00989338131045
 
 
 
 
 
 

  سورة البقرة ( من آية 239 ـ 259) 

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : التبيان في تفسير القرآن (الجزء الثاني)   ||   تأليف : شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي

قوله تعالى: فان خفتم فرجالا أو ركبانا فاذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لمن تكونوا تعلمون(239)

آية.

[277]

اللغة: معنى قوله: " فرجالا " أي على أرجلكم، لان الراجل: هو الكائن على رجله واقفا كان، أو ماشيا.

وأحد الرجال: راجل وجمعه رجال، مثل تاجر وتجار، وصاحب، وصحاب، وقائم، وقيام.

وواحد الركبان: راكب، وجمعه ركبان، وركاب، كفارس، وفرسان.

وتقول: ركب يركب ركوبا، وأركبه إركابا، وارتكب ارتكابا، وتراكب الشئ تراكبا، وتركب تركيبا، وركبة تركيبا، واستركب استركابا وكل شئ علا شيئا، فقد ركبه.

وركبه الدين، ونحوه.

والركبة معروفة، لروب البدن لها.

وركبة البعير في يده.

والركاب: المطي.

وركاب السرج، لانه يركب.

والركبان: أصلا الفخذين الذنى عليهما لحم الفرج لركوبه إياهما.

وفرس أركب، والانثى ركبى: إذا عظمت ركبتيهما وهو عيب.

وأركب المهر: إذا أمكن أن يركب.

ورجل مركب: الذي يغزوا على فرس غيره.

والراكبة: فسيلة تتعلق بالنخلة لا تبلغ الارض.

وركبت الرجل أركبه ركبا: إذا ضربته بركبتك.

والركوب: كل دابة تركب، ومنه قوله: " فمنها ركوبهم "(1) وأصل الباب الركوب: العلو على الشئ.

المعنى: والعامل في قوله: " فرجالا " محذوف، وتقديره: فصلوا رجالا أو ركبانا.

وصلاة الخوف من العدو: ركعتان كيف توجه إنما يجعل السجود أخفض من الركوع - في قول ابراهيم، والضحاك - فان لم يستطع، فليكن بتكبيرتين.

وروي أن عليا (ع) صلى ليلة الهرير خمس صلوات بالايماء وقيل بالتكبير.

وإن النبي صلى الله عليه وآله صلى يوم الاحزاب إيماء.

وروي أنه قضاها بعد أن فاتت بالليل.

وقال ابن عباس والحسن: يجوز في صلاة الخوف ركعة واحدة.

وقال الحسن، وقتادة، وابن زيد: يجوز أن يصلي الخائف ماشيا.

وقال أهل العراق: لايصلي ماشيا، لان المشي عمل.

___________________________________

(1) سورة يس آية: 72.

[278]

والذي نقوله: إن الخائف إن صلى منفردا صلاة شدة الخوف صلى ركعتين يومئ إيماء، ويكون سجوده أخفض من ركوعه، وإن لم يتمكن كبر عن كل ركعة تكبيرة، وهكذا صلاة شدة الخوف إذا صلوها جماعة، وإن صلوا جماعة غير صلاة شدة الخوف، فقد بينا الخلاف فيه وكيفية فعلها في خلاف الفقهاء.

والذكر في الاية قيل في معناه قولان: أحدهما - أنه الصلاة، أي فصلوا صلاة الامن كما علمكم الله، هذا قول الحسن، وابن زيد. الثاني - اذكروه بالثناء عليه، والحمدله كما علمكم ما لم تعلموا من أمر دينكم، وغير ذلك من أموركم. والاولى حمل الاية على عمومها في الامرين.

الآية: 240 - 249

قوله تعالى: والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لازواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج فان خرجن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن من معروف والله عزيز حكيم(240)

آية واحدة بلا خلاف.

قرأ نافع، وابن كثير، والكسائي، وأبوبكر عن عاصم " وصية " بالرفع. الباقون بالنصب.

المعنى: هذه الاية منسوخة الحكم بالاية المتقدمة، وهي قوله: " والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا " بلا خلاف في نسخ العدة إلا أبا حذيفة، فانه قال: العدة أربعة أشهر وعشرا، وما زاد إلى الحول يثبت بالوصية والنفقة، فان امتع الورثة من ذلك كان لها أن تتصرف في نفسها، فأما حكم الوصية، فعندنا باق لم ينسخ وإن كان على وجه الاستجاب.

[279]

وحكي عن ابن عباس، والحسن، وقتادة، ومجاهد: أنها منسوخة بآية الميراث، وقد بينا فساد قولهم: لاوصية لوارث. فأما آية الميراث، فلاتنا في الوصية، فلا يجوز أن تكون ناسخة لها، وقد مضى الكلام في خبر الذين(1) في الاية المتدمة، فلا وجه لاعادته.

المعنى، والاعراب: ومن نصب " وصية " فانه يحتمل قوله: " وصية " أمرين: أحدهما - فليوصوا وصيه لازواجهم، فينب على المصدر. الثاني - كتب الله عليهم وصية لازواجهم، فينصب على أنه مفعول به.

والمصدر النصوب يدل على فعل الامر المأخوذ منه، أما دلالته على فعله، فلانه مشتق منه، وأما دلالة نصبه على الامر منه، فلغلبة الباب في الامر، فأما دلالته على كتب، فلان ما أمر الله به، فقد كتبه.

والنصب يدل على الامر به.

والرفع يحتمل ثلاثة أوجه: أحدها - فعليهم وصية لازواجهم.

الثاني - فلازواجهم وصية كما تقول: لزيد مال.

والثالث - كتب عليهم وصية لازواجهم.

وقال بعضهم: لايجوز غير الرفع، لانه، لايمكن الوصية بعد الوفاة، لان الفرض كان لهن أوصى أو لم يوص.

وقال الرماني: وهذا غلط، لان المعنى والذين يحضرهم الوفاة منكم، فلذلك قال: " يتوفون منكم " على لفظ الحاضر الذي يتطاول على نحو قولك: الذين يصلون، فليعرضوا عن الذكر فيما يشغلهم.

فأما قوله: الفرض كان لهم، فان لم يوصوا فقال قتادة والسدي: إنما كان لهن بالوصية على أنه لو كان على ما زعم، لم ينكر أن يوجبه الله على الورثة إن فرط الزوج في الوصية.

وقوله: " متاعا إلى الحول " نصب، والعامل فيه أحد أمرين: أحدهما - جعل الله لهن ذلك متاعا، لان ما قبله دل عليه. والثاني - متعوهن متاعا.

وقوله غير إخراج نصب بأحد الشيئين: أحدهما - بأن يكون صفة لمتاع. والثاني - أن يكون مصدرا كأنه قيل: لاإخراجا.

___________________________________

(1) في تفسير آية: 234 وفي المطبوعة (جر الدين) وهو تصحيف.

[280]

قال الفراء: هو كقولك: جئتك عن رغبة اليك فكأنه قال: متعوهن مقاما في مساكنهن، فيكون مصدرا وقع موقع الحال. ويجوز أن يكون بمعنى الاقامة في مساكنهن.

وقال الحسن، والسدي: قوله: " فان خرجن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف " دليل على سقوط النفقة، والسكنى بالخروج، لانه إنما جعل لهن ذلك بالاقامة إلى الحول، فان خرجن قبله بطل الحق الذي وجب بالاقامة. وإنما يحتاج إلى هذا التخريج من يوجب النفقة للمتعدة عن الوفاة.

فأما من قال: لا نفقة لها، ولا سكنى، فلا يحتاج إلى ذلك، وهو مذهبنا، لان المتوفى عنها زوجها لانفقة لها، وإذا قلنا القرآن لا ينسخ بالسنة، قلنا: النفقة هاهنا على وجه الاستحباب أو أنها تثبت بالوصية، لانا بينا أن الوصية غير منسوخة.

قوله تعالى: وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين(241)

آية بلا خلاف.

المعنى: قال سعيد بن المسيب الاية منسوخة بقوله: " فنصف ما فرضتم " وعندنا أنها مخصوصة بتلك إن نزلا معا. وإن كانت تلك متأخرة فالامر على ما قال سعيد ابن المسيب: إنها منسوخة، لان عندنا لا تجب المتعة إلا للتي لم يدخل بها ولم يسم لها مهر. وإن سمي لها مهر، فلما ما سمي وإن لم يدخل بها فان فرض لها مهرا كان لها نصف مهرها، ولا متعة لها في الحالين، فلابد من تخصيص هذه الاية.

وقال سعيد ابن جبير وأبوالعالية والزهري: المتعة واجبة لكل مطلقة، وبه قال أبوحنيفة.

وقال الحسن: هي للمطلقة التي لم يدخل بها ولم يفرض لها صداق ما قلناه.

قال عطا، ومجاهد: هي للمدخول بها، وحكى أبوعلي: للمطلقة البائنة. وإنما كرر ذكر المتعة هاهنا وقد تقدم ذكرها قبل هذه الاية، لانه ذكر في غيرها خاصا وذكر فيها عاما فدخل فيه الامة، وغيرها، والمتعة في الموضع الذي يجب

[281]

على قدر الرجل بظاهر الاية، لانه قال: " وعلى الموسع قدره ": مثلها وإن كان فوق قدره حكاه البلخي.

وقوله: " بالمعروف " معناه بالمعروف صحته، لانه عدل بين الافراط، والتقصير.

وقال الضحاك: على قدر الميسرة، وإنما خص المتاع بالمتقين وإن كان واجبا على الفاسقين، تشريفا لهم بالذكر اختصاصا، وجعل غيرهم على وجه التبع، كما قال: " هدى للمتقين "(1) وقيل: لانه أخرج الكلام مخرج من لايعتد بغيرهم لاحتقارهم، وجلالة المتقين بالتقوى، ولانه اذا وجب على المتقين، فهو واجب على جميع المتعبدين، لان التقوى واجب على المكلفين، وهذا إنما يدل على أنه واجب بشريطة التقوى. فأما إذا وجب على التقي والفاجر، فالجواب هو الاول.

الاعراب: وقوله: " حقا على المتقين " نصب على المصدر، وقع موقع الحال، والعامل فيه " بالمعروف " كأنه قيل: عرف حقا، ويجوز أن يكون العامل فيه الظرف. ويجوز أن يعمل فيه معنى الجملة، كأنه قيل: أحق ذلك حقا وكان يجوز أن يرفع على أنه صفة لمتاع.

المعنى: والمتاع: النفقة مقدار ما تقيم في العدة على قول الجبائي: وعلى ما قلناه قدر ما يوصي به لها بالمعروف الذي لا يضر بباقي الورثة.

قوله تعالى: كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون(242)

آية.

التشبيه بقوله: " كذلك يبين الله " وقع على البيان الذى تقدم في الاحكام والحجاج والمواعظ والاداب وغير ذلك مما يحتاج الناس إلى عمله، والعمل عليه في

___________________________________

(1) سورة البقرة آية: 2.

[282]

أمر دينهم ودنياهم شبه البيان الذي يأتي بالبيان الماضي، والبيان: هو الادلة التي يفرق بها بين الحق، والباطل. وعبر عنه بأنه فعل يظهر به أمر على طريقة حسنة، وليس كلما يظهر به غيره ما لايأتيه. وقد يكون ذلك بكلام فاسد يفهم به المراد، فلا يستحق صفة بيان. والاية هي العلامة فيما كان من الامور العظيمة، لان في الاية تفخيما ليس في العلامة.

وقوله: " لعلكم تعقلون " معناه: لكي تعقلوا آيات الله بالبيان عنها. والعقل مجموع علوم ضرورية يميز بها بين القبيح، والحسن، ويمكن معها الاستدلال بالشاهد على الغائب.

قوله تعالى: ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون(243)

آية واحدة بلا خلاف.

المعنى: معنى " ألم تر " ألم تعلم، لان الرؤية مشتركة بين العلم - وهي رؤية القلب - وبين رؤية القلب.

وقيل في معنى قوله: " وهم ألوف " قولان: أحدهما - أن معناه: الكثرة، فكأنه: وهم أكثر الناس، ذهب إليه ابن عباس، والضحاك، والحسن.

وقال ابن زيد: معناه هم مؤتلفوا القلوب، لم يخرجوا عن بتاعض.

ومن قال: المرادبه العدد الكثير، اختلفوا، فقال ابن عباس: كانوا أربعين الفا.

وقال قوم: أربعة آلاف.

وقال آخرون: ثمانية آلاف.

وقال السدي: بضعة وثلاثون ألفا.

والذي يقضي به الظاهر: أنهم أكثر من عشرة آلاف، لان بناء (فعول) للكثير، وهو مازادا على العشرة.

فأما ما نقص، فيقال فيه: آلاف على وزن (أفعال) نحو عشرة آلاف ولايقال: عشرة ألوف.

[283]

وقال الحسن، وأكثر المفسرين: كانوا فروا من الطاعون الذي وقع بأرضهم.

وقال الضحاك: فروا من الجهاد.

ومعنى الاية: الحض على الجهاد، بأنه لاينفع - من الموت - فرار، ومن أمر الله، لانه يجوز أن يعجله على جهة العقاب، كما علجه لهؤلاء، للاعتبار.

