00989338131045
 
 
 
 
 
 

  سورة البقرة ( من آية 22 ـ 34) 

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : التبيان في تفسير القرآن ( الجزء الاول)   ||   تأليف : شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي

قوله تعالى: الذي جعل لكم الارض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فاخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون(22)

(الذي): في موضع نصب لانه نعت لقوله: (ربكم) في قوله: (اعبدوا

___________________________________

(1) قائلها غير معروف رواهما ابن الشجري في أماليه 1 - 15 وهناك رواية أخرى " كلمح سراب في الفلا.. " والمعنى واحد فالملا: الصحراء والمتسع من الارض والفلا جمع فلاة: وهي الارض المستوية ليس فيها شئ.

[100]

ربكم) وهي مثل الذي قبلها فانهما جميعا نعتان ل‍ - (ربكم) فراشا: يعني مهادا أو وطاء لا حزنة غليظة لا يمكن الاستقرار عليها وتقديره: اعبدوا ربكم الخالق لكم والخالق للذين من قبلكم الجاعل لكم الارض فراشا فذكر بذلك عباده نعمه عليهم وآلاء‌ه لديهم ليذكروا اياديه عندهم فيثبتوا على طاعته تعطفا منه بذلك عليهم ورأفة منه بهم ورحمة لهم من غير ما حاجة منه إلى عبادتهم ليتم نعمته لعلهم يهتدون وسمي السماء سماء لعلوها على الارض وعلو مكانها من خلقه وكل شئ كان فوق شئ فهو لما تحته سماء لذلك وقيل لسقف البيت سماء لانه فوقه وسمى السحاب سماء ويقال: سمى فلان لفلان اذا أشرف له وقصد نحوه عاليا عليه قال الفرزدق:

سمونا لنجران اليماني واهله *** ونجران أرض لم تديث مقاوله(1)

وقال النابغة الذبياني:

سمت لي نظرة فرأيت منها *** تحيت الخدر واضعة القرام(2)

يريد بذلك أشرفت لي نظرة وبدت.

وقال الزجاج: كل ما على الارض فهو فهو بناء لامساك بعضه بعضا فيأمنوا بذلك سقوطها فخلق السماء بلا عمد وخلق الارض بلا سند يدل على توحيده و قدمه لان المحدث لا يقدر على مثل ذلك وانما قابل بين السماء وبين الفراش لامرين: احدهما - ما حكاه أبوزيد: أن بنيان البيت سماؤه: وهو اعلاه وكذلك بناؤه وانشد:

بنى السماء فسواها ببنيتها *** ولم تمد باطناب ولا عمد

___________________________________

(1) ديوانه: 735 ونجران: ارض في مخاليف اليمن من مكة وديث البعير: ذلله بعض الذل حتى تذهب صعوبته والمقاول: جمع مقول والمقول والقيل: الملك من ملوك حمير.

(2) ديوانه: 86 وروايته: " صفحت بنظرة " والقرام: ستر رقيق فيه رقم ونقوش والخدر هنا: الهودج وفي الطبعة الايرانية بدل " تحيت " " بحيث "

[101]

يريد (ببنيتها): علوها والثاني - أن سماء البيت لما كان قد يكون بناء وغير بناء: اذا كان من شعر او وبر أو غيره قيل جعلها بناء ليدل على العبرة برفعها وكانت المقابلة في الارض والسماء باحكام هذه بالفرش وتلك بالبناء.

وقوله: (من السماء) أي من ناحية السماء قال الشاعر: أمنك البرق أرقبه فهاجا أي من ناحيتك فبناء السماء على الارض كهيئة القبة وهي سقف على الارض وانما ذكر السماء والارض فيما عد عليهم من نعمه التي أنعمها عليهم لان فيها أقواتهم وأرزاقهم ومعايشهم وبها قوام دنياهم وأعلمهم أن الذي خلقهما وخلق جميع ما فيهما من أنواع النعم هو الذي يستحق العبادة والطاعة والشكر دون الاصنام والاوثان التي لا تضر ولا تنفع.

وقوله: (وأنزل من السماء ماء): يعني مطرا فاخرج بذلك المطر مما أنبتوه في الارض من زرعهم وغروسهم ثمرات رزقا لهم وغذاء وقوتا تنبيها على أنه هو الذي خلقهم وأنه الذي يرزقهم ويكلفهم دون من جعلوه ندا وعدلا من الاوثان والآلهة ثم زجرهم أن يجعلوا له ندا مع علمهم بان ذلك كما أخبرهم وانه لا ندله ولا عدل ولا لهم نافع ولا ضار ولا خالق ولا رازق سواه بقوله: " فلا تجعلوا لله أندادا " والند: العدل.

والمثل قال حسان بن ثابت:

اتهجوه ولست له بند *** فشر كما لخير كما الفداء(1)

أي لست له بمثل ولا عدل وقال جرير:

أتيما تجعلون إلي ندا *** وما تيم لذي حسب نديد

وقال مفضل بن سلمة الند: الضد والندود: الشرود كما يند البعير ويوم التناد: يوم التنافر والتنديد: التقليل والفراش: البساط والفرش: البسط فرش يفرش فرشا وافترش افتراشا وفراش الرأس: طرائق رقاق من القحف

___________________________________

(1) ديوانه 28 روايتة " بكف "

[102]

والفراش: فراش القاع والطين بعد ما يبس على وجه الارض والفراش: الذي يطير ويتهافت في السراج وجارية فريش: قد افترشها الرجل والفرش: صغارالنعم ورجل فراشة: خفيف والفرش من الشجر: دقه واصل الماء: موه لانه يجمع امواها ويصغر مويه وماهت الركية تموه موها واماهها صاحبها: - اذا أكثر ماء‌ها - إماهة.

وروى عن ابن مسعود وغيره من الصحابة أن معنى الآية: لاتجعلوا لله أكفاء من الرجال تطيعونهم في معصية الله قال ابن عباس: إنه خاطب بقوله: (ولاتجعلوا لله أندادا وانتم تعلمون) جميع الكفار من عباد الاصنام واهل الكتابين لان معنى قوله: " وانتم تعلمون " أنه لا رب لكم يرزقكم غيره وإن ما تعبدون لا يضر ولا ينفع.

وروي عن مجاهد: أنه عنى بذلك أهل الكتابين لانهم الذين كانوا يعلمون أنه لا خالق لهم غيره ولا منعم عليهم سواه والعرب ما كانت تعتقد وحدانيته تعالى والاول أقوى لان الله تعالى قد أخبر أن العرب قد كانت تعتقد وحدانيته تعالى فقال تعالى حكاية عنهم: (ولئن سألتهم من خلق السموات والارض ليقولن الله ولنن سألتهم من خلقهم ليقولن الله) وقال تعالى: " قل من يرزقكم من السماء والارض أم من يملك السمع والابصار ومن يخرج الحي من الميت ويدبر الامر سيقولون الله فقل ألا تتقون "(1)؟

فحمل الآية على عمومها اولى ويطابق أول الآية وقد بينا أن خطابه لجميع الخلق واستدل ابوعلي الجبائي بهذه الآية على أن الارض بسيطة ليست كرة كما يقول المنجمون والبلخي بأن قال: جعلها فراشا والفراش البساط بسط الله تعالى اياها والكرة لا تكون مبسوطة قال: والعقل يدل ايضا على بطلان قولهم لان الارض لا يجوز أن تكون كروية مع كون البحار فيها لان الماء لا يستقر إلا فيما له جنبان يتساويان لان الماء لا يستقر فيه كاستقراره في الاواني فلو كانت له ناحية في البحر مستعلية على الناحية الاخرى لصار الماء من الناحية المرتفعة إلى الناحية

___________________________________

(1) سورة يونس: آية 31

[103]

المنخفضة كما يصير كذلك إذا امتلا الاناء الذي فيه الماء وهذا لا يدل على ماقاله لان قول من قال الارض كروية معناه إن لجميعها شكل الكرة.

وقوله: " وانتم تعلمون " يتحمل امرين: احدهما - إنكم تعلمون أنه لا خالق لكم ولا منعم بما عدده من انواع النعيم سوى الله وإن من اشركتم به لا يضر ولا ينفع والثاني - إنه أراد وأنتم علماء بامور معايشكم وتدبير حروبكم ومضاركم ومنافعكم لستم باغفال ولا جهال.

قوله تعالى: وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداء‌كم من دون الله إن كنتم صادقين(23)

آية بلا خلاف

الحجة: هذه الآية فيها احتجاج لله تعالى لنبيه محمد (صلى الله عليه وآله) على مشركي قوم من العرب والمنافقين وجميع الكفار من أهل الكتابين وغيرهم لانه خاطب أقواما عقلاء ألباء(1) في الذروة العليا من الفصاحة والغاية القصوى من البلاغة واليهم المفزع في ذلك فجاء‌هم بكلام من جنس كلامهم وجعل عجزهم من مثله حجة عليهم ودلالة على بطلان قولهم ووبخهم وقرعهم وامهلهم المدة الطويلة.

وقال لهم: (فأتوا بعشر سور مثله مفتريات)(2) قال: (فاتوا بسورة مثله)(3) قال في موضع آخر: (بسورة من مثله) وخبرهم أن عجزهم إنما هو عن النظير والجنس مع أنه ولد بين أظهرهم ونشأ معهم ولم يفارقهم في سفر ولا حضر وهو من لا يخفى عليهم حاله لشهرته وموضعه وهم اهل الحمية والانفة يأتي الرجل منهم بسبب كلمة على القبيلة فبذلوا أموالهم ونفوسهم في إطفاء امره ولم يتكلفوا معارضته

___________________________________

(1) الباء: ج لبيب.

(2) سورة هود: آية 13.

(3) سورة يونس: آية 38.

[104]

بسورة ولا خطبة فدل ذلك على صدقه وذكرنا ذلك في الاصول.

المعنى: وقوله: (بسورة من مثله) قال قوم: إنها بمعنى التبعيض: وتقديره: فاتوا ببعض ما هو مثل له وهو سورة. وقال آخرون: هي بمعنى تبيين الصفة كقوله: (فاجتنبوا الرجس من الاوثان)(1) قال قوم: إن " من " زائدة كما قال في موضع آخر: " بسورة مثله " يعني مثل هذا القرآن وقال آخرون: أراد ذلك من مثله في كونه بشرا اميا طريقته مثل طريقته والاول أقوى لانه تعالى قال في سورة أخرى: " بسورة مثله " ومعلوم أن السورة ليست محمدا " ص " ولا له بنظير ولان في هذا الوجه تضعيفا لكون القرآن معجزة ودلالة على النبوة.

وقوله: " وادعوا شهداء‌كم من دون الله " قال ابن عباس: أراد أعوانكم على ما أنتم عليه إن كنتم صادقين وقال الفراء: أراد ادعوا آلهتكم وقال مجاهد وابن جريح أراد قوما يشهدون لكم بذلك ممن يقبل قولهم وقول ابن عباس أقوى.

وقوله: " مثله " أراد به مايقاربه في الفصاحة ونظمه وحسن ترصيفه وتأليفه ليعلم أنه اذا عجزوا عنه ولم يتمكنوا منه أنه من فعل الله تعالى جعله تصديقا لنبيه وليس المراد أن القرآن له مثل عند الله ولولاه لم يصح التحدي لان ما قالوه: لادليل عليه والاعجاز يصح وإن لم يكن له مثل أصلا بل ذلك أبلغ في الاعجاز لان ذلك جار مجرى قوله: (هاتوا برهانكم)(2) انما أراد نفي البرهان أصلا والدعاء اراد به الاستعانة.

قال الشاعر:

وقبلك رب خصم قد تمالوا *** علي فما جزعت ولا دعوت

وقال آخر:

فلما التقت فرسانيا ورجالهم *** دعوا يالكعب واعتزينا لعامر(3)

___________________________________

(1) سورة الحج آية 30.

(2) سورة البقرة آية 111.

(3) في الطبعة الايرانية و " رجالنا " بدل " رجالهم " والبيت للراعي النميري: اللسان " عزا " واعتزى.

[105]

يعني انتصروا بكعب واستغاثوا بهم وشهداء جمع شهيد: مثل شريك وشركاء وخطيب وخطباء والشهيد: يسمى به الشاهد على الشئ لغيره بما يحقق دعواه وقد يسمى به المشاهد للشئ كما يقال: جليس فلان يريد به مجالسه ومنادمه فعلى هذا تفسير ابن عباس أقوى وهو أن معناه استنصروا أعوانكم على أن يأتوا بمثله وشهداء‌كم الذين يشاهدونكم ويعاونونكم على تكذيب الله ورسوله ويظاهرونكم على كفركم ونفاقكم إن كنتم محقين.

وما قاله مجاهد وابن جريح في تأويل ذلك لا وجه له لان القوم على ثلاثة اصناف: فبعضهم اهل ايمان صحيح وبعضهم أهل كفر صحيح وبعضهم أهل نفاق فأهل الايمان اذا كانوا مؤمنين بالله ورسوله فلا يجوز ان يكونوا شهداء للكفار على ما يدعونه واما اهل النفاق والكفر فلا شك انهم اذا دعوا إلى تحقيق الباطل وابطال الحق سارعوا اليه مع كفرهم وضلالتهم فمن أي الفريقين كانت تكون شهداء لكن يجري ذلك مجرى قوله: " قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لايأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا "(1) وقد أجاز قوم هذاالوجه أيضا قالوا: لان العقلاء لا يجوز أن يحملوا نفوسهم على الشهادة بما يفتضحون به في كلام أنه مثل القرآن ولايكون مثله كما لايجوز ان يحملوا نفوسهم على ان يعارضوا ما ليس بمعارض في الحقيقة ومعنى الآية: إن كنتم في شك من صدق محمد صلى الله عليه وآله فيما جاء‌كم به من عندي فاتوا بسورة من مثله " فاستنصروا بعضكم بعضا على ذلك إن كنتم صادقين في زعمكم حتى إذا عجزتم وعلمتم انه لايقدر على ان يأتي به محمد " ص " ولااحد من البشر يتضح عندكم انه من عندالله تعالى.

قوله تعالى: فان لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النارالتي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين(24)

المعنى: معنى " فان لم تفعلوا " لم تأتوا بسورة من مثله - قد تظاهرتم انتم

___________________________________

(1) سورة أسرى: آية 88.

[106]

وشركاؤكم عليه واعوانكم - وقد تبين لكم بامتحانكم واختباركم عجزكم وعجز جميع الخلق عنه وعلمتم انه من عندي ثم اقمتم على التكذيب به.

وقوله: (ولن تفعلوا) لا موضع له من الاعراب وانما هو اعتراض بين المبتدأ والخبر كقولك: زيد - فافهم ما اقول - رجل صدق وانما لم يكن له موضع اعراب لانه لم يقع موضع المفرد ومعنى (ولن تفعلوا): اي لن تأتوا بسورة من مثله ابدا لان (لن) تنفي على التأبيد في المستقبل وفي قوله: (ولن تفعلوا) دلالة على صحة نبوته لانه يتضمن الاخبار عن حالهم في المستقبل بانهم لا يفعلون ولايجوز لعاقل ان يقدم على جماعة من العقلاء يريد تهجينهم فيقول: انتم لا تفعلون إلا وهو واثق بذلك ويعلم ان ذلك متعذر عندهم وينبغي ان يكون الخطاب خاصا لمن علم الله انه لا يؤمن ولا يدخل فيه من آمن فيما بعد وإلا كان كذبا.

