00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة النساء من ( آية 40 ـ 71) 

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : التبيان في تفسير القرآن (الجزء الثالث)   ||   تأليف : شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي

قوله تعالى: (إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما(40))

آية بلاخلاف.

القراء‌ة، والحجة، والاعراب: قرأ: (وإن تك حسنة) بالرفع ابن كثير، ونافع.

الباقون بالنصب، فمن نصب معناه: وإن تك زنة الذرة حسنة، أو: وإن فعلته حسنة، ومن رفع ذهب إلى أن كان تامة، وتقديره: وإن تحدث حسنة.

وأصل (تك) تكون، فحذفت الضمة للجزم، والواو لسكونها وسكون النون، لكثرة الاستعمال، وقد ورد القرآن باثباتها، قال الله تعالى: (إن يكن غنيا أو فقيرا)(1) فاجتمع في النون أنها ساكنة وأنها تشبه حروف اللين، فحذفت لكثرة الاستعمال، كما قالوا لا أدر، ولم ابل، والاجود: لم أبال، ولا أدري " ويؤت " بغير ياء، سقطت الياء

___________________________________

(1) سورة النساء: 134.

[200]

للجزم بالعطف على (يضاعفها). ولدن في موضع خفض.

وفيها لغات، يقال: لد ولدن ولدا ولدا، والمعنى واحد، ومعناه من قبله، ولدن لما يليك، وعند يكون لما يليك ولما بعد منك، تقول: عندي مال وإن كان بينك وبينه بعد، فاذا أضفته إلى نفسك فقلت: من لدني ومن لدنا زدت فيها نونا أخرى، وأدغموا الاولى منهما ليسلم سكون النون ومثله قالوا في (من)، إذا أضافوه قالوا: مني ومنا.

وقرأ ابن كثير، وابن عامر: (يضعفها) مشدده، الباقون: (يضاعفها) من المضاعفة. والظلم هو الالم الذي لانفع فيه يوفي عليه، ولادفع مضرة أعظم منه عاجلا ولاآجلا، ولاهو مستحق، ولا هو واقع على وجه المدافعة.

اللغة: وأصله وضع الشئ في غير موضعه، وقيل: أصله الانتقاص، من قوله: (ولم تظلم منه شيئا)(1) أي لم ينقص. والظلم انتقاص الحق، والظلمة انتقاص النور بذهابه، والظلم الثلج، لانتقاصه بالجمود، وشبه به ماء الاسنان، وفي المثل (من أشبه أباه فما ظلم)، وسقاء مظلوم إذا شرب منه قبل أن يدرك، والظليم ذكر النعام، لانه يضع الشئ في غير موضعه من حيث(2) يحضن غير بيضه.

وأصل المثقال الثقل، فالمثقال مقدار الشئ في الثقل، والثقل ماثقل من متاع السفر، والمثقل الذي أثقله المرض، والثقيل البطئ في عمله (فمثقال ذرة): مقدار ذرة في الزنة. والذرة النملة الحمراء في قول ابن عباس، وابن زيد، وهي أصغر النمل، وهي من ذررت الشئ أذره ذرا إذابددته سحوقا.

المعني: وفي الآية دلالة على أن منع الثواب ظلم لانه لو لم يكن ذلك ظلما لماكان لهذا الكلام معنى على هذا الترتيب. وفيه أيضا دلالة على أنه قادر على الظلم، لانها

___________________________________

(1) سورة الكهف: آية 32.

(2) (من حيث) ساقطة من المطبوعة.

[201]

صفة تعظيم وتنزيه عن فعل مايقدر عليه من الظلم، ولو لم يكن قادر عليه لما كان فيه مدحة، غير أنه وإن كان قادرا عليه فانه لايفعله لعلمه بقبحه، وبأنه غني عنه، ولانه لو فعل لكان ظالما، لان الاشتقاق يوجب ذلك وذلك منزه عنه تعالى.

قوله تعالى: (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا(41))

آية.

الاعراب: " كيف " لفظها لفظ الاستفهام، ومعناها ههنا التوبيخ، والتقدير فكيف يكون حال هؤلاء يوم القيامة، وحذف لدلالة الكلام عليه. والعامل في " كيف " الابتداء المحذوف، لان التقدير: كيف حالهم، على مابيناه. وإنماجاز خروج كيف عن الاستفهام إلى التوبيخ لانه يقتضي إقرار العبد على نفسه بما كان من قبيح عمله، كما يقتضي الجواب في الاستفهام، ولايجوز أن يكون العامل في " كيف " " جئنا " لاضافة " إذا " إليه والمضاف إليه لايعمل فيما قبله كما لاتعمل الصلة فيما قبل الموصول، لانه من تمام الاسم.

المعنى: والشهادة تقع يوم القيامة من كل نبي بأنه بلغ قومه ما تقوم به عليهم الحجة، وأنه أدى ماتقوم به الحجة عليها من مراد الله، هذا قول عبدالله، وابن جريج، والسدي.

وقال الجبائي: يشهد عليهم باعمالهم.

وقال الزجاج، والطبري: يشهد لهم وعليهم بما عملوه، ووجه حسن الشهادة ما في ذلك من اقامة الحجة عليهم، فيستجيبون عندتصور تلك الحال من خزي ذلك المقام، وفي ذلك أكبر الاتعاظ.

[202]

وروي عن ابن مسعود أنه قرأ على النبي صلى الله عليه وآله سورة النساء فلما بلغ " فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا " فاضت عيناه وقوله: " وجئنا بك " يعني محمدا صلى الله عليه وآله " على هؤلاء " يعني على أمته.

وقال السدي: إن أمة نبينا تشهد للانبياء بالاداء والتبليغ، ويشهد النبي لامته بتصديقهم في تلك الشهادة، كما قال: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا)(1).

قوله تعالى: (يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لوتسوى بهم الارض ولايكتمون الله حديثا(42))

آية بلاخلاف.

القراء‌ة، والحجة: قرأ حمزة، والكسائي: " تسوى " مفتوحة التاء خفيفة السين.

وقرأ نافع وابن عامر - بفتح التاء وتشديد السين - الباقون بضم التاء وتخفيف السين.

وقال الطبرى: الاختيار فتح التاء، لموافقته لقوله: " ياليتني كنت ترابا "(2) ولم يقل: كونت.

وقال الرماني هذا ليس بشئ، لان التمني فيه معنى الفعل، وبضم التاء أبين وليس كذلك الآخر، لانه بمنزلة التمني لان يكون معدوما لم يوجد قط.

قال أبوعلي: من قرأ بضم التاء أراد: لوجعل هووالارض سواء، ومن فتح التاء أراد: تتسوى، وإنما أدغم التاء في السين، قال: وفي هذا تجوز، لان الفعل مسند إلى الارض وليس ذلك المراد، لانه لافائدة لهم أن تصيرالارض مثلهم. وإنما ودواأن يتستو واهم بمالايتسوى بهم، ومن فتح التاء وخفض السين أراد هذا، غير أنه حذف إحدى التائين وهي الاصلية دون التي للمضارعة.

المعنى: ومعنى الآية الاخبار من الله تعالى أن الكفار يوم القيامة يودون - لعلمهم

___________________________________

(1) سورة البقرة: آية 143.

(2) سورة النبأ: آية 40.

[203]

بما يصيرون إليه من العذاب والخلود في النار - أنهم لن يبعثوا أو أنهم كانوا والارض سواء.

وروي في التفصسير أن البهائم يوم القيامة تصير ترابا، فيتمنى عند ذلك الكفار أنهم صاروا كذلك ترابا، وهذا لايجيزه إلا من قال: إن العوض منقطع، فأما من قال: هو دائم لم يصحح هذا الخبر.

وقوله: " وعصوا الرسول " ضموا الواو لانها واو الجمع، وحركت لالتقاء الساكنين.

وقوله: " لو استطعنا " كسرت على أصل الحركة، لالتقاء الساكنين. وإنما وجب لواو الجمع الضم لانها لما منعت مالها من ضم ما قبلها، جعلت الضمة عند الحاجة إلى حركتها فيها.

والعامل في " يومئذ " (يود الذين) وإنما عمل في (يومئذ) مابعد (إذا) ولم يجز مثل ذلك في (إذا جئنا من كل أمة) لانه لما أضيف (يوم) إلى (إذ) بطلت إضافته إلى الجملة، وجاء التنوين ليدل على تمام الاسم. يبين ذلك قوله: (من عذاب يومئذ ببنيه)(1).

وقوله: (ولايكتمون الله حديثا) لاينافي قوله: (والله ربنا ما كنا مشركين)(2) لانه قيل في معنى الآية سبعة أقوال: أحدها - قال الحسن إن الآخرة مواطن، فموطن (لاتسمع إلا همسا)(3) أي صوتا خفيا، وموطن يكذبون فيقولون: (ماكنا نعمل من سوء)(4) (والله ربنا ما كنا مشركين) وموطن يعترفون بالخطأ بأن يسألوا الله أن يردهم إلى دار الدنيا.

الثاني - قال ابن عباس: إن قوله: (ولايكتمون الله حديثا) داخل في التمني بعد مانطقت جوارحهم بفضيحتهم، فكأنهم لمارأوا المؤمنين دخلوا الجنة كتموا فقالوا: (والله ربناما كنا مشركين) فختم الله أفواههم، وأنطق جوارحهم بما فعلوه، فحينئذ تمنوا أن يكونوا (تسوى بهم الارض ولايكتمون الله حديثا) فتمنوا الامرين وقال الفراء: تقديره: (يومئذ يود الذين كفروا

___________________________________

(1) سورة المعارج: آية 12.

(2) سورة الانعام: آية 23.

(3) سورة طه: آية 108.

(4) سورة النمل: آية 28.

[204]

وعصوا الرسول لوتسوى بهم الارض) ويودون لايكتمون حديثا.

الثالث - قال أبوعلي: انه لايعتد بكتمانهم، لانه ظاهر عندالله لايخفى عليه شئ منه.

الرابع - لم يقصدوا الكتمان، لانهم إنما أخبروا على ماتوهموا، ولايخرجهم من أن يكونوا كذبوا.

والخامس - قال بعضهم: إن قوله: (انظر كيف كذبوا على أنفسهم)(1) انما معناه: أوجبوا العذاب بمثل حال الكاذب في الاقرار، كما يقال: كذب عليك الحج، قال الشاعر:

كذب العتيق وماء شن بارد *** إن كنت سائلتي غبوقا فاذهبي

وقال الرماني: هذا التأويل ضعيف، لانه يجري مجرى اللغز.

والسادس - قال الحسين بن علي المغربي: تمنوا أن يكونوا عدما، وتم الكلام ثم استأنف فقال: (ولايكتمون الله حديثا) أي لاتكتمه جوارحهم وإن كتموه هم.

السابع - قال البلخي: (ولايكتمون الله حديثا) على ظاهره لايكتمون الله شيئا، لانهم ملجأون إلى ترك القبائح والكذب.

وقوله: (ما كنا مشركين) أي عند أنفسنا، لانهم كانوا يظنون في الدنيا أن ذلك ليس بشرك من حيث يقربهم إلى الله تعالى.

___________________________________

(1) سورة الانعام: 24.

[205]

قوله تعالى: (ياأيها الذين آمنوا لاتقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولاجنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفوا غفورا(43))

آية بلاخلاف.

القراء‌ة والمعنى: قرأ حمزة، والكسائي: " أو لمستم النساء " بغير ألف، الباقون " لامستم " بالف، فمن قرأ " لامستم " بالف قال: معناه الجماع: وهو قول علي (ع)، وابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وأبوعلي الجبائي، واختاره أبوحنيفة. ومن قرأ بلا الف أراد اللمس باليد وغيرها بما دون الجماع، ذهب إليه ابن مسعود، وعبيدة، وابن عمر، والشعبي، وابراهيم، وعطاء، واختاره الشافعي. والصحيح عندنا هوالاول، وهو اختيار الجبائي، والبلخي، والطبري، وغيرهم. والملامسة واللمس معناهما واحد، لانه لايلمسها إلا وهي تلمسه، وقيل: ان الملامسة بمعنى اللمس، كماقيل: عافاه الله، وعاقبت اللص.

النزول: وقيل في سبب نزول هذه الآية قولان: أحدهما - قال ابراهيم: إنها نزلت في قوم من الصحابة أصابهم جراح. والثاني - قالت عائشة نزلت في قوم من الصحابة أعوزهم الماء.

المعنى واللغة: وظاهر الخطاب متوجه إلى المؤمنين كلهم بأن لايقربوا الصلاة وهم سكارى، يعني في حال سكرهم، يقال: قرب يقرب متعد، وقرب يقرب لازم، وقرب الماء يقربه إذا ورده.

وقيل في معنى السكر المذكور في الآية قولان: أحدهما - قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وابراهيم: إنه السكر من الشراب، وقال مجاهد، والحسن، وقتادة نسخها تحريم الخمر. الثاني - قال الضحاك هوسكر النوم خاصة.

[206]

وأصل السكر من السكر، وهو سد مجرى الماء يقال سكره يسكره، وإسم الموضع السكر والسكر، لانسداد طريق المعرفة به.

سكر يسكر سكرا وأسكره إسكارا، وسكرة الموت غشيته.

فان قيل: كيف يجوز نهي السكران في حال سكره مع زوال عقله، وكونه بمنزلة الصبي والمجنون؟ قلنا عنه جوابان: أحدهما - إنه قد يكون سكران من غير أن يخرج من نقص العقل إلى مالا يحتمل الامر والنهي. الثاني - إنمانهوا عن التعرض للسكر مع أن عليهم صلاة يجب أن يؤدوها في حال الصحو.

وقال أبوعلي: فيه جواب ثالث وهو أن النهي إنمادل على أن عليهم أن يعيدوها إن صلوها في حال السكر.

فان قيل: كيف يسوغ تاويل من ذهب إلى أن السكران مكلف أن ينتهي عن الصلاة في حال سكره؟ مع أن عمل المسلمين على خلافه، لان من كان مكلفا تلزمه الصلاة، قلنا عنه جوابان: أحدهما - أنه منسوخ.

والآخر - إنه نهي عن الصلاة مع الرسول صلى الله عليه وآله في جماعة.

وقوله: (ولاجنبا إلا عابري سبيل) يقال: رجل جنب إذا أجنب، ورجل جنب أي غريب، ولايثنى ولايجمع، ويجمع أجنابا أي غرباء، وإنما نصب لانه عطف على قوله: " وأنتم سكارى " وهي جملة في موضع الحال.