وفي الاية دليل على من أنكر عذاب القبر والرجعة معا، لان الاحياء في القبر، وفي الرجعة مثل إحياء هؤلاء الذين أحياهم للعبرة.

وقوله: " فقال لهم الله موتوا " قيل في معناه قولان: أحدهما - أن معناه اماتهم الله، كما يقال: قالت السماء، فهطلت، وقلت برأسى كذا وقلت بيدي، وذلك لما كان القول في الاكثر استفتاحا للفعل، كالقول الذي هو تسمية، وما جرى مجراها مما كان يستفتح به الفعل، صار معنى قالت السماء، فهطلت أي استفحت الهطلان، وصار بمنزلة استفتاح الافعال فلذلك صارت أماتتهم بمنزلة استفتاح الافعال. الثاني - أن يكون أحياهم عند قول سمعته الملائكة بضرب من العبرة. ويجوز - عندنا - أن يكونوا أحيوا في غير زمان نبي.

وقالت المعتزلة: لايجوز أن يكون ذلك إلا في زمان نبي، لان المعجزة لايجوز ظهورها إلا للدلالة على صدق نبي، تكون له آية. وقد بينا فساد ذلك في غير موضع، وأنه تجوز المعجزات على دين من الصادقين: من الائمة، والاولياء وإن لم يكونوا أنبياء.

وروي عن ابن عباس: أنه مربهم نبي، فدعا الله تعالى، فأحياهم.

وقوله: " إن الله لذو فضل الله على الناس " إنما ذكر، واتصل بما تقدم، لانه لما ذكر النعمة عليهم بما آتاهم من الاية العظيمة في أنفسهم ليلزموا سبيل الهدى، ويتجنبوا طرق الردى ذكر عند ذلك ماله على الناس من الانعام مع ماهم من الكفران.

قوله تعالى: وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم(244)

آية بلا خلاف.

[284]

المعنى: قيل فيمن يتوجه إليه هذا الخطاب قولان: أحدهما - أنه متوجه إلى الصحابة بعد ماذكرهم بحال من فر من الموت، فلم ينفعه الفرار، حضهم على الجهاد، لئلا يسلكوا سبيلهم في الفرار من الجهاد، كما فر أولئك من الديار. الثاني - الخطاب للذين جرى ذكرهم على تقدير، وقيل لهم: قاتلوا في سبيل الله. والقول الاول أظهر، لان الكلام على وجهه، لامحذوف فيه.

وقوله: " واعلموا أن الله سميع عليم " معنه هاهنا: أنه " سميع " لما يقوله المنافق " عليم " بما يحبه المنافق، فاحذروا حاله.

وقيل: " سميع " لما يقوله المتعلل " عليم " بما يضمر، فاياكم والتعلل بالباطل.

وقيل: " سميع " لقولكم إن قلتم كقول من قبلكم " عليم " بضمائركم.

وسبيل الله الذي أمر بالقتال فيها: قتل في دين الله، لا عزازه، والنصر له، وقتل في طاعة الله، وقتل في جهاد أعداء المؤمنين.

اللغة: والقتل: نقض البنية التي تحتاج إليها الحياة.

والقتال: هو تعرض كل واحد منهما للقتل.

والفرق بين سميع وسامع: أن سامعا يقتضي وجوه السمع، وسميع لا يدل عليه، وإنما معناه: أنه من كان على صفة لاجلها يسمع المسموعات اذا وجدت ولذلك يوصف تعالى فيما لم يزل بأنه سميع، ولا يوصف بأنه سامع إلا بعد وجود المسموعات.

قوله تعالى: من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون(245)

آية واحدة بلا خلاف.

[285]

القراء‌ة: قرأ أبوعمرو، ونافع، وحمزة، والكسائي " فيضاعفه " بالرفع.

وقرأ عاصم بلالف، والنصب.

وقرأ ابن كثير " فيضعفه " بالتشديد، والرفع.

وقرأ ابن عامر بالتشديد والنصب.

المعنى، واللغة: والقرض الذي دعا الله إليه قال ابن زيد هو الجهاد، وقال في البر من النفل.

والقرض: هو قطع جزء من المال بالاعطاء على أن يرد بدل منه.

وقوله: " يقرض الله " مجاز(1) في اللغة لان حقيقته أن يستعمل في الحاجة، وفى هذا الموضع يستحيل ذلك، فلذلك كان مجازا، وقديستعمل القرض في غير الحاجة قال أمية بن أبي الصلت:

لا تخلطن خبيثات بطيبة *** واخلع ثيابك منها وانح عريانا

كل امرئ سوف يجزى قرضه حسنا *** أو سيئا ومدينا كالذي دانا(2)

فهذا يبين أن القرض من غير عوز، وقال آخر:

وإذا جوزيت قرضا فاجزه *** إنما ليس الفتى غير الحمل(3)

والقرض القطع بالناب.

قرض يقرض قرضا: إذا قطع الشئ بنابه، وقرض تقريضا، وتقرض تقرضا، واقترض المال اقتراضا.

والقرض ما أعطيته لتكافاه، أويرد بعينه.

واقترض اقتراضا، واستقرض استقراضا، وتقارضا الثناء: إذا أثنى كل واحد منهما على صاحبه، وكذلك قارضه الثناء.

وانقرضوا انقراضا: إذا هلكوا.

والدنيا قروض: أي يتقارضا الناس من بينهم بالمكافاة.

___________________________________

(1) في المطبوعة (محله) وهو تحريف.

(2) اللسان (قرض) ذكر البيت الثاني فقط وروايته (أو مدينا مثل ما دانا) بدل (ومدينا...).

(3) قائله لبيد. اللسان (قرض) ورويته (انما يجزى الفتي ليس الجمل).

[286]

وفرض الشئ يقرضه قرضا.

والشعر قريض.

ومنه قوله: " تقرضهم ذات الشمال "(1) أي تقطعهم بمرورها عليهم والمقراض: الجلم الصغير، وقراضات الثوب ما ينفيه الجلم.

الاعراب، واللغة: وقوله: " فيضاعفه " من رفع عطفه على قوله: " يقرض " ومن نصب، فعلى جواب الاستفهام بالفاء. والاختيار الرفع لان فيه معنى الجزاء، وجواب الجزاء بالفاء لايكون إلا رفعا " ويضاعفه " أكثر في الاستعمال، وإنما شدد أبو عمرو " يضعف لها العذاب ضعفين "(2) ولم يشدد " فيضاعفه " لان المضاعفة عنده لما لا يحد.

والتضعيف للمحدود، وتقول: ضعفت القوم أضعفهم ضعفا: إذا كثرتهم، فصرت مع أصحابك على الضعف منهم، وضعف الشئ: مثلاه في المقدار.

وأضعفت الشئ إضعافا، وضعفته تضعيفا، وضاعفته مضاعفة، وهو الزيادة على أصل الشئ حتى يصير مثلين أو أكثر.

وتضاعف الشئ تضاعفا وضعف ضعفا.

والضعف خلاف القوة، لانه قطع القوة عن التمام.

وضعف الشئ مثله في المقدار إذا زيد عليه، فكل واحد منهما ضعف.

والتضعيف: تكرير الخوف، واستضعفت الرجل استضعافا، وأصل الباب الضعف. وهو زيادة المثل.

وقوله: " والله يقبض ويبسط " قال الحسن، وابن زيد في الرزق، وحكى الزجاج: أنه يقبض الصدقات ويبسط الجزاء عليها عاجلا، وآجلا عليها. والقبض خلاف البسط والقبض ضم الكف على الشئ قبضه قبضا وتقبض عنه تقبضا: إذا اشمأزمنه: لانه ضم نفسه عن الانبساط إليه.

وانقبض انقباضا، وقبضت الرجل تقبيضا: إذا أعطيته لانضمام كفه على ما أخذه.

ورجل قبيض: إذا كان منكمشا سريعا لتجمعه للاسراع.

وراع قبضة: إذا كان لايتفسح في رعيه، لانقباضه.

والتقبض: التشنج.

وقبض الانسان: إذا مات.

والملك قابض الارواح.

والبسط خلاف القبض تقول: بسط يبسط بسطا، وانبسط انبساطا، وبسطه تبسيطا، وتبسط تبسطا.

والبساط - بكسر الباء - ما بسطته.

والبساط - بفتح الباء - الارض الواسعة، وناقة بسط: معها ولدها لا نبساطه.

والبسطة: الفضيلة في

___________________________________

(1) سورة الكهف آية: 17.

(2) سورة الاحزاب آية: 30.

[287]

الجسم أو المال، ونحو ذلك " وزاده بسطة في العلم، والجسم "(1) وكتب " بصطة " بالصاد، وبسطة بالسين، لان القلب على الساكن أقوى منه على المتحرك.

المعنى: ومعنى " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا " التلطف في الاستدعاء إلى أعمال البر والانفاق في سبيل الخير.

وجهلت اليهود لما نزلت هذه الاية، فقالوا ألله يستقرض منا فنحن أغنياء وهو فقير الينا ! فأنزل الله تعالى " لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء "(2) ذكره الحسن والهاء في قوله: " وإليه ترجعون " عائدة إلى الله.

ومعناه إلى الله ترجعون في الاخرة.

وقيل إلى التراب الذي خلقكم منه ذكره قتادة.

قوله تعالى: ألم تر إلى الملاء من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالو لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين(246)

آية واحدة بلا خلاف.

القراء‌ة: قرأ نافع عسيتم بكسر السين.

الباقون بفتحها.

اللغة: الملا: الجماعة: الاشراف من الناس وروي أن رجلا من الانصار قال يوم

___________________________________

(1) سورة البقرة آية: 247.

(2) سورة آل عمران: 181.

[288]

بدر: إن قتلنا الاعجاز صلعا(1)، فقال النبي صلى الله عليه وآله: أولئك الملا من قريش لو رأيتهم في أنديتهم لهتهم، ولو أمروك لاطعتهم، ولا حتقرت فعالك عند فعالهم. وتقول ملات الا ناء أملاه ملاء إذا أترعته، لانه يجتمع فيه ما لا يكون معه مزيد عليه، وامتلا امتلاء: إذا طفح، ومالات الرجل: إذا عاونته ممالاة.

وتمالؤوا علي: إذا تعاونوا.

وملوء الرجل ملاء‌ة، فهو ملئ بالامر: إذا أمكنه القيام به.

ووعاء ملان والانثى ملاى، والجمع: ملاء.

والملا: الجماعة من الناس يستجمعون للمشاورة.

والجميع الاملاء قال الشاعر:

وقالت لنا الاملاء من كل معشر *** وخير أقاويل الرجال سديدها

والاملاء: الريطة وأصل الباب الاملاء، وهو الاجتماع فيما لايحتمل المزيد، ومنه شاب مالئ العين أي قد اجتمع له من الحسن في العين ما ليس عليه مزيد.

والملا: الخلق، لان جميع أفعال صاحبه تجرى عليه.

المعنى: وقال السدي: إن النبي الذي قالت له بنوا إسرائيل ما حكاه يقال: شمعون سمته أمه بذلك لان الله سمع دعاء‌ها فيه.

وقال قتادة: هو يوشع بن نون.

وقال وهب بن منية: هو شمويل، وهو المروي عن أبي جعفر (ع).

وكان سبب سؤالهم هذا استذلال الجبابرة لهم من الملوك الذين كانوا في زمانهم إياهم على قول وهب، والربيع.

وقال السدي: قتال العمالقة.

وإنما سألوا ملكا، ليكون آمرا عليهم تنتظم به كلمتهم، وتجتمع أمورهم، ويستقيم حالهم في جهاد عدوهم.

الاعراب، واللغة: وأكثر النحويين على الجزم في " نقاتل " مع النون، وقالوا: لا يجوز غير الجزم.

___________________________________

(1) هكذا في المطبوعة، وفي مجمع البيان " ان قتلنا عجايز صلعا ".

ورواه لسان العرب في (صلع)، وقال: وفى حديث بدر ما قتلنا الا عجائز صلعا: أي مشايخ صلعا وفي (ملا) قال: ويروى أن النبي صلى الله عليه وآله سمع رجلا من الانصار - وقد رجعوا من غزوة بدر - يقول: ما قتلنا الا عجائز صلعا، فقال صلى الله عليه وآله: أولئك الملا من قريش لو حضرت فعالهم لا حتقرت فعلك.

[289]

وأجاز الزجاج الرفع على ضعف فيه على تقرير: فانا نقاتل في سبيل الله. ولو كان بالتاء لجاز الرفع على أن يكون صفة للملك. والجزم على الجواب، كما قال " فهب لي من لدنك وليا يرثني "(1) بالجزم، والرفع.

ولو كان (نقاتل معه) لحسن الرفع أيضا لعائد الذكر، ولا يجوز أن تقول: الذي مررت زيد، تريد: به.

ودخلت (أن) في قوله: " مالنا ألا نقاتل في سبيل الله "، وأسقطت في قوله: " وما لكم لا تؤمنون بالله "(2) لاحد ثلاثة أشياء: أولها - دخلت (أن) لتدل أن فيه معنى: ما منعنا من أن نقاتل، كما دخلت الباء في خبر هل لما تضمنت معنى ما قال الفرزدق يهجو جريرا، ويذكر أن أباه كان ينكح اتانا(3).