وقوله: (فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة) الوقود - بفتح الواو اسم لما يوقد والوقود - بضمها -: المصدر وقيل إنهما بمعنى واحد في المصدر واسم الحطب حكاه الزجاج والبلخي والاول أظهر (اتقوا الله) - مشددة - لغة اهل الحجاز وبنو أسد وتميم يقولون: (تقوا الله) خفيف بحذف الالف (الحجارة) قيل: إنها حجارة الكبريت لانها أحر شئ اذا حميت وروي ذلك عن ابن عباس وابن مسعود والظاهر إن الناس والحجارة: وقود النار وحطبها كماقال: (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم)(1) هيبا وتعظيما بانهاتحرق الحجارة والناس وقيل: إن أجسادهم تبقى على النار بقاء الحجارة التي توقدها النار بالقدح وقال قوم معناه: أنهم يعذبون بالحجارة المحماة مع النار والاول أقوى وأليق بالظاهر وانما جاز أن يكون قوم: (فاتقوا النار) جواب الشرط مع لزوم الاتقاء

___________________________________

(1) سورة الانبياء: آية 98

[107]

من النار كيف تصرفت الحال لانه لا يلزمهم الاتقاء على التصديق بالنبوة إلا بعد قيام المعجزة فكأنه قال: فان لم تفعلوا ولن تفعلوا فقد قامت الحجة ووجب اتقاء النار بالمخالفة.

وقوله: (اعدت للكافرين) لا يمنع من اعدادها لغير الكافرين من الفساق كما قال: (وإن جهنم لمحيطه بالكافرين)(1) لم يمنع ذلك من إحاطتها بالفساق والزناة والزبانية وقال قوم: هذه نار مخصوصة للكافرين لا يدخلها غيرهم والفساق لهم نار أخرى وقد استدل بهذه على بطلان قول من حرم النظر والحجاج العقلي بان قيل: كما احتج الله تعالى على الكافرين بما ذكره في هذه الآية وألزمهم به تصديق النبي صلى الله عليه وآله والمعرفة بان القرآن كلامه لانه قال: إن كان هذا القرآن كلام محمد فاتوا بسورة من مثله ودلهم بعقولهم أنه لو كان كلام محمد لتهيأ لهم مثل ذلك لانهم الذين يؤخذ عنهم اللغة واذا كان لم يتهيأ لهم ذلك علموا بعقولهم أنه من كلام الله وهذا هو معنى الاحتجاج بالعقول فيجب ان يكون ذلك صحيحا من كل واحد.

قوله تعالى: وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الانهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون(25)

اللغة: البشارة: هو الاخبار بما يسر المخبر به إذا كان سابقا لكل خبر سواه لان الثاني لا يسمى بشارة وقد قيل: إن الاخبار بما يغم ايضا يسمى بشارة كما قال تعالى: (فبشرهم بعذاب أليم)(2) الاولى أن يكون ذلك مجازا وهي مأخوذة

___________________________________

(1) سورة التوبة: آية 50.

(2) سورة آل عمران: آية 21.

[108]

من البشرة: وهي ظاهر الجلد لتغييرها بأول الخبر ومنه تباشير الصبح: أوله وكذلك تباشير كل شئ المبشرات: الرياح التي تحبئ لسحاب والبشر: الانسان والبشرة: أعلى جلدة الجسد والوجه من الانسان والمباشرة: ملاصقة البشرة والبشر: قشر الجلد والجنان: جمع جنة والجنة: البستان والمراد بذكر الجنة ما في الجنة من اشجارها واثمارها وغروسها دون أرضها فلذلك قال: (تجري من تحتها الانهار) لانه معلوم انه اراد الخبر عن ماء انهارها انه جار تحت الاشجار والغروس والثمار لا انه جار تحت ارضها لان الماء كان تحت الارض جاريا فلا حظ فيه للعيون إلا بكشف الساتر بينه وبينها على ان الذي يوصف به انهار الجنة انها جارية في غير اخاديد روي ذلك عن مسروق رواه عنه ابوعبيدة وغيره.

الاعراب: (وجنات): منصوب بان وكسرت التاء لانها تاء التأنيث في جمع السلامة وهي مكسورة في حال النصب بالخفض وموضع " ان " نصب بقوله: " وبشر الذين " وقال الخليل والكسائي: موضعة الجر بالباء كأنه قال: وبشرهم بأن لهم .

المعنى: وقال الفضل: الجنة: كل بستان فيه نخل وإن لم يكن شجر غيره وإن كان فيه كرم: فهو فردوس كان فيه شجر غير الكرم ام لم يكن (من ثمرة): من زائدة والمعنى: كلما رزقو ثمرة (ومنها): يعني من الجنات والمعنى: أشجارها وتقديرها: كلما رزقوا من اشجار البساتين التي اعدها الله للمؤمنين.

وقال الرماني: هي بمعنى التبعيض لانهم يرزقون بعض الثمرات في كل وقت ويجوز ان تكون بمعنى تبيين الصفة وهو ان يبين الرزق من اي جنس هو وقوله: " هذا الذي رزقنا من قبل ".

روي عن ابن عباس وابن مسعود

[109]

وجماعة من الصحابة انه الذي رزقنا في الدنيا وقال مجاهد: معناه اشبهه به وقال بعضهم: أن ثمار الجنة أذا جنيت من اشجارها عاد مكانها فاذا رأوا ما عاد بعد الذي جني اشتبه عليهم فقالوا: هذا الذي رزقنا من قبل وهذا قول أبي عبيدة ويحيى بن أبي كثير.

وقال قوم: هذا الذي رزقنا وعدنا به في الدنيا وقد بينا فيما تقدم أن الرزق عبارة عما يصح الانتفاع به على وجه لا يكون لاحد المنع منه وقال المفضل ذلك يخص الاقوات.

وقال قوم: هذا الذي رزقنا من قبل لمشابهته في اللون وإن خالفه في الطعم واقوى الاقوال قول ابن عباس وأن معناه هذا الذي رزقنا في الدنيا لانه قال: (كلما رزقوا منها من ثمرة وزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل) فعم ولم يخص فاول ما اتوا به لايتقدر هذا القول فيه إلا بأن يكون اشارة إلى ما تقدم رزقه في الدنيا لانا فرضناه أولا وليس في الآية تخصيص ويكون التقدير هذا الذي رزقنا في الدنيا لان ما رزقوه أولا قد عدم واقام المضاف اليه مقام المضاف كما أن القائل اذا قال لغيره: أعددت لك طعاما ووصفه له يحسن أن يقول: هذا طعام كل وقت يريد مثله ومن جنسه ونوعه.

وقوله: " واتوا به متشابها " قال الضحاك: إذا رأوه قالوا: هو الاول في النظر واللون واذا طعموا وجدوا له طعما غير طعم الاول.

وقوله: (واتوابه) معناه جيئوا به وليس معناه أعطوه وقال قوم: (وأتو به متشابها) أي يشبه بعضه بعضا إلا في المنظر والطعم أي كل واحد منه له من الفضل في نحوه مثل الذي للاخر في نحوه ذكره الاخفش وهذا كقول القائل: وقد جيئ بأثواب أو أشياء رآها فاضلة فاشتبهت عليه في الفضل فقال: ما أدري ما أختار منها كلها عندي فاضل قال الشاعر

من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم *** مثل النجوم التي يسري بها الساري

يعني أنهم تساووا في الفضل والسؤدد وروي هذا عن الحسن وابن جريح وقال قتادة معناه يشبه ثمار الدنيا غير انها أطيب وقال ابن زيد والاشجعي: إن التشابه في الاسماء دون الالوان والطعوم فلا يشبه ثمار الجنة شئ من ثمار الدنيا

[110]

في لون ولاطعم واولى هذه الاقوال أن يكون المراد به متشابها في اللون والمنظر على ان الطعم مختلف لما قدمناه من أن هذا يقولونه في أول الحال أيضا وما تقدر عليه غرة وبعد هذا قول من قال: معناه أن كلها جياد لا رذال فيه.

وقال بعض المتأخرين في قوله (هذاالذي رزقنا من قبل) معناه هذا الذي اعطينا بعبادتنا من قبل.

وقال ابوعلي معناه ذلك ما يؤتون به في كل وقت من الثوات مثل الذي يؤتى في الوقت الذي قبله من غير زيادة ولا نقصان لانه لابد أن تتساوى مقادير الاستحقاق في ذلك وقال أيضا يجب أن يسوي بينهم في الاوقات في مقدار ما يتفضل به عليهم في وقت ويزدادون في وقت آخر قال: لان ذلك يؤدي إلى أن التفضل أعظم من الثواب وهذا الذي ذكره غير صحيح لان العقل لا يدل على مقادير الثواب في الاقات ولا يعلم ذلك غير الله بل عندنا لا يدل العقل على دوام الثواب وانما علم ذلك بالسمع والاجماع واما التفضل فلا شك أنه يجوز أن يزيد في وقت على ما يفضله في وقت آخر ولا يؤدي ذلك إلى مساواته للثواب لان الثواب يتميز من التفضل لمقارنة التعظيم له والتبجيل ولاجل ذلك يتميزكل جزء من الثواب من كل جزء من التفضل ولا زيادة هناك.

وقوله (ولهم فيها ازواج مطهرة) قيل في الابدان والاخلاق والافعال ولا يحضن ولايلدن ولا يذهبن إلى غائط وهو قول جماعة المفسرين وقوله (وهم فيها خالدون) أي دائمون يبقون ببقاء الله لا انقطاع لذلك ولانفاد.

قوله تعالى: إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين(26)

سبب النزول: اختلف اهل التأويل في سبب نزول هذه الآية فروي عن ابن مسعود وابن

[111]

عباس أن الله تعالى لماضرب هذين المثلين للمنافقين وهو قوله (كمثل الذي استوقد نارا).

وقوله (أو كصيب من السماء) قال المنافقون الله أجل من (أن يضرب مثلا) إلى آخر الآية وقال الربيع بن أنس هذا مثل ضربه الله للدنيا لان البعوضة تحيا ما جاعت فاذا سمنت ماتت فشبه الله تعالى هؤلاء بانهم اذا امتلؤوا أخذهم الله كما قال تعالى (فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم ابواب كل شئ إلى آخر الآية)(1) - إلى ان قال - (حتى اذا فرحوا بما اوتوا أخذناهم بغتة فاذا هم مبلسون)(2) قال قتادة معناه أن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها أي لا يستحيي من الحق أن يذكر منه شيئا ما قل أو كثر إن الله تعالى حين ذكر في كتابه الذباب والعنكبوت قال اهل الضلالة ماذا اراد الله من ذكر هذا؟ فانزل الله تعالى (ان يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها: الآية).

وكل هذه الوجوه حسنة واحسنها قول ابن عباس لانه يليق بما تقدم وبعده ما قال قتادة وليس لاحد ان يقول: هذا المثل لا يليق بما تقدم من حيث لم يتقدم للبعوضة ذكر وقد جرى ذكر الذباب والعنكبوت في موضع آخر في تشبيه آلهتهم بها وان يكون المراد بذلك اولى وذلك ان قوله: " ان الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها " انما هو خبر منه تعالى انه لا يستحيي تعالى أن يضرب مثلا في الحق من الامثال: صغيرها وكبيرها لان صغير الاشياء عنده وكبيرها بمنزلة واحدة من حيث لايتسهل الصغير ولا يصعب الكبير وإن في الصغير من الاحكام والاتقان ما في الكبير فلما تساوى الكل في قدرته جاز أن يضرب المثل بما شاء من ذلك فيقر بذلك المؤمنون ويسلمون - وان ضل به الفاسقون بسوء اختيارهم -.

وهذا المعنى مروي عن مجاهد وروي عن الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام) انه قال: إنما ضرب الله بالبعوضة لان البعوضة على صغر خلق فيها جميع ما في الفيل على كبره وزيادة عضوين آخرين فاراد الله ان ينبه بذلك المؤمنين على لطف خلقه وعجيب عظم صنعه

___________________________________

(1)و(2) سورة الانعام: آية 44

[112]

المعنى: و (يستحيي) لغة اهل الحجاز وعامة العرب بيائين وبنو تميم يقولون: بياء واحدة اخصر كما قالوا: الم يك ولا ادر ومعنى (يستحيي): قال بعضهم: إنه لا يخشى ان يضرب مثلا كما قال: (وتخشى الناس والله احق تخشاه)(1)"عناه: تستحيى الناس والله احق ان تستحييه فيكون الاستحياء بمعنى الخشية بمعنى الاستحياء وقال الفضل بن سلمة: معناه لا يمتنع.

وقال قوم: لا يترك وهو قريب من الثاني واصل الاستحياء: الانقباض عن الشئ والامتناع منه خوفا من مواقعة القبيح والاستحياء والانخزال والانقماع والارتداع متقاربة المعنى وضد الحياء القحة ومعنى (الاستحياء) في الآية: انه ليس في ضرب المثل بالحقير عيب يستحيى وكأنه قال: لا يحل ضرب المثل بالبعوضة محل مايستحيى منه فوضع قوله: - (إن الله لا (يستحيى) الآية - إختاره الرماني وقوله: - (ان يضرب مثلا) فهو ان يصف ويمثل ويبين كما قال تعالى (ضرب لكم مثلا من انفسكم)(2)"عناه وصف لكم كما قال الكميت:

وذلك ضرب أخماس أريدت *** لاسداس عسى أن لا تكونا

والمعنى وصف أخماس وضرب المثل بمثله يقال: أي ضرب هذا؟ أي من أي جنس ولون والضروب: الامثال والمثل: الشبه ويقال: مثل ومثل كما قالوا شبه وشبه كقول كعب بن زهير:

كانت مواعيد عرقوب لنا مثلا *** وما مواعيده إلا الاباطيل

يعني شبها فمعنى الآية: إن الله لايستحيي أن يصف شبها لما شبه به.

الاعراب: وإما إعراب (بعوضة): فنصب من وجهين - على قول الزجاج احدهما - ان تكون " ما " زائدة كأنه قال: إن الله لايستحيي أن

___________________________________

(1) سورة الاحزاب آية 37.

(2) سورة الروم: آية 28

[113]

يضرب بعوضة مثلا أو مثلا بعوضة وتكون " ما " زائدة نحو قوله: (فبما رحمة من الله)(1)"الثاني - أن تكون " ما " نكرة ويكون المعنى: أن الله لايستحيي أن يضرب مثلا شئ بعوضة فكان بعوضة في موضع نصب شئ لانه قال: يستحيي ان ضرب مثلا شئ من الاشياء بعوضة فما فوقها.

