدعي التمثيل به كالعظم والحقارة، والشرف والخساسة، لا على وفق من يوقع التمثيل ويضرب المثال، لاَنّ الغرض الاَصلي منه إيضاح المعنى المعقول، وإزالة الخفاء عند إبرازه في صورة المشاهد المحسوس، ليساعد فيه الوهم العقل ولا يزاحمه، فانّ العقل الاِنساني مادام تعلقه بهذه القوى الحسيّة لا يمكنه إدراك روح المعنى مجرّداًعن مزاحمة الوهم ومحاكاته، لاَنّ من طبعه كالشياطين الدعابة في التخييل وعدم الثبات على صورة.
ولذلك شاعت الاَمثال في الكتب الاِلهية، وفشت في عبارات الفصحاء من العرب وغيرهم، وكثرت في إشارات الحكماء ومرموزاتهم، وصحف الاَوائل ومسفوراتهم، تتميماً للتخيّل بالحس، فهناك يضاعف في التمثيل، حيث يمثل أوّلاً المعقول بالمتخيل، ثمّ يمثل المتخيل بالمرسوم المحسوس المهندس المشكل. (2)
ثمّ إنّه سبحانه يذكر أنّ الناس أمام الاَمثال على قسمين:

____________
1 ـ تفسير البيضاوى:1|43.
2 ـ تفسير القرآن الكريم:2|192ـ 193.

===============

( 92 )

أ: الموَمنون: وهم الذين قال سبحانه في حقّهم: (فَأَمّا الّذين آمَنُوا فَيَعْلَمُون انّهُ الحَقُّ مِنْ رَبّهِمْ ).
ب: الكافرون: وهم الذين قال سبحانه في حقّهم: (وَأَمّا الّذين كَفَروا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللهُ بِهذا مثَلاً ). والظاهر أنّ قولهم (أراد اللّهُ) كان على سبيل الاستهزاء بادّعاء الرسول أنّ المثل وحي منزل من الله ، وإلاّ فانّ الكافرين والمنافقين كانوا ينكرون الوحي أصلاً.
ولا غرو في أن يكون شيء سبب الهداية لطائفة وسبب الضلال لطائفة أُخرى، وما هذا إلاّ لاَجل اختلاف القابليات، فمن استعد لقبول الحقّ والحقيقة فتصبح الآيات الاِلهية سبب الهداية، وأمّا الطائفة الاَُخرى المعاندون الذين صمّوا مسامعهم عن سماع كلمة الحق وآياته فينكرون الآيات ويكفرون بذلك.
ثمّ إنّ الظاهر أنّ قوله سبحانه: (يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً وما يضل به إلاّ الفاسقين) من كلامه سبحانه، ولا صلة له بكلام المنكرين، بل تم كلامه بقوله: (بها مثلاً) وهو انّ الاَمثال توَثر في قوم دون قوم.
ثمّ إنّه يعلّل إضلال غير الموَمنين بفسقهم ويقول: (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاّ الفاسقين )، والفسق: عبارة عن خروج النواة من التمر، وفي الاصطلاح: من خرج عن طاعة الله ، سواء أكان مسلما متجرياً أو كافراً فاسقاً.
وقد أطنب المفسرون الكلام في مفاد الجملة الاَخيرة أعني: (يُضِلُّ به كثيراً وَيَهْدي بهِ كَثيراً) فربما يتوهم أنّ الآية بصدد الاِشارة إلى الجبر، فحاولوا تفسير الآية بشكل يتلاءم مع الاختيار، وقد عرفت أنّ الحقّ هو أنّ الآية بصدد بيان أنّ المواعظ الشافية والكلمات الحِكَمية لها تأثير معاكس فيوَثر في القلوب المستعدة تأثيراً إيجابياً وفي العقول المنتكسة تأثيراً سلبياً.

===============

( 93 )

هذا هو تفسير الآية .
وربّما يحتمل أنّ الآية ليست بصدد بيان ضرب المثل بالبعوضة كضربه بالعنكبوت والذباب، بل الآية خارجة عن نطاق ضرب المثل بالمعنى المصطلح، وإنّما الآية بصدد بيان قدرته وعظمته وصفاته الجمالية و الجلالية، والآية بصدد بيان أنّ الله سبحانه لا يستحيي أن يستدل على قدرته وكماله وجماله بخلق من مخلوقاته سواء أكان كبيراً وعظيماً كالسماوات والاَرض، أو صغيراً و حقيراً كالبعوضة والذباب، فمعنى ضرب المثل هو وصفه سبحانه بصفات الجلال أو الكمال.
ويدل على ذلك أنّه سبحانه استدل على جلاله وكماله بخلق السماوات والاَرض وقال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الّذِي خَلقَكُمْ وَالّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الّذي جَعَلَ لَكُمُ الاََرضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا للهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ). (1)
يلاحظ على تلك النظرية بأمرين:
أوّلاً: لو كان المراد من ضرب المثل وصفه سبحانه بالقدرة العظيمة لكان اللازم أن يأتي بالآية بعد هاتين الآيتين مع أنّه فصل بينهما بآيات ثلاث تركّز على إعجاز القرآن و التحدّي به، ثمّ التركيز على الجنة وثمارها كما هو معلوم لمن راجع المصحف الكريم.
وثانياً: انّ القرآن يفسر بعضه بعضاً، فقد جاء قوله: (فَأَمّا الّذينَ آمنوا فيعلمون انّه الحق من ربّهم) في سورة الرعد بعد تشبيه الحق و الباطل بمثل رائع
____________
1 ـ البقرة:21ـ 22.

===============

( 94 )

يأتي البحث عنه إن شاء الله.
قال سبحانه: (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فسالَتْ أَودِيَةٌ بِقَدَرِها...) إلى أن قال: (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الاََمثالَ) ثمّ قال: (أَفَمَنْ يَعْلَمُ انّمَا أُنزل إِلَيكَ مِن ربِّكَ الحقُّ كَمَن هو أعمى إِنّما يَتَذَكّرُ أُولُوا الاَلباب * الّذين يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ ولاَ يَنْقُضُونَ المِيثاقَ).(1)
تجد أنّ الآيات في سورتي البقرة والرعد كسبيكة واحدة يفسر بعضها البعض.
ففي سورة البقرة ذكر ضرب المثل بالبعوضة، كما ضرب في سورة الرعد مثلاً للحق والباطل.
ففي سورة البقرة قال سبحانه: (وَأَمّا الّذين آمنوا فيعلمون أنّه الحقّ من ربّهم ).
وفي سورة الرعد قال سبحانه: (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أنّ مَا أُنْزِلَ إِلَيكَ مِنْ رَبّكَ الحَقُّ كمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُوا الاََلباب ).
وفي سورة البقرة قال: (وَما يُضِلُّ بهِ إِلاّ الفاسِقينَ )، وفسَّره بقوله: (الّذين ينقضون عهد الله من بَعْدِ ميثاقِهِ...) الخ.
وفي سورة الرعد، فسّر أُولي الاَلباب بقوله: (الّذينَ يُوفُونَ بعَهدِ اللهِ وَلا يَنْقُضُونَ المِيثاق ). (2)
فبمقارنة هذه الآيات يعلم أنّ المراد من ضرب المثل هو المعنى المعروف أي التمثيل بالبعوضة لتحقير معبوداتهم أو ما يشبه ذلك.
نعم ما نقلناه عن الاِمام الصادق (عليه السلام) ربّما يوَيد ذلك الوجه كما مرّ ،فتدبّر.

