00989338131045
 
 
 
 
 
 

  سورة البقرة ( من آية 81 ـ 102) 

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : التبيان في تفسير القرآن ( الجزء الاول)   ||   تأليف : شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي


قوله تعالى: بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون(81)

آية بلا خلاف.

الاعراب والقراء‌ة: قرأ اهل المدينة خطيئاته على الجمع. الباقون على التوحيد.

قوله " بلى "

جواب لقوله: " لن تمسنا النار إلا اياما معدودة " فرد الله عليهم بأن قال: " بلى من احاطت به خطيئته " ابدا. وبلى تكون جوابا للاستفهام الذي اوله جحود. وتكون جوابا للجحد وان لم تكن استفهاما، كقوله: " تقول

___________________________________

(1) سورة يونس: آية 59.

(2) سورة الملك: آية 16.

[325]

حين ترى العذاب " إلى قوله " بلى قد جاء‌تك آياتي فكذبت بها "(1).

ويقول القائل لم افعل كذا وكذا فيقول له غيره: بلى قد فعلت. بلى ونعم جوابان: أحدهما - يدخل فيما لا يدخل فيه الآخر، لان بلى تدخل في باب الجحود.

وقال الفراء: انما امتنعوا من استعمال نعم في جواب الجحد، لانه اذا قال لغيره مالك علي شئ فقال له نعم، فكأنه قد صدقه، وكأنه قال نعم ليس لي عليك شئ، فلهذا اختلف نعم وبلى.

وقوله: " سيئة " فمن همز اتى بيائين بعدهما همزة. ومن ترك الهمزة على لغة أهل الحجاز يقول " سية " مثل عية. ومن لين قال " سيئة " كأنه يشير إلى الهمزة ويسكنها.

المعنى: قال مجاهد، وابن عباس وابووايل، وقتادة وابن جريج: " السيئة " هاهنا الشرك.

وقال السدي: الذنوب التي وعد الله عليها النار.

والذي يليق بمذهبنا هاهنا قول مجاهد، لان ما عدا الشرك لا يستحق عندنا عليه الخلود في النار.

" وأحاطت به خطيئته ".

قال ابن عباس ومجاهد انها الشرك.

وقال الربيع ابن خيثم: من مات عليها.

وقال ابن السراج: هي التي سدت عليه مسالك النجاة.

وقال جميع المعتزلة: انه اذا كان ثوابه اكثر من عقابه.

والذي نقوله: الذي يليق بمذهبنا ان المراد بذلك الشرك والكفر. لانه الذي يستحق به الدخول مؤبدا. ولا يجوز ان يكون مرادا بالآية.

وقوله: " واحاطت به خطيئته " يقوي ذلك، لان المعنى فيه ان تكون خطاياه كلها اشتملت عليه ولا يكون معه طاعة يستحق بها الثواب، تشبيها بما احاط بالشئ من كل وجه. ولو كان معه شئ من الطاعات، لكان مستحقا للثواب فلا تكون السيئة محيطة به، لان الاحباط عندنا باطل فلا يحتاج إلى تراعي كثرة

___________________________________

(1) سورة الزمر آية 58، 59.

[326]

العقاب، وقلة الثواب، لان قليل الثواب عندنا يثبت مع كثرة العقاب، لما ثبت من بطلان التحايط بادلة العقل. وليس هذا موضع ذكرها، لان الآية التي بعدها فيها وعد لاهل الايمان بالثواب الدائم. فكيف يجتمع الثواب الدائم والعقاب الدائم، وذلك خلاف الاجماع؟ ومتى قالوا احدهما يبطل صاحبه، قلنا الاحباط باطل ليس بصحيح على ما مضى.

قوله تعالى: والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون(82)

آية.

هذه الآية متناولة(1) لمن آمن بالله وصدق به، وصدق النبي صلى الله عليه وآله وعمل الصالحات التي اوجبها الله تعالى عليه، فانه يستحق بها الجنه خالدا ابدا. وظاهرها يمنع من ان مرتكب الكبيرة مخلد في النار، لانه اذا كان مؤمنا مستحقا للثواب الدائم، فلا يجوز ان يستحق مع ذلك عقابا دائما، لان ذلك خلاف ما اجمع المسلمون عليه ومتى عادوا إلى الاحباط، كلموا فيه بينهم وبين بطلان قولهم.

قوله تعالى: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنا واقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثم توليتم إلا قليلا منكم وانتم معرضون(83)

آية بلا خلاف.

القراء‌ة: قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي: " لا يعبدون " بالياء. الباقون بالتاء.

___________________________________

(1) في المخطوطة والمطبوعة (متأولة) بدل (متناولة).

[327]

وقرأ " حسنا " بنصب(1) الحاء والسين(2) حمزة والكسائي الباقون " حسنا " بضم الحاء وإسكان السين وتقدير الآية: واذكروا ايضا يا معشر بني اسرائيل اذ أخذنا ميثاقكم لا تعبدون إلا الله، فلما اسقطت ان، رفع.

كما قال الشاعر:

ألا ايهذا اللائمي اشهد الوغى *** وان اشهد اللذات هل انت مخلدي(3)

ومثله قوله: " افغير الله تأمروني اعبد ".

ومن قرأ بالياء، تقديره انه اخبر انه تعالى أخذ ميثاقهم، لايعبدون إلا الله، وبالوالدين احسانا، ثم عدل إلى خطابهم فقال: " وقولوا للناس حسنا ". والعرب تفعل ذلك كثيرا.

وانما استخاروا ان يصيروا إلى المخاطبة بعد الخير، لان الخبر انما كان عمن خاطبوه بعينه، لاعن غيره. وقد يخاطبون، ثم يصيرون بعد ذلك إلى الخبر عن المخاطب.

مثال الاول قول الشاعر:

شطت مزار العاشقين فاصبحت *** عسرا علي طلابك ابنة مخزم(4)

مزار نصب. والتاء من اصبحت كناية عن المرأة فأخبر عنها ثم خاطبها.

ومثال الثاني قول الشاعر:

اسيئي بنا أو احسني لا ملومة *** لدنيا ولا مقلية ان تقلت(5)

وقال زهير:

فاني لو إلاقيك اجتهدنا *** وكان لكل منكره كفاء

وابري موضحات الرأس منه *** وقد يبرى من الجرب الهناء

ومن قرأ بالتاء فان الكلام من أوله خطاب.

وتقديره: واذ اخذنا ميثاق بني اسرائيل، قلنا لا تعبدوا الا الله.

قال بعض النحويين: المعنى واذ أخذنا ميثاق بني اسرائيل لا تعبدون الا الله، وبالوالدين

___________________________________

(1) في المخطوطة والمطبوعة هكذا والصحيح بفتح.

(2) في المطبوعة " الصواب وبفتح الحاء والسين " زائدة.

(3) قائله طرفه بن العبد البكري ديوانه: 317. من معلقته المشهورة.

وروايته: " الزاجر " بدل " اللائم ". واحضر - في الموضعين - بدل (اشهد).

(4) قائله عنترة بن شداد. اللسان (شطط) وروايته (طلابها) بدل (طلابك) وفي معلقته هكذا:

حلت بارض الزائرين فاصبحت *** عسرا علي طلابك ابنة مخرم

(5) قائله كثير عزة، ديوانه 1: 53. قلاه يقليه قلى فهو مقلي: كرهه. وتقلى أي استعمل من القول أو الفعل ما يدعو إلى بغضه.

[328]

احسانا، حكاية، كأنه قال استحلفناهم لا يعبدون إلا الله، اذ قلنا لهم: والله لو قالوا والله لا تعبدون.

والاول اجود.

وقوله تعالى: " وبالوالدين احسانا " عطف على موضع أن المحذوفة في " تعبدون إلا الله وبالوالدين احسانا " فرفع لا تعبدون، لما حذفت أن، ثم عطف بالوالدين على موضعها: كما قال الشاعر:

معاوي اننا بشر فاسجح *** فلسنا بالجبال ولا الحديدا(1)

فعطف(2) ولا الحديد على موضع الجبال.

واما الاحسان فمنصوب بفعل مضمر يؤدى عن معناه، قوله(3) " وبالوالدين " اذ كان مفهوما معناه.

وتقدير الكلام: واذ اخذنا ميثاق بني اسرائيل بان لا تعبدوا إلا الله وان تحسنوا إلى الوالدين احسانا.

وفاكتفى بقوله: " بالوالدين " عن ان يقول بان تحسنوا إلى الوالدين احسانا، اذ(4) كان مفهوما بما ظهر من الكلام.

وقال بعض اهل العربية: تقديره وبالوالدين فاحسنوا، فجعل الياء التي في الوالدين من صلة الاحسان مقدمة عليه.

وقال آخرون: الا تعبدوا إلا الله واحسنوا بالوالدين احسانا، فزعموا ان الباء في وبالوالدين من صلة المحذوف. اعني من احسنوا.

فجعلوا ذلك من كلامين والاحسان الذي اخذ عليهم الميثاق بان يفعلوه إلى الوالدين ما فرض على امتثالهما من فعل المعروف، والقول الجميل، وخفض جناح الذل رحمة بهما، والتحنن عليهما، والرأفة بهما، والدعاء لهما بالخير، وما اشبهه مما ندب الله تعالى إلى الفعل بهما.

وقوله: " ذي القربي " أي وبذي القربى ان تصلوا قرابة منهم، ورحمة.

اللغة: والقربى مصدر على وزن فعلى من قولك: قرب مني رحم فلان قرابة، وقربى وقربا بمعنى واحد.

___________________________________

(1) قائله عقيبة بن هبيرة الاسدي، جاهلي اسلامي. الخزانة: 343.

(2) في المطبوعة " فعطت ".

(3) في المطبوعة والمخطوطة " وقوله " على ما يظهر ان الناسخ زاد الواو لانه لم يفهم معنى الكلام.

(4) في المطبوعة والمخطوطة " اذا " الالف ايضا زيادة من الناسخ.

[329]

واليتامى جمع يتيم: مثل اسير واسارى. ويدخل في اليتامى الذكور منهم والاناث

المعنى: ومعنى ذلك: اخذنا ميثاق بني اسرائيل بان لا تعبدوا إلا الله وحده، دون ما سواه من الانداد، وبالوالدين احسانا وبذي القربى ان يصلوا رحمه، ويعرفوا حقه. وباليتامى ان يتعطفوا عليهم بالرأفة، والرحمة، وبالمساكين أن يوفوهم حقوقهم التي ألزمها الله في اموالهم. والمسكين هو المتخشع المتذلل من الفاقة والحاجة وهو مفعيل من المسكنة وهي ذل الحاجة والفاقة.

وقوله: " وقولوا للناس حسنا " فيه عدول إلى الخطاب بعد الخبر على مامضى القول فيه.

وقد ذكرنا اختلاف القراء في حسنا وحسنا. واختلف اهل اللغة في الفرق بينهما فقال بعض البصريين هو(1) على احد وجهين: أحدهما - أن يكون أراد بالحسن الحسن. ويكون لمعنيين مثل البخل والبخل واما ان يكون جعل الحسن هو الحسن في التشبيه، لان الحسن مصدر والحسن هو الشئ الحسن، فيكون ذلك: كقول القائل: انما انت أكل وشرب قال الشاعر:

وخيل قد دلفت لها بخيل *** تحية بينهم ضرب وجيع(2)

فجعل التحية ضربا وقال آخر: بل الحسن هو الاسم العام الجامع جميع معاني الحسن، والحسن هو البعض من معاني الحسن، ولذلك قال تعالى اذ(3) وصى بالوالدين " ووصينا الانسان بوالديه حسنا "(4) يعني بذلك انه وصاه بجميع معاني الحسن: وقرئ في الشواذ: حسنى. لايقرء بها لشذوذها حكاها الاخفش. وذلك لا يجوز لان فعلى، وافعل لا يستعمل إلا بالالف واللام. نحو الاحسن والحسنى والافضل

___________________________________

(1) في المطبوعة والمخطوطة (المصريين) وهو خطأ.

(2) قاله عمرو بن معد يكرب. الخزانة 4: 54. يقال دلفت الكتيبة إلى الكتيبة في الحرب: أي تقدمت.

(3) في المطبوعة والمخطوطة (اذا) بزيادة الالف وهو خطأ.

(4) سورة العنكبوت: آية 9.

[330]

والفضلى قال الله تعالى: " للذين احسنوا الحسنى "(1) وروي عن أبي جعفر محمد ابن علي الباقر " ع " وعن عطا انهما قالا: وقولوا للناس حسنا للناس كلهم.

وعن الربيع بن انس قولوا للناس حسنا: أي معروفا.

وعن ابن الحنفية انه قال: " هل جزاء الاحسان إلا الاحسان " هي مسجلة للبر والفاجر.

يريد بمسجلها انها مرسلة.

ومنهم من قال: امروا بان يقولوا لبنى اسرائيل حسنا.

قال ابن عباس يأمرون بألا اله الا الله، من لم يقبلها ويرغب عنها حتى يقولها: كما قالوها.

فان ذلك قربة لهم من الله قال: والحسن ايضا من لين القول - من الادب الحسن الجميل - والخلق الكريم وهو مما ارتضاه(2) الله تعالى واحبه.

وقال ابن جريج: قولوا للناس حسنا: أي صدقا في شأن محمد " ص " وقال سفيان الثوري: مروهم بالمعروف، وانهوهم عن المنكر وقوله: " واقيموا الصلاة " ادوا بحدودها الواجبة عليكم. " وآتوا الزكاة " معناه واعطوها اهلها كما اوجبها عليكم. والزكوة: التي فرضها الله على بنى اسرائيل.

قال ابن عباس: كان فرض في اموالهم قربانا تهبط اليه نار فتحملها. وكان ذلك تقبله. ومن لم تفعل النار به ذلك، كان غير متقبل.

وروي عنه أيضا ان المعني به طاعة الله والاخلاص.

وقوله: " ثم توليتم إلا قليلا منكم وانتم معرضون " خبر من الله تعالى عن يهود بني اسرائيل انهم نكثوا عهده، ونقضوا ميثاقه بعد ما اخذ ميثاقهم على الوفاء له، بان لا يعبدوا غيره، وبان يحسنوا إلى الآباء والامهات، ويصلوا الارحام، ويتعطفوا على الايتام، ويردوا حقوق المساكين، ويأمروا عباد الله بما امرهم به، ويقيموا الصلاة بحدودها، ويؤتوا زكاة اموالهم، فخالفوا امره في ذلك كله، وتولوا عنه معرضين إلا من عصمه الله منهم، فوفى لله بعهده، وميثاقه. ووصف هؤلاء بأنهم قليل بالاضافة إلى من لم يؤمن.

وقال بعضهم: أراد " ثم توليتم إلا قليلا منكم، وانتم معرضون ": اليهود الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله. وعنى

___________________________________

(1) سورة يونس: آية 26.

(2) في المطبوعة " ارتضا " بدون الهاء.

[331]

بسائر الآية اسلافهم، كأنه ذهب إلى ان معنى الكلام: ثم توليتم إلا قليلا منكم ثم تولى سلفكم إلا قليلا منهم، ثم قال: وانتم معاشر بقاياهم معرضون ايضا عن الميثاق الذي اخذ عليكم.

وقال قوم: يلى قوله: (ثم توليتم إلا قليلا منكم وانتم معرضون) خطاب لمن كان بين ظهراني مهاجري رسول الله " ص " من يهود بنى اسرائيل، وذم لهم بنقضهم الميثاق، الذي اخذ عليهم في التوراة، وتبديلهم امر الله وركوبهم معاصيه.

وروي عن ابن عباس انه قال: قوله " وقولوا للناس حسنا " نسخ بقوله: قاتلوهم حتى يقولوا لا إله إلا الله أو يقروا بالجزية.

وقال آخرون: ليست منسوخة لكن امروا بأن يقولوا حسنا في الاحتجاج عليهم، اذا دعوا إلى الايمان، وبين ذلك لهم.

وقال قتادة نسختها آية السيف.

الصحيح انها ليست منسوخة، وانما امر، الله تعال بالقول الحسن في الدعاء اليه والاحتجاج عليه، كما قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله " ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن "(1) وبين في آية اخرى، فقال: " ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم(2) وليس الامر بالقتال ناسخا لذلك، لان كل واحد منهما ثابت في موضعه

قوله تعالى: وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماء‌كم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون(84)

آية بلا خلاف

المعنى: قد بينا فيما مضى أن الميثاق هو العهد.

والمعنى في الآية: واذكروا اذ اخذنا ميثاق اسلافكم الذين كانوا في زمن موسى، والانبياء الماضين (ع)، وانما اضاف اليهم لما كانوا أخلافا(3) لهم على ما مضى القول فيه.

___________________________________

(1) سورة النحل آية: 125.

(2) سوره الانعام آية: 108.

(3) هذه عبارة المخطوطة وفي المطبوعة: " كانوا خلافا على ".

[332]

وتقدير الاعراب في هذه الآية مثل الآية الاولى سواء.

واما سفك الدم، فانه صبه واراقته.

ومعنى " لا تسفكون دماء‌كم ولاتخرجون انفسكم من دياركم " النههي عن أن يقتل بعضهم بعضا، وكان في قتل الرجل منهم قتل نفسه اذا كانت ملتهما واحدة، ودينهما واحد وكان اهل الدين الواحد في ولاية بعضهم بعضا بمنزلة رجل واحد.