قال الفراء يجوز أن يكون معنى " ما " بين بعوضة إلى ما فوقها كما يقول القائل: مطرنا ما(2) زبالة فالثعلبية وله عشرون ما ناقة وجملا وهي أحسن الناس ما قرنا فقدما يعنون ما بين في جميع ذلك وقال بعضهم: " ما " بمعنى الذي ويكون التقدير الذي هو بعوضة لانها من صلة الذي فأعربها باعرابه كما قال حسان بن ثابت:

فكفى بنا فخرا على من غيرنا *** حب النبي محمد ايانا

فأعرب (غيرنا) باعراب (من) ويجوز ذلك في من وما لانهما يكونان تارة معرفة وتارة نكرة والبعوضة: من صغار البق وقوله: " فما فوقها " في الصغر والقلة كما يقول القائل: إن هذا الامر لصغير فيقول المجيب: وفوق ذلك أي هو أصغر مما قلت وكلاهما جائز فمن قال بالاول قال: لان البعوضة غاية في الصغر ومن قال بالثاني قال: يجوز أن يكون ما هو أصغر منها وحكي عن رؤبة ابن العجاج: انه رفع بعوضة وانشد بيت النابغة:

قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا *** إلى حمامتنا أو نصفه فقد(3)

بالرفع فأعمل ما ولم يعمل ليت قال: وهي لغة تميم يعملون آخر الاداتين.

وقال الزجاج: الرفع كان يجوز وما قرئ به اذا كانت " ما " بمعنى الذي ويقدر بعدها هو ويكون تقديره مثلا الذي هو بعوضة كمن قرأ تماما على الذي هو أحسن وقد قرئ به وهو ضعيف عند سيبويه وفي الذي اقوى لانه أطول ولانها

___________________________________

(1) سورة آل عمران: آية 159.

(2) في المطبوعة " بين " بعد ما زائدة.

(3) قد: اسم فعل بمعنى يكفي

[114]

لاتستعمل ألا في الاسماء وقوله: (فأما الذين) لغة العرب جميعا بالتشديد وكثير من بني عامر وتميم يقولون أيما فلان ففعل الله به وانشد بعضهم:

مبتلة هيفاء أيما وشاحها *** فيجري وايما الحجل منها فلا يجري

(آمنوا فيعلمون أنه الحق) الفاء جواب (أما) وفيها معنى الشرط والجزاء والمعنى: ان المؤمنين بالله على الحقيقة يعلمون أن هذا المثل حق من عند الله وأنه من كلامه.

(واماالذين كفروا) يعني الجاحدين، (فيقولون ماذا اراد الله بهذا مثلا) على ما بيناه وانتصب (مثلا) عند تغلب بانه قطع وعند غيره انه تفسير وقال قوم: إنه نصب على الحال وذا مع ما بمعنى أي شئ الذي أراد الله بهذا مثلا فعلى هذا يكون الجواب رفعا، كقولك: البيان لحال الذي ضرب له المثل ويحتمل أن يكون وقعا ذا وما بمنزلة اسم واحد فيكون الجواب نصبا كقولك: البيان لحال الممثل به.

ورد القرآن بهما جميعا قال تعالى: (ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا) وفي موضع آخر: (ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الاولين) ذكرهما سيبويه، والاخفش هذا إشارة إلى المثل ومثلا ما، نون التنوين تدغم في الميم عند جميع القراء ويكره الوقف فيها على قوله: " لا يستحيي " ثم يقول: (أن يضرب مثلا) وكذلك على قوله: " والله لايستحيي " ثم يقول: " من الحق ".

وقوله: " يضل به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين " إن قيل: أليس تقولون: إن الله لايضل أحدا، ولايهدي خلقا، وإن العباد هم يضلون انفسهم ويهدونها، وهم يضلون من شاء‌وا ويهدون من شاء‌وا وقد قال الله تعالى: في غير موضع من كتابه نحو قوله: (يضل من يشاء ويهدي من يشاء)، ولا يمكنكم ان تقولوا: إن المراد بالاضلال العقوبة والتسمية، لانه لو قال: يضل كثيرا ويهدي كثيرا، كان ذلك ممكنا، لكنه قال، (يضل به) و (يهدي به) والهاء راجعة إلى القرآن، والمثل الذي ضربه فيه ولا يجوز أن يعاقب بالمثل، ولا أن يسمى

[115]

بالمثل فعلم بذلك أنه أراد أنه ليس عليهم وجعله حيرة لهم قلنا اول ما في ذلك انا لا نطلق أن الله لا يضل احدا ولايهدي احدا ومن اطلق ذلك، فقد اخطأ ولانقول ايضا إن العباد يضلون انفسهم ويهدونها مطلقا او يضلون غيرهم ويهدونه فان إطلاق جميع ذلك خطأ، بل نقول: إن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء.

ونقول: إن من اضله الله فهو الضال ومن هداه فهو المهتدي، ولكن لا نريد بذلك ما يريده المخالف مما يؤدي الي التظليم والتجويز لله في حكمه والمخالف يقول: إن الله يضل كثيرا من خلقه بمعنى انه يصدهم عن طاعته، ويحول بينهم وبين معرفته، ويلبس عليهم الامور ويحيرهم ويغالطهم، يشككهم ويوقفهم في الضلالة، ويجبرهم عليها ومنهم من يقول: يخلقها فيهم، ويخلق فيهم قدرة موجبة له، ويمنعهم الامر الذي به يخرجون منها، فيصفون الله تعالى باقبح الصفات وأخسها وقالوا فيه بشر الاقوال.

وقلنا نحن: إن الله قد هدى قوما واضل آخرين، وأنه يضل من يشاء غير أن لفضله وكرمه، وعدله ورحمته لا يشاء أن يضل إلا من ضل وكفر وترك طريق الهدى وإنه لا يشاء ان يضل المهتدين والمتمسكين بطاعته، بل شاء أن يهديهم ويزيدهم هدى، فانه يهدي المؤمنين بان يخرجهم من الظلمات إلى النور كما قال تعالى:

(والذين اهتدوا زادهم هدى واتاهم تقواهم)(1) قال: (ومن يؤمن بالله يهد قلبه)(2) قال: (الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور)(3) قال (يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين الذين ينقضون عهدالله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الارض اولئك هم الخاسرون)(4) قال: (ويضل الله الظالمين)(5) الاضلال على وجوه كثيرة منها: ما نسبه الله تعالى إلى الشيطان: وهو الصد عن الخير والرشد والدعاء إلى

___________________________________

(1) سورة محمد: آية 17.

(2) سورة التغابن: آية 11.

(3) سورة البقرة: آية 257.

(4) سورة البقرة: آية 27.

(5) سورة ابراهيم: آية 27.

[116]

الفساد والضلال، وتزيين ذلك، والحث عليه وهذا ينزه الله تعالى عنه ومنها التشديد الامتحان والاختبار اللذين يكون عندهما الضلال ويعقبهما ونظير ذلك في اللغة أن يسأل الرجل غيره شيئا نفيسا خطيرا يثقل على طباعه بذله فاذا بخل به، قيل له نشهد لقد بخل به فلان وليس يريدون بذلك عيب السائل وانما يريدون عيب الباخل المسؤول، لكن لما كان بخل المسؤول ظهر عند مسألة السائل جاز أن يقال في اللغة: انه بخلك ويقولون للرجل اذا أدخل الفضة النار ليعلم فسادها من صلاحها، وظهر فسادها: أفسدت فضتك، ولا يرون أنه فعل فيها فسادا، وإنما يريدون ان فسادها ظهر عند محنته.

ويقرب من ذلك قولهم: فلان أضل ناقته، ولا يريدون انه أراد أن يضل، بل يكون قد بالغ في الاستتار منها وانما يريدون ضلت منه لا من غيره ويقولون افسدت فلانة فلانا، واذهبت عقله وهي لا تعرفه، لكنه لما فسد وذهب عقله من أجلها، وعند رؤيته إياها قيل: قد افسدت، واذهبت عقله ومنها التخلية على جهة العقوبة وترك المنع بالقهر والاجبار، ومنع الالطاف التي يؤتيها المؤمنين جزاء على ايمانهم كما يقول القائل لغيره افسدت سيفك، اذا ترك أن يصلحه لا يريد أنه أراد أن يفسد أو أراد سبب فساده، أولم يحب صلاحه، لكنه تركه فلم يحدث فيه الاصلاح - في وقت - بالصقل والاحداد.

وكذلك قولهم: جعلت اظافيرك سلاحا وانما يريدون تركت تقليمها ومنها التسمية بالاضلال والحكم به كافرا يقال: أضله اذا سماه ضالا كما يقولون: أكفره اذا سماه كافرا، ونسبه اليه قال الكميت:

وطائفة قد أكفروني بحبكم *** وطائفة قالوا: مسئ ومذنب

ومنها الاهلاك والتدمير قال الله تعالى: " أإذا ضللنا في الارض " أي هلكنا فيجوز أن يكون أراد بالآية: حكم الله على الكافرين، وبراء‌ته منهم ولعنه إياهم إهلا كالهم، ويكون اضلاله إضلالا كما كان الضلال هلا كا واذا كان الضلال ينصرف على هذه الوجوه، فلا يجوز أن ينسب إلى الله تعالى اقبحها وهو ما أضافه إلى الشيطان، بل ينبغي أن ينسب اليه أحسنها وأجلها واذا ثبتت

[117]

هذه الجملة، رجعنا إلى تأويل الآية، وهو قوله: " يضل به كثيرا " معناه أن الكافرين لما ضرب الله لهم الامثال قالوا: ما الحاجة اليها؟ قال الله تعالى: فيها اعظم الفائدة: لانها محنة واختبار وبهما يستحق الثواب، ويوصل إلى النعيم فسمى المحنة اضلالا وهداية، لان المحنة إذا اشتدت على الممتحن وثقلت فضل عندها، جاز أن تسمى اضلالا، فاذا سهلت فاهتدى عندها، سميت هداية، كما أن الرجل يقول لصاحبه: ما يفعل فلان؟ فيقول هو ذا يسخي قوما ويبخل قوما آخرين أي يسأل قوما فيشتد عليهم للعطاء فيبخلون، ويسأل آخرين، فيسهل عليهم فيعطون ويجودون، فسمي سؤاله باسم ما يقع عنده ويعقبه فمعنى قوله: " يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا " أي يمتحن به عباده، فيضل به قوم كثير، ويهتدي به قوم كثير ولا يجب على ذلك أن يكون أراد إضلالهم كما لا يجب ذلك في السائل الذي لا يريد بخل المسئول، بل يريد إعطاء‌ه فان قيل: أليس الله تعالى امتحن بهذه الامثال المؤمنين كما امتحن بها الكافرين، فيجب أن يكون مضلا لهم؟

قلنا: إنما سمى المحنة الشديدة إضلالا إذا وقع عندها الضلال كما أن السؤال يسمى تبخيلا إذا وقع عنده البخل.

وقال قوم: معنى قوله: " يضل به كثيرا " يعني يضل بالتكذيب بهذه الامثال كثيرا ويهدي بالايمان كثيرا، لانه لو كان سببا للضلال لما وصفه الله بأنه هدى وبيان وشفاء لما في الصدور وحذف التكذيب والاقرار اختصارا، لان في الكلام ما يدل عليه كما يقول القائل: نزل السلطان فسعد به قوم وشقي به آخرون وانما يراد به سعد باحسانه قوم وشقي باساء‌ته آخرون لا بنزول جيشه، لانه نفسه لايقع به سعادة ولا شقاء وكما قال: " وأشربوا في قلوبهم العجل " وانما أراد حب العجل وذلك كثير وقد بينا أن الاضلال والهداية يعبر بهما عن العذاب والثواب، فعلى هذا يكون تقدير الآية: يضل أي يعذب بتكذيب القرآن، والامثال كثيرا، ويهدي أي يثيب بالاقرار به كثيرا والدليل على

[118]

ما قلناه قوله: " وما يضل به إلا الفاسقين " فلا يخلو أن يكون أراد ما قلناه من العقوبة على التكذيب، أو أراد به الحيرة والتشكيك، وقد ذكرنا انه لا يفعل الحيرة المتقدمة التي بها صاروا ضلالا فساقا، لم يفعلها الله إلا بحيرة قبلها، وهذا يوجب مالا نهاية له من حيرة قبل حيرة، لا إلى أول، أو اثبات إضلال لا إضلال قبله، فان كان الله قد فعل هذا الضلال الذي لم يقع قبله ضلال فقد أضل من لم يكن فاسقا، وهذا خلاف قوله: " وما يضل به إلا الفاسقين " فثبت أنه أراد أنه لا يعاقب إلا الفاسقين، كما قال: " ويضل الله الظالمين ويفعل ما يشاء(1).

وحكى الفراء وجها آخوا مليحا، قال: قوله " ماذا أراد الله بهذا مثلا، يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا " حكاية عمن قال ذلك، كأنهم قالوا: ماذا أراد بهذا مثلا يضل به كثيرا، أي يضل به قوم ويهدي به قوم، ثم قال الله: " وما يضل به إلا الفاسقين " فبين عزوجل الاضلال، وأنه لا يضل إلا ضالا فاسقا، واقتصر على الاخبار عنهم وبيان ما بين الاضلال دون ما أراد بالمثل، وهذا وجه حسن تزول معه الشبهة وأصل الفسق في اللغة الخروج عن الشئ، يقال منه: فسقت الرطبة إذا اخرجت من قشرها، ومن ذلك سميت الفارة فويسقة، لخروجها من حجرها، ولذك سمي المنافق والكافر فاسقين لخروجهما عن طاعة الله، ولذلك قال الله تعالى في صفة إبليس: " إلا ابليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه "(2) يعني خرج من طاعته واتباع أمره.

___________________________________

(1) سورة ابراهيم: آية 27(2) سورة الكهف آية 51

[119]

قوله تعالى: الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الارض أولئك هم الخاسرون(27)

العهد: العقد، والاصر مثله، والعهد: الموثق والعهد: الالنقاء، يقال: ما لفلان عهد بكذا، وهو قريب العهد بكذا، والعهد له معان كثيرة وسمي المعاهد - وهو الذمي - بذلك لانه بايع على ما هو عليه من إعطاء الجزية، والكف عنه والعهدة كتاب الشراء، وجمعه عهد وإذا أقسم بالعهد تعلق به عندنا كفارة الظهار، وقال قوم: كفارة يمين، وقال آخرون: لا كفارة عليه و " عهد الله " قال قوم: هو ما عهد إلى جميع خلقه في توحيده وعدله، وتصديق رسوله بما وضع لهم من الادلة الدالة على ربوبيته، وعهد إليهم في أمره ونهيه، وما احتج به لرسله بالمعجزات التي لا يقدر على الاتيان بمثلها الشاهدة لهم على صدقه ونقضهم ذلك: تركهم الاقرار بما قد ثبت لهم صحته بالادلة، وتكذيبهم الرسل والكتب وقال قوم وصية الله إلى خلقه، وأمره على لسان رسله إياهم فيما أمرهم به من طاعته، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه ونقضهم: تركهم العمل به وقال قوم: هذه الآية نزلت في كفار أهل الكتاب، والمنافقين منهم، وإياهم عنى الله عزوجل بقوله " إن الذين كفروا سواء عليهم.. " الآية.