____________
1 ـ الرعد: 17 ـ 20.
2 ـ الرعد:20.

===============

( 95 )

سورة البقرة
4

التمثيل الرابع



(ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَانَّ مِنَ الحِجارَة لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الاََنْهارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُون ). (1)
تفسير الآية
جاءت الآية بعد قصة البقرة التي ذبحها بنو إسرائيل، وقد كانوا يجادلون موسى (عليه السلام) بغية التملّص من ذبحها، ولكن قاموا بذبحها و ما كادوا يفعلون.
وكان ذبح البقرة لاَجل تحديد هوية القاتل الذي قام بقتل ابن عمه غيلة واتهم بقتله شخصاً آخر من بني إسرائيل، فصاروا يتدارأون ويدفعون عن أنفسهم هذه التهمة، فرجعوا في أمرهم إلى موسى (عليه السلام) ، وشاء الله أن يظهر حقيقة الاَمر بنحو معجز، فقال لهم موسى (عليه السلام): (انّ الله يأمركم أن تذبحوا بقرة )، فلمّـا ذبحوها ـ بعد مجادلات طويلة ـ أمر سبحانه أن يضربوا المقتول ببعض البقرة حتى يحيى المقتول ويعين هوية القاتل.
قال سبحانه: (فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يحيي اللهُ المَوتى وَيُريكُمْ آياتِهِ
____________
1 ـ البقرة:74.

===============

( 96 )

لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون ). (1)
ومع روَية هذه المعجزة الكبرى التي كان من المفروض أن تزيد في إيمانهم وانصياعهم لنبيهم موسى (عليه السلام)، لكن ـ و للاَسف ـ قست قلوبهم بنحو يحكي سبحانه شدة تلك القساوة و يقول:
(ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كالحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَة ).
وبما أنّ الحجر هو المعروف بالصلابة والقساوة شبّه سبحانه قلوبهم بالحجارة وقال: إنَّ قُلوبهُمْ (كالحِجارَة أَوْ أَشَدّ قَسوَة) أي: بل أشدّ قسوة، فكلمة "أو" موضوعة مكان بل.
ثمّ إنّ القلوب إمّا بمعنى النفوس الناطقة، فعندئذ تكون نسبة القساوة إلى الروح نسبة حقيقية. أو انّ المراد منها هو العضو المودع في الجهة اليسرى من الصدر الذي ليس له دور سوى تصفية الدم وإرساله إلى سائر الاَعضاء، وعندئذٍ تكون النسبة مجازية، وإنّما نسبت القساوة إلى ذلك العضو ، لاَنّه مظهر من مظاهر الحياة الاِنسانية، وأوّل عضو يتأثر بالاَُمور النفسانية كالفرح والغضب والحزن والجزع، فلامنافاة في أن يكون المدرك هو النفس الناطقة، ومع ذلك يصحّ نسبة الاِدراك إلى القلب.
ثمّ إنّه سبحانه وصف قلوبهم بأنّها أشدّ قسوة من الحجارة، وعلّل ذلك بأُمور ثلاثة:
الاَوّل: (وَانّ مِنَ الحِجارة لَما يَتَفَجَّرُ مِنْه الاََنْهار ).
الثاني: (وَانَّ مِنْها لما يَشَّقّق فيَخرج مِنْهُ الماء ).

____________
1 ـ البقرة:73.

===============

( 97 )

الثالث: (وَإنّ مِنْها لما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله ).
أمّا الاَوّل: أي تفجّر الاَنهار من الحجارة، كالعيون الجارية من الجبال الصخرية.
وأمّا الثاني: كالعيون الحادثة عند الزلازل المستتبعة للانشقاق والانفجار المستعقب لجريان الاَنهار.
وأمّا الثالث: كهبوط الحجارة من الجبال العالية إلى الاَودية المنخفضة من خشية الله .
ولا مانع من أن يكون للهبوط علة طبيعية كالصواعق التي تهبط بها الصخور وعلة معنوية التي كشف عنها الوحي، وهي الهبوط من خشية الله .
وعلى ضوء ذلك فالحجارة على الرغم من صلابتها تتأثر طبقاً للعوامل السالفة الذكر، وأمّا قلوب بني إسرائيل فهي صلبة لا تنفعل أمام وحيه سبحانه وبيان رسوله، فلا تفزع نفوسهم ولا تخشع لاَمره ونهيه.
ومن عجيب الاَمر أنّ بني إسرائيل رأوا بأُمّ أعينهم ليونة الحجارة حيث استسقى موسى لقومه، فأمر بأن يضرب بعصاه الحجر ، فلمّا ضربه انفجرت منه اثنتا عشرة عيناً بعدد الاَسباط .
ثمّ إنّ ظاهر الآية نسبة الشعور إلى الحجارة حيث إنّها تهبط من خشية الله ، وهذه حقيقة علمية كشف عنها الوحي وإن لم يصل إليها الاِنسان بأدواته الحسية.
يقول صدر المتألهين: إنّ الكون بجميع أجزائه يسّبح لله ويحمده ويثني عليه تعالى عن شعور، فلكلّ موجود من هذه الموجودات نصيب من الشعور والاِدراك بقدر ما يملك من الوجود من نصيب.

===============

( 98 )

وعلى هذا الشعور تسّبح الموجودات كلّها، خالقها وبارئها وربّها سبحانه وتنزّهه عن كلّ نقص وعيب.
ثمّ يقول: إنّ العلم والشعور والاِدراك كلّ ذلك متحقّق في جميع مراتب الوجود، ابتداء من "واجب الوجود" إلى النباتات والجمادات، وانّ لكلّ موجود يتحلّى بالوجود سهماً من الصفات العامة كالعلم والشعور والحياة. و...و... ولا يخلو موجود من ذلك أبداً، غاية ما في الاَمر أنّ هذه الصفات قد تخفى علينا ـ بعض الاَحيان ـ لضعفها وضآلتها.
على أنّ موجودات الكون كلما ابتعدت عن المادة والمادية، واقتربت إلى التجرد، أو صارت مجردة بالفعل ازدادت فيها هذه الصفات قوة وشدة ووضوحاً، وكلّما ازدادت اقتراباً من المادة والمادية، وتعمّقت فيها، ضعفت فيها هذه الصفات، وضوَلت حتى تكاد تغيب فيها بالمرّة، كأنّها تغدو خلوة من العلم والشعور والاِدراك، ولكنّها ليست كذلك ـ كما نتوهم ـ إنّما بلغ فيها ذلك من الضعف، والضآلة بحيث لا يمكن إدراكها بسهولة وسرعة. (1)
وليست هذه الآية هي الفريدة في بابها، بل هناك آيات توَكد على جريان الشعور في أجزاء العالم من الذرة إلى المجرّة.
يقول سبحانه: (تُسَبّحُ لَهُ السَّمواتُ السَّبْعُ وَالاََرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَىْءٍ إِلاّ يُسَبّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً ). (2)
وبما أنّنا بسطنا الكلام في سريان الشعور إلى أجزاء العالم برمّته في الجزء الاَوّل من هذه الموسوعة، فلنقتصر على ذلك، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى محلّه.

____________
1 ـ الاَسفار:1|118 و 6|139، 140.
2 ـ الاِسراء:44.

===============

( 99 )

سورة البقرة
5

التمثيل الخامس


(وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاّ دُعاءً وَنِداءً صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ ). (1)
تفسير الآية
النعيق: صوت الراعي لغنمه زجراً، يقال: نعق الراعي بالغنم، ينعق نعيقاً، إذا صاح بها زجراً.
والنداء: مصدر نادى ينادي مناداة، وهو أخص من الدعاء، ففيه الجهر بالصوت ونحوه، بخلاف الدعاء.
وفي تفسير الآية وجوه:
الاَوّل: انّ الآية بصدد تشبيه الكافرين بالناعق الذي ينعق بالغنم، ولا يصح التشبيه عندئذٍ إلاّ إذا كان الناعق أصم، ويكون معنى الآية: انّ الذين كفروا الذين لا يتفكرون في الدعوة الاِلهية، كمثل الاَصم الذي ينعق بما لا يسمع نفسه ولا يميز من مداليل نعاقه معنى معقولاً إلاّ دعاءً ونداءً وصوتاً بلا معنى.
وجه التشبيه: انّ الناعق أصم كما أنّ هوَلاء الكافرين صم بكم عمي لا يعقلون.