كما قال النبي صلى الله عليه وآله: انما المؤمنون في تعاطفهم وتراحمهم بينهم بمنزلة الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى سائر الجسد بالحمى والسهر.

فهذا قول قتادة وابي العالية.

ويحتمل ان يكون المراد لا يقتل الرجل منكم غيره فيقاد به قصاصا. فيكون بذلك قاتلا نفسه، لانه كالسبب فيه واضيف قتل الولي اياه قصاصا اليه بذلك. كما يقال لرجل يعاقب لجناية جناها على نفسه: انت جنيت على نفسك.

وفيه قول ثالث: وهو ان قوله: " انفسكم " اراد به اخوانكم، لانهم كنفس واحدة.

وقوله: " ثم اقررتم وانتم تشهدون " اي اقررتم بذلك ايضا، وبذلتموه من انفسكم، وانتم شاهدون على من تقدمكم باخذنا منهم الميثاق، وما بذلوه من انفسهم. فذكر تعالى اقرارهم وشهادتهم، لان اخذ الميثاق كان على اسلافهم - وإن كان لازما للجميع، لتوكيد الحجة عليهم. -

وقال بعض المفسرين: نزلت هذه الآية في بني قريظة والنضير.

يقول: حرم الله في الكتاب ان تسفكوا دماء‌كم، اي لا تقتتلوا فيقتل بعضكم بعضا(1)، ولا تتركوا اسيرا في يد الآسرين ليقتلوه " ولا تخرجوا انفسكم من دياركم " معناه لا تغلبوا احدا على داره، فتخرجوه، فقبلتم ذلك واقررتم به. وهو اخذ الميثاق " وانتم تشهدون " بذلك.

واما النفس فمأخوذة من النفاسة، وهي الجلالة فنفس الانسان انفس مافيه. والدار هي المنزل الذي فيه ابنية المقام، بخلاف(2) منزل الارتحال.

___________________________________

(1) في المخطوطة " لا تقلوا ". وعبارة المطبوعة هكذا: " لا يقتلوا فيقتل بعضكم ولا تتركوا... ".

(2) في المطبوعة " بجلال ".

[333]

وقال الخليل: كل موضع حل فيه قوم فهو دار لهم - وان لم يكن فيه ابنية.

وقيل ايضا: إن معنى قوله: " ثم اقررتم وانتم تشهدون " ان اقرارهم هو الرضاء به، والصبر عليه: كما قال الشاعر:

الست كليبيا اذ سيم خطة *** اقر كاقرار الحليلة للبعل

وقوله: " وانتم تشهدون " يحتمل امرين: احدهما - وانتم تشهدون على انفسكم بالاقرار. والثاني - وانتم تحضرون دماء‌كم. ويخرجون انفسكم من دياركم.

وحكي عن ابن عباس انه قال: ذلك خطاب من الله تعالى لليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجري رسول الله صلى الله عليه وآله أيام هجرته اليهم موبخا لهم على تضييعهم احكام ما في ايديهم من التوراة التي كانوا يقرون بحكمها.

فقال الله تعالى لهم: " ثم اقرتم " يعني بذلك اقر أو لكم وسلفكم وانتم تشهدون على اقرارهم، باخذ الميثاق عليهم بان لا يسفكوا دماء‌هم، ولا يخرجوا انفسهم من ديارهم، ويصدقوا بان ذلك حق من ميثاقي عليكم.

وقال ابوالعالية: ذلك خبر من الله عن أوائلهم.

ولكنه اخرج الخبر مخرج المخاطبة عنهم على النحو الذي وصفناه في سائر الآيات. " وانتم تشهدون " اي وانتم شهود.

قوله تعالى: ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالاثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم اخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحيوة الدنيا ويوم القيمة يردون إلى اشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون(85)

آية بلا خلاف.

[334]

القراء‌ة: قرأ اهل الكوفة تظاهرون هاهنا، وفي التحريم بتخفيف الظاء. الباقون بالتشديد فيهما.

وقرأ حمزة " أسرى " بفتح الهمزة، وسكون السين بغير الف بعدها.

وقرأ اهل المدينة، وعاصم، والكسائي ويعقوب (تفادوهم) بضم التاء وبألف.

وقوله " ثم انتم هؤلاء " يحتمل وجهين: احدهما - ان يكون اريد به ثم انتم يا هؤلاء فترك يا استغناء، لدلالة الكلام عليه: كما قال " يوسف: اعراض عن هذا "(1) ومعنى الكلام ثم انتم يامعشر يهود بني اسرائيل بعد اقراركم بالميثاق الذي اخذته عليكم: ألا تسفكوا دماء‌كم، ولا تخرجوا انفسكم من دياركم، وبعد شهادتكم على انفسكم بذلك انه حق لازم لكم الوفاء به تقتلون انفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم متعاونين عليهم في اخراجكم اياهم بالاثم، والعدوان.

والتعاون هو التظاهر، وانما قيل للتعاون: التظاهر، لتقوية بعضهم ظهر بعض. فهو تفاعل من الظهر. هو مساندة بعضهم ظهره إلى ظهر بعض.

قال الشاعر:

تظاهرتم اشباه نيب تجمعت *** على واحد لازلتم قرن واحد

ومنه قوله تعالى: " وان تظاهروا عليه فان الله هو مولاه " وقوله " والملائكة بعد ذلك ظهير "(2) وقوله: " ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا "(3) وقوله: " سحران تظاهرا "(4) وقوله: " وكان الكافر على ربه ظيرا "(5) ويقال: اتخذ معك نفرا ونفرين ظهيرين يعني عدة، والوجه الآخر أن يكون معناه: ثم انتم القوم تقتلون انفسكم فيرجع إلى الخبر عن (انتم) وقد اعترض بينهم وبين الخبر عنهم (هؤلاء) كما تقول العرب: انا ذا أقوم، وانا ذا أجلس.

ولو قيل أنا هذا يجلس لكان صحيحا.

وكذلك انت ذاك تقوم، وقال بعض النحويين: ان هؤلاء (في)(6)

قوله: " ثم انتم هؤلاء " تنبيه، وتوكيد لانتم. وزعم أن انتم: وان كان كناية عن

___________________________________

(1) سورة يوسف: آية 30.

(2) سورة التحريم: آية 4.

(3) سورة الاسرى: آية 88.

(4) سورة القصص: آية 48.

(5) سورة الفرقان: آية 55.

(6) زودنا (في) ليتم المعنى.

[335]

اسماء جميع المخاطبين فانما جازان يؤكد بهؤلاء.

وأولاء يكنى بها عن المخاطبين كما قال خفاف بن ندبة

اقول له والرمح يأطر متنه *** تبين خفافا انني انا ذلكا(1)

يريد انا هو، وكما قال " حتى اذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة ".(2)

والاثم قيل معناه: هو ما تنفر منه النفس ولم يطمئن اليه القلب.

ومنه قول النبي صلى الله عليه وآله لنواس بن سمعان، حين سأله عن البر والاثم، فقال صلى الله عليه وآله: البر ما اطمأنت اليه نفسك والاثم ما حك في صدرك.

وقال قوم: معنى الاثم(3) ما يستحق عليه الذم، وهو الاصح. والعدوان مجاوزة الحق.

وقال قوم: هو الافراط في الظلم. واسرى جمع اسير واسارى جمع اسرى.

كما قالوا: مريض ومرضى وجريح وجرحى وكسير وكسرى.

هذا قول المفضل بن سلمة قال ابوعمرو بن العلاء: الاسارى هم الذين في الوثاق والاسرى الذين في اليد. ان لم يكونوا في الوثاق.

ومعنى تفادوهم أو تفدوهم: طلب الفدية من الاسير الذي في ايديهم من اعدائهم.

قال الشاعر:

قفي فادي اسيرك إن قومي *** وقومك ما أرى لهم اجتماعا

وكان هذا محرما عليهم - وان كان مباحا لنا - فذكر الله تعالى توبيخا لهم في فعل ما حرم عليهم.

وقال آخرون: انه افتداء الاسير منهم اذا اسره اعداؤهم. وهذا مدح لهم ذكره من بعد ذمهم انهم خالفوه في سفك الدماء، وتابعوه في افتداء

___________________________________

(1) الاغاني 2: 329، 13: 134، 135، 16: 134 وقد مر في 1: 51 من هذا الكتاب.

قال هذا في مقتل ابن عمه معاوية بن عمرو: أخي الخنساء.

اقول له: أي لمالك ابن حمار الذي مر ذكره في البيت السابق وهو:

فان تك خيلي قد اصيب صميمها *** فعمدا على عين تيممت مالكا

واطر الشئ: ان تقبض على احد طرفي الشئ ثم تعوجه، وتعطفه وتثنيه. واراد ان حر الطعنة جعله منثني من المها ثم ينثني ليهوي صريعا اذ أصاب الرمح مقتله. في المطبوعة " ناظر فنه " بدل " يأطر متنه " وهو تحريف.

(2) سورة يونس آية 22.

(3) في المخطوطة والمطبوعة " الاسم ".

[336]

الاسرى استشهادا على هذا الباطل بقوله: " أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض " وقال قوم: الفرق بين تفدوهم وتفادوهم، ان تفدوهم هو افتكاك بمال وتفادوهم هو افتكاك الاسرى بالاسرى.

اختلفوا فيمن عنى بهذه الآية فروى عكرمه عن ابن عباس انه قال: " ثم انتم هؤلاء تقتلون انفسكم " إلى قوله: والعدوان أي اهل الشرك، حتى يسفكوا دماء‌هم معهم، ويخرجوهم من ديارهم معهم قال: انبأهم الله بذلك من فعلهم، وقد حرم عليهم في التوراة سفك دمائهم، وافترض عليهم فيها فداء اسراهم.

وكانوا فريقين: طائفة منهم بنو قينقاع(1) وانهم حلفاء الخزرج. وحلفاء النضير وقريظة، وانهم حلفاء الاوس. وكانوا اذا كانت بين الاوس والخزرج حرب خرجت بنو قينقاع(2) مع الخزرج، وخرجت بنو النضير وقريظة مع الاوس، يظاهر كل فريق حلفاء‌ه على اخوانه، حتى يتسافكوا دماء‌هم بينهم وبايديهم التوراة، يعرفون منها ما عليهم ولهم.

والاوس والخزرج اهل شرك يعبدون الاوثان ولا يعرفون جنة ولا نارا، ولا قيامة ولا كتابا، ولا حلالا ولا حراما، فاذا وضعت الحرب اوزارها افتدوا اسراهم تصديقا لما في التوارة، واخذا به يفتدي بنو قينقاع من كان (من)(3) اسراهم في ايدي الاوس، ويفتدي بنو النضير وقريظة ما كان في ايدي الخزرج. ويطلبون ما اصابوا من الدماء، وما قتلوا من قتلوا منهم، فيما بينهم مظاهرة لاهل الشرك عليهم.

يقول الله تعالى حين انبأهم بذلك: " أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض؟ " أي تفادونهم بحكم التوراة وفي حكم التوراة ان لا يقتل ويخرج من داره ويظاهر(4) عليه من يشرك بالله ويعبدو الاوثان من دونه - ابتغاء عرض الدنيا - ففي ذلك من فعلهم مع الاوس والخزرج نزلت هذه القصة.

وذكر فيه اقوال اخر تزيد وتنقص لا فائدة في ذكرها، معناها متقارب لما اوردناه.

وقوله " يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم اخراجهم أفتؤمنون ببعض

___________________________________

(1 و 2) في المخطوطة والمطبوعة " قيقاع " وهو خطأ.

(3) زدنا " من " لانه لا يتم المعنى بدونها.

(4) في المخطوطة والمطبوعة " ان لا يقتل ويخرجونه من وتظاهر.. ".

[337]

الكتاب وتكفرون ببعض " القصد بذلك توبيخهم وتعنيفهم على سوء افعالهم.

فقال: ثم انتم بعد اقراركم بالميثاق الذي أخذته عليكم: " لا تسفكوا دماء‌كم ولا تخرجوا انفسكم من دياركم " تقتلون انفسكم يعني يقتل بعضكم بعضا. وانتم مع قتلكم من تقتلون منكم. اذا وجدتم اسيرا منكم في ايدي غيركم من اعدائكم تفدونهم. ويخرج بعضكم بعضا من ديارهم، وقتلكم اياهم واخراجكم اياهم من ديارهم حرام عليكم كما حرام عليكم تركهم اسرى في ايدي عدوكم. فكيف تستجيزون قتلهم ولا تستجيزون ترك فدائهم. وتستجيزون قتلهم وهما جميعا في اللازم لكم من الحكم فيهم سواء، لان الذي حرمت عليكم من قتلهم واخراجهم من دورهم نظير الذي حرمت عليكم من تركهم اسرى في ايدي عدوهم.

" أفتؤمنون ببعض الكتاب " الذي فرضت عليكم فيه فرائضي وبينت لكم فيه حدودي، واخذت عليكم بالعمل بما فيه ميثاقي، فتصدقون به فتفادون اسراكم من ايدي عدوكم، وتكفرون ببعضه فتجحدونه فتقتلون من حرمت عليكم قتله، من اهل دينكم ومن قومكم، وتخرجونهم من ديارهم وقد علمتم ان في الكفر منكم ببعضه نقضا منكم في عهدي وميثاقي.

وقوله: " فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا " فالخزي: الذل، والصغار يقال خزي الرجل يخزى خزيا.

" في الحياة الدنيا " يعني في عاجل الدنيا قبل الآخرة.

ثم اختلفوا في الخزي الذي خزاهم الله بما سلف منهم من المعصية فقال بعضهم: ذلك حكم الله الذي انزله على نبيه صلى الله عليه وآله من اخذ القاتل بما قتل، والقود به قصاصا، والانتقام من الظالم لمظلوم.

وقال آخر: بل ذلك هو الجزية منهم - ما اقاموا على دينهم - ذلة لهم وصغارا وقال آخرون: الخزي الذي خزوا به في الدنيا إخراج رسول الله صلى الله عليه وآله بني النضير من ديارهم لاول الحشر. وقيل: مقاتلة بني قريظة وسبي ذراريهم. وكان ذلك خزيا في الدنيا وفي الآخرة عذاب عظيم.

ومعنى قوله: " يوم القيامة يردون إلى اشد العذاب " أي اسوء العذاب، يعني بعد الخزي الذي يحل بهم في الدنيا يردهم الله إلى اشد العذاب - الذى اعده الله لاعدائه.

[338]

وقال بعضهم: يردهم يوم القيامة إلى اشد العذاب، يعني اشد من عذاب الدنيا - والاول اقوى: انه من أشد العذاب يعني اشد جنس العذاب. وذلك يقتضي العموم ولا يخص إلا بدليل.

وقوله: " وما الله بغافل عما تعملون ". منهم من قرأ بالياء، رده إلى من أخبر عنهم. ومن قرأ بالتاء، رده إلى المواجهين بالخطاب. والياء اقوى، لقوله: " فما جزاء من يفعل ذلك ".

وقوله: " ويوم القيامة يردون " فالرد إلى هذا أقرب من قوله: " أفتؤمنون ببعض الكتاب " فاتباع الاقرب أولى من إلحاقه بالاول. والكل حسن. والمعنى وما الله بساه عن اعمالهم الخبيثة بل هو محص لها وحافظ لها حتى يجازي عليها.

فان قيل: ظاهر الآية يقتضي ان يصح الايمان ببعض الاشياء، وان كفروا بالبعض الآخر، وذلك مناف لمذهبكم في الارجاء والموافاة. لان المعنى في ذلك إظهار التصديق بالبعض، والمنع بالتصديق بالبعض الآخر. ويحتمل ان يكون المراد ان ذلك على ما يعتقدونه، لانكم اذا اعتقدتم جميع ذلك ثم عملتم ببعضه دون بعض، فكأنكم آمنتم ببعضه دون بعض.

قوله تعالى: أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون(86)

آية بلا خلاف.

المعنى: قوله: " أولئك " إشارة إلى الذين اخبر عنهم يؤمنون ببعض الكتاب، فيفادون أساراهم من اليهود، ويكفرون ببعض فيقتلون من حرم الله عليهم قتله من اهل ملتهم، ويخرجون من داره من حرم الله اخراجه. وهم الذين اشتروا رياسة الحياة الدنيا. ومعناه ابتاعوها على الضعفاء واهل الجهل والغباء منهم. وانما وصفهم

[339]

بانهم اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة، لانهم رضوا بالدنيا بكفرهم الله عزوجل فيها عوضا من نعيم الآخرة الذي اعده الله للمؤمنين. فجعل تركهم حظوظهم من نعيم الآخرة بكفرهم بالله ثمنا لما ابتاعوه من خسيس الدنيا بما اخبر الله انه لا حظ لهم في نعيم الآخرة، وان لهم في الآخرة عذابا غير مخفف عنهم فيها العقاب.

وقوله: " ولا هم ينصرون " أي لا ينصرهم احد في الآخرة فيدفع عنهم بنصرته عذاب الله تعالى.

قوله تعالى: ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاء‌كم رسول بما لا تهوى انفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون(87)

آية بلا خلاف.

القراء‌ة: قرأ أهل الكوفة الرسل مثقل في جميع القرآن. وقرأ ابن كثير القدس بسكون الدال حيث وقع. الباقون بتثقيلها،

المعنى: ومعنى قوله " اتينا موسى الكتاب " انزلناه اليه واعطيناه. والكتاب بالمراد به التوراة.