يقول إذا اقلولى عليها وأقرددت *** ألاهل أخو عيش لذيذ بدائم(4)

معنى اقولى: علاها، ومعنى أقرددت: ذلت.

وأما سقوطها في الموضع الاخر، فعلى الاصل كأنه قيل: ما لنا غير مقاتلين، كما قال: " فما لهم عن التذكرة معرضين "(5) هذا قول الفراء.

الثاني - أن تكون (أن) زائدة في قول الاخفش، وهو ضعيف، لانه لايجوز الحمل على الزيادة لا لضررورة.

الثالث - على حذف الواو كأنه قال: وما لنا ولان نقاتل، كما قالوا: إياك أن تتكلم بمعنى إياك وأن تتكلم.

قال الرماني: وهذا ليس بالوجه، لانه لا يحكم أحد بالحذف، ولا بالزيادة إلا عند الضرورة قال الشاعر:

فبح بالسرائر في أهلها *** وأياك في غيرهم أن تبوحا(6)

فالاية مستغنية عن الواو مثل البيت سواء قال الشاعر: فاياك المحاين أن تحينا

___________________________________

(1) سورة مريم آية: 4.

(2) سورة الحديد آية: 8.

(3) في المطبوعة " اناثا " بدل " اتانا ".

(4) ديوان جرير 2: 128. واللسان " قرد " ورواية الديوان " ليس ذو " بدل " هل أخو " ورواية اللسان " تقول " بدل " يقول ".

(5) سورة المدثر آية: 49.

(6) معاني القرآن للفراء 1: 165

[290]

فانما هو على احذر المحاين لا على إضمار (أن).

قال المبرد في (ما) وجه آخر، وهو أن يكون جحدا، ويكون تقديره: مالنا ترك القتال.

وعلى الوجه الاول (ما) استفهام، وإنما جاز، مالك أن تقوم، ولم يجز مالك أن قمت، لان المنع إنما يكون على الاستئناف، تقول: منعه أن يقوم، ولايجوز أن يقوم منعه أن قام، كذا قال الفراء في الكلام حذف، وتقديره: " وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبناء‌نا " فسأل، فبعث، فوجب عليهم القتال " فلما كتب " " تولوا "، وإنما وجب أن يكون محذوفا، لان الكلام لايدل عليه إلا من جهة الذكر له أو الحذف منه، فأما ما يدل عليه الكلام من غير جهة الذكر له، أو الحذف منه، فليس بمحذوف نحو قد عرف زيد، فانه يدل على أنه عرفه عارف، وليس بمحذوف، لانه لم يدل عليه من جهة الذكر له ولا الحذف منه.

وعسيتم - بكسر السين - لغة، والفتح أكثر.

وقوله: " إلا قليلا " لا يجوز فيه الرفع، لانه استثناء بعد موجب، وكذلك قوله: " فشربوا منه إلا قليلا " لا يجوز فيه الرفع.

قوله تعالى: وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم(247)

آية واحدة بلا خلاف.

المعنى: قال السدي، ووهب بن منبه: إنما أنكروا أن يكون طالوت ملكا، لانه لم يكن من سبط النبوة، ولا سبط المملكة بل كان من أجمل سبط في بني اسرائيل.

[291]

وقوله: " إن الله اصطفاه " معناه اختاره في قول ابن عباس، وابن زيد، وأصله الصفوة من الادناس.

وقوله: " وزاده بسطة في العلم والجسم " قيل في معناه قولان: قال الحسن: زيادة في العلم وعظما في الجسم.

وقال الجبائي: كان اذا قام الرجل، فبسط يده رافعا لها نال رأسه.

اللغة: يقال: جسم يجسم جسامة يعنى ضخم صخامة.

ورجل جسيم: عظيم الخلق.

وجسمه تجسيما، وتجسم تجسما.

وهو أجسم منه أي أضخم.

وأصل الباب الضخم.

والجسم: هو الذاهب في الجهات الثلاثة: الطول والعرض والعمق.

الاعراب والمعنى: وإنما لم يصرف (طالوت)، وصرف (جاموس) إذا سميت به، وإن كانا أعجميين - في قول الزجاج - لانه لما كان يدخله الالف واللام نكر، نحو قولهم: الجاموس. وكلما أعرب في حال تنكيره فانه لا يعتد بالعجمة فيه، لانه بمنزلة ما أصله عربي فأما ما أعرب في حال تعريفه، فليس كذلك، لانه لم يستعمل إلا على احدى الحالين دون الاخرى، فنقل لذلك.

وقوله: " والله سميع عليم " قيل في معناه ثلاثة أقوال: أحدها - واسع الفضل، فحذف، كما حذف في قولهم: فلان كبير أي كبير القدر.

الثاني - واسع بمعنى: موسع أي يوسع على من يشاء من نعمه، كما جاء (أليم) بمعنى: مؤلم.

والثالث - واسع بمعنى ذو سعة نحو " عيشة راضية " أي ذات رضى، وهم ناصب أي ذو نصب.

وتامر، ولابن، أي ذو تمر وذو لبن. يجئ باب في فاعل بمعنى ذو كذا.

وقوله: " عليم " أي عليم بمن ينبغي أن يؤتيه الفضل إما للاستصلاح، وإما للامتحان.

قال البلخي: وفي الاية دلالة على فساد قول من قال بأن الامامة وراثة، لان الله تعالى رد عليهم ما أنكروه من التعليل

[292]

عليهم من ليس من أهل النبوة، ولا المملكة، وبين أنه يجب بالعلم والفوة لابالوراثة.

وقال أصحابنا فيها دلالة على أن من شرط الامام ان يكون أعلم رعيته وأفضلهم في خصال الفضل، لان الله تعالى علل تقديمه عليهم بكونه أعلم وأقوى فلولا أنه شرط وإلا لم يكن له معنى.

قوله تعالى: وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة إن في ذلك لاية لكم إن كنتم مؤمنين(248)

آية.

المعنى: قال الحسن: وجه الاية في التابوت أن الملائكة كانت تحمله بين السماء والارض يرونه عيانا وقال ابن عباس ووهب: إن الله انتزعه من أيدي أعدائهم الذين نهبوه منهم، فرد عليهم " تحمله الملائكة " وقيل: إن التابوت كان في أيدي أعداء بني إسرائيل من العمالقة الذين غلبوهم عليه - على قول ابن عباس، ووهب -، وروي ذلك عن أبي عبدالله (ع).

وقال قتادة: كان في برية التيه: خلفه هناك يوشع ابن نون.

وقال وهب بن منبه: كان قدر التابوت نحوا من ثلاث أذرع في ذراعين.

وروي عن علي (ع) أنه قال: السكينة التي كانت فيه ريح هفافة لها وجه كوجه الانسان.

وقال مجاهد لها رأس كرأس الهرة، وروي ذلك في أخبارنا.

وقال وهب: روح من الله تكلمهم بالبيان عند وقوع الاختلاف.

وقال عطا: كان فيه آية يسكنون إليها. والسكينة مصدر وقع موقع الاسم نحو القضية والبقية والعزيمة وأخذ من معنى السكون لان نفوسهم تسكن إليه والبقية التي ترك آل موسى، آل هارون.

[293]

قال ابن عباس، وقتادة، والسدي: إنها عصا موسى ورصاص للالواح، وهو المروي عن أبي جعفر.

وقال أبوجعفر التابوت هو الذي وضعت أم موسى فيه موسى حين ألقتة في اليم.

وأقوى هذه الاقوال أن يحمل على أنه كان فيه ما يسكنون إليه، ويجوز أن يكون ذلك عصا موسى والرصاص، وغير ذلك مما اختلفوا فيه بعد أن يكون فيه ما تسكن النفس إليه، لانه تعالى بين أن فيه سكينة، وهي فعيلة من السكون، ولا يقطع بشئ من ذلك إلا بدليل يوجب العلم.

وقال الحسن: كان فيه التوراة وشئ من ثياب موسى.

اللغة: وفي التابوت لغتان فلغة جميع العرب إلا الانصار: التابوت بالتاء. والانصار تقول: التابوه بالهاء.

ويقال: بقي بقاء وأبقاه إبقاء واستبقاه استبقاء وتبقاء تبقيا وتباقى تباقيا وباقاه مباقاة. ومنه بقايا الخراج.

وأصل الباب البقاء: خلاف؟.

وقوله: " تحمله الملائكة " تقول: حمل يحمل حملا واحتمل احتمالا وتحامل تحاملا.

وتحمل تحملا وحمله تحميلا وحامله محاملة.

وانحمل انحمالا واستحمل استحمالا.

والحمل من الضان: الخروف.

والحمل: السحاب الكثير الماء.

والحمل: ما في البطن.

والحمل: ما على الظهر.

والحمالة علاقة السيف.

والمحمل: الذي يوكبه الناس والحمالة الدية، يتحملها قوم عن قوم والحميل: الكفيل، والحميل الغريب لانه يحمل على القوم وليس منهم.

وحميل السيل: غثاؤه.

وامرأة حامل: حبلى لحملها الولد.

وحملت فلانا على فلان: إذا حرشته عليه، لانك حملته على مكروهه.

والحمولة الابل لانها يحمل عليها الاثقال.

وأصل الباب الحمل: كون الشئ على الشئ.

وقوله: " إن كنتم مؤمنين " معناه إن كنتم مصدقين ولا يجوز أن يكونوا على تثبيت الايمان لهم، لانهم كفروا حين ردوا على نبيهم. وقيل: إن كنتم مؤمنين كما تزعمون.

[294]

قوله تعالى: فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فانه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة باذن الله والله مع الصابرين(249)

آية واحدة بلا خلاف.

القراء‌ة: قرأ " غرفة " - بالفتح - ابن كثير، وأبوعمرو، ونافع. الباقون بالضم، وهما لغتان.

اللغة: قوله: " فلما فصل " معناه قطع، والفصل: القطع. ويقال فصل اللحم عن العظم أي قطعه فأبانه عنه، وفصل الصبي فصلا: إذا قطعه عن اللبن. وقول فصل أي يفصل بين الحق والباطبل.

والجنود جمع جند قال السدي: كانوا ثمانين ألف مقاتل، والاجناد جمع القلة.

وجند الجنود تجنيدا أي جمعهم.

والجند الارض الغليظة وكل صنف من الخلق: جند على حدة.

وفي الحديث: الارواح جنود مجندة.

وأصل الباب الجند: الغليظ من الارض.

المعنى: قوله: " إن الله مبتليكم بنهر " فمعنى الابتلاء هاهنا تمييز الصادق من الكاذب في قوله - على قول الحسن -.

وقال وهب بن منية: السبب الذي لاجله ابتلوا بالنهر شكايتهم قلة المياه، وخوف التلف من العطش.

والنهر الذي ابتلوا به، قال ابن عباس، والربيع، وقتادة: هو نهر بين الاردن، وفلسطين.

وروي عن ابن عباس أيضا أنه نهر فلسطين.

[295]

وقوله: " فمن شرب منه " الهاء عائدة على النهر في اللفظ، وهو في المعنى الماء.

وقوله: " فليس مني " معناه ليس على دينى، ولا من أهل ولايتي، فحذف ودلت من عليه.

اللغة: ويقال: طعم الماء كما يقال طعم الطعام وأنشدوا. وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا براد والغرفة بالفتح المرة من الغرف. والغرفة بالضم مل‌ء الكف من الماء، فالغرفة اسم للماء المغروف والغرفة إسم للفعل.

وقال بعضهم الاختيار الضم لانه لو جاء على معنى المرة، لكان اغترافة. وهذا ليس بشئ، لانه إذا كان المعنى واحدا جاز اغترافة، لانه الاصل وجار غرفة، لانه أخف، وكلاهما حسن.

ويقال غرف يغرف غرفا، واغترف اغترافا والمغرفة الالة لتي يغرف بها.

وغرف غروف أي كبير والغريف: ماء في الاجمة، لانه يغرف من بين القصب.

ومزادة غرفية مدبوغة بالغرف: وهو جنس من الدباغ.

والغريف شجر مجتمع من أي شجر كان.

والغرفة العلية. وأصل الباب الغرف.

المعنى: وقال ابن عباس، وقتادة، والربيع: من استكثر من ذلك الماء عطش، ومن لمن يشرب إلا غرفة روي.

وقال الفراء، والحسن، وقتادة، والربيع: والذين جازوا النهر مع طالوت كان عددهم مثل عدد أهل بدر، وهم ثلاثة وبضعة عشر، وهم المؤمنون خاصة.

وقال ابن عباس، والسدي: جاوزه الكافر، والمؤمن إلا أن الكافرين انخزولوا عنهم، وبقى المؤمنون على عدد أهل بدر.