وقوله: " ومن الناس من يقول آمنا بالله " وكل ما في هذه الآية من اللوم والتوبيخ متوجه إليهم وعهد الله الذي نقضوه بعد ميثاقه هو ما أخذه عليهم في التوارة من العمل بما فيها، واتباع محمد صلى الله عليه وآله إذا بعث، والتصديق بما جاء به من عند ربهم، ونقضهم ذلك جحودهم به بعد معرفتهم بحقيته(1) وانكارهم ذلك،

___________________________________

(1) نسخة بدل (بحقيته)

[120]

وكتمانهم ذلك عند الناس بعد إعطائهم إياه تعالى من أنفسهم الميثاق ليبيننه للناس ولايكتمونه، وإيمانهم أنهم متى جاء‌هم نذير آمنوا به، فلما جاء‌هم النذير ازدادوا نفورا، ونبذوا ذلك وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا وهذا الوجه اختاره الطبري ويقوي هذا قوله: " وإذ أخذ الله ميثاق النبيين من كتاب وحكمة، ثم جاء‌كم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه، قال أأقرتم على ذلك امري قالوا: اقررنا قال: فاشهدوا وانا معكم من الشاهدين "(1) والامر العهد أيضا.

وقال: في موضع آخر: " وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاء‌تهم آية ليؤمنن بها "(2) وقال: " وأقسموا بالله جهد ايمانهم لئن جاء‌هم نذير ليكونن اهدى من احدى الامم فلما جاء‌هم نذير مازادهم الا نفورا "(3) وقال قوم: انما عنى بذلك العهد الذي أخذه الله حين أخرجهم من صلب آدم الذي وصفه في قوله: " واذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم واشهدهم على انفسهم الست بربكم.. إلى آخر الآية "(4)

وهذا الوجه عندي ضعيف لان الله تعالى لا يجوز ان يحتج على عباده بعهد لا يذكرونه ولا يعرفونه وما ذكروه غير معلوم اصلا والآية سنبين القول فيها اذا انتهينا اليها إن شاء الله والقطع هو الفصل بين الشيئين احدهما من الآخر والاصل أن يكون في الاجسام ويستعمل في الاعراض تشبيها به يقال قطع الحبل والكلام والامر هو قول القائل لمن دونه: افعل وهو ضد النهي والوصل هو الجمع بين الشيئين من غير حاجز وقال قوم الميثاق هوالتوثيق كما قال: " انبتكم من الارض نباتا " كقولهم اعطيتهم عطاء يريد اعطاء.

الاعراب: وقوله: " ان يوصل " بدل من الهاء التي في به تقديره: ما أمرالله بأن يوصل، وهو في موضع خفض (والذين) موضعه نصب، لانه صفة للفاسقين (أولئك) رفع بالابتداء (والخاسرون) خبره (وهم) فصل عند

___________________________________

(1) سورة آل عمران آية 81.

(2) سورة الانعام آية 109.

(3) سورة فاطمة آية 43.

(4) سورة الاعراف آية 171.

[121]

البصريين وعماد عند الكوفيين ويجوزأن يكون هم ابتداء ثانيا والخاسرون خبره والجملة في موضع خبر اولئك والنقض ضد الابرام والميثاق والميعاد والميقات متقاربة المعنى يقال وثق يثق ثقة واوثق ايثاقا وتوثق توثقا ويقال فلان ثقة للذكر والانتى، والواحد والجمع بلفظ واحد فاذا جمع قيل ثقات في الرجال والنساء ومن لابتدء الغاية في الآية وقيل: إنها زائدة والهاء في قوله ميثاقه يحتمل ان تكون راجعة إلى اسم الله تعالى.

وقال قتادة قوله: " يقطعون ما أمر الله به ان يوصل " وقطيعة الرحم والقرابة وقال غيره معناه الامر بأن يوصل كل من أمر الله بصلة من اوليائه والقطع: البراء‌ة من اعدائه وهذا أقوى، لانه أعم من الاول ويدخل فيه الاول وقال قوم: اراد صلة رسوله وتصديقه، فقطعوه بالتكذيب وهو قول الحسن وقال قوم أراد أن يوصل القول بالعمل، فقطعوا بينهما بأن قالوا ولم يعملوا وما قلناه اولا أولى لانا إذا حملناه على عمومه دخل ذلك فيه.

وقوله: " يفسدون في الارض " قال قوم: استدعاؤهم إلى الكفر وقال قوم: إخافتهم السبيل وقطعهم الطريق وقال قوم اراد كل معصية تعدى ضررها إلى غير فاعلها والخسران هو النقصان قال جرير:

إن سليطا في الخسار إنه *** أولاد قوم خلقوا أقنه

يعني بالخسار ما ينقص من حظوظهم وشرفهم وقال قوم: الخسار هاهنا: الهلاك يعني هم الهالكون وقال قوم: كلما نسبه الله من الخسار إلى غير المسلمين فانما عنى به الكفر ومانسب به إلى المسلمين انما عنى به الدنيا، روي ذلك عن ابن عباس.

كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحيكم ثم إليه ترجعون(28)

" كيف " موضوعة للاستفهام عن الحال والمعنى ههنا التوبيخ وقال الزجاج: هو التعجب للخلق وللمؤمنين أي اعجبوا من هؤلاء كيف يكفرون وقد

[122]

ثبتت حجة الله عليهم ومعنى " وكنتم " أي وقد كنتم الواو واو الحال واضمار قد جائز اذا كان في الكلام ما يدل عليها كما قال: (حصرت صدورهم) أي قد حصرت صدورهم وكما قال: (إن كان قميصة قد من دبر) أي قد قد من دبر ومن قال هو توبيخ قال هو مثل قوله: " فأين تذهبون " وقال قتادة: وكنتم امواتا فأحياكم كما كانوا امواتا في اصلاب آبائهم يعني نطفا، فاحياهم الله بأن أخرجهم ثم اماتهم الله الموتة التي لابد منها، ثم احياهم بعد الموت وهما حياتان وموتان وعن ابن عباس وابن مسعود أن معناه لم تكونوا شيئا فخلقكم، ثم يميتكم، ثم يحييكم يوم القيامة.

وروى ابوالاحوص عن عبدالله في قوله: " امتنا اثنتين واحييتنا اثنتين " قال: هي كالتي في (البقرة): " كنتم امواتا فاحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم " وهو قول مجاهد وجماعة من المفسرين.

وروي عن أبي صالح أنه قال: كنتم امواتا في القبور فأحياكم فيها،، ثم يميتكم، ثم يحييكم يوم القيامة وقال قوم: كنتم امواتا يعني خاملي الذكر، دارسي الاثر، فاحياكم بالطهور والذكر ثم يميتكم عند تقضي آجالكم ثم يحييكم للبعث قال ابونخيلة السعدي:

فاحييت من ذكري وما كان خاملا *** ولكن بعض الذكر انبه من بعض

وهذا وجه مليح غير أن الاليق بما تقدم قول ابن عباس وقتادة.

وقال قوم: معناه أن الله تعالى احياهم حين أخذ الميثاق منهم وهم في صلب آدم وكساهم العقل ثم اماتهم ثم احياهم واخرجهم من بطون امهاتهم وقد بينا أن هذا الوجه ضعيف في نظائره، لان الخبر الوارد بذلك ضعيف والاقوى في معنى الآية أن يكون المراد بذلك تعنيف الكفار واقامة الحجة عليهم بكفره وجحودهم ما انعم الله تعالى عليهم وانهم كانوا أمواتا قبل ان يخلقوا في بطون امهاتهم واصلاب آبائهم يعني نطفا والنطفة موات، ثم احياهم فاخرجهم إلى دار الدنيا احياء، ثم يحييهم في القبر للمسألة، ثم يبعثهم يوم القيامة للحشر والحساب وهو قوله تعالى: " ثم اليه ترجعون " معناه ترجعون للمجازاة على الاعمال كقول القائل: طريقك علي

[123]

ومرجعك الي يريد اني مجازيك ومقتدر عليك وسمى الحشر رجوعا إلى الله لانه رجوع إلى حيث لا يتولى الحكم فيه غير الله فيجازيكم على اعمالكم كما يقول القائل: امر القوم إلى الامير أو القاضي ولا يراد به الرجوع من مكان إلى مكان وانما يراد به ان النظر صار له خاصة دون غيره فان قال قائل: لم يذكر الله احياء في القبر فكيف تثبتون عذاب القبر قلنا: قد بينا أن قوله: " ثم يحييكم " المراد به احياؤهم في القبر للمسألة.

وقوله: " ثم اليه ترجعون " معناه احياؤهم يوم القيامة وحذف ثم يميتكم بعد ذلك لدلالة الكلام عليه على ان قوله: " ثم يحييكم " لو كان المراد به يوم القيامة، لم يمنع ذلك من احياء في القبر، واماتة بعده كما قال تعالى: " ألم ترالى الذين خرجوا من ديارهم وهم الوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم احياهم "(1) ولم يذكر حياة الذين احيوا في الدنيا بعد ان ماتوا وقال في قوم موسى " فاخذتكم الصاعقة وانتم تنظرون ثم بعثنا من بعد موتكم لعلكم تشكرون "(2) ولم يذكر حياتهم في الدنيا ولم يدل ذلك على أنهم لم يحييوا في الدنيا بعد الموت وكذلك ايضا لا تدل هذه الآية على ان المكلفين لا يحيون في قبورهم للثواب والعقاب على ما أخبر به الرسول (عليه السلام) وقول من قال: لم يكونوا شيئا ذهب إلى قول العرب للشئ الدارس الخامل: إنه ميت يربد خموله ودرسه وفي ضد ذلك يقال: هذا أمر حي يراد به، كانه متعالم في الناس ومن اراد الاماتة التي هي خروج الروح من الجسد، فانه اراد بقوله: " وكنتم امواتا " انه خطاب لاهل القبور بعد احيائهم فيها وهذا بعيد لان التوبيخ هنالك انما هو توبيخ على ما سلف، وفرط من اجرامهم لا استعتاب واسترداع.

وقوله: " كيف تكفرون بالله وكنتم امواتا " توبيخ مستعتب، وتأنيب مسترجع من خلقه من المعاصي إلى الطاعة، ومن الضلالة إلى الانابة ولا انابة في القبر ولا توبة فيها بعد الوفاة واحسن الوجوه مما قدمنا ما ذكر ابن عباس وبعده قول قتادة

___________________________________

(1) سورة البقرة: آية 243.

(2) سورة البقرة: آية 54 - 55.

[124]

قوله تعالى: هو الذي خلق لكم ما في الارض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شئ عليم(29)

آية بلا خلاف.

المعنى: " هو " كناية عن الله عزوجل في قوله: " تكفرون بالله " واراد به تأكيد الحجة فقال: " كيف تكفرون بالله " الذي احياكم بعد موتكم " ثم يميتكم ثم يحييكم ثم اليه ترجعون الذي خلق لكم ما في الارض " يعني الذي في الارض و " ما " في موضع نصب، لان الارض وجميع ما فيها نعمة من الله لخلقه: اما دينية فيستدلون بها على معرفته، وإما دنيوية فينتفعون بها لضروب النفع عاجلا.

وقوله: " ثم استوى إلى السماء فيه وجوه: احدها - ما قاله الفراء: من ان معناه اقبل عليها كما يقول القائل: كان فلان مقبلا على فلان يشتمه، ثم استوى الي يشتمني، واستوى علي يشاتمني قال الشاعر:

اقول وقد قطعن بنا شروري *** ثواني واستوين من الضجوع(1)

أي أقبلن وخرجن من الضجوع وقال قوم: ليس معنى البيت ما قاله وانما معناه استوين على الطريق من الضجوع خارجات(2) بمعنى استقمن عليه وقال قوم: معنى استوى: قصدها لتسويتها كقول القائل: قام الخليفة يدبر أمر بني تميم، ثم استوى وتحول إلى بني ربيعة، فأعطاهم وقسم لهم اي قصد اليه ويقال مرفلان مستويا إلى موضع كذا ولم يعدل اى قصد اليها وقال قوم: معنى استوى اى استولى على السماء بالقهر كما قال: " لتستووا على ظهوره "(3) أى تقهروه ومنه قوله تعالى: " ولما بلغ أشده واستوى "(4) أى تمكن من أمره

___________________________________

(1) قائله تميم بن ابي عن معجم ما استعجم في المطبوعة " سوامد " بدل " ثواني " شروري: جبل بين بني اسد وبني عامر في طريق الكوفة الضجوع - بفتح الضاد - مكان.

(2) في المطبوعة " فارجات " والصحيح ماذكرنا.

(3) سورة الزخرف: آية 13.

(4) سورة القصص: آية 14.

[125]

وقهرهواه بعقله فقال: (ثم استوى إلى السماء) في تفرده بملكها، ولم يجعلها كالارض ملكا لخلقه ومنه قول الشاعر:

فلما علونا واستوينا عليهم *** تركناهم صرعى لنسر وكاسر

وقال آخر:

ثم استوى بشر على العراق *** من سيف ودم مهراق

وقال الحسن: ثم استوى امره وصنعه إلى السماء، لان أو امره وقضاياه تنزل من السماء إلى الارض وقال بعضهم استوى بمعنى استوت به السماء كما قال الشاعر:

اقول له لما استوى في تراثه *** على أي دين قتل الناس مصعب(1)

وأحسن هذه الوجوه أن يحمل على أنه علا عليها فقهرها، وارتفع فدبرها بقدرته، وخلقهن سبع سماوات، فكان علوه عليها علو ملك وسلطان لا علو انتقال وزوال، وبعد ذلك قول من قال: قصد اليها فخلقها، ولا يقدح في الاول علوه تعالى على الاشياء فيما لم يزل، لانه وان كان كذلك لم يكن قاهرا لها بحلقها، لان ذلك متجدد، وانما قال: إلى السماء ولا سماء هناك كما يقول القائل: اعمل هذا الثوب وانما معه غزل، وقال قوم: انما سواهن سبع سماوات بعد ان كانت دخانا والاول أملح.

وقال الرماني السموات غير الافلاك لان الافلاك تتحرك وتدور واما السماوات لا تتحرك ولا تدور لقوله تعالى: (ان الله يمسك السماوات والارض ان تزولا)(2) هذا ليس بصحيح، لانه لا يمتنع ان تكون السماوات هي الافلاك وان كانت متحركة، لان قوله تعالى: (يمسك السماوات والارض أن تزولا) معناه لا تزول عن مراكزها التي تدور عليها ولولا امساكه لهوت بما فيها من الاعمالات سفلا ومعنى (سواهن) أي هيأمن وخلقهن وقومهن ودبرهن والتسوية التقويم والاصلاح يقال سوى فلان لفلان هذا الامر أي قومه واصلحه.

وقال الفراء: السماء واحدة تدل على الجمع فلذلك قال: (ثم استوى إلى السماء) فذكرها بلفظ الواحد ثم اخبر عنها بلفظ الجمع في قوله: (فسواهن) وقال

___________________________________

(1) لم يعرف قائل هذا البيت في مطبوعة " الطبري " " ترابه " بدل تراثه.

(2) سورة فاطر: آية 41.

[126]

الاخفش: السماء اسم جنس يدل على القليل والكثير كقولهم اهلك الناس الدينار والدرهم.