____________
1 ـ البقرة:171.

===============

( 100 )

وفي هذا المعنى المشبه هو الكافرون الذين لا يفهمون من الدعوة النبوية إلاّ صوتاً ودعوة فارغة من المعنى.
والمشبه به: هو الناعق الاَصم الذي ينعق بالغنم، ولكن لا يسمع من نعاقه إلاّ دعاءً ونداءً.
وهذا الوجه وإن كان ينطبق على ظاهر الآية، ولكنّه بعيد من حيث المعنى، إذ لو كان الهدف هو التركيز على أنّ الكافرين صم بكم عمي لا يعقلون لكفى تشبيههم بالحيوان الذي هو أيضاً كذلك، فما هو الوجه لتشبيههم بإنسان عاقل أخذ منه سمعه لا يسمع من نعاقه إلاّ صوتاً ونداءً؟
الثاني: انّ المشبه هو النبي (صلى الله علثيه وآله وسلم)، والمشبه به هو الناعق للغنم، والمراد ومثلك أيها النبي في دعاء الذين كفروا كمثل الذي ينعق في البهائم التي لا تسمع من نعيقه إلاّ دعاءً ونداءً ما، فتنزجر بمجرد قرع الصوت سمعها من غير ان تعقل شيئاً، فهم ـ الكافرون ـ صمّ لا يسمعون كلاماً يفيدهم، وبكم لا يتكلمون بما ينفع، وعمي لا يبصرون، فهم لا يعقلون شيئاً، لاَنّ الطرق الموَدية إلى التعقل موصدة عليهم.
ومن ذلك ظهر أنّ في الكلام قلباً أو عناية أُخرى يعود إليه، فانّ المثل بالذي ينعق بما لا يسمع إلاّ دعاءً ونداءً مثل الذي يدعوهم إلى الهدى لا مثل الكافرين المدعوين إلى الهدى، إلاّ انّ الاَوصاف الثلاثة التي استنتجت واستخرجت من المثل وذكرت بعده، وهي قوله: (صمّ بكمٌ عميٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُون) ، لما كانت أوصافاً للذين كفروا لا لمن يدعوهم إلى الحقّ استوجب ذلك أن ينسب المثل إلى الذين كفروا لا إلى رسول الله تعالى فأنتج ما أشبه القلب. (1)

____________
1 ـ الميزان:1|420.

===============

( 101 )

ثمّ إنّ صاحب المنار فسّر الآية على الوجه الاَوّل وقال: (مثل الذين كفروا) أي صفتهم في تقليدهم لآبائهم وروَسائهم كمثل الذي لا يسمع إلاّ دعاء ونداءً، أي كصفة الراعي للبهائم السائمة ينعق ويصيح بها في سوقها إلى المرعى ودعوتها إلى الماء وجزها عن الحمى، فتجيب دعوته وتنزجر بزجره بما ألفت من نعاقه بالتكرار. شبّه حالهم بحال الغنم مع الراعي يدعوها فتقبل، ويزجرها فتنزجر، وهي لا تعقل مما يقول شيئاً، ولا تفهم له معنى وإنّما تسمع أصواتاً تقبل لبعضها وتدبر للآخر بالتعويد، ولا تعقل سبباً للاِقبال ولا للاِدبار. (1)
يلاحظ عليه: أنّ الآية بصدد ذمهم وانّهم لا يعتنقون الاِيمان ولا يمتثلون الاَوامر الاِلهية ونواهيها، وعلى ذلك تصبح الآية نوع مدح لهم، لاَنّهم لو كانوا كالبهائم السائمة يجيبون دعوة النبي كقبولها دعوة الراعي وينزجرون بزجره(صلى الله عليه وآله وسلم) كانتهائها عن نهي الراعي، فيكون ذلك على خلاف المقصود، فانّ المقصود بشهادة قوله (صم بكم عمي )انّهم لا يسمعون كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)ولا ينطقون بالحقّ ولا ينظرون إلى آيات الله وانّهم في واد والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في واد آخر.
وأين هم من البهائم السائمة التي تقع تحت يد الراعي فتنتهى بنهيه؟!

____________
1 ـ تفسير المنار:2|93ـ 94.

===============

( 102 )

سورة البقرة
6

التمثيل السادس


(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الّذينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ البَأْساءُ وَالضَّرّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالّذين آمنوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ ). (1)
نزلت الآية عندما حوصر المسلمون واشتد الخوف والفزع بهم في غزوة الاَحزاب فجاءت الآية لتثبّت قلوبهم وتعدهم بالنصر.
وقيل: إنّ عبد الله بن أُبي قال للمسلمين عند فشلهم في غزوة أحد: إلى متى تتعرضون للقتل، ولو كان محمّد نبياً لما واجهتم الاَسر والتقتيل؟، فنزلت الآية.
تفسير الآية
وردت لفظة "أم" للاِضراب عما سبق و تتضمن معنى الاستفهام، و المعنى "بل أحسبتم أن تدخلوا الجنة".
و (البَأساء ): هي الشدة المتوجهة إلى الاِنسان من خارج نفسه كالمال والجاه والاَهل.
و"الضرّاء": هي الشدة التي تصيب نفس الاِنسان كالجرح و القتل، وقيل:
____________
1 ـ البقرة:214.

===============

( 103 )

انّ "البأساء"نقيض "النعماء"، "الضراء" نقيض "السراء" ، و"الزلزلة" شدة الحركة، و الزلزال البلية المزعجة لشدة الحركة والجمع زلازل، وأصله من قولك زلّ الشيء عن مكانه، ضوعف لفظه بمضاعف معناه، نحو صرى وصرصر، وصلى وصلصل، فإذا قلت زلزلته، فمعناه كرّرت تحريكه عن مكانه.
وقد جاء ما يقرب من مضمون الآية في آيات أُخرى، منها قال سبحانه: (وَالصّابِرينَ فِي البَأْساءِ وَالضَّرّاءِ وَحِينَ البَأْسِ أُولئِكَ الّذينَ صَدَقُوا وَأُوْلئِكَ هُمُ المُتَّقُون ). (1)
وقال سبحانه: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالبَأْساءِ وَالضَّرّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُون ). (2)
وقال سبحانه: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍ إِلاّ أَخَذْنا أَهْلَهَا بِالبَأْساءِ والضَّرّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرّعُون ). (3)
تدلُّ مجموع هذه الآيات على دوام الابتلاء والامتحان في جميع الاَُمم خصوصاً في الاَُمة الاِسلامية.
ثمّ إنّ الهدف من امتحان أبناء البشر هو تحصيل العلم بكفاءة الممتحن، لكنّه فيه سبحانه يستهدف إلى إخراج ما بالقوة من الكمال إلى الفعلية مثلاً: فانّ إبراهيم (عليه السلام) كان يتمتع بموهبة التفاني في الله و بذل ما يملك في سبيله غير انّه لم تكن لها ظهور و بروز، فلما وقع في بوتقة الامتحان ظهرت تلك الموهبة إلى الوجود بعد ما كانت بالقوة.

____________
1 ـ البقرة:177.
2 ـ الاَنعام:42.
3 ـ الاَعراف:94.

===============

( 104 )

وما ذكرنا هو المستفاد من الآيات وقد صرح به الاِمام أمير الموَمنين (عليه السلام) في بعض خطبه: قال:
"لا يقولنّ أحدكم: اللّهمّ إنّي أعوذ بك من الفتنة، لاَنّه ليس أحد إلاّ و هو مشتمل على فتنة، ولكن من استعاذ فليستعذ من مضلاّت الفتن، فانّ الله سبحانه يقول: (وَاعْلَمُوا أنّما أَموالكُمْ وَأَولادكُمْ فِتْنَة) ومعنى ذلك انّه يختبرهم بالاَموال والاَولاد ليتبيّن الساخط لرزقه والراضي بقسمه، وإن كان سبحانه أعلم بهم من أنفسهم، ولكن لتظهر الاَفعال التي بها يُستحق الثواب والعقاب". (1)
إلى هنا تبين معنى مفردات الآية وسبب نزولها والآيات التي وردت في هذا الصدد في حقّ سائر الاَُمم.
إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى تفسير الآية.
يقول سبحانه: إنّ الابتلاء بالبأساء والضراء سنة إلهية جارية في الاَُمم كافة ولا تختص بالاَُمة الاِسلامية، فالتمحيص وتمييز الموَمن الصابر عن غير الصابر رهن الابتلاء. فلا يتمحض إيمان المسلم إلاّ إذا غربل بغربلة الامتحان ليخرج نقياً.ولا يترسخ الاِيمان في قلبه إلاّ من خلال الصمود والثبات أمام أعاصير الفتن الهوجاء.
وكأنّ الآية تسلية لنبيه وأصحابه مما نالهم من المشركين وأمثالهم، لاَنّ سماع أخبار الاَُمم الماضية يسهّل الخطب عليهم، وانّ البلية لا تختص بهم بل تعم غيرهم أيضاً، ولذلك يقول: (أَمْ حَسِبْتُمْ )أي أظننتم وخلتم أيها الموَمنون أن تدخلوا الجنة (ولمّا يَأْتِكُمْ مَثلُ الّذين خَلوا مِنْ قَبْلِكُم )، أي أن تدخلوا الجنة ولما تبتلوا وتمتحنوا بمثل ما ابتليت به الاَُمم السالفة وامتحنوا به. فعليكم بالصبر والثبات كما صبر هوَلاء وثبتوا.