وهذا قوي، لقوله تعالى: " فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه "، فلما رأوا كثرة جنود جالوت قال الكفار منهم " لا طاقة لنا اليوم بجالوت " وقال المؤمنون حينئذ الذين عدتهم عدة أهل

[296]

بدر " كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة باذن الله " قال البلخي: ويجوز أن يكونوا كلهم مؤمنين، غير أن بعضهم أشد إيقانا وأقوى اعتقادا، وهم الذين قالوا: " كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة باذن الله ".

اللغة: وتقول: جاز الشئ يجوزه: إذا قطعه.

وأجازه إجازة: إذا استصوبه.

والشئ يجوز: إذا لم يمنع منه دليل.

واجتاز فلان اجتيازا، واستجاز فعل كذا استجازة.

وتجوز في كلامه تجوزا.

وتجاوز عن ذنبه تجاوزا.

وجاوزه في الشئ تجاوزه، وجوزه تجويزا.

وجوز كل شئ وسطه بمجاز الطريق، وهو وسطه الذي يجاز فيه.

وقيل هذا اشتقاق الجوزاء، لانها تعرض جوز السماء أي وسطها، وأما الجوز المروف، ففارسي معرب.

والجواز الصك للمسافر.

والمجاز في الكلام، لانه خروج عن الاجل إلى ما يجوز في الاستعمال.

وأصل الباب الجواز: المرور من غير شئ يصد، منه التجاوز عن الذنب، لان المرور عليه بالصفح.

المعنى: وقوله: " وقال الذين يظنون " قيل فيه ثلاثة أقوال: أحدها - قال الذين يستيقنون، ذهب إليه السدي قال دريد بن الصمة:

فقلت لهم ظنوا بالفى مدجج *** سراتهم في الفارسى المسرد

أي أيقنوا وقيل إنه استعارة فيما يكفي فيه الظن حتى يلزم العمل، فيكف المعرفة، فجاء على وجه المبالغة في تأكد لزوم العمل.

الثاني - يحدثون نفوسهم وهو أصل الظن، لان حديث النفس بالشئ قد يكون مع الشك ومع العلم إلا أنه قد على ركبت ما كان مع الشك.

الثالث - يظنون أنهم ملاقوا الله بالقتل في تلك الواقعة.

وقوله: " كم من فئة " الفئة: الطائفة من الناس، والجمع: فئين وفئات. ولا يجوز في عدة إلا عدات، لان نقض عدة من أوله. وليس كذلك فئة، وما نقص

[297]

من أوله يجري في الباب على اطراد بمنزلة غير المنقوص، فأما فئة ومئة. وثبة وعزة، فان النقص فيه على غير اطراد، كما يكون في عدة، وصلة، وزنة، وصفة، وجهة.

وتقول فأوت رأسه بالسيف إفاء‌ة وفأوا: إذا قطتعه وانفاء الشئ إنفاء: إذا تقطع وأصل الباب القطع، فمنه الفئة، لانهم قطعة من الناس.

وقوله: " غلبت " تقول: غلب يغلب غلبا وغالبه مغالبة وتغالبوا تغالبا.

وتغلب تغلبا وغلبه تغليبا.

وأشد أغلب: إذا كان غليظ العنق.

ورجل أغلب كذلك، لانه من إمارة الغلب.

واغلولب العشب إذا كثر لانه غلب على غيره بكثرته.

وأصل الباب الغلب: القهر.

المعنى: وقوله: " باذن الله " معناه بنصر الله على قول الحسن، لان الله إذا أذن في القتال نصر فيه على الوجه الذي أذن فيه ويجوز في (كم) الجر والنصب وإن كان على معنى الخبر في قول الفراء. وفي الاية حذف لدلالة(1) ما بقى عليه وهو فأتاهم التابوت بالصفة التي وعدوا بها، فصدقوا لان قوله " فصل طالوت بالجنود " بعد تلك المنازعة منهم ينبئ أن الاية أتتهم، فانقادوا لاجلها.

الآية: 250 - 259

قوله تعالى: ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين(250)

آية بلا خلاف.

اللغة: البروز الظهور للقتال، ومنه البراز، وهي الارض:؟. وتقول: برز يبرز بروزا، وبارزه مبارزة، وتبارز تبارزا، وبرز تبريزا، وتبرز تبرزا. ورجل

___________________________________

(1) في المطبوعة الاله

[298]

برز، وامرأة برزة أي ذو عفة وفضل، لظهور ذاك فيها. والحنود الجموع التي تعد للقتال واحدها جند، مأخوذ من الجند وهو الغلظ.

وقوله: " ربنا افرغ " فالافراغ: صب السيال على جهة اخلاء المكان منه(1) وأصله الخلو.

وإنما قيل " افرغ علينا صبرا " تشبيها بتفريغ الاناء من جهة أنه نهاية ماتوجبه الحكمة، كما أنه نهاية ما في الواحد من الانية. وتقول فرغ يفرغ فراغا، وأفرغ إفراغا، وفرغ تفريغا وتفرغ تفرغا، واستفرغ استفراغا، وافرغت افتراغا: إذا صببت عليك الماء.

وقوله: " سنفرغ لكم أيها الثقلان "(2) معناه سنعمد، لانه عمل مجرد من غير شاغل، ومنه قوله: " وأصبح فؤاد أم موسى فارغا "(3) أي خاليا من الصبر والفرغ مفرغ الدلو، وهو خرفة الذي يأخذ الماء، لانه يفرغ منه الماء " وأفرغ علينا صبرا " أي صب.

ودرهم مفرغ أي مصبوب في قالب.

وضربة فريغة: واسعة.

وفرغ الاناء، وفرغ الرجل من عمله.

وأصل الباب الفراغ الخلو.

وقوله: " وثبت أقدامنا " تثبيت الاقدام يكون بشيئين: أحدهما - بتقوية قلوبهم. والثاينة - بالقاء الرعب في قلوب أعدائهم حتى يظهر منهم الخور في قتالهم وقيل باختلاف كلمتهم حتى يقع التخاذل منهم، وكذلك الصبر، لانه من فعل العبد كما أن الثبوت في الحرب من فعله، لانه يجازى عليه، فأما النصر، ففعل الله تعالى، والصبر: حبس النفس عما تنازع إليه من الفعل. وهاهنا حبسها عما تنازع إليه من الفرار من القتال.

والتثبيت تمكين الشئ في مكانه بلزومه إياه.

وقد يقال ثبت يثبت ثبوتا، وأثبته إثباتا وتثبت تثبتا، واستثبت استثباتا، وثبته تثبيتا.

ورجل ثبت المقام: إذا كان شجاعا لا يبرح موقفه، وطعنه فأثبت فيه الرمح أي نفذ فيه، لانه يلزم فيه.

وأثبت حجته إذا أقامها.

والقول الثابت الصحيح يلزم العمل عليه، ومنه قوله: " يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت " أي يؤدبهم به ليلزموا طريق

___________________________________

(1) في المطبوعة (على جهة الاخلار منه المكان).

(2) سورة الرحمن آية: 31.

(3) سورة القصص آية: 10.

[299]

الحق فيه. وفلان ثبت أي؟ مأمون فيما روى.

وأثبت الحسنات في الدفتر، لانك ضبطه، وأصل الباب اللزوم.

وقوله: " فانصرنا " النصر: هو المعونة على العدو، ويكون ذلك بأشياء منها بزيادة القوة، ومنها الرعب من الملاقاة، ومنها الاطلاع على العورة، ومنها تخيل الكثرة، ومنها اختلاف الكلمة التي تقع بلطف في إعطاء النصر، والفرق بين النصر، واللطف: أن كل نصر من الله، فهو لطف، وليس كل لطف نصرا، لان اللطف يكون في إحدى طاعاته بدلا من معصيته، وقد يكون في فعل طاعة من النوافل فأما العصمة فلا تكون إلا من معصية.

قوله تعالى: فهزموهم باذن الله وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الارض ولكن الله ذو فضل على العالمين(251)

آية.

القراء‌ة: قرأ نافع، وأبان عن عاصم " دفاع الله " الباقون " دفع " بلا ألف.

المعنى: في الاية حذف وتقديره فاستجاب لهم ربهم، فهزموهم بنصره لهم، لان ذكر الهزيمة(1) بعد سؤال النصرة دليل على أنه كان على معنى الاجابة.

اللغة: والهزم: الدفع، تقول: هزم القوم في الحرب يهزمهم هزما: إذا دفعهم بالقتال هربا منه، وانهزموا انهزاما، وتهزم السقاء: إذا يبس، فتصدع لاندفاع بعضه على بعض، والاهتزام الذبح تقول العرب: اهتزموا شاتكم قبل أن تهزل فتهلك،

___________________________________

(1) في المطبوعة " الهزيمة ".

[300]

لدفع صاعها بتذكيتها.

والهزمة: دفعك الشئ بقوة حتى تدخل عن موضعه في الجسد، وزمزم هزمة، جبرئيل لاسماعيل (ع) والمهزم خشبة يحرك بها الجمر، لانها يرفع بها بعضه عن بعض، وهزمة الرعد صوته، وأصابتهم هازمة من هوازم الدهر أي داهية كاسرة، لانها كهازمة الجيش في البليلة، وهزمت عليك أي عطفت عليك.

المعنى: فالاولى أن يكون القوم هزموهم حقيقة لانهم سنوا الهزيمة بأن فعلوا ما يلجئهم اليها وقال الجبائي: ذلك مجاز، لانهم لم يفعلوا هزيمتهم، كما يقال: اخرجه من منزله إذا ألجأه إلى الخروج، ولم يفعل خروجه، وهذا ليس بصحيح، لانه ليس معنى هزمه فعل هزيمته، ليكون إذا صرف عن ذلك إلى معنى غيره يكون مجازا في العبارة بل معناه ما قلناه.

وقوله: " باذن الله " يحتمل أمرين: أحدهما - بأمر الله. والثاني بعلم الله.

وقيل: إن سبب قتل داود جالوت كان أن جالوت طلب البراز، فخرج إليه داود (ع) فرماه بحجر مقلاع فوقع بين عينيه خرج من قفاه، فأصاب جماعة كثيرة من أهل عسكره فقتلهم، وانهزم القوم عن آخرهم، ذكر ذلك وهب بن منبه وغيره من المفسرين.

وقوله: " وآتاه الله الملك والحكمة " قيل في معناه قولان: أحدهما - أنه جمع له الملك والنبوة في حالة واحدة.

والاخر - أنه اختصه من علم السمع بحكمة لم يؤتها غيره.

وقوله: " وعلمه مما يشاء " معناه أنه علمه أمور الدين وما يشاء من أمور الدنيا، منها صنعة الدرع وعمل السرد، ذكره الزجاج، والطبري.

فان قيل: ما الفائدة في قوله: " وعلمه مما يشاء " إذا كنا لاندري ما الذي شاء من ذلك؟ قيل هو تعالى وإن لم يشرح لنا ما علمه فقد بين لنا أنه خصه من العلم بعد علم الدين بما لم يؤته غيره، لان غيره من المؤمنين إنما نعلم ما دله الله عليه من أمر دينه

[301]

ودنياه، وكان داود مساويا لهم في ذلك إن لم يكن أكثرهم علما فيه، لانه كان مؤمنا مثلهم، وكان معهم في أمورهم، فلما بين لنا " آتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء " بعد قتل جالوت، علمنا أنه كان خصه بما ذكره من الملك والحكمة، وخصه منه بما لم يخص به أحدا سواه.

وقوله: " ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الارض " قيل في معناه ثلاثة أقوال: أحدها - يدفع الله بالبر عن الفاجر الهلاك، هذا قول علي (ع) وهو المروي عن أبي جعفر محمد بن علي (ع)، وبه قال مجاهد.

الثاني - يدفع باللطف للمؤمن والرعب في قلب الفاجر. وأن يعم الارض الفساد.

الثالث - قال الحسن، والبلخي: يزغ الله بالسلطان فلا يزغ بالقرآن، لانه يغنيه على دفع الاشرار عن ظلم الناس، لانه يريد منه المنع من الظلم والفساد، كان مؤمنا أو فاسقا.

اللغة: وأصل الدفع: الصرف عن الشئ، دفع دفعا، ودافع مدافعة ودفاعا، واندفع اندفاعا، وتدافع تدافعا، ودفعه تدفيعا، واستدفع استدفاعا.

والضيف المدفع، لتدافع الحي به لاحتقاره.

والدفاع السيل لتدافع بعضه على بعض.

والدفعة اندفاع الشئ جملة.

ورجل مدفع أي عن نسبه.

الحجة: وقال الحسن: لم يكن داود نبيا قبل قتله جالوت، لانه لايجوز أن يترأس من ليس بنبي على نبي لانه قلب ما يوجبه تدبير الحكماء، لان النبي يوثق بظاهره وباطنه ولا يخبر إلا بالحق ولا يدعوا إلا إلى حق، وليس كذلك من ليس بنبي من أهل العقل.

ومن قرأ " دفاع " بألف فوجهه: أن الله لما أولياء‌ه على مدافعة أعدائه حتى هزموهم، حسن إضافة الدفاع إليه، لما كان من معونته، وإرادته له.

