00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة الانعام من ( آية 36 ـ 80) 

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : التبيان في تفسير القرآن (الجزء الرابع)   ||   تأليف : شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي

قوله تعالى: إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون(36)

آية بلا خلاف.

___________________________________

(3) سورة الشعراء آية 4.

(4) سورة 39 الزمر آية 65

[125]

الوقف عند قوله " الذين يسمعون " ومعنى الاية انما يستجيب إلى الايمان بالله وما أنزل اليك من يسمع كلامك ويصغي اليك، والى ما تقرأ عليه من القرآن وما تبين له من الحجج والايات ويفكر في ذلك لانه لا يتبين الحق من الباطل الا لمن تفكر فيه واستدل عليه بما يستمع أو يعرف من الايات والادلة على صحته، وجعل من لم يتفكر ولم ينتفع بالايات بمنزلة من لم يستمع كما قال الشاعر:

لقد اسمعت لو ناديت حيا *** ولكن لا حياة لمن تنادي(1)

وكما جعله الشاعر بمنزلة الاصم في قوله: اصم عما ساء‌ه سميع(2) وقوله " والموتى يبعثهم الله " معناه ان الذين لا يصغون اليك من هؤلاء الكفار ولايسمعون كلامك ان كلمتهم، ولا يسمعون ما تقرأه عليهم وتبينه لهم من حجج الله وآياته، وينفرون عنه اذا كلمتهم بمنزلة الموتى، فكما ان الموتى لا يستجيبون لمن يدعوهم إلى الحق والايمان، فكذلك هؤلاء الكفار لا يستجيبون لك اذا دعوتهم إلى الايمان، فكما آيست ان يسمع الموتى كلامك إلى ان يبعثهم الله والى ان يرجعوا اليه، فكذلك فآيس من هؤلاء أن يسمعوا كلامك وأن يستجيبوا لك.

وبين أن الموتى اذا بعثهم الله بمعنى أحياهم انهم يرجعون بعد الحشر والبعث إلى الموضع الذي لا يملك الحكم فيه عليهم غير الله تعالى، ولا يملك محاسبتهم وضرهم ونفعهم غيره، فجعل رجوعهم إلى ذلك الموضع رجوعا إلى الله وذلك مستعمل في اللغة: وقال مجاهد: " انما يستجيب الذين يسمعون " يعني المؤمنين يسمعون الذكر " والموتى يبعثهم الله " يعني المشركين الصم يبعثهم الله فيحييهم من شركهم حتى يؤمنوا " ثم الينا يرجعون " يوم القيامة.

___________________________________

(1) مر هذا البيت في 1: 64 وهو مشهور.

(2) انظر 2: 80.

[126]

قوله تعالى: وقالوا لولا نزّل عليه آية من ربه قل إن الله قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون(37)

قرأ ابن كثير " ينزل " بالتخفيف. الباقون بالتشديد.

ومعنى " وقالوا " اخبار عما قاله الكفار من انهم قالوا " لولا " ومعناه: هلا " أنزل عليه آية " يعني الاية التي سألوها واقترحوا أن يأتيهم بها من جنس ما شاء‌وا لما قالوا " فليأتنا بآية كما أرسل الاولون "(1) يعنون فلق البحر واحياء الموتى. وانما قالوا ذلك حين أيقنوا بالعجز عن معارضته فيما أتى به من القرآن، فاستراحوا إلى أن يلتمسوا مثل آيات الاولين، فقال الله تعالى " أو لم يكفهم أنا نزلنا عليك الكتاب "(2) وقال هاهنا قل يا محمد " ان الله قادر على ان ينزل آية ولكن أكثرهم لايعلمون " ما في إنزالها من وجوب الاستئصال لهم اذا لم يؤمنوا عند نزولها. ومافي الاقتصار بهم على ماأوتوا من المصلحة لهم.

وبين في آية أخرى انه لو أنزل عليهم ما أنزل لم يؤمنوا، وهو قوله " ولو أننا اليهم الملائكة " إلى قوله: " ما كانوا ليؤمنوا الا أن يشاء الله "(3) ان يكرههم. وقال " وما منعنا أن نرسل بالايات الا أن كذب بها الاولون "(4) يعني الايات التي اقترحوها انما لم نأتهم بها، لانا لو أتيناهم بها ولم يؤمنوا وجب استئصالهم، كما وجب استئصال من تقدمهم ممن كذب بآيات الله.

وقال في سورة العنكبوت " وقالوا لا أنزل عليه آية من ربه قل انما الايات عند الله وانما أنا نذير مبين أو لم يكفهم انا أنزلنا عليك الكتاب "(5) الاية.

فبين ان الايات لايقدر عليها الاالله، وقد أتاهم بمافيه

___________________________________

(1) سورة 21 الانبياء آية 5.

(2) سورة 29 العنكبوت آية 51.

(3) سورة 6 الانعام آية 111.

(4) سورة 17 الاسرى آية 59.

(5) سورة 29 العنكبوت آية 50 - 51

[127]

كفاية وإزاحة لعلتهم وهو القرآن، وغيره مما شاهدوه ومن المعجزات والايات، ولايلزم اظهار المعجزات بحسب اقتراح المقترحين، لانه لولزم ذلك لوجب اظهارها في كل حال ولكل مكلف وذلك فاسد.

وقد طعن قوم من الملحدين، فقالوا: لوكان محمد قد أتى بآية لما قالوا له " لولا أنزل عليه آية " ولما قال " ان الله قادر على ان ينزل آية ".

قيل: قيد بينا أنهم التمسوا آية مخصوصة وتلك لم يؤتوها وان كان الله تعالى قادرا عليها، وانمالم يؤتوها لان المصلحة منعت من انزالها، وانما اتى بالايات الاخر التي دلت على نبوته من القرآن وغيره على مااقتضته المصلحة، ولذلك قال فيما تلوناه " أو لم يكفهم أنا انزلنا عليك الكتاب " فبين ان في انزال الكتاب كفاية ودلالة على صدقه وانه لايحتاج معه إلى أمر آخر فسقط ماقالوه.

قوله تعالى: وما من دابة في الارض ولاطائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم مافرطنا في الكتاب من شئ ثم إلى ربهم يحشرون(38)

آية بلا خلاف.

الوقف عند قوله " أمم أمثالكم " وقف تام. ابتدأ الله تعالى بهذه الاية فأخبر بشأن سائر الخلق. وبازاحة علة عباده المكلفين في البيان ليعجب عباده في الاية التي بينها من الكفار وذهابهم عن الله تعالى فقال: " ومامن دابة في الارض ولاطائر يطير بجناحيه " فجمع جميع الخلق بهذين اللفظين، لان جميع الحيوان لا يخلو من أن يكون مما يطير بجناحيه أويدب " الا امم أمثالكم " أي هم اجناس واصناف كل صنف يشتمل على العدد الكثير والانواع المختلفة وان الله خالقها ورازقها، وانه يعدل عليها فيما يفعله، كما خلقكم ورزقكم وعدل عليكم، وان جميعها دالة وشاهدة على مدبرها وخالقها وانتم بعد ذلك تموتون والى ربكم تحشرون.

[128]

فبين بهذه العبارة أنه لاينبغي لهم ان يتعدوا في ظلم شئ منها، فان الله خالقها وهو الناهي عن ظلمها والمنتصف لها.

وفي قوله: " يطير بجناحيه " أقوال: احدها - ان قوله بجناحيه تأكيد كما يقولون: رأيت بعيني، وسمعت باذني، وربما قالوا: رأت عيني وسمعت اذني، كل ذلك تأكيد.

وقال الفراء: معنى ذلك انه اراد مايطير بجناحيه دون مايطير بغير جناحين، لانهم يقولون قدمر الفرس يطير طيرا وسارت السفينة تطير تطيرا، فلولم يقل (بجناحيه) لم يعلم انه قصد إلى جنس مايطير بجناحيه دون سائر مايطير بغير جناحين.

وقال قوم: انما قال " بجناحيه " لان السمك عند اهل الطبع طائر في الماء، ولا أجنحة لها، وانما خرج السمك عن الطائر، لانه من دواب البحر، وانما أراد مافى الارض ومافي الجو، ولاحيوان موجود غيرهما.

وقال قوم: انما قال ذلك ليدل على الفرق بين طيران الطيور بأجنحتها وبين الطيران بالاسراع تقول: طرت في جناحين، اذا أسرعت، قال الشاعر:

فلو أنها تجري على الارض أدركت *** ولكنها تهفوا بتمثال طائر

وانشد سيبويه:

فطرت بمنصلي في يعملات *** دوام الايد يحبطن السريحا(1)

وقال المغربي: أراد ان يفرق بين الطائر الذي هو الفائز الفالج في القسم، وقال مزاحم العقيلي:

وطير بمخراق أشم كأنه *** سليل جيادلم تنله الزعانف(2)

أي فوزي واغنمي.

وقوله: " مافرطنا في الكتاب من شئ " قيل " مافرطنا " معناه ماتركنا.

وقيل: ماقصرنا.

وفي الكتاب قولان: احدهما - انه أراد الكتاب المحفوظ عنده من أجال الحيوان وأرزاقه وآثاره ليعلم ابن آدم ان عمله اولى بالاحصاء والاستقصاء، ذكره الحسن. الثاني - مافرطنا في القرآن من شئ يحتاج اليه في أمور الدين والدنيا

___________________________________

(1، 2) اللسان (طير).

[129]

الاوقد بيناه اما مجملا أو مفصلا، فماهو صريح يفيد لفظا، وماهو مجمل بينه على لسان نبيه وأمر باتباعه في قوله " وماآتاكم الرسول فخذوه ومانها كم عنه فانتهوا "(1) ودل بالقرآن على صدق نبوته ووجوب أتباعه، فاذا لايبقى أمر من امورالدين والدنيا الا وهو في القرآن - وهذا الوجه اختاره الجبائي - وقال البلخي: " مافرطنا في الكتاب من شئ " أي لم ندع الاحتجاج بما يوضح الحق ويدعو إلى الطاعة والمعرفة ويزجر عن الجهل والمعصية، وتصريف الامثال وذكر أحوال الملائكة وبني آدم وسائر الخلق من أصناف الحيوان. وكل جنس من الحيوان أمة، لان الامة الجماعة ويقال للصبيان: أمة وان لم يجب عليهم التكليف.

وقوله تعالى: " ثم إلى ربهم يحشرون " معناه يحشرون إلى الله بعدموتهم يوم القيامة كما يحشر العباد، فيعوض الله تعالى مايستحق العوض وينتصف لبعضها من بعض، فاذا عوضهما، قال قوم: انها تصير ترابا فحينئذ يتمنى الكافر فيقول " ياليتني كنت ترابا "(2) وقال قوم: يديم الله أعواضها ويخلقها على أحسن مايكون من الصور فيسر بها المثابون ويكون ذلك من جملة ماينعمون به، ذكره البلخي.

وقال قوم: " يحشرون " معناه يموتون ويفنون وهذا بعيد، لان الحشر في اللغة هو بعث من مكان إلى غيره، وهاهنا لامعنى للحشر الذي هو الفناء وانما معناه انهم يصيرون إلى ربهم ويبعثون اليه. واستدل قوم من التناسخية بهذه الاية على ان البهائم والطيور مكلفة، لانه قال " أمم امثالكم " وهذا باطل، لانا قد بينا من أي وجه قال: انها " أمم امثالكم " ولووجب حملها على العموم لوجب ان تكون أمثالنا في كونها ناسا وفي مثل صورنا واخلاقنا، فمتى قالوا لم يقل امثالنا في كل شئ، قلنا: وكذلك الامتحان والتكليف، على انهم مقرون بان الاطفال غير مكلفين ولاممتحنين، فما يحملون به أمتحان الصبيان بعينه نحمل بمثله امتحان البهائم، وكيف يصح

___________________________________

(1) سورة 59 الحشر آية 7.

(2) سورة 78 النبأ آية 40

[130]

تكليف البهائم والطيور وهي غير عاقلة.

والتكليف لايصح الا لعاقل، على ان الصبيان أعقل من البهائم ومع هذا فليسوا مكلفين، فكيف يصح تكليف البهائم؟ ! واما قوله " وان من أمة الا خلا فيها نذير "(1) فانه مخصوص بالمكلفين العقلاء من البشر والجن، والملائكة بدلالة أن الاطفال أمم وليس فيها نذيره واستدل ابوالقاسم البلخي بهذه الاية على ان العوض دائم بان قال: بين الله تعالى انه يحشر الحيوان كلها ويعوضها، فلو كان العوض منقطعا لكان اذا أماتها استحقت اعواضا أخر على الموت وذلك يتسلسل، فدل على انه دائم وهذا ليس بشئ، لانه يجوز ان يميت الله الحيوان على وجه لايدخل عليهم الالم، فلا يستحقون عوضا ثانيا، فالاولى ان يقول: ان دام دام تفضلا منه تعالى.

وقوله " ولاطائر " فانه جر، عطف على دابة وتقديره ولامن طائر، وكان يجوز ان يقرأ بالرفع حملا على المعنى، كما تقول: وماجاء‌ني من رجل ولاامرأة، وتقديره ماجاء‌ني رجل ولاامرأة ومثله قوله " ولااصغر من ذلك ولاأكبر "(2) في موضع بالنصب وفى موضع آخر بالرفع على ماقلناه.

قوله تعالى: والذين كذبوا باياتنا صم وبكم في الظلمات من يشإ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم(39)

آية بلاخلاف.

الوقف التام عند قوله " في الظلمات ".

وقوله " صم وبكم في الظلمات " يحتمل امرين: احدهما - ان يراد ان هؤلاء الكفار الذين كذبوا بآيات الله صم وبكم في الظلمات في الاخرة على الحقيقة عقوبة لهم على كفرهم، لانه ذكرهم عند ذكر الحشر.

___________________________________

(1) سورة 35 فاطر آية 24.

(2) سورة 10 يونس آية 61 وسورة 34 سبأ آية 3

[131]

والثاني - ان يكون عنى انهم صم وبكم في الظلمات في الدنيا، فمتى أريد الاول كان ذلك حقيقة، لانه تعالى لايمتنع ان يجعلهم صما بكما في الظلمات، ويضلهم بذلك عن الجنة وعن الصراط الذي يسلكه المؤمنون اليها ويصيرهم إلى النار.

وان أريد به الوجه الثاني، فانه يكون مجازا وتوسعا. وانما شبههم بالصم والبكم الذين في الظمات، لان المكذبين بآيات الله لايهتدون إلى شئ مما ناله المؤمنون من منافع الدين ولايصلون إلى ذلك، كما أن الصم البكم الذين في الظلمات لايهتدون إلى شئ من منافع الدنيا ولايصلون اليها، فتشبيههم من هذا الوجه بالصم البكم.

وقال البلخي " صم وبكم في الظلمات " معناه في الجهل والشرك والكفر وقوله " من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم " لايجوز ان يكون على عمومه، لانا قد علمنا ان الله تعالى لايشاء ان يضل الانبياء والمؤمنين ولايهدي الكافرين، لكن قد بين تعالى في موضع آخر من الذي يشاء ان يضله، فقال " ومايضل به الا الفاسقين "(1) وقال " ويضل الله الظالمين ويفعل الله مايشاء "(2) وقال " والذين اهتدوا زادهم هدى "(3) وقال: " يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام "(4) وقال " والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا "(5).

وقوله " ومن يشأ الله يضلله " هاهنا يحتمل امرين: احدهما - " من يشأ الله يضلله " أي من يشأ يخذله بأن يمنعه ألطافه وفوائده، وذلك اذا واتر عليه الادلة وأوضح له البراهين فأعرض عنها ولم يمعن النظر فيها، فصار كالاصم الاعمى، فحينئذ يشاء أن يضله بان يخذله. والثاني - من يشأ الله اضلاله عن طريق الجنة، ونيل ثوابها يضلله على

___________________________________

(1) سورة 2 البقرة آية 26.

(2) سورة 14 ابراهيم آية 27.

(3) سورة 47 محمد آية 17.

(4) سورة 5 المائدة آية 18.

(5) سورة 29 العنكبوت آية 69.

[132]

وجه العقوبة " ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم " ومعناه من يشأ ان يرحمه ويهديه إلى الجنة ونيل الثواب يجعله على الصراط الذي يسلكه المؤمنون إلى الجنة، ويعدل الكافرين عنه إلى النار ولايلحق الاضلال الا الكفار والفساق المستحقين للعقاب وكذلك لايفعل الثواب والخلود في الجنة الا بالمؤمنين، لانه ثواب لايستحقه سواهم.

الآية: 40 - 59

قوله تعالى: قل أرأيتكم إن أتيكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين(40) بل إياه تدعون فيكشف ماتدعون إليه إن شاء وتنسون ماتشركون(41)

آيتان بلاخلاف

قرأ الكسائي وحده " أريتكم " وماجاء منه اذاكان استفهاما بحذف الهمزة التي بعد الراء. والباقون باثباتها، وتحفيفها الا أهل المدينة، فانهم جعلوها بين بين، فان كان غير استفهام اتفقوا على اثبات الهمزة وتخفيفها الا ما رواه ورش في تحقيقها في ستة مواضع ذكرت في باب الهمزة في القراء‌ات.