____________
1 ـ نهج البلاغة: قسم الحكم: الحكمة 93.

===============

( 105 )

وعلى ضوء هذا فالمثل بمعنى الوصف ـ وقد تقدم منّا القول ـ بأنّ من معانى المثل هو الوصف. فقوله: (وَلَما يَأْتِكُم مثل الذين خلوا من قبلكم مسّتهم البأساء والضراء )، أي" لمّا يأتكم وصف الذين خلوا من قبلكم" فلا يدخلون حظيرة الاِيمان الكامل إلاّ أن يكون لهم وصف مثل وصف الذين واجهوا المصائب والفتن بصبر وثبات وعانوا الكثير من القلق والاضطراب، كما قال تعالى في حقّ الموَمنين: (وَزلزلوا زِلزالاً شَديداً) ففي خضّم هذه الفتنة التي تنفد فيها طاقات البشر ، فإذا بالرحمة تنزل عليهم من خلال دعاء الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وصالح الموَمنين.
كما قال سبحانه: (وَزلزلوا حتى يقول الرسول والّذين آمنوا معه متى نصر الله)والجملة ليست إلاّ طلب دعاء للنصر الذي وعد الله به رسله والموَمنين بهم واستدعاءً له، كما قال تعالى: (وَلَقدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُون ) (1)، وقال تعالى: (كَتَبَ اللهُ لاََََغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلي ). (2)
يقول الزمخشري: ومعناه طلب الصبر وتمنّيه واستطالة زمان الشدة، وفي هذه الغاية دليل على تناهي الاَمر في الشدة، وتماديه في العظم... فإذا لم يبق للرسل صبر حتى ضجّوا، كان ذلك الغاية في الشدة التي لا مطمح ورائها.
وعند ذلك يخاطبون بقوله سبحانه: (ألا إنّ نصر الله قريب) أي يقال لهم ذلك إجابة لهم إلى طلبتهم من عاجل النصر. (3)
ثمّ إنّ القراءة المعروفة هي الرفع في قوله: (حَتى يَقول الرسول )، وعند ذلك تكون الجملة لحكاية حال الاَُمم الماضية . وقرىَ بنصب "يقول" و على
____________
1 ـ الصافات:171ـ172.
2 ـ المجادلة:21.
3 ـ الكشاف:1|270في تفسير الآية.

===============

( 106 )

هذا تكون الجملة في محل الغاية لما سبقها وهو قوله (مسّتهم البأساء والضراء) و (زلزلوا) ولعل القراءة الا َُولى أفضل لبعد كون الجملة غاية لمس البأساء والضراء والزلزال.
وقد تبين ممّا ذكرنا أنّ المثل بمعنى التمثيل والتشبيه، فتشبيه حال الاَُمة الاِسلامية بالاَُمم السابقة في أنّهم يعمّهم البأساء والضراء والزلزال، فإذا قرب نفاد طاقاتهم وصمودهم في المعارك يدعو الرسول ومن معه من الموَمنين لهم بالنصر والغلبة والنجاح.
ثمّ إنّ بعض الكتّاب ممن كتب في أمثال القرآن جعل الآيات الثلاث التالية من الاَمثال القرآنية. (1)
أ: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِي حاجَّ إِبْراهيمَ فِي رَبّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهيمُ رَبّي الّذي يُحْيي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الّذِي كَفَرَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَومَ الظّالِمين).(2)
ب: (أَوْ كَالّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللهُ مائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مائَةَ عامٍ فَانْظُر إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُر إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنّاسِ وَانْظُرْ إِلى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلّ شَىْءٍ قَدِيرٌ ). (3)

____________
1 ـ الدكتور محمد حسين علي الصغير: الصورة الفنية في المثل القرآني:144؛و الدكتور إسماعيل إسماعيلي: تفسير أمثال القرآن:191.
2 ـ البقرة: 258.
3 ـ البقرة:259.

===============

( 107 )

ج: (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَ لَمْ تُوَْمِن قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِى قالَ فَخُذْ أَرْبَعةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ). (1)
ولا يخفى ما فيها من الضعف.
أمّا الآية الاَُولى فلاَنّ المراد من التمثيل هو التشبيه الذي يصور فيه غالباً غير المحسوس بالمحسوس ويقرّب المعنى إلى ذهن المخاطب، ولكن التشبيه في الآية الا َُولى الذي قام به مناظر إبراهيم كان تشبيهاً غير صحيح، وذلك لاَنّه لمّا وصف إبراهيم ربّه بأنّه يحيي ويميت أراد منه من يضفي الحياة على الجنين ويقبضه عندما يَطعن في السن، ولكن المناظر فسّره بوجه أعم وقال: أنا أيضاً أُحيي وأُميت، فكان إحياوَه بإطلاق سراح من كُتب عليه القتل، وقتل من شاء من الاَحياء، مع الفرق الشاسع بين الاِحياء والاِماتة في كلام الخليل وكلام المناظر، فلم يكن هناك أي تشبيه بل مغالطة واضحة فيه.
وأمّا الآية الثانية، فلم يكن هناك أي تشبيه أيضاً، لاَنّه يشترط في التمثيل الاختلاف بين المشبه و المشبه به اختلافاً نوعياً، كتشبيه الرجل الشجاع بالاَسد ومُحمرَّ الشقيق بأعلام الياقوت، و أمّا الآية المباركة فانّما هي من قبيل إيجاد مِثْل للمشبه، فالرجل لما مرّ على القرية الخاوية على عروشها و قد شاهد بأنّه باد أهلها ورأي عظاماً في طريقها إلى البِلاء فقال: (كيف يحيي هذه الله بعد موتها) فأماته الله سبحانه مائة عام ثم أحياه كما هو ظاهر الآية، وعلى ذلك فأوجد مِثْلاً للمشبه مع الوحدة النوعية وإنّما الاختلاف في الصنف، وقد عرفت لزوم وجود التباين النوعي بين المشبّه و المشبّه به.

____________
1 ـ البقرة:260.

===============

( 108 )

وأمّا الآية الثالثة، فمفادها هو أنّ إبراهيم كان موَمناً بقدرته على إحياء الموتى ولكن طلب الاِحياء ليراه بعينه، لاَنّ للعيان أثراً كبيراً في الاطمئنان ورسوخ العلم في القلب، فطلب الروَية ليطمئن قلبه ويزداد يقينه، فخاطبه سبحانه بقوله: (فَخُذْ أَربَعة من الطّير فصرهنّ إليك )، أي أملهنّ وأجمعهنّ وضمهنّ إليك. (ثُمّ اجعل عَلى كُلّ جَبل مِنهُنَّ جزءاً) هذا دليل على أنّه سبق الاَمر بقطعهنّ وذبحهنّ. (ثمّ ادعُهُنَّ يأتينك سعياً )، ولم يذكر في الآية قيام إبراهيم بهذه الاَعمال استغناء عنه بالقرائن.
هذا هو مفهوم الآية وأمّا انّها ليست مَـثَلاً، فلعدم توفر شرائط المثَل من المشبه والمشبه به، وإنّما هو من قبيل إيجاد الفرد من الاَمر الكلي أي إحياء الموتى سواء أكان إنساناً أم لا.
فالاَولى عدّ هذه الآيات من القصص التي حكاها القرآن الكريم للعبرة والعظة لكن لا في ثوب المثل. فلننتقل إلى التمثيل السابع في سورة البقرة.