وقوله " وقفينا " معناه واردفنا، واتبعنا بعضه خلف بعض، كما بقفو الرجل الرجل: اذا سار في اثره من ورائه واصله من القفا. يقال فيه قفوت فلانا اذا صرت خلف قفاه.

كما يقال دبرته اذا صرت في دبره قال امرؤ القيس:

وقفى على اثارهن بحاصب *** فمر العشى البارد المتحصب(1)

ومعنى قوله: " بالرسل " من بعد موسى.

والمراد بالرسل الانبياء، وهم جمع رسول يقال: رسول ورسل، كما يقال: رجل صبور وقوم صبر. ورجل شكور، وقوم شكر.

___________________________________

(1) ديوانه 38. وروايته " فقفي " بدل وقفا وعجزه وغيبة شؤبوب من الشد ملهب والعجز الموجود اعلاه غير موجود في ديوان امرئ القيس.

[340]

والمعنى في " قفينا " اتبعنا بعضهم بعضا على منهاج واحد، وشريعة واحدة، لان كان من بعثه الله نبيا بعد موسى إلى زمن عيسى بن مريم (ع) فانما بعثه باقامة التوراة والعمل بما فيها والدعاء إلى ما فيها، فلذلك، قال: " وقفينا من بعده بالرسل " يعني على منهاجه وشريعته.

وقوله: " واتينا عيسى بن مريم البينات " اعطينا عيسى بن مريم الحجج والدلالات على نبوته من احياء الموتى وابراء الاكمه والابرص ونحو ذلك من الآيات التي دلت على صدقه وصحة نبوته.

وقوله: " وايدناه بروح القدس " أي قويناه واعناه. يقال منه ايدك الله، أي قواك الله.

وهو رجل ذو ايد وذو اياد أي ذو قوة ومنه قول العجاج: من ان تبدلت بآدي آدا(1) يعني بقوة شبابي قوة الشيب قال الشاعر:

ان القداح اذا اجتمعن فرامها *** بالكسر ذو جلد وبطش أيد(2)

يعنى بالايد القوي.

قال قتادة والسدي والضحاك والربيع: روح القدس هو جبرائيل " ع ".

قال: ابن زيد ايد الله عيسى بالانجيل روحا كما جعل القرآن روحا كلاهما روح الله كما قال: " وكذلك أوحينا اليك روحا من امرنا ".

وروى الضحاك عن ابن عباس ان الروح: الاسم الذي كما يحيى به الموتى.

واقوى الاقوال قول من قال: هو جبرائيل (ع) لان الله تعالى ايد عيسى به كما قال تعالى " يا عيسى بن مريم اذكر نعمتي التي انعمت عليك وعلى والدتك إذ ايدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا واذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والانجيل "(3) فاخبر انه ايده به ناو كان المراد به الانجيل لكان ذلك تكرارا. وانما سمي الله تعالى جبرائيل روحا واضافه إلى القدس، لانه كان بتكوين الله روحا من عنده من غير ولادة والد ولده.

وقال قوم سمي روحا لانه كان بمنزلة الارواح للابدان تحيى بما يأتي به من

___________________________________

(1) اللسان " ايد " والبيت الذي بعده: لم يك ينآد فامسى انآدا. وفي المطبوعة باد آذا.

(2) مروج الذهب 3: 104. قائله عبدالله بن عبدالاعلى.

(3) سورة المائدة آية 113.

[341]

البينات وقال آخرون: سمي بذلك، لان الغالب على جسمه الروحانية لرقته وكذلك سائر الملائكة وانما خص به تشريفا والتقديس والتطهير والقدس: الطهر وقال السدي: القدس هاهنا البركة يقال: قدس عليه: برك عليه. ويكون اضافته إلى نفسه كقوله " حق اليقين " وقال الربيع: القدس الرب.

وقال ابن زيد القدس هو الله، وايده بروحه، واحتج بقوله " الملك القدوس ".

وقال القدوس والقدس واحد.

وروي عن ابن عباس ان القدس الطاهر وقال الراجز: الحمد لله العلى القادس وقال رؤبة: دعوت رب القوة القدوسا وقوله: " افكلما جاء‌كم رسول بما لا تهوى انفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون " فالخطاب بذلك متوجه إلى يهود بني اسرائيل وكأنه قال: يامعشر يهود بني اسرائيل لقد اتينا موسى التوراة وتابعنا من بعده الرسل اليكم واتينا عيسى ابن مريم الحجج والبينات اذ بعثناه اليكم وايدناه بروح القدس وانتم كلما جاء‌كم رسول من رسلي بغير الذي تهواه انفسكم استكبرتم عليهم تجبرا وبغيا وكذبتم منهم بعضا وقتلتم بعضا، وظاهر الخطاب وان كان خرج مخرج التقدير فهو بمعنى الخبر.

قوله تعالى: وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون(88)

آية واحدة.

القراء‌ة: القراء المعرفون على تسكين اللام من قوله غلف.

وقال ابن محيص غلف بضم اللام

المعنى: وروي عن ابن عباس ذلك فمن قرأ بالتسكين قال: معني غلف الواحد منها

[342]

اغلف وغلف مثل احمر وحمر فكأنهم قالوا: قلوبنا أوعية فلم لا تعي ما تأتينا به قالوا كما " قالوا قلوبنا في اكنة مما تدعونا اليه وفي اذانا وقرو من بيننا وبينك حجاب " أي لا تفقه لانها في حجاب.

ومنه يقال للرجل الذي لم يختن اغلف والمرأة غلفاء ويقال للسيف اذا كان في غلاف اغلف وقوس غلفاء: وجمعها غلف وكذلك كل لغة على وزن افعل للذكر والانثى فعلاء يجمع على فعل مضمومة الاول ساكنة الثاني نحو احمر وحمر واصفر وصفر فيكون ذلك جمعا للتذكير والتأنيث ولا يجوز ثقيل عين الفعل إلا في ضرورة الشعر.

قال طرفه:

ايها الفتيان في مجلسنا *** جردوا منها ورادا وشقر(1)

فحرك لضرورة الشعر.

ومن قرأ " غلف " مثقلا قال: هو جمع غلاف مثل مثال ومثل وحمار وحمر. فيكون معناه إن قلوبنا اوعية للعلم فما بالها لا تفهم، وهي اوعية للعلم. ويجوز ان يكون التسكين عين التثقيل(2) مثل رسل ورسل.

وقال عكرمة غلف: أي عليها طابع.

والمعنى عندنا ان الله اخبر ان هؤلاء الكفار ادعوا ان قلوبهم ممنوعة من القبول وذهبوا إلى ان الله منعهم من ذلك، فقال الله ردا عليهم " بل لعنهم الله بكفرهم " أي انهم لما كفروا فالفوا كفرهم واشتد اعجابهم به ومحبتهم اياه، منعهم الله، من الالطاف والفوائد - ما يؤيته المؤمنين ثوابا على ايمانهم وترغيبا لهم في طاعتهم، وزجر الكافرين عن كفرهم، لان من سوى بين المطيع والعاصي له، فقد اساء اليها.

وفي الآية رد على المجبرة ايضا، لانهم قالوا: مثل ما يقول اليهود من أن على قلوبهم ما يمنع من الايمان ويحول بينهم وبينه، وكذبهم الله تعالى في ذلك بأن لعنهم وذمهم. فدل على أنهم كانوا مخطئين، كما هم مخطئون.

وقال ابوعلي الفارسي: ما يدرك به المعلومات من الحواس وغيرها، اذ اذكر بانه لا يعلم وصف بان عليه مانعا كقوله تعالى: " افلا يتدبرون القرآن ام على قلوب اقفالها "(3). فان الفعل لما كان مانعا من الدخول إلى المقفل عليه شبه القلوب به.

___________________________________

(1) ديوانه اشعار الستة الجاهليين. جردوا قدموا للفارة. وتجرد الفرس تقدم الحلبة فخرج منها. وراد جمع ورد " فتح فسكون " وهو من الخيل بين الكميت والاشفر.

(2) هذه عبارة المخطوطة وفي المطبوعة سقط.

(3) سورة محمد آية 24.

[343]

ومثله قوله: " سكرت ابصارنا "(1) وقوله: " الذين كنت اعينهم في غطاء عن ذكري "(2) ومثله " بل هم منها عمون "(3) وقوله: " صم بكم "(4).

لان العين اذا كانت في غطاء لم ينفذ شعاعها فلا يقع بها ادراك، فكأن شدة عنادهم بحملهم على رفع المعلومات. واللعن هو الاقصاء والابعاد. يقال: لعن الله فلانا يلعنه لعنا. فهو ملعون، ثم يصرف مفعول إلى فعيل، فيقال: هو لعين.

كما قال الشماخ بن ضرار:

ذعرت به القطا ونفيت عنه *** مقام الذئب كالرجل اللعين(5)

أي المبعد: فصار معنى الآية قالت اليهود: " قلوبنا في اكنة مما يدعونا اليه " محمد صلى الله عليه وآله. فقال الله: ليس ذلك كما زعموا ولكنه تعالى اقصاهم وأبعدهم عن رحمته وطردهم عنها، لجحودهم به وبرسله.

وقوله تعالى: " قليلا ما يؤمنون "

قال قتادة: قيل منهم من يؤمن.

وقال قوم: " قيلا ما يؤمنون " أي لا يؤمنون إلا بقليل مما في أيديهم.

والذي نقوله ان معنى الآية ان هؤلاء الذين وصفهم الله تعالى قليلوا الايمان بما انزله الله تعالى على نبيه محمد " ص " ولذلك نصب قوله " قليلا " لانه نصب على نعت المصدر المتروك. وتقديره لعنهم الله بكفرهم، فأيمانا قليلا يؤمنون. ولو كان الامر على ما قال قتادة، لكان القليل مرفوعا، وكان تقديره فقليل ايمانهم.

وقال قوم من اهل العربية: ان ما زائدة لا معنى لها. كقوله: " فبما رحمة من الله لنت لهم "(6) وتقديره الكلام: قليلا يؤمنون، وانشد بيت مهلهل

لو بأبانين جاء يخطبها *** ضرج ما انف خاطب بدم(7)

يعني ضرج انف خاطب. وما زائدة.

وقال قوم: ذلك خطأ في الآية وفي البيت وان ذلك من المتكلم على ابتداء الكلام بالخبر عن عموم جميع الاشياء اذا كانت

___________________________________

(1) سورة الحجر: آية 15.

(2) سورة الكهف: آية 102.

(3) سورة النحل آية: 66.

(4) سورة البقرة آية 17.

(5) ديوانه: 92. في المطبوعة والمخطوطة " دعوت " بدل ذعرت.

(6) سورة آل عمران آية 159.

(7) الكامل 2: 68. وروايته " خضب " بدل " ضرج " وفي المطبوعة والمخطوطة " بانين " ومع ذلك غير منقطة. ابانان: ابان الاسود وابان الابيض.

[344]

" ما " كلمة تجمع كل الاشياء، ثم تخص بعض ما عمته، فانها تذكر بعدها.

وفي الناس من قال: " فقليلا ما يؤمنون "، لانه كان معهم بعض الايمان من التصديق بالله وبصفاته، وغير ذلك مما كان فرضا عليهم، وذلك هو القليل بالاضافة إلى ما جحدوا به من التصديق بالنبي " ص " وما جاء به.

والذي يليق بمذهبنا ان نقول: إنه لم يكن معهم ايمان اصلا، وانما قال: " فقليلا ما يؤمنوا " كما يقول القائل: قل ما رأيت هذا قط.

وروي عنهم سماعا: - اعني العرب - مررت ببلد قل ما ينبت إلا الكراث والبصل. يريدون ما ينبت إلا الكراث والبصل.

قوله تعالى: ولما جاء‌هم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاء‌هم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين(89)

آية بلا خلاف.

المعنى: التقدير: ولما جاء اليهود من بني اسرائيل الذين وصفهم الله، كتاب من عند الله يعني به القرآن الذي انزله على محمد " ص " واشتقاق الكتاب من الكتب، وهو جمع كتبة وهي الخرزة. وكلما ضممت بعضه إلى بعض، فقد كتبته. والكتيبة من الجيش من هذا الانضمام بعضها إلى بعض.

وقوله: " مصدق لما معهم " من الكتب التي انزلها الله قبل القرآن من التوراة والانجيل وغيرهما.

" ومعنى مصدق لما معهم " لما في التوارة والانجيل، والاخبار التي فيها. ويحتمل ان يكون المراد: مصدق بان التوراة والانجيل من عند الله. ومصدق رفع، لانه نعت الكتاب. ولو نصب على الحال، لكان جائزا، لكن لم يقرأ به.

وقوله: " وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا ".

قال ابوعبيدة معناه يستنصرون.

قال ابن عباس: إن اليهود كانوا يستنصرون على الاوس الخزرج

[345]

برسول الله " ص " قبل مبعثه فلما بعثه الله في العرب، فقال لهم معاذ بن جبل وبشير ابن معرور: يا معشر اليهود اتفوا الله واسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى الله عليه وآله ونحن اهل الشرك، وتخبرونا بانه مبعوث. فقال لهم سلام بن مثكم: ما جاء بشئ، وما هو بالذي كنا نذكر لكم. فانزل الله ذلك.

وقال قوم: معنى " يستفتحون " يستحكمون ربهم على كفار العرب.

كما قال الشاعر:

ألا أبلغ بني عصم رسولا *** فاني عن فتاحتكم غني(1)

اي محاكمتكم.

قال قوم: معناه يستعلمون من علمائهم صفة نبي يبعث من العرب، وكانوا يصفونه. فلما بعث انكروه.

واما جواب قوله: " ولما جاء‌هم كتاب من عند الله مصدق لما معهم " فقال قوم: ترك جوابه استغناء بمعرفة المخاطبين. معناه كما قال: " ولو ان قرآنا سيرت به الجبال او قطعت به الارض او كلم به الموتى "(2) فترك الجواب، وكان تقديره ولو ان قرآنا سوى هذا القرآن سيرت به الجبال، اوقطعت به الارض، او كلم به الموتى لسيرت بهذا. ترك ذلك لدلالة الكلام عليه وكذلك الآية الجواب فيها محذوف لدلالة قوله: " فلما جاء‌هم ما عرفوا كفروا به "

وقال آخرون: قوله: " كفروا " جواب لقوله: " ولما جاء‌هم كتاب من عند الله مصدق لما معهم ".

ولقوله: " ولما جاء‌هم ما عرفوا ".

ونظيره قوله: " فاما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون "(3) فصار قوله: فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون جوابا لقوله: " فاما يأتينكم "، ولقوله: " فمن تبع هداي "، ومثله في الكلام قولك ما هو إلا ان جاء‌ني فلان، فلما ان قعد وسعت له، فصار قولك: وسعت له جوابا لقولك: ما هو إلا ان جاء‌ني، ولقولك: فلما ان قعد. وجاء الاول للكتاب وجاء الثاني - قيل: إنه - للرسول، فلذلك كرر.

وقوله: فلعنة الله على الكافرين "

___________________________________

(1) قائله الاشعر الجعفي. اللسان (فتح) وروايته:

ألا من مبلغ عمرا رسولا *** فانى عن فتاحتكم غني

(2) سورة الرعد آية: 33.

(3) سورة البقرة آية: 38.

[346]

فقد بينا فيما مضى، معنى اللعنة، ومعنى الكفر فلا وجه لاعادته.

وقد مضى الجواب عمن يستدل بمثل ذلك على ان الكافر قد يكون عالما ببعض الاشياء التي اوجبها الله تعالى بخلاف ما يذهب اليه اصحاب الموافاة، وان من عرف الله فلا يجوز ان يكفر وان المعتمد على ذلك: ان نقول: لا يمتنع ان يكونوا قد عرفوا الله وكثيرا مما وجب عليهم، لكن لم يكن وقع نظرهم على وجه يستحقون به الثواب، لان ذلك هو الممنوع منه، وقد بينا ايضا صفة من يتعلق بذلك من اصحاب الضرورات، لان غاية ما في ذلك ان القوم كانوا عارفين فجحدوا ما عرفوا، وليس يمتنع ان يكونوا عارفين استدلالا ثم جحدوا: فالضرورة لم يجر لها ذكر.

الآية: 90 - 99

قوله تعالى: بئس ما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباء‌وا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين(90)

آية.

اللغة والاعراب: أصل بئس: بئس من البؤس فأسكنت الهمزة ونقلت حركتها إلى الباء.

كما قالوا في ظللت ظلت، وكما قيل للكبد كبد، فنقلت حركة الباء إلى الكاف، لما سكنت الباء. ويحتمل ان تكون بئس. وان كان اصلها بئس من لغة من ينقل حركة العين من فعل إلى الفاء اذا كانت عين الفعل احد حروف الحلق الستة. كما قالوا في لعب: لعب. وفي سئم سيم، وهي لغه تميم.

ثم جعلت دلالة على الذم والتوبيخ ووصلت ب‍ (ما).

واختلفوا في (ما) فقال قوم من البصريين: هي وحدها اسم، " وان يكفروا " تفسير له. نحو نعم رجلا زيد " وان ينزل الله " بدل من انزل.