من حقق الهمزة، فلانه (فعلت) من الرؤية، فالهمزة عين الفعل، ومن خفف فانه جعلها بين بين، وهذا التخفيف على قياس التحقيق، ومن حذف الهمزة فعلى غير مذهب التخفيف، لان التخفيف القياس فيها أن تجعل بين بين، كما فعل نافع، وهذا حذف، كماقالوا، ويلمه، وكما أنشد احمدبن يحيى: ان لم أقاتل فالبسوني برقعا وقال ابوالاسود: يابا المغيرة رب أمر معضل وذكر أن عيسى كذلك كان يقرأها ويقوي ذلك قول الراجز:

أريت ان جاء‌ت به أملودا *** مرجلا ويلبس البرودا

وقال الفراء: العرب لها في (أرأيت) لغتان:

[133]

احدهما - ان يسأل الرجل الرجل أرأيت زيدا بعينك؟ فهذه مهموزة، فاذا أوقعتها على الرجل منه قلت: أرأيتك على غير هذه الحال تريد هل رأيت نفسك على غير هذه الحال ثم يثنى ويجمع، فتقول للرجلين أرايتما كما، وللقوم أرايتموكم، وللنسوة أرأيتنكن، وللمرأة أرأيتك بخفض التاء ولايجوز إلا ذلك. والاخر - ان تقول ارأيتك. وانت تريد اخبرني، فتهزمها وتنصب التاء منها وتترك الهمز ان شئت، وهو اكثر كلام العرب، وتترك التاء مفتوحة للواحد، وللجمع مؤنثه ومذكره، تقول للمرأة: أرايتك زيدا، وللنساء أرايتكن زيدا مافعل. وانما تركت العرب التاء واحدة لانهم لم يريدوا أن يكون الفعل منها واقعا على نفسها، فاكتفوا بذكرها في الكاف ووجهوا التاء إلى المذكر والتوحيد، اذا لم يكن الفعل واقعا على نفسها.

واختلفوا في هذه الكاف، فقال الفراء: موضعها نصب وتأويلها رفع، مثل قولك: دونك زيدا، فموضع الكاف خفض، ومعناه الرفع، لان المعنى خذ زيدا.

قال الزجاج: هذا خطأ ولم يقله أحد قبله، قال: لان قولك أرايتك زيدا ما شأنه يصير أرايت قدتعدت إلى الكاف والى زيد، فنصب أرايت اسمين فيصير المعنى: أرايت نفسك زيدا ماحاله. وهذا محال.

قال والصحيح الذي عليه النحويون ان الكاف لاموضع لها والمعنى أرايت زيدا ماحاله، والكاف زيادة في بيان الخطاب، وهو المعتمد عليه في الخطاب ولذلك تكون التاء مفتوحة في خطاب المذكر والمؤنث والواحد والجمع. فنقول للرجل أرايتك زيدا ماحاله بفتح التاء والكاف وللمرأة أرايتك بفتح التاء وكسر الكاف، لانها صارت آخر مافي الكلمة، وللاثنين أرايتكما، وللجمع أرايتكم، فتوحد التاء، فكما وجب ان توحدها في التثنية والجمع، كذلك وجب ان تذكرها مع المؤنث، فان عديت الفاعل إلى المفعول في هذا الباب صارت الكاف مفعوله تقول: رأيتني عالما بفلان، فاذا سألت علي هذا الشرط قلت للرجل: أريتك عالما؟ وللاثنين أرأيتما كما

[134]

وللجمع أرأيتموكم، لان هذا في تأويل أرأيتم أنفسكم، وللمرأة ارأيتك، وللثنتين أرايتما كما، وللجماعة أرايتنكن، فعلى هذا قياس هذين البابين.

قال ابوعلي الفارسى: لايخلو ان يكون الكاف للخطاب مجردا، ومعنى الاسم مخلوعا منه أو يكون دالا على الاسم مع دلالته على الخطاب، والدليل على انه للخطاب مجردا من علامة الاسم أنه لوكان اسما وجب ان يكون الاسم الذي بعده في نحو قوله " أرايتك هذا الذي كرمت علي "(1) وقولهم " أريتك زيدا ماصنع هوالكاف في المعنى، ألا ترى ان (رأيت) يتعدى إلى مفعولين يكون الاول منهما هوالثاني في المعنى واذا لم يكن المفعول الذي بعده هو الكاف في المعنى، وإنما هو غيره وجب ان يدل ذلك على أنه ليس باسم، واذ لم يكن اسما كان حرفا للخطاب مجردا من معنى الاسمية، كما أن الكاف في (ذلك وهنالك) للخطاب ومثله التاء في (أنت) لانه للخطاب معرى من معنى الاسم فاذا ثبت انه للخطاب معرى من معنى الاسماء ثبت ان التاء لايجوز أن تكون بمعنى الخطاب ألا ترى أنه لاينبغي ان يلحق الكلمة علامتان للخطاب، كما لايلحقها علامتان للتأنيث، ولا علامتان للاستفهام، فلما لم يجز ذلك افردت التاء في جميع الاحوال لماكان الفعل لابد له من فاعل وجعل في جميع الاحوال على لفظ واحد، لان مايلحق الكاف من معنى الخطاب يبين الفاعلين، لتخصيص التأنيث من التذكير والتثنية من الجمع، فلو لحق علامة التأنيث والجمع التاء لاجتمع علامتان للخطاب بماكان يلحق التاء ومايلحق الكاف وذلك يؤدي إلى مالانظير له فرفض لذلك.

أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله بهذه الاية ان يقول لهؤلاء الكفار الذين يعبدون الاصنام " أرايتكم ان أتاكم عذاب الله " كمااتى الكافرين من قبلكم كعاد وثمود، وغيرهم " أواتتكم الساعة " وهي القيامة.

قال الزجاج: الساعة اسم للوقت الذي يصعق فيه العباد واسم للوقت الذي تبعث فيه، والمعنى أرأيتكم

___________________________________

(1) سورة 17 الاسرى آية 62.

[135]

الساعة التي وعدتم فيها بالبعث والفناء، لان قبل البعث يموت الخلق كلهم، اتدعون فيها - لكشف ذلك عنكم - هذه الاوثان التي تعلمون أنها لاتقدر أن تنفع أنفسها ولاغيرها؟ ! أو تدعون لكشف ذلك عنكم الله تعالى الذي هو خالقكم ومالككم ومن يملك ضركم ونفعكم؟ ودلهم بذلك على انه لاينبغي لهم ان يعبدوا مالايملك لهم نفعا ولايقدر أن يدفع عنهم ضرا وان يعبدوا الله وحده الذي هو خالقهم ومالكهم والقادر على نفعهم وضرهم.

وقوله " ان كنتم صادقين " يعني في ان هذه الاوثان آلهة لكم، فبين الله لهم بذلك انها ليست آلهة وانهم في هذا القول غير صادقين.

وقوله " بل اياه تدعون " معنى (بل) استدراك وايجاب بعد نفي تقول ماجاء‌ني زيد بل عمرو. واعلمهم الله تعالى انهم لايدعون في حال الشدائد الا إياه، لانه إذا لحقهم الشدائد والاهوال في البحار والبراري القفار، التجؤا فيه اليه وتضرعوا لديه، كما قال " وجاء‌هم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين "(1) وفي ذلك أعظم الحجج عليهم، لانهم عبدوا الاصنام.

وقوله " فيكشف ماتدعون اليه ان شاء " معناه يكشف الضر الذي من اجله دعوتم، وهومجاز كقوله " واسأل القرية " ومعناه واسأل اهل القرية.

وقوله " وتنسون ماتشركون " معنى تنسون يحتمل امرين: احدهما - ان يكون بمعنى ماتشركون بالله. الثاني - أنكم في ترككم دعاء‌هم بمنزلة من نسيهم، وهذا الذي أحتج الله به على الكفار دلالة على صحة الاحتجاج في الدين على كل من خالف الحق، لانه لوكان الاحتجاج لايجوز ولايفضي إلى الحق لما احتج به على عباده في كتابه.

وانما قال: " ان شاء " لانه ليس كلما يدعون لكشفه يكشفه عنهم بل يكشف ماشاء من ذلك مما تقتضيه المصلحة وصواب التدبر، وتوجبه الحكمة.

___________________________________

(1) سورة 10 يونس آية 22.

[136]

والاستثناء راجع إلى العذاب دون الساعة، لانها لاتكشف ولامحيص عنها.

قوله تعالى: ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالباساء والضراء لعلهم يتضرعون(42) فلولا إذجاء‌هم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ماكانوا يعملون(43)

آيتان

اعلم الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله بهذه الاية انه قد ارسل الرسل قبله إلى اقوام بلغوا من القسوة إلى ان أخذوا بالشدة في أنفسهم واموالهم ليخضعوا ويذلوا لامر الله لان القلوب تخشع والنفوس تضرع عند مايكون من أمر الله البأساء والضراء.

وقال قوم: البأساء الجوع، والضراء النقص في الاموال والانفس.

والبأساء: من البأس والخوف والضراء من الضر، وقد يكون البأساء من البؤس، فأعلمه الله انه ارسل إلى أمم واخذها بالبأساء والضراء، فلم تخشع ولم تضرع.

وقال: " لعلهم يتضرعون " ومعناه لكي يتضرعوا.

وقيل: معناها الترجي للعباد، كما قال: " لعله يتذكر او يخشى "(1).

قال سيبويه: المعنى اذهبا أنتما على رجائكما، والله عالم بمايكون من وراء ذلك.

وقوله " فلولا اذ جاء‌هم بأسنا تضرعوا " معناه هلا اذجاء‌هم بأسنا تضرعوا " ولكن قست قلوبهم " أي أقاموا على كفرهم.

قال الفراء كلما رأيت في الكلام (لولا) ولم تر بعدها اسما، فهي بمعنى (هلا)، كقوله: " لو لا اخرتني إلى أجل قريب "(2) و " فلولا أن كنتم غير مدينين "(3) واذاكان بعدها اسم، فهي بمعنى (لو) التي تكون في جوابها اللام، و (لوما) فيها مافي (لولا) من الاستفهام والخبر. وقد اخبر الله في هذه الاية ان الشيطان هوالذي يزين الكفر للكافر بخلاف

___________________________________

(1) سورة 20 طه آية 44.

(2) سورة 63 المنافقون آية 10.

(3) سورة 56 الواقعة آية 86

[137]

مايقول المجبرة من ان الله هو المزين لهم ذلك، وفيها حجة على من قال: ان الله لم يرد من الكافر الايمان، وانه ارسل الرسل بينة عليهم، وعلى من زعم ان أخذه الكافرين بالبأساء والضراء في الدين ليس لما أراد من صلاحهم، لانه بين الله انما فعل بهم ذلك ليتضرعوا، وهذه لام الغرض، لان الشك لايجوز عليه تعالى " ويتضرعون " معناه يتذللون يقال ضرع فلان لفلان اذا بخع له وسأله أن يعطيه، وفلان ضارع أي نحيف.

قوله تعالى: فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شئ حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فاذا هم مبلسون(44) فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين(45)

آيتان

قرأ ابن عامر وابوجعفر، وورش " فتحنا " وفي الاعراف " لفتحنا " وفي الانبياء " فتحت " وفى القمر " فقتحنا أبواب السماء " بالتشديد فيهن، وافقهم روح في الانبياء والقمر. والباقون بالتخفيف فيهن.

ومن ثقل أراد التكثير، ومن خفف أراد الفعل مرة واحدة. بين الله تعالى بهذه الاية ان هؤلاء الكفار لمالم ينتفعوا بالبأساء والضراء على مااقتضت مصلحتهم، ونسوها أي تركوها فصارت في حكم المنسى ابتليناهم بالتوسعة في الرزق ليرغبوا بذلك في نعيم الاخرة، وينبهوا عليه، فيطيعوا ويرجعوا عما هم عليه، فلما لم ينجع ذلك فيهم ولم يرتدعوا عن الفرح بما أوتوا، ولم ينعظوا ولم ينفعهم الزجر بالضراء والسراء، ولا الترغيب بالتوسعة والرخاء احللنا بهم العقوبة بغتة أي مفاجأة من حيث لايشعرون " فاذا هم مبلسون ".

قال لزجاج: (المبلس) الشديد الحسرة و (البائس) الحزين.

وقال البلخي: معنى مبلسون يعني: أذلة خاضعين.

وقال الجبائي: معنى (مبلسون) آيسون، وقال الفراء المبلس: المنقطع الحجة، قال رؤبة:

[138]

وحضرت يوم خميس الاخماس *** وفى الوجوه صفرة وابلاس(1)

وقال مجاهد: الابلاس السكوت مع اكتآب.

وقوله " كل شئ " المرادبه التكثير دون العموم، وهومثل قوله " وأوتيت من كل شئ "(2) وكقول القائل: أكلنا عنده كل شئ ورأينا منه كل خير، وكمايقال هذاقول اهل العراق، واهل الحجاز، ويراد به قول اكثرهم.

وقال تعالى: " ولقد أريناه آياتنا كلها "(3) وكل ذلك يراد به الخصوص، وموضوعه التكثير، والتفخيم. واذا علمنا في الجملة بالعقل ان هذه الايات مخصوصة، فلا ينبغي ان يعتقد فيها تخصيص شئ بعينه، وليس علينا اكثر من ان نعتقد أنهم او توا خيرا كثيرا، وفتح عليهم أبواب أشياء كثيرة كانت متغلقة عليهم، وليس يلزمنا اكثر من ذلك. فان قيل الذي يسبق إلى القلوب غير ما تأولتم عليه وهو ان الله انما فتح عليهم أبواب كل شئ ليفرحوا ويمرحوا ليستحقوا العقاب.

قلنا: الظاهر وان كان كذلك انصرفنا عنه بدليل، كما انصرفنا عنه قوله: " الرحمن على العرش أستوى "(4) وعن قوله " وجاء ربك "(5) وعن قوله: " أأمنتم من في السماء "(6) فكما يجب ان نترك ظاهر هذه الايات وان كان ظاهرها التشبيه فكذلك ترك ماظاهره يوجب اضافة القبيح اليه، وينافى عدله ويعدل إلى مايليق بحكمته وعدله.

وقوله " فقطع دابر القوم الذين ظلموا " معناه أخذهم الذي يدبرهم ويدبرهم، لغتان - بضم الباء وكسرها - وهوالذي يكون في أعقابهم.

وروي عن أبي عبدالله (ع) انه قال: من الناس من لايأتي الصلاة إلا دبريا - بضم الدال - يعني في آخر الوقت، هذا قول اصحاب الحديث.

___________________________________

(1) مجمع البيان 2: 300 واللسان (بلس).

(2) سورة 27 النمل آية 23.

(3) سورة 20 طه آية 56.

(4) سورة 20 طه آية 5.

(5) سورة 89 الفجر آية 22.

(6) سورة 67 الملك آية 16، 17

[139]

وقال أبوزيد الادبريا بفتح الدال والباء. ثم حمد الله تعالى نفسه بأن استأصل ساقتهم وقطع دابرهم بقوله " والحمدلله رب العالمين " لانه تعالى أرسل اليهم وانظر هم بعدكفرهم وأخذهم بالبأساء والضراء، والنعمة والرخاء، فبالغ في الانذار والامهال، فهو محمود على كل حال.

قوله تعالى: قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به أنظر كيف نصرف الايات ثم هم يصدفون(46)

آية بلاخلاف.

روي عن ورش: " به انظر " بضم الهاء‌ء الباقون بكسرها.

قال ابوعلي: من كسر الهاء حذف الياء التي تلحق الهاء في نحو به انظر، لالتقاء الساكنين والالف من (انظر).

ومن قرأ بضم الهاء فهو على قول من قال: " فخسفنا بهو بدار هو "(1)، فحذف الواو لالتقاء الساكنين، كما حذف الياء في (بهي) لذلك، فصار " به انظر " ومما يحسن هذا الوجه ان الضمة فيه مثل الضمة في (ان أقتلوا) أو (انقص) ونحو ذلك.

وقوله: " أرايتم ان أخذ الله سمعكم وابصاركم وختم على قلوبكم " ثم قال: " يأتيكم به " قال ابوالحسن هوكناية عن السمع اوعلى ما أخذ منكم وقال الفراء: الهاء كناية عن الهدى. أمر الله تعالى نبيه (ع) ان يقول لهؤلاء الكفار " أرايتم ان اخذ الله سمعكم " أي أصمكم، " وأبصاركم " أي أعماكم، تقول العرب: أخذ الله سمع فلان وبصره، أي أصمه وأعماه " وختم على قلوبكم " بأن سلب مافيها من العقول التي بها يتهيأ لكم ان تؤمنوا بربكم وتتوبوا من ذنوبكم ووسمها

___________________________________

(1) سورة 28 القصص آية 81.