وقيل في معناه قولان. أحدهما - قال علي (ع)، وابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، والحكم، وابن كثير، وابن زيد: إلا مسافرين فلكم أن تتيمموا. الثاني - قال ابن عباس في رواية أخرى، وجابر، والحسن، وسعيد بن جبير، وابراهيم، والزهري، وعطاء، والجبائي: ان معناه لاتقربوا مواضع الصلاة من المساجد إلا مجتازين، وهو قول أبي جعفر (ع)، وحذف لدلالة الكلام عليه،

[207]

وهو الاقوى، لانه تعالى بين حكم الجنب في آخر هذه الآية إذا عدم الماء، فلو حملناه على ذلك لكان تكرارا، وإنما أراد أن يبين حكم الجنب في دخول المساجد في أول الآية، وحكمه إذا أراد الصلاة مع عدم الماء في آخرها.

وقوله: (وإن كنتم مرضى أوعلى سفر) فالمرض الذي يجوز معه التيمم مرض الجراح، والكسير، وصاحب القروح، إذا خاف من مس الماء في قول ابن مسعود، والضحاك، والسدي، وابراهيم، ومجاهد وقتادة.

وقال الحسن، وابن جبير: هوالمرض الذي لايستطيع معه تناول الماء، ولايكون هناك من يناوله. وكان الحسن لايرخص للجريح التيمم، والمروي عن أبي جعفر وأبي عبدالله (ع) جواز التيمم عند جميع ذلك.

وقوله: " أوعلى سفر أوجاء أحد منكم من الغائط " يعني الحدث المخصوص، وأصله المطمئن من الارض، يقال: غائط وغيطان، والتغوط كناية عن الحدث في الغائط، والغوطة موضع كثير الماء والشجر بدمشق، وقوله: " أو لامستم النساء " قد فسرناه، وعندنا المراد به الجماع.

وقوله: " فتيمموا صعيدا طيبا " فالتيمم التعمد، ومثله التأمم قال الاعشى:

تيممت قيسا وكم دونه *** من الارض من مهمه ذي شزن(1)

يعني تعمدت، وقال سفيان: معنى تيمموا تعمدوا وتحروا، والصعيد وجه الارض من غير نبات ولاشجر، في قول ابن زيد قال ذو الرمة:

كأنه بالضحى ترمي الصعيد به *** دبابة في عظام الراس خرطوم(2)

ومنه قوله: (فتصبح صعيدازلقا)(3) فبين أن الصعيد قد يكون زلقا. والصعدات الطرقات، قال الزجاج: لاأعلم خلافا بين أهل اللغة بأن الصعيد وجه الارض، سواء كان عليه تراب أو لم يكن، وهذا يدل على ما نقوله من أن التيمم يجوز بالحجارة سواء كان عليها تراب أو لم يكن (وطيبا) أي طاهرا،

___________________________________

(1) ديوانه: 19 القصيدة: 2.

(2) ديوانه: 571.

(3) سورة الكهف آية 41.

[208]

وقال سفيان: يعني حلالا. وأصل الصعيد من الصعود، وهو ما تصعد على وجه الارض من ترابها، والاصعاد في الماء بخلاف الانحدار، والصعود عقبة يشق صعودها، ومنه قوله: " سأرهقه صعودا "(1) وقيل: انه جبل في النار يؤخذ بصعوده، والصعدة هي القناة التي نبتت مستوية، لانها تصعد في نباتها على استقامة، والصعداء تنفس بتوجع.

وقوله: (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم) قيل في صفة التيمم ثلاثة أقوال:

أحدها - ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين، ذهب إليه بن عمر، والحسن، والشعبي، والجبائي، وأكثر الفقهاء، وبه قال قوم من أصحابنا.

الثاني - ضربة للوجه وضربة لليدين إلى الزندين، ذهب إليه عمار بن ياسر، ومكحول، واختاره الطبري، وهو مذهبنا إذا كان التيمم بدلا من الجنابة، وان كان بدلا من الوضوء فيكفيه ضربة واحدة يمسح بها الوجه إلى طرف أنفه واليدين إلى الزندين.

الثالث - قال أبواليقظان، والزهري: انه إلى الابطين، وقال قوم انه جائز أن يضرب بيديه على الرمل فيمسح بهما وجهه، وإن لم يعلق بهما شئ، وبه نقول.

ويجوز للجنب أن يتيمم عندنا، وعند أكثر الفقهاء وأهل العلم. وبه قال عمار بن ياسر ورواه عن النبي صلى الله عليه وآله.

وروي عن عمر، وابن مسعود، وابراهيم: أنه لايجوز للجنب أن يتيمم، لقوله: (ولاجنبا إلا عابري سبيل) وقدبينا نحن أن المراد بذلك النهي عن دخول المساجد، فكأنه قال: ولاتقربوا المساجد للصلاة وأنتم سكارى " ولاجنبا إلا عابري سبيل " لان من لم يكن له طريق غير المسجد، أو أصابه الاحتلام في المسجد جاز له أن يجتاز فيه، ولايلبث فيه.

والسكران الذي زال عقله لاتصح صلاته، ويجب عليه قضاؤها، ولايصح منه شئ من العقود ولارفعها، كالنكاح، والطلاق، والعتق، والبيع، والشراء، وغير ذلك.

___________________________________

(1) سورة المدثر: آية 17.

[209]

وقضاء الصلاة يلزمه إجماعا، وأما مايلزم به الحدود والقصاص فعندنا أن جميع ذلك يلزمه، إن سرق قطع، وإن قذف جلد، وإن زنا حد، وغير ذلك، لاجماع الفرقة المحقة على ذلك، ولعموم الآية المتناولة لذلك، ولايلزم على ذلك تكليف من قطع رجل نفسه الصلاة قائما، لان ذلك تكليف مالايطاق، وإيجاب قضاء الصلاة على السكران ليس كذلك، وكذلك إقامة الحدود، لان ذلك تابع للشرع، وفيه خلاف.

ويجوز إن يصلي صلوات الليل والنهار عندنا بتيمم واحد، وهوكاو ضوء في هذا الباب، مالم يحدث، أو يتمكن من استعمال الماء، وبه قال الحسن، وعطاء، وأبوحنيفة وأصحابه، وقال إبن عمر، والشعبي، وقتادة، وابراهيم، والشافعي يجب التيمم لكل صلاة، ورووا ذلك عن علي (ع)، وذلك عندنا محمول على الاستحباب.

ولايجوز التيمم عندنا إلا عند تضيق الوقت، والخوف من فوته، واختار ذلك البلخي.

وقال الشافعي: لايجوز إلا بعد دخول الوقت، وقال أبو حنيفة: يتيمم أي وقت شاء، وإن كان قبل الوقت فهو كالوضوء.

ومسائل التيمم استوفيناها في المبسوط، والنهاية، ولا نطول بذكرها ههنا.

وقوله: (إن الله عفوا غفورا) أي يقبل منكم العفو، ويغفر لكم، لان قبوله التيمم بدلا من الوضوء تسهيل علينا.

وقيل: يعفو بمعني يصفح عنكم الذنوب، ويغفرها أي يسترها عليكم.

قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل(44) والله أعلم باعدائكم وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا(45))

آيتان.

[210]

القراء‌ة والنزول: في الكوفي جعلوا (السبيل) آخر الاولى، وآية واحدة في غير الكوفي.

ذكر ابن عباس، وقتادة، وعكرمة: أن الآية نزلت في قوم من اليهود، وكانوا يستبدلون الضلالة بالهدى، لتكذيبهم بالنبي صلى الله عليه وآله بدلا من التصديق به، مع قيام الحجة عليهم بما ثبت من صفته عندهم، فكأنهم اشتروا الضلالة بالهدى.

وقال أبوعلي الجبائي، وغيره: كانت اليهود تعطي أحبارها كثيرا من أموالهم على ماكانوا يصفونه لهم، فجعل ذلك اشتراء منهم. وقال الزجاج: كانوا يأخذون الرشا.

المعنى: ووجه اتصال هذه الآية بما قبلها التأكيد للاحكام التي يجب العمل بها، بالتحذير ممن يدعوإلى خلافها، ويكذب بها.

وقوله: (ألم تر) قال الزجاج، معناه: ألم تخبر في جميع القرآن؟ وقال غيره: ألم تعلم؟ وقال الرماني، معناه: رؤية البصر، والمرئي هوالدين، وإنما دخلت (إلى)، لان الكلام يتضمن معنى التعجب، كقولك: ألم تر إلى زيد ما أكرمه؟ تقديره: ألم تر عجبا بانتهاء رؤيتك إلى زيد؟ ثم بين ذلك بقوله: ما أكرمه، ومثله قوله: (ألم تر إلى ربك كيف مدالظل)(1).

كأنه قال: ألم تر عجبا بانتهاء رؤيتك إلى تدبير ربك كيف مدالظل؟ قال: ومن فسره على: ألم تخبر، ألم تعلم، فانما ذهب إلى ما يؤول المعنى إليه، لان الخبر والعلم لايصلح فيهما (إلى) كما يصلح مع الرؤية.

وقوله: (ويريدون أن تضلوا السبيل) معناه: يريد هؤلاء اليهود أن تضلوا، معشر المؤمنين، أي تزلوا عن قصد الطريق، ومحجة الحق، فتكذبوا بمحمد فتكونون ضلالا، وفي ذلك تحذير للمؤمنين أن يستنصحوا أحدامن أعداء الاسلام في شئ من أمورهم لدينهم ودنياهم، ثم

___________________________________

(1) سورة الفرقان: آية 45.

[211]

بين تعالى أنه أعلم منكم بعداوة اليهود لكم أيها المؤمنون، فانتهوا إلى طاعتي، وامتثال أوامري فيما نهيتكم عنه من استنصاحهم في دينكم، فاني أعلم بباطنهم منكم، وماهم عليه من الغش، والحسد، والعداوة.

وقيل معناه: والله يجازيهم على عداوتهم، كقولك: إني أعلم ما تفعل أي اجازيك عليه.

وقوله: (وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا) معناه: إن ولاية الله لكم، ونصرته إياكم، تغنيكم عن غيره من هؤلاء اليهود ومن جرى مجراهم، ممن تطمعون في نصرته.

ودخلت الباء في قوله: " بالله " لاحد أمرين: أحدهما - للتأكيد، لان الاسم في " كفى الله " كان يتصل اتصال الفاعل، فلما دخلت الباء صار يتصل اتصال المضاف واتصال الفاعل، ليعلم أن الكفاية منه ليست كالكفاية من غيره في المرتبة، وعظم المنزلة، فضوعف لفظها لمضاعفة معناها. الثاني - لانه دخله معنى: اكتفوا بالله، ذكره الزجاج، وموضعه رفع بلاخلاف.

اللغة: والعداوة الابعاد من حال النصرة، وضدها الولاية، وهي التقرب من حال النصرة، وأما البغض فهو إرادة الاستخفاف والاهانة، وضده المحبة وهي إرادة الاعظام والكرامة. والكفاية بلوغ الغاية في مقدار الحاجة، كفى يكفي كفاية فهو كاف، والاكتفاء الاجتزاء بشئ دون شئ، ومثله الاستغناء، والنصرة الزيادة في القوة للغلبة، ومثلها المعونة، وضدها الخذلان، ولايكون ذلك إلا عقوبة، لان منع المعونة مع الحاجة عقوبة.

[212]

قوله تعالى: (من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بالسنتهم وطعنا في الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلايؤمنون إلا قليلا(46))

آية بلاخلاف.

المعنى والاعراب: قيل في معنى قوله: (من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه) قولان:

أحدهما - قال الفراء، والزجاج، والرماني: ان يكون تبيينا للذين " أوتوا نصيبامن الكتاب " ويكون العامل فيه " أوتوا " وهو في صلة الذين، ويجوز ألا يكون في الصلة، كما تقول: انظر إلى النفر من قومك ما صنعوا.

الثاني - أن يكون على الاستئناف، والتقدير: " من الذين هادوا " فريق (يحرفون الكلم) كما قال ذو الرمة:

فضلوا ومنهم دمعه سابق له *** وآخر يثني دمعة العين بالمهل(1)

وأنشد سيبويه:

وماالدهر إلا تارتان فمنهما *** أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح

وقال آخر:

لو قلت ما في قومها لم تيثم *** يفضلها في حسب وميسم(2)

أي أحد يفضلها وقال النابغة:

كانك من جمال بني أقيش *** يقعقع خلف رجليه بشن(3)

يريد كأنك جمل من جمال بني أقيش.

___________________________________

(1) ديوانه: 485، وروايته (عبرة) بدل (دمعة). (بالهمل) بدل (بالمهل).

(2) قائله حكيم بن معية انظر الخزانة 2: 311.

(3) ديوانه: 58، وسيبويه 1: 375، ومجاز القرآن 1: 101.

الشن: القرية البالية.

[213]

قال الفراء: المحذوف (من) والتقدير: من الذين هادوا من يحرفون الكلم كما يقولون: منايقول ذاك ومنا لايقوله، قال: والعرب تضمر (من) في مبتدأ الكلام بمن، لان من بعض لما هي منه، كما قال: (ومامناإلا له مقام معلوم)(1) وقال: (وان منكم إلا واردها)(2) وأنشد بيت ذي الرمة الذي قدمناه، قال: ولايجوز إضمار (من) في شئ من الصفات على هذا المعنى إلافي من لما قلناه، وضعف البيت الذي أنشدناه: (لوقلت ما في قومها لم تيثم) وهي لغة هوازن، وتأثم رواية أخرى.

وقال انما جاز في (في) لانك تجد (في) تضارع معنى (من) لانه بعض ما أضيف، لانك تقول: فينا الصالحون وفينادون ذلك، كأنك قلت: منا، ولايجوز: في الدار يقول ذاك، وتريد: من يقول ذاك، لانه إنما يجوز إذا أضفت (في) إلى جنس المتروك.

وقال أبوالعباس، والزجاج ما قاله الفراء لايجوز، لان (من) تحتاج إلى صلة أو صفة تقوم مقام الصلة، فلا يحسن حذف الموصول مع بقاء الصلة، كما لا يحسن حذف بعض الكلمة، وإنما قال: (من الذين هادوا) لانه ليس جميع اليهود حرفوا، وإنما حرف أحبارهم وعلماؤهم.