وقال الفراء: بئس الشئ اشتروا به انفسهم ان يكفروا. ف‍ (ما) اسم بئس، (وأن يكفروا) الاسم الثاني.

وقوله " ان ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده "، إن

[347]

شئت جعلت (أن) في موضع رفع، وان شئت في موضع خفض: فالرفع بئس الشئ هذا ان يكفروا، والخفض بئس الشئ إشتروا به انفسهم ان يكفروا بما انزل الله بغيا.

وفي قوله: " لبئس ما قدمت لهم انفسهم أن سخط الله عليهم "(1).

مثل ذلك. قال ابوعبيدة: والعرب تجعل (ما) وحدها في هذا الباب بمنزلة الاسم التام.

وقوله: " فنعما هي " " وبئس ما انت " قال الراجز:

لا تعجلا بالسير وادلواها *** لبئسما بطء ولا نرعاها(2)

قال: ويقولون لبئس ما تزويج، ولا مهر: فيجعلون (ما) وحدها اسما بغير صلة.

وروي عن النبي " ص " انه قال: نعم ما المال للرجل الصالح، فجعلت (ما) اسما.

وقال قوم: هذا الوجه ضعيف، لان هذا القول، يكون التقدير بئس الشئ اشتروا به انفسهم، فقد صارت ما بصلتها اسما موقتا، لان اشتروا فعل ماضي، واذا وصلت بفعل ماضي كانت معرفة موقتة. تقديره بئس شراؤهم كفرهم. وذلك غير جائز عنده: فبان بذلك فساد هذا القول. وبئس ونعم لايلقاهما اسم علم كزيد وعمر، واخيك وابيك: فانما يلقاها المعرف بالالف واللام. كقولك: الرجل والمرأة، وما اشبه ذلك. فان نزعتهما، نصبت. كقوله: " بئس للظالمين بدلا "(3) " وساء مثلا القوم الذين كذبوا بايآتنا "(4) فان كانت نكرة مضافة إلى نكرة جاز الرفع والنصب. كقولك نعم غلام سفر غلامك، بالرفع والنصب - حكاه الفراء.

وقال بعضهم: إن (ان) في موضع خفض ان شئت، وان شئت في موضع رفع: فالخفض ان ترده على الهاء في به على التكرير على كلامين، لانك قلت: اشتروا انفسهم بالكفر: والرفع ان يكون تكرارا على موضع (ما) التي تلي

___________________________________

(1) سورة المائدة آية: 83.

(2) اللسان (دلا) دلوت الناقة دلوا: سقتها رويدا ورعى الماشية وارعاها: اطلقها في المرعى.

(3) سورة الكهف آية: 51.

(4) سورة الاعراف آية: 176.

[348]

بئس، ولا يجوزان يكون رفعا على قولك بئس الرجل عبدالله.

وقال بعضهم: أولى هذه الاقوال أن تجعل بئسما مرفوعا بالراجع من الهاء في قوله: اشتروا به. كما رفعوا ذلك بعبد الله، في قولهم: بئسما عبدالله، وجعل أن يكفروا مترجما عن بئس. فيكون التقدير بئس الشئ باع اليهود به انفسهم بكفرهم، بما انزل الله بغيا وحسدا ان ينزل الله من فضله.

وتكون ان التي في قوله: " ان ينزل الله " في موضع نصب، لانه يعني به ان يكفروا بما انزل الله من اجل ان ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده. وموضع (ان) جر.

والكسائي جعل ان في موضع خفض بنية الباء وانما كان النصب اقوم، لتمام الخبر قبلها ولا خافض معها. وحرف الخفض اذا كان مضمرا لا تخفض به.

المعنى: ومعنى قوله: " اشتروا به انفسهم " اي باعوا به انفسهم على وزن افتعلوا - من الشراء وسمي البائع الشاري بهذا، لانه باع نفسه ودنياه عنده. واكثر الكلام شريت بمعنى بعت. واشتريت بمعنى ابتعت.

قال الشاعر يزيد بن مفرغ الحميري:

وشريت بردا ليتني *** من قبل برد كنت هامة(1)

ومعنى قوله: " وشروه بثمن بخس " باعوه وربما استعملت اشتريت بمعنى بعت. وشريت بمعنى ابتعت. والاكثر ما قلناه.

وقوله: " بغيا " اي حسدا وتعديا.

فان قيل: كيف باعت اليهود انفسها بالكفر وهل يشترى بالكفر شئ؟ قيل معنى الشراء والبيع - عند العرب - هو ازالة ملك المالك إلى غيره بعوض يعتاضه منه، ثم يستعمل ذلك في كل معتاض من عمله عوضا - خيرا كان أو شرا - يقال نعم ما باع فلان نفسه به، وبئس ما باع به نفسه. بمعنى نعم الكسب كسبها، وبئس الكسب كسبها.

وكذلك قوله: " بئس مااشتروا به انفسهم "، لما ابقوا انفسهم بكفرهم بمحمد " ص " واهلكوها.

___________________________________

(1) طبقات فحول الشعراء: 555 من قصيدة له في هجاء عباد بن زياد - وكان قد باع غلاما لابن مفرغ: اسمه (برد) قوله: كنت هامة: اي كنت هالكا.

[349]

خاطبهم الله بالعرف الذي يعرفونه: فقال بئس ما اعتاضوا من كفرهم بالله، وتكذيبهم محمدا " ص " إذا كانوا رضوا به عوضا من ثواب الله، وما اعدلهم - لو كانوا امنوا بالله وما انزل على انبيائه - بالنار، وما اعدلهم بكفرهم بذلك ونظير هذه الآية قوله: في سورة النساء: " الم تر إلى الذين اوتوا نصيبا من الكتاب " إلى قوله: " وآتيناهم ملكا عظيما "(1). وكان ذلك حسدا منهم لكون النبوة في غيرهم.

وقوله: " بغيا " نصب لانه مفعول له. والمعنى فسادا.

قال الاصمعي: مأخوذ من قولهم: بغى الجرح اذا فسد. ويجوز ان يكون مأخوذا من شدة الطلب للمطاول. وسميت الزانية بغيا لانها تطلب. واصل البغي الطلب.

و " بغيا ان ينزل الله " اي لان ينزل الله. وكذلك كل ما في القرآن.

ومثله قول الشاعر:

أتجزع أن بان الخليط المودع *** وحبل الصفا من عزة المتقطع

وقوله: " فباء‌وا بغضب على غضب " اي رجعوا. والمراد رجعت اليهود من بني اسرائيل بعد ما كانوا عليه من الاستنصار لمحمد " ص " في الاستفتاح به، وبعد ما كانوا يخبرون الناس من قبل مبعثه انه نبي مبعوث - مرتدين علي اعقابهم حين بعثه الله نبيا - بغضب من الله استحقوه منه بكفرهم به وجحدهم بنبوته، وانكارهم اياه.

وقال السدي: الغضب الاول حين عبدوا العجل، والثاني - حين كفروا بمحمد " ص ".

وقال عطا وغيره: الغضب الاول - حين غيروا التوراة قبل مبعث محمد " ص ": والغضب الثاني - حين كفروا بمحمد " ص ".

وقال عكرمة والحسن: الاول - حين كفروا بعيسى " ع ": والثاني - حين كفروا بمحمد " ص ". وقد بينا ان الغضب من الله هو ارادة العقاب بهم.

وقوله: " وللكافرين بعذاب مهين " معناه للجاحدين بنبوة محمد " ص " عذاب مهين من الله: إما في الدنيا، وإما في الآخرة.

___________________________________

(1) سورة النساء آية: 43 - 53.

[350]

و " مهين " هو المذل لصاحبه المخزي لملبسه هوانا وذلة.

وقيل " المهين " هو الذي لا ينتقل منه إلى اعتزاز وإكرام. وقد يكون غير مهين اذا كان تمحيصا وتكفيرا ينتقل بعده إلى اعتزار وتعظيم: فعلى هذا من ينتقل من عذاب النار إلى الجنة، لايكون عذابه مهينا.

قال المؤرخ: " فباء‌وا " استوجبوا اللعنة بلغة جرهم -. ولا يقال باء مفردة حتى يقول بكذا وكذا: اما بخير واما بشر.

قال ابوعبيدة: " فباء‌وا بغضب " احتملواه واقروا به. واصل البواء التقرير والاستقرار.

قال الشاعر:

أصالحكم حتى تبوء‌وا بمثلها *** كصرخة حبلى يسرتها قبولها(1)

قوله تعالى: واذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراء‌ه وهو الحق مصدقا لما معهم قل فلم تفتلون انبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين(91)

آية بلا خلاف.

المعنى: قوله: " بما انزل الله " يعني القرآن.

" قالوا نؤمن بما أنزل علينا "من التوراة.

" ويكفرون بما وراء‌ه " يعني بما بعده قال الشاعر:

تمني الاماني ليس شئ وراء‌ها *** كموعد عرقوب اخاه بيثرب(2)

وقال الفراء: معنى " وراء‌ه " هاهنا سواه.

كما يقال للرجل يتكلم بالحسن: ما وراء هذا الكلام شئ يراد به، ليس عند المتكلم شئ سوى ذلك الكلام.

___________________________________

(1) قائله الاعشى الكبير اللسان (قبل) وروايته (اسلمتها قبيلها) أي يئست منها قابلتها التي تستقبل المولود. وديوانه 177، رقم القصيدة 23. وروايته (يسرتها قبولها) أي سهلت ولادتها قابلتها.

وفي المخطوطة والمطبوعة (بشرتها قبيلها) وفي المخطوطة (نصالحكم) بدل (اصالحكم) وفي المطبوعة (نصاحبكم). تبوء‌وا تعودوا.

(2) لم نجد هذا البيت في مصادرنا. وفي اللسان (عرقب) بيت للاسجعى عجزه كعجز هذا الا أن (مواعيد) جاء‌ت به بدل (كموعد). ويقول (بيثرب) - بالتاء - مكان في المن (وبيثرب) - بالثاء - المدينة نفسها.

[351]

ومعنى قوله: " ويكفرون بما وراء‌ه وهو الحق " وبما سوى التوراة وبما بعده من كتب الله عزوجل التي انزلها الله إلى رسله.

قوله: " هو الحق مصدقا " يعني القرآن مصدقا لما معهم - ونصب على الحال - ويسميه الكوفيون علي القطع.

وقوله: " من قبل " ضم على الغاية، وكذلك اخواتها نحو بعد وتحت وفوق اذا جعلت غاية ضمت. وفي ذلك خبر من الله تعالى ذكره انهم من التكذيب في التوراة على مثل الذي هم عليه من التكذيب بالانجيل والقرآن عنادا وخلافا لامره، وبغيا على رسله.

وقوله: " فلم تقتلون انبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين " يعني قل يا محمد ليهود بني اسرائيل اذا قلت لهم آمنوا - قالوا لك نؤمن بما انزل علينا: لم تقتلون ان كنتم مؤمنين بما أنزل الله عليكم - انبياء‌ه - وقد حرم عليكم في الكتاب الذي انزل عليكم قتلهم، بل امركم فيه باتباعهم وطاعتهم وتصديقهم. وفي ذلك تكذيب لهم في قولهم نؤمن بما انزل علينا، وتغيير عليهم.

وقوله: " فلم تقتلون " وان كان بلفظ الاستقبال المراد به الماضي، بدلالة قوله: من قبل. وذلك لما مضى، كما قال: " واتبعوا ما تتلوا الشياطين "(1) اي ما تلت.

قال الشاعر:

ولقد امر على اللئيم يسبنى *** فمضيت عنه وقلت لا يعنيني(2)

وفي رواية اخرى ثمت.

قلت يريد بقوله ولقد امر بدلالة قوله: فمضيت ولم يقل فأمضى وقال آخر:

واني لاتيكم تشكر ما مضى *** من الامر واستيجاب ما كان في غد(3)

___________________________________

(1) سورة البقرة آية: 102.

(2) قائله رجل من بني سلول. سيبويه 416. وشرح شواهد المغنى وغيرها كثير. وروايتهم جميعا " ثمت " بدل عنه.

(3) قائله الطرماح بن حكيم الطائي. ديوانه 146. واللسان (كون) وروايته (الاستنجاز) بدل (استيجاب) وكذلك المطبوعة.

[352]

يعنى بذلك ما يكون في غد.

قال الحطيئة:

شهد الحطيئة حين يلقى ربه *** ان الوليد احق بالعذر(1)

يعني يشهد وقال آخر:

فما أضحى ولا امسيت إلا *** اراني منكم في كوفان(2)

فقال: اضحى، ثم قال: ولا امسيت.

ومثله " يحسب ان ماله اخلده "(3) اي يستخلده.

وقال بعض الكوفيين انما قال: " فلم تقتلون انبياء الله من قبل " واراد به الماضي كما يقول القائل - موبخا لغيره، ومكذبا له: لم تكذب، ولم تبغض نفسك إلى الناس.

قال الشاعر:

اذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة *** ولم تجدي من ان تقري به بدا(4)

فالجزاء المستقبل، والولادة كلها قد مضت، وجاز ذلك لانه معروف.

وقال قوم: معناه فلم ترضون بقتل انبياء الله إن كنتم مؤمنين.

وقالت فرقة ثانية: فلم تقاتلون انبياء الله فعبر عن القتال بالقتل، لانه يؤول اليه.

قوله تعالى: ولقد جاء‌كم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون(92)

آية بلا خوف.

المعنى: " ولقد جاء‌كم موسى " يعني جاء اليهود موسى " بالبينات " الدالة على صدقه وصحة نبوته. كقلب العصاحية، وانبجاس الماء من الحجر، واليد البيضاء، وفلق البحر، والجراد، والقمل، والضفادع، وغيرها من الآيات. وسماها بينات، لظهورها وتبينها للناظرين اليها انها معجزة لا يقدر على أن يأتي بمثلها بشر. وانما هي جمع بينة مثل طيبة وطيبات.

___________________________________

(1) ديوانه 85 وانساب الاشراف 5: 32. من قصيدة قالها في الوليد بن عقبة بن ابي معيط - وكان قد جده عثمان بن عثمان على شرب الخمر.

(2) اللسان (كوف) والكوفان (بتشديد الواو): الاختلاط والشدة والعناء.

(3) سورة الهمزة آية: 3.

(4) قائله زائدة بن صعصعة وقد مر في 1: 289.

[353]

وقوله: " ثم اتخذتم العجل من بعده " يعني بعد " موسى " لما فارقهم ومضى إلى ميقات ربه.

ويجوز ان تكون الهاء كناية عن المجيئ.

فيكون التقدير: ثم اتخذتم العجل من بعد مجيئ موسى بالبينات " وانتم ظالمون " كما يقول القائل: جئتني فكرهتك: اي كرهت مجيئك. وليس المراد بثم هاهنا النسق، وانما المراد بها التوبيخ، والتعجب والاستعظام لكفرهم مع ما رأوا من الآيات.

وقوله: " وانتم ظالمون " يعني انكم فعلتم ما فعلتم من عبادة العجل. وليس ذلك لكم، وعبدتم غير الله، وكان ينبغي لكم ان تعبدوا الله، لان العبادة لا تكون لغير الله، فانتم بفعل ذلك ظالمون انفسكم.

قوله تعالى: واذ اخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين(93)

آية بلا خلاف.

المعنى: تقديره واذكروا إذ أخذنا ميثاقكم وعهودكم بان تأخذوا ما آتيناكم من التوراة التي انزلها الله على موسى بجد واجتهاد، ومعناه اقبلوا ما سمعتم، كما قيل سمع الله لمن حمده: اي قبل الله حمده قال الراجز:

بالحمد والطاعة والتسليم *** خير واعفى لفتى تميم(1)

فصار تقدير الآية: " واذ اخذنا ميثاقكم " بأن " خذوا ما آتيناكم بقوة " واعملوا بما سمعتم واطيعوا الله " ورفعا فوقكم الطور " من اجل ذلك.

___________________________________

(1) قائله رجل من ضبة من بني ضرار يدعى جبير بن الضحاك. تاريخ الطبري 4: 223. في ذكر سنة 55 وروايته (السمع) بدل (بالحمد).

[354]

وقوله: " قالوا سمعنا وعصينا " كأن الكلام خرج مخرج الخبر عن الغائب بعد أن كان الابتداء بالخطاب، لما تقدم ذكره من ابتداء الكلام، اذ كان حكاية.

والعرب تخاطب، ثم تعود بعد ذلك إلى الخبر عن الغائب، ثم تخاطب، لان قوله: " واذ اخذنا ميثاقكم " بمعنى قلنا لكم، فأجبتمونا، وقوله: " سمعنا " إخبار من الله تعالى عن اليهود الذين أخذنا ميثاقهم ان يعملوا بما في التوراة، وان يطيعوا الله بما يسمعون منها انهم قالوا حين قيل لهم ذلك: سمعنا قولك، وعصينا أمرك ويحتمل ان يكون ما قالوه لكن فعلوا ما يدل على ذلك، فقام الفعل مقام القول.