( 109 )

سورة البقرة
7

التمثيل السابع


(مَثَلُ الّذينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ في سَبيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلّ سُنْبُلَةٍ مائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيم *الّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ في سَبِيلِ اللهِ ثُمّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا منّاً وَلا أَذى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُون * قَولٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللهُ غَنِىّ حَليم ). (1)
تفسير الآيات
وعد سبحانه في غير واحد من الآيات بالجزاء المضاعف، قال سبحانه: (مَنْ ذَا الّذِى يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثيِرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وإليهِ تُرْجَعُون ). (2)
ولاَجل تقريب هذا الاَمر أتى بالتمثيل الآتي وهو:
أنّ مثل الاِنفاق في سبيل الله كمثل حبة أنبتت ساقاً انشعب سبعة شعب خرج من كلّ شعبة سنبلة فيها مائة حبة فصارت الحبة سبعمائة حبة،بمضاعفة الله لها، ولا يخفى أنّ هذا التمثيل أبلغ في النفوس من ذكر عدد السبعة، فإنّ في
____________
1 ـ البقرة:261ـ 263.
2 ـ البقرة:245.

===============

( 110 )

هذه إشارة إلى أنّ الاَعمال الصالحة يمليها الله عزّ وجلّ لاَصحابها كما يملي لمن بذر في الاَرض الطيبة.
وظاهر الآية أنّ المشبه هو المنفق، والمشبه به هو الحبة المتبدلة إلى سبعمائة حبة، ولكن التنزيل في الواقع بين أحد الاَمرين:
أ: تشبيه المنفق بزارع الحبة.
ب: تشبيه الاِنفاق بالحبة المزروعة.
ففي الآية أحد التقديرين.
ثمّ إنّ ما ذكره القرآن من التمثيل ليس أمراً وهمياً وفرضاً خيالياً بل هو أمر ممكن واقع، بل ربما يتجاوز هذا العدد، فقد حكى لى بعض الزُّرّاع أنّه جنى من ساق واحد ذات سنابل متعددة تسعمائة حبة، ولا غرو في ذلك فانّه سبحانه هو القابض والباسط.
ثمّ إنّه سبحانه فرض على المنفق في سبيل الله الطالب رضاه ومغفرته أن لا يتبع ما أنفقه بالمنّ والاَذى.
أمّا المنُّ، فهو أن يتطاول المعطي على من أعطاه بأن يقول: "ألم أعطك""ألم أحسن إليك" كلّ ذلك استطالة عليه، وأمّا الاَذى فهو واضح.
فهوَلاء ـ أي المنفقون ـ غير المتبعين إنفاقهم بالمنّ والاَذى (لهم أجرهم عند ربّهم ولا خوف عليهم ولا هم يَحْزنون ).
ثمّ إنّه سبحانه يرشد المعوزين بأن يردّوا الفقراء إذا سألوهم بأحد نحوين:
أ: (قول معروف )كأن يتلطف بالكلام في ردّ السائلين والاعتذار منهم والدعاء لهم.

===============

( 111 )

ب: (ومغفرة )لما يصدر منهم من إلحاف أو إزعاج في المسألة.
فالمواجهة بهاتين الصورتين (خير من صدقة يتبعها أذى ).
وعلى كلّ حال فالمغني هو الله سبحانه، كما يقول: (وَالله غني )، أي يغني السائل من سعته ،ولكنّه لاَجل مصالحكم في الدنيا والآخرة استقرضكم في الصدقة وإعطاء السائل. (حليم) فعليكم يا عباد الله بالحلم و الغفران لما يبدر من السائل.

===============

( 112 )

سوره البقرة
8

التمثيل الثامن


(يَا أَيُّها الّذِينَ آمَنوا لا تُبطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالمَنّ وَالاََذى كَالّذى يُنْفِقُ مَالَهُ رئَاءَ النّاسِ وَلا يُوَْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصَابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُون َعَلى شيءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لا يَهْدِي القَومَ الكَافِرِين).(1)
الرئى من الروَية، وسمي المرائي مرائياً، كأنّه يفعل ليرى غيره ذلك.
والصفوان واحدته صفوانة، مثل سعدان وسعدانة، ومرجان و مرجانة، وهي الحجر الاَملس.
و"الوابل": المطر الشديد الوقع.
و "الصلد": الحجر الاَملس أي الصلب،و"الصلد" من الاَرض مالا ينبت فيه شيئاً لصلابته.
قدمرّ في التمثيل السابق انّ التلطف بالكلام في رد السائل والاعتذار منه، والعفو عما يصدر منه من إلحاف وإزعاج، أفضل من أن ينفق الاِنسان ويتبع عمله بالاَذى.
وأمّا ما هو سببه، فقد بيّنه سبحانه في هذا التمثيل، وذلك بأنّ المنَّ والاَذى
____________
1 ـ البقرة: 264.

===============

( 113 )

يبطل الاِنفاق السابق، لاَنّ ترتب الاَجر على الاِنفاق مشروط بترك تعقبه بهما، فإذا اتبع عمله بأحد الاَمرين فقد افتقد العمل شرط استحقاق الاَجر.
وبهذا يتبيّن أنّ الآية لا تدلّ على حبط الحسنة بالسيئة، لاَنّ معنى الحبط هو إبطال العمل السىّء الثواب المكتوب المفروض، والآية لا تدلّ عليه لما قلنا من احتمال أن يكون ترتب الثواب على الاِنفاق مشروطاً من أول الاَمر بعدم متابعته بالمنِّ والاَذى في المستقبل، فإذا تابع عمله بأحدهما فلم يأت بالواجب أو المستحب على النحو المطلوب، فلا يكون هناك ثواب مكتوب حتى يزيله المنّ والاَذى.
وأمّا استخدام كلمة الاِبطال، فيكفي في ذلك وجود المقتضي للاَجر وهو الاِنفاق، ولا يتوقف على تحقّق الاَجر ومفروضيته على الله بالنسبة إلى العبد.
ثمّ إنّ الحبط باطل عقلاً وشرعاً.
أمّا الاَوّل فلما قُرِّر في محله من استلزامه الظلم، لاَنّ معنى الحبط أنّ مطلق السيئة يذهب الحسنات وثوابها على وجه الاِطلاق مع أنّه مستلزم للظلم، لاَنّ من أساء وأطاع وكانت إساءته أكثر ـ فعلى القول بالاِحباط ـ يكون بمنزلة من لم يحسن.
وإن كان إحسانه أكثر يكون بمنزلة من لم يسىَ، وإن تساويا يكون مساوياً لمن يصدر عنهما. (1)
وأمّا شرعاً فلقوله سبحانه: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَذَرَّةٍ شَراً يَرَه). (2)

____________
1 ـ كشف المراد: المقصد السادس، المسألة السابعة.
2 ـ الزلزلة:7ـ 8.

===============

( 114 )

وإلى هذين الوجهين أشار المحقّق الطوسى بقوله:
والاِحباط باطل، لاستلزامه الظلم ولقوله تعالى: (فَمَنْ يَعْمَل مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه). (1)
ثمّ إنّ العبد بما انّه لا يملك شيئاً إلاّ بما أغناه الله وأعطاه، فهو ينفق من مال الله سبحانه، لاَنّه وما في يده ملك لمولاه فهو عبد لا يملك شيئاً إلاّ بتمليكه سبحانه، فمقتضى تلك القاعدة أن ينفق لله وفي سبيل الله ولا يتبع عمله بالمنّ والاَذى.
وبعبارة أُخرى: أنّ حقيقة العبودية هي عبارة عن حركات العبد وسكناته لله سبحانه، ومعه كيف يسوّغ له اتّباع عمله بالمنِّ والاَذى.
ولذلك يقول سبحانه: (يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالمَنّ وَالاََذى ).
ثمّ إنّه سبحانه شبّه أصحاب المنِّ والاَذى بالمرائي الذي لا يبتغي بعمله مرضاة الله تعالى، ولا يقصد به وجه الله غير انّ المانّ والموَذي يقصد بعمله مرضاة الله ثمّ يتبعهما بما يبطله بالمعنى الذي عرفت، والمرائي لا يقصد بأعماله وجه الله سبحانه فيقع عمله باطلاً من رأس، ولذلك صحّ تشبيههما بالمرائي مثل تشبيه الضعيف بالقوي.
وأمّا حقيقة التمثيل فتوضيحها بالبيان التالي:
نفترض أرضاً صفواناً أملس عليها تراب ضئيل يخيل لاَوّل وهلة أنّها أرض نافعة صالحة للنبات، فأصابها مطر غزير جرف التراب عنها فتركها صلداً
____________
1 ـ المصدر نفسه.