[302]

وفي الاية دلالة على فساد قول المجبرة: إنه ليس لله على الكافر نعمه، لانه قال: " إن الله لذو فضل على الناس " فعم الجميع بالنعمة ولم يخص، " ولكن أكثر الناس لايشكرون " ويفسد به أيضا قولهم: في الارادة وأن جميع ما أعطى الله الكفار إنما هو ليكفروا لا ليؤمنوا، وما روي أن طالوت هم بقتل داود لما رأى أن وجوه الناس أقبلت عليه بقتله جالوت رواية شاذة، فان صحت دلت على أن طالوت لم يكن نبيا، ولا إماما، لان النبي أو الامام لابد أن يكون معصوما.

قوله تعالى: تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين(252)

الايات المذكورة في هذه الاية المراد بها ما تقدم ذكره من إماتة ألوف من الناس دفعة واحدة بخلاف ما جرت به العادة ثم أحياهم في مقدار ساعة، ومن تمليك طالوت وقد كان من الخاملين الذين لا تنقاد لهم النفوس بما جعله له من الاية علما على تمليكه، ومن نصرة أصحاب طالوت مع قلة عددهم، وضعفهم على جالوت وجنوده مع قوتهم وكثرة عددهم وشدة بطشهم حتى قهروهم واستعلوا عليهم، وكل ذلك مما لا يقدر عليه غير الله تعالى فهو دلالة عليه.

قوله: " وانك لمن المرسلين " دليل على نبوته على وجوه: منها ما في الاحياء بما تقدم من الدلالة على النبوة.

ومنها أنه يجب التصديق بتلك الامور لنبوته (ع).

ومنها أنه أوحي إليه به، كمااوحى إلى المرسلين، لانه سنة الله عز وجل في مثله.

ومنها الاستدعاء إلى القيام بما أرسل به بعد قيام الحجة عليه.

ومنها أنه كما نصب تلك الايات جعلك من المرسلين لما في ذلك من الحكمة التي تدعوا إلى صلاح المكلفين.

وإنما صارت الاخبار بذلك دلالة على النبوة من جهة أنها أخبار عن عيون لم تشهدها ولا خالط أهل المعرفة بها، ومتى قال قائل: إنه أخذها عن أهل العلم بالاخبار، فان قوله يبطل، لانه لو كان كذلك لم يتكلم لخروجه عن العادة كخروج أن يصير انسان من أعلم الناس بصناعة لم يشهدها ولاخالط

[303]

أهلها، ولان في أنبيائه تثبت معجزة من غير تلك الجهة، وهو المنع من الازاحة مع توفر الاسباب الداعية إلى الحديث به، ولا نشرله وهذا مما لايقدر عليه إلا الله تعالى.

اللغة: والرسالة تحمل جملة من الكلام لها فائدة إلى المقصود بالدلالة. والحق هو وقوع الشئ موقعه الذي هو له من غير تغيير عنه بما لا يجوز فيه.

والتلاوة: ذكر الكلمة بعد الكلمة من غير فاصلة، لان التالي للشئ يليه من غير فصل بغيره.

والاصل: التلو وهو ايقاع الشئ بعد الشئ الذي يليه.

قوله تعالى: تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولوشاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاء‌تهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد(253)

آية واحدة بلا خلاف.

إنما ذكر الله تعالى تفضيل بعضهم على بعض، لامور: منها أن لا يغلط غالط منهم، فيسوي بينهم في الفضل. كما استووا في الرسالة، وثانيها أن يبين أن تفضيل محمد صلى الله عليه وآله كتفضيل من مضى من الانبياء بعضهم على بعض. وثالثها - أن الفضيلة قد تكون بعد إداء الفريضة.

والمراد الفضيلة المذكورة هاهنا ما خص كل واحد منهم من المنازل الجليلة التي هي أعلى من منزلة غيره، نحو كلامه لموسى بلا سفير، وإرساله محمدا صلى الله عليه وآله إلى الكافة من الناس المكلفين والجن المتعدين، هذا قول مجاهد.

[304]

ويحتمل فضلناهم بأعمالهم التي استحقوا بها الفضيلة على غيرهم.

والفرق بين الابتداء بالفضيلة وبين المحاباة ان المحاباة اختصاص البعض بالنفع على ما توجبه الشهوة دون الحكمة، وليس كذلك الابتداء بالفضيلة، لانه قد يكون للمصلحة التي لولاها لفسد التدبير وأدى إلى حرمان الثواب للجميع. فمن حسن النظر لهذا الانسان تفضيل غيره عليه إذا كان في ذلك مصلحة له فهذا وجه تدعوا إليه الحكمة وليس كالوجه الاول الذي انما تدعوا إليه الشهوة.

وقوله: " وأيدناه بروح القدس " معناه قويناه. والروح: جبريل.

والقدس الله - على قول الحسن - وقال ابن عباس: روح القدس: الاسم الذي كان يحيي به الموتى. والضمير في قوله: " من بعدهم " عائد على الرسل.

وقال قتادة، والربيع: على عيسى وموسى (ع). وجاز بلفظ الجميع، لان ذكرهم قد يغني عن ذكر المتبعين لهم. كما يقال: خرج الامير فانكوا في العدو نكاية عظيمة.

وقوله: " ولو شاء الله ما اقتتلوا " إخبار عن قدرته على إلجائهم على الامتناع من الاقتتال، أو أبان يمنعهم من ذاك. وهذا قول الحسن وغيره. وجملته انه أخبر انه قادر على أن يحول بينهم، وبين الاقتتال بالالجاء والاضطرار. ومثله " ولو شئنا لاتينا كل نفس هداها " " ولوشاء ربك لامن من في الارض كلهم جميعا " فان جميع ذلك دلالة على قدرته عليهم. ولا يدل قوله " ولو شاء الله ما اقتتلوا " على أنه قد شاء اقتتالهم، لانه إذا احتمل الكلام وجهين: أحدهما - يجوز عليه والاخر لا يجوز عليه، وجب حمله على ما يجوز عليه، دون ما لا يجوز عليه، فلذلك كان تقدير الكلام ولو شاء الله امتناعهم بالالجاء ما اقتتلوا.

ونظيره قول القائل ولو شاء السلطان الاعظم، لم يشرب النصارى الخمر في سلطانه ولا نكحت المجوس الامهات والبنات وليس في ذلك دليل على أنه قد شاء‌ه وإنما كرر قوله: " ولو شاء الله ما اقتتلوا " لاختلاف المعنى: فمعنى الاول لو شاء الله ما اقتتلوا قتالهم، ويجوز أن يكون لتأكيد البينة على هذا المعنى.

[305]

وقال قوم: الاول معناه لوشاء الله ما اقتل المحقون، والمبطلون بأن يحول. وبينهم، وبينهم. والثاني لو شاء الله ما اقتتل المحقون فيما بينهم والمبطلون فيما بينهم.

قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولاخلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون(254)

آية واحدة.

القراء‌ة: قرأ أبوعمرو وابن كثير " لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة " بالنصب فيها أجمع. والباقون بالضم.

المعنى: قولة " يا أيها الذين آمنوا " خطاب للمؤمنين يأمرهم بالانفاق مما رزقهم. والانفاق المامور به على وجه الفرض هاهنا الزكاة وغيرها دون الفعل لان ظاهر الامر الايجاب في قول الحسن. قال: لانه مقرون بالوعيد.

وقال ابن جريج: يدخل في الخطاب الزكاة، والتطوع. وهو أقوى، لانه أعم.

وبه قال البلخي. وليس في الاية وعيد على ترك النفقة. وانما فيها إخبار عن عظم أهوال يوم القيامة وشدائدها.

وقوله: " من قبل أن يأتي يوم " يعنى يوم القيامة.

اللغة: " لابيع فيه " البيع هو استبدال المتاع بالثمن.

تقول: باع يبيع بيعا، وابتاع ابتياعا، واستباع استباعة، وبايعه مبايعة، وتبايعوا تبايعا، والبيع: نقيض الشراء والبيع أيضا الشراء لانه تارة عقد على الاستبدال بالثمن، وتارة على الاستبدال بالمتاع.

والبيعة الصفقة على ايجاب البيع.

والبيعة الصفقة على ايجاب الطاعة.

والبيعان البائع والمشتري.

[306]

والبيعة كنيسة النصارى وجمعها بيع.

وقوله: " لاخلة ". فالخلة خالص المودة.

والخلل: الافراج بين الشيئين.

وخللته بالخلال أخله خلا: إذا صككته به واختلت حاله اختلالا، لانحرافه بالفقر.

وتخلل الطرق تخللا إذا قطع فرجة بعد فرجة.

وأخل به إخلالا، وخاله يخاله مخالة: إذا صافاة المودة.

والخل معروف لتخلله بحدته، ولطفه فيما ينساب فيه.

والخل: الرجل الخفيف الجسم.

والخل: الطريق في الرمل.

والخل: عرق في العنق يتصل بالرأس.

والخليل: الخالص المودة من الخلة، لانه من تخلل الاسرار بينهما.

وقيل لانه يمتنع من الشوب - في المودة بالنقيصة - والخليل أيضا: المحتاج من الخلة.

والخلة: جفن السيف.

وفي فلان خلة: أي خصلة.

والخلة خلاف الحصن لانه مرعى بتخلله الماشية للاعتداء به.

وخلل أصابعه تخليلا.

وقوله تعالى: " فترى الودق يخرج من خلاله "(1) وقوله: " فجاسوا خلال الديار "(2) والخلال: البلج.

وأصل الباب: الخلل: الانفراج.

المعنى: وقوله: " ولا شفاعة " وإن كان على لفظ العموم فالمراد به الخصوص بلا خلاف، لان عندنا قد تكون شفاعة في اسقاط الضرر. وعند مخالفينا في الوعيد قد يكون في زيادة المنافع فقد أجمعنا على ثبوت شفاعة وإنما ننفي نحن الشفاعة قطعا عن الكفار. ومخالفونا عن كل مرتكب كبيرة إذا لم يتب منها.

وقوله: " والكافرون هم الظالمون " إنما ذم الله تعالى الكافر بالظلم وإن كان الكفر أعظم منه لامرين: أحدهما - للدلالة على أن الكافر قد ضر نفسه بالخلود في النار، فقد ظلم نفسه.

___________________________________

(1) سورة النور آية: 43، وسورة الروم آية: 48.

(2) سورة الاسرى آية: 5.

[307]

والاخر - أنه لما نفى البيع في ذلك اليوم والخلة والشفاعة، قال وليس ذلك بظلم منا، بل الكافرون هم الظالمون، لانهم عملوا ما استحقوا به حرمان الثواب.

قوله تعالى: ألله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الارض من ذا الذي يشفع عنده إلا باذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والارض ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم(255)

آية واحدة(1).

الاعراب: " الله " رفع بالابتداء " ولا إله إلا هو الحي القيوم " خبره. والكلام مخرجه مخرج النفي أن يصح إله سوى الله. وحقيقة الاثبات الا له واحد هو الله. كأنه قيل الله الا له دون غيره. وارتفع هو في لا إله إلا هو على أحد وجهين: أحدهما - بالابتداء كأنه قال ما إله إلا الله. والثاني - أن يكون بدلا كأنه قال ما إله ثابتا إلا الله. ويجوز في العرببة لا إله إلا الله بالنصب على الاستثناء. وفيه دلالة على الامر باخلاص العبادة لله تعالى.

اللغة، والمعنى والحي هو من كان على صفة لا يستحيل معها كونه عالما قادرا، وان شئت قلت: هو من كان على صفة يجب لاجلها أن يدرك المدركات، إذا وجدت. والقيوم أصله قيووم على وزن فيعول. إلا أن الياء الساكنة إذا كانت بعدها واو متحركة قلبت ياء وأدغمت فيها قياسا مطردا. والقيام أصله قيوام على وزن فيعال. وقيل في معنى القيوم، أربعة أقوال:

___________________________________

(1) وفي مجمع البيان والمصحف الهاشمي آيتان، وفي أكثر التفاسير آية واحدة.

[308]

أحدها - قال الحسن إنه القائم على كل نفس بما كسبت حتى يجازيها بعملها من حيث هو عالم لا يخفى عليه شئ منه.

الثاني - قال سعيد بن جبير: إن معناه الدائم الوجود.

الثالث - قال قتادة: معناه: القائم بتدبير خلقه.

الرابع - قال قوم: إن معناه العالم بالامور من قولهم: فلان قيوم هذا الكتاب أي هو عالم به.

وكل هذه الوجوه تحتمل.

وقال أمية بن أبي الصلت:

لم تخلق السماء والنجوم *** والشمس معها قمر يقوم

قدره المهيمن القيوم *** والحشر والجنة والجحيم

إلا لامر شأنه عظيم(1)

وقوله: " لا تأخذه سنة ولا نوم " فالسنة النوم بلا خلاف قال عدي ابن الرقاع:

وسنان أقصده النعاس فرنقت *** في عينه سنة وليس بنائم(2)

فالسنة الثقلة من النعاس، تقول: وسن فلان وسنا إذا أخذته سنة النعاس، وقد علته وسنة، ورجل وسنانه ووسن، وامرأته وسنانة، ووسنى، وأصل الباب: النعاس. والنوم الاستثقال في النوم، تقول نام ينام نوما وأنامه إنامة، ونومه تنويما وتناوم تناوما، واستنام إليه: إذا استانس إليه، واطمأن إلى ناحيته، لان حاله معه كحالة النائم في المكان أنسا به وأصل الباب النوم خلاف اليقظة.