كما قال الشاعر:

امتلا الحوض وقال قطني *** مهلا رويدا قد ملات بطني(1)

وقوله: " واشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم " فيه وجوه: احدهما - ما قال قتادة وأبوالعالية: واشربوا في قلوبهم حب العجل. يقال أشرب قلبه حب كذا وكذا قال زهير:

فصحوت عنها بعد حب داخل *** والحب يثربه فؤداك داء(2)

وقالت اعرابية:

باهلي من عادى ونفسي فداؤه *** به هام قلبي منذ حين ولا يدري

هوى اشربته النفس ايام جهلها *** ولح عليه القلب في سالف الدهر

وقال السدي: لما رجع موسى إلى قومه اخذ العجل الذي وجدهم عاكفين عليه، فذبحه ثم حرقه بالمبرد، ثم ذراه في اليم فلم يبق بحر يجري يومئذ إلا وقع فيه شئ منه، ثم قال اشربوا فشربوا، فمن كان يحبه خرج على شاربه الذهب.

والاول عليه اكثر محصلي المفسرين وهو الصحيح، لان الماء لا يقال فيه: أشرب منه فلان في قلبه، وانما يقال ذلك: في حب الشئ على ما بيناه، ولكن يترك ذكر الحب اكتفاء بفهم السامع، لمعنى الكلام، اذ كان معلوما ان العجل لا يشربه القلب وان الذي اشرب منه حبه.

___________________________________

(1) اللسان (قطط) وروايته (سلا) بدل (مهلا).

(2) ديوانه: 339. وروايته (تشربه) بضم التاء وسكون الشين وكسر الراء.

[355]

كما قال " واسأل القرية " وانما اراد اهلها.

كما قال الشاعر:

حسبت بغام راحلتي عناقا *** وما هي ويب غيرك بالعناق(1)

يريد بذلك حسبت بغام راحلتي بغام عناق.

وقال طرفه بن العبد:

ألا إنني سقيت اسود حالكا *** ألا بجلي من الشراب ألا بجل(2)

يريد بذلك سقيت سما اسود، فاكتفى بذكر (اسود) عن ذكر (السم) لمعرفة السامع بمعنى ما اراد بقوله سقيت اسود.

وقال آخر:

وكيف تواصل من أصبحت *** خلالته كأبي مرحب؟(3)

اي كخلالة أبي مرحب وقال آخر: وشر المنايا ميتة وسط اهله(4) اي ميتة ميت.

وقد يقول العرب: اذا سرك ان تنظر إلى السخاء، فانظر إلى هرم(5)، أو إلى حاتم. فيجتزئون بذكر الاسم عن ذكر فعله، للعلم به.

وقوله: " بئسما يأمركم به ايمانكم إن كنتم مؤمنين " معناه قل يا محمد ليهود بني اسرائيل: بئس الشئ يأمركم به ايمانكم إن كان يأمركم بقتل انبياء الله ورسله والتكذيب بكتبه، وجحد ما جاء من عنده.

وقال الازهري: معنى ان كنتم:

___________________________________

(1) اللسان (عنق) انشده ابن الاعرابي. لقريظ يصف الذئب وفي اللسان (بغم) نسبه إلى ذي الخرق.

البغام: الصوت من الحيوان الصامت.

العناق: الانثى من المعز، ويب كلمة تقولها العرب للتحقير. بمعنى ويل.

(2) ديوانه: 343 (اشعار الستة الجاهلين)، واللسان (سود) وروايته (شربت) بدل (سقيت) بضم السين وتشديد القاف وضم التاء. ويروى (سالخا) بدل (حالكا) واختلف فيما اراد بقوله (اسود) قيل الماء، وقيل المنية، وقيل اسم. وبجلي حسبي.

(3) قائله النابغة الجعدي: اللسان (خلل).

ابي مرحب: كنية الظل، ويقال هو كنية عرقوب الذي قيل عنه: مواعيد عرقوب اخاه بيثرب انظر 1: 85 فثمت ايضاح كاف.

(4) وعجز البيت: كهلك الفتى قد اسلم الحي حاضره.

(5) في المطبوعة " هرمرا " وهو تحريف وهرم: هو ابن سنان صاحب زهير بن ابي سلمي وحاتم: الطائي المشهور.

[356]

اي ما كنتم مؤمنين - نفيا - والاول اجود.

ومعنى ايمانهم: تصديقهم الذي زعموا انهم مصدقون، من كتاب الله اذا قيل لهم آمنوا بما انزل الله قالوا: نؤمن بما أنزل علينا.

وقوله: " ان كنتم مؤمنين " أي ان كنتم مصدقين كما زعمتم، فأخبر ان تصديقهم بالتوراة، انه كان يأمرهم بذلك، فبئس الامر يأمرهم به. وانما ذلك نفي عن التوراة ان يكون يأمر بشئ بما يكرهه الله من افعالهم، واعلاما منه ان الذي تأمرهم به اهواؤهم، وتحمل عليه عداوتهم.

وهذا كما يقول الرجل: بئس الرجل انا إن رضيت بفعلك، او ساعدتك عليه.

والمعنى وأشربوا في قلوبهم حب العجل بكفرهم، اي لالفهم الكفر وثبوتهم فيه، والكفر يدعو بعضه إلى بعض، ويحسن بعضه بعضا.

وليس المعنى في قوله: " واشربوا " ان غيرهم فعل ذلك بهم، بل هم الفاعلون له، كما يقول القائل: أنسيت ذلك من النسيان(3) ليس يريد إلا انك فعلت.

وقولهم: لقد أوتى فلان علما جما - وان كان هو المكتسب له، وإن الجنس الذين قالوا: سمعنا وعصينا غير الذين رفع عليهم الطور بأعيانهم، لكنهم كانوا على منهاجهم، وسبيلهم. فأما أولئك باعيانهم، فانهم آمنوا: إما طوعا، واما كرها. والمعنى في (الباء) المتصلة بالكفر: أنهم كفروا بالله بما اشربوا من محبة العجل. وليس المعنى انهم في ذلك اشربوا حب العجل جزاء على كفرهم، لان محبة العجل كفر قبيح. والله لايفعل الكفر في العبد، لا إبتداء، ولا مجازاة.

___________________________________

(1) في المطبوعة والمخطوطة " الست من الشنئان " وهو غلط.

[357]

قوله تعالى: قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين(94)

آية واحدة بلا خلاف.

هذه الآية مما احتج الله بتأويلها لنبيه صلى الله عليه وآله على اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجره، وفضح بها احبارهم وعلماء‌هم، لانه دعاهم إلى قضية عادلة بينه وبينهم، كما كان من الخلف الواقع بينهم.

فقال لفريق من اليهود: ان كنتم صادقين ان الجنة خالصة لكم دون الناس كلهم، او دون محمد واصحابه الذين آمنوا به فتمنوا الموت، لان من اعتقد انه من أهل الجنة قطعا، كان الموت أحب اليه من حياة الدنيا التي فيها النغص، وانواع الآلام، والمشاق، ومفارقتها إلى نعيم خالص يتخلص به من اذى الدنيا.

وقوله: " فتمنوا الموت " - وان كان صورته صورة الامر - المراد به التوبيخ، والزام الحجة.

وروي عن النبي صلى الله عليه وآله انه قال: لو ان اليهود تمنوا الموت لماتوا، ولرأوا مقاعدهم من النار فقال الله تعالى لهم " ولن يتمنونه ابدا بما قدمت ايديهم " تحقيقا لكذبهم، فقطع على انهم لا يظهرون التمني وفي ذلك اعظم الدلالة على صدقه، لانه اخبر بشئ قبل كونه، فكان كما اخبر، لانه لا خلاف انهم لم يتمنوا. وقيل انهم ما تمنوا، لانهم علموا انهم لو تمنوا الموت، لماتوا - كما قاله - فلذلك لم يتمنوه.

وهذا قول ابن عباس.

وقال غيره: إن الله صرفهم عن اظهار التمني، ليجعل ذلك آية لنبيه صلى الله عليه وآله.

أما التمني فهو قول لما كان: ليته لم يكن، ولما لم يكن ليته كان.

وقال قوم: هو معنى في القلب.

غير انه لا خلاف انه ليس من قبل الشهوة.

فمن قال من المفسرين: انه أراد فتشهوا، فقد اخطأ.

قد روي عن ابن عباس انه قال: فاسألوا الموت. وهذا بعيد،

[358]

لان التمني بمعنى السؤال لا يعرف في اللغة.

فان قيل: من اين انهم ما تمنوه بقلوبهم عند من قال: انه معنى في القلب؟ قلنا: لو تمنوه بقلوبهم لاظهروه بألسنتهم حرصا منهم على تكذيبه في إخباره، وجهدا في اطفاء امره.

وهذه القصة شبيهة بقصة المباهلة، وان النبي صلى الله عليه وآله لما دعا النصارى إلى المباهلة امتنعوا لقلة ثقتهم بما هم عليه، وخوفهم من صدق النبي صلى الله عليه وآله. ومعنى " خالصة ": صافية.

يقال خلص لي هذا الامر: اي صار لي وحدي، وصفا لي يخلص خلوصا وخالصة.

والخالصة: مصدر كالعاقبة يقال للرجل هذا خلصاني: اي خالصتي - من دون اصحابي.

قوله تعالى: ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين(95)

آية بلا خلاف.

اخبر الله تعالى عن هؤلاء الذين قيل لهم: " تمنوا الموت ان كنتم صادقين " بانهم لا يتمنون ذلك ابدا. قد بينا ان في ذلك دلالة على صدق النبي صلى الله عليه وآله من حيث تضمنت انهم لا يتمنون ذلك في المستقبل.

وكان كما قال.

وقوله: " ابدا " نصب على الظرف: اي لم يتمنوه ابدا طول عمرهم. كقول القائل: لا أكلمك ابدا،. وانما يريد ما عشت.

وقوله: " بما قدمت ايديهم " معناه بالذي قدمت ايديهم ويحتمل ان يكون المراد بتقدمة ايديهم: فتكون (ما) مع ما بعدها بمنزلة المصدر.

وقوله: " والله عليم بالظالمين " انما خص الظالمين بذلك - وان كان عالما بغيرهم لان الغرض بذلك الزجر، كانه قال: عليم بمجازاة الظالمين. كما يقول القائل لغيره، مهددا له: انا عالم بك بصير بما تعمله.

وقيل: انه عليم بانهم لا يتمنونه ابدا حرصا على الحياة، لان كثيرا منهم يعلم انه مبطل: وهم المعاندون منهم الذين يكتمون الحق وهم يعلمون.

[359]

قوله تعالى: ولتجدنهم أحرص الناس على حيوة ومن الذين أشركوا يود احدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر والله بصير بما يعملون(96)

آية بلا خلاف.

المعنى: قال ابن عباس، وابوالعالية: ومجاهد، والربيع: ان المعنى بقوله احرص الناس على حياة اليهود واحرص من الذين اشركوا وهم المجوس وهم الذين يود احدهم لو يعمر الف سنة وما هو بمزحزحه لانه اذا دعا بعضهم لبعض يقول له: هزار سال بده: اي عشرة الاف سنة واليهود احرص على الحياة منهم " وما هو بمزحزحه " اي بمباعده من العذاب ان يعمر لانه لو عمر ما تمنى لما دفعه طول العمر من عذاب الله تعالى على معاصيه وانما وصف الله اليهود بانهم احرص الناس على حياة لعلمهم بما قد اعد الله لهم في الآخرة على كفرهم، مما لا يقر به اهل الشرك الذين لا يؤمنون بالبعث ويعلمون ما هناك من العذاب. وان المشركين لا يصدقون ببعث ولا عقاب. واليهود احرص منهم على الحياة واكره للموت.

وقوله: " وما هو بمزحزحه من العذاب ان يعمر " يعنى وما التعمير وطول البقاء بمزحزحه من عذاب الله، وهو عماد لطلب (ما) الاسم اكثر من طلبها الفعل كما قال الشاعر: وهل هو مرفوع بما هاهنا راس(1) وان في قوله: " يعمر " رفع بمزحزحه وحسنت الباء في قوله " بمزحزحه "

___________________________________

(1) معاني القرآن للفراء 1: 52 صدر البيت: بثوب ودينار وشاة ودرهم وقوله: " بثوب " متعلق بقوله " باع " من البيت المتقدم.

وهو بأن السلامي الذي بضرية *** امير الحمى قد باع حقي بني عبس

ومعنى " فهل هو مرفوع بما هاهنا رأس " فهل نجد ناصرا ينصرنا ويأخد لنا حقنا، فترفع رؤسنا وهذه كلمة يقولونها في مثل ذلك.

[360]

كما تقول: ما عبدالله بملازمة زيد وهي التي مع (ما) ذكره عماد للفعل، لاستفتاح العرب النكرة قبل المعرفة.

وقال قوم: ان هو التي مع (ما) كناية عن ذكر العمر وجعل ان يعمر مترجما عن هو يريد ما هو بمزحزحه من العذاب ان يعمر: اي وان عمر قال الزجاج: وما هو كناية عن احدهم كانه قال: وما احدهم بمزحزحه من العذاب كانه قال: يود احدهم ان يعمر الف سنة وما ذلك العمر بمزحزحه من العذاب وقوله: " بمزحزحه " اي بمبعده قال الحطيئة:

فقالوا تزحزح لا بنا فضل حاجة *** اليك ولامنا لو هيك رافع(1)

يعنى تباعد يقال منه: زحزحه يزحزحه زحزحة وزحزاحا.

فتأويل الآية: وما طول العمر بمبعده من عذاب الله، ولا منجيه منه، لانه لابد للعمر من الفناء فيصير إلى الله تعالى، وقال الفراء: " احرص الناس على حياة، ومن الذين اشركوا " ايضا والله اعلم كقولك هو اسخى الناس. من حاتم ومن هرم(2) لان تأويل قولك: اسخى الناس انما هو اسخى من الناس.

وقوله: " والله بصير بما يعملون " قرئ بالتاء والياء معا: اي لايخفى عليه شئ من اعمالهم، بل هو بجميعها محيط، ولها حافظ حتى يذيقهم بها العذاب ومعنى بصير مبصر عند اهل اللغة وسميع بمعنى مسمع، لكنه صرف إلى فعيل في بصير وسميع، ومثله " عذاب أليم " بمعنى مؤلم " وبديع السموات " بمعنى مبدع.

وعند المتكلمين المبصر: هو المدرك للمبصرات، والبصير هو الحي الذي لاآفة به، لانه يجب ان يبصر المبصرات اذا وجدت. وليس احدهما هو الآخر وكذلك سميع ومسمع.

وقوله: " يود " تقول وددت الرجل أود ودا وودا وودادا وودادة ومودة واود: لايكون ماضيه، الا وددت وقال بعض المفسرين: ان تأويل قوله " لتجدنهم احرص الناس على حياة " اي من الناس اجمع، ثم قال واحرص من الذين اشركوا

___________________________________

(1) الاغاني 13: 6 وقد نسب البيت لقيس بن الحدادية من قصيدة طويلة، نفيسة.

(2) في المخطوطة والمطبوعة " هرية " انظر 1: 355.

[361]

على وجه التخصيص، لان من لايؤمن بالبعث، والنشور، يكون حرصه على البقاء في الدنيا اكثر ممن يعتقد الثواب، والعقاب.

فان قيل: أليس نجد كثيرا من المسلمين يحرصون على الحياة، ويكرهون الموت؟ فكيف تدل هذه الآية على ان اليهود لم يكونوا على ثقة مما كانوا يدعونه من انهم اولى به من المسلمين - مع ان المسلمين يشاركونهم في الحرص على الحياة - وهم على يقين من الآخرة، وما فيها من الثواب، والعقاب؟ قيل: ان المسلمين لا يدعون أن الدار الآخرة لهم خالصة، ولا انهم احباء الله، ولا انهم من اهل الجنة قطعا، كما كانت اليهود تدعي ذلك، بل هم مشفقون من ذنوبهم، يخافون أن يعذبوا عليها في النار، فلهذا يشفقون من الموت، ويحبون الحياة، ليتوبوا من ذنوبهم التي يخافون ان يعذبوا عليها في النار، فلهذا يشفقون من الموت ويحبون الحياة ليتوبوا من ذنوبهم، ويصلحوا اعمالهم. ومن كان على يقين مما يصير اليه، لم يؤثر الحياة على الموت.

كما روي عن علي (ع) انه قال: لا ابالي سقط الموت علي او سقطت على الموت، وقال: اللهم سئمتهم، وسئموني: فابدلني بهم خيرا منهم، وابدلهم بي شرا مني.

وقوله: اللهم عجل الي الراحة، وعجل لهم الشقوة.

وكما روي عن عمار (ره) انه قال يوم صفين: القى الا حبة: محمدا وصحبه.

وكما قال حذيفة عند الموت: حبيب جاء على فاقة لا افلح من ندم.

قوله تعالى: قل من كان عدوا لجبريل فانه نزله على قلبك باذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين(97)

آية واحدة بلا خلاف.

القراء‌ة: قرأ ابن كثير: (جبريل) بفتح الجيم وكسر الراء وبعدها ياء ساكنة من غير همزة مكسورة.

وقرأ حمزة والكسائي وخلف وابوبكر إلا يحيى: بفتح الجيم والراء بعدها همزة مكسورة بعدها ياء ساكنة على وزن (جبرعيل).

[362]

وروى يحيى كذلك إلا انه حذف بعده الهمزة فيصير (جبريل).

الباقون بكسر الجيم والراء، وبعدها ياء ساكنة من غير همز.

وقرأ اهل البصرة (ميكال) بغير همز، ولا ياء.

وقرأ اهل المدينة بهمزة مكسورة بعد الالف.