===============

( 115 )

صلباً أملس لا تصلح لشىء من الزرع، كما قال سبحانه: (كمَثَل صَفْوان عَلَيْهِ تُراب فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكهُ صَلداً لا يَقْدِرُون على شيء مِمّا كسبوا ).
فعمل المرائي له ظاهر جميل وباطن ردىء، فالاِنسان غير العارف بحقيقة نيّة العامل يتخيل أنّ عمله منتج، كما يتصور الاِنسان الحجر الاَملس الذي عليه تراب قليل فيتخيل انّه صالح للنبات، فعند ما أصابه مطر غزير شديد الوقع ونفض التراب عن وجه الحجر تبين أنّه حجر أملس لا يصلح للزراعة، فهكذا عمل المرائي إذا انكشفت الوقائع ورفعت الاَستار تبين أنّه عمل ردىء عقيم غير ناتج.
ثمّ إنّ المانّ و الموَذي بعد الاِنفاق أشبه بعمل المرائي .

===============

( 116 )

سورة البقرة
9

التمثيل التاسع


(وَمَثَلُ الّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ ابْتِغاءَ مَرضَاتِ اللهِ وَتَثْبيتاً مِنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَين فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلّ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ). (1)
تفسير الآية
"الربوة" : هي التلُّ المرتفع .
و"الطلّ": المطر الخفيف، يقال: أطلّت السماء فهي مطلِّة. وروضة طلّة ندية.
شبّه سبحانه في التمثيل السابق عمل المانِّ والموَذي بعد الاِنفاقب والمرائى بعمله بالاَرض الصلبة التي عليها تراب يصيبها مطر غزير يكتسح التراب فلا يظهر إلاّ سطح الحجر لخشونته وصلابته، على عكس التمثيل في هذه الآية حيث إنّها تشبّه عمل المنفق لمرضاة الله تبارك و تعالى بجنة خضراء يانعة تقع على أرض مرتفعة خصبة تستقبل النسيم الطلق و المطر الكثير النافع، وقيّد المشبه به ببستان مرتفع عن الاَرض، لاَنّ تأثير الشمس والهواء فيه أكمل فيكون أحسن منظراً وأذكى ثمراً، أمّا الاَماكن المنخفضة التي لا تصيبها الشمس في الغالب إلاّ قليلاً فلا تكون كذلك .

____________
1 ـ البقرة:265.

===============

( 117 )

قال الرازي: إنّ المراد بالربوة الاَرض المستوية الجيدة التربة بحيث تربو بنزول المطر عليها وتنمو ، كما قال سبحانه: (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الماء اهْتَزَّت وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ ).
ويوَيده أنّ المثل مقابل الصفوان الذي لا يوَثر فيه المطر.
وعلى كلّ حال فهذا النوع من الاَرض إن أصابها وابل أتت أُكلها ضعفين فكان ثمرها مِثْلَي ما كانت تثمر في العادة، وإن لم يصبها وابل بل أصابها الطلّ تعطي أُكلها حسب مايترقّب منها.
فالذين ينفقون أموالهم في سبيل الله أشبه بتلك الجنة ذات الحاصل الوافر المفيد والثمين.
ثمّ إنّ قوله سبحانه: (ابتغاء مرضات الله و تثبيتاً من أنفسهم )بيان لدوافع الاِنفاق وحواجزه وهو ابتغاء مرضاة الله أولاً، وتقوية روح الاِيمان في القلب ثانياً، ولعلّ السرّ في دخول "من" على (من أنفسهم )مع كونه مفعولاً لقوله (تثبيتاً) لبيان أنّ هذا المنفق ينفق من نفس قد روّضها وثبّتها في الجملة على الطاعة حتى سمحت لله بالمال الغزير فهو يجعل من مقاصده في الاِنفاق، تثبيتها على طاعة الله وابتغاء مرضاته في المستقبل.

===============

( 118 )

سورة البقرة
10

التمثيل العاشر


(أَيَوَّدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الاََنْهارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلّ الثَّمَراتِ وَأَصابهُ الكِبَرُ وَلَهُ ذُرّيّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيّنُ اللهُ لَكُمُ الآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُون ). (1)
تفسير الآية
ودّ الشيء: أحبه. و"الجنة" هي الشجر الكثير الملتفّ كالبستان سمّيت بذلك، لاَنّها تجن الاَرض وتسترها وتقيها من ضوء الشمس ونحوه.
و"النخيل" جمع نخل أو اسم جمع.
و"الاَعناب" جمع عنب وهو ثمر الكرم، والقرآن يذكر الكرم بثمره والنخل بشجره لا بثمره.
و"الاِعصار" ريح عاصفة تستدير في الاَرض ثمّ تنعكس عنها إلى السماء حاملة معها الغبار كهيئة العمود، جمعه أعاصير، وخصّ الاَعاصير بما فيها نار، وقال: (إعصار فيه نار )، وفيه احتمالات:
أ: أن يكون المراد الرياح التي تكتسب الحرارة أثناء مرورها على الحرائق
____________
1 ـ البقرة:266.

===============

( 119 )

فتحمل معها النيران إلى مناطق نائية.
ب: العواصف التي تصاحبها الصواعق وتصيب الاَرض وتحيلها إلى رماد.
ج: البرد الشديد الذي يطلق على كلّ ما يتلف الشيء ولو بتجفيف رطوبته.
والمتعين أحد الاَوّلين دون الثالث، وإلاّ لكان له سبحانه أن يقول كمثل ريح صرّ وهو البرد الشديد، قال سبحانه في صدقات الكفار ونفقاتهم في الدنيا: (مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ في هذِهِ الحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ ريحٍ فِيهَا صِرّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُون ). (1)
نعم ربما يفسر الصرّ بالسموم الحارة القاتلة. (2)وعندئذ تّتحد الآيتان في المعنى.
وعلى كلّ حال فالمقصود هو نزول البلاء على هذه الجنة الذي يوَدي إلى إبادتها بسرعة.
ثمّ إنّه سبحانه بينما يقول: (جنّة من نَخيلٍ وَأَعْناب )الظاهر في كون الجنّة محفوفة بهما، يقول أيضاً: (فِيها مِنْ كُلّ الثَّمَرات )، فكيف يمكن الجمع بين الاَمرين؟
والظاهر انّ النخيل والاَعناب لمّا كانا أكرم الشجر وأكثرها نفعاًخصّهما بالذكر وجعل الجنة منهما، وإن كانت محتوية على سائر الاَشجار تغليباً لهما على غيرهما.
إلى هنا تم تفسير مفردات الآية.

____________
1 ـ آل عمران:117.
2 ـ مجمع البيان:1|491.

===============

( 120 )

وأمّا التمثيل فيتركب من مشبه ومشبه به.
أمّا المشبه فهو عبارة عمن يعمل عملاً صالحاً ثمّ يردفه بالسيئة، كما هو المروي عن ابن عباس، عندئذٍ يكون المراد من ينفق ويتبع عمله بالمنّ والاَذى.
قال الزمخشري: ضربت الآية مثلاً لرجل غني يعمل الحسنات، ثمّ بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله كلها. (1)
وأمّا المشبه به فهو عبارة عن رجل طاعن في السن لَحِقته الشيخوخة وله أولاد صغار غير قادرين على العمل وله جنّة محفوفة بالنخيل والاَعناب تجري من تحتها الاَنهار وله من كلّ الثمرات، وقد عقد على تلك الجنة آمالاً كبيرة، وفجأة هبّت عاصفة محرقة فأحرقتها وأبادتها عن بكرة أبيها فكيف يكون حال هذا الرجل في الحزن والحسرة والخيبة والحرمان بعد ما تلاشت آماله، فالمنفق في سبيل الله الذي هيأ لنفسه أجراً وثواباً أُخروياً عقد به آماله، فإذا به يتبع عمله بالمعاصي، فقد سلط على أعماله الحسنة تلك أعاصير محرقة تبيد كلّ ما عقد عليه آماله.