وقوله: " ما في السماوات وما في الارض " معناه أن أحدا ممن له شفاعة لا يشفع إلا بعد أن يأذن الله له في ذلك ويأمره به، فأما أن يبتدئ أحد بالشفاعة من غير إذن، كما يكون فيما بيننا، فليس ذلك لاحد.

___________________________________

(1) ديوانه: 57، وتفسير أبي حيان 25: 277 ورواية أبي حيان (قمر يعوم) بدل (قمر يقوم) وفي تفسير الطبرى قد اجتهد محققه فأخطأ، لانه اثبت (والجسر) بدل (والحشر) راجع صفحة 388 من المجلد الخامس في تفسير الطبري.

(2) الشعر والشعراء: 602، واللسان " وسن "، "؟ ".

[309]

وقوله: " يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم " قال: ابن جريج ومجاهد والسدي: معناه ما مضى من الدنيا وما خلفهم من الاخرة.

وقوله: " ولا يحيطون بشئ من علمه " معناه من علومه، كقول القائل: أللهم اغفر لنا علمك فينا، فاذا ظهرت آية يقولون قدرة الله أي مقدور الله وقوله: " وسع كرسيه " قال ابن عباس كرسيه: علمه وهو المروي عن أبي جعفر، وأبي عبدالله (ع).

وقال الحسن: الكرسي هو العرش.

وقيل: هو سرير دون العرش وقد روي ذلك عن أبي عبدالله (ع).

وقيل: أصل ملكه. وكل ذلك محتمل. أما العلم، فلانه يقال للعلماء الكراسي، لانهم المعتمد كما يقال: هم أوتاد الارض، وهم الاصل الذي يعتمد عليه. ويقال لكل أصل يعتمد عليه.

كرسي قال الشاعر:

تحف بهم بيض الوجوه وعصبة *** كراسي بالاحداث حين تنوب(1)

أي علماء بحوادث الامور.

وقال آخر:

نحن الكراسي ما تعد هوازن *** أفعالنا في النائبات ولا أسد

وقال آخر:

مالي بأمرك كرسي كاتمه *** وهل بكرسي علم الغيب مخلوق

وكل شئ تراكب فقد تكارس تكارسا، ومنه الكراسة لتراكب بعض ورقها على بعض قال العجاج:

ياصاح هل تعرف رسما مكرسا *** قال نعم أعرفه وأبلسا(2)

أي تكارس عليه التراب، فغطاه، والكرس البعر والبول: إذا تلبد بعضه على بعض، والاكارس الجموع الكثيرة، لاواحد له، لانه بكثرته بمنزلة ما تراكب بعضه على بعض. ورجل كروس شديد الرأس، لانه تضاعف القوى كتراكب الشئ بعضه على بعض، والكرياس: كنيف في أعلى السطح بقناة إلى الارض، لتراكب

___________________________________

(1) أساس البلاغة (كرس).

(2) ديوانه؟: 31، والكامل 1: 252، واللسان (بلس)، (كرس).

يقال: ابلس الرجل أي سكت عما في نفسه، وانكر وتحير، ولم ينطق. قد مر في 1: 153

[310]

بعض ابنيته على بعض، وسمي الكرسي بذلك، لتركيب بعضه على بعض.

ويقال: كرسي الملك من مكان كذا إلى مكان كذا أي ملكه تشبيها بالكرسي المعروف.

وكرس يكرس كرسا، وأكرس إكراسا، وتكارس تكارسا، وتكرس تكرسا، وكرسه تكريسا، وأصل الباب الكرس: تراكب الشئ بعضه على بعض.

والوجه في خلق الكرسي إذا قلنا: أنه جسم هو أن الله تعبد تحمله الملائكة والتعبد عنده كما تعبد البشر بزيادة، ولم يخلقه ليجلس عليه، كما تقول المجسمة.

واختاره الطبري، لانه عزوجل يتعالى عن ذلك، لان ذلك من صفات الاجسام ولو احتاج إلى الجلوس عليه، لكان جسما ومحدثا وقد ثبت قدمه.

وقوله: " ولا يؤوده حفظهما " أي لا يثقله، والهاء في يؤوده راجعة إلى الله وقيل إنها عائدة إلى الكرسي. والاود مصدر، آده يؤوده أودا وأيادا إذا أثقله وجهده، وأودت العود فأنا آوده أودا، فانآد ومعناه عجته فانعاج، لانه اعتمد عليه بالثقل حتى مال، والاود، والاوداء على وزن اعوج وعوجاء والمعنى واحد والجمع الاود بوزن العوج وأصل الباب الثقل.

وقوله: " هو العلي العظيم " فالعلى يعنى بالاقتدار ونفوذ السلطان. ويقال علا بالاقتدار، ولايقال رفيع، لان الرفعة من المكان، والعلو منقول إلى معنى الاقتدار يوضح ذلك قولهم: علا قرنه بمعنى اقتدر ولا يقال ارتفع عليه بمعنى اقتدر وكذلك استعلى عليه بالحجة، ولا يقال ارتفع عليه بالحجة.

وتقول: علا يعلو علوا وأعلى إعلاء وعلى تعلية واستعلى استعلاء. وتعلى تعليا.

وتعالى تعاليا واعتلاه اعتلاء، وعالى معالاة.

والعلو - بضم العين وكسرها - نقيض السفل، والعلو التجبر، ومنه قوله تعالى: " إن فرعون علا في الارض "(1) أي تجبر، لانه طلب الاستعلاء على الناس بالسلطان والقهر. والله العالي والمتعالي أي القادر القاهر، لانه عال بالاقتدار، لانه لا يعجزه شئ والعالية: القناة المستقيمة، لاستمرارها في جهة العلو.

وفلان من علية الناس أي من أشرافهم، لانه علا بشرفه. والعلية: الغرفة وأصل الباب العلو.

___________________________________

(1) سورة القصص آية: 4.

[311]

والعظيم معناه عظيم الشأن بأنه قادر، ولا يعجزه شئ، وعالم لا يخفى عليه شئ، فلا نهاية لمقدوره ومعلومه، وقال قوم: العظيم بمعنى المعظم كما قالوا في الخمر العتيقة معتقة، والاول أقوى لان على هذا كان يجب ألا يوصف بانه عظيم فيما لم يزل وقد علمنا خلافه.

قوله تعالى: لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم(256)

آية واحدة.

المعنى: قيل في معنى قوله: " لا إكراه في الدين " أربعة أقوال: أولها - قال الحسن وقتادة والضحاك: إنها في أهل الكتاب خاصة الذين يؤخذ منهم الجزية.

الثاني - قال السدي وابن زيد: إنها منسوخة بالايات التي أمر فيها بالحرب نحو قوله: " واقتلوا المشركين حيث وجدتموهم "(1) وقوله: " فاذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب "(2).

والثالث - قال ابن عباس وسعيد بن جبير: إنها نزلت في بعض أبناء الانصار وكانوا يهودا فاريد إكراهم على الاسلام.

الرابع - قيل " لاإكراه في الدين " أي لا تقولوا لمن دخل فيه بعد حرب إنه دخل مكرها، لانه إذا رضي بعد الحرب، وصح اسلامه فليس بمكره، فان قيل كيف تقولون " لا إكراه في الدين " وهم يقتلون عليه ! قلنا المراد بذلك لاإكراه فيما هو دين في الحقيقة، لان ذلك من أفعال القلوب إذا فعل لوجه بوجوبه، فأما يكره عليه من إظهار الشهادتين، فليس بدين، كما أن من أكره على كلمة الكفر لم يكن كافرا.

وقوله: " قد تبين الرشد من الغي " معناه قد ظهر بكثرة الحجج، والايات

___________________________________

(1) سورة النساء آية: 88.

(2) سورة محمد آية: 4

[312]

الدالة لانضمام ما أتى الرسول فيه إلى ما في الفعل منه والالف واللام في قوله " في الدين " يحتمل أمرين: أحدهما - أن يكون مثل قوله " فان الجنة هي المأوى "(1) بمعنى هي مأواه فكذلك " لا إكراه في الدين " أي في دينه، لانه قد تقدم ذكر الله كأنه قال: " لا إكراه في دين " الله. والثاني - لتعريف دين الاسلام.

اللغة، والمعنى: والغي ضد الرشد، تقول غوى يغوي غيا وغواية: إذا سلك خلاف طريق الرشد، وغوى: إذا خاب قال الشاعر: ومن يغو لا يعدم على الغي لائما(2) أي من يخب.

وغوى الفصيل يغوي غيا: إذا قطع عن اللبن حتى يكاد يهلك وقوله: " رب بما أغويتنى "(3) يحتمل أمرين: أحدهما - خيبتنى.

الثاني - بما حكمت بغوايتي، ومنه قوله: " أغويناهم كما غوينا تبر أنا اليك "(4) والاصل الغي سلوك طريق الهلاك.

وقوله: " ومن يكفر بالطاغوت " قيل فيه خمسة أقوال: أحدها - ما روي عن عمر، ومجاهد، وقتادة: أنه الشيطان الثاني - قال سعيد بن جبير: هو الكاهن.

الثالث - قال أبوالعالية: هو الساحر.

والرابع - قال قوم: هم مردة الجن والانس.

الخامس - قال بعضهم: هي الاصنام.

وأصل طاغوت من الطغيان، ووزنه فعلوت نحو جبروت، وتقديره: طيغوت إلا أن لام الفعل قلبت إلى موضع العين، كما قيل صاعقة

___________________________________

(1) سورة النازعات آية: 41.

(2) قائله المرقش الاصغر وصدره: من يلق خيرا يحمد الناس أمره العقد الفريد 2: 176، 3: 77، 5: 339.

(3) سورة الحجر آية: 39.

(4) سورة القصص آية: 36.

[313]

صاعقة، ثم قلبت الفا لوقوعها في موضع حركة، وانفتاح ما قلبها. ومعنى (يؤمن بالله) يصدق بالله.

وقوله (فقد استمسك بالعروة الوثقى) فالعروة الوثقى الايمان بالله، عن مجاهد، وجرى ذلك مجرى المثل لحسن البيان باخراج مالا يقع به الاحساس إلى ما يقع به(1) والعروة: عروة الدلو ونحوه لانها متعلقة، وعروت الرجل، أعروه عروا: إذا الممت به متعلقا بسبب منه، واعتراه(2) يعتريه: إذا تعلق به، وعرته الحمى تعروه: إذا علقت به وعراه يعريه إذا اتخذ له عروة. وأصل الباب التعلق.

وقال الازهري العروة: كل نبات له أصل ثابت، كالشيح والقيصوم، وغيره. وشبهت عرى الاشياء في لزومها.

وقوله: " لاانفصام لها " أي لا انقطاع لها - في قول السدي -. والانكسار، والانفصام والانصداع والانقطاع نظائر.

قال اعشى بني ثعلبة.

ومبسمها عن شتيت النبا *** ت غير أكس ولامنفصم(3)

وانفصم انفصاما: إذا انصدع، وفصمته تفصمه فصما: إذا صدعته من غير أن تكسره، وأصل الباب: الفصم، كصدع الزجاج.

قوله تعالى: الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياء‌هم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك اصحاب النار هم فيها خالدون(257)

آية.

المعنى، واللغة: معنى (ولي الذين آمنوا " نصيرهم، ومعينهم في كل مابهم إليه الحاجة(4)،

___________________________________

(1) به ساقطة من المطبوعة.

(2) في المطبوعة اعتراء‌هم.

(3) ديوانه: 35 رقم القصيدة 4. الشتيت: المتفرق المفلج من الاسنان الكسس: قصر الاسنان. في المطبوعة " عرائس " بدل " غير أكس " وروايته: (منقضم).

(4) هذا ما استنبطناه وفي المطبوعة (كلماتهم اليه الحاجة).

[314]

فيه صلاح لهم في دينهم ودنياهم وإنما يوصف بالولي من كان أولى بغيره وأحق بتدبيره. ومنه الوالي، لانه يلي القوم بالتدبير والامر، والنهي، ومنه المولى من فوق، لانه يلي أمر العبد بسد الخلة، وما به إليه الحاجة، ومنه المولى من أسفل لانه يلي أمر المالك بالطاعة، والمولى ابن العم لانه يلي أمره بالنصرة لتلك القرابة، وولي اليتيم لانه يلي أمر ماله بالحفظ له والقيام عليه.

والولي في الدين وغير، لانه يلي أمره بالنصرة والمعونة لما توجبه الحكمة، والمعاقدة لجميع هذه المواضع الاولى والاحق ملحوظ فهى.

وولى: إذا ادبر عن الشئ لانه زال عن أن يليه بوجهه واستولى على الشئ: إذا احتوى عليه، لانه وليه بالقهر.

والله تعالى يتولى المؤمنين على ثلاثة أوجه: يتولاهم بالمعونة على إقامة الحجة، ويتولاهم بالنصرة لهم في الحرب حتى يغلبوا، ويتولاهم بالمثوبة على الطاعة.