وقال بعضهم: السماء جمع واحده سماوة: مثل بقزة وبقر، ونخلة ونخل، وثمرة وثمر(1) ولذلك أنثت فقيل هذه سماء، وذكرت أخرى فقيل: (السماء منفطر به)(2) ما يفعل ذلك بالجمع الذى لا فرق بينه وبين واحده غير دخول الهاء وخروجها فيقال: هذا نخل، وهذه نخل وهذا بقر وهذه بقر ومن قال بالاول قال: إذا ذكرت فانما هو على مذهب من يذكر المؤنث كقول الشاعر:

فلا مزنة ودقت ودقها *** ولاأرض ابقل ابقالها(3)

وقال اعشى بني ثعلبة:

فلما ترى لمتي بدلت *** فان الحوادث أزرى بها(4)

وقال قوم: إن السماوات، وان كانت سماء فوق سماء وارضا فوق أرض فهي في التأويل واحدة، وتكون الواحدة جماعا كما يقال: ثوب أخلاق وأسمال، ورمة اعشار، للمتكسرة، وبرمه اكسار واجبار واخلاق، أي نواحية أخلاق(5).

ويقال ارض اعقال وارض اخصاب والمعنى أن كل ناحية منها كذلك، فجمع على هذا ولا ينافي ذلك قول من قال: إن السماء كانت دخانا قبل أن يسويها سبع سماوات، ثم سبعا بغير استوائه عليها وذلك أنه يقول: كن سبعا غير مستويات، فسواها الله تعالى فان قيل: قوله (هو الذي خلق لكم مافي الارض جميعا ثم استوى إلى السماء) ظاهره يوجب أنه خلق الارض قبل السماء، لان (ثم) للتعقيب، وللتراخي وقال في موضع آخر: (انتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها) ثم قال: (والارض بعد ذلك دحاها) هذا ظاهر التناقض قلنا: المعنى

___________________________________

(1) تمرة وتمر (نسخة) .

(2) ورة المزمل: آية 18.

(3) صاحب البيت عامر بن جوين، المزنه: قطعة السحاب الودق: المطر ابقلت الارض: اخرجت بقلها.

(4) ازرى بها: حقرها وانزل بها الهوان.

(5) الخلق: البالي وبرمة اجبار ج برمة جبر وان لم يقولوه مفردا. واصله من جبر العظم وهو لامة.

[127]

في ذلك خلق الارض قبل السماء غير أنه لم يدحها فلما خلق السماء دحاها بعد ذلك ودحوها: بسطها، ومدها ومنه ادحية لنعام، سميت بذلك، لانها تبسطها لتبيض فيها ويجوز أن لا يكون معنى (ثم) و (بعد) في هذه الآيات الترتب في الاوقات والتقدم والتأخر فيها، انما هو على جهة تعداد النعم والاذكار لها كما يقول القائل لصاحبه: أليس قد اعطيتك، ثم حملتك، ثم رفعت في منزلتك، ثم بعد ذلك كله خلطتك بنفسي وفعلت بك وفعلت وربما يكون بعض الذى ذكره في اللفظ متقدما، كان متأخرا، لان المراد لم يكن الاخبار عن اوقات الفعل، وانما المراد الذكر والتنبيه عليها فان قيل أي نسبة بين قوله: (ثم استوى إلى السماء) وبين قوله: (وهو بكل شئ عليم) وكان يجب ان يقول: (وهو على كل شئ قدير) قيل انما جاز ذلك، لان الله لما وصف نفسه بما يدل على القدرة والاستيلاء وصل ذلك بما يدل على العلم، إذ بهما يصح وقوع الفعل على وجه الاحكام، والاتقان وايضا اراد أن يبين انه عالم بما يؤول اليه حاله، وحال المنعم به عليه، فيستحق بذلك النعمة.

وتلخيص معنى الآية ان الله تعالى هو الذى خلق لكم الارض وما فيها من الجبال والمياه والاشجار، وما قدر فيها من الاقوات، ثم قضى خلق السماء بعد خلقه الارض ومعنى استوى أي عمد لها وقصد إلى خلقها، وسواها سبع سماوات فبناهن وركبهن كذلك ونظير ذلك قوله: (أإنكم لتكفرون بالذي خلق الارض في يومين وتجعلون له اندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها اقواتها في اربعة ايام)(1) عني يومين بعد اليومين الاولين حتى صار بذلك اربعة ايام ثم استوى إلى السماء فمعنى قوله: (خلق لكم ما في الارض جميعا) هو الذي بينه بقوله: (وجعل فيهارواسي من فوقها. الآية) وجعل ذكره لذلك في الآية الاولى تأكيد الحجة على عباده لئلا يكفروا به، ولان يؤمنوا به ويشكروه.

وقوله: (كيف تكفرون) يدل انه تعالى ما اراد الكفر

___________________________________

(1) سورة حم السجدة: آية 9 و 10

[128]

منهم، لانه لو اراده وخلقه فيهم لما قال ذلك كما لا يحسن أن يقول: لم كنتم سوادا وبيضا وطوالا وقصارا وقوله: وهي دخان فالذي روي في الاخبار أن الله تعالى لما خلق الارض، خلقها بعد الماء فصعد منه بخار وهو الدخان، فخلق الله منه السماوات وذلك جائز لا يمنع منه مانع.

وقوله: (وهو بكل شئ عليم) معناه عالم وفيه مبالغة وانما أراد اعلامهم أنه لا يخفى عليه شئ من افعالهم الظاهرة والباطنة، والسر والعلانية.

الآية: 30 - 39

قوله تعالى: واذ قال ربك للملائكة إنى جاعل في الارض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إنى أعلم ما لا تعلمون(30)

آية

المعنى: قال أبوعبيدة: (إذا) زائدة والتقدير (قال ربك للملائكة) وهي تحذف في مواضع قال الاسود بن يعمر:

واذا وذلك لا مهاه لذكره *** والدهر يعقب صالحا بفساد(1)

معناه وذلك لا مهاه لذكره قال عبد مناة بن مربع وقيل: ابن ربع الهذلي

حتى اذا أسلكوهم في قتائدة *** شلا كما تطرد الجمالة الشردا(2)

ومعناه حتى اسلكوهم والقتائد: الموضع الذي فيه قتاد(3) كثير والشل الطرد والجمالة: الجمالون والشرد الابل التي تشرد عن مواضعها، وتقصد غيرها وتطرد عنها وهذا الذي ذكره ليس بصحيح، لان إذا: حرف يأتي بمعنى الجزاء ويدل على مجهول من الوقت ولا يجوز إبطال حرف كان دليلا على معنى في الكلام

___________________________________

(1) في المطبوعة (لا مهاة) والصحيح ما ذكرنا كما عن (المفضليات) يقال ليس لعيشنا مهه ومهاه أي ليس له حسن او نضارة.

(2) في المطبوعة (يطرد) والبيت في ديوان الهذليين والخزانة اسلك الرجل غيره الطريق وسلكه فيه اضطره اليه والقتائدة: جبل في طريق مكة والمدينة وجواب (اذا) في البيت فعل محذوف دل عليه المصدر.

(3) القتاد نبات ذو شوك.

[129]

إلا لضرورة وليس المعنى في البيتين على ما ظن، بل لو حمل (إذا) في البيتين على البطلان بطل معنى الكلام الذي أراد الشاعر، لان الاسود أراد بقوله: (واذا) الذي نحن فيه وما مضى من عيشنا واراد بقوله (ذلك) الاشارة إلى ما تقدم وصفه من عيشه الذي كان فيه لا مهاه لذكره يعني لا طعم له، ولافضل لاعقاب الدهر ذلك بفساد ومعنى قول عبد مناة بن مربع: حتى اذا اسلكوهم في قتائدة إن قوله: اسلكوهم مثلا يدل على معنى محذوف، واستغنى عن ذكره بدلالة (اذا) عليه فحذف كما قال نمر بن تولب:

فان المنية من يخشها *** فسوف تصادفه اينما

يريد اينما ذهب وكما يقول القائل: من قبل، ومن بعد يريد من قبل ذلك، ومن بعد ذلك، ويقول القائل: اذا اكرمك أخوك فاكرمه واذا لا(1) فلا يريد واذا لم يكرمك فلاتكرمه ومن ذلك قول الشاعر:

فاذا وذلك لايضرك ضرة *** في يوم اسأل نائلا او انكد(2)

وكذلك لو حذف (اذا) في الآية لاستحالت عن معناها الذي تقيده (إذ)، لان تقديره: ابتدأ خلقكم اذ قال ربك للملائكة.

قال الزجاج والرماني أخطأ أبو عبيدة، لان كلام الله لا يجوز أن يحمل على اللغو مع امكان حمله على زيادة فائدة قال: ومعنى إذ: الوقت وهي اسم كيف يكون لغوا؟ قال والتقدير الوقت والحجة في (إذ) أن الله عزوجل ذكر خلق الناس وغيرهم، فكأنه قال: ابتدأ خلقك اذ قال ربك للملائكة.

وقال الفضل: لما امتن الله بخلق السماوات والارض، ثم قال: وإذ قلنا للملائكة ما قلناه فهو نعمة عليكم وتعظيم لابيكم واختار ذلك الحسن(3) بن علي المغربي وقال الرماني والزهري: اذكر اذ قال ربك والملائكة جمع غير أن واحدهم بغير همز أكثر فيحذفون الهمزة ويحركون اللام التي كانت ساكنة لو همز الاسم إلى اللام فاذا اجمعوا، ردوه إلى الاصل وهمزوا كما

___________________________________

(1) في المطبوعة " لا " ساقطة ولا يستقيم المعنى بدونها.

(2) في المطبوعة " نكرا " بدل انكد ونكده ما سأله: قلل له العطاء او لم يعطه البتة.

(3) نسخة بدل " الحسين ".

[130]

يقولون: رأى، ثم يقولون يرى بلا همز وذلك كثير وقد جاء مهموزا في واحده قال الشاعر:

فلست بأنسي ولكن ملاكا *** تنزل من جو السماء يصوب(1)

وقد يقال في واحدهم مألك: مثل قولهم: جبذ وجذب فيقلبونه، وشأمل وشمأل ومن قال: مألك يجمعه ملائك بلا هاء مثل اشعث واشاعث قال أمية ابن ابي الصلت:

وفيها من عباد الله قوم *** ملائك ذللوا وهم صعاب(2)

واصل الملاك(3) الرسالة قال عدي بن زيد العبادي:

ابلغ النعمان عني ملاكا *** أنه قد طال حبسي وانتظاري(4)

وقد ينشد ملاكا ومألكا على اللغة الاخرى.

فمن قال: ملاكا فهو مفعل من لاك اليه يليك إذا أرسل اليه رسالة: ومن قال مألكا فهو مفعل من ألكت اليه إلاكة اذا ارسلت اليه مألكة والوكا وكما قال لبيد بن ربيعة:

وغلام ارسلته امه *** بالوك فبذلنا ما سأل

وهذا من الكت ويقال: لاك يلاك والك يألك اذا أرسل قال عبد بني الحسحاس(5):

ألكني اليها عمرك الله يافتى *** بآية ماجاء‌ت الينا تهاديا(6)

يعني أبلغها رسالتي فسميت الملائكة ملائكة بالرسالة، لانها رسل الله بينه وبين انبيائه، ومن أرسل من عباده هذا عند من يقول: إن جميع الملائكة رسل فاما ما يذهب اليه اصحابنا أن فيهم رسلا وفيهم من ليس برسل، فلا يكون الاسم

___________________________________

(1) البيت منسوب لعلقمة بن عبدة وليس في ديوانه وهو من ابيات سيبوبه وفى اللسان " ألك ".

(2) ديوانه ذللوا: من الذل.

(3) في المطبوعة " ملك " وصححت؟ ب‍ " مألك ".

(4) الاغاني والعقد الفريد بعد البيت وهو متمم له:

لو بغير الماء حلقي شرق *** كنت كالغصان بالماء اعتصاري

(5) في المطبوعة عبيد بن الحسحاس.

(6) الكني اليها: ابلغها رسالة مني ديوان سحيم عبد بني الحسحاس

[131]

مشتقا، بل يكون علما او اسم جنس وانما قالوا: إن جميعهم ليسوا رسل الله لقوله تعالى: (يصطفي من الملائكة رسلا)(1) لو كانوا جميعا رسلا، لكانوا جميعا مصطفين، لان الرسول لا يكون إلا مختارا مصطفى وكما قال: (ولقد اخترناهم على علم على العالمين)(2)

قوله: (اني جاعل) أي فاعل وخالق وهما يتقاربان قال الرماني: حقيقة الجعل: تصيير الشئ على صفة والاحداث حقيقة: إيجاد الشئ بعد أن لم يكن موجودا والخليقة: الفعيلة من قولهم: خلف فلان فلانا في هذا الامر: اذا قام مقامه فيه بعده، لقوله تعالى: (ثم جعلناكم خلائف في الارض من بعدهم لننظر كيف تعلمون)(3) عني بذلك: أبدلكم في الارض منهم، فجعلكم خلفا في الارض من بعدهم وسمي الخليفة خليفة من ذلك، لانه خلف من كان قيله، فقام مقامه الخلف - بتحريك اللام - يقال: فيمن كان صالحا - وبتسكين اللام - اذا كان طالحا قال الله تعالى (فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة).

وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: ينقل هذا العلم من كل خلف عدوله وقال قوم: سمى الله تعالى آدم خليفة، لانه جعل آدم وذريته خلفاء الملائكة، لان الملائكة كانوا سكان الارض وقال ابن عباس: انه كان في الارض الجن، فافسدوا فيها، وسفكوا الدماء، فاهلكوا، فجعل الله آدم وذريته بدلهم.

وقال الحسن البصري: إنما أراد بذلك قوما يخلف بعضهم بعضا من ولد آدم الذين يخلفون أباهم آدم في إقامة الحق وعمارة الارض وقال ابن مسعود: أراد أني جاعل في الارض خليفة يخلفني في الحكم بين الخلق، وهو آدم، ومن قام مقامه من ولده وقيل انه يخلفني في انبات الزرع واخراج الثمار، وشق الانهار وقيل ان الارض أراد بها مكة، روي ذلك عن ابن سارط، أن النبي صلى الله عليه وآله قال: دحيت الارض من مكة ولذلك سميت ام القرى قال: دفن نوح وهود وصالح وشعيب

___________________________________

(1) سورة الحج: آية 75.

(2) سورة الدخان: آية 32.

(3) سورة يونس: آية 14.

[132]

بين زمزم والمقام وقال قوم: انها الارض المعروفة وهو الظاهر.

وقوله: (اتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) وروي ان خلقا يقال لهم الجان كانوا في الارض فافسدوا وسفكوا الدماء فبعث الله تعالى ملائكة اجلتهم من الارض وقيل: ان هؤلاء الملائكة كانوا سكان الارض بعد الجان فقالوا: ياربنا اتجعل في الارض يفسد فيها ويسفك الدماء على وجه الاستخبار منهم والاستعلام عن وجه المصلحة، والحكمة لا على وجه الانكار كأنهم قالوا ان كان هذا كما ظننا فعرفنا وجه الحكمة فيه.