[140]

بسمة من يكون خاتمة امره للصير إلى عذاب النار، فلو فعل بكم، هل من اله غيره يأتيكم بهذا الذي سلبكم الله اياه؟ ! وهل يقدر على ذلك اله غير الله؟ ! فبين بهذا انه كما لايقدر على ذلك غير الله فكذلك يجب ان لايعبدوا سواه: القادر على جميع ذلك.

وقوله " انظر كيف نصرف الايات ثم هم يصدفون " تنبيه للعباد على هذه الاية وعلى أمثالها من الايات التي بين فيها انه لايستحق العبادة سواه تعالى. ثم بين انهم مع ظهور هذه الايات يصدفون أي يعرضون عن تأملها، والتفكر فيها. يقال: صدف عنه، اذا أعرض.

وفي الاية دليل على ان الله قد مكنهم من الاقبال على ماورد عليهم من البيان وانه لم يخلق فيهم الاعراض عنه ولاحملهم عليه، ولا اراده منهم ولازينه لهم، لانه لو كان فعل شيئا من ذلك لم يكن لتعجيبه من ذلك معنى.

قوله تعالى: قل أرأيتكم إن أتيكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون(47)

آية.

أمر الله تعالى نبيه (ع) ان يخاطب كفار قومه، ويقول لهم أرايتم " ان أتاكم عذاب الله بغتة او جهرة " والبغتة المفاجأة وهو ان يأتيهم العذاب، وهم غافلون غير متوقعين لذلك " اوجهرة " أي وهم شاهدون له، ومعاينون نزوله.

وقال الحسن: (البغتة) ان يأتيهم ليلاو (جهرة) نهارا.

ثم قال: " هل يهلك " بهذا العذاب " الا القوم الظالمون " الكافرون الذين يكفرون بالله ويفسدون في الارض. وهل ينجو منه الا المؤمنون العابدون لربهم. ومتى هلك فيهم اطفال او قوم مؤمنون فانما يهلكون امتحانا ويعوضهم الله على ذلك أعواضا كثيرة، يصغر ذلك في جنبها، فجعل ذلك تحذيرا من المقام على الكفر وترغيبا في الايمان والنجاة من العذاب.

[141]

قوله تعالى: ومانرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين فمن آمن وأصلح فلاخوف عليهم ولاهم يحزنون(48) والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون(49)

آيتان بلاخلاف.

بين الله تعالى في هاتين الايتين انه لايبعث الرسل أربابا يقدرون على كل شئ يسألون عنه من الايات او يخترعونه بل انما يرسلهم لما في ذلك من المصلحة لهم ومنبهين على ما في عقولهم من توحيد الله، وعدله وحكمته مبشرين بثواب الله لمن آمن به وعرفه، ومخوفين لمن انكره وجحده، ثم اخبر ان المرسل اليهم مختارون غير مجبرين ولامضطرين ودل على انه غير محدث لشئ من افعالهم فيهم، وان الافعال لهم، هم يكتسبونها بما خلق الله فيهم من القدرة، وانه قد هداهم، وبين لهم وبشرهم وانذرهم فمن آمن أثابه ومن عصاه عاقبه. ولو كانوا مجبورين على المعاصى مخلوقا فيهم الكفر ولم يجعل فيهم القدرة على الايمان لماكان للاية معنى.

قوله تعالى: قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا مايوحى إلي قل هل يستوي الاعمى والبصير أفلا تتفكرون(50)

آية بلاخلاف.

امر الله تعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وآله ان يقول لعباده: " لااقول لكم عندي خزائن الله " اغنيكم منها " ولااعلم الغيب " الذي يختص بعلم الله تعالى فاعرفكم مصالح دنياكم، وانما اعلم قدر مايعلمني الله من امر البعث والجنة

[142]

والنار، وغير ذلك، ولا ادعي اني ملك، لاني انسان تعرفون نسبي، لااقدر على مايقدر عليه الملك، وماأتبع الامايوحي الله به إلي. وبين لهم ان الملك من عند الله، والوحي هو البيان الذي ليس بايضاح نحوالاشارة والدلالة، لان كلام الملك كان له على هذا الوجه. وانما امره بأن يقول ذلك لئلا يدعوا فيه ماأدعت النصارى في المسيح، ولئلا ينزلوه منزلة خلاف مايستحقه. ثم امره بأن يقول لهم: " هل يستوي الاعمى والبصير " أي هل يستوي العارف بالله تعالى وبدينه العالم به مع الجاهل به وبدينه، فجعل الاعمى مثلا للجاهل والبصير مثلا للعارف بالله ونبيه، هذا قول الحسن والجبائي.

وقال البلخي: معناه هل يستوي من صدق على نفسه واعترف بحاله التي هو عليها من الحاجة والعبودية لخالقه، ومن ذهب عن البيان وعمي عن الحق " افلا تتكفرون " فتنصفوا من أنفسكم وتعملوا بالواجب عليكم من الاقرار بوحدانيته تعالى ونفي الشركاء والتشبيه عنه، وهذا وان كان لفظه لفظ الاستفهام فالمراد به الاخبار أي انهما لايستويان.

وقال مجاهد: الاعمى الضال والبصير المهتدي.

ثم قال: " افلا تتفكرون " تنبيها لهم على الفكر في مايدعوهم إلى معرفته ويدلهم عليه من آياته وأمثاله التي بينها في كتابه، للفرق بين الحق والباطل، والكافر والمؤمن.

وقال الحسن: " لااقول لكم عندي خزائن الله " يعني خزائن الغيب الذي فيه العذاب لقولهم: ائتنا بعذاب الله، ولا اعلم الغيب متى يأتيكم العذاب " ولاأقول لكم اني ملك " من ملائكة الله. وانما أنا بشر تعرفون نسبي. ولكني رسول الله يوحى الي، ولاأتبع الا مايوحى الي ولا أؤدي الا مايأمرني بأدائه واستدل الجبائي والبلخي وغيرهما بهذه الاية على ان الملائكة افضل من الانبياء لانه قال " ولاأقول لكم اني ملك " فلولا ان الملائكة أفضل وأعلى منزلة ماجاز ذلك. وهذا ليس بشئ لان الفضل الذي هو كثرة الثواب لامعنى له هاهنا، وانما المراد " ولا أقول اني ملك " فاشاهد من امر الله وغيبته عن

[143]

العباد مايشاهده الملائكة المقربون المختصون بملكوت السماوات وان لم يكن في ذلك استحقاق ثواب زائد.

قوله تعالى: وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولاشفيع لعلهم يتقون(51)

آية بلاخلاف.

امرالله تعالى نبيه (ع) ان ينذر بهذه الايات أي يخوف بها من هو مقر بالبعث والنشور من المؤمنين، ومن يقر بذلك من الكفار ويعتقد انه لامعونة عند الشركاء يومئذ، لان الامر هناك له تعالى وحده. وقد كان خلق من مشركي العرب يعتقدون ذلك، فأمر الله ان يخص هؤلاء بالانذار، لان الحجة لهم ألزم وان كانت لازمة للجميع.

وقوله: " يخافون ان يحشروا إلى ربهم " أي يعلمون ذلك، فهم خائفون منه أي عاملون بمايؤديهم إلى السلام عنده.

وقال الفراء: يخافون الحشر إلى ربهم علما بأنه سيكون فلذلك فسره المفسرون يخافون بمعنى يعلمون.

وقال الجبائي: امر الله ان يخوف بالعقاب من هو خائف، لانه لما أعلمهم ان الله يعذبهم بكفرهم اذا حشروا، كانوا يخافون الحشر لكونهم شاكين فيما أخبرهم به النبي صلى الله عليه وآله من الحشر والعذاب. وكانوا يخافون ذلك لشكهم فيه، وان كانوا غير مؤمنين. والاول قول البلخي والزجاج.

وقوله: " ليس لهم من دونه ولي " أو من يدفع عنهم مايريد الله إنزاله بهم من عذابه، وعقوباته، ولاشفيع يشفع يدفع بشفاعته عنهم مايريد الله انزاله بهم من ذلك على ماقالت النصارى انهم ابناء الله واحباؤه.

وقوله: " لعلهم يتقون " أي لكي يتقوا معاصيه. والهاء في قوله " به " قال الزجاج: راجعة إلى القرآن.

وقال الجبائي: راجعة إلى العذاب. وقال البلخي: راجعة إلى الانذار.

[144]

قوله تعالى: ولاتطرد الذين يدعون ربهم بالغدوة والعشي يريدون وجهه ماعليك من حسابهم من شئ ومامن حسابك عليهم من شئ فتطردهم فتكون من الظالمين(52)

آية بلاخلاف.

قرأ ابن عامر " بالغدوة " هنا وفى الكهف - بضم الغين واسكانا الدال واثبات واوبعدها. الباقون بفتح الغين والدال واثبات الف بعد الدال.

سبب نزول هذه الاية مارواه ابن مسعود وغيره: ان ملا من قريش - وقال الفراء: من الكفار، منهم عيينة بن حصين الغزاي - دخلوا على النبي صلى الله عليه وآله وعنده بلال وسلمان وصهيب وعمار، وغيرهم، فقال عيينة بن حصين يارسول الله ول نحيت هؤلاء عنك، لاتاك أشراف قومك، وأسلموا، وكان ذلك خديعة منهم له وكا الله تعالى عالما ببواطنهم. فأمر الله نبيه ان " لاتطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى " يعني انه نهاه عن طردهم لانهم يريدون باسلامهم ودعائهم وجه الله.

قال الضحاك: " يدعون ربهم بالغداة والعشى " يعني بذلك الصلاة المفروضة في هذين الوقتين وقال ابراهيم هم اهل الذكر.

وقال قوم: الدعاء هاهنا هو التحميد والتسبيح وقوله: " يريدون وجهه " شهادة للمعنيين بالاية بالاخلاص وانهم يريدون بعبادتهم الله خالصا.

وقال البلخي: قراء‌ة ابن عامر غلط، لان العرب اذا ادخلت الالف واللام قالوا: الغداة يقولون: رأيتك بالغداة، ولايقولون بالغدوة، فاذا نزعوا الالف واللام قالوا رأيتك غدوة. وانما كتبت واو في المصحف، كما كتبوا الصلاة والزكاة والحياة كذلك.

[145]

قال ابوعلي الفارسى: الوجه الغداة، لانها تستعمل نكرة وتتعرف باللام فأما غدوة فمعرفة أبدا، وهوعلم صيغ له.

قال سيبويه: غدوة وبكرة جعل كل واحد منهما اسما للجنس كماجعلوا أم حنين اسما لدابة معروفة، كذلك هذا ووجه قراء‌ة ابن عامر أن سيبويه قال زعم الخليل أنه يجوز ان تقول أتيتك اليوم غدوة وبكرة، فجعلها بمنزلة ضحوة.

وقوله " فتطردهم " نصب الدال، لانه جواب النفي في قوله: " ماعليك من حسابهم " ونصب فيكون لانه جواب لقوله: " ولاتطرد الذين.. فتكون من الظالمين.. ما عليك من حسابهم من شئ " قال قوم يعني من حساب رزقهم في الدنيا ليس رزقهم في يدك ولارزقك في أيديهم، بل الله رازق الجميع.

وقال الجبائي وهوالاظهر: ما عليك من اعمالهم، ولاعليهم من أعمالك، بل كل واحد يؤاخذ بعمله، ويجازي على فعله، لاعلى فعل غيره.

وقوله " فتطردهم فتكون من الظالمين " اخبار منه تعالى انه لو طرد كل هؤلاء تقريبا إلى الكبراء منهم كان بذلك ظالما. والنبي صلى الله عليه وآله وان لم يقدم على القبيح جاز ان ينهى عنه، لانه قادر عليه وان كان النهي والزجر يمتنع منه، كما قال تعالى " لئن اشركت ليحبطن عملك " وان كان الشرك مأمونا منه.

قوله تعالى: وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين(53)

آية بلاخلاف.

معنى الاية انه تعالى اخبر انه يمتحن(1) الفقراء بالاغنياء والاغنياء بالفقراء فيختبر صبر الفقراء على مايرون من حال الاغنياء، واعراضهم عنهم إلى طاعة الرسل ويختبر شكر الاغنياء واقرارهم لمن يسبقهم من الفقراء، والموالي والعبيد إلى الايمان بالرياسة في الدين والتقدم فيه.

___________________________________

(1) في المخطوطة " ابتلى " بدل " يمتحن ".

[146]

وقوله: " ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا " فليس المراد باللام لام الغوص لان الله لو قصد ذلك لكان قد قصد بمافعل ان يقولوا هذا القول فيكفروا به ويعصوا ويتعالى الله عن ذلك فكيف يقصده؟ ! وقد عابه من قولهم وهو يعاقبهم عليه وعابهم به ولكن اللام لام العاقبة.

والمعنى اني فعلت ذلك بهم ليصبروا ويشكروا، فكان عاقبة أمرهم ان قالوا " أهؤلاء من الله عليهم من بيننا " ومثله قوله: " فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا "(1) وقال الشاعر:

ام سماك فلا تجزعي *** فللشكل ماتلد الوالداه(2)

والذي قال " أهولاء من الله عليهم من بيننا " هو عيينة بن حصين واصحابه وقال الزجاج: أي ليقول الكبراء " أهؤلاء من الله عليهم من بيننا " أي ليكون ذلك آية بينة انهم اتبعوا الرسول وصبروا على الشدة في حال شديدة.

وقال الجبائي: معنى قوله " فتنا بعضهم ببعض " أي شددنا التكليف على أشراف العرب وكبرائهم بأن امرناهم بالايمان برسول الله وبتقديم هؤلاء الضعفاء على نفوسهم لتقدمهم اياهم في الايمان، وكونهم افضل عند الله. وهذا أمر كان شاقاعليهم، فلذلك سماه الله فتنة.

وقوله " ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا " أي فعلنا هذا بهم ليقول بعضهم لبعض على وجه الاستفهام منه لا على وجه الانكار " أهؤلاء من الله عليهم من من بيننا " يعني بالايمان اذ رأوا النبي صلى الله عليه وآله يقدم هؤلاء عليهم ويفضلهم وليرضوا بذلك من فعل رسول الله، ولم يجعل هذه الفتنة والشدة في التكاليف ليقولوا ذلك على وجه الانكار، لان إنكارهم ذلك كفر بالله ومعصية له والله تعالى لايريد ذلك ولايرضاه، لانه لو أراد ذلك منهم، وفعلوه كانوا مطيعين

___________________________________

(1) سورة 28 القصص آية 8.

(2) مرهذا البيت في 3: 60 وسيأتي في 5: 43

[147]

له لاعاصين وقدثبت خلافه.

وقوله: " أليس الله بأعلم بالشاكرين " معناه ان الله تعالى أعلم بالشاكرين له ولنعمه من خلقه فيجازيهم على ذلك بما يستحقونه من الثواب والتعظيم والاجلال. والشاكرون المعنيون بالاية هم هؤلاء الضعفاء ويدخل معهم في ذلك سائر المؤمنين. فان قيل فعلى هذا الوجه الذي ذكرتموه قدوجد من الكفار القول على ما أراده فيجب ان يكونوا مطيعين.

قلنا: ليس في الاية ذلك وأنهم على أي وجه قالوه على وجه الانكار أو على وجه الاستفهام؟ وانما بين انه فعل بهم ليقولوا ذلك على وجه الاستفهام لا على وجه الانكار، فان كانوا قالوه على ماأراده الله فهم مطيعون وان قالوه منكرين فهم عصاة، فلما علمناأن الله تعالى ذمهم بهذا القول علمنا أنهم لم يقولوه على وجه المراد منهم انما قالوه على خلاف ماأريد منهم.

قوله تعالى: وإذا جاء‌ك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوء‌ا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم(54)

آية.

قرأ ابن عامر وعاصم ويعقوب: " انه من عمل.. فانه غفور رحيم " بفتح الهمزة فيهما وافقهم اهل المدينة في الاولى منهما. الباقون بالكسر فيهما.

قال ابوعلي الفارسى من كسر (أنه) الاولى جعلها تفسير للرحمة كما أن قوله " لهم مغفرة واجركريم " تفسير للوعد. واماكسر (إن) في قوله " فانه غفور رحيم " فلان مابعد الفاء حكمه الابتداء، ومن ثم حمل قوله " ومن عاد

[148]

فينتقم الله منه "(1) على أرادة المبتدأ بعد الفاء وحذفه. ومن فتح (أن) في قوله " انه " فانه جعل (ان) الاولى بدلا من الرحمة كأنه قال كتب ربكم على نفسه الرحمة انه من عمل منكم. واما فتحها بعد الفاء فانه غفور رحيم، فعلى انه أضمر له خبرا تقديره، فله انه غفور رحيم أي فله غفرانه. أو اضمر مبتدأ تكون (أن) خبره، كأنه قال فأمره انه غفور رحيم واما قراء‌ة نافع: بفتح الاولى وكسر الثانية فالقول فيهما انه أبدل من الرحمة واستأنف مابعد الفاء.