____________
1 ـ الكشاف:1|299.

===============

( 121 )

سورة البقرة
11

التمثيل الحادي عشر



(الّذينَ يَأْكُلُونَ الرّبا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَما يَقُومُ الّذي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ المَسِّ ذلِكَ بأنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرّبوا وَأَحَلَّ اللهُ البيعَ وَحَرَّمَ الرّبوا فَمَنْ جاءَهُ مَوعِظَةٌ مِنْ رَبّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولئِكَ أَصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ). (1)
تفسير الآية
"الربا" الزيادة كما في قولهم ربا الشيء يربو إذا زاد، والربا هو الزيادة على رأس المال، فلو أقرض أحد أحداً عشرة إلى سنة فأخذ منه في نهاية الاَجل أكثر ممّا دفع فهو ربا إذا شرطه في العقد.
و"التخبّط" والخبط بمعنى واحد ، و هو المشي على غير استواء، يقال: خبط البصير إذا اختلّت جهة مشيه، ويقال للذى يتصرف في أمر ولا يهتدي فيه: هو يخبط خبطة عشواء، أي يضرب على غير اتساق.
وعلى هذا فالمراد من قوله: (يَتَخَبَّطهُ الشَّيْطان )أي يخبطه الشيطان ويضربه، وبالتالي يصرعه.

____________
1 ـ البقرة:275.

===============

( 122 )

و"السَلَف" أي الماضي يقال سلف يسلف سلوفاً، ومنه الاَُمم السالفة أي الماضية.
وأمّا قوله (مِنَ المَسّ )فالظرف متعلق بيقوم، أي لا يقومون إلاّ كما يقوم المصروع من المسّ.
وحاصل معنى الآية أنّ آكل الربا لا يقوم إلاّ كقيام من يخبطه الشيطان فيصرعه، فكما أنّ قيامه على غير استواء فهكذا آكل الربا.
فالتشبيه وقع بين قيام آكل الربا و قيام المصروع من خبط الشيطان ، فيطرح هنا سوَالان:
الاَوّل: ما هو المراد من أنّ آكل الربا لا يقوم إلاّ كقيام المصروع؟
الثاني: ما هو المراد من كون الصرع من مس الشيطان؟
أمّا الاَوّل: فقد اختلف فيه كلمة المفسرين على وجوه:
1. ذهب أكثرهم إلى أنّ المراد قيامهم يوم القيامة قيام المتخبطين، فكأنّ آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنوناً، وذلك كالعلامة المخصوصة بآكل الربا، فيعرفه أهل الموقف أنّه آكل الربا في الدنيا.
و على ضوء هذا فيكون معنى الآية انّهم يقومون مجانين كمن أصابه الشيطان بمسٍّ.
2. انّهم إذا بعثوا من قبورهم خرجوا مسرعين لقوله: (يخرجون من الاَجداث سراعاً )إلاّ آكلة الربا فانّهم يقومون ويسقطون ، لاَنّه سبحانه أرباه في بطونهم يوم القيامة حتى أثقلهم فهم ينهضون ويسقطون ويريدون الاِسراع ولا يقدرون.

===============

( 123 )

ويوَيده ما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: أُسري بي إلى السماء رأيت رجالاً بطونهم كالبيوت فيها الحيّات ترى من خارج بطونهم، فقلت: من هوَلاء ياجبرئيل؟ قال: هوَلاء آكلة الربا.
3. انّ المراد من المسّ ليس هو الجنون، و إن كان المسّ يستعمل فيه، بل المراد من تبع الشيطان وأجاب دعوته، كما هو الحال في قوله سبحانه: (إِنَّ الّذينَ اتَّقَوا إِذا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُون ) (1)، وذلك لاَنّ الشيطان يدعو إلى طلب اللّذات والشهوات والاشتغال بغير الله ، فهذا هو المراد من مسّ الشيطان، و من كان كذلك كان في أمر الدنيا متخبطاً، فتارة يجرّه الشيطان إلى اتّباع النفس والهوى، وتارة تجرّه الفطرة إلى الدين والتقوى فتضطرب حياته ويسودها القلق.
فلا شكّ أنّ آكل الربا يكون مفرطاً في حب الدنيا متهالكاً عليها، ولذلك تكون حياته الدنيوية حياة غير منظمة وعلى غير استواء.
وهناك وجه رابع ذكره السيد الطباطبائي وهو:
إنّ الاِنسان الممسوس الذي اختلّت قوته المميزة لا يفرق بين الحسن والقبيح، والنافع والضار، والخير والشر، فهكذا حال المرابي في أخذه للربا فانّ الذي تدعو إليه الفطرة أن يعامل بمعاوضة ما عنده من المال الذي يستغني عنه مما عند غيره من المال الذي يحتاج إليه. وأمّا إعطاء المال وأخذ ما يماثله بعينه مع زيادة، فهذا شيء ينهدم به قضاء الفطرة وأساس المعيشة، فانّ ذلك ينجرّ من جانب المرابى إلى اختلاس المال من يد المدين وتجمّعه وتراكمه عند المرابي، فانّ هذا المال لا يزال ينمو و يزيد، ولا ينمو إلاّ من مال الغير، فهو
____________
1 ـ الاَعراف:201.

===============

( 124 )

بالانتقاص والانفصال من جانب، والزيادة والانضمام من جانب آخر.
وينجرّ من جانب المدين الموَدىى للربا إلى تزايد المصرف بمرور الزمان تزايداً لا يتداركه شيء مع تزايد الحاجة، وكلما زاد المصرف أي نما الربا بالتصاعد زادت الحاجة من غير أمر يجبر النقص ويتداركه وفي ذلك انهدام حياة المدين.
فالربا يضادّ التوازن والتعادل الاجتماعي ويفسد الانتظام الحاكم على هذا الصراط المستقيم الاِنساني الذي هدته إليه الفطرة الاِلهية.
وهذا هو الخبط الذي يبتلى به المرابي كخبط الممسوس، فانّ المراباة يضطره أن يختل عنده أصل المعاملة والمعاوضة فلا يفرّق بين البيع والربا، فإذا دُعي إلى أن يترك الربا ويأخذ بالبيع، أجاب: انّ البيع مثل الربا لا يزيد على الربا بمزية، فلا موجب لترك الربا وأخذ البيع، ولذلك استدل تعالى على خبط المرابين بما حكاه من قولهم: (إِنَّما البيعُ مثْل الرّبا ). (1)
وهناك سوَال: وهو انّه لماذا قيل البيع مثل الربا بل كان عليهم القول بأنّ الربا مثل البيع، لاَنّ الكلام في الربا لا في البيع فوجب عليهم أن يشبهوا الربا بالبيع، لا على العكس.
والجواب انّهم شبهوا البيع بالربا لاَجل المبالغة وهو انّهم جعلوا حلّية الربا أصلاً، وحلّية البيع فرعاً، فقالوا: إنّ البيع مثل الربا.
هذا كلّه حول الاَمر الاَوّل.
وأمّا الاَمر الثاني وهو كون الجنون معلولاً لوطأة الشيطان ومسّه، فنقول:
إنّ ظاهر الآية أنّ الجنون نتيجة تصرف الجن في المجانين، مع أنّ العلم
____________
1 ـ الميزان:2|411.