وقوله: (يحرفون الكلم عن مواضعه) يعني يغيرونها عن تأويلها، والكلم جمع كلمة. وقال مجاهد: يعني بالكلم التوراة.

وقوله: (سمعنا وعصينا) يعني اليهود يقولون: سمعنا قولك يامحمد، ويقولون سرا عصينا.

وقوله: (واسمع غيرمسمع) اخبار من الله تعالى عن اليهود الذين كانوا حوالي المدينة في عصره، لانهم كانوا يسبون رسول الله صلى الله عليه وآله ويؤذونه بالقبيح من القول، ويقولون له: اسمع منا غير مسمع، كما يقول القائل لغيره إذا سبه بالقبيح: اسمع لا أسمعك الله، ذكره ابن عباس، وابن زيد.

وقال مجاهد، والحسن: ان تأويل ذلك اسمع غير مقبول منك، أي غير مجاب.

___________________________________

(1) سورة الصافات: آية 164.

(2) سورة مريم: آية: 71.

[214]

وقوله: (وراعنا ليا بالسنتهم) قيل فيه ثلاثة أقوال: أحدها - أن هذه اللفظة كانت سبا في لغتهم، فاعلم الله نبيه ذلك ونهاهم عنها.

الثاني - انها كانت تجري منهم على وجه الاستهزاء والسخرية.

الثالث - انهاكانت تجري منهم على حد الكبر، كما يقول القائل: انصت لكلامنا، وتفهم عنا.

وانما راعنا من المراعاة التي هي المراقبة.

وقوله: " ليا بالسنتهم " يعني تحريكا منهم ألسنتهم بتحريف منهم لمعناه إلى المكروه.

اللغة: وأصل اللي القتل، تقول: لويت العود ألويه ليا، ولويت الغريم إذا مطلته، واللوى من الرمل - مقصور - مسترقه، ولواء الجيش ممدود، واللوية ما تتحف به المرأة ضيفها لتلوي بقلبه إليها، وألوى بهم الدهر إذا أفناهم، ولوي البقل إذا اصفر ولم يستحكم يبسه.

واللسان آلة الكلام، واللسان اللغة، ومنه قوله: " وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه "(1) ولسن فلان فلانا بلسنه إذا أخذه بلسانه، ورجل لسن: بين اللسن.

ولسان الميزان، ولسان القوم: متكلمهم، وشئ ملسن إذا كان طرفه كطرف اللسان.

وقوله: " وطعنا في الدين " فالاصل الطعن بالرمح ونحوه.

والطعن باللسان كالطعن بالرمح.

ومنه تطاعنوا في الحرب.

وأطعنوا مطاعنة وطعانا، وطعن يطعن ويطعن طعنا.

وقوله: " ولو أنهم قالوا " يعني هؤلاء اليهود " سمعنا " يامحمد قولك " وأطعنا " أمرك، وقبلنا ما جئتنا به " واسمع " منا " وانظرنا " بمعنى انتظرنا نفهم عنك ما تقول لنا " لكان خيرا لهم وأقوم " يعني أعدل وأصوب في القول، مأخوذا من الاستقامة، ومنه قوله: " وأقوم قيلا "(2) بمعنى وأصوب.

وقوله: " ولكن لعنهم الله بكفرهم " يعني أبعدهم الله من ثوابه.

ثم أخبر تعالى، فقال: " فلا يؤمنون " في المستقبل " إلا قليلا " منهم فانهم آمنوا.

___________________________________

(1) سورة ابراهيم: آية 4.

(2) سورة المزمل: آية 6.

[215]

وقال البلخي: معناه لايؤمنون إلا ايمانا قليلا كما قال الشاعر:

فالفيته غير مستعتب *** ولا ذاكر الله إلا قليلا(1)

يريد إلا ذكرا قليلا. وسقط التنوين من ذاكر لاجتماع الساكنين.

وقال أبوروق: إلا قليلا ايمانهم قولهم: الله خالقنا ورازقنا، وليس لعن الله لهم بمانع لهم من الايمان، وقدرتهم عليه، لانه إنما لعنهم الله لما كفروا فاستحقوا ذلك، ولو تركوا الكفر وآمنوا، لزال عنهم استحقاق اللعن.

قوله تعالى: (يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أونلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان امر الله مفعولا(47))

آية.

المعنى: هذه الآية خطاب لاهل الكتاب: اليهود، والنصارى أمرهم الله بان يؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وآله وما أنزل عليه من القرآن، وغيره من الاحكام مصدقا لما معهم من التوراة والانجيل اللذين تضمنا صفة النبي صلى الله عليه وآله وصحة ما جاء به.

وقوله: (من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها) قيل في معناه أربعة أقوال:

أحدها - قال ابن عباس وعطية العوفي وقتادة: معناه نمحو آثارها حتى تصير كالقفا. ونجعل عيونهافي قفاها، فتمشي القهقرى.

الثاني - قال الحسن، ومجاهد، والضحاك، وابن أبي نجيح، والسدي، ورواه أبوالجارود عن أبي جعفر (ع): أن معناه نطمسها عن الهدى، فنردها على أدبارها في ضلالتها ذما لها(2) بأنها لاتصلح أبدا، وهم وإن كانوا في

___________________________________

(1) انظر 2، 76 تعليقة 2، 3.

(2) في المخطوطة (ومآبها).

[216]

الضلالة في الحال فتوعدهم بأنهم متى لم يؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وآله ازدادوا بذلك ضلالا إلى ضلالتهم وإيآسالهم أن يؤمنوا فيما بعد.

الثالث - قال الفراء، واختاره البلخي، والحسين بن علي المغربي: إن معناه نجعل في وجوههم الشعر كوجه القرود.

الرابع - قال قوم: معناه أن يردهم إلى الشام من الحجاز الذي هو مسكنهم، وهو أضعف الوجوه، لانه ترك للظاهر، وخلاف أقوال المفسرين: والادبار: جمع دبر.

فان قيل: كيف يجوز تاويل من قال نجعلها كالاقفاء وهذا لم يجز على ماتوعد به؟ قيل عنه جوابان: أحدهما - لانه آمن جماعة من أولئك الكفار كعبدالله بن سلام وثعلبة بن شعبة وأسد بن ربيعة، وأسدبن عبيد، ومخيرق(1)، وغيرهم. وأسلم كعب في أيام عمر حين سمع هذه الآية، فاما من لم يؤمن منهم فانه يفعل به ذلك في الآخرة على أنه تعالى قال: أو نلعنهم، والمعنى أنه يفعل أحدهما، ولقد لعنهم الله بذلك.

وقوله: " كما لعنا أصحاب السبت " يعني المسخ الذي جرى عليهم، ذكره البلخي.

والجواب الثاني - أن الوعيد يقع بهم في الآخرة، لان الله تعالى لم يذكر أنه يفعل بهم ذلك في الدنيا تعجيلا للعقوبة ذكره البلخي ايضا، والجبائي.

اللغة: والطمس هو الدثر، وهوعفو الاثر، والطامس، والداثر، والدارس بمعنى واحد. وطمست أعلام الطريق تطمس طموسا: إذا دثرت، قال كعب بن زهير: من كل نضاحة الذفرى إذا غرق عرضتها طامس الاعلام مجهول(2)

___________________________________

(1) في المطبوعة: (وثعلبة بن سعنه)، (وأحد بن عبيد)، (ومخبريق).

(2) ديوانه: 9 نضح الرجل العرق سال منه.

الذفرى: الموضع الذي يعرق من البعير خلف الاذن، والاعلام: أعلام الطريق.

[217]

والعين التي هي الجارحة عبارة عن الشق بين الجفنين.

والادبار جمع دبر، وأصله من الدبر يقولون دبره يدبره دبرا فهو دابر: إذا صار خلفه.

والدبر: خلاف القبل.

والدابر: التابع.

ومنه قوله: " والليل إذا أدبر "(1) أي تبع النهار. فاما أدبر فمعناه ولى.

والدبور: الريح، لانها تدبر الكعبة إلى جهة المشرق.

والدبار الهلاك.

ودابرة الطائر: الاصبع التى من خلف.

والدبر: النحل.

والدبر: المال الكثير، والتدبير، لانه احكام ادبار الامور، وهي عواقبها.

المعنى: وقوله: (أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت) قال السدي، وقتادة، والحسن: معناه نمسخهم قردة وإنما كنى عنهم بقوله: " أو نلعنهم " بعد أن خاطبهم بقوله: " ياأيها الذين " لامرين: أحدهما - التصرف في الخطاب، والانتقال من مواجهة إلى كناية كما قال: " حتى إذا كنتم في الفلك " فخاطب ثم قال: " وجرين بهم "(2) فكنى. والثاني - أن يعود الضمير على أصحاب الوجوه، لانه بمنزلة المذكور.

وقوله: " وكان أمر الله مفعولا " قيل في معناه قولان: أحدهما - ان كل أمر من أمور الله من وعد أو وعيد أو مخبر خبر فانه يكون على ما أخبر به، ذكره الجبائي. والثاني - ان معناه " وكان أمر الله مفعولا " أي الذين يأمر به بقوله: " كن " وذلك يدل على أن كلامه محدث.

وقال البلخي: معناه أنه إذا أراد شيئا من طريق الاجبار. والاضطرار كان واقعا لامحالة. لا يدفعه دافع، كقبض الارواح، وقلب الارض وارسال الحجارة، والمسخ وغير ذلك، فاما ما يأمر به على وجه الاختيار، فقد يقع، وقد لايقع. ولايكون في ذلك مغالبة له لانه تعالى لو أراد إلجاء‌ه إلى ما أمره به لقدر عليه.

___________________________________

(1) سورة المدثر: آية 33.

(2) سورة يونس: آية 22.

[218]

قوله تعالى: (إن الله لايغفر أن يشرك به ويغفر مادون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما(48))

آية واحدة بلاخلاف.

قال الفراء قوله: " أن يشرك " في موضع النصب، وتقديره " إن الله لايغفر " الشرك قال: ويحتمل أن يكون موضعه الجر وتقديره لايغفر الذنب مع الشرك.

وقال قوم: الفرق بين قوله: " إن الله لايغفر أن يشرك به "، وبين قوله: " إن الله لايغفر " الشرك به من وجهين: أحدهما - أن (أن) تدل على الاستقبال. والآخر - ذكره الرماني أنهاتدل على وجه الفعل في الارادة، ونحوها.

إذ كان قد يريد الانسان الكفر مع ظنه أنه ايمان، كما يريد النصارى عبادة المسيح. ولايجوز ارادته أن يكفر مع التوهم انه ايمان وكذلك لايريد الضرمع التوهم أنه نفع، ولايجوز ارادته أن يضر مع التوهم أنه نفع، وكذلك أمره بالخطأمع التوهم أنه صواب، ولايجوز أمره أن يخطئ مع التوهم أنه صواب، وهذا عندي ليس بصحيح، لان الشرك مذموم على كل حال سواء علمه فاعله كذلك، أولم يعلم.

ألا ترى أن النصارى يستحقون اللعنة والبراء‌ة على ما يعتقدونه من التثليث وإن اعتقدوا هم صحته، فالفرق الاول هوالجيد وظاهر الآية يدل على أن الله تعالى لايغفر الشرك أصلا، لكن أجمعت الامه على أنه لايغفره مع عدم التوبة، فاما إذا تاب منه فانه يغفره، وإن كان عندنا غفران الشرك مع التوبة تفضلا، وعند المعتزلة هوواجب، وهذه الآية من آكد مادل على إن الله تعالى يعفو عن المذنبين من غير توبة ووجه الدلالة منها أنه نفى أن يغفر الشرك إلامع التوبة وأثبت أنه يغفر ما دونه، فيجب أن يكون مع عدم التوبة، لانه إن كان ما دونه، لا يغفره إلا مع التوبة، فقد صار ما دون الشرك مثل الشرك، فلا معنى للنفي، والاثبات.

[219]

وكان ينبغي أن يقول: " إن الله لايغفر " المعاصي إلا بالتوبة ألا ترى أنه لايحسن أن يقول الحكيم أنا لاأعطي الكثير من مالي تفضلا، واعطي القليل إذااستحق علي، لانه كان يجب أن يقول: أنا لا أعطي شيئا من مالي إلا إذا استحق علي كيف وفي الآية ذكر العظيم الذي هو الشرك، وذكر ماهو دونه؟ والفرق بينهما بالنفي والاثبات، فلا يجوز ألايكون بينهما فرق من جهة المعنى.

فان قيل: نحن نقول: إنه يغفر مادون الشرك من الصغائر من غير توبة.

قلنا: هذا فاسد من وجهين. أحدهما - انه تخصيص، لان مادون الشرك يقع على الكبير والصغير. والله تعالى أطلق أنه يغفر ما دونه، فلا يجوز تخصيصه من غيردليل. الثاني - ان الصغائر تقع محبطة فلا يجوز المؤاخذة بها عند الخصم وما هذا حكمه لا يجوز تعليقة بالمشيئة وقد علق الله تعالى غفران ما دون الشرك بالمشيئة، لانه قال: " لمن يشاء " فان قيل: تعليقة بالمشيئة يدل على أنه لايغفر مادون الشرك قطعا. قلنا: المشيئة دخلت في المغفور له لافيما يغفر، بل الظاهر يقتضي انه يغفر ما دون الشرك قطعا، لكن لمن يشاء‌من عباده، وبذلك تسقط شبهة من قال القطع على غفران مادون الشرك من غير توبة، اغراء بالقبيح الذي هو دون الشرك، لانه إنما يكون اغراء لو قطع على أنه يغفر ذلك لكل أحد.

فاما إذا علق غفرانه لمن يشاء، فلا اغراء لانه لاأحد إلا وهو يجوز أن يغفر له، كما يجوز أن يؤاخذ به فالزجر حاصل على كل حال، ومتى عارضوا هذه الآية بآيات الوعيد كقوله: " ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا "(1) وقوله: " ومن يعص الله ورسوله " ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها "(2) وقوله: " إن الفجار لفي جحيم "(3) كان لنا أن نقول: العموم لاصيغة له، فمن أين لكم أن المراد به جميع العصاة ثم نقول نحن نخص آياتكم بهذه الآية ونحملها على الكفار. فمتى قالوا لنا: بل نحن نحمل

___________________________________

(1) سورة الفرقان: آية 19.