قال سيبويه: بلغنا ان الاعرج قرأ " انه من عمل.. فانه غفور رحيم ".

ونظيره قول ابن مقبل:

واني اذا ملت ركابي مناخها *** فاني على حظي من الامر جامح

يريد ان قوله: (واني اذا ملت ركابي) محمول على ماقبله كما ان قوله " انه من عمل " محمول على ماقبله.

وقوله: فاني على حظي مستأنف مثل قوله " فانه غفور رحيم " مستأنف به منقطع عما قبله.

قال الفراء: واختاره الزجاج ويجوز ان يحمل (فانه) على التكرار، قال: لان الكتاب يحتاج إلى (ان) مرة واحدة ولكن الخبر هو موضعها فلما دخلت في ابتداء الكلام أعيدت إلى موضعها، كما قال: " أيعدكم انكم اذا متم وكنتم ترابا وعظاما انكم مخرجون "(2) فلماكان موضع (ان) أيعدكم انكم مخرجون اذا متم دخلت في اول الكلام وآخره. ومثله " كتب عليه انه من تولاه فانه يضله "(3) ومثله " ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فان له "(4) قال ولك ان تكسر (ان) بعد الفاء في هذه الاحرف.

قال ابوعلي هذا غير صحيح، لان (من) لايخلو من ان تكون للجزاء الجازم الذي بني اللفظ عليه او تكون موصولة، ولايجوز ان يقدر التكرير مع الموصولة فلو كانت موصولة

___________________________________

(1) سورة 5 المائدة آية 98.

(2) سورة 23 المؤمنون آية 35.

(3) سورة 22 الحج آية 4.

(4) سورة 9 التوبة آية 64.

[149]

لبقي المبتدأ بلاخبر، ولايجوز ذلك في الجزء الجازم، لان الشرط يبقى بلا جزاء على اثبات الفاء في قوله: (فان له) ويمتنع من ان يكون بدلا لانه لايكون بين المبدل والمبدل منه الفاء العاطفة ولاالتي للجزاء، فان قيل: هي زائدة بقى الشرط بلاجزاء، فاذا بطل الامران اثبت ماقدمناه.

واما من كسرهما فعلى مذهب الحكاية كأنه لما قال " كتب ربكم على نفسه الرحمة " قال: " انه من عمل منكم سوء‌ا بجهالة ثم تاب من بعده واصلح فانه عفور رحيم " بالكسر، ودخلت الفاء جوابا للجزاء.

هذه الاية متصلة بالاولى: نهى الله تعالى نبيه (ع) في الاولى عن ان يطردهم. ثم امره في هذه الاية ان يقول لمن ورد عليه منهم اعني المؤمنين المصدقين بآيات الله وحججه وبراهينه عربيا كان او أعجميا ضعيفا كان أو قويا - " سلام عليكم " فيبدأهم بالتحية، ويبشرهم بالرحمة ويقوي قلوبهم ويعرفهم أن من اذنب منهم ثم تاب، فتوبته مقبولة كل ذلك خلافا على الكافرين فيما أرادوه عليه من طردهم والغلظة عليهم.

وقال محمد بن يزيد: السلام في اللغة أربعة اشياء: احدها - سلمت سلاما مصدر.

وثانيها - السلام جمع سلامة.

وثالثها - السلام من أسماء الله.

ورابعها - السلام شجر.

ومعنى السلام الذي هو مصدر سلمت دعاء للانسان ان يسلم في دينه ونفسه، ومعناه التخلص.

والسلام الذي هو اسم الله معناه ذو السلام أي الذي يملك السلام الذي هو تخليص من المكروه.

والسلام الذي هو الشحر، فهوشجر عظيم سمي بذلك لسلامته من الافات.

والسلام حجار صلبة لسلامتها من الرخاوة ويسمى الصلح: السلام والسلم والسلم، لان معناه السلامة من الشر.

والسلام دلولها مروة واحدة نحو دلو السقائين.

والسلم السبب إلى لشئ.

والسلم الذي يرتقى عليه لانه يسلمك إلى حيث تريد وقوله " من عمل منكم سوء‌ا بجهالة " ليس المراد أنهم يجهلون أنه سوء، لانه لوأتى

[150]

المسلم مايجهل أنه سوء لكان كمن لم يتعمد سوء‌ا.

وتحتمل الاية أمرين: احدهما - انه عمله وهوجاهل بالمكروه فيه أي لم يعرف أن فيه مكروه. والاخر - انه أقدم مع علمه ان عاقبته مكروهة فآثر العاجل، فجعل جاهلا لانه آثر القليل على الراحة الكثيرة والعاقبة الدائمة ويحتمل عندي أن يكون أراد " من عمل منكم سوء‌ا بجهالة " بمعنى أنه لايعرفها سوء‌ا، لكن لما كان له طريق إلى معرفته وجب عليه التوبة منه، فاذا تاب قبل الله توبته.

فان قيل: قوله " وأصلح " هل فعل الصلاح شرط في قبول التوبة أولا؟ فان لم يكن شرطا فلم علق الغفران بمجموعهما. قيل: لاخلاف أن التوبة متى حصلت على شرائطها التي قدمنا ذكرها في غير موضع، فانه يقبل التوبة ويسقط العقاب، وان لم يعمل بعدها عملا صالحا غير أنه اذا تاب وبقي بعد التوبة، فان لم يعمل الصالح عاد إلى الاصرار، لانه لايخلو في كل حال من واجب عليه أو ندب من تجديد معرفة الله ومعرفة نبيه، وغير ذلك من المعارف وكثير من أفعال الجوارح، فاما ان قدرنا اختراعه عقيب التوبة من غير فعل صلاح، فان الرحمة باسقاط العقاب تلحقه بلاخلاف.

قوله تعالى: وكذلك نفصل الايات ولتستبين سبيل المجرمين(55)

آية بلاخلاف.

قرأ اهل الكوفة الاحفصا و " ليستبين " بالياء. الباقون بالتاء.

وقرأ اهل المدينة " سبيل " بالنصب. الباقون بالرفع.

من قرأ بالتاء ورفع السبيل، فلان السبيل يذكر ويؤنث، فالتذكير لغة تميم، والتأنيث لغة أهل الحجاز فأنث - هاهنا - كما قال

[151]

" قل هذه سبيلي "(1).

ومن قرأ بالياء فانه ذكر السبيل، لانه الطريق. وهو يذكر، كما قال " وان يروا سبيل الرشد لايتخذوه سبيلا "(2).

ومن قرأ بالتاء، ونصب (السبيل) أراد أن يكون خطابا للنبي صلى الله عليه وآله كأنه قال: ولتستبين أنت يامحمد سبيل المجرمين. والنبي صلى الله عليه وآله وان كان مستبينا لطريق المجرمين عالما به فيجوز أن يكون ذلك على وجه التأكيد، ولان يستديم ذلك. ويحتمل أن يكون المراد به الامة، فكأنه قال ليزداد استبانة، ولم يحتج ان يقول: ولتستبين سبيل المؤمنين، لان سبيل المجرمين اذا بانت، فقد بان معها سبيل المؤمنين، لانها خلافها. ويجوز ان يكون المراد، ولتستبين سبيل المجرمين ولتستبين سبيل المؤمنين، وحذف أحدى الجملتين لدلالة الكلام عليه، كما قال " سرابيل تقيكم الحر "(3) ولم يقل تقيكم البرد، لان الساتر يستر من الحر والبرد، لكن جرى ذكر الحر، لانهم كانوا في مكانهم أكثر معاناة له من البرد، وكذلك سبيل المجرمين، خص بالذكر، لان الكلام في وصفهم، وترك ذكر المؤمنين لدلالة الكلام عليه.

وهذه الاية معطوفة على الايات التي احتج الله بها على مشركي العرب، وغيرهم فلذلك قال " وكذلك " أي كما قدمنا " نفصل الايات " أي نميزها ونبينها ونشرحها لتلزمهم الحجة و " لتستبين سبيل " من عاند بعد البيان أو ذهب عن فهم ذلك بالاعراض عنه لمن أراد التفهم منهم، ومن المؤمنين ليجانبوها ويسلكوا غيرها.

قوله تعالى: قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله قل لاأتبع أهواء‌كم قد ضللت إذا وماأنا من المهتدين(56)

___________________________________

(1) سورة 12 يوسف آية 108.

(2) سورة 7 الاعراف آية 145.

(3) سورة 16 النحل آية 81.

[152]

روي عن يحيى بن وثاب أنه قرأ " ضللت " بكسر اللام. والقراء كلهم على فتحها، وهما لغتان. فمن كسر اللام فتح الضاد من " يضل ". ومن فتح اللام كسر الضاد. فقال " يضل " وقال أبوعبيدة اللغة الغالبة بالفتح.

وروى ابوالعالية أن النبي صلى الله عليه وآله قرأ هذه الاية عند الكعبة وأظهر لهم المفارقة. وهذه الاية فيها خطاب للنبي صلى الله عليه وآله وأمر له بأن يقول للكافرين: ان الله قد نهاني أن اعبد هذه الاوثان التي تعبدونها من دون الله وتدعونها آلهة وأنها تقربكم إلى الله زلفى، وأن يقول لهم اني لاأتبع أهواء‌كم في عبادة الاوثان، واني لو فعلت ذلك لكنت قد ضللت عن الصواب، وبعدت عن الرشد ولم أكن من المهتدين إلى الخير والصلاح. ومعناه معنى الشرط وتقديره قد ضللت ان عبدتها.

وقال الزجاج: " وماانا من المهتدين " أي وماأنا من النبيين الذين سلكوا طريق الهدى.

قوله تعالى: قل إني على بينة من ربي وكذبتم به ماعندي ما تستعجلون به إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين(57)

آية بلاخلاف.

قرأ اهل الحجاز وعاصم " يقص الحق " من القصص وهوالمروي عن ابن عباس ومجاهد. الباقون - بالضاد - المعجمة من فوقها من القضاء.

وكان ابوعمرو يقوي القراء‌ة بالضاد بقوله " وهوخير الفاصلين ".

ويقول الفصل في القضاء لافي القصص ويقوي ذلك بقوله " والله يقضى الحق وهو يهدي السبيل ".

وحجة من قرأ بالصاد قوله: " نقص عليك أحسن القصص "(1) وقوله: " ان هذا لهو القصص "(2).

___________________________________

(1) سورة 12 يوسف آية 3.

(2) سورة 3 آل عمران آية 62

[153]

وأما الفصل الذي قوى به أبوعمرو قراء‌ته فقد جاء الفصل في القول كماجاء في الحكم والقضاء في نحو قوله " انه لقول فصل "(3) وقال: " احكمت آياته ثم " فصلت "(4) وقال " نفصل الايات "(5) وقال " لقد كان في قصصهم عبرة لاولي الالباب ماكان حديثا يفتري ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شى "(6) فذكر في القصص انه تفصيل.

والحق في قوله " يقض الحق " يحتمل امرين: احدهما - أن يكون صفة لمصدر محذوف وتقديره يقضي القضاء الحق أو يقص القصص الحق. والثاني - أن يكون مفعولا به يعجل الحق كقول الهذلي:

وعليهما مسرودتان قضاهما *** داود أن صنع السوابغ تبع(7)

أي صنعهما داود.

وفي هذه الاية أمر من الله لنبيه ان يقول للكفار انه على بينة من ربه، أي على أمر بين من معرفة الله وصحة نبوته، لامتبع للهوى.

وقوله " وكذبتم به " الهاء راجعة إلى البيان، لان البينة والبيان واحد، وتقديره وكذبتم بالبيان الذي هو القرآن.

وقال قوم: بينة من ربي من نبوتي " وكذبتم به " يعني بالله. وعلى الاول يكون تقديره كذبتم بما أتيتكم، لانه هو البيان.

وقوله: " ماعندي ماتستعجلون به " (ما) بمعنى ليس. والذي استعجلوا به يحتمل امرين: احدهما - العذاب، كما قال " ويستعجلونك بالعذاب "(8). والثاني - أن يكونوا استعجلوا الايات التي أقترحوها عليه فأعلمهم الله أن ذلك عند الله وأن الحكم له تعالى " يقض الحق وهو خير الفاصلين " وكتبت

___________________________________

(3) سورة 86 الطارق آية 13.

(4) سورة 11 هود آية 1.

(5) سورة 10 يونس آية 24.

(6) سورة 12 يوسف آية 111.

(7) مر تخريجه في 1 / 429 وفي 4 / 88.

(8) سورة 22 الحج آية 47 وسورة 29 العنكبوت آية 53 - 54

[154]

يقضى بغير ياء، لانها اسقطت في اللفظ لالتقاء الساكنين، كما كتبوا " سندع الزبانية "(3) بغير واو.

ومن قرأ: بالصاد من القصص حمله على أن جميع ماأنبأ به وأمر به، فهو من أقاصيص الحق.

وقال الحسن: (البنية) النبوة و (كذبتم به) بالنبوة التي جاء‌ت من عند الله و " ما تستعجلون به " من العذاب جواب لقولهم: " أتنا بعذاب الله "(4) وفي قراء‌ة ابن مسعود " يقص بالحق " ولم يقرأ به احد.

وقوله " يقضى بالحق " يدل على بطلان قول من يقول: ان الظلم والجور بقضاء الله، لان ذلك كله ليس بحق.

قوله تعالى: قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الامر بيني وبينكم والله أعلم بالظالمين(58)

آية

امر الله تعالى نبيه ان يقول للكفار لو كان " عندي ما تستعجلون به " من كون العذاب وأنزاله بكم برأيي وارادتي لفعلت ذلك بكم ولانزلته عليكم و " لقضي الامر بيني وبينكم " بذلك ولانفصل ولانقطع، ولكن ليس ذلك إلي وانماهو إلى الله " والله وأعلم بالظالمين " وبمن ينبغي امهاله منهم ومن يجب معالجته بالعقوبة فهو يدبر ذلك بحسب مايعلم من وجه الحكمة والصواب.

قوله تعالى: وعنده مفاتح الغيب لايعلمها إلا هو ويعلم مافي البر والبحر وماتسقط من ورقة إلا يعلمها ولاحبة في ظلمات الارض ولارطب ولايابس إلا في كتاب مبين(59)

آية بلاخلاف

وهي تمام السبع المثاني.

___________________________________

(3) سورة 96 العلق آية 18.

(4) سورة 29 العنكبوت آية 29

[155]

" مفاتح الغيب " معناه الامور التي بها يستدل على الغائب فتعلم حقيقته، يقال: فتحت على الرجل، أي عرفته أولا، ويستدل به على آخر، وجملة يعرف بها التفصيل. ومنه قولهم أفتح علي أي عرفني.

قال الزجاج: معناه وعنده الوصلة إلى علم الغيب وكل مالايعلم اذا استعلم.

وروي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: مفاتح الغيب خمس لايعلمها الا الله: ان الله عنده علم الساعة، وينزل الغيث، ويعلم مافى الارحام، وماتدري نفس ماذا تكسب غدا وماتدري نفس بأي أرض تموت.

ومعنى الاية أن الله تعالى عالم بكل شئ من مبتدء‌ات الامور وعواقبها فهو يعجل ماتعجيله أصلح وأصوب، ويأخر ما تأخيره أصلح واصواب، وأنه الذي يفتح باب العلم لمن يريد إعلامه شيئا من ذلك من أنبيائه وعباده، لانه لايعلم الغيب سواه، فلايتهيأ لاحد ان يعلم العباد ذلك، ولاأن يفتح لهم باب العلم به الا الله، وبين أنه يعلم مافي البر والبحر من الحيوان والجماد. وبين أنه ماتسقط من ورقة من شجرة الايعلمها ولاحبة في جوف الارض وفي ظلماتها الا ويعلمها ولارطب ولايابس جميع أصناف الاجسام، لانها أجمع لاتخلو من احدى هاتين الصفتين.

وقوله: " وماتسقط من ورقة الا يعلمها " المعنى أنه يعلمها ساقطة وثابتة كما تقول: مايجيئك من أحد الا وأنا أعرفه، معناه الا وانا أعرف في حال مجيئه.

وقوله: " ولاحبة في ظلمات الارض ولارطب ولايابس " خبر على تقدير (من). ويجوز الرفع فيها على معنى ولاتسقط ورقة ولاحبة. ويجوز ان يرفعه على الابتداء ويقطعه عن الاول ويكون خبره " الا في كتاب مبين ".