وقال قوم: المعنى فيه ان الله اعلم الملائكة انه جاعل في الارض خليفة وان الخليفة فرقة تسفك الدماء وهي فرقة من بني آدم فأذن الله للملائكة ان يسألوه عن ذلك وكان اعلامه أياهم هذا زيادة على التثبيت في نفوسهم انه يعلم الغيب فكأنهم قالوا: أتخلق فيها قوما يسفك الدماء، ويعصونك وانما ينبغي انهم اذا عرفوا انك خلقتهم ان يسبحوا بحمدك كما نسبح ويقدسوا كما نقدس؟ ولم يقولوا: هذا إلا وقد اذن لهم، لانهم لا يجوز ان يسألوا ما لايؤذن لهم ما فيه، ويؤمرون به، لقوله: (ويفعلون ما يؤمرون)(1) ان قيل من اين لكم أنهم كانوا علموا ذلك؟ قيل ذلك محذوف لدلالة الكلام عليه، لانا علمنا أنهم لا يعلمون الغيب وليس اذا فسد الجن في الارض، وجب أن يفسد الانس وقوة السؤال تدل على أنهم كانوا عالمين وجرى ذلك مجرى قول الشاعر:

فلا تدفنوني إن دفني محرم *** عليكم ولكن خامري أم عامر(2)

فحذف قوله: دعوني للتي يقال لها إذا أريد صيدها خامري أم عامر فكأنه وقال: إني جاعل في الارض خليفة يكون من ولده افساد في الارض وسفك الدماء وقال ابوعبيدة والزجاج: أنهم قالوا ذلك على وجه الايجاب وإن خرج مخرج الاستفهام كما قال جرير:

ألستم خير من ركب المطايا *** واندى العالمين بطون راح؟

___________________________________

(1) سورة النحل آية 50.

(2) الشر للشنفرى الحماسة الاغاني ويروى (فلا تقبروني ان قبري) (ولكن ابشري) خامرى: استتري ام عامر: كنية الضبع.

[133]

فعلى هذا الوجه قال قوم: إنما أخبروا بذلك عن ظنهم وتوهمهم، لان؟ رأوا الجن من قبلهم قد افسدوا في الارض وسفكوا الدماء فتصوروا أنه؟؟ استخلف غيرهم، كانوا مثلهم، فقال تعالى منكرا لذلك: (إني اعلم مالا تعلمون) وهذا قول قتادة وابن عباس وابن مسعود وقال آخرون: إنهم قالوه يقينا لان الله كان أخبرهم انه يستخلف في الارض من يفسد فيها ويسفك الدماء فاجابوه بعد علمهم بذلك بأن قالوا: (اتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) وانما قالوه استعظاما لفعلهم أي كيف يفسدون فيها ويسفكون الدماء، وقد انعمت عليهم واستخلفتهم فيها فقال: " إني اعلم ما لاتعلمون " وقال قوم: إنهم قالوا ذلك متعجبين من استخلافه لهم أي كيف يستخلفهم وقد علم انهم " يفسدون فيها ويسفكون الدماء "؟ فقال: " إني اعلم مالا تعلمون " والسفك: صب الدماء خاصة دون غيره من الماء، وجميع المايعات والسفح مثله لانه مستعمل في جميع المايعات على وجه التضييع، ولذلك قالوا في الزنا انه سفاح لتضييع مائه فيه والملائكة المذكورون في الآية قال قوم: هم جميع الملائكة.

وقال آخرون وهو المروي عن ابن عباس والضحاك - إنه خطاب لمن اسكنه من الملائكة الارض بعد الجان، وقبل خلق آدم، وهم الذين أجلوا الجان عن الارض.

وقال قتادة في قوله: " اتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء " وقد علمت الملائكة من علم الله أنه لا شئ عند الله أكبر من سفك الدماء والافساد في الارض قال الله تعالى: " إني اعلم ما لا تعلمون " من أنه سيكون من الخليفة رسل وانبياء، وقوم صالحون وساكنون الجنة واقوى هذه الوجوه قول من قال: إن الملائكة إنما قالت: " اتجعل فيها من يفسد فيها " على وجه التعجب من هذا التدبير، لا إنكارا له ولكن على وجه التألم والتوجع والاغتمام والاستعلام لوجه التدبير فيه، فقال: " إني اعلم مالا تعلمون " من الوجه المصلحة في خلقهم، وما يكون منهم من الخير والرشد والعلم، وحسن التدبير والحفظ، والطاعة ما لاتعلمون فان قيل: الملائكة

[134]

بم عرفت ذلك، اذ لم يمكنها أن تستدرك ذلك بالنظر والفكر قلنا: قد يجوز أن لا يكون خطر ببالها ذلك إلا عند ما أعلمهم الله، فلما علموا ذلك، فزعوا إلى المسألة عنه، لان المسألة لمن يتوقع سرعة جوابه أو يوثق بعلمه وخبره يقوم مقام النظر والفكر.

وقوله: " أتجعل فيها من يفسد فيها " يريدون من ولد آدم الذين ليسوا أنبياء، ولا أئمة معصومين فكأنه قال تعالى: أني جاعل في الارض خليفة يكون له ولد ونسل يفعلون كيت وكيت فقالوا: " اتجعل فيها من يفسد فيها " يريدون الولد وقد بينا أن الخليفة من يخلف من تقدمه، جماعة كانوا أو واحدا فلما أخبر الله تعالى الملائكة أنه يخلق في الارض عباداهم آدم وولده ويكون خليفة لمن تقدمهم من الجن أو غيرهم، قالوا ما قالوا ويحتمل أن يكون قوله: " من يفسد فيها " يريدون البعض لا الكل كما يقال: بنو شيبان يقطعون الطريق ويراد بعضهم دون جميعهم.

وقوله: (ونحن نسح بحمدك ونقدس لك) والتسبيح هوالتنزيه من السوء على وجه التعظيم وكل من عمل خيرا قصد به الله فقد سبح يقال: فرغت من سبحتي أي من صلاتي وقال سيبوية: معنى سبحان الله: براء‌ة الله وتنزيه الله من السوء.

قال اعشى بني تغلب:

اقول - لما جاء‌ني فخره -: *** سبحان من علقمة الفاخر(1)

أي براء‌ة من علقمة الفاخر وهو مشتق من السبح الذي هو الذهاب.

قال الله تعالى: " إن لك في النهار سبحا طويلا "(2) ولا يجوز أن يسبح غير الله وان كان منزها، لانه صار علما في الدين على أعلى مراتب التعظيم التي لا يستحقها سواه كما أن العبادة غاية في الشكر لا يستحقها سواه.

وقال ابن عباس وابن مسعود: " نحن نسبح بحمدك " بمعنى نصلي لك كما قال: " فلولا انه كان من المسبحين "(3) أي من المصلين وقال مجاهد: معناه نعظمك بالحمد والشكر على

___________________________________

(1) ديوانه الاغاني علقمة في البيت هو علقمة بن علاثة هجاه الشاعر.

(2) سورة المزمل: آية 7.

(3) سورة الصافات: آية 143.

[135]

نعمك وقال قتادة: هو التسبيح المعروف وقال المفضل: هو رفع الصوت بذكر الله قال جرير:

قبح الاله وجوه تغلب كلما *** سبح الحجيج وهللوا إهلالا

واصل التقديس: التطهير ومنه قوله: الارض المقدسة أي المطهرة

قال الشاعر:

فادركنه يأخذن بالساق والنسا *** كما شبرق الولدان ثوب المقدس(1)

أي المطهر

وقال قوم: معنى نقدس لك: نصلي لك وقال آخرون: نقدس انفسنا من الخطايا والمعاصي وقال قوم: نطهرك من الادناس أي لا نضيف اليك القبائح والقدس: السطل الذي يتطهر منه أي يقدس ويوصف تعالى بأنه قدوس سبوح أي سبحانه أن يكون شريكا لغيره طاهر من كل عيب.

وقوله: " إني اعلم مالا تعملون " قال قوم: أراد ما أظهره إبليس من الكبر والعجب والمعصية لما أمر الله تعالى لآدم ذهب اليه ابن مسعود، وابن عباس وقال قتادة: أراد من في ذرية آدم من الانبياء والصالحين.

وقال قوم: أراد به ما اختص بعلمه من تدبير المصالح فان قيل: لو كان آدم قادرا على أن لا يأكل من الشجرة، لكان قادرا على نقض ما دبره الله فيه، لانه لو لم يأكل منها للبث في الجنة والله تعالى إنما خلقه ليجعله خليفة في الارض فهذا يدل على أنه لم يكن بد من المخالفة قلنا عن هذا جوابان:

أحدهما - ان الجنة التي خلق الله تعالى فيها آدم، لم تكن جنة الخلد، وانما كانت في الارض حيث شاء الله، وانه حيث كان في الارض، كان خليفة في الارض وفي هذا سقط السؤال.

والثاني - ان الله تعالى علم أن آدم سيخالف، وانه يهبط إلى الارض فيستخلفه فيها فأخبر الله تعالى بما علم.

وقولهم: إنه لو كان قادرا على أن لا يخالف، لكان قادرا على نقض تدبيره - جهل، لان الله تعالى قد أمره بأن لا

___________________________________

(1) شبرق: مزق.

[136]

يقرب الشجرة فهل يجب بأن يكون أمره بأن ينقض تدبيره؟ فاذا قالوا: لا.

قيل: وكذلك الله قد اقدره على ألا يخالف فيلبث في الجنة ولا يجب بذلك أن يكون أقدره على نقض تدبيره وقد.

روي عن أبي عبدالله (عليه السلام) أن الملائكة سألت الله أن يجعل الخليفة منهم وقالوا: نحن نقدسك ونطيعك ولانعصيك كغيرنا فقال أبوعبدالله (عليه السلام): فلما أجيبوا بما ذكر الله في القرآن، علموا أنهم قد تجاوزوا ما ليس لهم فلاذوا بالعرش استغفارا، فأمر الله آدم بعد هبوطه أن يبني لهم في الارض بيتا يلوذ به المخطئون كما لاذ بالعرش الملائكة المقربون فقال الله تعالى: إني اعرف بالمصلحة منكم وهو معنى قوله: " إني اعلم مالا تعلمون ".

قوله تعالى: وعلم آدم الاسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال انبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين(31)

آية واحدة بلا خلاف.

روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: خلق الله آدم من قبضة قبضها من جميع الارض، - وقيل قبضها ملك الموت - فجاء بنو آدم على قدر ذلك: منهم الاسود والاحمر، والابيض، والسهل، والحزن، والخبيث، والطيب اللغة.

وقال ابوالعباس: في اشتقاق آدم قولان: أحدهما - انه مأخوذ من أديم الارض قال: فاذا سميت به في هذا الوجه ثم نكرته، صرفته والثاني - انه مأخوذ من الادمة على معنى اللون والصفة، فاذا سميت به في هذا الوجه، ثم نكرته، لم تصرفه والادمة والسمرة، والدكنة والورقة متقاربة المعنى في اللغة وقال صاحب العين الادمة في الناس: شربة من سواد وفي الابل والظباء: بياض وادمة

[137]

الارض: وجهها والمؤدم(1) من الجلد خلاف المبشر وأدما أنثى وآدم ذكر وهي الادم في الجماعة وآدم أبوالبشر والادم: ما يؤتدم به وهو الادام الادم: جماعة الاديم وأديم كل شئ: وجهه و (كل) لفظة عموم على وجه الاستيعاب.

وقال الرماني: حده الاحاطة بالابعاض، يقال: أبعض القوم جاء‌ك أم كلهم؟ وتكون تأكيدا مثل أجمعين غير أنه يبتدأ في الكلام بكل، كقوله تعالى: " فسجد الملائكة كلهم أجمعون "(2) لان كلا قد يلي العوامل ويبتدأ واجمعون لا تكون إلا تابعة ويقال عرض عرضا قال صاحب العين: عرض علينا فلان المتاع يعرض عرضا للشراء او الهبه وقال الزجاج: العرض أصله في اللغة: الناحية من نواحي الشئ فمن ذلك العرض خلاف الطول وعرض الرجل.

قال بعضهم: ما يمدح به أو يذم وقيل عرضه: خليقته المحمودة وقيل عرضه: حسبه وقال الرماني: هي ناحيته التي يصونها عن المكروه وحقيقة العرض: الاظهار للشئ ليتصفح والانباء والاعلام والاخبار واحد قال صاحب العين: النبأ - مهموز - هو الخبر المنبئ والمخبر ولفلان نبأ أي خبر ويقال: نبأته وأنبأته واستنبأته والجمع الانباء والنبوة اذا أخذت من الانباء فهي مهموزة.

لكن روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه(3) قال: لا تنبز باسمي، لرجل قال له: يا نبئ الله والنبئ - بالهمز -: الطريق الواضح، يأخذ بك إلى حيث تريد والنبأة: صوت الكلاب تنبأ به نبأ وحقيقة الانباء: الاظهار للخبر قال الشاعر:

أدان وانبأه الاولون *** بأن المدان ملي وفي

والفرق بين الاخبار والاعلام أن الاعلام قد يكون بخلق العلم الضروري في القلب كما خلق الله من كمال العقل والعلم بالمشاهدات وقد يكون بنصب الادلة للشئ والاخبار هو إظهار الخبر، علم به أو لم يعلم ولا يكون مخبرا بما يحدثه

___________________________________

(1) المؤدم: الحاذق المجرب جمع لين الادمة وخشو؟ البشرة.

(2) سورة الحجر: آية 30.

(3) أنه - ساقطة من المطبوعة.

[138]

من العلم في القلب كما يكون معلما بذلك.

وقوله: " ثم عرضهم على الملائكة " إنما لم يقل: ثم عرضها، اذ كانت الاسماء لا تعقل، لانه أراد أصحاب الاسماء وفيهم ما لايعقل كما تغلب المذكر اذا اجتمع مع المؤنث، لانهم يقولون: إن اصحابك وإماء‌ك جاء‌وني وروي عن ابن عباس أنه قال: عرض الخلق وقال مجاهد: عرض أصحاب الاسماء.

وقوله: " وعلم آدم الاسماء كلها " معناه أنه علمه معاني الاسماء، من قبل أن الاسماء بلا معان لا فائدة فيها، ولا وجه لايثاره الفضيلة بها وقد نبه الله الملائكة على مافيه من لطيف الحكمة، فاقروا عند ماسئلوا عن ذكرها والاخبار عنها أنهم لا علم لهم بها فقال: " يا آدم أنبئهم باسمائهم " وقول قتادة، وظاهر العموم يقتضى أنه علمه الاسماء وبه قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وأكثر المتأخرين: كالبلخي والجبائي وابن الاخشيد والرماني.

وقال الطبري بما يحكي عن الربيع وابن زيد: انهما قالا: علمه الله اسماء ذريته واسماء الملائكة وقال هو الاختيار دون قول ابن عباس وقال: إن قولهم: " عرضهم " إنما يكون لمن يعقل في الاظهر من كلام العرب وهذا غلط لما بيناه من التغليب وحسنه كما قال تعالى: " والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع "(1) وهذا يبطل ما قاله، ويبقى اللفظ على عموم وظاهر الآية وعمومها يدل على انه علمه جميع اللغات.