(2) سورة النساء: آية 13.

(3) سورة الانفطار: آية 14.

[220]

آياتكم على أصحاب الصغائر. فقد تعارضت الآيات ووقفنا وجوزنا العفو بمجرد العقل، وهو غرضنا وقد استوفينا ما في ذلك في الاصول في باب الوعيد من أراده وقف عليه من هناك.

وقوله: " ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما " معناه من يشرك بالله، فقد كذب، لانه يقول: إن عبادته يستحقها غير الله. وذلك افتراء، وكذب.

وقوله: " إثما عظيما " نصب على المصدر فكأنه قال: افترى، وأثم " اثما عظيما " لان افترى بمعنى أثم، فلذلك نصب المصدر به.

وقال ابن عمر: لما نزل قوله: " إن الله يغفر الذنوب جميعا " ظن أنه تعالى يغفر الشرك أيضا، فانزل الله هذه الآية.

وقال ابن عمر: ما كنا نشك معشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله في قاتل المؤمن، وآكل مال اليتيم وشاهد الزور، وقاطع الرحم، حتى نزلت هذه الآية فامسكنا عن هذه الشهادة. وهذا يدل على أن الصحابة كانت تقول بما نذهب إليه من جواز العفو عن فساق أهل الملة من غير توبة، بخلاف ما يذهب إليه أصحاب الوعيد من المعتزلة، والخوارج، وغيرهم.

قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا(49))

آية بلاخلاف.

المعنى: قد فسرنا معنى " ألم تر إلى الذين " فيما مضى، وأن معناه ألم تعلم في قول أكثر أهل العلم، واللغة وقال بعضهم: معناه ألم تخبر وفيه سؤال على وجه الاعلام. وتاويله اعلم قصتهم ألم ينته علمك إلى هؤلاء الذين يزكون أنفسهم؟ وقيل في معناه قولان: أحدهما - قال الحسن، والضحاك، وقتادة، وابن زيد، وهوالمروي عن أبي جعفر (ع): انهم اليهود، والنصارى في قوله: " نحن ابناء الله وأحباء‌ه "(1)

___________________________________

(1) سورة المائدة: آية 20.

[221]

" وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم "(1) قال الزجاج: اليهود جاء‌وا إلى النبي صلى الله عليه وآله باولادهم الاطفال، فقالوا يامحمد أعلى هؤلاء ذنوب؟ فقال صلى الله عليه وآله: لا، فقالوا: كذلك نحن ما نعمل بالليل يغفر بالنهار، وما نعمل بالنهار يغفر بالليل، فقال الله تعالى: " بل الله يزكي من يشاء " وقال: مجاهد، وأبومالك: كانوا يقدمونهم في الصلاة ويقولون: هؤلاء لاذنب لهم.

وقال ابن عباس: كانوا يقولون: أطفالنا يشفعون لنا عندالله.

الثاني - روي عن عبدالله بن مسعود انه تزكية الناس بعضهم بعضا لينالوا بذلك مالامن مال الدنيا، فاخبر الله تعالى أنه الذي يزكي من يشاء. وتزكيتهم أنفسهم هو أن يقولوا: نحن أزكياء.

اللغة والاعراب والنظم: والزكا النمو يقال زكا الزرع يزكو وزكا الشئ: إذا نما في الصلاح وقوله: " ولايظلمون فتيلا " قال الزجاج: لايظلمون مقدار فتيل. فيكون نصبه على أنه مفعول ثان: كقولك: ظلمته حقه أي انتقصته حقه.

قال الرماني: ويحتمل أن يكون نصبا على التمييز كقولك: تصببت عرقا.

وقيل في معنى القتيل ههنا قولان: أحدهما - هوقول ابن عباس في رواية وقول عطاء ابن أبي رياح، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، وعطية: إنه الذي في شق النواة.

وقال الحسن: الفتيل ما في بطن النواة، والنقير: ما في ظهرها، والقمطير قشرها.

الثاني - مافتلت بين اصبعيك من الوسخ.

في رواية أخرى عن ابن عباس، وأبي مالك، والسدي: والفتل: لي الشئ يقال.

فتلت الحبل أفتله فتلا، وانفتل فلان في صلاته.

والفتيلة معروفة. واقة فتلاء. إذاكان في ذراعيها فتل عن الجنب.

والفتيل في معنى المفتول.

___________________________________

(1) سورة البقرة: آية 111.

[222]

ووجه اتصال قوله: " ولا يظلمون فتيلا " بما قبله أنه لما قال: " بل الله يزكي من يشاء " نفى عن نفسه الظلم لئلا يظن أن الامر بخلافه.

الآية: 50 - 59

قوله تعالى: (أنظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثما مبينا(50))

آية بلاخلاف.

اللغة: النظر هوالاقبال على الشئ بالبصر ومن ذلك النظر بالقلب، لانه إقبال على الشئ بالقلب، فكذلك النظر بالرحمة، ونظر الدهر إلى الشئ: إذا أهلكه، والنظر إلى الشئ تلمسه والنظر إليه بالتأميل له.

والانتظار: الاقبال على الشئ بالتوقع له.

والانظار التاخير إلى وقت.

والاستنظار سؤال الانظار.

والمناظرة: اقبال كل واحد على الآخر بالمحاجة.

والنظير مثل الشئ لاقباله على نظيره بالمماثلة: والفرق بين النظر بالعين، وبين الرؤية أن الرؤية هي إدراك المرئي، والنظر إنما هو الاقبال بالبصر نحوالمرئي، ولذلك قد تنظر ولا نراه، كما يقولون: نظرت إلى الهلال فلم أره، ولذلك يجوز أن يقال في الله أنه رائي. ولا يجوز أن يقال ناظر.

وقوله: " كيف يفترون " فالافتراء والاختلاق متقاربان، والفرق بينهما أن الافتراء هوالقطع على كذب أخبر به، واختلق قدر كذبا أخبر به، لان الفري القطع، والخلق التقدير.

المعنى: وافتراؤهم الكذب على الله ههنا المراد به تزكيتهم لانفسهم بانا " أبناء الله وأحباؤه " وأنه " لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى " ذكره ابن جريج وقوله: " وكفى به إثمامبينا " معناه تعظيم اثمه وإنما يقال كفى به في العظم على جهة المدح أو الذم، كقولك: كفى بحال المؤمن نبلاوكفى بحال الكافر إثما

[223]

كأنه قيل: ليس يحتاج إلى حال أعظم منه في المدح أو الذم. كما يقال ليس يحتاج إلى أكثر مما به. ويحتمل أن يكون معناه كفى هذا إثما أي ليس يقصر عن منزلة الاثم.

قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا(51))

آية بلاخلاف.

المعنى: قيل في المعني بهذه الآية قولان: أحدهما - قال ابن عباس، وقتادة: هم جماعة من اليهود منهم: حي بن أخطب وكعب بن الاشرف، وسلام بن أبي الحقيق، والربيع بن الربيع(1). قالوا لقريش: أنتم أهدى سبيلا ممن آمن بمحمد.

الثاني - قال عكرمة إن المعني به كعب بن الاشرف، لانه قال هذا القول، وسجد لصنمين كانا لقريش.

وقيل في معنى الجبت، والطاغوت خمسة أقوال: أحدها - قال عكرمة: إنهما صنمان.

وقال أبوعلي: هؤلاء جماعة من اليهود آمنوا بالاصنام التي كانت تعبدها قريش، والعرب مقاربة لهم ليعينوهم على محمد صلى الله عليه وآله.

الثاني - قال ابن عباس: الجبت الاصنام.

والطاغوت: تراجمة الاصنام الذين يتكلمون بالتكذب عنها.

الثالث - إن الجبت الساحر. والطاغوت الشيطان، قاله ابن زيد.

وقال مجاهد: الجبت: السحر.

___________________________________

(1) في المخوطة (الربيع) بالقاط (ابن الربيع) وفي مجمع البيان (أبورافع).

[224]

الرابع - قال سعيد بن جبير، وأبوالعالية: الجبت: الساحر. والطاغوت: الكاهن.

والخامس - في رواية عن ابن عباس والضحاك: ان الجبت حي بن أخطب، والطاغوت كعب بن الاشراف، لانهما جاء‌اإلى مكة، فقال لهماأهل مكة: أنتم أهل الكتاب وأهل العلم القديم، فاخبرونا عنا وعن محمد صلى الله عليه وآله، فقالا: ما أنتم وما محمد؟ قالوا: نحن ننحر الكوماء ونسقي اللبن على الماء، ونفك العناة، ونصل الارحام، ونسقى الحجيج. ومحمد منبوز قطع أرحامنا، واتبعه سراق الحجيج بنو غفار فقالا: أنتم خير منه، وأهدى سبيلا فانزل الله هذه الآية.

وقال الزجاج، والفراء، والبلخي: هما كل معبود من دون الله تعالى.

اللغة: ووزن طاغوت فعلوت على وزن رهبوت.

قال الخليل: هومن طغا وقلبت اللام إلى موضع العين كما قيل: لاث في لايث. وشاك في شايك. وهذا تغيير لايقاس عليه، لكنه يحمل على النظير.

والجبت لاتصريف له في اللغة العربية.

وقيل: هوالساحر بلغة حبش عن سعيد بن جبير: والسبيل المذكور في الآية هو الدين. وإنما سمي سبيلا، لانه كالسبيل الذي هوالطريق في الاستمرار عليه ليؤدي إلى الغرض المطلوب. ونصبه على التمييز كقولك هو أحسن منك وجها وأجود منك ثوبا لانك في قولك: هذا أجود منك قد أبهمت الشئ الذي فضلته به إلا أن تريد ان جملته أجود من جملتك فتقول هذا أجود منك وتمسك.

قوله تعالى: (أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا(52))

آية بلاخلاف.

[225]

النزول: قوله: " اولئك " اشارة إلى الذين ذكرهم في الآية الاولى.

وقال قتادة: لما قال كعب بن الاشرف، وحي بن أخطب " هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سيبلا " وهما يعلمان أنهما كاذبان. أنزل الله هذه الآية " أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا " فالوعيد فيها على ما تقدم من القول على جهة العناد، لانها اشارة إلى ما تقدم من صفتهم الدالة على عنادهم.

اللغة والمعنى: (أولئك) لفظ جمع، وواحده ذافي المعنى كما قالوا: نسوة في جماعة النساء. وللواحدة امرأة. وغلب على أولاء (ها) التي للتنبيه. وليس ذلك في أولئك، لان في حرف الخطاب تنبيها للمخاطب إذ كان الكاف انما هو حرف لحق، لتنبيه المخاطب، فصار معاقبا للهاء التي للتنبيه في أكثر الاستعمال.

واللعنة: الابعاد من رحمة الله عقابا على معصيته، فلذلك لايجوز لعن البهائم، ولامن ليس بعاقل من المجانين، والاطفال، لانه سؤال العقوبة لمن لايستحقها. فمن لعن حية أو عقربا أو نحو ذلك مما لامعصية له فقد اخطأ، لانه سأل الله عزوجل مالا يجوز في حكمته. فان قصد بذلك الابعاد لاعلى وجه العقوبة، كان ذلك جائزا.

فان قيل: كيف قال: " فلن تجد له نصيرا " مع تناصر أهل الباطل على باطلهم؟ قلنا: عنه جوابان: أحدهما - " فلن تجد له نصيرا " ينصره من عقاب الله الذي يحله به مما قد أعده له، لانه الذي يحصل عليه وماسواه يضمحل عنه. الثاني - " فلن تجد له نصيرا "، لانه لايعتد بنصرة ناصرله مع خذلان الله إياه.

قوله تعالى: (أم لهم نصيب من الملك فاذا لايؤتون الناس نقيرا(53))

آية.

[226]

النظم والاعراب: وجه اتصال هذه الآية بما قبلها اتصال الصفة بالبخل، والصفة بالحسد والجهل، لان قوله: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت، ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا) يدل على أنهم حسدوا المؤمنين وأنهم يعملون أعمال الجاهلين، إلا أن الكلام خرج مخرج الاستفهام، للتوبيخ، والتقريع بتلك الحال. وجاء‌ت أم ههنا غير معادلة للالف لتدل على اتصال الثاني بالاول.

والمعنى بل ألهم نصيب من الملك؟ وتسمى أم هذه المنقعطة عن الالف لانها بخلاف المتصلة بها على المعادلة.

ومثله " الم تنزيل الكتاب لاريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه "(1) وقال بعضهم: إن الالف محذوفة، لان أم لاتجئ مبتدأة على تقدير أهم أولى بالنبوة " أم لهم نصيب من من الملك " فيلزم الناس طاعتهم. وهذا ضعيف، لان حذف الالف إنما يجوز في ضرورة الشعر بالاجماع ولا ضرورة في القرآن.

" وإذا " لم تعمل في يؤتون لانها إذا وقعت بين الفاء، والفعل، جاز أن تقدر متوسطة فتلغى كما تلغى (أرى)(2) إذا توسطت أو تأخرت، لان النية به التأخير. والتقدير أم لهم نصيب من الملك فلا يؤتون الناس نقيرا اذا، وكذلك إذاكان معها واو، نحو " وإذا لايلبثون خلافك إلا قليلا "(3) ويجوز أن تقدر مستأنفة، فتعمل مع حرف العطف.

و (اذن) لاتعمل إلا بشروط أربعة: أن تكون جوابا لكلام، وأن تكون مبتدأة في اللفظ، ولايكون ما بعدها متعلقا بما قبلها، ويكون الفعل بعدها مستقبلا. ومتى نقص واحد من هذه الشروط لم تعمل.

المعنى واللغة: وقوله: (لايؤتون الناس نقيرا) اخبار من الله تعالى عن لومهم، وبخلهم أي لايؤتونهم نقيرا.

___________________________________

(1) سورة ألم السحدة: آية 1، 2، 3،.

(2) أي (أرى) القلبية.

(3) سورة الاسرى: آية 76.

[227]

وقيل في معنى النقير ههنا ثلاثة أقوال: أحدها - قال ابن عباس، وقتادة، والسدي، وعطاء، والضحاك، وابن زيد: إنه النقطة التي في ظهر النواة. وقال مجاهد: هوالحبة التي في بطن النواة.

وفي رواية أخرى عن ابن عباس أن النقير ما نقر الرجل باصبعه، كماينقر الدرهم.