وقوله (يخرجهم من الظلمات إلى النور).

ومعناه: من ظلمات الكفر إلى نور الايمان، لانه الكفر كالظمة في المنع من إدراك الحق كما أن الظلمة مانعة من إدراك البصر.

وقال قتادة: يخرجهم من ظلمة الضلالة إلى نور الهدى، وهذا قريب من الاول، ووجه إخراج الله تعالى المؤمنين من ظلمات الكفر والضلال إلى نور الايمان باهدائهم إليه، ونصب الادلة لهم، وترغيبهم فيه، وفعله بهم من الالطاف ما يقوي دواعيهم إلى الايمان، فاذا اختارواهم الايمان، فكأن الله أخرجهم منها، ولم يجز أن يقال: إنه أخرج الكفار من الظلمات إلى النور من حيث قدرهم على الايمان، ودعاهم إليه ورغبهم فيه، كما فعل بالمؤمنين، لانهم لم يختاروا الايمان، فلم يجز أن يقال: إنه أخرجهم منه لانه توهم أنهم فعلوا الايمان.

وقوله: (والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات) إنما أضاف إخراجهم " من النور " الذي هو الايمان إلى الكفر إلى الطاغوت، لما كان ذلك باغوائهم، ودعائهم، وإنما كفروا عند ذلك، فأضاف ذلك إليهم، فهو عكس الاول.

فان قيل: كيف " يخرجونهم من النور " وما دخلوا فيه؟

[315]

قلنا عنه جوابان: أحدهما - إن ذلك يجري مجرى قولهم: أخرجنى والدي من ميراثه.

ولم يدخل فيه، وإنما ذلك لانه لو لم يفعل ما فعل، لدخل فيه، فهو لذلك بمنزلة الداخل فيه الذي أخرج منه.

قال الغنوي:

فان تكن الايام أحسن مرة *** إلي فقد عادت لهن ذنوب(1)

ولم يكن لها ذنوب قبل ذلك.

والوجه الثاني - قال مجاهد: إنه في قوم ارتدوا عن الاسلام، والاول أليق بمذهبنا، لان عندنا لايجوز أن يرتد المؤمن على الحقيقة، وإنما قال " يخرجونهم " على لفظ الجمع.

فان كان الطاغوت واحدا لانه في معنى جميع كما قال العباس بن مرداس:

فقلنا: أسلموا انا أخوكم *** فقد برئت من الاحن الصدور(2)

وإنما جاز ذلك في الخفض، لان كل واحد يقوم مقام الاخر فصار ذكر واحد ينوب عن جميعه، فأما ما يميز بالخلقة وصار بمنزلة الاشياء المختلفة فقياسه أن يجمع، كرجل ورجال. وإنما حسن في الطاغوت، لان جميعه يجري مجرى واحد في الضلال. وفي الاية دليل على فساد قول المجبرة في المخلوق، والارادة، لانه تعالى نسب الاخراج من نور الهدى إلى ظلمة الكفر والضلال إلى الطاغوت منكرا لتلك الحال، ولم يكن لينكر شيئا أراده ولا يغيب شيئا عنه فعله (تعالى الله) عن ذلك.

___________________________________

(1) قائله كعب الغنوي من قصيدة يرثي بها أخاه أبا المغوار العقد الفريد 3: 217. وروايته " لقد " بدل " فقد ".

(2) سيرة ابن هشام 4: 95، واللسان " أخو " ومجاز القرآن 1. 97 من قصيدة له في يوم حنين، وفي هزيمة هوزان يذكر قارب بن الاسود وفراره من بني أبيه. و؟؟ احنة: وهي الحقد.

[316]

قوله تعالى: ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال ابراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فان الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لايهدي القوم الظالمين(258)

آية.

القراء‌ة: قرأ أهل المدينة " أنا أحيي وأميت " باثبات الالف إذا كان بعدها همزة مضمومة أو مفتوحة. فان كان بعدها همزة مكسورة حذفوها إجماعا.

المعنى: قال مجاهد، وقتادة والربيع: إن المحاج لابراهيم كان نمرود بن كنعان(1) وهو أول من تجبر في الارض بادعاء الربوبية.

وقوله: (ألم تر ألى) دخلت إلى الكلام للتعجب من حال الكافر المحاج بالباطل، كما يقولون: أما ترى إلى فلان كيف يصنع، وفيه معنى هل رأيت كفلان في صنيعه كذا، وإنما دخلت (إلى) لهذا المعنى من بين حروف الجر، لان إلى لما كانت نهاية صارت بمنزلة هل انتهت رؤيتك إلى من هذه صفته لتدل على بعد وقوع مثله على التعجب منه، لان التعجب إنما يكون مما استبهم شبيه بما لم يجز عادة به، وقد صارت إلى ههنا بمنزلة كاف التشبيه من حروف الاضافة، لما بينا من العلة إذ كان ماندر مثله كالذي يبعد وقوعه.

وقوله: (أن آتاه الله الملك) معناه أعطاه والهاء في " آتاه " قال الحسن وأبو علي: إنها كناية عن المحاج لابراهيم.

وقال أبوحذيفة والبلخي إنها عائدة إلى إبراهيم.

فان قيل: كيف يجوز أن يؤتي الله الكافر الملك؟ قيل: الملك على وجهين: أحدهما - يكون بكثرة المال واتساع الحال، فهذا يجوز أن ينعم الله (عز وجل) به على أحد من مؤمن وكافر، كما قال في قصة بني إسرائيل: " وجعلكم

___________________________________

(1) ابن كوش بن سام بن نوح. وقيل: انه نمروذ بن فالخ بن عامر بن شالخ بن ارفخشذ بن سام بن نوح.

[317]

ملوكا وآتاكم مالم يؤت أحدا من العالمين "(1).

والثاني - ملك بتمليك الامر والنهي والتدبير لامور الناس، فهذا لا يجوز أن يجعله الله لاهل الضلال لما فيه من الاستفساد بنصب من هذا سبيله للناس، لانه لا يصح مع علمه بفساده إرادة الاستصلاح به كما يصح منا فيمن لايعلم باطن حاله ممن يؤمن علينا.

ومن قال الهاء كناية عن إبراهيم (ع) لم يتوجه عليه السؤال، لانه تعالى لم يؤت الكافر الملك، وإنما آتى نبيا مرسلا.

وقوله (إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت) معناه يحيي الميت ويميت الحي، فقال الكافر عند ذلك: أنا أحيي وأميت، يعنى أحييه بالتخلية من الحبس ممن وجب عليه القتل وأميت بالقتل من شئت ممن هو حي، وهذا جهل منه، لانه اعنمد في المعارضة على العبارة فقط دون المعنى، عادلا عن وجه الحجة بفعل الحياة للميت أو الموت للحي على سبيل الاختراع كما يفعله الله (تعالى) من إحياء من قتل أو مات ودفن وذلك معجز لا يقدر عليه سواه، فقال إبراهيم (إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب) ولم يكن ذلك انتقالا من إبراهيم من دليل إلى دليل آخر من وجهين: أحدهما - أن ذلك يجوز من كل حكيم بعد تمام ما ابتداء به من الحجاج، وعلامة تمامه ظهوره من غير اعتراض عليه بشبهة لها تأثير عند التأمل، والتدبر لموقعها من الحجة المعتمد عليها.

الثاني - أن إبراهيم إنما قال ذلك ليتبين أن من شأن من يقدر على إحياء الاموات وإماتة الاحياء، إن يقدر على الاتيان بالشمس من المشرق، فان كنت قادرا على ذلك فأت بها من المغرب " فبهت الذي كفر " وإنما فعل ذلك، لانه لو تشاغل معه بأني أردت اختراع الحياة والموت من غير سبب ولا علاج لاشتبه على كثير ممن حضر، فعدل إلى ما هو أوضح وأكشف، لان الانبياء (ع) إنما بعثوا للبيان والايضاح، وليس أمورهم مبنية على بناء الخصمين إذا تحاجا، وطلب

___________________________________

(1) سورة المائدة آية 22.

[318]

كل واحد غلبة خصمه، فلذلك فعل إبراهيم (ع) ما فعل وقد روي عن أبي عبدالله (ع) أن إبراهيم قال له: احيي من قتلته إن كنت صادقا، ثم استظهر عليه بما قال.

اللغة: والشمس معروفة وجمعها شموس، وقد شمس يومنا يشمس شموسا، فهو شامس: إذا اشتدت شمسه، وكذلك أشمس.

وشمس الفرس شماسا، فهو شموس، إذا اشتد نفوره، لانه كاشتداد الشمس في اليوم ما يكون من زيادة حرها، وتوقدها.

وشمس فلان إذا اشتدت عداوته.

قال الشاعر:

شمس العداوة حتى يستقاد لهم *** وأعظم الناس أحلاما إذا قدروا(1)

والشمس في القلادة وغيرها: دائرة مشرقة كالشمس.

وشمس الشئ تشميسا إذا ألقاه في الشمس، وتشمس تشمسا: إذا قعد في الشمس.

المعنى: وقوله: (فبهت الذي كفر) معناه تحير عند الانقطاع بما بان ظهور الحجة.

فان قيل هلا قال لابراهيم.

فليات ربك بها من المغرب؟ قلنا عن ذلك جوابان: أحدهما - أنه لما علم بما رأى من الايات منه أنه لو اقتراح ذلك لفعل الله ذلك فتزداد نصيحته، عدل عن ذلك، ولو قال ذلك واقترح لاتى الله بالشمس من المغرب تصديقا لابراهيم (ع).

والجواب الثاني - أنه (تعالى) خذله عن التلبيس والشبهة.

اللغة: وفي بهت ثلاث لغات: بهت على لفظ القرآن، وبهت وبهت على وزن ظرف وحذر، وحكي بهت على وزن ذهب والبهت: الحيرة عند استيلاء الحجة، لانها كالحيرة للمواجهة بالكذب، لان تحير المكذب في مذهبه كتحير المكذوب عليه،

___________________________________

(1) قائله الاخطل. اللسان " شمس ".

[319]

ومنه قوله: (أتأ خذونه بهتانا وإثما مبينا)(1) كأنه قال أتأ خذونه ادعاء للكذب فيه. وفي إبراهيم خمس لغات إبراهيم، وابراهام، وابراهم، وابراهم، وابراهم باسقاط الياء وتعاقب الحركات الثلاث عليه.

المعنى: وقوله (والله لايهدي القوم الظالمين) لايعارض قوله: (وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى)(2) لان الهدى يتصرف على وجوه وأصله واحد وهو الدلالة على الطريق المؤدي إلى البغية والله (تعالى) قد هدى جميع المكلفين بأن دلهم على طريق الحق وخص المؤمنين في هدايته لهم بالمعونة على سلوك طريق الحق، لانه بمنزلة الدلالة على طريق الحق والله (تعالى) لا يهدي للمعونة على بلوغ البغية في فساد القوم الظالمين.

وفي الاية دلالة على فساد(3) قول من يقول: المعارف ضرورة، لانها لو كانت ضرورة لما حاج إبراهيم الكافر، ولاذكر له الدلالة على إثبات الصانع، وفيها دلالة على فساد التقليد وحسن المحاجة والجدال، لانه لو كان ذلك غير جائز لما فعل إبراهيم (ع) ذلك.

قوله تعالى: أو كالذي مرعلى قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مئة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مئة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظرإلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال اعلم أن الله على كل شئ قدير(259)

آية واحدة.

___________________________________

(1) النساء آية: 19.

(2) حم السجدة آية: 12.

(3) " على فساد " ساقطة من المطبوعة.

[320]

القراء‌ة: قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، ويعقوب.

والكسائي عن أبي بكر (يتسن) بحذف الهاء وفي الواقف باثباتها بلا خلاف.

قرأ ابن عامر وأهل الكوفة (ننشزها) بالزاي الباقون بالراء.

وقرأ حمزة الكسائي (قال اعلم) بهمزة موصولة الباقون بقطعها.

الاعراب: هذه الاية معطوفة على الاية الاولى وتقديره أرأيت ك‍ (الذي حاج إبراهيم في ربه) وك‍ (الذي مر على قرية) وموضع الكاف نصب ب‍ (تر) ومعناه التعجب منه لان كلما خرج في بابه يعظمه عن حد نظائره مما يتعجب منه نحو (ما أجهله) أي قدخرج بعظم جهله عن حد نظائر، وكذلك لو قلت: هل رأيت كزيد الجاهل، لدللت على مثل الاول في التعجب، لما بينا إلا أن (ما أفعله) صيغة موضوعة للتعجب، وليس كذلك هل رأيت لانها في الاصل للاستفهام، ونحو قولك: هل رأيت في الدنانير مثل هذا الدينا فهذا استفهام محض لا تعجب فيه، لان أمثاله كثير، فلم يخرج بعظم حاله عن حد نظائره، كما خرج الاول بعظم جهله.

وقيل: الكاف زائدة للتوكيد، كما زيدت في ليس كمثله شئ والاول الوجه، لانه لا يحكم بالزيادة إلا للضرورة.