وبه قال الجبائي والرماني فأخذ عنه ولده اللغات فلما تفرقوا، تكلم كل قوم منهم بلسان ألفوه واعتادوه وتطاول الزمان على ما خالف ذلك فنسوه ويجوز أن يكونوا عالمين بجميع تلك اللغات إلى زمن نوح فلما أهلك جميع الخلائق إلا نوحا ومن معه، كانوا هم العارفين بتلك اللغات فلما كثروا وتفرقوا اختار كل قوم منهم لغة تكلموا بها، وتركوا ما سواها، وانقرض ونسوه والخبر الذي يروي أن الناس امسوا ولغتهم واحدة ثم اصبحوا وقد تغيرت السنتهم وكان لا يعرف كل فريق منهم إلا كلام من كان

___________________________________

(1) سورة النور آية 45.

[139]

على لغتهم - خبرضعيف وأيضا فلا يجوز أن ينسى العاقل ما كان في امسه من جلائل الامور مع سلامة عقله قالوا: واللغات جميعا إنما سمعت من آدم، وعنه أخذت.

وقال ابن الاخشيد: إن الله فتق لسان اسماعيل بالعربية ولذلك صار اصلا للعرب من ولده، لانه تكلم بها على خلاف النشوء والعادة، بل على أنه ابتدأه بها وألهمه إياها فان قيل: ما معنى قوله: " انبئوني باسماء هؤلاء إن كنتم صادقين " ماالذي ادعي حتى قيل هذا؟

قيل عن ذلك اجوبة كثيرة للعلماء:

احدها - ان الملائكة لما أخبرهم الله عزوجل أنه جاعل في الارض خليفة هجس في نفوسها أنه لو كان الخليفة منهم بدلا من آدم وذريته، لم يكن فساد ولا سفك دماء كما يكون من ولد آدم، وان ذلك أصلح لهم وان كان الله عزوجل لايفعل إلا ما هو اصلح في التدبير، والاصوب في الحكمة فقال الله تعالى: " انبئوني باسماء هؤلاء إن كنتم صادقين " فيما ظننتم في هذا المعنى ليدلهم على أنهم إذا لم يعلموا باطن ما شاهدوا كانوا من أن يعلموا باطن ما غاب عنهم أبعد.

والثاني - أنه وقع في نفوسهم أنه لم يخلق الله خلقا إلا كانوا أفضل منهم في سائر ابواب العلم فقيل: إن كنتم صادقين في هذا الظن فاخبروا بهذه الاسماء.

والثالث - قال ابن عباس: إن كنتم تعلمون لم أجعل في الارض خليفة ف " انبئوني باسماء هؤلاء إن كنتم صادقين " لان كل واحد من الامرين من علم الغيب فكما لا تعلمون ذا لا تعلمون الآخر.

والرابع - ما ذكره الاخفش والجبائي وابن الاخشيد: إن كنتم صادقين فيما تخبرون به من اسمائهم كقول القائل للرجل: أخبرني بما في يدي إن كنت صادقا أي إن كنت تعلم فاخبر به، لانه لا يمكن أن يصدق في مثل ذلك إلا اذا أخبر عن علم منه، ولايصح أن يكلف ذلك إلا مع العلم به، ولابد إذا استدعوا إلى الاخبار عما لا يعلمون من أن يشرط بهذا الشرط، ووجه ذلك التنبيه كما يقول العالم للمتعلم: ما تقول في كذا، ويعلم أنه لا يحسن الجواب لينبهه عليه، وبحثه على طلبه، والبحث عنه، فلو قال له: اخبر بذلك إن كنت تعلم، او قال له:

[140]

ان كنت صادقا، لكان حسنا فاذا نبهه على أنه لا يمكنه الجواب أجابه، حينئذ فيكون جوابه بهذا التدريج أثبت في قلبه، وأوقع في نفسه.

وقوله: " انبئوني " قال قوم: هو امر مشروط كأنه قيل: إن امكنكم أن تخبروا بالصدق فيه، فافعلوا وقيل: إن لفظه لفظ الامر ومعناه التنبيه على ما بيناه في سؤال العالم للمتعلم ولا يجوز أن يكون ذلك تكليفا، لانه لو كان تكليفا، لم يكن تنبيها لهم على أن آدم يعرف من اسماء هذه الاشياء بتعريف الله اياه ذلك ما لا يعرفون فلما أراد تعريفهم ما خص به آدم، من ذلك علمنا أنه ليس بتكليف.

ومعنى قوله: " إن كنتم صادقين " شرط كأنه قيل: إن كنتم صادقين في الاخبار بذلك وليس " إن " بمعنى " إذ " على ما حكاه الكسائي عن بعض المفسرين، لانها لو كانت كذلك، لكانت " ان " - بفتح الهمزة - وتقديره: ان كنتم محققين ايمانكم، فافعلوا كذا وكذا، لان (إذ) إذا تقدمها فعل مستقبل صارت علة للفعل وسببا له كقولك: إذ قمت أي من أجل ان قمت فلو كانت إن في الآية بمعنى إذ، كان التقدير: انبئوني باسماء هؤلاء من أجل انكم صادقين واذا وضعت إن مكان ذلك، وجب أن تفتح الالف وذلك خلاف ما عليه القراء والانباء.

قال قوم: اصله الاعلام كقولهم: انبأت عمرا زيدا أخاك بمعنى اعلمت ولا يصلح هاهنا أخبرت إلا أنه يتناول انبئوني هاهنا بمعنى اخبروني على وجه المجاز والتوسع لتقارب المعنى في الاخبار والانباء، لان الله تعالى عالم بالاشياء فيما لم يزل فلا يجوز أن يقول: علموني لما هو عالم به.

ومن قال: أصله الاخبار، تعلق بظاهر القرآن وفي كيفية عرضهم قولان: احدهما - انه عرضهم بعد أن خلقهم والثاني - أنه عرضهم بأن صورهم لقلوب الملائكة وفي هذه الآية دليل على شرف العلم من حيث أن الله تعالى لما أراد تشريف آدم اختصه بعلم أبانه به من غيره، وجعل له الفضيلة فيه، وفي كيفية تعليم الله آدم الاسماء، قال البلخي: ويجوز ان يكون اخبره بذلك فوعاه في وقت قصير بما اعطاه الله من الفهم والحفظ

[141]

او بأن دله ومكنه، ورسم به رسما فابتدع هو لكل شئ اسما يشاكله ولابد ان يكون اعلامه له بلغة قد تقدمت المواضعة عليها حتى يفهم بالخطاب المراد به وقال المواضعة لابد ان تستند إلى سمع عند قوم وعند ابي هاشم واصحابه لا يصح ذلك فأماالذي عرض على الملائكة قال قوم عرضت الاسماء دون المسميات.

وقال قوم آخرون: عرضت المسميات بها وهو الاقوى لقوله: " ثم عرضهم " وفي قراء‌ة ابن مسعود: ثم عرضهن وفي قراء‌ة أبي: عرضها وقال قوم: إنه عرضهم بعد أن خلق المسميات واحضرها لقوله: اسماء هؤلاء وذلك إشارة إلى الحاضر.

وقال آخرون: إنه صورهم لقلوب الملائكة ثم عرضهم قبل خلقهم وقيل: إن قوله اشارة إلى الاسماء التي علمها آدم " وانبئوني " اكثر القراء بهمز: وروي عن الاعمش ترك الهمز فيه، وهي لغة قريش " هؤلاء " لغة قريش ومن جاورهم باثبات الف بين الهاء والواو، ومد الالف والاخيرة وتميم وبكر وعامة بني اسد يقصرون الالف الاخيرة وبعض العرب يسقط الالف الاولى التي بين الهاء والواو ويمد الاخيرة وانشد:

تجلد لا يقل هؤلاء هذا *** بكى لما بكى اسفا وعيبا

وحقق الهمزة ابن عامر واهل الكوفة اذا اتفقا من كلمتين وقرأ أبوعمرو واحمد بن صالح عن قالون بتحقيق الاولى فحذف الثانية وقرأ ورش وقنبل وابوجعفر واويس بتحقيق الاولى وتليين الثانية، وقرا ابن كثير إلا قنبلا ونافع إلا ورشا واحمد بن صالح بسكون الاولى، وتحقيق الثانية في المكسورتين والمضمومتين وفي المفتوحتين بتحقيق الاولى وحذف الثانية.

قوله تعالى: قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم(32)

المعنى: هذه الآية فيها اخبار من الله تعالى عن ملائكته بالرجوع اليه، والاوبة،

[142]

والتسليم انهم لايعلمون إلا ما علمهم الله.

وقوله: " سبحانك " نصب على المصدر ومعناه نسبحك وسبحانك مصدر لا ينصرف وقدمنا في ما مضى أن معنى التسبيح التنزيه ومعناه هاهنا تبريا منهم أن يعلموا الغيب واقرارا أنه المختص به تعالى دون غيره.

وقوله: " العليم الحكيم " معنى عليم أنه عالم وفيه مبالغة ومن صفات ذاته واذا كانت كذلك، افادت انه عالم بجميع المعلومات ويوصف به في ما لم يزل، لان ذلك واجب في العالم نفسه.

وقوله: " الحكيم " يحتمل امرين: احدهما - انه عالم، لان العالم بالشئ يسمى بأنه حكيم فعلى هذا يكون من صفات الذات مثل العالم وقد بيناه والثاني - ان يكون من صفات الافعال ومعنى ذلك أن افعاله محكمة متقنة صواب ليس فيها وجه من وجوه القبح ولا التفاوت ولا يوصف بذلك في ما لم يزل.

وروي عن ابن عباس انه قال: العليم الذي كمل علمه والحكيم: الذي كمل في حكمته وقد قيل في معنى حكيم: انه المانع من الفساد ومنه سميت حكمة اللجام لانها تمنع الفرس من الجري الشديد قال جرير:

أبني حنيفة أحكموا سفهاء‌كم *** إني أخاف عليكم ان اغضبا

أي امنعوهم والاحكام والاتفاق والاتساق والانتظام متقاربة والحكمة نقض السفه يقال: حكم حكما واحكم إحكاما ويقال: أحكم فلان عمله إذا بالغ فيه فاصاب حقيقته والحكمة هي التي تقف بك على مر الحق الذى لا يخلطه باطل، والصدق الذي لا يشوبه كذب ومنه قوله: " حكمة بالغة "(1) والحكم بين الناس هو الذي يرضى به ليقف الاشياء مواضعها ومنه قوله: " فابعثوا حكما من اهله وحكما من اهلها "(2) والحاكم القاضي بين الناس، وليقفهم على الحق ويقال: رجل حكيم اذا كان ذلك شانه وكانت معه اصول من العلم والمعرفة،

___________________________________

(1) سورة القمر: آية 5.

(2) سورة النساء: آية 34.

[143]

واذا حكم بين الرجلين يقال: حكم يحكم واذا صار حكيما قيل: حكم يحكم وامر مستحكم اذا لم يكن فيه مطعن وفي الحديث في رأس كل عبد حكمة اذا هم بسيئة وشاء الله ان يقدعه بها قدعة يعني منعه والحكم في الانسان هي العلم الذى يمنع صاحبه من الجهل ومعنى قول الملائكة " سبحانك لا علم لنا الا ما علمتنا " يحتمل امرين:

احدهما - ما قدمنا وهو قول ابن عباس قال: " سبحانك " تنزيها لله من أن يكون احد يعلم الغيب سواه.

والثاني - انهم أرادوا أن يخرجوا مخرج التعظيم لله فكأنهم قالوا: تنزيها لك عن القبائح فعلى هذا الوجه يحسن - وإن لم يعلقه بعلم الغيب كما علق في الاول -.

وفي الناس من استدل بهذه الآية على بطلان الاحكام في النجوم وهذا يمكن ان يكون دلالة على من يقول: إنها موجبات لا دلالات فأما من يقول: إنها دلالات على الاحكام نصبها الله فانه يقول: نحن ما علمنا إلا ما علمنا الله، إنه الذي جعل النجوم أدلة لنا كما أن ما علمناه استدلال غير ضرورة مضاف إليه ايضا من حيث نصب الدلالة عليه.

واستدل جماعة من المفسرين بهذه الآية، والآيتين قبلها على صدق النبي صلى الله عليه وآله وجعلوها من جملة معجزاته إذ كان إخبارا بما لا تعلمه العرب ولايوصل إليه إلا بقراء‌ة الكتب والنبي (عليه السلام) لم يعرف بشئ من ذلك مع العلم بمنشئه ومبتدء أمره ومنتهاه وهذا يمكن أن يذكر على وجه التأكيد والتقوية، لآياته ومعجزاته من غير ان يكون لو انفرد لكفى في باب الدلالة لان لقائل أن يقول: إنه قرأ الكتب سرا، واخذ عمن قرأها خفيا فلا طريق للقطع على ذلك وانما تغلب في الظن فان قيل: ما الفائدة في الجواب بقولهم: " لا علم لنا إلا ما علمتنا "؟

قلنا: لو اقتصروا على قولهم: " لا علم "، لكان كافيا، لكن أرادوا أن يضيفوا إلى ذلك التعظيم والاعتراف بأن جميع ما يعلمونه من تعليمه، وان هذا ليس من جملة ذلك، واختصار ذلك أدل على الشكر لنعمه وقيل في معنى " عليم " امران:

[144]

احدهما - انه عليم بغير تعليم بدلالة انهم اثبتوا لله ما نفوه عن انفسهم بقولهم: " لا علم لنا إلا ما علمتنا " أي نحن معلمون وانت العليم غير المعلم.

والثاني - انه العليم الحكيم وكلاهما حسن والاول احسن، لانه اكثر فائدة، واولى في تقابل البلاغة وقد تضمنت الآية الدلالة عليه انه لا علم له الا ما علمه الله اما بالضرورة وإما بالدلالة.

قوله تعالى: قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنباهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والارض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون(33)

آية بلا خلاف

اللغة: روى الداحوني عن هشام: انبيهم ونبيهم، في الحج والقمر، فقلبت الهمزة وكسرت الهاء وروى الزينبي من طريق المالكي والعطاء - كسر الهاء، وتحقيق الهمزة الباقون بضم الهاء وتحقيق الهمزة قال ابوعلي: من ضم الهاء حملها على الاصل، لان الاصل أن تكون هاء الضمير مضمومة: مثل قولهم: ضربهم وأنبأهم وانما تكسر الهاء اذا وليها كسرة أو ياء نحو بهم وعليهم ومع هذا يضمه قوم حملا على الاصل ومن كسر الهاء التي قبلها همزة محففة، فانه اتبع كسرة الهاء الكسرة التى قبلها واذا كان بينهما حاجز كما قالوا: هذا المرء ومررت بالمرء فاتبعوا مع هذا الفصل.

وحكي عن ابي زيد أنه قال: قال رجل من بكر بن وائل أخذت هذا منه ومنهما وكسر الهاء في الادراج والوقف وحكي عنه: لم أعرفه ولم أضربه - فكسر -، وقال لم اضربهما فكسر الهاء مع الباء ويحتمل أن يكون ما اعتد بالحاجزين بين الكسرة والهاء لسكونها فكان الكسرة وليت الهاء

[145]

ومعنى " انبئهم ": خطاب لآدم، يعني اخبر الملائكة، لان الهاء كناية عنهم وموضعهم النصب " باسمائهم " يعني باسماء الذين عرضهم على الملائكة والهاء والميم في اسمائهم كناية عن المرادين بقوله: " باسماء هؤلاء " وقد مضى بيانه.