والنقر: النكت ومنه المنقار، لانه ينقر به.

والناقور: الصور، لان الملك ينقر فيه بالنفخ المصوت.

والنقرة: حفرة في الارض أو غيرها، والنقير: خشبة تنقر وينبذفيها.

والمناقرة: مراجعة الكلام.

وانتقر: اختص كما يختص بالنقر واحدا واحدا.

والمنقر: المقلع عن الشئ، لانه كما يقلع في النقر، ثم يعود إليه.

ومعنى (أم لهم نصيب من الملك) ما يدعيه اليهود أن الملك يعود إليهم.

وقوله: " فاذا لايؤتون الناس " يعني العرب.

وذكر الزجاج في معناه وجهين: أحدهما - بل لهم نصيب، لانهم كانوا أصحاب بساتين وأموال، وكانوا في غاية البخل. والثاني - أنهم لو أعطوا الملك، ما أعطوا الناس نقيرا من بخلهم اختاره البلخي وبه قال السدي، وابن جريج.

قوله تعالى: (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما(54))

آية

المعنى: المعني بقوله: (أم يحسدون الناس) قيل فيه ثلاثة أقوال: أحدها - قال ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، والسدي، وعكرمة: إنه النبي صلى الله عليه وآله، وهوقول أبي جعفر (ع)، وزاد فيه وآله.

[228]

الثاني - قال قتادة: هم العرب(1): محمد صلى الله عليه وآله وأصحابه، لانه قد جرى ذكرهم في قوله: " يقولون للذين هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا " ذكره الجبائي.

والفضل المذكور في الآية قيل فيه قولان: أحدهما - قال الحسن، وقتادة، وابن جريج: النبوة. وهو قول أبي جعفر (ع) قال وفي آله الامامة. الثاني - قال ابن عباس: والضحاك والسدي ما أباحه الله للنبي من نكاح تسعة.

اللغة: والحسد تمني زوال النعمة عن صاحبها لما يلحق من المشقة في نيله لها، والغبطة: تمني مثل النعمة، لاجل السرور بها لصاحبها، ولهذاكان الحسد مذموما والغبطة غير مذمومة.

وقيل: إن الحسد من افراط البخل، لان البخل مع النعمة، لمشقة بذلها. والحسد تمني زوالها لمشقة نيل صاحبها لها بالعمل فيها على المشقة بنيل النعمة.

ثم قال " فقدآتينا آل ابراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما " فما حسدوهم على ذلك فكيف حسدوا محمداوآله ما أعطاهم الله إياه.

المعنى: والملك المذكور في الآية ههنا قيل فيه ثلاثة أقوال: أحدها - قال ابن عباس: هو ملك سليمان، وبه قال عطية العوفي.

الثاني - قال السدي: هو ما أحل لداود من النساء تسع وتسعون امرأة، ولسليمان مئة لان اليهود عابت النبي صلى الله عليه وآله بكثرة النساء فبين الله ان ذلك وأكثر منه كان في آل ابراهيم.

الثالث - قال مجاهد، والحسن: إنه النبوة.

وقال أبوجعفر (ع): انه الخلافة، من أطاعهم، أطاع الله ومن عصاهم عصى الله.

___________________________________

(1) في المخطوطة (الذين هم محمد..).

[229]

قوله تعالى: (فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا(55))

آية بلاخلاف.

المعنى: الضمير في قوله: (فمنهم من آمن) يحتمل أن يكون عائدا إلى أحد أمرين: أحدهما - قال مجاهد، والزجاج، والجبائي: إن من أهل الكتاب من آمن بمحمد صلى الله عليه وآله لتقدم الذكر في " يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم "(1). الثاني - فمن أمة ابراهيم من آمن بابراهيم، ومنهم من صد عنه. كما أنكم في أمر محمد صلى الله عليه وآله كذلك. وليس في ذلك توهين لامره كما ليس فيه توهين لامر ابراهيم.

واتصال الكلام على هذاالوجه ظاهر وعلى الوجه الاول تقديره وقع(2) هذا كله " فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه " وقال قوم: " فمنهم من آمن " بداود وسليمان " ومنهم من صد عنه " وليس في الآية دلالة على أن ما تقدم من الوعيد إنما صرف عنهم لايمان هذا الفريق، لانه قال في الآخرة " يوم تبيض وجوه وتسود وجوه "(3) وقال بعضهم: فيه دلالة على ذلك، ولذلك قال: " وكفى بجهنم سعيرا " أي ان كان صرف بعض العقاب، فكفى بجهنم استغرافا بالعذاب.

اللغة: وسعير بمعنى مسعورة وترك - لاجل الصرف - التأنيث للمبالغة في الصفة كما قالوا: كف خضيب ولحية دهين. وتركت علامة التأنيث، لانها لما كان دخولها فيما

___________________________________

(1) سورة النساء: آية 46.

(2) في المخطوطة (ومع) بدل (وقع).

(3) سورة آل عمران: آية 106.

[230]

ليست له، للمبالغة نحو رجل علامة كان سقوطها فيما بقي له للمبالغة فحسن هذا التقابل في الدلالة.

والسعر: ايقاد النار ومنه قوله: " وإذا الجحيم سعرت "(1) واستعرت النار والحرب والشر استعارا.

واسعرتها اسعارا. وسعرتها تسعيرا.

والسعر: سعر المتاع وسعروه تسعيرا وذلك لاستعار السوق بحماها في البيع.

الساعور كالتنور في الارض.

والمسعور: الذي قد ضربته السموم، والعطش.

وزيدت الباء في قوله: " وكفى بجهنم " لتأكيد الاختصاص، لانه يتعلق به من وجهين: وجه الفعل في كفى جهنهم كقولك: كفى الله، ووجه الاضافة في الكفاية بجهنم.

وعلى ذلك قيل: كفى بالله للدلالة على أن الكفاية تضاف إليه من أوكد الوجوه، وهووجه الفعل، ووجه المصدر.

قوله تعالى: (إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزا حكيما(56))

آية بلاخلاف.

المعنى واللغة: أخبر الله تعالى في هذه الآية أن من حجد معرفته وكذب أنبياء‌ه، ودفع الآيات التي تدل على توحيده، وصدق نبيه أنه سوف يصليه نارا لتدل على أن ذلك يفعله به في المستقبل، ولم يكن دخولها لشك، لانه تعالى عالم بالاشياء لايخفى عليه إمر من الامور.

ومعنى نصليه نارا: نلزمه إياها تقول: أصليته النار: إذا القيته فيها، وصليته صليا: إذا شويته: وشاة مصلية أي مشويه. والصلا الشواء.

وصلي فلان بشر فلان.

وصلي برجل سوء.

وقوله: (كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها) قيل فيه ثلاثة أقوال:

___________________________________

(1) سورة التكوير: آية 12.

[231]

أحدها - قال الرماني: إن الله يجدد لهم جلودا غير الجلود التي احترقت وتعدم المحترقة على ظاهر القرآن من أنها غيرها، لانها ليست بعض الانسان.

قال قوم هذا لايجوز، لانه يكون عذب من لايستحق العذاب.

قال الرماني: لايؤدي إلى ذلك، لان ما يزاد لايألم، ولاهو بعض لما يألم، وإنماهو شئ يصل به الالم إلى المستخق له.

وقال الجبائي: لايجوز أن يكون المراد ان يزاد جلدا على جلده، كلما نضجت لانه لو كان كذلك لوجب أن يملاجسد كل واحد من الكفار جهنم إذا أدام الله العقاب، لانه كلما نضجت تلك الجلود زاد الله جلدا آخر، فلابد أن ينتهي إلى ذلك.

والجواب الثاني - اختاره البلخي والجبائي، والزجاج: ان الله تعالى يجددها بان يردها إلى الحالة التي كانت عليها غير محترقة، كما يقال جئتني بغير ذلك الوجه وكذلك، إذا جعل قميصه قباء جاز إن يقال جاء بغير ذلك اللباس أو غير خاتمه فصاغه خاتما آخر جاز أن يقال هذاغير ذلك الخاتم، وهذا هوالمعتمد عليه.

والثالث - قال قوم: إن التبديل إنما هو للسرابيل التي ذكرها التي ذكرها الله في قوله: " سرابيلهم من قطران "(1) فاما الجلود فلو عذبت ثم إوجدت، لكان فيه تفتير عنهم، وهذا بعيد، لانه ترك للظاهر وعدول بالجلود إلى السرابيل، ولانقول إن الله تعالى يعدم الجلود، بل على ماقلناه يجددها ويطريها بما يفعل فيها من المعاني التي تعود إلى حالتها، فاما من قال: إن الانسان غير هذه الجملة، وأنه هو المعذب، فقد تخلص من هذاالسؤال.

ويقوي ما قلناه ان أهل اللغة يقولون: أبدلت الشئ بالشئ إذا أزلت عينا بعين، كما قال الراجز: عزل الامير بالامير المبدل وبدلت - بالتشديد - إذا غيرت هيئة، والعين واحدة.

يقولون: بدلت جتي قميصا: إذا جعلنها قميصا ذكره المغربي، وقال البلخي: ويحتمل وجها آخر وهو أن يخلق الله لهم جلدا آخر فوق جلودهم، فاذا احترق التحناني أعاده الله.

___________________________________

(1) سورة ابراهيم: آية 50.

[232]

وهكذا يتعقب الواحد الآخر قال: ويحتمل أن يخلق الله لهم جلدا لايألم يعذبهم فيه، كما يعذبهم في سرابيل القطران.

فان قيل: كيف قال: (ليذوقوا العذاب) مع أنه دائم لازم؟ قيل: لان احساسهم في كل حال كاحساس الذائق في تجدد الوجدان من غير نقصان، لان من استمر على الاكل، لايجد الطعم، كما يجد الطعم من يذوقه.

وقوله: " إن الله كان عزيزا حكيما " معناه أنه قادر قاهر لايمتنع عليه انجاز ما توعد به أو وعد، وحكيم في فعله لايخلف وعيده، ولايفعل إلاقدر المستحق به فينبغي للعاقل أن يتدبره، ويكون حذره منه على حسب علمه به ولايغتر بطول الامهال، والسلامة من تعجيل العقوبة.

قوله تعالى: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها أبدا لهم فيها أزواج مطهرة وندخلهم ظلا ظليلا(57))

آية بلاخلاف.

المعنى: لما ذكر الله تعالى في الآية الاولى ما توعد به الكفار والجاحدين لآياته تعالى، وعدفي هذه الآية المصدقين به تعالى، والعاملين الاعمال الصالحات، وهي الحسنات التي هي طاعات الله، وصالح يجري على وجهين: أحدهما - على من يعمل الطاعة. الثاني - على نفس العمل ويقال: رجل صالح، ومعناه ذوعمل صالح، ويقال: عمل صالح، فيجري عليه الوصف بأنه صالح.

وعدهم بأن سيدخلهم جنات وهي جمع جنة وهي البستان التي يجنها الشجر " تجري من تحتها الانهار " وفيه محذوف، لان التقدير تجري من تحتهامياه الانهار، لان الماء هوالجاري دون الانهار

[233]

غير أنه بعرف الاستعمال سقط عنه اسم مجاز، كما سقط في قولهم: هذا شعر امرئ القيس وان كان المراد انه حكاية عنه، فاماقوله: " واسأل القرية " مجار لامحالة، لانه لابد فيه من تقدير أهلها، وقوله: " خالدين فيها أبدا لهم فيها أزواج مطهرة " يعني من النفاس والحيض ومن جميع الاقذار، والادناس.

اللغة: والطهارة نقيض النجاسة. والنجاسة في الاصل هي ماكان نتنا نحو الجيف، وغيرها، وشبه بذلك نجاسة الحكم تبعا للشريعة كما يقال في الخمر: إنها نجسة.

وقوله: " ويدخلهم ظلا ظليلا " فالظل أصله الستر من الشمس قال رؤبة: كل موضع يكون فيه الشمس، فتزول عنه، فهو ظل وفئ. وماسوى ذلك فظل، لايقال فيه فئ.

والظل: الليل، لانه كالستر من الشمس.

والظلة: السترة، وظل يفعل كذا: إذا فعله نهارا، لانه في الوقت الذي يكون للشمس ظل.

والاظلال الدنو، لان الشئ بدنوه، كأنه قد ألقى عليك ظله.

والاظل: باطن منسم البعير، لان المنسم يستره.

والظليل: هوالكنين، لانه لاشمس فيه ولاسموم.

قال الحسن: ربما كان ظل ليس بظليل، لانه يدخله الحر والسموم، فلذلك وصف ظل الجنة بأنه ظليل. ومنه قوله: " وظل ممدود "(1) لانه ليس كل ظل ممدودا.

وروي أن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام، لايقطعها وهي شجرة الخلد.

وقيل: إنما قال " ظلا ظليلا " فرقا بينه وبين " ظل ذي ثلاث شعب لاظليل ولايغني من اللهب "(2) وقيل يدخلهم ظلا ظليلا في الموقف حيث لاظل إلاظل عرشه.

___________________________________

(1) سورة الواقعة: آية 31.

(2) سورة المرسلات آية 31 - 32.

[234]

قوله تعالى: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الامانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا(58))

آية بلاخلاف.

المعنى: قيل في المعني بهذه الآية ثلاثة أقوال: أولها - ما قال ابن عباس، وأبي بن كعب، والحسن، وقتادة، وهوالمروي عن أبي جعفر (ع)، وأبي عبدالله (ع): إن كل مؤتمن على شئ يلزمه رده.

الثاني - قال زيد بن أسلم، ومكحول، وشهربن حوشب: إن المراد به ولاة الامر وهو اختيار الجبائي، وروي ذلك عن أبي جعفر أيضا وأبي عبدالله (ع) وقالوا: أمر الله الائمة كل واحد منهم أن يسلم الامر إلى من بعده، وعلى الوجه الاول يدخل هذا فيه، لان ذلك من جملة ما ائتمنه الله عليه. ولذلك قال أبوجعفر (ع): إن اداء الصلا ة والزكاة والصوم والحج من الامانة، ويكون الامر للآمر باداء الامانة من الغنائم والصدقات، وغير ذلك مما يتعلق به حق الرعية.

الثالث - قال ابن جريج: نزلت في عثمان بن طلحة. أمر الله تعالى نبيه أن يردإليه مفاتيح الكعبة، والمعتمد هوالاول، وإن كان الاخير روي أنه سبب نزول الآية، غير أنه لايقصر عليه.