وقوله: " في كتاب مبين " يحتمل أمرين: احدهما - ان يكون معناه في علم الله مبين. وثانيهما - ان يكون " في كتاب مبين " ان يكون الله تعالي أثبت ذلك في

[156]

كتاب قبل أن يخلقه، كما قال " ماأصاب من مصيبة في الارض، ولافي انفسكم الافي كتاب من قبل أن نبرأها "(1) ويكون الغرض بذلك اعلام الملائكة أنه علام الغيوب ليدل على أنه عالم بالاشياء قبل كونها. ويجوز ان يكون المراد بذلك أنه كتب جميع مايكون ثم امتحن الملائكة بكتبه وتعبدهم باحصائه، كما تعبد سائر خلقه بمايشاء مما فيه صلاحهم.

وقال البلخي: " في كتاب مبين " أي هو محفوظ غير منسي ولامغفول كما يقول القائل لصاحبه: ماتصنعه عندي مسطر مكتوب.

وانما يريد بذلك أنه حافظ له يريد مكافأته عليه، قال الشاعر: ان لسلمى عندنا ديوانا ويجوز أن يكون المراد بذكر الورقة والحبة والرطب والياس التوكيد في الزجر عن المعاصى والحث على البر والتخويف لخلقه بأنه اذاكانت هذه الاشياء التي لاثواب فيها ولاعقاب عليها محصاة عنده محفوظة مكتوبة، فأعمالكم التي فيها الثواب والعقاب أولى، وهو قول الحسن.

وقال مجاهد: البر القفار والبحار كل قرية فيها ماء.

وعن أبي عبدالله: الورقة السقط والحبة الولد.

وظلمات الارض الارحام والرطب مايبقى ويحيا واليابس ما تغيض.

___________________________________

(1) سورة 57 الحديد آية 22.

الآية: 60 - 79

قوله تعالى: وهو الذي يتوفيكم بالليل ويعلم ماجرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون(60)

آية بلاخلاف.

قوله: " وهو " كناية عن الله تعالى. و " الذي " صفة له " يتوفاكم بالليل " قيل في معناه قولان: احدهما - قال الجبائي: يقبضكم، وقال الزجاج: ينيمكم بالليل فيقبضكم

 [157]

الله اليه، كما قال: " الله يتوفى الانفس حين موتها "(1).

وقال البلخي: " واختاره الحسين بن علي المغربي " يتوفاكم " بمعنى يحصيكم عند منامكم وأستقراركم، قال الشاعر:

ان بني الادرم ليسوا من أحد *** ليسوا من قيس وليسوا من أسد

ولاتوفاهم قريش في العدد(2) معناه لاتحصيهم في العدد.

وقوله: " ويعلم ماجرحتم بالنهار " أي كسبتم، تقول فلان جارحة أهله أي كاسبهم، ومنه قوله: " وماعلمتم من الجوارح مكلبين "(3) أي من الكواسب التي تكسب على أهلها، وهو قول مجاهد.

وقوله: " ثم يبعثكم فيه " أي في النهار، فجعل أنتباههم من النوم بعثا " ليقضى أجل مسمى " ليستوفى الاجل المسمى للحياة إلى حين الموت.

ثم " اليه مرجعكم " يعني يوم القيامة فيحشرهم الله إلى حيث لايملك فيه الامر سواه.

" ثم ينبئكم " يعني يخبركم ويعلمكم " بما كنتم تعملون " في الدنيا فيجازيكم على أعمالكم، وفيها دلالة على خزيهم وحاجتهم، واحتجاج عليهم أنه لايستحق العبادة سواه اذهو الفاعل لجميع مايستحق به العبادة مما عدده والقادر عليه دون من يعبدونه من الاوثان والاصنام.

قوله تعالى: وهوالقاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لايفرطون(61) ثم ردوا إلى الله موليهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين(62)

آيتان

___________________________________

(1) سورة 39 الزمر آية 42.

(2) مقاييس اللغة 3: 270 واللسان (وفي) وروايته " الادرد " مع حذف البيت الثاني وجعل الثالث بعد الاول وكذلك في الطبري 11: 405.

(3) سورة 5 المائدة آية 5.

[158]

كلهم قرأ " توفته رسلنا " بالتاء الاحمزة فانه قرأ " توفاه ".

وحجة من قرأ بالتاء قوله " كذبت رسل من قبلك "(1) وقوله " اذجاء‌تهم الرسل من بين أيديهم "(2) و " جاء‌تهم رسلهم بالبينات(3) و " قالت رسلهم "(4) وحجة حمزة انه فعل متقدم مسند إلى مؤنث غير حقيقي. وانما التأنيث للجمع، فهومثل قوله " وقال نسوة في المدينة "(5) وماأشبه ذلك مما يأتيه تأنيث الجمع، قال وليس ذلك خلافا للمصحف، لان الالف الممالة تكتب ياء.

وقوله " وهوالقاهر " معناه والله المتقدر المستعلي على عباده الذين هو فوقهم لا على أنه في مكان مرتفع فوقهم وفوق مكانهم، لان ذلك لايجوز عليه، لانه صفة للاجسام. ومثله في اللغة أمر فلان فوق أمر فلان، يراد به أنه أعلى امرا، وانفذ قولا. ومثله قوله تعالى " يد الله فوق أيديهم "(6) والمراد أنه أقوى واقدر منهم وانه القاهر لهم.

وقوله: " ويرسل عليكم حفظة " يعني يرسل عليكم ملائكة يحفظون أعمالكم ويحصونها عليكم ويكتبونها ليعلموا بذلك أن عليهم رقيبا من عندالله ومحصيا عليهم فينزجروا من عن المعاصي. وبين ان هؤلاء الحفظة هم شهداء عليكم بهذه الاعمال يوم القيامة.

وقوله " حتى اذا جاء احدكم الموت " يعني وقت الموت " توفته رسلنا " يعني قبضت الملائكة روح المتوفى، وهم رسل الله الذين عنا هم الله بهذه الاية. وقال الحسن: " توفته رسلنا " قال هو ملك الموت وأعوانه وأنهم لايعلمون آجال العبادحتى يأتيهم علم ذلك من قبل الله بقبض أرواح العباد.

___________________________________

(1) سورة 6 الانعام آية 34.

(2) سورة 41 حم السجدة آية 14.

(3) سورة 7 الاعراف آية 100 ويونس 10 آية 13 وابراهيم 14 آية 9 الروم 30 آية 9 وسورة 35 فاطر آية 25 والمؤمن 40 آية 83.

(4) سورة 14 ابراهيم آية 10.

(5) سورة 12 يوسف آية 30.

(6) سورة 48 الفتح آية 10.

[159]

وقوله: " توفته رسلنا " أي تقبضه، والتوفى هوالقبض على مابيناه. ثم إن هؤلاء الرسل " لايفرطون " أي لايقصرون - في قول الزجاج - ولايغفلون، ولا يتوانون.

وقال الجبائي: لايأخذون روحه قبل أجله ويبادرون إلى ماأمروا به عن غير تقصير، ولاتفريط.

والمعنى في التوفي ان يعلم العباد أنهم يحصون اذا ماتوا فلايرون أنهم يهملون اذا ماتوا وأن احدا منهم لايثبت ذكره ليجزى بعمله. ثم بين ان هؤلاء الذين تتوفاهم رسلنا يردون بعد الوفاة إلى الله فيردهم إلى الموضع الذي لايملك الحكم عليهم فيه الا الله ولايملك نفعهم ولاضرهم سواه فجعل ردهم إلى ذلك الموضع ردا إلى الله، وبين أنه هو " مولاهم الحق " لانه خالقهم ومالكهم، والقاهر عليهم القادر على نفعهم وضرهم، ولايجوز ان يوصف بهذه الصفة سواه، فلذلك كان مولاهم الحق.

وقال البلخي: (الحق) اسم من اسماء الله وهوخفض، لانه نعت لله، ويجوز الرفع على معنى الله مولاهم الحق، ويجوز ان ينصب على معنى يعني مولاهم، والقراء‌ة بالخفض.

وقوله: " ألا له الحكم " معناه ألا يعلمون أو ألا يقرون ان الحكم يوم القيامة هوله وحده؟، ولا يملك الحكم في ذلك اليوم سواه، كما قد يملك الحكم في الدنيا غيره بتمليك الله اياه.

وقوله: " وهو أسرع الحاسبين " روي أنه تعالى يحاسب عباده على مقدار حلب شاة، وذلك يدل على أنه لايحتاج ان يكلفهم مشقة وآلة على مايقوله المشبهة، لانه لوكان كذلك لايحتاج ان يتطاول زمان محاسبته أو أنه يشغله محاسبته عن محاسبة غيره.

وروي عن أمير المؤمنين (ع) أنه قيل له: كيف يحاسب الله الخلق وهم لايرونه؟ قال: كما يرزقهم ولايرونه والمعنى في الاية أنه تعالى أحصى الحاسبين لما أحصى الملائكة وتوفوا من الانفس لايخفى عليه من ذلك خافية ولايحتاج في عده إلى فكر ونظر.

[160]

قوله تعالى: قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجينا من هذه لنكونن من الشاكرين(63) قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون(64)

آيتان بلاخلاف.

قرأ يعقوب " قل من ينجيكم " مخففا. الباقون بالتشديد.

وقرأ ابو بكر " وخفية " بكسر الخاء - هاهنا -، وفي الاعراف.

وقرأ اهل الكوفة الا ابن شاهي " أنجانا " على لفظ الاخبار عن الواحد الغائب، وأماله حمزة والكسائي وخلف. الباقون " أنجيتنا " على وجه الخطاب.

وقرأ اهل الكوفة الاالعبسى وهشام وأبوجعفر " قل الله ينجيكم " بالتشديد. الباقون بالتخفيف.

يقال: نجازيد ينجو، قال الشاعر: * نجاسالم والنفس منه لشدقه *(1) فاذا نقلت الفعل حسن ان تنقله بالهمزة فتقول انجيته، ويجوز أن ننقله بتضعيف العين، فتقول نجيته، ومثله فرحته وأفرحته وعرضته وأعرضته، قال الله تعالى " فأنجاه الله من النار "(2) " فأنجيناه والذين معه "(3) وقال " ونجينا الذين "(4) فلما أستوت اللغتان وجاء التنزيل بهما تساوت القراء‌تان.

ووجه قراء‌ة من قرأ " لئن أنجانا " أنه حمله على الغيبة كقوله " تدعونه ... لئن أنجانا "، وكذلك مابعده " قل الله ينجيكم " " قل هوالقادر " فهذاكله أسماء غيبة ف‍ (أنجانا) أولى من (انجيتنا) لكونه على ماقبله، وما

___________________________________

(1) اللسان " نجا " نسبه إلى الهذلي وروايته:

نجا عامر والنفس منه بشدقه *** ولم ينج الاجفن سيف ومئزرا

(2) سورة 29 العنكبوت آية 4.

(3) سورة 7 الاعراف آية 63، 71.

(4) سورة 41 حم السجدة آية 18

[161]

بعده من لفظ الغيبة، وموضع (يدعونه) نصب على الحال، وتقديره قل من ينجيكم داعين وقائلين " لئن انجيتنا ".

ومن قرأ من الكوفيين " لئن أنجانا " طلب المشاكلة.

ومن قرأ بالتاء واجه بالخطاب ولم يراع المشاكلة. ويقوي ذلك قوله في أخرى " لئن انجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين. قل الله ينجيكم " فجاء انجيتنا على الخطاب وبعده اسم غيبة. وأما إمالة حمزة والكسائي فحسنة، لان هذا النحو من الفعل اذا كان على أربعة أحرف أستمرت فيه الامالة، لانقلاب الالف ياء في المضارع.

ومن قرأ " خفية " بكسر الخاء، فلان أباعبيدة قال " خفية " تخفون في أنفسكم وخفي غيره خفية، وخفية لغتان، وحكي خفوة وخفوة بالواو، كما قالواحل حبوته وحبيته، ولايقرأ بذلك.

فأما قوله " تضرعا وخيفة " ففعلة من الخوف. وانقلبت الواو، للكسرة.

والمعنى أدعوا خائفين خافيين، قال الشاعر:

فلا تقعدن على زخة *** وتضمر في القلب وجدا وخيفا(1)

يريد جمع خيفة.

أمر الله تعالى نبيه ان يخاطب الخلق ويقول لهم على وجه التقريع لمن يعبد الاصنام منهم - " من ينجيكم من ظلمات البر والبحر " ومعناه شدائد البر والبحر، تقول العرب لليوم الذي يلقى فيه الشدة: يوم مظلم حتى أنهم يقولون: يوم ذو كواكب أي قد اشتدت ظلمته حتى صار كالليل، قال الشاعر:

ابني أسد هل تعلمون بلاء‌نا *** اذا كان يوم ذو كواكب أشهب

وقال آخر:

فدى لبني ذهل بن شيبان ناقتي *** اذا كان يوم ذو كواكب أشهب(2)

فمعنا ظلمات البر والبحر شدائدهما.

وقوله: " تدعونه.. وخفية " أي مظهرين الضراعة، وهي شدة الفقر إلى الشئ والحاجة و " تدعونه..

___________________________________

(1) قائله صخر الغي. اللسان " زخخ ". الزخ والزخة " بتشديد الخاء ": الحقد والغيظ.

(2) اللسان " شهب " أنشده سيبويه.

في المطبوعة " اشنع " بدل (اشهب)

[162]

خفيه " أي تدعونه في أنفسكم بما تضمرون من حاجاتكم اليه كما تظهرون.

وقوله " لئن أنجيتنا من هذه " أي في شدة وقعوا فيها، يقولون " لئن أنجيتنا من هذه " لنشكرنك، فأمر الله ان يسألهم على وجه التوبيخ لهم والتقرير بأنه ينجيهم وأنه القادر على نفعهم وضرهم. ثم أعلمهم ان الله الذي أقروا بأنه ينجيهم هو ينجيهم ثم هم يشركون معه الاصنام التي قد علموا أنها من صنعهم وأنها لاتضر ولاتنفع وأنه تعالى على تعذيبهم قادر.

قوله تعالى: قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض أنظر كيف نصرف الايات لعلهم يفقهون(65)

آية بلاخلاف

هذا أمر من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله أن يقول لهؤلاء الكفار: ان الله قادر على ان يبعث عليكم عذابا من فوقكم نحو الحجارة التي أمطرها على قوم لوط، والطوفان الذي غرق به قوم نوح " أو من تحت أرجلكم " نحو الخسف الذي نال قارون ومن خسف به " أو يلبسكم شيعا " معنى يلبسكم يخلط أمركم خلط اضطراب، لاخلط اتفاق يقال: لبست عليه الامر ألبسه اذا لم تبينه، وخلطت بعضه ببعض، ومنه قوله " وللبسنا عليهم مايلبسون "(1) ويقال لبست الثوب ألبسه.

ومعنى " شيعا " أي يجعلكم فرقا لا تكونون شيعة واحدة فاذا كنتم مختلفين قاتل بعضكم بعضا وهو معنى قوله " ويذيق بعضكم بأس بعض " وانما يلبسهم الله شيعا بأن يكلهم إلى أنفسهم ولايلطف لهم اللطف الذي يؤمنون عنده ويخليهم من ألطافه بذنوبهم السالفة، فيلبس عند ذلك عليهم أمرهم، فيختلفوا حتى يذوق بعضهم بأس بعض. ثم أكد الاحتجاج عليهم، فقال: " انظر كيف نصرف الايات " لتفقهوا.

___________________________________

(1) سورة 6 الانعام آية 9

[163]

وقال الحسن: الاية متناولة، لاهل الكتابين في التهديد بالخسف، وانزال العذاب " أو يلبسكم شيعا " يتناول أهل الصلاة.

وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: (سألت ربي أن لايظهر على أمتي أهل دين غيرهم فأعطاني، وسألته ألا يهلكم جوعا فأعطاني، وسألته أن لايجمعهم على ضلالة، فأعطاني، وسألته أن لايلبسهم شيعا، فمنعني ذلك). وفي الاية دلالة على أنه تعالى أراد من الكفار الايمان، لانه قال: فعلت هذا بهم " لعلهم يفقهون " ومعناه لكي يفقهوا، لان معنى الشك لايجوز عليه تعالى. واذا ثبت أنها دخلت للغرض ثبت أنه أراد ان يؤمنوا به ويوحدوه، ويفقهوا أدلته ويعرفوها.

وروي عن ابي عبدالله (ع) أنه قال معنى " عذابا من فوقكم " السلطان الجائر " ومن تحت أرجلكم " السفلة، ومن لاخير فيه " أويلبسكم شيعا " قال: " العصبية " ويذيق بعضكم بأس بعض " قال سوء الجوار، ويكون معنى البعث على هذا الوجه التمكين ورفع الحيلولة دون أن يفعل ذلك أو يأمر به، يتعالى الله عن ذلك.

قوله تعالى: وكذب به قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل(66) لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون(67)

آية في المدنيين والبصري وآيتان في الكوفي، آخر الاولى " بوكيل ".