مثل (ميكاعل) الباقون باثبات ياء ساكنة بعد الهمزة على وزن (ميكاعيل).

اللغة: قال ابوالحسن الاخفش: في (جبريل) ست لغات: جبرائيل، وجبرئيل، وجبرال، وجبريل، وجبرال، وجبريل.

وحكى الزجاج بالنون ايضا بدل اللام، وهي لغة بني أسد. وبتشديد اللام.

النزول: اجمع اهل التأويل على ان هذه الآية نزلت جوابا لليهود - حين زعموا أن جبريل عدو لهم، وان ميكال ولي لهم - لما أخبروا ان جبريل هو الذي نزل على محمد صلى الله عليه وآله - قالوا: جبريل عدو لنا، ياتي بالحرب والجدب. وميكائيل ياتي بالسلام والخصب: فقال الله تعالى: " قل من كان عدوا لجبريل " اذ كان هو المنزل الكتاب عليه، فانه انما أنزله على قلبه باذن الله، لا من تلقاء نفسه، وانما انزل لما هو مصدق بين يديه من الكتب التي في ايديهم، لامكذبا لها، وانه وإن كان فيما أنزل الامر في الحرب، والشدة على الكافرين. فانه هدى وبشرى للمؤمنين.

المعنى: وقوله: " على قلبك " ولم يقل على قلبي. كقولك للذي تخاطبه: لاتقل للقوم إن الخبر عندك، ويجوز ان تقول: لا تقل: ان الخبر عندي.

وكما تقول: قال القوم: جبرائيل عدونا، ويجوز ان تقول: قالوا: جبرائيل عدوهم. ولاينبغي أن يستنكر أحد أن اليهود يقولون: إن جبرائيل عدونا، لان الجهل في هؤلاء أكثر من ان يحصى. وهم الذين اخبر الله عنهم بعد مشاهدة فلق البحر، والمعجزات

[363]

الباهرة " اجعل لنا إلها كما لهم آلهة "(1) وقالوا: " ارنا الله جهرة:(2) مثل ذلك طائفة من النصارى تعادي سليمان فلا تذكره ولا تعظمه، ولا نفر نبوته.

والاعراب: وجبرائيل، وميكائيل: اسمان اعجميان أعربا.

وقيل: ان جبر عبد وايل الله مثل عبدالله(3).

وضعف ذلك ابوعلي الفارسي من وجهين: احدهما - ان ايل لا يعرف في اسماء الله في لغة العرب. والثاني - انه لو كان كذلك لاعراب آخر الكلمة. كما فعل ذلك في سائر الاسماء المضافة: والامر بخلافه.

سبب النزول: وكان سبب نزول هذه الآية ما روي أن صوريا، وجماعة من يهود اهل فدك، لما قدم النبي صلى الله عليه وآله المدينة سألوه، فقالوا: يا محمد كيف نومك، فقد اخبرنا عن نوم النبي الذي يأتي في اخر الزمان؟ فقال: تنام عيناي وقلبي يقظان.

فقالوا: صدقت يا محمد، فاخبرنا عن الولد يكون من الرجل او من المرأة؟ فقال: اما العظام والعصب والعروق، فمن الرجل، واما اللحم والدم والظفر والشعر: فمن المرأة.

قالوا: صدقت يا محمد، فما بال الولد يشبه اعمامه، ليس فيه من شبه اخواله شئ، او يشبه اخواله ليس فيه من شبه اعمامه شئ؟ فقال: ايهما علا ماؤه كان الشبه له.

قالوا: صدقت يا محمد، فاخبرنا عن ربك ما هو؟ فانزل الله تعالى: " قل هو الله احد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا احد "(4).

فقال ابن صوريا: خصلة واحدة إن قلتها آمنت بك، واتبعتك، اي ملك يأتيك بما ينزل الله لك، قال: جبريل.

قالوا: ذلك عدونا ينزل بالقتال والشدة والحرب، وميكائيل ينزل باليسر والرخاء، فلو كان ميكائيل هو الذي يأتيك: آمنا بك.

فأنزل الله عزوجل هذه الآية.

___________________________________

(1) سورة الاعراف آية: 137.

(2) سورة النساء آية: 102.

(3) في المخطوطة والمطبوعة واو زائدة قبل " مثل ".

(4) سورة الاخلاص بأجمعها.

[364]

المعنى: وقوله: " مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين " يعني القرآن. ونصب مصدقا على الحال. والهاء في قوله: " نزله على قلبك " يا محمد " مصدقا لما بين يديه " يعني القرآن، ويعني مصدقا لما سلف من كتب الله امامه التي انزلها على رسله، وتصديقا لها: موافقة لمعانيها في الامر باتباع النبي صلى الله عليه وآله، وما جاء به من عند الله.

وانما اضافه " هدى وبشرى للمؤمنين " من حيث كانوا المهتدين به، والعالمين العاملين به - على ما بيناه فيما مضى -.

قوله تعالى: من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فان الله عدو للكافرين(98)

آية.

وقد بينا اختلاف القراء في جبريل وميكائيل - وان كانا من جملة الملائكة - فانما افراد بالذكر، لاجل امرين:

أحدهما - ذكرا لفضلهما ومنزلتهما.

كما قال: " فيهما فاكهة ونخل ورمان "(1) ولما تقدم من فضلهما، وان الآية نزلت فيهما، وفيما جرى من ذكرهما.

والثاني - ان اليهود لما قالت: جبريل عدونا، وميكال ولينا، خصا بالذكر، لئلا يزعم اليهود ان جبريل وميكال مخصوصان من جملة الملئكة، وغير داخلين في جملتهم، فنص الله تعالى عليهما، لا بطال ما يتأولونه من التخصيص.

ثم قال: " فان الله عدو للكافرين " ولم يقل فانه، فكرر اسم الله لئلا يظن ان الكناية راجعة إلى جبرائيل، او ميكائيل. ولم يقل (لهم) لانه يجوز ان ينتقلوا عن العداوة بالايمان.

وفي هذه الآية دلالة على خطأ من قال من المجبرة: ان الامر ليس بمحدث احتجاجا بقوله: " ألاله الخلق والامر "(2) قالوا: فلما افرد الامر بالذكر بعد ذكره الخلق ؟ على ان الامر ليس بمخلوق. ولو كان الامر على ما قالوه، لوجب ان لا يكون جبريل

___________________________________

(1) سورة الرحمان آية: 68.

(2) سورة الاعراف آية: 53.

[365]

وميكائيل من الملائكة. ونظير ذلك أيضا قوله: " واذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح "(1).

قوله تعالى: ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون(99)

آية بلا خلاف.

المعنى: معنى الآيات يحتمل امرين: احدهما - ذكره البلخي وجماعة من أهل العلم يعني سائر الآيات المعجزات التي اعطاها الله النبي صلى الله عليه وآله من الآيات: القرآن، وما فيه، وغير ذلك من الدلالات وقال بعضهم: هو الاخبار عما غمض مما في كتب الله السالفة من التوراة، والانجيل، وغيرهما.

وقال ابن عباس: ان ابن صوريا القطراني قال لرسول الله صلى الله عليه وآله: يا محمد ما جئتنا بشئ نعرفه، وما انزل عليك من آية بينة فنتبعك لها. فانزل الله في ذلك " ولقد أنزلنا اليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون " فان قال بعض اليهود: انتم مقرون باياتنا ونحن نجحد بآياتكم، فحجتنا لازمة لكم لانها مردودة إلى ما تعرفونه(2)؟ قيل لهم فيجب على هذا ألا يكون لكم حجة على الدهرية والبراهمة والثنوية، لانهم لا يعترفون باياتكم.

وانما قال: " وما يكفر بها الا الفاسقون " ولم يقل الكافرون وان كان الكفر اعظم من الفسق، لاحد امرين:

الاول - انه عنى الخارجين عن اديانهم، وان اظهروا انهم يتمسكون بها، لان اليهود قد خرجت بالكفر بالنبي صلى الله عليه وآله من شريعة موسى. الفسق هو الخروج عن امر الله إلى ما يعظم من معصيته.

والثاني - انه اراد الفاسقين المتمردين في كفرهم، لان الفسق لا يكون الا اعظم الكبائر فان كان في الكفر، فهو اعظم الكفر، وان كان فيما دون الكفر، فهو

___________________________________

(1) سورة الاعراف: 33.

(2) في المطبوعة (تعرفون).

[366]

أعظم المعاصي.

هذا يجيئ على مذهب الحسن، لانه ذكر ان الفاسقين: عني به جميع من كفر بها، وقد يدخل في هذا الكلام احد امرين: احدهما - لقوم يتوقعون الخبر او لقرب(1) الماضي من الحال.

تقول: قد ركب الامير، وجاء زيد، وقد عزم على الخروج، إي عازما عليه، وهي هاهنا مع لام القسم على هذا تقديره قوم يتوقعون الخبر، لان الكلام اذا أخرج ذلك المخرج كان أوكد وابلغ، والآية هي العلامة التي فيها عبرة.

وقيل العلامة هي الحجة. والبينة الدلالة الفاصلة بين القضية الصادقة والكاذبة ماخوذة من ابانه احد الشيئين عن الاخر فيزول التباسه به.

الآية: 100 - 109

قوله تعالى: أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل اكثرهم لا يؤمنون(100)

آية واحدة.

الاعراب: الواو في قوله " او كلما " عند سيبويه واكثر النحويين واو العطف. الا ان الف الاستفهام دخلت عليها، لان لها صدر الكلام، وهي او الاستفهام بدلالة ان الواو يدخل على هل، لان الالف اقوى منها.

قال الزجاج وغيره تقول: وهل زيد عاقل، ولا يجوز وأزيد عاقل.

وقال بعضهم يحتمل ان تكون زائدة. كزيادة الفاء في قولك: أفالله لتصنعن.

والاول - اصح لانه لا يحكم بالزيادة مع وجود معنى من غير ضرورة، والعطف على قوله: " خذوا ما اتيناكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا "(2) او كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم " وانما اتصل ذكر العهد بما قبله لاحد امرين: احدهما - بقوله: " واذ اخذنا ميثاقكم ".

والثاني - انهم كفروا ينقض العهد كما كفروا بالآيات.

___________________________________

(1) في المطبوعة " الخبر وليقرب ".

(2) سورة البقرة آية: 93.

[367]

المعنى: والمراد بالعهد هاهنا: الميثاق الذي اخذه الله ليؤمنن بالنبي الامي - على قول ابن عباس - وقال ابوعلي: المعني به العهود التي كانت اليهود اعطوها من انفسهم - في ايام انبيائهم، وفي ايام نبينا محمد صلى الله عليه وآله، لانهم كانوا عاهدوه انهم لا يعينوا عليه احدا فنقضوا ذلك واعانوا عليه قريشا يوم الخندق.

اللغة: وقوله: " نبذه " النبذ والطرح والالقاء نظائر.

قال صاحب العين: والنبذ طرحك الشئ عن يدك امامك، او خلفك.

والمنابذة: انتباذ الفريقين للحرب.

تقول نبذنا إليهم على سواء: اي نابذناهم الحرب.

والمنبوذون هم الاولاد الذين يطرحون - والنبيذ معروف - والفعل نبذت لي، ولغيري، وانبذت: خاصة لنفسي.

والمنابذة في البيع منهي عنها وهي كالرمي، كأنه اذا رمى اليه. وجب له، وسمي النبيذ: نبيذا، لان التمر كان يلقى في الجرة وغيرها(1). وهي فعيل بمعنى مفعول. واصاب الارض نبذة من المطر: اي قليل.

المعنى: قال قتادة: معنى نبذه في الآية: نقضه، وقيل: تركه وقيل ألقاه، والمعنى متقارب - قال ابوالاسود الدؤلي:

نظرت إلى عنوانه فنبذته *** كنبذك نعلا اخلقت من نعالكا(2)

وقوله: " بل اكثرهم " الهاء، والميم عائدتان على المعاهدين، ولا يصلح على الفريق اذ كانوا كلهم غير مؤمنين.

واما المعاهدون: فمنهم من آمن كعبد الله

___________________________________

(1) في المطبوعة والمخطوطة " في الجر وغيره ".

(2) ديوانه: 11. من ابيات كتب بها إلى صديقه الحصين بن الحر، وهو وال على ميسان. وكان كتب اليه في امر يهمه فشغل عنه -.

وقيل البيت.

وخبرني من كنت ارسلت انما *** اخذت كتابي معرضا بشمالكا.

[368]

ابن سلام، وكعب الاحبار وغيرهما. وانما دخلت بل على قوله: " اكثرهم لا يؤمنون "، لامرين:

احدهما - انه لما قال: " نبذه فريق منهم " دل على انه كفر ذلك الفريق بالنقض، وحسن هذا التفصيل، لان منهم من نقض عنادا. ومنهم من نقض جهلا.

والوجه الثاني - كفر فريق منهم بالنقض، وكفر اكثرهم بالجحد للحق، وهو امر النبي " ص " وما يلزم من اتباعه، والتصديق به.

وقيل بل يعني ان الفريق وان كانوا هم المعاندون، والجميع كافرون. كما تقول: زيد كريم بل قومه جميع كرام.

وقوله: " او كلما " نصب على الظرف، والعامل فيه نبذ، ولا يجوز ان يعمل فيه عاهدوا، لانه متمم (لما): اما صلة، واما صفة.

قوله تعالى: ولما جاء‌هم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون(101)

آية.

المعنى: قال السدي واكثر المفسرين: المعني بالرسول محمد " ص ". وقال بعضهم يجوز أن يعنى به هاهنا الرسالة.

كما قال كثير:

فقد كذب الواشون ما بحت عندهم *** بليلى ولا ارسلتهم برسول(1)

وهذا ضعيف، لانه خلاف الظاهر، قليل الاستعمال. والكتاب يحتمل ان يراد به التوراة. ويحتمل ان يراد به القرآن.

قال السدي: نبذوا التوراة، واخذوا بكتاب اصف، وسحر هاروت وماروت: يعني انهم تركوا ما تدل عليه التوراة من صفة النبي " ص ".

وقال قتاده وجماعة من اهل العلم: إن ذلك الفريق كانوا معاندين.

___________________________________

(1) اللسان " رسل " وقد جاء على وجهين احدهما - " برسيل " بدل " برسول " والثاني - " بسر " بدل " بليلى " وفي كليهما " لقد " بدل " فقد ".

[369]

وقال ابوعلي: لا يجوز على جماعتهم ان يكتموا ماعلموا مع كثرة عدوهم، واختلاف هممهم، لانه خلاف العادة، ولكن يجوز على الجمع الكثير ان يتواطوا على الكتمان، ولذلك قال: " فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله ".

وقوله: " مصدق لما معهم " يحتمل أمرين: احدهما - مصدق لما معهم، لانه جاء على الصفة التي تقدمت بها البشارة. والثاني - انه مصدق بالتوراة انها حق من عند الله - والاول احسن، - لان فيه حجة عليهم، وعبرة لهم.

وقال الحسن: " مصدق لما معهم " من التوراة، والانجيل.

وقال غيره: يصدق بالتوراة، لان الاخبار هاهنا عن اليهود دون النصارى.

وانما قال: " نبذ فريق منهم من الذين أوتو الكتاب " ولم يقل منهم، اذ تقدم ذكرهم، لاحد امرين: احدهما - انه لما اريد علماء اهل الكتاب، اعيد ذكرهم لاختلاف المعنى - على قول البلخي. والثاني - انه للبيان.

وكان يجوز النصب في مصدق، لان كتابا قد وصف، لانه من عند الله - على ما قاله الزجاج وقوله: " كأنهم لا يعلمون " فمعناه انهم يعلمون وكأنهم لكفرهم وكتمانهم لايعلمون.

قوله تعالى: واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا باذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق ولبئس ما اشتروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون(102)

آية بلا خلاف.

[370]

القراء‌ة: قرأ ابن عامر، وحمزة،، والكسائي، وخلف: " ولكن الشياطين " " ولكن الله قتلهم "(1) " ولكن الله رمى "(2) بتخفيف النون من (لكن) وكسرها في الوصل، ورفع الاسم بعدها. الباقون بالتشديد. وروي تثنية (الملكين) بكسر اللام، هاهنا حسب.

المعنى: واختلفوا في المعني بقوله " واتبعوا " على ثلاثة اقوال: فقال ابن جريج، وابواسحاق: المراد به اليهود الذين كانوا في زمن النبي " ص " وقال الجبائي: المراد به اليهود الذين كانوا في زمن سليمان.

وقال قوم: المراد به الجميع وهو قول المتأخرين، قال:، لان مبتغي السحر من اليهود لم يزالوا منذ عهد سليمان إلى ان بعث محمد " ص ".

وروي عن الربيع: أن اليهود سألوا محمدا " ص " زمانا عن امور من التوراة - لايسألونه عن شئ من ذلك إلا انزل الله عليه ما سألوا عنه - فيخبرهم، فلما رأوا ذلك قالوا: هذا أعلم بما انزل علينا منا وانهم سألوه عن السحر، وخاصموه به، فأنزل الله عزوجل " واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان " ومعنى " تتلوا " قال ابن عباس: تتبع، لان التالي تابع.

وقال بعضهم: يدعى - وليس بمعروف - وقال قتادة، وعطا: معناه تقرأ من تلوت كتاب الله: اي قراته.