اللغة والمعنى: تقول: أديت الشئ أؤديه تأدية، وهوالمصدر الحقيقي، ولو قلت: أديت أداء كان جائزا يقام الاسم المصدر.

ويقال: أدوات للصيد آدوله ادوا: إذا ختلته، لتصيده.

وأدى اللبن يأدي: إذا حمض.

وقوله: " وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل " أمر الله تعالى الحكام بين الناس أن يحكموا بالعدل لابالجور " ان الله نعما يعظكم به " معناه نعم الشئ شيئا يعظكم الله به من أداء الامانة وكتبت (ما) في (نعما) موصولة، لانها بمنزلة الكافي في (إنما)، و (ربما)، غير انها في نعما

[235]

اسم يعودإليه الضمير في (به) فتقديره نعم شيئا يعظكم به أونعم وعظا يعظكم به، ولا يجوز إسكان العين مع الميم في نعما لانه جمع بين ساكنين، ولكن يجوز اختلاس الحركة من غير اشباع الكسرة، كالاختلاس في " يأمركم " وبارئكم " وعلى هذا تحمل قراء‌ة أبي عمر.

وقال الزجاج: اجتماع الساكنين فيه ينكره جميع البصريين.

والسميع: هومن كان على صفة يجب لاجلها أن يسمع المسموعات إذا وجدت والبصير من كان على صفة يجب لاجلها أن يبصر المبصرات إذا وجدت.

والسامع هوالمدرك للمسوعات.

والمبصر هو المدرك للمبصرات.

ولذلك يوصف تعالى فيما لم يزل بأنه سميع بصير، ولا يوصف بأنه سامع مبصر إلا بعد وجود المبصرات والمسموعات.

وقوله: (إن الله سميعا بصيرا) اخبار بانه كان سميعا بصيرافيما مضى. وذلك يرجع إلى كونه حيا لاآفة به فاذا كان لايجوز خروجه عن كونه حيا، فلا يجوز خروجه عن كونه سميعا بصيرا.

قوله تعالى: (ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الامر منكم فان تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا(59))

آية بلاخلاف.

المعنى: هذا خطاب من الله تعالى للمؤمنين يأمرهم أن يطيعوه ويطيعوا رسوله ويطيعوا أولي الامر منهم، فالطاعة هي امتثال الامر. فطاعة الله هي امتثال أوامره والانتهاء عن نواهيه. وطاعة الرسول كذلك امتثال أوامره وطاعة الرسول أيضا هي طاعة الله، لانه تعالى أمر بطاعة رسوله، فمن أطاع الرسول، فقد أطاع

[236]

الله كما قال " من يطع الرسول فقد أطاع الله "(1) فأما المعرفة بأنه رسول، فمعرفة بالرسالة ولايتم ذلك إلا بعد المعرفة بالله، وليست احداهما هوالاخرى، وطاعة الرسول واجبة في حياته وبعدوفاته، لان بعد وفانه يلزم اتباع سنته، لانه دعا إليها جميع المكلفين إلى يوم القيامة، كما أنه رسول إليهم أجميعن.

فاما أولو الامر، فللمفسرين فيه تاويلان: أحدهما - قال أبوهريرة، وفي رواية عن ابن عباس، وميمون بن مهران، والسدي، والجبائي، والبلخي، والطبري: إنهم الامراء. الثاني - قال جابر بن عبدالله، وفي رواية أخرى عن ابن عباس، ومجاهد، والحسن، وعطاء، وأبي العالية: انهم العلماء.

وروى أصحابنا عن أبي جعفر وأبي عبدالله (ع) أنهم الائمة من آل محمد صلى الله عليه وآله فلذلك أوجب الله تعالى طاعتهم بالاطلاق، كما أوجب طاعة رسوله وطاعة نفسه كذلك. ولايجوز ايجاب طاعة أحد مطلقا إلا من كان معصوما مأمونا منه السهو والغلط، وليس ذلك بحاصل في الامراء، ولاالعلماء، وإنما هو واجب في الائمة الذين دلت الادلة على عصمتهم وطهارتهم، فاما من قال المراد به العلماء، فقوله بعيد، لان قوله (وأولي الامر) معناه أطيعوا من له الامر، وليس ذلك للعلماء، فان قالوا: يجب علينا طاعتهم إذا كانوا محقين، فاذا عدلوا عن الحق فلا طاعة لهم علينا.

قلنا: هذا تخصيص لعموم ايجاب الطاعة لم يدل عليه دليل. وحمل الآية على العموم، فيمن يضح ذلك فيه أولى من تخصيص الطاعة بشئ دون شئ كما لايجوز تخصيص وجوب طاعة الرسول وطاعة الله في شئ دون شئ.

وقوله: (فان تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول) فمعنى الرد إلى الله هو إلى كتابه والرد إلى رسوله هو الرد إلى سنته. وقول مجاهد، وقتادة، وميمون بن مهران، والسدي: والرد إلى الائمة يجري مجرى الرد إلى الله والرسول، ولذلك قال في آية أخرى " ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الامر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم "(2) ولانه إذا كان

___________________________________

(1) سورة النساء: آية ث 79.

(2) سورة النساء: آية 82.

[237]

قولهم حجة من حيث كانوا معصومين حافظين للشرع جروا مجرى الرسول في هذا الباب.

وقوله: (إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر) أي تصدقون بهما.

(ذلك خير وأحسن تاويلا) ذلك اشارة إلى الردإلى الله وإلى الرسول (وأحسن تاويلا) قال قتادة، والسدي، وابن زيد: أحمد عاقبة.

وقال مجاهد: معناه أحسن جزاء.

وهومن آل يؤول إذا رجع والمآل المرجع والعاقبة مآل، لانها بمنزلة ما تفرقت عنه الاشياء ثم رجعت إليه.

وتقول: إلى هذا يؤول الامر أي يرجع.

وقال الزجاج: أحسن من تأويلكم أنتم إياه من غير رد إلى أصل من كتاب الله وسنة نبيه، وهذا هوالاقوى، لان الرد إلى الله والرسول والائمة المعصومين أحسن من تأويل بغير حجة.

واستدل جماعة بهذه الآية على أن الاجماع حجة بأن قالوا: إنماأوجب الله الرد إلى الكتاب والسنة بشرط وجود التنازع، فدل على أنه إذا لم يوجد التنازع، لايجب الرد، ولايكون كذلك إلاوهو حجة، وهذا إن استدل به مع فرض أن في الامة معصوما حافظا للشرع كان صحيحا، وإن فرضوا مع عدم المعصوم كان باطلا، لان ذلك استدلال بدليل خطاب، لا تعليق الحكم بشرط أو صفة لايدل على أن ماعداء بخلافه عند أكثر المحصلين، فكيف يعتمد عليه ههنا، على أنهم لايجمعون على شئ إلا عن كتاب أوسنة، فكيف يقال: إذا أجمعوا لايجب عليهم الرد إلى الكتاب والسنة، وهم قد ردوا إليها على أن ذلك يلزم في كل جماعة، وإن لم يكونوا جميع الامة إذا اتفقوا على شئ ألايجب عليهم الرد إلى الكتاب والسنة، لان قوله: (فان تنازعتم) يتناول جماعة ولايستغرق جميع الامة، فعلم بذلك فساد الاستدلال بما قالوه. وقد بينا الكلام على ذلك مستوفى في العدة في أصول الفقه.

الآية: 60 - 69

قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا(60))

آية بلاخلاف.

المعنى واللغة: عجب الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله في هذه الآية ممن يزعم أنه آمن بما أنزل على محمد صلى الله عليه وآله، وما أنزل من قبله بان قال ألم ينته علمك إلى هؤلاء الذين ذكرنا وصفهم يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمرهم الله أن يكفروا به.

وقال الحسن، والجبائي: نزلت الآية في قوم منافقين احتكموا إلى الاوثان بضرب القداح. وقد بينا معنى الطاغوت فيما تقدم.

وقيل في معناه ههنا قولان: أحدهما - أنه كاهن تحاكم إليه رجل من المنافقين، ورجل من اليهود هذا قول الشعبي، وقتادة. وقال السدي اسمه أبوبردة.

الثاني - قال ابن عباس، ومجاهد، والربيع، والضحاك: إنه كعب ابن الاشرف رجل من اليهود، فاختار المنافق التحاكم إلى الطاغوت، وهو رجل يهودى.

وقيل: كعب بن الاشراف، لانه يقبل الرشوة، واختار اليهودي التحاكم إلى محمد نبينا صلى الله عليه وآله لانه لايقبل الرشوة.

ومعنى الطاغوت ذو الطغيان - على جهة المبالغة في الصفة - فكل من يعبد من دون الله فهو طاغوت، وقد تسمى به الاوثان كما تسمى بأنها رجس من عمل الشيطان، ويوصف به كل من طغى، بان حكم بخلاف حكم الله تعالى غير راض بحكمه تعالى.

وروي عن أبي جعفر وأبي عبدالله (ع) أن الآية في كل من يتحاكم إلى من يحكم بخلاف الحق، و (زعم)، يحتاج إلى اسم، وخبر، " وانهم " في الآية نائب عن الاسم، والخبر، لانها على معنى الجملة، ومخرج المفرد، وليس بمنزلة ظننت ذلك، لانه على معنى المفرد ومخرج المفرد، لان قولك: زعمت أنه قائم يفيد ما يفيد هو قائم، وكذلك ظننت ذاك، لانه يدل دلالة الاشارة إلى ما تقدر علمه عند المخاطب.

[239]

وقوله: (ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا) يدل على بطلان قول المجبرة: إن الله تعالى يفعل المعاصي ويريدها، لان الله تعالى نسب إضلالهم إلى أنه بارادة الشيطان على وجه الذم لهم، فلو أراد تعالى أن يضلهم بخلق الضلال فيهم، لكان ذلك أوكد وجوه الذم في إضلالهم. وأصل الضلال الهلاك بالعدول عن الطريق المؤدي إلى البغية، لانه ضد الهدى الذي هوالدلالة على الطريق المؤدي إلى البغية، وله تصرف كثير يرجع إلى هذه النكتة ذكرناه فيما مضى.

وأضله الله معناه: سماه الله ضالا أو حكم عليه به، كما يقال أكفره بمعنى سماه بالكفر، ولايجوز أن يقال أكفره الله بمعنى أنه دعاه إلى الكفر، لانه منزه عن ذلك، فتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

قوله تعالى: (وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا(61))

آية.

قال ابن جريج: الداعي إلى حكم الرسول هوالمسلم الذي يدعو المنافق إلى حكم الرسول صلى الله عليه وآله وقال قتادة: هويهودي دعا المنافق إلى حكم الرسول، لعلمه أنه لايجوز في الحكم " وتعالوا " أصله من العلو وهو تفاعلوا، منه كقولك: توافقوا، فاذا قلت لغيرك: تعال، فمعناه ارتفع علي - وان كان في اتخفاض من الارض - لانه جعله كالرفيع بكونه فيه، ويجوز أن يكون أصله للمكان العالي حتى صار لكل مكان.

وقوله: (يصدون عنك صدودا) قيل في سبب صد المنافقين عن النبي صلى الله عليه وآله قولان: أحدهما - لعلهم بأنه لايأخذ الرشا على الحكم وأنه يحكم بمر الحق. والثاني - لعداوتهم للدين.

[240]

وصددت الاصل فيه ألايتعدى، لانك تقول: صددت عن فلان أصد بمعنى أعرضت عنه، ويجوز صددت فلانا عن فلان - بالتعدي - لانه دخله معنى منعته عنه.

ومثله رجعت أنا ورجعت غيري، لانه دخله معنى رددته، فلذلك جاز رجعته، " وصدودا " نصب على المصدر على وجه التأكيد للفعل، كقوله: " وكلم الله موسى تكليما "(1) ومعنى ذلك أنه ليس ذلك على بيان كالكلام بل كلمه في الحقيقة.

وقيل في معنى " تكليما " أنه كلمه تكليما شريفا عظيما ويمكن مثله في الآية. ولايكون تقديره رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا عظيما.

قوله تعالى: (فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا(62))

آية.

الاعراب: قيل في موضع كيف من الاعراب قولان: أحدهما - انه رفع بتقدير: فكيف صنيعهم إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم، كأنه قال الاساء‌ة صنيعهم بالجرأة في كذبهم أم الاحسان بالتوبة من جرمهم. والثاني - انه نصب وتقديره: كيف يكونون أمصرين أم تائبين يكونون؟ ويجوز الرفع على معنى كيف بك.

كأنه قال أصلاح أم فساد؟ المعنى: وقيل في معنى المصيبة في الآية قولان: أحدهما - ذكره الزجاج: ان بعض المنافقين أظهرأنه لايرضى بحكم رسول الله صلى الله عليه وآله، فقتله عمر، ثم جاء إخوانه من المنافقين يطالبون بدمه " يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا " كذبا وزورا.

___________________________________

(1) سورة الانفطار: آية 14.

[241]

الثاني - ان أصابتهم نقمة من الله لم ينيبوا تائبين من المعصية بل يزدادون جرأة بحلفهم كاذبين بالله عزوجل.

وقال الحسين بن علي المغربي: الآية نزلت في عبدالله بن أبي وما أصابه من الذل عند مرجعهم من غزوة بني المصطلق هي غزوة المريسيع حين نزلت سورة المنافقين، فاضطر إلى الخشوع والاعتذار، وذلك مذكور في تفسير سورة المنافقين أو مصيبة الموت لما تضرع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله في الاقالة والاستغفار واستوهبه ثوبه، ليتقي به النار يقولون: ما أردنا إلا إحسانا وتوفيقا أي بكلامه بين الفريقين المتازعين في غزوة بني المصطلق.

وقوله: (فاعرض عنهم) يأسا منهم (وعظهم) ايجابا للحجة عليهم " وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا " فيه دلالة على فضل البلاغة وحث على اعتمادها.

وقوله: " إن أردنا إلا احسانا أردنا وتوفيقا " معناه قيل فيه قولان: أحدهما - أي ما اردنا بالمطالبة بدم صاحبنا إلااحسانا إلينا، وما وافق الحق في أمرنا. الثاني - ما أردنا بالعدول عنك في المحاكمة توفيقا بين الخصوم، واحسانا بالتقريب في الحكم دون الحمل على مر الحق. كل ذلك كذب منهم وافك.