قوله تعالى " وكذب به قومك " أي بما صرف من الايات التي ذكرها في الاية الاولى - في قول البلخي والجبائي - وقال الازهري: الهاء راجعة إلى القرآن. ثم أخبر تعالى، فقال " وهوالحق " وأمره أن يقول لقومه " لست عليكم بوكيل " أي لم أؤمر بمنعكم من التكذيب بآيات الله وان أحفظكم من ذلك وان أحول بينكم وبينه، لان الوكيل على الشئ هوالقائم بحفظه، والذي يدفع الضرر عنه.

[164]

وقال البلخي: هذه نزلت بمكة قبل أن يؤمر بالقتال، ثم امر فيما بعد ذلك. وأمره ان يخبرهم ان " لكل نباء " يخبرهم به " مستقر " وهو وقته الذي يعلمون فيه صحة ماوعدهم به وحقيقته، وذلك عند كون مخبره، اما في الدنيا، واما في الاخرة " وسوف تعلمون " فيه تهديد لهم بكون ماأخبرهم به من العذاب النازل بهم في الدنيا والاخرة، ووقت كون هذا العذاب هو مستقر الخبر.

وقال بعضهم: أنبأه الله بالوقت الذي يظفره فيه بهم.

وقال الزجاج يجوز أن يكون اراد وقت الاذن في محاربتهم حتى يدخلوا في الاسلام أو يقبلوا الجزية ان كانوا أهل كتاب.

وقوله: " وكذب به قومك " المراد به الخصوص، لان في قومه جماعة صدقوا به، وهوكما يقول القائل: هؤلاء عشيرتي، يشير إلى جماعة وان لم يكونوا جميع عشيرته.

قوله تعالى: وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فاعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين(68)

آية بلاخلاف

قرأ ابن عامر " وام ينسينك " بتشديد السين. الباقون بالتخفيف.

خاطب الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله بهذه الاية، فقال له " اذا رأيت " هؤلاء الكفار " الذين يخوضون في آياتنا ".

قال الحسن، وسعيد بن جبير: معنى " يخوضون " يكذبون " بآياتنا " وديننا والخوض التخليط في المفاوضة على سبيل العبث واللعب، وترك التفهم واليقين.

ومثله قول القائل: تركت القوم يخوضون، أي ليسوا على سداد، فهم يذهبون ويجيئون من غير تحقيق ولا قصد للواجب - أمره حينئذ ان يعرض عنهم " حتى يخوضوا في حديث غيره " لان من حاج من هذه حاله وأراد التبيين له فقدوضع الشئ في غير موضعه وحط من قدر الدعاء، والبيان والحجاج.

[165]

ثم قال له صلى الله عليه وآله ان انساك الشيطان ذلك " فلا تقعد بعد الذكرى " - والذكرى والذكر واحد - " مع القوم الظالمين " يعني هؤلاء الذين يخوضون في ذكر الله وآياته.

ثم رخص للمؤمنين بقوله: " وما على الذين يتقون من حسابهم "(1) بأن يجالسوهم اذاكانوا مظهرين للتكبر عليهم غير خائفين منهم، ولكن ذكرى يذكرونهم أي ينبهونهم ان ذلك يسوء‌هم " لعلهم يتقون " ثم نسخ ذلك بقوله " وقد نزل عليكم في الكتاب ان اذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها " إلى قوله: " انكم اذا مثلهم "(2) وبهذا قال سعيد بن جبير والسدي وجعفر بن مبشر، واختاره البلخي وقال: في أول الاسلام كان ذلك يخص النبي صلى الله عليه وآله ورخص المؤمنين فيه، ثم لما عز - الاسلام، وكثر المؤمنون نهوا عن مجالستهم ونسخت الاية.

واستدل الجبائي بهذه الاية على انه لايجوز على الائمة المعصومين على مذهبنا التقية. (وقال: لانهم اذاكانوا الحجة كانوا مثل النبي، وكما لايجوز عليه التقية فكذا الامام - على مذهبكم -) ! وهذا ليس بصحيح، لانا لانجوز على الامام التقية فيما لايعرف الا من جهته، كالنبي وانما يجوز التقية عليه فيما يكون عليه دلالة قاطعة موصلة إلى العلم، لان المكلف علته مزاحة في تكليفه، وكذلك يجوز في النبي صلى الله عليه وآله أن لايبين في الحال، لامته مايقوم منه بيان منه أومن الله أو عليه دلالة عقلية، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وآله لعمرحين سأله عن الكلالة فقال (يكفيك آية الصيف) وأحال آخر في تعرف الوضوء على الاية، فأما مالايعرف الا من جهته، فهو والامام فيه سواء لايجوز فيهما التقية في شئ من الاحكام.

واستدل الجبائي أيضا بالاية على ان الانبياء يجوز عليهم السهو والنسيان قال بخلاف مايقوله الرافضة بزعمهم من أنه لايجوز عليهم شئ من ذلك. وهذا ليس بصحيح أيضا لانا نقول انما لا يجوز عليهم السهو والنسيان فيما يؤدونه عن الله، فأما غير ذلك فانه يجوز أن ينسوه أو يسهو عنه مما لم يؤد ذلك إلى

___________________________________

(1) سورة 6 الانعام آية 69.

(2) سورة 4 النساء آية 139

[166]

الاخلال بكمال العقل، وكيف لايجوز عليهم ذلك وهم ينامون ويمرضون ويغشى عليهم، والنوم سهو وينسون كثيرا من متصرفاتهم أيضا وماجرى لهم فيما مضى من الزمان ا، والذي ظنه فاسد.

وقال أيضا في الاية دلالة على وجوب انكار المنكر لانه تعالى أمره بالاعراض عنهم على وجه الانكار والازدراء لفعلهم وكل أحد يجب عليه ذلك اقتداء بالنبي.

قوله تعالى: وماعلى الذين يتقون من حسابهم من شئ ولكن ذكرى لعلهم يتقون(69)

آية بلاخلاف.

لهذه الاية تأويلان: أحدهما - قال الجبائي والزجاج واكثر المفسرين ان المراد ليس على المتقين من حساب الكافرين ومايخوض فيه المشركون، ولامن مكروه عاقبته شئ " ولكن ذكرى " أي نهوا عن مجالستهم ليزدادوا تقى وأمروا ان يذكروهم وينبهوهم على خطأهم لكي يتقي المشركون اذا رأوا أعراض هؤلاء المؤمنين عنهم، وتركهم مجالستهم فلا يعودون لذلك.

والثاني - قال البلخي: ليس على المتقين من الحساب يوم القيامة مكروه ولاتبعة ولكنه أعلمهم بأنهم محاسبون وحكم بذلك عليهم لكي يعلموا أن الله يحاسبهم، فيتقوا فعلى الاول الهاء والميم كناية عن الكفار وعلى الثاني عن المؤمنين.

و (ذكرى) يحتمل ان يكون في موضع رفع ونصب، فالنصب على تقدير ذكرهم ذكرى والرفع على وجهين: احدهما - ولكن عليكم ان تذكروهم، كما قال: " ان عليك الا البلاغ "(1) والثاني - على تقدير ولكن الذي يأمرونهم به ذكرى ليتقوا عذاب الله.

___________________________________

(1) سورة 42 الشورى آية 48

[167]

وقال أبوجعفر (ع): لمانزلت " فلاتقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين " قال المسلمون كيف نصنع ان كان كلما استهزء المشركون بالقرآن قمنا وتركناهم فلاندخل اذا المسجد الحرام ولانطوف بالبيت الحرام، فأنزل الله تعالى " وما على الذين يتقون من حسابهم من شئ " وامرهم بتذكيرهم وتبصيرهم ما أستطاعوا.

قوله تعالى: وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحيوة الدنيا وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع وإن تعدل كل عدل لايؤخذ منها اولئك الذين أبسلوا بماكسبوا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بماكانوا يكفرون(70)

آية عند الجميع.

معنى قوله " ذر " دع يقال: وذر يذر مثل ودع يدع، فاذا أمرت منه قلت: ذركما قال " ذرهم يأكلوا ".

وقوله " الذين أتخذوا دينهم لعبا ولهوا " يعني هؤلاء الكفار الذين وصفهم انهم أتخذوادين الله لعبا ولهوا، لانه لامعنى لمحاجة من كانت هذه سبيله، لانه لاعب عابث، لايصغي لما يقال له، فالمكلم له والمحتج عليه غير منتفع ولانافع. وقد قطع الله عذر هؤلاء الذين يذهبون مذهب اللعب بما أدركوه بعقولهم، وماشاهدوه من آياته " وغرتهم الحياة الدنيا ". ثم امر نبيه صلى الله عليه وآله ان يذكر به، يعني القرآن. وقيل الحساب، لكي لاتبسل نفس بماكسبت أي تدفع إلى الهلكة على وجه الغفلة وتسلم لعملها غير قادرة على

[168]

التخلص، قال الشاعر في الغريب المضيف:

وابسالي بني بغير جرم *** بعوناه ولابدم مراق(1)

أي اسلامي اياهم.

بعوناه اجترمناه، والبعو الجناية.

وقيل: معنى تبسل ترهن ويسلم لعمله.

قال الاخفش: معنى " تبسل " تجازى من ابسل ابسالا، ومنه قوله " اولئك الذين أبسلوا "(2) قال الكسائي: " تبسل تجزى يعني في الكلام.

وقال الفراء: معناه يسلم ويقال اعط الراقي بسلته أي أجرته على رقيته.

ويقال أسد باسل، معناه ان معه من الاقدام مايستبسل له قرنه، ويقال هذا بسل أي حرام، وهو بسل أي حلال. وهذا من الاضداد. " شراب من حميم " قال الضحاك الحميم هوالماء الذي احمي حتى انتهى غليانه.

وقوله: " وان تعدل كل عدل " قال بعضهم ان يفد كل فدية يريد ان يجعلها عدلا لها من قوله " لايقبل منها عدل "(3) وقال غيره معناه وان تقسط كل قسط لايقبل منها في ذلك اليوم لان التوبة انماهي في الحياة الدنيا. ثم أخبر تعالى انه ليس لهؤلاء الكفار " ولي ولاشفيع " أي لاناصرلهم، ولامن يسأل فيهم واخبر أيضا أن هؤلاء في قوله " اولئك الذين أبسلوا " هم الذين يجازون بماكسبوا وان لهم شرابا من حميم وعقابا أليما بما كانوا يكفرون، نعوذ بالله منها. وقيل: مامن أمة الا ولهم عيد يلعبون فيه ويلهون، الاأمة محمدفان أعيادهم صلاة وتكبير ودعاء وعبادة.

___________________________________

(1) تفسير الطبري 11 / 445 ومجاز القرآن 1 / 149 واللسان " بعمل ".

(2) سورة 6 الانعام آية 70.

(3) سورة 2 البقرة آية 123

[169]

قوله تعالى: قل أندعوا من دون الله مالا ينفعنا ولايضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الارض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا قل إن هدى الله هو الهدى وأمرنا لنسلم لرب العالمين(71)

آية بلاخلاف.

قرأ حمزة " استهواه الشياطين " بألف ممالة، الباقون بالتاء المعجمة من فوق قال ابوعبيدة " كالذي استهوته الشياطين " أي استمالت به، ذهبت به، ومنه " فأزلهما الشيطان عنها "(1) وكذلك هوى وأهوى غيره، قال تعالى: " والمؤتفكة أهوى "(2) يقال أهويته واستهويته، كماقال " فأزلهما الشيطان " و " انما استزلهما الشيطان "(3)، فكما أن ازله بمعنى استزله كذلك استهواه بمنزلة أهواه، وكما أن معنى استجابه أجابه في قول الشاعر: فلم يستجبه عند ذاك مجيب(4) وقرأ حمزة هاهنا مثل قراء‌ته " توفاه " وكلا المذهبين حسن.

وقوله: " استهواه " انما هو من قولهم: هوى من حالق اذا تردى منه. ويشبه به الذي زل عن الطريق المستقيم، كما أن زل انما هو من العباد، والمكان أمر الله نبيه صلى الله عليه وآله والمؤمنين أن يقولوا لهؤلاء الذين يدعونهم إلى عبادة الاوثان والاصنام " أندعوا من دون الله مالا ينفعنا " ان عبدناه، ولايضرنا ان تركنا عبادته " ونرد على أعقابنا " بعد الهدى والرشاد وبعد معرفتنا بالله وتصديق رسله إلى الضلال، وذلك مثل يقال فيمن رجع عن خير إلى شر: رجع على عقبيه، وكذلك اذا خاب من مطلبه، يقال رد على عقبيه، ويصير في الحيرة " كالذي استهوته الشياطين في الارض حيران " لايهتدي إلى طريق، ولامعرفة " له أصحاب يدعونه " إلى الطريق الواضح وهوالهدى ويقولون له " ائتنا " ولايقبل منهم، ولايصير اليهم غير انه لذهاب عقله من فعل الله، فيستولي الشيطان حينئذ عليه، ولايقبل من أحد لحيرته.

___________________________________

(1) سورة 2 البقرة آية 36.

(2) سورة 53 النجم آية 53.

(3) سورة 3 آل عمران آية 155.

(4) انظر / 131.

[170]

شبه الله به الكافر الذي يرجع عن ايمانه وهداه إلى الضلال. قال ولايقدر أحد من الشياطين على اذهاب عقل أحد، لانهم لو قدروا على ذلك لسلبوا عقول العلماء من حيث انهم أعداؤهم، فلما لم يقدروا على ذلك دل على أنه لايقدر على ذلك الا الله.

ثم أمره الله أن يقول لهؤلاء الكفار " ان هدى الله هوالهدى " أي دلالة الله لنا على توحيده وأمر دينه هو الهدى الذي يؤدي المستدل به إلى الفلاح والرشاد في دينه وهوالذي يجب أن يعمل عليه ويستدل به دون مايدل عليه غيره من سوى أمور الدين.

وقوله " وأمرنا لنسلم لرب العالمين " معناه أمرنا أن نسلم امورنا لله رب العالمين وان نفوضها اليه ونتوكل عليه لاعلى غيره مما يعبده المشركون. و " حيران " نصب الحال، وتقديره كالذي استهونه الشياطين في حال حيرته.

وقوله " له أصحاب يدعونه إلى الهدى " قيل: نزلت في عبدالرحمن ابن أبي بكر، كان أبواه يدعوانه إلى الايمان ويقولان له " ائتنا "، أي تابعنا في ايماننا " وأمرنا لنسلم لرب العالمين " تقول العرب: أمرتك ان تفعل وأمرتك لتفعل وأمرتك بأن تفعل، فمن قال: أمرتك بأن تفعل، فالباء للالصاق. والمعنى وقع الامر بهذا الفعل.

ومن قال أمرتك أن تفعل حذف الباء، ومن قال أمرتك لتفعل المعنى أمرنا للاسلام.

قال الزجاج: يكون اللام لام التعليل والتقدير أمرنا كي نسلم قال الشاعر:

أريد لانسى ذكرها فكأنما *** تمثل لي ليلى بكل سبيل(1)

أي كي أنسى.

وقال الطبري: معناه وأمرنا لنخضع له بالذلة والطاعة ونخلص ذلك له دون ماسواه من الانداد والالهة.

قوله تعالى: وأن أقيموا الصلوة واتقوه وهو الذي إليه تحشرون(72)

آية بلاخلاف.

___________________________________

(1) مر هذا البيت في 3 / 174 وهو في مجمع البيان 2 / 319

[171]

تحتمل هذه الاية وجهين: احدهما - أن يكون التقدير أمرنا لان نسلم، ولان نقيم الصلاة. والثاني - ان يكون محمولا على المعنى، لان معناه أمرنا بالاسلام، واقامة الصلاة، وموضع (أن) نصب، لان الباء لما أسقطت أفضى الفعل، فنصب. ويحتمل أن يكون محمولا على قوله " يدعونه إلى الهدى ائتنا " وان " أقيموا الصلاة " أي ويدعونه أن أقيموا الصلاة. وهذه الاية موصولة بالتي قبلها أي " أمرنا لنسلم لرب العالمين " وقيل لنا " أقيموا الصلاة واتقوه " اي اتقوا رب العالمين بأن تجتنبوا معاصيه وتتقوا عقابه. ثم بين أنه " هوالذي اليه تحشرون " أن تجمعون اليه يوم القيامة فيجازي كل عامل منكم بعمله، وتوفى كل نفس بماكسبت.

قوله تعالى: وهو الذي خلق السموات والارض بالحق ويوم يقول كن فيكون قوله الحق وله الملك يوم ينفخ في الصور عالم الغيب والشهادة وهوالحكيم الخبير(73)

آيتان في البصري والمدنيين وآية في الكوفي.

أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله أن يقول لهؤلاء الكفار الذين يعبدون الاصنام، ويدعون المؤمنين إلى عبادتها " وامرنا لنسلم لرب العالمين " الذي خلق السماوات والارض بالحق، وفي معنى بالحق قولان: احدهما - قال الحسن والبلخي والجبائي والزجاج والطبري: ان معناه خلقهما للحق لا للباطل. ومعناه خلقهما حقا وصوابا لاباطلا وخطأ، كما قال تعالى: " وماخلقنا السماء والارض ومابينهما باطلا "(1) وادخلت الباء

___________________________________

(1) سورة 38 ص آية 27

[172]

والالف واللام كماأدخلت في نظائرها يقولون: فلان يقول بالحق، بمعنى أنه يقول الحق، لا أن الحق معنى غير القول بل التقدير ان خلق الله السماوات والارض حكمة وصواب من حكم الله، وهو موصوف بالحكمة في خلقهما وخلق ماسواهما من جميع خلقه لاأن هناك حقا سوى خلقهما خلقهمابه، وذلك يدل على بطلان ما يقوله المجبرة: ان هذا كله باطل وسفه، ومايخالف الحكمة هومن فعل الله، تعالى الله عن ذلك.

والثاني - قال قوم: معنى ذلك أنه خلق السماوات والارض بكلامه، وهوقوله " ائتيا طوعا أو كرها "(2) قالوا: فالحق هوكلامه واستشهدوا على ذلك بقوله " ويوم يقول كن فيكون قوله الحق "(3) أن الحق هوقوله وكلامه. قالوا والله خالق الاشياء بكلامه، وذلك يوجب أن يكون كلامه قديما غير مخلوق، وقدبينا فساد هذا الوجه فيما تقدم، والمعتمد الاول.

وقوله " ويوم يقول كن فيكون " نصب (يوم) على وجوه: احدها - على معنى واتقوا " يوم يقول كن فيكون " نسقا على الهاء كماقال: " واتقوا يوما لاتجزي نفس عن نفس شيئا "(4).

والثاني - أن يكون على معنى واذكر يوم يقول كن فيكون لان بعده " واذ قال ابراهيم " والمعنى واذكر " يوم يقول كن فيكون " واذكر " اذقال ابراهيم " وهوالذي اختاره الزجاج.

والثالث - أن يكون معطوفا على " السماوات والارض بالحق " وخلق " يوم يقول كن فيكون ".

فان قيل: ان يوم القيامة لم يخلق بعد؟ قيل: ما أخبر الله بكونه فحقيقة واقع له محالة وقال قول: التمام عند قوله " كن " وقوله " فيكون قوله الحق " ابتداء أي ماوعدوا به من الثواب وحذروا به من العقاب كائن حق قوله بذلك.

___________________________________

(2) سورة 41 حم السجدة آية 11.

(3) سورة 6 الانعام آية 73.

(4) سورة 2 البقرة آية 48

[173]

وقوله " كن فيكون " قال قوم هو خطاب للصور. والمعنى ويوم يقول للصور كن فيكون. وقد بينا فيما مضى أن ذلك عبارة عن سرعة الفعل وتيسيره وانه لايتعذر عليه شئ بمنزلة أن يقول كن فيكون، لاأن هناك أمر على الحقيقة وكيف يكون هناك أمر والامر لايتوجه الاالى الحي القادر؟ ! والمعدومات والجمادات لايحسن أمرها ولاخطابها.

والغرض بالاية الدلالة على سرعة أمر البعث والساعة، كأنه قال ويوم يقول للخلق: موتوا فيموتون وانتشروا فينتشرون اي لايتعذور عليه ولايتأخر عن وقت ارادته. وقيل " يوم يقول كن فيكون قوله الحق " أي يأمر فيقع امره. والحق من صفة قوله. كمايقول القائل قد قلت، فكان قولك.

والمعنى ليس انك قلت فكان الكلام. وانما المعنى انه كان مادل عليه القول. وعلى القول الاول يرفع (قوله) بالابتداء و (الحق) خبر الابتداء. وحكي عن قوم من السلف " فيكون " بالنصب باضمار (ان). وتقديره كن فأن يكون، وهذا ضعيف.

وقوله " وله الملك يوم ينفخ في الصور " يحتمل نصب " يوم ينفخ " ثلاثة أوجه: احدها - ان يكون متعلقا ب‍ (له الملك) والتقدير له الملك يوم ينفخ في الصور وانما خص ذلك اليوم بأن الملك له كما خصه في قوله " لمن الملك اليوم لله الواحد القهار ". وقرأ بعضهم " ينفخ " بفتح الياء. و " عالم الغيب والشهادة " فاعل (ينفخ) وهوشاذ، روي عن ابن عباس ذلك، والوجه أنه لايبقى ملك من ملكه الله في الدنيا او يغلب عليه بل ينفرد هوتعالى بالملك.

والثاني - ان يكون يوم ينفخ بيانا على قوله " يوم يقول كن فيكون " الثالث - ان يكون منصوبا ب‍ (قوله الحق). والمعنى وقوله الحق يوم ينفخ، الصور. والوجه في اختصاص ذلك اليوم بالذكر مابيناه في الوجه الاول، لان قوله حق في جميع الاوقات.

وفي معنى الصور قولان: احدهما - ماعليه اكثر المفسرين من انه اسم لقرن ينفخ فيه الملك

[174]

فيكون منه الصوت الذي يصعق له اهل السماوات واهل الارض، ثم ينفخ فيه نفخة أخرى للنشور، وهوالذي اختاره البلخي والجبائي والزجاج والطبري واكثر المفسرين. والثاني - أنه جمع صورة مثل قولهم سورة وسور اختاره ابوعبيدة. وقرأ بعضهم في الشواذ في الصور بفتح الواو وذلك يقوى ماقاله ابو عبيدة، ويكون تقديره يوم ينفخ في الاموات. ويقوي الاول قوله تعالى " ونفخ في الصور فصعق من في السماوات " ثم قال " ثم نفخ فيه اخرى "(1) ولم يقل فيها أخرى او فيهن وذلك يدل على انه واحد.

وروى ابوسعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله: كيف انعم وقد التقم صاحب القرن وحنا جنبيه وأصغا سمعه ينتظر ان يؤمر، فينفخ؟ ! قالوا: فكيف نقول يارسول الله؟ قال قالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل. والعرب تقول نفخ الصور ونفخ في الصور، قال الشاعر:

لولا ابن جعدة لم يفتح فهندركم *** ولاخراسان حتى ينفخ الصور(1)

وروي عن ابن عباس ان الصور يعني به النفخة الاولى. ثم بين انه عالم الغيب والشهادة اي مايشاهده الخلق وما لا يشاهدونه وما يعلمونه ومالا يعلمونه، ولايخفى عليه شئ من ذلك. وبين انه الحكيم في أفعاله الخبير العالم بعباده وبأفعالهم، ورفع عالم الغيب لانه نعت للذي في قوله " وهو الذي خلق السماوات والارض بالحق عالم الغيب والشهادة " ويحتمل ان يكون اسم مالم يسم فاعله كمايقولون اكل طعامك عبدالله، فيظهر اسم فاعل الاكل بعدان قد جرى الخبر بمالم يسم فاعله، والاول أجود، فأما من فتح الياء في ينفخ فانه جعل عالم الغيب فاعله مرتفعا به.

___________________________________

(1) سورة 39 الزمر آية 68.

[175]

قوله تعالى: وإذ قال إبرهيم لابيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أريك وقومك في ضلال مبين(74)

آية بلاخلاف.

قرأ اكثر القراء (آزر) بنصب الراء.

وقرأ ابوبريد المدني والحسن البصري ويعقوب بالضم.

فمن قرأ بالنصب جعل (آزر) في موضع خفض بدلا من أبيه.

ومن قرأ بالضم جعله منادى مفردا وتقديره ياآزر.

وقال الزجاج: لاخلاف بين اهل النسب ان اسم ابي ابراهيم تارخ والذي في القرآن يدل على ان اسمه (آزر) وقيل (آزر) ذم في لغتهم كأنه قال: واذ قال ابراهيم لابيه يامخطئ اتتخذ أصناما فعلى هذا قال الزجاج الاختيار الرفع. قال: ويجوز أن يكون وصفا له كأنه قال واذقال ابراهيم لابيه المخطئ.

قال الزجاج: وقيل (آزر) اسم صنم، فموضعه نصب على اضمار الفعل، كأنه قال: واذ قال ابراهيم لابيه أتتخذ آزر، وجعل (أصناما) بدلا من آزر واشباهه. فقال بعد أن قال اتتخذ آزر الها اتتخذ اصناما آلهة. والذي قاله الزجاج يقوي ماقاله أصحابنا، ان آزر كان جده لامه أو كان عمه، لان أباه كان مؤمنا من حيث ثبت عندهم أن آباء النبي صلى الله عليه وآله إلى آدم كلهم كانوا موحدين لم يكن فيهم كافر، وحجتهم في ذلك اجماع الفرقة المحقة، وقدثبت أن اجماعها حجة لدخول المعصوم فيها، ولاخلاف بينهم في هذه المسألة.

وأيضا روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: نقلني الله من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات لم يدنسني بدنس الجاهلية، وهذا خبر لاخلاف في صحته، فبين النبي صلى الله عليه وآله أن الله نقله من أصلاب الطاهرين فلو كان فيهم كافر لماجاز وصفهم بأنهم طاهرون، لان الله وصف المشركين بأنهم أنجاس، فقال " انما المشركون نجس "(1) ولهم في ذلك أدلة لانطول بذكرها الكتاب لئلا يخرج عن الغرض.

واختلفوا في معنى (آزر) هل هو اسم أو صفة، فقال السدي ومحمد

___________________________________

(1) سورة 9 التوبة آية 29.

[176]

ابن اسحاق وسعيدبن عبدالعزيز والجبائي والبلخي: انه اسم أبي ابراهيم، وهوتارخ كما قيل ليعقوب: اسرائيل، قالوا: ويجوز ان يكون لقبا غلب عليه.

وقال مجاهد: ليس آزر أبا ابراهيم وانما هو اسم صنم.

وقال قوم هو سب وعبث بكلامهم، ومعناه معوج. و (اذ) في الاية متعلقة بقوله واذكر " اذقال ابراهيم لابيه آزر اتتخذ أصناما آلهة " والالف الف انكار لااستفهام وان كان قد خرج مخرج الاستفهام.

وقوله " اني أراك في ضلال مبين " يعني في ضلال عن الصواب وقوله " مبين " يدل على انه قال ذلك منكرا، والمبين هوالبين الظاهر، والغرض بالاية حث النبي صلى الله عليه وآله على محاجة قومه الذين يدعونه إلى عبادة الاصنام والازدراء على فعلهم والاقتداء في ذلك بأبيه ابراهيم صلى الله عليه وآله وصبره على محاجة قومه العابدين للاصنام ليتسلى بذلك ويقوي دواعيه إلى ذلك. والاصنام جمع صنم وهو مثال من حجر او خشب اومن غير ذلك في صورة انسان وهو الوثن. وقد يقال للصورة المصورة على صورة الانسان في الحائط وغيره صنم ووثن.

قوله تعالى: وكذلك نري إبرهيم ملكوت السموات والارض وليكون من الموقنين(75)

آية بلاخلاف.

معنى قوله " وكذلك نري ابراهيم ملكوت " أي مثل ماوصفنا من قصة ابراهيم من قوله لابيه ماقال نريه " ملكوت السماوات " أي اناكما أريناه أن قومه في عبادة الاصنام ضالون كذلك نريه ملكوت السماوات والارض وقيل في معنى الملكوت أقوال: قال الزجاج، والفراء والبلخي والجبائي والطبري وهوقول عكرمة: ان الملكوت بمنزلة الملك غير أن هذه اللفظة ابلغ من الملك، لان الواو والتاء يزادان للمبالغة. ومثل الملكوت الرغبوت

[177]

والرهبوت ووزنه (فعلوت) وفى المثل (رهبوت خير من رغبوت) * ومن روى (رهبوتي خير من رحموتي) معناه أن يكون له هيبة يرهب بها خيرمن أن يرحم.

وقال مجاهد (ملكوت السماوات والارض) ملكهما بالنبطية.

وقال الضحاك: يعني خلقهما، وبه قال ابن عباس، وقتادة.

وروي عن مجاهد أيضا أن معناه آيات السماوات والارض.

وروي عن مجاهد وابن عباس أيضا أنه أراد بذلك ماأخبر الله عنه أنه أراه من النجوم والشمس والقمر، حين خرج من المغارة، وبه قال القتادة.

وقال الجبائي: المعنى اناكنا نري ابراهيم ملكوت السماوات والارض والحوادث الدالة على أن الله مالك لها، ولكل شئ بنفسه، لايملكه سواه، فأجرى الملكوت على المملوك الذي هو في السماوات والارض مجازا.

وقوله " وليكون من الموقنين " أي اريناه ملكوت السماوات ليستدل به على الله وليكون من الموقنين أن الله هوخالق ذلك والمالك له.

والموقن هوالعالم الذي يتيقن الشئ بعدأن لم يكن مثبتا، ولهذا لايوصف تعالى بأنه متيقن كمايوصف بأنه عالم، لانه تعالى عالم بها فيمالم يزل،.

وقال أبو جعفر (ع): كشط الله له السموات والارض حتى رآهن وماعليهن من الملائكة وحملة العرش، وذلك قوله: " وكذلك نري ابراهيم ملكوت السماوات والارض ".

فان قيل كيف يجوز أن يرى ماتحت الارضين والارض حجاب لماتحتها وكذلك السماء فوقها؟ قلنا: لايمتنع أن يجعل الله تعالى منها خروقا ومنافذ ويقوي شعاعه حتى ينفذ فيهافيرى مافوقها وماتحتها ولايمنع من ذلك مانع، ومثل هذا روي عن مجاهد والسدي وسعيدبن جبير وسلمان.

[178]

قوله تعالى: فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لاأحب الافلين(76) فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لاكونن من القوم الضالين(77) فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال ياقوم إني برئ مما تشركون(78) إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والارض حنيفا وما أنا من المشركين(79)

أربع آيات بلاخلاف.

قرأ ابن ذكوان، وحمزة والكسائي وخلف، ويحيى والكسائي عن أبي بكر (رأى) بكسر الراء وامالة والهمزة منه ومن قوله " رأى أيديهم "(1) في هود، و " رآى قمصه " و " رأى برهان ربه " في يوسف(2) و " رأى نارا " في طه(3) و " لقد رأى " في النجم(4) سبعة مواضع. وهومالم يقله ساكن ولم يتصل بمكنى، وافقهم العليمي في " رأى كوكبا " حسب.

وقرأ ابوعمرو - بفتح الراء - وإمالة الهمزة فيهن. الباقون بفتح الراء والهمزة.

فأن لقي (رأى) ساكنا، وهوستة مواضع هاهنا: " رأى القمر " و " رأى الشمس " وفي النحل " واذا رأى الذين اشركوا "(5) وفي الكهف " ورأى المجرمون "(6) وفى الاحزاب " ولمارأى المؤمنون "(7) بكسر الراء وكسر الهمزة فيهن حمزة وخلف وبصير وابوبكر الا الاعشى. البرجمي. الباقون بفتح الراء والهمزة فان اتصل رأى بمكنى نحو (رآه ورآك ورآها) فكسر

___________________________________

(1) سورة 11 هود آية 70.

(2) آية 24 وآية 28.

(3) آية 10.

(4) آية 18.

(5) آية 85، 86.

(6) آية 54.

(7) آية 22.

[179]

الراء وامال الهمزة حيث وقع حمزة والكسائى وخلف ويحيى والكسائي عن أبي بكر.

وقرأ ابوعمرو والداحوني عن ابن ذكوان - بفتح الراء وامالة الهمزة - الباقون بفتحهما.

قال ابوعلي الفارسي: وجه قراء‌ة من لم يملها انه ترك الامالة كما تركوا الامالة في قولهم: دعا، ورمى. فلما لم يمل الالف لم يمل الالف التي قبلها، كماأمالها من يرى الامالة ليميل الالف نحو الياء. ومن قرأ بين الفتح والكسر كما قرأ نافع، فلا يخلو أن يريد الفتحتين اللتين على الراء والهمزة، او الفتحة التي على الهمزة وحدها، فان كان يريد فتحة الهمزة فانما أمالها نحو الكسرة ليميل الالف التي في " رأى " نحو الياء كما أمال الفتة التي عدل الدال من (هدى) والميم من (رمى).

وان كان يريد أنه أمال الفتحتين جميعا التي على الراء والتي على الهمزة، فإمالة فتحة الهمزة على ماتقدم ذكره، واما امالة الفتحة التي على الراء فانما أمالها لاتباعه اياها امالة فتحة الهمزة، كأنه امال الفتحة كما أمال الالف في قولك: رأيت عمادا، اذ الفتحة الممالة بمنزلة الكسرة فكما أميلت الفتحة في قولك: من عامر، لكسرة الراء كذلك أميلت فتحة الراء من (رأى) لامالة الفتحة التي على الهمزة. والتقديم والتأخير في ذلك سواء.