المعنى: وقال قتادة والربيع: الذي مر على قرية هو عزير، وروي ذلك عن أبي عبدالله (ع).

وقال وهب بن منبه: هو أرميا، وهو المروي عن أبي جعفر (ع).

وقال ابن إسحاق: هو الخضر، والقرية التي مر عليها.

قال وهب بن منبه، قتادة، والربيع هي بيت المقدس لما خر به بخت نصر، وقال ابن زيد: هي القرية التي خرج منها الالوف (حذر الموت).

وقوله: (وهي خاوية) معناه خالية.

وقال ابن عباس، والربيع، والضحاك خراب.

قال قوم: معناه وهي قائمة على أساسها وقد وقع وقد وقع سقفها.

[321]

وأصل الخواء(1) الخلاء قال الراجز: يبدو خواء الارض من خوليه(2) والخواء: الفرجة بين الشيئين يخلو ما بينهما. وخوت الدار فهي خاوية. تخوي خواء. إذا باد أهلها بخلوها منهم والخوى: الجوع، خوى يخوى خوى: يخلو البطن من الغذاء.

والتخوية التفريح بين العضدين والجبينين يخلو ما بينهما بتباعدهما.

والتخوية تمكين البعير لنفسه في بروكه، لانه تفحصه الارض بخلوها مما يمنع من تمكنه.

واخواء النجم: سقوطه من غير مطر بخلوه من المطر.

خوى النجم واخوى.

وخوى المنزل إذا تهدم، لانه بتهدمه يخلو من أهله وأصل الباب الخلو.

وقوله: (على عروشها) يعني على أبنيتها ومنه " وما كانوا بعرشون "(3) أي يبنون.

ومنه عريش مكة: أبنيتها وخيامها، وكل بناء: عرش، عرش يعرش ويعرش عرشا: إذا بنى.

والعرش البيت، وجمعه عروش لارتفاع أبنيته.

والعرش: السرير، لارتفاعه على غيره.

وعرش الرجل: قوام أمره وعرش البيت: سقفه، لارتفاعه.

والتعريش جعل الخشب تحت الكرم ليمتد عليه.

تقول: عرشته تعريشا.

وعرشته أعرشه عرشا.

وذلك، لارتفاعه في امتداده على الخشب الذي تعمده.

والتعريش رفع الحمار رأسه شاحيا فاه على عانته، عرش بعانته تعريشا.

والعريش ظلة من شجر أو نحوه، لارتفاعه على ما يستره.

وعرش البئر طيها بالخشب بعد طيها بالحجارة.

والعرشان من الفرس: آخر شعر العرف لارتقاع العرف على العنق.

وثل عرشه: إذا قتله.

وأصل الباب: الارتفاع.

والقرية أصلها من قريت الماء: إذا جمعته، سميت بذلك لاجتماع الناس فيها للاقامة بها.

المعنى: وقوله " انى يحيى هذه الله بعد موتها " معناه كيف، وذلك يدل على أن " انى ".

___________________________________

(1) في المطبوعة (الخوأ).

(2) في المطبوعة (خو).

(3) سورة الاعراف آية: 36.

[322]

في قوله (فأتوا حرثكم أنى شثتم)(1) معناه كيف شئتم دون ما قاله بعضهم من أن معناه حيث شئتم، لان معناه هاهنا لا يكون إلا على كيف.

ولقائل أن يقول: إن اللفظ مشترك. وإنما يستفاد بحسب مواضعه.

وقال الزجاج: معناه من أين في الموضعين.

وقوله (فأماته الله مائة عام ثم بعثه) قال أبوعلي لا يجوز أن يكون الذي أماته ثم أحياه نبيا لان الله تعالى عجب منه ولو لاذلك، لجاز أن يكون نبيا على أنه شك في ذلك قبل البلوغ لحال التكليف، ثم نبي في ما بعده، وعلى هذا لا يمتنع أن يكون نبيا في ما تقدم. والاول أقوى، وأقرب.

ويجوز هذه الاية أن تكون في غير زمان نبي.

وقال الجبائي: لايجوز ذلك لان المعجزات لاتجوز إلا للانبياء لانها دالة عليهم. فلو وقعت المعجزة في غير زمن نبي لم يكن وقوعها دليلا على النبوة، وهذا ليس بصحيح - عندنا - لان المعجزات تدل على صدق من ظهرت على يده. وربما كان نبيا وربما كان إماما أو وليا لله، وما روي أن الحياة جعلت في عينيه أولا، ليرى كيف يحيي الله الموتى لا يجوز، لان الرأي هو الانسان بكماله غير أنه يجوز أن يكون أول ما نفخ فيه الروح عيناه، وتكون الحياة قد وجدت في جميع الروح، ولم يحصل في البدن من الروح إلا ما في العينين دون ما في البدن.

اللغة، والمعنى: وقوله: (مئة عام) معناه ومئة سنة، والعام جمعه أعوام، وهو حول يأتي بد شتوه وصيفة، لان فيه سبحا طويلا بما يكن من التصرف فيه.

والعوم: السباحة. وعام في الماء يسوم عوما: إذا سبح. والسفينة تعوم في جريها.

والابل تعوم في سيرها، لانها تسبح في السير بجريها.

والاعتيام: اصطفاء خيار مال الرجل ليجري(2) في أحده له شيئا بعد شئ كالسابح في الماء الجاري

___________________________________

(1) سورة البقرة آية 205.

(2) في المطبوعة (لايجري)

[323]

واعتام الموت النفوس أولا أولا، لانه يجري في أحدها حالا بعد حال كجري السابح في الماء، وأصل الباب السبح.

وقوله: (ثم بعثه) يعني أحياه.

وقوله: (كم لبثت) موضع نصب بلبثت، كأنه قيل: أمائة سنة لبثت أو أقل أوأ كثر؟ فقال (لبثت يوما أو بعض يوم) لان الله تعالى أماته في أول النهار وأحياه بعد مائة سنة في آخر النهار، فقال: " يوما " ثم التفت فرأى بقية من الشمس فقال " أو بعض يوم ". واللبث المكث، لبث لبثا فهو لابث وتلبث تلبثا إذا تمكث ولبثه تلبيثا، وأصل الباب المكث.

وقوله: (فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه) معناه لم تغيره السنون.

وقيل: كان زاده عصيرا وتينا وعنبا، فوجد العصير حلوا، والتين، والعنب كما جناه لم يتغير، أو هو مأخوذ من السنة، والاصل فيه على قولهم: سانيته مساناة اذا عاملته سنة سنة أن يكون في الوصل لم يتسن، نحو لم يتعد، والاصل الواو، بدليل قولهم سنوات فاذا وقف جاء بهاء السكت، ويجوز أن يكون على قولهم: سانهة وسنهات، واكتريت مسانهة.

والهاء على هذا أصلية مجزومة بلم، ولا يجوز أن يكون من الاسن، لانه لو كان منه لقيل لم يتأسن.

قال الزجاج لايجوز أن يكون من قوله: " من حمأمسنون "(1) لان معنى مسنون منصوب على سنة الطريق قال الشاعر:

ليست بسنهاء ولارجبية *** ولكن عرايا في السنين الجوائح(2)

فجعل الهاء أصلية.

والسنهاء: النخلة القديمة، لانه قد مرت عليها سنون كثيرة.

___________________________________

(1) سورة الحجر آية: 2، 28، 33.

(2) قائله سويد بن الصامت الانصاري وقيل احيحة بن الجلاح.

اللسان (عرا)، (خور)، (رحب)، (قرح)، (سنه) وأمالى القالى 1: 21.

الرجية - بضم الراء وتشديد الجيم المفتوحة أو فتحها بغير تشديد -: نسبة شاذة إلى رجية - ضم فسكون -: البناء تحت النخلة الكريمة لدعمها اذا خيف عليها لكثرة حملها والعرايا جمع عرية وهي التي يوهب ثمرها في عامها. الجوائح: السنين المجدبة.

[324]

وإنما علم بأنه مات مائة سنة بشيئين: أحدهما - باخبار من اراه المعجزة في نفسه وحماره وطعامه، وشرابه من تقطع أوصاله، ثم اتصال بعضها إلى بعض حتى رجع إلى حاله التي كان عليها في أول أمره.

والاخر - بالايات الدالة على ذلك لما رجع إلى وطنه فرأى ولد ولده شيوخا وقد كان خلف أباهم شبابا إلى غير ذلك من الامور التي تغيرت، والاحوال التي تقلبت مع تظاهر الاخبار عما يسأل عنه أنه كان في مائة سنة.

وقوله: (ولنجعلك آية للناس) قيل بعث وأولاد أولاده شيوخ.

وروي عن علي (ع) أن عزيرا خرج من أهله وامرأته حامل وله خمسون سنة. فأماته الله مائة سنة، ثم بعثه فرجع إلى أهله ابن خمسين سنة وله ابن له مائة سنة، فكان ابنه أكبر منه، وذلك من آيات الله.

وقيل: لتتعظ أنت ويتعظ الناس بك، فيكون الاعتبار عاما. ودخلت الواو في الكلام لاتصال اللام بفعل محذوف كأنه قال: ولنجعله آية للناس. فعلنا ذاك، لان الواو لو سقطت اتصلت اللام بالفعل المتقدم.

وقوله: (وانظر إلى حمارك) فالحمار يقال للوحشي والاهلي لان الحمرة أغلب على الوحشي ثم صار لكل حمار تشبيها بالوحشي، والحمرة لون أحمر تقول: احمر احمرارا واحمارا حميرارا والحمر: فرس هجين، لانه كالحمار في التقصير، وحمارة القيظ: شدة حره، وحمار السرج الذي يركبه السرج وحمر فو الفرس يحمر حمرا إذا انتن. والحمارة حجارة عريضة توضع على اللحد لركوب التراب عليها كالحمار وجمعها حمائر.

وما يخفى على الاسود والاحمر أي العرب والعجم، لان السواد أغلب على لون العرب كما الحمرة أغلب على العجم.

وموت أحمر: شديد مشبه بحمرة النار في شدة الايقاد.

وعبث حمرشديد، وأصل الباب الحمرة.

ومنه الحمرة طائر كالعصفور، لانه تغلب عليه الحمرة.

وقوله: (وانظر إلى العظام كيف ننشزها) فمن قرأ بالراء غير المعجمة

[325]

ذهب إلى النشور، وهو الحياة بعد الموت.

ونشر الميت: إذا عاش ونشره الله وأنشره: إذا أحياه.

ومنه قوله (ثم أنشأناه خلقا آخر)(1) وقوله: " ثم إذا شاء أنشره "(2) والنشر خلاف الطي.

يقال: نشرت الثوب وغيره أنشره نشرا وانتشر انتشارا.

والنشر إذاعة الحديث والنشر: الرائحة الطيبة، وربما قيل في الخبيثة.

والنشر نحت(3) العود بالمنشار.

والنشر نبات الربيع.

والنشر: اكتساء البازي ريشا واسعا طويلا.

والنشرة عن المريض الرقية حتى يفيق والتناشر: عرض كتابة الغلمان على المعلم ينشرونه عليه أي يرونه إياه، وذلك لبسط الكتاب بين يديه.

وأصل الباب الانبساط.

ومن قرأ بالزاء فمعناه يرفع بعضها إلى بعض وأصل النشوز: الارتفاع فمنه النشز المرتفع من الارض.

ومنه نشوز المرأة رفعها عن طاعة زوجها.

وقوله: (ثم نكسوها لحما) معناه نغطيها باللحم كما نغطي باللباس.

وإنما قيل ذلك لاجل التفصيل الذي كان عليه، فوصله الله عزوجل حتى صار كجزء.

منه قال الجعدي(4):

فالحمد لله إذا لم يأتني أجلي *** حتى اكتسيت من الاسلام سربالا(5)

فجعل الاسلام غطاء للكفر كما يجعل غطاء لملعصية قوله (فلما تبين له) أي ظهر.

" قال اعلم " فمن قطع الهمزة جعل ذلك أخبارا عن نفسه ومن وصلها احتمل أمرين: أحدهما - أن يكون ذلك أمرا من الله له. والثاني - أن يكون تذكيرا للنفس بالواجب وأخرجه مخرج الامر لها كأنه قال: يا أيها الانسان.

وفي الاية دليل على بطلان قول من قال: المعارف ضرورة، لانه لما شك أراه الله الايات التي

___________________________________

(1) سورة المؤمنون آية: 14.

(2) سورة عبس آية: 22.

(3) في المطبوعة (حث).

(4) هو النابغة الجعدي. وقيل: انه للبيد بن ربيعة العامري وقيل: لقردة بن فاثة السلولي.

(5) ديوان النابغة: 86.

[326]

استبصر بها ولو كان مضطرا إلى المعرفة بالله وما يجوز عليه وما لا يجوز لم يحتج إلى دليل يعلم به ما هو مضطر إليه وكان يقال: ان عند الموت لم تحصل له المعارف الضرورية كما يحصل لمن لايريد الله إعادته إلى التكليف فتكون الاماتة كالنوم. والمعلوم خلافه.




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21398423

  • التاريخ : 18/04/2024 - 03:27

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net