وقال تعالى: " هنالك تتلو كل نفس ما اسلفت "(3) اي تتبع وقال حسان بن ثابت:

بني يرى مالا يرى الناس حوله *** ويتلو كتاب الله في كل مشهد(4)

___________________________________

(1، 2) سورة الانفال آية 17.

(3) سورة يونس: آية 30.

(4) قائله حسان بن ثابت. ديوانه: 88. من ابيات قالها في خبرام معبد حن خرج رسول الله " ص " مهاجرا إلى المدينة وروايته " مسجد " بدل " مشهد ".

[371]

والذي تتلوه هو السحر - على قول ابن اسحاق، وغيره من اهل العلم: - وقال بعضهم: الكذب.

ومعنى قوله: " على ملك سليمان " على عهد سليمان.

قال ابن اسحاق وابن جريج: في ملك سليمان حين كان حيا.

وهو قول المبرد وقال قوم: إنما قال تتلو " على ملك " لانهم كذبوا عليه بعد وفاته كما قال: " ويقولون على الله الكذب "(1) وقال: " أتقولون على الله ما لاتعلمون "(2) وقال الشاعر:

عرضت نصيحة من ليحيى *** فقال غششتني والنصح مر

ومابي ان اكون اعيب يحيى *** ويحيى طاهر الاخلاق بر

ولكن قد اتاني ان يحيى *** يقال عليه في نفعاء شر

فاذا صدق، قيل: تلا عنه. واذا كذب، قيل تلا عليه، واذا أبهم، جاز فيه الامران.

قوله: " الشياطين " قال قوم: هم شياطين الجن، لان ذلك هو المستفاد من اطلاق هذه اللفظة.

وقال بعضهم: المراد به الشياطين الانس المتمردة في الضلالة.

كما قال جرير:

ايام يدعونني الشيطان من غزلي *** وكن يهوينني اذ كنت شيطانا

وقوله: " وما كفر سليمان " وإن لم يجر لذلك ذكر، يكون هذا تكذيبا له. فمعناه ان اليهود اضافوا إلى سليمان السحر، وزعموا ان ملكه كان به، فبرأه الله مما قالوا.

وهو قول ابن عباس، وسعيد بن جبير، وقتادة.

وقال ابن اسحاق: قال بعض أحبار اليهود: ألا تعجبون من محمد " ص " يزعم أن سليمان كان نبيا، والله ما كان إلا ساحرا فانزل الله تعالى: " وما كفر سليمان " وقيل: تقدير الكلام واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان من السحر، فتضيفه إلى سليمان.

وما كفر سليمان. لان السحر لما كان كفرا، نفى الله تعالى عنه ذلك على المعنى - وان كانوا لم يضيفوا اليه كفرا - والسبب الذي لاجله اضافت اليهود إلى سليمان السحر، ان سليمان جمع كتب السحر تحت كرسيه. وقيل في خزائنه، لئلا يعمل به فلما مات

___________________________________

(1) سورة آل عمران: آية 75، 78.

(2) سورة الاعراف آية: 27، سورة يونس آية: 68.

[372]

وظهر عليه قالت الشياطين: بهذا كان يتم ملكه، وشاع في اليهود وقبلوه، لعداوتهم لسليمان. وقيل انهم وضعوا كتاب السحر بعد سليمان واضافوه اليه وقالوا: بهذا كان يتم له مكان فيه، فكذبهم الله تعالى في ذلك، ونفى عنه ذلك.

اللغة: والسحر والكهانة والحيلة نظائر.

يقال سحره يسحره سحرا، واسحرنا اسحارا، وسحره تسحيرا.

قال صاحب العين: السحر عمل يقرب إلى الشيطان. كل ذلك يكتبونه السحر.

ومن السحر الاخذة التي تأخذ العين حتى يظن ان الامر كما ترى - وليس الامر كما ترى - والجمع الاخذ.

والسحر البيان من اللفظ كما قال النبي " ص ": ان من البيان لسحرا، والسحر فعل السحر في شئ يلعب به الصبيان اذا مد خرج على لون، فاذا مد من جانب آخر خرج على لون آخر يسمى السحارة والسحر العدو قال لبيد:

ارانا موضعين لامر غيب *** ونسحر بالطعام وبالشراب(1)

وقال آخر:

فان تسلينامم نحن فاننا *** عصافير من هذا الانام المسحر(2)

وقوله: " انما انت من المسحرين "(3) يعنى من المخلوقين. وفي تمييز العربية هو المخلوق الذي يطعم، ويسقى، والسحر اخر الليل. بالتنوين.

قال الطرماح:

بان الخليط بسحرة فتبددوا *** والدار تشعب بالخليط وتبعد(4)

___________________________________

(1) اللسان (سحر) وقد نسبه لامرئ القيس. والبيت الذي يليه:

عصافير وذبان ودود *** واجرأ من مجلحة الذئاب

والسحر: الغذاء. وموضعين: مسرعين لامر غيب: يريد الموت.

(2) اللسان (سحر) قائله لبيد. وروايته (تسألينا فيما) بدل (تسلينامم).

والسحر هنا: يحتمل احد امرين: الخديعة، والغذاء.

(3) سورة الشعراء: آية 153، 185.

(4) اللسان " خلط " ذكر الصدر فقط. الخليط: القوم الذين امرهم واحد والجمع خلطاء، وخلط.

[373]

وتسحرنا اكلنا سحورا، واسحرنا كقولك اصبحنا. والسحر الرئة مخفف، وما يتعلق بالحلقوم.

ويقال للجبان اذا جبن انتفخ مسحره واستحر الطائر اذا غلبه بسحر. واصل الباب الخفاء، والسحر قيل: الخفاء سببه توهم قلب الشئ عن حقيقته كفعل السحرة في وقت موسى - لما اوهموا ان العصا والحبال صارت حيوانا - فقال: " يخيل اليه من سحرهم انها تسعى "(1).

وقوله: " لكن الشياطين كفروا " قيل فيه ثلاثة اقوال:

احدها - انهم كفروا بما نسبوه إلى سليمان من السحر.

والثاني - انهم كفروا بما استخرجوه من السحر.

والثالث - معناه ولكن الشياطين سحروا فعبر عن السحر بالكفر.

وقوله: " يعلمون الناس السحر " قيل فيه قولان: احدهما - انهم القوا السحر اليهم فتعلموه. والثاني - (انهم دلوه على استخراجه من تحت الكرسي فتعلموه)(2)

وقوله: " وما انزل على الملكين "

قال ابن عباس وقتادة وابن زيد والسدي: ان (ما) بمعنى الذي.

وقال الربيع في احدى الروايتين عن ابن عباس: انها بمعنى الجحد.

وروي عن القاسم بن محمد: انها تحتمل الامرين. وموضع (ما) نصب لفظها على السحر، وقيل انها عطف على (ما) في قوله: " ماتتلو الشياطين " وقال بعضهم: موضعها جر عطف على ملك سليمان، وعلى ما انزل.

ومن قرأ بكسر اللام في الملكين قال: هما من ملوك بابل، وعلوجها.(3)

وهو قول ابي الاسود الدؤلي، والربيع، والضحاك، وبه قرأ الحسن البصري، ورواها عن ابن عباس، واختلف

___________________________________

(1) سورة (طه) آية: 66.

(2) ما بين القوسين من مجمع البيان، لان الشيخ ذكر قولين، ولا يوجد في المخطوطة وفي المطبوعة الاقول واحد.

(3) العلوج، جمع علج، ويجمع ايضا على اعلاج ومعلوجي، ومعلوجاء وهو الرجل الشديد من كفار العجم.

ومنهم من يطلقه على عموم الكافر.

[374]

من قال بهذا فقال قوم: كانا مؤمنين، ولذلك نهيا عن الكفر.

وقال قوم: انهما كانا نبيين من انبياء الله.

ومن قرأ بالفتح.

قال قوم منهم: كانا ملكين وقال آخرون: كانا شيطانين.

وقال قوم: هما جبريل وميكائيل خاصة.

واختلفوا في بابل فقال قوم: هي بابل العراق، لانها تبلبل بها الالسن: وروي ذلك عن عائشة وابن مسعود.

وقيل: بابل دماوند.

ذكره السدي.

وقال قتادة: هي من نصيبين إلى رأس العين: وقال الحسن ان الملكين ببابل الكوفة إلى يوم القيامة، وان من اتاهما سمع كلامهما. ولا يراهما وبابل بلد لا ينصرف.

وقيل في معنى السحر اربعة اقوال:

احدها - انه خدع ومخاريق، وتمويهات لا حقيقة لها يخيل إلى المسحور أن لها حقيقة.

والثاني - انه اخذ بالعين على وجه الحيلة.

والثالث - انه قلب الحيوان من صورة إلى صورة، وانشاء الاجسام على وجه الاختراع فيمكن الساحر ان يقلب الانسان حمارا وينشئ اجساما.

والرابع - انه ضرب من خدمة الجن كالذي يمسك له التجدل فيصرع، واقرب الاقوال الاول، لان كل شئ خرج عن العادة الخارقة، فانه لا يجوز أن يتأتى من الساحر.

ومن جوز للساحر شيئا من هذا، فقد كفر لانه لا يمكنه مع ذلك العلم بصحة المعجزات الدالة على النبوات، لانه اجاز مثله من جهة الحيلة والسحر.

وقوله: " وما يعلمان من احد حتى يقولا انما نحن فتنة فلا تكفر " يتصل قوله: " فلا تكفر " باحد ثلاثة أشياء: احدها - فلا تكفر بالعمل بالسحر والثاني - فلاتكفر بتعلم السحر ويكون مما امتحن الله عزوجل به كما امتحن بالنهر في قوله: " فمن شرب منه فليس منى " وثالثها(1) - فلا تكفر بواحد منهما للتعلم للسحر والعمل به فان قيل كيف يجوز ان يعلم الملكان السحر؟ قيل يعلمان ماالسحر وكيف الاحتيال به، ليجتنب، ولئلا يتموه على الناس انه من جنس المعجزات التي تظهر على يد

___________________________________

(1) سورة البقرة آية: 249.

[375]

الانبياء فيبطل الاستدلال بها.

وقال جماعة من المفسرين منهم: ابوعلي وغيره انزلهما الله من السماء وجعلهما بهيئة الانس، حتى بينا للناس بطلان السحر.

وقال الحسن وقتادة: اخذ عليهما ألا يعلماه " حتى يقولا: انما نحن فتنة فلا تكفر ".

وقوله: " وما يعلمان من احد حتى يقولا انما نحن فتنة فلا تكفر " على قول من جعل ما جحدا.

وقوله: " وما انزل على الملكين " يحتمل ان يكون ذلك من قول هاروت وماروت وليسا ملكين.

كما يقول الغاوي الخليع لنا انك في ضلال فلا ترد ما انا فيه، فيقر بالذنب وهو يأتيه.

والتقدير على هذا: " ولكن الشياطين كفروا " هاروت وماروت.

فمن قرأ الملكين بفتح اللام - وهو قراء‌ة الجمهور، اختلفوا فمنهم من قال: ان سحرة اليهود زعموا ان الله انزل السحر على لسان جبريل، وميكايل إلى سليمان، فاكذبهم الله بذلك وفي الكلام تقديم وتأخير، فتقديره وما كفر سليمان وما انز على الملكين، ولكن الشياطين كفروا. يعلمان الناس السحر. ببابل هاروت وماروت - وهما رجلان ببابل غير الملكين اسم احدهما - هاروت والآخر ماروت، ويكون هاروت وماروت بيانا عن الناس.

وقال قوم: ان هاروت وماروت ملكان من الملائكة. واختلفوا في سبب هبوطهما - على قولين.

فقال قوم: ان الله اهبطهما ليامرا بالدين، وينهيا عن السحر، لان السحر كان كثيرا في ذلك الوقت، ثم اختلفوا فقال قوم: كانا يعلمان الناس كيفية السحر وينهيانهم عن فعله، ليكون النهي بعد العلم به، لان من لا يعرف الشئ فلا يمكنه اجتنابه.

وقال قوم آخرون: لم يكن للملكين تعليم السحر، ولا اظهاره، لما في تعليمه من الاغراء بفعله. والثالث هبطا لمجرد النهي - اذ كان السحر فاشيا -.

وقال قوم: كان سبب هبوطهما ان الملائكة تعجبت من معاصي بني آدم مع كثرة نعم الله عليهم، فقال لهم: اما لو كنتم مكانهم لعملتم مثل اعمالهم، فقالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا، فامرهم ان يختاروا ملكين ليهبطا إلى الارض فاختاروا هاروت و ماروت، فاهبطا إلى الارض، وركب فيهما شهوة الطعام والشراب والنكاح،

[376]

واحل لهما كل شئ بشرط الا يشركا بالله ولا يشربا الخمر ولا يزنيا، ولا يقتلا النفس التي حرم الله فعرضت لهما امرأة للحكومة فمالا اليها، فقالت لهما لا اجيبكما حتى تعبدا صنما وتشربا الخمر، وتقتلا النفس، فعبدا الصنم وواقعاها، وقتلا سائلا مر بهما خوفا ان يشهر امرهما في حديث طويل، لافائدة في ذكره.

قال كعب فو الله ما امسيا من يومهما الذي اهبطا فيه حتى استكملا جميع ما نهيا عنه فتعجبت الملائكة من ذلك ثم لم يقدر هاروت وماروت على الصعود إلى السماء وكانا يعلمان الناس السحر ومن قال: بعصمة الملائكة، لم يجز هذا الوجه.

وقال قوم من اهل التأويل: ان ذلك على عهد ادريس.

وانما قوله: " انما نحن فتنة ".

اللغة: فالامتحان والفتنة والاختبار نظائر. يقال فتنه فتنة وافتتن افتتانا.

وقال ابو العباس، فتن الرجل وأفتن(1) بمعنى اختبر.

وتقول: فتنت الرجل، وافتنته.

ولغة قريش: فتنته قال الله تعالى: " وفتناك فتونا "(2) وقال " ولقد فتنا سليمان "(3)، وقال اعشى همدان:

لئن فتنتنى فهي بالامس افتنت *** سعيدا فأمسى قد قلا كل مسلم(4)

فجاء باللغتين.

وقوله تعالى: " فظن داود أنما فتناه "(5) اي اختبرناه.

ويقال فتنت الذهب في النار: اذا اختبرته فيها، لتعلم اخالص هوام مشوب. فقيل - لكل ما أحميته في النار: - فتنته. وتقول فتنت الخبزة في النار: اذا أنضجتها. ومثله يقال في اللحم. قوله: " والفتنة أشد من القتل "(6) اي الكفر أشد

___________________________________

(1) في المطبوعة والمخطوطة (فتن) باسقاط الالف.

(2) سورة طه آية: 40.

(3) سورة ص آية: 34.

(4) اللسان (فتن) وروايته (لهي) بد (فهي) قال ابن بري: قال بن جني ويقال هذا البيت لابن قيس.

والبيت الذي يليه:

والقى مصابيح القراء‌ة واشترى *** وصال الغواني بالكتاب المتمم

فقال سعيد: كذبتن كذبتن. وفي مجمع البيان (لقد) بدل (لئن) (وهي) بدل (فهي).

(5) سورة: ص آية 24.

(6) سورة البقرة: آية 191.

[377]

من القتل. والفتن في الدين والحروب وقولهم: فتنة السوط أشد من فتنة السيف، ومعناه اختبار السوط أشد لان فيه تغذيبا متطاولا.

وقوله: " يوم هم على النار يفتنون "(1) اي يشوون.

ومن قولك فتنت الخبز والمعنى الصحيح انهم يعذبون بكفرهم.

يقال فتن الكافر، العذاب وافتنته اي جزاه بفتنته.

كقولك: كذب واكذبته. كل من صبأ فقد فتن.

وقوله: " بايكم المفتون "(2) قال الاخفش: معناه الفتنة: فهو مصدر، كقولك: رجل ليس له معقول، وخذ ميسوره ودع معسوره.

وابى ذلك سيبويه. وقال: خذ ميسوره اي ما تيسر له. وليس له مرفوع: اي ما يرفع.

قال صاحب العين: فتن فلان فتونا فهو فاتن: اي مفتن.

وقوله: " وما انتم عليه بفاتنين "(3) اي مضلين - عن الحسن ومجاهد. - وأصل الباب الاختبار.

ومعناه في الآية: انما نحن اختبار وبلوى وامتحان، فلا تكفر.

وقال قتادة: " انما نحن فتنة " اي بلاء.

ويحتمل أن يكون معناه انهما كانا كافرين، فيكون معنى قولهما: " انما نحن فتنة " اي شئ عجيب مستطرف كما يقال للمرأة الحسناء انها فتنة من الفتن.

ويكون قوله: " فلا تكفر " على هذا الوجه يعني بما جئناك به، بل صدق به واعمل عليه.

وقوله: " حتى يقولا " يحتمل امرين: احدهما - ان حتى، بمعنى إلا وتقديره وما يعلمان من احد إلا أن يقولا: انما نحن فتنة، فلا تكفر ويكون ذلك زيادة في الابتلاء من الله في التكليف. والثاني - انه نفي لتعليمهما الناس السحر، وتقديره ولا يعلمان أحدا السحر، فيقولان: " انما نحن فتنة فلا تكفر " فعلى هذا يكون تعليم السحر من الشياطين، والنهي عنه من الملكين.