ان قيل كيف يقتضي الانتقام منهم الاعتذار لما سلف من جرمهم؟ قلنا: عنه جوابان: أحدهما - للتقريع بتعجيل العقاب على ما ارتكبوا من الاثام. الثاني - ان الانتقام قد يكون اقصاء النبي صلى الله عليه وآله واذلاله إياهم، وتخويفه بالنفي أو القتل ان لم ينتهوا عن قبائحهم - هذا قول الجبائي - والحلف: القسم.

ومنه الحلف، لتحالفهم فيه على الامر.

وحليف الجود ونحوه، لانه كالحلف في اللزوم، أو حلف الغلام إذاقارب البلوغ.

قوله تعالى: (أولئك الذين يعلم الله مافي قلوبهم فاعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا(63))

آية.

[242]

المعنى: (أولئك) اشارة إلى المنافقين الذين تقدم وصفهم، وإنما قال: يعلم ما في قلوبهم وإن كان معلوما ذلك بدلالة العقل لامرين: أحدهما - تأكيدا لما علمناه. والثاني - انه يفيد أنه لايغنى عنهم كتمان ما يضمرونه شيئا من العقاب، لان الله يعلم ما في قلوبهم من النفاق. وكذلك كل ما ذكره الله مما هو معلوم عند المخاطب. إنما الفائدة في مقارنته بما ليس بمعلوم على جهة الاحتجاج به، أو غيره من الوجوه.

وقوله: (فاعرض عنهم وعظهم) جمع بين معنى الاعراض والاقبال.

وقيل في معناه ثلاثة أوجه: أحدها - فاعرض عنهم بعداوتك لهم، وعظهم.

الثاني - فاعرض عن عقابهم وعظهم.

الثالث - قال الجبائي: أعرض عن قبول الاعتذار منهم.

وقوله: " وقل لهم في أنفسهم قوالا بليغا " قال الحسن: القول البليغ الذي أمر به في الآية أن يقول إن أظهرتم ما في قلوبكم قتلتكم، فهذايبلغ من نفوسهم كل مبلغ.

وقال الجبائي: خوفهم بمكاره تنزل بهم في أنفسهم إن عادوا لمثل ما فعلوه. ويجوز أن يكون المراد ازجرهم عما هم عليه بأبلغ الزجر.

اللغة: وأصل البلاغة البلوغ، تقول: بلغ الرجل بالقول بليغ بلاغة، فهو بليغ: إذا كان بعبارته يبلغ كثير ما في قلبه.

ويقال: أحمق بليغ، وبلغ ومعناه. أنه أحمق يبلغ حيث يريد.

وقيل: معناه قد بلغ في الحماقة.

وفي الآية دلالة على فضل البلاغة، وأنها أحد أقسام الحكمة، لما فيهامن بلوغ المعنى الذي يحتاج إلى التفسير باللفظ الوجيز مع حسن الترتيب.

[243]

قوله تعالى: (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع باذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما(64))

آية بلاخلاف.

المعنى: " ما " في قوله: " وماأرسلنا " نافية فلذلك قال: " من رسول "، لان (من) لاتزاد في الايجاب، وزيادتها تؤذن باستغراق الكلام كقولك: ما جاء‌ني من أحد.

والتقدير في الآية: وما أرسلنا رسولا إلا ليطاع، فيمتثل ما نأمره به. والذي اقتضى ذكر طاعة الرسول إعراض هؤلاء المنافقين - الذين تحاكموا إلى الطاغوت - عن طاعته، وهم يزعمون أنهم يؤمنون به حتى كأنه قد قيل لهم: من الايمان أن لاتطيعوه في كل ما يدعوإليه، فبين الله تعالى أنه كغيره من الرسل الذي ما أرسل إلا ليطاع.

وقوله: " باذن الله " معناه بأمر الله الذي دل على وجوب طاعتهم، والاذن على وجوه: يكون بمعنى اللطف، كقوله: " وما كان لنفس أن تؤمن إلا باذن الله "(1) ومنهاالامر مثل هذه الآية. ومنها التخلية نحو " وماهم بضارين به من أحد إلا باذن الله "(2) وقوله: " ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم " معناه إذ بخسوها حقها بادخال الضرر عليها بفعل المعصية من استحقاق العقاب، وتفويت الثواب بفعل الطاعة.

الاعراب والمعنى: وموضع " أنهم " رفع. والمعنى لو وقع مجيئهم في وقت ظلمهم مع استغفارهم " لوجدوالله توابا رحيما " و (لو) موضوعة للفعل، لما فيها من معنى الجزاء تقول: لو كان كذا، لكان كذا. ولايقع بعدها إلا (أن). وإنما اجيز في (أن)

___________________________________

(1) سورة يونس: آية 100.

(2) سورة البقرة: آية 102.

[244]

خاصة أن تقع بعدها، لانها كالفعل في إفادة معنى الجملة. وفتحت (ان) لانها مبنية على (لو) بترتيبها على نحو ترتيبها بعد العامل فيها.

وفي الآية دلالة على بطلان مذهب المجبرة: من أن الله تعالى يريد أن يعصي الانبياء قوم ويطيعهم آخرون، لانه تعالى بين أنه ما أرسلهم إلا ليطاعوا، واللام لام الغرض ومعناه إلا وأراد من المبعوث إليهم أن يطيعوا. وذلك خلاف مذهبهم. وفيها أيضا دلالة على أن من كان مرتكبا لكبيرة يجب أن يستغفر الله فان الله سيتوب عليه ويقبل توبته، ولاينبغي لاحد أن يستغفر مع كونه مصرا على المعصية بل ينبغي أن يتوب ويندم على ما فعل ويعزم على أن لايعود إلى مثله ثم يستغفر باللسان ليتوب الله عليه.

وقوله: " لوجدوا الله " يحتمل أمرين: أحدهما - لوجدوا مغفرة الله لذنوبهم ورحمته إياهم. والثاني - لعلموا الله توابا رحيما. والوجدان قد يكون بمعنى الادراك، فلا يجوز عليه تعالى أنه تعالى غير مدرك في نفسه.

وذكر الحسن في هذه الآية: أن اثني عشر رجلا من المنافقين اجتمعوا على أمر من النفاق وائتمروا به فيما بينهم، فاخبره الله بذلك، وقد دخلوا على رسول الله، فقال رسول الله: إن اثني عشر رجلا من المنافقين اجتمعوا على أمر من النفاق، وائتمروا به فيما بينهم، فليقم أولئك فليستغفروا ربهم، وليعترفوا بذنوبهم حتى اشفع لهم. فلم يقم أحد. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: ألا تقومون؟ مرارا -. ثم قال: قم يافلان وأنت يافلان، فقالوا يارسول الله نحن نستغفر الله ونتوب إليه، فاشفع لنا. قال الآن أنا كنت في إول أمركم أطيب نفسا بالشفاعة، وكان الله تعالى أسرع إلى الاجابة أخرجوا عني، فاخرجوا عنه حتى لم يرهم.

قوله تعالى: (فلا وربك لايؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لايجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما(65))

آية.

[245]

قيل في معنى دخول (لا) في أول الكلام قولان: أحدهما - أنها رد لكلام. كأنه قيل لا الامر كما يزعمون من الايمان وهم على تلك الحال من الخلاف، ثم استؤنف قوله: " وربك لايؤمنون حتى.. ".

الثاني - انها توطئة للنفي الذي يأتي فيما بعد، لانه إذا ذكر في أول الكلام وآخره كان أوكد وأحسن، لان النفي له صدر الكلام. وقد اقتضى القسم أن يذكر في الجواب.

النزول: وقيل في سبب نزول هذه الآية قولان: أحدهما - أنها نزلت في الزبير ورجل من الانصار تخاصهما إلى النبي صلى الله عليه وآله في سراح من الحرة كانا يسقيان منه نخلا لهما، فقال النبي صلى الله عليه وآله اسق يازبير ثم ارسل إلى جارك، فغضب الانصاري، وقال: يارسول الله ان كان ابن عمتك؟ ! فتلون وجه رسول الله حتى عرف ان قد ساء‌ه، ثم قال يازبير احبس الماء إلى الجدد(1) أو إلى الكعبين، ثم خل سبيل الماء، فنزلت الآية.

وقال أبوجعفر (ع) كانت الخصوصة بين الزبير، وحاطب بن أبي بلتعة روي ذلك عن الزبير وأم سلمة. وذهب إليه عمر بن شبه، والواقدي.

وقال قوم وهو اختيار الطبري: إنها نزلت في المنافق واليهودي اللذين احتكما إلى الطاغوت. قال: لان سياق الكلام بهذا أشبه.

اللغة والمعنى: وقوله: (فيما شجر بينهم) معناه فيما وقع بينهم من الاختلاف. تقول شجر يشجر شجرا وشجورا وشاجره في الامر: إذا نازعه فيه مشاجرة، وشجارا وتشاجروا فيه: تشاحوا. وكل ذلك لتداخل كلام بعضهم في بعض كتداخل الشجر بالتفافه.

وفي الآية دلالة على فساد مذهب المجبرة، لانه إذا وجب الرضى بفعل النبي صلى الله عليه وآله فالرضا بفعل الله تعالى أولى، ولو كان خلق الكفر والمعاصي لوجب على الخلق الرضابه وذلك خلاف الاجماع. وقيل في معنى الحرج قولان:

___________________________________

(1) أراد مارفع من اعضاد المزرعة لتمسك الماء كالجدار. وفي رواية، قال له: " احبس الماء حتى يبلغ الجدى - بضم الميم وتشديد الدال - " وهي المسناة - عن لسان العرب: (جدد) -.

[246]

أحدهما - قال مجاهد هو الشك. وقال الضحاك: الاثم.

وأصل الحرج الضيق فكأنه قال ضيق شك أو اثم وكلاهما يضيق الصدر.

ومعنى الآية أن هؤلاء المنافقين لايؤمنون حتى يحكموا النبي صلى الله عليه وآله فيما وقع بينهم من الاختلاف، ثم لايجدوا حرجا مما قضى به أي لاتضيق صدورهم به، ويسلموا لما يحكم به لايعارضونه بشئ فحينئذ يكونون مؤمنين.

و " تسليما " مصدر مؤكد والمصادر المؤكدة بمنزلة ذكرك للفعل ثانيا كأنك قلت: سلمت تسليما ومن حق التوكيد أن يكون محققا لما تذكره في صدر كلامك، فاذا قلت: ضربت ضربا، فمعناه أحدثت ضربا احقه حقا ولا أشك فيه. ومثله في الآية انهم يسلمون من غير شك يدخلهم فيه.

وقال أبوجعفر (ع): لما حكم النبي صلى الله عليه وآله للزبير على خصمه، لوى شدقه وقال لمن سأله عمن حكم له، فقال: لمن يقضي؟ لابن عمته. فتعجب اليهودي وقال: إنا آمنا بموسى فاذنبنا ذنبا فامرنا الله تعالى بان نقتل أنفسنا، فقتلناها فاجلت عن سبعين ألف قتيل. وهؤلاء يقرون بمحمد صلى الله عليه وآله ويطؤون عقبه ولايرضون بقضيته، فقال ثابت بن الشماس لو أمرني الله أن أقتل نفسي لقتلتها فانزل الله " ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم.. " إلى قوله: " إلا قليل منهم " يعني ابن الشماس ذكره السدي.

قوله تعالى: (ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ولو أنهم فعلوا مايوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا(66))

آية بلاخلاف.

القراء‌ة، والحجة: قرأ ابن عامر وحده " إلا قليلا " بالنصب، وكذلك هو في مصاحف أهل الشام. الباقون بالرفع.

وقيل: إن النصب قراء‌ة أبي، فمن رفع فعلى البدل من

[247]

المضر كأنه قال: مافعله إلا قليل منهم. وهذايجوز في النفي دون الاثبات، لانه لايجوز أن يقول فعله إلا قليل منهم، لان الفعل ليس للقليل في الاثبات كما هو لهم في النفي.

وقال الكسائي: ارتفع بالتكرار.

والمعنى مافعلوه ما فعله إلا قليل.

ومن نصب فانه قال: الاستثناء بعدتمام الكلام، لان قوله: " ما فعلوه " كلام تام كما أن قولك فعل القوم كلام تام. فاستثنى بعده، ولم يجعل ما بعد إلا عليه الاعتماد. والوجه الرفع، لان الفعل لهم. فهو أدل على المعنى.

وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر والكسائي " إن اقتلوا " بضم النون وبضم الواوفي قوله: " أو اخرجوا " وقرأ عاصم وحمزة بكسرهما وكسر النون.

وضم الواو أبوعمرو. فمن ضمهما فلان الثالث مضموم أنبع الضمة.

ومن كسرهما فعلى أصل الحركة لالتقاء الساكنين.

وأبوعمرو ضم الواو تشبيها بواو " اشتروا الضلالة "(1). " ولاتنسوا الفضل بينكم "(2).

المعنى: ومعنى قوله: (ولو أنا كتبنا عليهم) أي لو أنا ألزمناهم وأوجبنا عليهم " أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم " أي لو كتبنا عليهم ذلك - كما أوجبنا على قوم موسى وقتلوا أنفسهم وأخرجهم إلى التيه - مافعله هؤلاء للمشقة التي فيه مع أنه كان ينبغي أن يفعلوه، لمالهم فيه من الحظ، لانا لم نكن لنأمرهم به إلا لما تقضيه الحكمة، وما فيه من المصلحة مع تسهيلنا تكليفهم وتيسيرنا عليهم، فمايقعدهم عنه مع تكامل أسباب الخير فيه وسهولة طريقة؟ ولو فعلوا ما يوعظون به أي ما يؤمرون به، لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا.

وقيل في معناه قولان: أحدهما - ان البصيرة أثبت من اعتقاد الجهالة لما يعتري فيها من الحيرة واضطراب النفس الذي يتميز من حال المعرفة بسكون النفس إليه. الثاني - ان اتباع الحق إثبت منفعة لان الانتفاع بالباطل يضمحل بمايعقب

___________________________________

(1) سورة البقرة: آية 16، 175.

(2) سورة البقرة: آية 237.

[248]

من المضرة وعظيم الحسرة. وفالاول لاجل البصيرة. والثاني لاجل دوام المنفعة.