ومن كسر الراء والهمزة فالوجه فيه أنه كسر الراء من (رأى) لان المضارع منه على (يفعل) واذا كان المضارع منه على (يفعل) كان الماضى على (فعل) ألا ترى ان المضارع في الامر العام اذا كان على (يفعل) كان الماضى على فعل. وعلى هذا قالوا: إيت بيتنا، فكسروا حرف المضارعة. كما كسروا في نحو يحيى، ويعلم، ويفهم. وكسروا الياء أيضا في هذه الحروف، فقالوا: إيتنا، ولم يكسروها في (يعلم ويفهم) اذا كان الماضى على فعل فيما يترك كسر الراء التي هي فاء، لان العين همزة.

وحروف الحلق اذا جاء‌ت في كلمة على زنة (فعل) كسرت فيها الفاء لكسر العين في الاسم والفعل، نحو قولهم: غير قعر،

[180]

ورجل حبر، وفحل، وفي الفعل نحو (شهد ولعب ونعم) فكسرة الياء على هذا كسرة مخلصة محضة، وليست بفتحة ممالة، واما كسرة الهمزة فأنه يراد به امالة فتحتها إلى الكسرة، لتميل الالف نحو الياء. ومن ترك الامالة اذا لقيها ساكن، فانهم كانوا يميلون الفتحة لميل الالف نحو الياء، فلما سقطت الالف بطلت امالتها بسقوطها، وبطلت بذلك امالة الفتحة نحو الكسرة لسقوط الالف التي كانت الفتحة الممالة لميلها نحو الياء في مثل (رأى الشمس) و (رأى القمر) ونحوهما في جميع القرآن. ومن وافق في بعض ذلك دون بعض أحب الاخذ باللبس.

ووجه قراء‌ة أبي بكر وحمزة في (رأى الشمس) ورأى القمر) بكسر الراء وفتح الهمزة في جميع القرآن، أن كسر الراء انما هو للتنزيل الذي ذكرناه، وهومعنى منفصل من إمالة فتحة الهمزة، ألا ترى انه يجوز ان يعمل هذا المعنى من لايرى الامالة كما يجوز ان يعمله من يراها. واذا كان كذلك كان انفصال أحدهما من الاخر سائغا غير ممتنع.

فأما رواية يحيى عن أبي بكر - بكسر الراء والهمزة معا - فانما يريد بكسرة الهمزة إمالة فتحتها، فوجه كسر الراء قد ذكروا امالة فتحها مع زوال ماكان يوجب امالتها من حذف الالف، فلان الالف محذوفة لالتقاء الساكنين. وما يحذف لالتقاء الساكنين ينزل تنزيل المثبت.

ألا ترى انهم أنشدوا: ولاذاكر الله الاقليلا(1) فنصب الاسم بعد (ذاكر) وان كانت النون محذوفة لما كان الخذف لالتقاء الساكنين. والحذف لذلك في تقدير الاثبات، من حيث كان التقاؤهما غير لازم ولذلك لم تزد الالف في نحو (رمت المرأة) ويشهد لذلك أنهم قالوا: شهد، فكسروا الفاء لكسر العين، ثم أسكنوا فقالوا - شهد، فأبقوا الكسرة في الفاء مع زوال ماكان أصلها وانشد قول الاخطل:

___________________________________

(1) مرتخريجه في 2 / 72

[181]

اذا غاب عنا غاب عنا فرأتنا *** وان شهد أجدى فضله وجداوله(2)

وقالوا: صعق، ثم نسبوا اليه فقالوا: صعقي، فأقروا كسرة الفاء‌مع زوال كسرة العين التي لها كسرت الفاء. وزعم ابوالحسن ان ذلك لغة مع مافيه من وجوه التلبيس وأنها قراء‌ة.

يقال: جن عليه الليل، وجنه الليل، وأجنه، وأجن عليه، ومع حذف " على " فأجنه بالالف أفصح من جنه الليل. وكل ذلك مسموع، فلغة أسد جنه الليل، ولغة تميم أجنه، والمصدر من جن عليه جنا وجنونا وجنانا وأجن إجنانا.

ويقال: أتانا فلان في جن الليل. والجن مشتق من ذلك، لانهم استجنوا عن أعين الناس، فلا يرون، وكلما توارى عن أبصار الناس، فان العرب تقول: قد جن.

ومنه قول الهذلي:

وماء وردت قبيل الكرى *** وقدجنه السدف الادهم(3)

وقال عبيد:

وخرق تصيح الهام فيه مع الصدى *** مخوف اذا ماجنه الليل مرهوب(4)

وتقول: اجننت الميت اذا واريته في اللحد وجننته وهو مثل جنون الليل في معنى غطيته وسمي الترس مجنا لانه يجن اي يغطي، وقال الشاعر:

فلما أجن الليل بتنا كأننا *** على كثرة الاعداء محترسان

قوله " فلما جن عليه الليل " أي أظلم.

وقوله " فلما أفل " معناه غاب يقال: أفل يأفل أفولا، وتقول اين أفلت عنا، واين غبت عنا، قال ذو الرمة:

مصابيح ليست باللواتي تقودها *** نجوم ولا بالافات الد والك 151

___________________________________

(2) ديوانه 64.

(3) هكذا في المطبوعة والمخطوطتين وتفسير الطبري 11 / 479 وروي " وماء وردت على خيفة " و " على جفنه " و " قبل الصباح ".

ديوان الهذليين 3: 56 واللسان " سدف " " جنن ".

(4) ديوانه 38 والطبري 11 / 479.

(5) ديوانه: 245 ومجاز القرآن 1 / 199 واللسان والتاج " دلك "

والطبري 11: 485 والازمنة 49 وكتاب القرطين 1: 26. ويصف الابل بأنها مصابيح اي تصبح في مبركها فلا تقف في الطريق.

[182]

وقوله " رأى القمر بازغا " أي طالعا، يقال: بزغت الشمس بزوغا اذا طلعت، وكذلك القمر، وقوله للشمس " هذا ربي " وهي مؤنثة معناه هذا الشئ الطالع ربي او على أنه حين ظهرت الشمس وقد كانوا يذكرون الرب في كلامهم، فقال لهم هذا ربي؟ ! وقيل في معنى هذه الاية وجوه أربعة:

الوجه الاول - ماقاله الجبائي: ان ماحكى الله عن ابراهيم في هذه الاية كان قبل بلوغه، وقبل كمال عقله ولزوم التكليف له، غير انه لمقاربته كمال العقل خطرت له الخواطر وحركته الشبهات والدواعي على الفكر فيما يشاهده من هذه الحوادث، فلما رأى الكوكب - وقيل: انه الزهرة - وبان نوره مع تنبيهه بالخواطر على الفكر فيه وفي غيره ظن انه ربه، وأنه هو المحدث لما شاهده من الاجسام وغيرها " فلما أقل قال لا أحب الافلين " لانه صار منتقلا من حال إلى حال وذلك مناف لصفات القديم " فلما رأى القمر بازغا " عند طلوعه رأى كبره واشراق ما انبسط من نوره في الدنيا " قال هذا ربي " فلما راعاه وجده يزول ويأفل، فصار عنده بحكم الكوكب الذي لايجوز ان يكون بصفة الاله، لتغيره وانتقاله من حال إلى حال، " فلما رأى الشمس بازغة " أي طالعة قد ملات الدنيا نورا ورأى عظمها وكبرها " قال هذا ربي هذا أكبرفلما أفلت " وزالت وغابت، فكانت شبيهة بالكوكب والقمر قال حينئذ لقومه " اني برئ مما تشركون " فلما أكمل الله عقله ضبط بفكره النظر في حدوث الاجسام بأن وجودها غير منفكة من المعاني المحدثة، وأنه لابدلها من محدث، قال حينئذ لقومه " اني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والارض.. " إلى آخرها.

والوجه الثاني - ماقاله البلخي وغيره: من أن هذا القول كان من ابراهيم في زمان مهلة النظر، لان مهلة النظر مدة، الله العالم بمقدارها، وهي اكثر من ساعة.

[183]

وقال البلخي: وأقل من شهر، ولايدري مابينهما الا الله، فلما أكمل الله عقله وخطر بباله مايوجب عليه النظر وحركته الدواعي على الفكر والتأمل له. قال ماحكاه الله، لان ابراهيم (ع) لم يخلق عارفا بالله، وانما اكتسب المعرفة لما أكمل الله عقله، وخوفه من ترك النظر بالخواطر، فلما رأى الكوكب - وقيل هو الزهرة - رأى عظمها واشراقها وماهي عليه من عجيب الخلق، وكان قومه يعبدون الكواكب، ويزعمون أنها آلهة - قال هذا ربي؟ ! على سبيل الفكر والتأمل لذلك، فلما غابت وأفلت، وعلم ان الافول لا يجوز على الله علم انها محدثة متغيرة لتنقلها، وكذلك كانت حاله في رؤية القمر والشمس، وأنه لما رأى افولهما قطع على حدوثهما واستحالة إلهيتهما، وقال في آخر كلامه " اني برئ مما تشركون اني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والارض حنيفا وماأنا من المشركين " وكان هذا القول منه عقيب معرفته بالله وعلمه بأن صفات المحدثين لاتجوز عليه.

فان قيل: كيف يجوز ان يقول: هذا ربي مخبرا، وهويجوز أن يكون مخبره لاعلى مااخبر، لانه غير عالم بذلك، وذلك قبيح في العقول، ومع كمال عقله لابد أن يلزمه التحرز من الكذب؟ ! قلنا عن ذلك جوابان: احدهما - انه قال ذلك فارضا مقدرا، لامخبرا بل على سبيل الفكر والتأمل، كما يقول الواحد منا لغيره اذاكان ناظرا في شئ ومحتملا بين كونه على إحدى صفتين: انا نفرضه على احداهما لننظر فيما يؤدي ذلك الفرض اليه من صحة او فساد، ولايكون بذلك مخبرا، ولهذا يصح من احدنا اذا نظر في حدوث الاجسام وقدمها ان يفرض كونها قديمة ليتبين مايؤدي اليه ذلك الفرض من الفساد. والثاني - انه اخبر عن ظنه وقد يجوز ان يكون المفكر المتأمل ظانا في حال نظره وفكره مالا اصل له ثم يرجع عنه بالادلة والعلم ولايكون ذلك منه قبيحا.

[184]

فان قيل: ظاهر الايات يدل على ان ابراهيم ماكان رأى هذه الكواكب قبل ذلك، لان تعجبه منها تعجب من لم يكن رآها، فكيف يجوز ان يكون إلى مدة كمال عقله لم يشاهد السماء ومافيها من النجوم؟ ! قلنا: لايمتنع ان يكون مارأى السماء الا في ذلك الوقت، لانه روي أن أمه ولدته في مغارة لايرى السماء، فلماقارب البلوغ وبلغ حد التكليف خرج من المغارة ورأى السماء وفكر فيها. وقد يجوز أيضا ان يكون رآها غير انه لم يفكر فيها ولانظر في دلائلها، لان الفكر لم يكن واجبا عليه، فلماكمل عقله وحركته الخواطر فكر في الشئ الذي كان يراه قبل ذلك ولم يكن مفكرا فيه.

والوجه الثالث - ان ابراهيم لم يقل ماتضمنته الايات على وجه الشك ولافي زمان مهلة النظر بل كان في تلك الحال عالما بالله وبما يجوز عليه، فانه لايجوز ان يكون بصفة الكوكب، وانما قال ذلك على سبيل الانكار على قومه والتنبيه لهم على ان مايغيب وينتقل من حال إلى حال لايجوز ان يكون إلها معبودا، لثبوت دلالة الحدث فيه. ويكون قوله " هذاربي " محمولا على أحد وجهين. احدهما - أي هو كذلك عندكم وعلى مذهبكم كما يقول احدنا للمشبه على وجه الانكار عليه: هذا ربي جسم يتحرك ويسكن وان كان عالما بفساد ذلك. والثاني - أن يكون قال ذلك مستفهما وأسقط حرف الاستفهام للاستغناء عنه، كما قال الاخطل:

كذبتك عينك أم رايت بواسط *** غلس الظلام من الرباب خيالا(1)

وقال آخر:

___________________________________

(1) ديوانه 41، وقد مر في 1: 403، 475

[185]

لعمرك ماأدري وان كنت داريا *** بسبع رمين الجمر ام بثمانيا(1)

وقال ابن أبي ربيعة:

ثم قالوا تحبها قلت بهرا *** عدد النجم والحصى والتراب(2)

وقال أوس بن حجر:

لعمرك ماأدري وان كنت داريا *** شعيب بن سهم أم شعيب بن منقر(3)

وانما أراد أشعيب بن سهم أم شعيب بن منقر.

فان قيل: حذف حرف الاستفهام انما يجوز اذا كان في الكلام عوضا منه نحو (أم) للدلالة عليه، ولايستعمل مع فقد العوض، وفى الابيات عوض عن حرف الاستفهام، وليس ذلك في الاية.

قلنا: قد يحذف حرف الاستفهام مع ثبوت العوض تارة وأخرى مع فقده اذا زال اللبس، وبيت ابن أبي ربيعة ليس فيه عوض ولافيه حرف الاستفهام، وانشد الطبري:

رفوني وقالوا ياخويلد لاترع *** فقلت وانكرت الوجوه هم هم(4)

أي أهم هم؟، وروي عن ابن عباس في قوله " فلا اقتحم العقبة " أنه قال معناه أفلا اقتحم العقبة، وحذف حرف الاستفهام. واذا جاز ان يحذفوا حرف الاستفهام لدلالة الخطاب جاز أن يحذفوه لدلالة العقل، لان دلالة العقل أقوى من غيرها.

والوجه الرابع - أن ابراهيم قال ذلك على وجه المحاجة لقومه بالنظر كما يقول القائل: اذا قلنا: ان لله ولدا لزمنا أن نقول له زوجة، وان يطأالنساء

___________________________________

(1) تفسير القرطبي 7 / 27.

(2) ديوانه: 117 " طبعة بيروت سنة 1311 ه‍ ".

(3) شواهد المغني: 15 والكامل للمبرد 1 / 384، 2 / 115 والبيان والتبيين 4 / 40 وسيبويه 1 / 845 وتفسير الطبري 11 / 484 وغيرها.

(4) قائله ابوخراش الهذلي، ديوان الهذليين 2: 144 واللسان (رفأ) (رفو) والقرطبي 7 / 26 و (رفوني) اي اسكنوني من الرعب.

[186]

وأشباه ذلك، وليس هذا على * وجه الاقرار والاخبار والاعتقاد بذلك، بل على وجه المحاجة فيجعلها مذهبا ليرى خصمه المعتقد لها فسادها.

وكل هذه الايات فيها تنبيه لمشركي العرب وزجر لهم عن عبادة الاصنام وحث على الاخذ بدين ابراهيم ابيهم وسلوك سبيله في النظر والفكر والتدين، لانهم كانوا قوما يعظمون أسلافهم وآباء‌هم فأعلمهم الله تعالى ان اتباع الحق من دين ابيهم الذي يقرون بفضله اوجب عليهم ان كان بهم تعظيم الاباء والكراهة لمخالفتهم.

وفي الاية دلالة على ان معرفة الله ليست ضرورية، لانها لوكانت ضرورية لما احتاج ابراهيم إلى الاستدلال على ذلك، ولكان يقول لقومه: كيف تعبدون الكواكب وانتم تعلمون حدوثها وحدوث الاجسام ضرورة، وتعلمون ان لها محدثا على صفات مخصوصة ضرورة، وماكان يحتاج إلى تكلف الاستدلال والتنبيه على هذا.

وقوله " لئن لم يهدني ربي " معناه لئن لم يلطف بي ويسددني ويوفقني لاصابة الحق في توحيده " لاكونن من القوم الضالين " الذين ضلوا عن الحق وأخطأ وا طريقه، فلم يصيبوا الهدى. وليس الهداية - ههنا - الادلة، لان الادلة كانت سبقت حال زمان النظر، فان التكليف لايحسن من دونها ولايصح مع فقدها.

وقوله في الشمس " هذا أكبر " يعني من الكواكب وحذف لدلالة الكلام عليه.

وقوله " اني وجهت وجهي " معناه أخلصت عبادتي وقصدت بها إلى الله الذي خلق السماوات والارض. وفيه اخبار عن ابراهيم واقرار منه واعتراف بأنه (ع) خالف قومه أهل الشرك، ولم يأخذه في الله لومة لائم، ولم يستوحش من قول الحق لقلة تابعيه.

وقال لهم " اني برئ مما تشركون " مع الله - الذي خلقني وخلقكم - في عبادته من آلهتكم بل " وجهت وجهي " في عبادتي الي الذي خلق السماوات ولارض الذي يبقى ولايفني، الحي الذي لايموت.

[187]

واخبر انه يوجه عبادته ويخلصها له تعالى. والاستقامة في ذلك لربه على مايجب من التوحيد لاعلى الوجه الذي توجه له من حيث ليس بحنيف. ومعنى الحنيف هو المائل إلى الاستقامة على وجه الرجوع فيه.

وقوله " وما أنا من المشركين " اني لست منكم، ولاممن يدين بدينكم، ويتبع ملتكم أيها المشركون.




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21333619

  • التاريخ : 28/03/2024 - 11:40

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net