===============

( 125 )

الحديث كشف علّة الجنون وهو حدوث اختلالات في الاَعصاب الاِدراكية، فكيف يجمع بين مفاد الآية وما عليه العلم الحديث، وهذا من قبيل تعارض النقل والعقل؟
وأجاب عنه بعض المفسرين بأنّ هذا التشبيه من قبيل المجاراة مع عامّة الناس في بعض اعتقاداتهم الفاسدة حيث كان اعتقادهم بتصرف الجن في المجانين، ولا ضير في ذلك، لاَنّه مجرد تشبيه خال عن الحكم حتى يكون خطأً غير مطابق للواقع.
فحقيقة معنى الآية هو أنّ هوَلاء الآكلين للربا حالهم حال المجنون الذي يتخبطه الشيطان من المس، وأمّا كون الجنون مستنداً إلى مس الشيطان فأمر غير ممكن، لاَنّ الله سبحانه أعدل من أن يسلط الشيطان على عقل عبده، أو على عبده الموَمن. (1)
وأجاب عنه السيد الطباطبائي بأنّ الله تعالى أجلّ من أن يستند في كلامه إلى الباطل، و لغو القول بأي نحو كان من الاستناد إلاّ مع بيان بطلانه ورده على قائله، وقد قال تعالى في وصف كلامه: (وَإِنَّهُ لكِتابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ ). (2)
وقال تعالى: (إِنَّهُ لَقَولٌ فَصْلٌ * وَما هُوَ بِالْهَزْلِ ). (3)
وأمّا انّ استناد الجنون إلى تصرف الشيطان و ذهاب العقل ينافي عدله تعالى، ففيه انّ الاشكال بعينه مقلوب عليهم في اسنادهم ذهاب العقل إلى
____________
1 ـ نقله في الميزان: 2|413 ولم يذكر المصدر ؛ وفي تفسير المنار : 3|95 ما يقرب من ذلك نقله عن البيضاوى في تفسيره .
2 ـ فصلت:42.
3 ـ الطارق:13ـ 14.

===============

( 126 )

الاَسباب الطبيعية فانّها مستندة أخيراً إلى الله تعالى مع إذهابها العقل. (1)
وهناك كلام آخر للسيد الطباطبائي ولعلّه يقلع الشبهة: انّ استناد الجنون إلى الشيطان ليس على نحو الاستقامة ومن غير واسطة بل الاَسباب الطبيعية كاختلال الاَعصاب والآفة الدماغية أسباب قريبة وراءها الشيطان ، كما أنّ أنواع الكرامات تستند إلى الملك مع تخلل الاَسباب الطبيعية في البين، وقد ورد نظير ذلك فيما حكاه الله عن أيوب (عليه السلام) إذ قال: (أنّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ)(2)، وإذ قال: (أَنّى مَسَّنِيَ الضُرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ ) (3)والضرّ هو المرض وله أسباب طبيعية ظاهرة في البدن، فنسب ما به من المرض المستند إلى أسبابه الطبيعية إلى الشيطان. (4)

____________
1 ـ الميزان: 2|412.
2 ـ ص:41.
3 ـ الاَنبياء:83.
4 ـ الميزان:2|413.

===============

( 127 )

آل عمران
12

التمثيل الثاني عشر



(إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُون * الحَقُّ مِنْ رَبّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِين ). (1)
تفسير الآية
ذكر سبحانه كيفية ولادة المسيح من أُمّه "مريم العذراء" وابتدأ بيانه بقوله: (إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ...) وانتهى بقوله: (قالَتْ رَبّ أَنّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكَ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشَاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ). (2)
وبذلك أثبت انّ المسيح مخلوق لله سبحانه مولود من أُمّه العذراء دون أن يمسّها بشر وانّه (عليه السلام) آية من آيات الله سبحانه، ولما كانت النصارى تتبنّى ألوهية المسيح وانّه يوَلف أحد أضلاع مثلث الاَُلوهية الرب و الابن وروح القدس، وكانت توَمن انّه ابن الرب، لاَنّه ولد من مريم بلا أب .
ولما احتجوا بهذا الدليل أمام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وافاه الوحي مجيباً على
____________
1 ـ آل عمران:59ـ60.
2 ـ آل عمران: 45ـ47.

===============

( 128 )

استدلالهم بأنّ كيفية خلق المسيح يضاهي كيفية خلق آدم. حيث إنّ آدم خلق من تراب بلا أب وأُمّ، فإذا كان هذا أمراً ممكناً، فمثله المسيح حيث ولد من أُمّ بلا أب فهو أهون بالاِمكان.
وبعبارة أُخرى: انّ المسيح مثل آدم في أحد الطرفين، ويكفي في المماثلة المشاركة في بعض الاَوصاف، ففي الحقيقة هو من قبيل تشبيه الغريب بالاَغرب ليكون أقطع للخصم وأحسم لمادة الشبهة.
إنّ من الاَسئلة المثارة حول قوله سبحانه: (ثُمَّ قال لَهُ كُنْ فيكون) هو انّ الاَنسب أن يقول: "ثم قال له كن فكان" فلماذا قال: (فيكون) لاَنّ أمره سبحانه بالتحقّق أمر يلازم تحقّق الشيء دفعة؟.
والجواب انّه وضع المضارع مكان الماضي وهو أمر جائز، والنكتة فيه هي تصوير الحالة الماضية فإنّ تكوّن آدم كان أمراً تدريجياً لا أمراً دفعياً.
وبعبارة أُخرى: انّ قوله: (كن )وإن كان دالاً على انتفاء التدريج ولكنّه بالنسبة إليه سبحانه، وأمّا بالنسبة إلى المخلوق فهو على قسمين: قسم يكون فاقداً له كالنفوس والعقول الكلية، وقسم يكون أمراً تدريجياً حاصلاً بالنسبة إلى أسبابها التدريجية، فإذا لوحظ الشيء بالقياس إليه تعالى فلا تدريج هناك ولا مهلة ـ لانتفاء الزمان والحركة في المقام الربوبي، ولذا قال سبحانه: (وَما أَمْرنا إِلاّ واحدةٌ كَلَمْحٍ بالْبَصَر ) (1)وأمّا إذا لوحظ بالقياس إلى وجود الممكن وأسبابه فالتدريج أمر متحقق، وبالجملة فقوله (فيكون )ناظر إلى الحالة الماضية. (2)
وهناك وجه آخر ذكره المحقّق البلاغي عند تفسير قوله سبحانه: (بَدِيعُ
____________
1 ـ القمر : 50.
2 ـ الميزان: 3|212؛ المنار:3|319.

===============

( 129 )

السَّمواتِ والاََرْض وَإِذا قَضى أَمْراً فَانَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُون ).
إنّ قوله: (فيكون )تفريع على قوله (يقول )وليس جزاءً لقوله تعالى (كن)، لاَنّ الكون بعد الفاء، هو نفس الكون المأمور به لا جزاءه المترتب عليه، وتوهم أنّه جزاء لذات الطلب أو ملكوت مع الطلب مدفوع، بأنّه لو صحّ لوجب أن ينصب مع أنّه مرفوع. (1)
وعلى كلّ تقدير فالقرآن الكريم يستدل على إبطال إلوهية المسيح بوجوه مختلفة، منها هو تشبيه ولادة المسيح بآدم. والتمثيل المذكور يتكفّل بيان هذا الاَمر أيضاً، وفي الحقيقة الآية منحلّة إلى حجتين تفي كلّ واحدة منهما بنفي الاَلوهية عن المسيح.
إحداهما: انّ عيسى مخلوق لله ـ على ما يعلمه الله لا يضل في علمه ـ خلقة بشر وإن فقد الاَب ومن كان كذلك كان عبداً لا رباً.
وثانيهما: انّ خلقته لا تزيد على خلقة آدم، فلو اقتضى سنخ خلقه أن يقال بإلوهيته بوجه لاقتضى خلق آدم ذلك مع أنّهم لا يقولون بها فيه فوجب أن لا يقولوا بها في عيسى (عليه السلام) أيضاً لمكان المماثلة.
ويظهر من الآية انّ خلقة عيسى كخلقة آدم خلقة طبيعية كونية و إن كانت خارقة للسنّة الجارية في النسل وهي حاجة الولد في تكوّنه إلى والد. (2)

____________
1 ـ آلاء الرحمن:1|120.
2 ـ الميزان:3|212.




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21335964

  • التاريخ : 28/03/2024 - 19:18

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net