وقال البلخي معنى الآية أنه لو فرض الله عليهم قتل أنفسهم كما فرض على قوم موسى عندما التمسوا أن يتوب عليهم أو الخروج من ديارهم ما فعلوه. فاذا لم يفرض عليهم ذلك، فليفعلوا ما أمروا به مما هو أسهل عليهم منه، فان ذلك خير لهم وأشد تثبيتا لهم على الايمان. وفي الدعاء اللهم ثبتنا على ملة رسولك. ومعناه اللهم الطف لنا ما نثبت معه على التمسك بطاعة رسولك والمقام على ملته.

قوله تعالى: (وإذا لاتيناهم من لدنا أجرا عظيما(67) ولهديناهم صراطا مستقيما(68))

آيتان بلاخلاف.

قيل: ان " إذا " دخلت ههنا لتدل على معنى الجزاء، كأنه قال ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما جزاء على فعلهم [ ومعنى ] " إذا " جواب وجزاء وهي تقع متقدمة ومتأخرة ومتوسطة وإنما تعمل متقدمة خاصة إلا أن يكون الفعل بعدها للحال نحو إذا أظنك خارجا. وتلغى اذا عن العمل من بين أخواتها لانها تشبه أظن في الاستدراك بها تقول: زيد في الدار أظن فتستدرك بها بعد ما مضى صدر الكلام على اليقين.

وكذلك يقول القائل: أنا أجيئك فتقول: وأنا أكرمك اذن. أردت أن تقول: وأنا أكرمك ثم استدركته باذن. ولدن مبنية ولم تبن عند، لانها أشد إبهاما إذا كانت تقع في الجواب نحو أين زيد، فتقول: عند عمرو، فلايقع لدن هذا الموقع، فجرت لشدة الابهام مجرى الحروف.

ومعنى (لدنا) ههنا من عندنا. وإنما ذكر " من لدنا " تأكيدا للاختصاص، بأنه مالا يقدر عليه إلا الله، لانه قديؤتي بما يجريه على يد غيره. وقد يؤتي بمايختص بفعله. وذلك أشرف له وأعظم في النعمة ولانه متحف بمالايقدر عليه غيره.

وقوله: " ولهديناهم " معناه ولفعلنا من اللطف بهم ما يثبتون معه على الطاعة، ولزوم الاستقامة وإنما لم يفعل بهم هذا اللطف مع الحال التي هم عليها، لانه يخرجهم

[249]

من معنى اللطف حتى يصيروا بمنزلة من لالطف له على وجه. ومثله " اهدنا الصراط المستقيم " أي ثبتنا بلطفك على الصراط المستقيم.

وقال أبوعلي: معناه الاخذبهم على طريق الجنة في الآخرة.

قال: ولايجوز أن يكون المراد بالهداية ههنا الارشاد إلى الدين لانه تعالى وعد بهذا من يكون مؤمنا مطيعا. ولايكون كذلك إلا وقد اهتدى، فان قيل: لم جاز أن يمنعوا اللطف لسوء فعلهم. ولم يجز أن يمنعوا لسوء فعل غيرهم إذ قد صاروا بمنزلة من لالطف لهم؟ قلنا: لانهم يؤتون في معاصيهم من قبل أنفسهم ولايجوز أن يؤتوا فيها من قبل غيرهم ولو جاز ذلك لجاز أن يقتطعوا عن التوبة بالقتل فيكونوا قد أوتوا في معاصيهم من قبل المتقطع لهم وتكون التخلية فيه بمنزلة الاماتة. والواجب في هذا ان يمنع غير هذا المكلف من سوء الفعل الذي فيه ارتفاع اللطف. فان كان لطف هذا المكلف متعلقا بفعل غيره، وقد علم انه لايفعله، لم يحسن تكليف هذا المكلف لانه ان منع هذا من الايمان، فسد، وان ترك وسوء الفعل فسد.

واللام في قوله: " ولهديناهم صراطا مستقيما " لام الجواب التي تقع في جواب (لو) كما تقع في جواب القسم.

كما قال امرؤ القيس:

حلفت لها بالله حلفة فاجر *** لناموا فما ان من حديث ولاصال(1)

والفرق بين لام الجواب ولام الابتداء ان لام الابتداء لاتدخل إلا على الاسم المبتدأ إلا في باب (ان) خاصة فانها تدخل على الفعل لمضارعته الاسم. يبين ذلك قولك: قد علمت ان زيدا ليقوم. وقد علمت ان زيدا ليقومن فتكسر (ان) الاولى وتفتح الثانية.

وقوله: (صراطا) نصب على أنه مفعول ثان، لانه في معنى مفعول كسوته ثوبا، أي فاكتسى ثوبا. فكذلك ولهديناهم فاهتدوا صراطا.

___________________________________

(1) ديوانه: 161 حلفة فاجر: قسم فاسق.

صال: مستدفئ بالنار.

في المطبوعة (حديث) بدل (حديث).

الآية: 70 - 79

قوله تعالى: (ومن يطع الله والرسول فاولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا(69) ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما(70))

آيتان.

المعنى واللغة والنزول: لما جرى ذكر الطاعة فيماتقدم والحض عليها اقتضى ذكر طاعة الله، وطاعة الرسول، والوعد عليها.

وقيل: إنه وعدبامر مخصوص على الطاعة من مرافقة النبيين ومن ذكر معهم وهوأعم فائدة.

ومعنى قوله: (فاولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين " انه يستمتع برؤية النبيين وزيارتهم، والحضور معهم. فلا ينبغي أن يتوهم من أجل أنهم في أعلى عليين انه لايراهم.

وقال الحسن، وسعيد بن جبير، ومسروق، وقتادة، والربيع، والسدي، وعامر: إن سبب نزول هذه الآية ان بعض الناس توهم ذلك، فخزن له، وسأل النبي صلى الله عليه وآله عن ذلك، فانزل الله الآية.

وقيل في معنى الصديق قولان: أحدهما - المداوم على مايوجبه التصديق بالحق. الثاني - ان الصديق هوالمتصدق بما يخلص له من عمل البر. والاول أظهر.

والشهداء جمع شهيد. وهو المقتول في سبيل الله. وفي تسميته شهيدا قولان: أحدهما - لانه قام بشهادة الحق حتى قتل في سبيل الله. والآخر - انه من شهداء الآخرة بما ختم له من القتل في سبيل الله. وليست الشهادة هي القتل، لانها معصية، ولكنها حال المقتول في اخلاص القيام بالحق لله مقرا به، وداعيا إليه.

وقيل: الشهادة هي الصبر على ما أمره الله به من قتال عدوه والانقياد له. فاما الصبر على الالم بترك الانين فليس بممنوع، بل هو مباح إذا لم يقل ما يكرهه الله.

وقال الجبائي: الشهداء جمع شهيد. وهم الذين جعلهم الله شهداء في الآخرة. فهم عدول الآخرة. وهذا على مذهبه بعيد، لان أهل الجنة

[251]

كلهم عدول عنده، لان من ليس بعدل لايدخل الجنة. والله تعالى وعدمن يطيعه ويطيع رسوله بأنه يحشره مع هؤلاء. فينبغي أن يكونوا غير الموعود لهم. وإلا يصير تقديره إنهم مع نفوسهم.

والصالح: من استقامت نفسه بحسن عمله. والمصلح المقوم لعمل يحسنه.

ويقال: الله يصلح في تدبير عباده. بمعنى أنه يحسن تدبير عباده. ولايوصف بانه صالح.

الاعراب وقوله: (وحسن أولئك رفيقا) نصب على التميز. ولذلك لايجمع. وهو في موضع رفقاء وقيل إنه لم يجمع، لان المعنى، حسن كل واحد منهم رفيقا كماقال: " يخرجكم طفلا "(1) وقال الشاعر:

نصبن الهوى ثم ارتمين قلوبنا *** باسهم أعداء وهن صديق(2)

ومن قال: " رفيقا " نصب على التمييز، قال: لانه قد سمع حسن أولئك من رفقاء، وكرم زيد من رجل.

وقال قوم: هونصب على الحال، فانه قد تدخل (من) في مثله. فاذا سقطت (من) فالحال هو الاختيار، لانه من أسماء الصفات كاسماء الاجناس. ويكون التوحيد لما دخله من معنى حسن كل واحد منهم مرافقا. ونظيره: لله درهم فارسا، أي حال الفروسية.

اللغة: والرفيق: مشتق من الرفق في العمل. وهو الارتفاق فيه. ومنه الترفق في

___________________________________

(1) سورة الحج: آية 5، وسورة المؤمن: آية 68.

(2) قائله جرير. ديوانه 2: 20 الطبعة الاولى.

المطبعة العلمية بمصر وروايته (دعون) بدل (نصبن) وفي المطبوعة (باعين) بدل (بأسهم) وأثبتناها كما في جميع المصادر طبقات فحول الشعراء: 351، واللسان (صدق) والعقد الفريد 7: 48 وروايتة (بعثن) بدل (نصبن) وما بعده.

وما ذقت طعم العيش منذنأيتم *** وماساغ لي بين الجوانح ريق

[252]

السير، ونحوه. ومنه المرافقة. والمرفق من اليد - بكسر الميم - لانه يرتفق به.

ويقال أيضا في العمل نحو قوله: " ويهيئ لكم من أمركم مرفقا "(1) أي رفقا يصلح به أمركم.

والمرفق: بفتح الميم - من مرافق الدار.

والرفقة: الجماعة في السفر، لارتفاق بعضهم ببعض.

وقوله: " ذلك الفضل " اشارة إلى الثواب بالكون مع النبيين، والصديقين. والتقدير ذلك هو الفضل من الله. وهو وإن كان مستحقا، فلم يخرج من أن يكون تفضلا، لان سببه الذي هو التكليف، تفضل.

والفضل: هوالزائد على المقدار إلا أنه قد كثر على ما زاد من الانتفاع. وكل ما يفعله تعالى فهو فضل، وتفضل، وافضال، لانه زائد على مقدار الاستحقاق الذي يجري على طريق المساواة.

وقوله: " وكفى بالله عليما " انما ذكر، ليعلم انه لايضيع عنده شئ من جزاء الاعمال. من حيث كان تعالى: عالما به، وبما يستحق عليه. وتقديره، وكفى بالله عليما بكنه الجزاء على حقه، وتوفير الحظ فيه. ودخلت الباء في اسم الله زائدة للتوكيد.

والمعنى كفى الله ووجه التأكيدأن اتصال الاسم بالفعل من جهة بنائه عليه وجه من وجوه الاتصال واتصاله بالباء‌وجه آخرمن وجوه الاتصال، فاذا اجتمعا كان أوكد. ووجه آخر هو أن معناه اكتفى العباد بالله. ووجه ثالث وهو أنه توطئة لباب سير بزيد وأكرم بزيد من جهة أن موضعه رفع، وفيه حرف من حروف الجر. والكفاية مقدار مقاوم للحاجة. ولايخلو المقدار من أن يكون فاضلا أو مقصرا أو كافيا، فهذه الاقسام الثلاثة متقابلة.

قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا(71))

آية.

المعنى واللغة: هذا خطاب للمؤمنين الذين صدقوا بالله، وبرسوله. ومعناه أيقنوا بالله،

___________________________________

(1) سورة الكهف: آية 16.

[253]

ورسوله. أمرهم الله أن يأخذوا حذرهم.

وقيل في معناه: قولان: أحدهما - قال أبوجعفر (ع) وغيره: خذوا سلاحكم، فسمي السلاح حذرا لان به يقى الحذر. الثاني - احذروا عدوكم باخذ السلاح، كما يقال للانسان خذ حذرك. بمعنى احذر. والحذر والحذر لغتان. مثل الاذن والاذن. والمثل المثل.

ثم أمرهم بان ينفروا.

والنفور: الفزع نفر ينفر نفورا: إذا فزع.

ونفر إليه: إذا فزع من أمر إليه.

والمعنى انفروا إلى قتال عدوكم. ومنه النفر: جماعة تفزع إلى مثلها. والنفير إلى قتال العدو.

ونفر الحاج يوم الثاني والثالث من التشريق، لانهم يفزعون إلى الاجتماع للرجوع إلى الاوطان.

والمنافرة: المحاكمة للفزع إليها فيما يختلف فيه وقيل: إنما كانت، لانهم يسألون الحاكم أينا أعز نفرا.

ونفره تنفيرا. ونافره منافرة.

وتنافروا تنافرا. واستنفره استنفارا.

وقوله: " ثبات " قال ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، وقتادة، والسدي: إن معناه انفروا فرقة بعد فرقة، أو فرقة في جهة وفرقة في جهة.

أوانفروا جميعا من غير تفرق بالاوقات، والجهات.

والثبات جمع ثبة وهي جماعات في تفرقة أي يأتون متفرقين.

وقال أبوجعفر: الثبات: السرايا والجميع العسكر.

قال أبوذؤيب:

فلما اجتلاها بالايام تحيرت *** ثبات عليها ذلها واكتئابها(1)

يصف العاسل، وتدخينه على النحل.

والايام - بكسر الهمزة على وزن لجام - الدخان ويجمع ثبة على ثبتين، أيضا.

قال زهير:

وقد اغدوا على ثبة كرام نشاوى واجدين لما نشاء(2)

وانما جاز أن يجع ثبة ثبون - وان كان هذا الجمع يختص ما يعقل - للعوض من النقص الذي لحقه، لان أصله ثبوة. ومثله عضين وسنين وعرين. فان صغرت

___________________________________

(1) - اللسان (جلا). البيت لابي ذؤيب يصف النحل والعاسل. وفي رواية (اجتلاها) بدن جلاها. يعني جلا العاسل النحل عن مواضعها بالايام وهوالدخان.

(2) - ديوانه: 72. مجاز القرآن لابي عبيدة: 132 واللسان: (ثبا)، (نشو).

[254]

قلت ثبيات(1) وسنيات، لان النقص قد زال.

وقيل: ان الثبة عصبة منفردة من (عصب). وتقول ثبيت على الرجل اثبي تثبية: إذا ثنيت عليه. وذكرت محاسنه في حال حياته. وتصغيرثبة ثبية. فاما ثبة الحوض، فهي وسطه. الذي يثوب إليه الماء. وهي من ثاب يثوب، لان تصغيرها ثويبة. [ وقوله: " أو انفروا جميعا " وقد مضى معناه ](2).




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21336929

  • التاريخ : 29/03/2024 - 01:40

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net