وقوله: " فيتعلمون " قال قوم: معنى تعلم واعلم واحد. كما جاء علمت،

___________________________________

(1) سورة الذاريات: آية 13.

(2) سورة القلم: آية 6.

(3) سورة الصافات: آية 164.

[378]

واعلمت، وفهمت، وافهمت كما قال كعب بن زهير:

تعلم رسول الله إنك مدركي *** وان وعيدا منك كالاخذ باليد(1)

وقال القطامي:

تعلم ان بعد الغي رشدا *** وان لهذه الغير انقشاعا

ومنهم من قال: تعلم بمنزلة تسبب إلى مابه تعلم من النظر في الادلة. وليس في اعلم ذلك، لانه قد ينبئهم على مايعلمه بالتأمل له: كقوله: اعلم ان الفعل يدل على الفاعل. وما لم يسبق المحدث فهو محدث. والاول كقوله: تعلم النحو والفقه.

فان قيل كيف يفرق بين المرء وزوجه؟ قلنا فيه ثلاثة اقوال:

احدها - انه اذا تعلم السحر كفر فحرمت عليه امرأته.

والثاني - ان يمشي بينهما بالنميمة حتى يفسد بينهما، فيفضي إلى الطلاق والبينونة.

والثالث - قال قتادة وغيره: يوجد كل واحد منهما على صاحبه ويبغضه اليه.

وقيل: انه كان من شرع سليمان أن من تعلم السحر، بانت منه زوجته.

وقوله: " منهما " الضمير - قيل: - انه راجع إلى الملكين.

وقيل بل إلى الكفر والسحر. لانه تقدم الدليل عليهما في قوله: " ولكن الشياطين كفروا " كما جاء " سيذكر من يخشى ويتجنبها الاشقى "(2) اي يتجنب الذكرى.

ومن قال الملائكة معصومون، يقول الكناية ترجع إلى الكفر والسحر لا غير دون الملكين.

فكأنه قيل: " فيتعلمون " مكان ما علماهم " ما يفرقون به بين المرء وزوجه "، كقول القائل: ليت لنا من كذا، وكذا كذا: اي بدله.

قال الشاعر:

جمعت من الخيرات وطبا وعلبة *** وصرا لاخلاف المزممة البزل

___________________________________

(1) شذور الذهب: 362. وهذا بيت من قصيدة طويلة نسبها لانس بن زنيم الديلي يقولها بعد فتح مكة معتذرا لرسول الله " ص " مما كان عمرو بن سالم الخزاعي يقوله فيه وفي اصحابه ومطلعها:

انت الذي تهدى معد بامره *** بل الله يهديهم وقال: لك اشهد

(2) سورة الاعلى: آية 10.

[379]

ومن كل اخلاق الكرام نمية *** وسعيا على الجار المجاور بالنجل(1)

يريد جمعت مكان خيرات الدنيا هذه الخيرات الرديئة، والافعال الدنيئة.

اللغة: وقوله: " يفرقون بين المرء وزوجه " فالمرء تأنيثه المرأة.

قال صاحب العين: امرأة تأنيث المرء ويقال مرأة بلا ألف.

والمرأة مصدر الشئ المرئ الذي يستمرأ يقال ما كان مريئا، ولقد مرؤ واستمرأته، وهو المرئ، للطعام وأصل الباب المرئ، فقولهم مرأة كقولهم جارية اي جرت في النور والشباب. فأما امراء الطعام فانه يجري وينفذ في مجاريه، ولايقف. وكذلك المرأة تجري في السن إلى حد. وفرق في الشواذ ما بين المرء - بضم الميم - وهي لغة هذيل.

قوله: " وما هم بضارين به من احد " فالضرر والالم والاذى نظائر. والضر نقيض النفع. يقال ضره يضره ضرا، واضر به اضرارا، واستضر استضرارا، واضطر اضطرارا. وضاره مضارة وضرارا.

قال صاحب العين: الضر والضر لغتان، فاذا جمعت الضر والنفع. فتحت الضاد.

والضرر نقصان يدخل في الشئ. يقال دخل عليه ضرر في ماله.

والضرورة اسم لمصدر الاضطرار. والضرير: الذاهب البصر من الناس. تقول: رجل ضرير بين الضرارة.

والضراء من الضر. وقوم اضراء.

والضرر مصدر اضره مضارة وفي الحديث (لا ضرر ولا ضرار) واذا ضر به المرض قيل: ضرير، وامرأة ضريرة.

والضرير: اسم للمضارة، واكثر ما يستعمل في الغيرة تقول: ما اشد ضريره عليها.

___________________________________

(1) امالي المرتضى 1: 421. الوطب صفاء اللبن خاصة.

والعلبة: جلدة تؤخذ من جنب البعير فتسوى مستديرة كالقصعة المدورة يشرب بها الرعيان.

والصر: شد ضرع النوق الحلوبات والفاعل صرار.

والاخلاف: جمع خلف - بكسر فسكون - ضرع الناقة.

والبزل: جمع بازل: الناقة او البعير اذا استكمل الثامنة، وطعن في التاسعة، وبزل نابه اي انشق عن اللحم.

والمزممة: هي التي علق عليها الزمام.

والنجل تمزيق العرض بالغيبة وفي الحديث " من نجل الناس نجلوه " في المطبوعة والمخطوطة (رطبا) - بدل (وطبا). و (غلبة) بدل (علبة) و (لمحلى) بدل " بالنجل ".

[380]

قال الشاعر يصف حمارا وحشيا: -

حتى اذا مالان من ضريره(1) والضرتان: امرأتان للرجل، والجمع الضرائر.

والضرتان: الالية من جانبي عظمها، وهما الشحمتان اللتان تهدلان من جانبيها.

وضرة الابهام: لحمة تحتها.

وضرة الضرع: لحمة تحتها.

والضر: الهزال.

وضرير الوادي: جانباه وكل شئ دنا منك حتى يزحمك: فقد اضربك.

وأصل الباب: الانتقاص.

وقوله: " من أحد الا باذن الله " يحتمل امرين: احدهما - بتخلية الله. والثاني - الا بعلم الله من قوله: " فاذنوا بحرب من الله " معناه اعلموا. بلا خلاف ويقال: انت آذن اذنا.

قال الحطيئة:

الا يا هند إن جددت وصلا *** والا فاذنيني بانصرامي(2)

وقال الحارث بن حلزة: آذنتنا ببينها اسماء(3) معناه اعلمتنا.

والاذن في اللغة على ثلاثة أقسام: احدها - بمعنى العلم وذكرنا شاهده.

والثاني - الاباحة والاطلاق كقوله " فانكحوهن باذن اهلهن "(4). وقوله: " يا ايها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت ايمانكم "(5).

والثالث - بمعنى الامر: كقوله: " انزله على قلبك باذن الله "(6) وقد اجمعت الامة على انه لم يأمر بالكفر، ولم يتجه نفي القسم الثالث. ولا يجوز أن يكون المراد

___________________________________

(1) اللسان " ضرر ".

(2) في المطبوعة والمخطوطة " ألا " ساقطة. وفي المطبوعة " ماهند " وعجزه فيهما: والا فأذنيني عاجلا بانصرامي.

(3) معلقته الشهيرة وهذا مطلعها. وعجزه: رب ثاويمل منه الثواء.

(4) سورة النساء: آية 24.

(5) سورة النور: آية 58.

(6) سورة البقرة: آية 97.

[381]

" إلا باذنه " الا بارادته، ومشيئته، لان الارادة لا تسمى إذنا. الا ترى أن من اراد الشئ من غيره أن يفعله، لايقال أذن له فيه؟ فبطل ما قالوه.

وقد روي عن سفيان إلا بقضاء الله.

وقال بعض من لا معرفة له: الاذن بمعنى العلم بفتح الهمزة والذال دون الاذن بكسر الهمزة وسكون الذال - وهذا خطأ، لان الاذن مصدر يقال فيه اذن واذن مثل حذر وحذر.

وقال تعالى: " خذوا حذركم "(1) ويجوز فيه لغتان مثل: شبه وشبه ومثل ومثل.

وقال هذا القائل: من شاء الله يمنعه، فلم يضره السحر. من شاء خلى بينه، وبينه، يضره.

وقوله: " لا ينفعهم ".

اللغة: فالنفع نقيض الضر. والنفع والمنفعة واللذة نظائر. يقال نفع ينفع نفعا، فهو نافع. وانتفع فلان بكذا وكذا. ورجل نفاع ينفع الناس. وأصل النفع: ضد الضر.

وحد النفع هو كل فعل يكون الحيوان به ملتذا: اما لانه لذة، او يؤدي إلى اللذة.

والمضرة كل معنى يكون الحيوان به ألما: اما لانه ألم، او يؤدي إلى الالم.

والهاء في قوله " لمن اشتراه " عائدة إلى السحر.

المعنى: والمعنى لقد علمت اليهود أن من استبدل السحر بدين الله، ماله في الآخرة من خلاق.

وهو قول ابن زيد، وقتادة.

وقال قوم من المفسرين، كأبي علي، وغيره. كانوا يعطون عليه الاجرة، فلذلك اشتراؤهم له.

والخلاق: النصيب من الخير، وهو قول مجاهد، وسفيان.

وقال قوم: ماله من جهة.

وقال الحسن: ماله من دين.

قال امية بن ابي الصلت:

يدعون بالويل فيها لاخلاق لهم *** إلا سرابيل من قطر واغلال(2)

يعني لا نصيب لهم في الآخرة من الخير. ومعنى " شروا به انفسهم " باعوا به

___________________________________

(1) سور النساء: آية 70، 101.

(2) ديوانه: 47.

والقطر: النحاس الذائب. في المطبوعة (لا سرائيل) بدل (الا سرابيل).

[382]

انفسهم في قول السدي، وغيره - فان قيل: كيف قال: " لو كان يعلمون " وقد قال قبله " ولقد علموا لمن اشتراه "؟

قلنا عنه ثلاثة اجوبة: احدها - إنهم فريقان: فريق علموا. وعاندوا وفريق علموا وضيعوا.

والثاني - انهم فريق واحد إلا انهم ذموا في أحد الكلامين بنفي العلم، لانه بمنزلة المنتفي. واخبر عن حالهم في الاخرة وتقديره أنهم علموا قدر السحر، ولم يعلموا ان هلاكهم بتصديقه، واستعماله، اولم يعلموا كنه ما اعد الله من العذاب على ذلك وان علموه على وجه الجملة.

والثالث - وقال قوم: هو مقدم ومؤخر. وتقديره وما هم بضارين به من احد الا باذن الله، ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولبئس ما شروا به انفسهم لو كانوا يعلمون.

ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق وقال بعضهم: هما جميعا خبر عن فريق واحد، واراد بقوله: " ولبئس ماشروا به انفسهم لو كانوا يعلمون " اي لو كانوا يعلمون بما علموه فعبر عن المعلوم بالعلم، كما قال كعب بن زهير المزني يصف ذئبا وغرابا تبعاه، لينالا من طعامه، وزاده:

اذا حضراني قلت لو تعلمانه *** الم تعلما اني من الزاد مرمل(1)

فاخبر انه قال لهما: لو تعلمانه فنفى عنهما العلم، ثم استخبرهما، فقال: الم تعلما، وكذلك الآية.

وقال قوم: إن الذين علموا الشياطين والذين لم يعلموا الناس دون الشياطين، فان قيل: ما معنى لمن اشتراه، واين جوابها ان كانت شرطا؟ قلنا عنه جوابان احدهما - انها بمعنى الجزاء.

والآخر بمعنى الذي في قول الزجاج، وجوابها مكتفى منه جواب القسم.

كما قال: " لئن اخرجوا لا يخرجون معهم "(1) ولذلك وقع قالوا: ولا يجوز الجزم إلا في ضرورة الشعر، كما قال الشاعر:

لئن كان ما حدثته اليوم صادقا *** اصم في نهار الفيظ للشمس باديا

والوجه، لاصو من.

ولا يجوز لاصوم إلا في ضرورة الشعر كما قال:

___________________________________

(1) ديوانه 51 وآمالي الشريف المرتضى 1: 224 المرمل الذي نقدزاده، ومنه الارمل.

(2) سورة الحشر: آية 12.

[383]

لئن تك قد ضاقت عليكم بيوتكم *** ليعلم ربي ان بيتي واسع(1)

قالوا وان جزمت الاول، جاز جزم الثاني، كقولك: لئن تفم لا نقم إليك.

وقوله: " فيتعلمون " يجوز ان يكون عطفا على فيأتون فيتعلمون، وقد دل اول الكلام على يأتون.

وقيل: فيعلمون الناس السحر فيتعلمون - وكلاهما ذكره الكسائي والفراء - وانكر الزجاج القول الاخير، لاجل قوله: " منهما اي من الملكين، واجاز القول الاول، واختار قولا ثالثا: وهو يعلمان، فيتعلمون، والذي انكره يجوز إذا كان " منهما " راجعا إلى السحر والكفر، ولا يجوز ان يكون " فيتعلمون " جوابا لقوله: " فلا تكفر " فينصب، لان تقديره لا يكن كفر فتعلم، كما تقول: لاتدن من الاسد فيأكلك: اي لايكن دنو فأكل.

فهذا نهي عن دنو يقع بعده اكل. وانما النهي في الاول عن الكفر بتعلم السحر، للعمل وليس يصلح للجواب على هذا المعنى. ولا يجوز ان يكون جوابا للنفي في قوله: " وما يعلمان "، لان لفظه على النفي، ومعناه الايجاب كانه قيل: يعلمان اذا قالا نحن فتنة فلا تكفر.

فان قيل: ما اللام الاولى في قوله: " ولقد علموا " وما الثانية في قوله: " لمن اشتراه " ومثله قوله: " ولئن جئتهم بآية ليقولن "(2) قيل: الثانية لام القسم بالاجماع.

قال الزجاج: لانك إنما تحلف على فعلك لا على فعل غيرك - في قولك: والله لئن جئنني لا كرمنك - فأما الاولى فزعم بعض النحويين أنها لما دخلت في اول الكلام اشبهت لام القسم، فاجيبت بجوابه - قال الزجاج: هذا خطأ، لان جواب القسم لايشبه القسم، ولكن اللام الاولى دخلت إعلاما ان الجملة بكاملها معقودة بالقسم، لان الجزاء - وان كان القسم عليه -، فقد صار للشرط فيه حظ، ولذلك دخلت اللام.

قال الرماني: هذا الذي ذكره، لايبطل شبهها بالقسم، لانها للتوكيد، كما انه للتوكيد، فكأنه قال: والله إن اتيتني لا كرمنك

___________________________________

(1) الخزانة 4: 220 نسبه لكميت بن معروف. في المخطوطة (ري) بدل (ربي) وفي المطبوعة (رئ).

(2) سورة الروم: آية 58.

[384]

والظاهر في ورايات اصحابنا ان الساحر يجب قتله وفيه خلاف ذكرناه في الخلاف.

وقال ابوعلي من قال: انه بقلب الاجسام، وينشئها، يجب قتله ان لم يتب، لانه مرتد كافر بالانبياء، لانه لا يجد بين ما ادعى وبين آياتهم فضلا(1) واما من قال: إنه يموه ويمخرق(2)، فانه يؤدب، فلا يقتل.

واما الروايات التي في ان الملكين اخطأا، وركبا الفواحش، فانها اخبار آحاد. من اعتقد عصمة الملائكة، يقطع على كذبها ومن لم يقطع على ذلك، جوز ان تكون صحيحة، ولا يقطع على بطلانها.

والذي نقوله ان كان الملكان رسولين فلا يجوز عليهما ذلك، وان لم يكونا رسولين، جاز ذلك - وان لم نقطع به - وقد بينا الكلام عليه فيما مضى.

فأما ماروي من أن النبي " ص " سحر - وكان يرى انه يفعل مالم يفعله - وانه لم يفعله فأخبار آحاد، لايلتفت اليها. وحاشى النبي " ص " من كل صفة نقص، اذ تنفر من قبول قوله، لانه حجة الله على خلقه، وصفيه من عباده، واختاره الله على علم منه. فكيف يجوز ذلك مع ما جنبه الله من الغظاظة والغلظة، وغير ذلك من الاخلاق في الدنيئة، والخلق المشينة، ولا يجوز ذلك على الانبياء الا من لم يعرف مقدارهم ولا يعرفهم حقيقة معرفتهم.

وقد قال الله تعالى: " والله يعصمك من الناس "(3) وقد اكذب الله من قال: ان يتبعوا إلا رجلا مسحورا.

فقال: " وقال الظالمون ان يتبعون إلا رجلا مسحورا "(4) فنعوذ بالله من الخذلان، ونحمده على التوفيق لما يرضاه. و " لكن " مشددة، ومخففة معناهما واحد.

قال الكسائي: والذي أختارته العرب اذا كانت (ولكن) بالواو مشددة، واذا كانت بلا واو اختاروا التخفيف - وكل صواب - وقرئ بغير ما اختاروه اتباعا للاخبار في القراء‌ة.

___________________________________

(1) في المطبوعة " بين ابائهم فصلا ".

(2) الممخرق، والمموه يطلقان على معنى واحد. والمخرقة مأخوذة من مخاريق الصبيان: وهي خرق مفتولة يلعبون بها.

(3) سورة المائدة: آية 70.

(4) سورة الاسرى: آية 47 والفرقان: آية 8.




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21337950

  • التاريخ : 29/03/2024 - 07:26

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net