وقوله: (واعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون) فالابداء والاعلان والاظهار بمعنى واحد يقال: بدا وعلن وظهر وضد الابداء الكتمان، وضد الاظهار الابطان وضد الاعلان الاسرار يقال: بدا يبدو من الظهور وبدأ يبدأ بداء بالهمز - بمعنى استأنف قال صاحب العين: بدا الشئ يبدو بدوا: اذا ظهر وبداله في الامر: بدء وبداء - بالهمز - بمعنى استأنف والبادية اسم الارض التي لا حضر فيها واذا خرج الناس من الحضر إلى الصحراء والمرعى، يقال: بدوا بدا واسمه البدو ويقال اهل البدو، واهل الحضر واصل الباب الظهور والخفاء نقيض الظهور.

وقال الرماني حد الظهور: الحصول على حقيقة يمكن أن تعلم بسهولة والله ظاهر بادلته باطن عن احساس خلقه وكل استدلال فانما هو ليظهر شئ بظهور غيره والكتمان: نقيض إعلان السر ونحوه وناقة كتوم وهي التي لاترعوا اذا ركبها صاحبها أي لاتصيح والكاتم من القسي: التي لا ترن اذا انتضيت الالف في قوله: " ألم أقل لكم " ألف تنبيه كقول القائل: أما ترى اليوم ما اطيبه لمن يعلم ذلك إلا أنك تريد أن تحضر ذهنه، وان ليس مثله ما يخفى عليه كقوله: " ألم تعلم أن الله على كل شئ قدير ".

وحكي عن سيبويه: أما ترى أي برق ها هنا، وهي الف تنبيه اصلها الاستفهام ومن الناس من قال إن معناه التوبيخ، ومن لم يجز على الملائكة المعصية، منع من ذلك فان قيل ما الفائدة في انباء آدم (ع) الملائكة بذلك دون إعلامه إياهم بذلك؟ قلنا: أراد الله بذلك تكرمة آدم (ع) وتشريفه، وإجلال المنة عليه، وتعظيم النعمة لديه وجميع قصة آدم تؤذن بذلك فان قيل: ما معنى " غيب السماوات والارض " والله لا يغيب عنه شئ؟ قيل في معناه: إنه يعلم ما غاب عنهم فلم يشاهدوه كما يعلم ما حضرهم فشاهدوه

[146]

وقوله: " واعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون " قيل في معناه أقوال: احدها - انه يعلم سرهم وعلانيتهم وذكر ذلك تنبيها لهم على ما يجبلهم عليه من الاستدلال، لان الاصول الاول لم يستدل بها إنما تذكر على وجه التنبيه يستخرح بها غيرها، فيستدل بعلم الغيب انه خلق عباده - على ما خلقهم عليه للاستصلاح وما توجبه الحكمة والثاني - ما يسرون بمعنى ما أضمره إبليس من المعصية والمخالفة وما يعلنون: قولهم: " اتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ".

قال الرماني: وهذا الوجه غلط، لان ابليس ليس من الملائكة، ولان القول على العموم لا يجوز أن يصرف إلى الخصوص بغير دلالة وهذا الوجه اختاره الطبري وقال: هو بمنزلة قولهم: قتل الجيش وهزموا وانما قتل البعض.

قال الرماني: إنما يقال ذلك اذا حل قتل الواحد محل قتل الجميع: مثل قتل الرئيس او من يقوم مقامه ولا يقال أيضا إلا والدلالة عليه ظاهرة وليس كذلك في الآية وقد روى روايات في هذا المعنى والوجه في هذا أن إبليس لما دخل معهم في الامر بالسجود، جاز أن يستثني من جملتهم والثالث - قيل: ان الله تعالى لما خلق آدم، مرت به الملائكة قبل أن ينفخ فيه الروح، ولم تكن رأت مثله قبل، فقالت: لن يخلق الله خلقا إلا كنا اكرم منه وافضل عنده فزعم أن هذا الذي أخفوه في نفوسهم وان الذي أبدوه قولهم: " اتجعل فيها من يفسد فيها " روي ذلك عن الحسن والوجه الاول اقوى، لانه اعم، ويدخل فيه هذا الوجه ولا دلالة يقطع بها على تخصيص الآية فان قيل: ما وجه ذكره تعالى لهم الاسرار من علم الغيب.

قلنا: على وجه الجواب فيما سألوا عنه من خلق من يفسد ويسفك الدماء وذلك على وجه التعريض بالجواب دون التصريح، لانه لو صرح به، لقال: خلقت من يفسد ويسفك الدماء لما اعلم في ذلك من المصلحة لجملة عبادي فيما كلفتهم اياه وأمرتهم به فدل في الاحالة في الجواب على العلم بباطن الامور وظاهرها أنه خلقهم لاجل علمه بالمصلحة في ذلك

[147]

ودلهم بذلك على أن عليهم الرضا والتسليم لقضاء الله، لان الله يعلم من الغيب ما لا يعلمونه، ويعلم من مصالحهم ما لايعلمونه في دينهم ودنياهم فان قيل وأي شئ في تعلم آدم الاسماء كلها مما يدل على علم الغيب قلنا: لانه علمه الاسماء كلها بما فيها من المعاني التي تدل عليها على جهة فتق لسانه بذلك والهامه إياه وهي معجزة أقامها الله تعالى للملائكة تدل على جلالته وارتفاع قدره بما اختصه به من العلم العظيم الذي لا يصل اليه إلا بتعليم الله اياه، فبان بذلك الاعجاز بالاطلاع على ما لا سبيل إلى علمه إلا من علام الغيوب ففيه من المعجزة أنه فتق لسانه بها على خلاف مجرى العادة، وأنه علمه من لطائف الحكمة فيه ما لاتعلمه الملائكة مع كثرة علومها، وانها اعرف الخلق بربها فعرفوا ما دلهم على علم الغيب بالمعجزة مؤكدا لما يعلمونه من ذلك بالادلة العقلية، ولذلك نبههم فقال: " ألم أقل لكم اني اعلم غيب السماوات والارض اي قد دللتكم على ذلك من قبل وهذه دلالة بعد وقيل: افتتح الله الدلالة على الاعجاز بالكلام في آدم، ثم ختم به في محمد صلى الله عليه وآله.

قوله تعالى: وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين(34)

آية واحدة

القراء‌ة: ضم التاء من الملائكة ابوجعفر وحده وحيث وقع اتبع التاء ضمة الجيم وقيل: انه نقل ضمة الهمزة وابتدا بها والاول اقوى، لان الهمزة الف وصل تسقط في الدرج فلا يبقى فيها حركة تنقل فالوجه الاول هو المعتمد عليه والصحيح ما عليه القراء من كسر التاء بلام الجر و " ابليس " نصب بالاستثناء من الاثبات ويكره الوقف على قوله: " فسجدوا " وعلى " إلا " حتى يقول: " إلا إبليس " وكذلك كل استثناء

[148]

وظاهر الآية يقتضي ان الامر كان لجميع الملائكة بالسجود، لعمومها وقال قوم: إن الامر كان خاصا بطائفة من الملائكة كانوا مع ابليس طهر الله بهم الارض من الجن والاول اقوى.

اللغة: والسجود والخضوع والتذلل بمعنى واحد في اللغة ونقيض التذلل التكبر يقال سجد يسجد سجودا، واسجد اسجادا: إذا خفض رأسه من غير وضع لجبهته قال الشاعر:

وكلتاهما خرت واسجد رأسها *** كما سجدت نصرانة لم تحنف

والسجود في الشرع: عبارة عن عمل مخصوص في الصلاة - والركوع والقنوت كذلك - وهو وضع الجبهة على الارض ويقال سجدنا لله سجودا وقوم سجد ونساء سجد والسجد من النساء: الفاترات الاعين.

قال الشاعر:

أغرك مني ان ذلك عندنا *** واسجاد عينيك الصيودين رابح(1)

وعزائم السجود من ذلك

وقوله: " وإن المساجد لله " قيل: إنه السجود وقيل: إنه المواضع من الجسد التي يسجد عليها واحدها مسجد والمسجد اسم جامع لجميع المسجد وحيث لا يسجد بعد ان يكون أخذ لذلك فاما المسجد من الارض فهو موضع السجود بعينه وقال قوم: معنى السجود في اصل اللغة: الخضوع والانحناء، وقيل التذلل.

قال الشاعر:

بجمع يقل البلق في حجراته *** ترى الاكم فيه سجدا للحوافر

كأنه قال مذللة للحوافر والسجود على اربعة اقسام: سجدة الصلاة وسجدة التلاوة، وسجدة الشكر وسجدة السهو.

وقوله: " أبى " معناه ترك وامتنع والاباء والامتناع والترك بمعنى (واحد)(2) نقيض أبى أجاب يقال أبى يأبى إباء وتأبى تأبيا قال صاحب

___________________________________

(1) البيت لكثير اللسان " سجد " في المطبوعة " رابح " مشوشة غير مقروء‌ة.

(2) " واحد " غير موجود في المطبوعة.

[149]

العين: أبى يأبى إباه إذا ترك الطاعة ومال إلى المعصية كقوله: " فكذب وابى " وكل من ترك أمرا ورده فقد أباه ورجل أبي وقوم أبيون وأباة(1).

قال الشاعر: اباة الضيم من قوم اباة

وليس الاباء بمعنى الكراهة، لان العرب تتمدح بأنها تأبى الضيم ولا تتمدح في كراهة الضيم، وانما المدح في المنع منه كقوله: " ويأبى الله إلا أن يتم نوره " أي يمنع الكافرين من اطفاء نوره والاستكبار والتكبر، والتعظم والتجبر نظائر وضدها التواضع يقال كبر كبرا وأكبر اكبارا، واستكبر استكبارا، وتكبر تكبرا، وتكابر تكابرا وكابره مكابرة، وكبره تكبرا.

قال صاحب العين: الكبر: العظمة والكبر والكبر: الاثم الكبير جعل اسما من الكبيرة كالخطيئة والخطئ وكبر كل شئ معظمه والكبر مصدر الكبير في السن من جميع الحيوان فاذا أردت الامر العظيم قلت كبر: كبر هذا الامر كبارة والكبار في معنى الكبير ويقال اكبرت الشئ: اذا أعظمته ومنه قوله: " فلما رأيته اكبرنه " والتكبير في الصلاة تفعيل من قولهم: الله اكبر واصل الباب الكبر وهو العظم ويقال على وجهين: كبر الجثة وهو الاصل وذلك لا يجوز عليه تعالى وكبر الشأن والله تعالى الكبير من كبر الشأن وذلك يرجع إلى سعة مقدوره ومعلومه وتحقيقه انه قادر على ما لا يتناهى من جميع الاجناس المقدورات وعالم بكل معلوم والاستكبار: الانفة مما لا ينبغي أن يوقف منه وموضع " إذ " من قوله: " إذ قلنا " نصب، لانه عطف على " إذ " الاولى كأنه قال: واذ أراد.

وقال ابوعبيدة لا موضع لها من الاعراب لانها زائدة وانشد:

حتى اذا أسلكوهم في قتائدة *** شلا كما تطرد الجمالة الشردا(2)

وقال: المراد واستشهد به على وجهين كل واحد منهما نقيض الآخر فأحد

___________________________________

(1) في المطبوعة " خفيف " بعد اباة وفي الهامش ذكروها " عفيف " على وجه الاستعمال.

(2) مر القول في هذا البيت.

[150]

الوجهين قوله: " حتى اذا جاء‌وها وفتحت ابوابها " فلم يأت " إذ " جواب والوجه الآخر فيه على زيادة " إذ " في هذا الموضع وكلا الوجهين خطأ عنده، لان الجواب في قوله: قتائدة هو قوله: شلا بوقوعه موقع: شلوهم شلا كما يقول القائل: إذا أتيت الحرب، فضربا وطعنا وأما الزيادة فقد بينا وجه الخطأ فيها فيما تقدم واختلفوا في امر الملائكة والسجود لآدم على وجهين:

قال قوم: انه امرهم بالسجود له تكرمة وتعظيما لشأنه - وهو المروي في تفسيرنا واخبارنا - وهو قول قتادة وجماعة من اهل العلم واختاره ابن الاخشيد والرماني وجرى ذلك مجرى قوله: (وخروا له سجدا)(1) ي اولاد يعقوب، ولاجل ذلك جعل اصحابنا هذه الآية دلالة على أن الانبياء افضل من الملائكة من حيث امرهم بالسجود له والتعظيم على وجه لم يثبت ذلك لهم بدلالة امتناع ابليس من السجود له وانفته من ذلك.

وقوله: (قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لان اخرتني إلى يوم القيامة لاحتنكن ذريتة إلا قليلا)(2) و كان ذلك على وجه كونه قبلة لما كان لذلك وجه، ولا فيه أنفة ولايحسن أن يؤمر الفاضل بتعظيم المفضول على نفسه، لان ذلك سفه به وسنبين قول من خالف فيه وشبههم.

وقال الجبائي والبلخي وجماعة أنه جعله قبلة لهم فامرهم بالسجود إلى قبلتهم وفيه ضرب من التعظيم له وهذا ضعيف، لانه لو كان على وجه القبلة لما امتنع ابليس من السجود، ولما استعظمته الملائكة، ولكن لما أراد ذلك تعظيما له على وجه ليس بثابت لهم، امتنع ابليس وتكبر واختلفوا في ابليس هل كان من الملائكة ام لا؟ فقال ابن عباس وابن مسعود وابن المسيب وقتادة وابن جريح والطبرى: إنه كان منهم بدلالة استثنائه من جملتهم هاهنا في قوله: " إلا ابليس أبى واستكبر وكان من الكافرين " وقال: (مامنعك ان تسجد لما امرتك) مع قوله: (واذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم) وهو المروي عن أبي عبدالله (عليه السلام) والظاهر

___________________________________

(1) سورة يوسف: آية 100.

(2) سورة اسرى: آية 62.

[151]

في تفاسيرنا، ثم اختلف من قال: إنه كان منهم: فمنهم من قال: إنه كان خازنا على الجنان، ومنهم من قال: كان له سلطان سماء الدنيا وسلطان الارض، ومنهم من قال: إنه كان يسوس ما بين السماء إلى الارض وقال الحسن البصري وقتادة في رواية ابن زبد والبلخي والرماني وغيره من المتأخرين: انه لم يكن من الملائكة وان الاستثناء في الآية استثناء منقطع كقوله تعالى: (ما لهم به من علم الا اتباع الظن)(1) قوله: (فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون الا رحمة منا)(2) كقوله: (لا عاصم اليوم من الامر الله الا من رحم)(3).

كقول الشاعر - وهو النابغة

وقفت فيها اصيلا كي اسائلها *** اعيت جوابا وما بالربع من احد

إلا الاواري لايا ما ابينها *** والئوي كالحوض بالمظلومة الجلد(4)

انشد سيبويه:

والحرب لا يبقى لجاحمها التخيل والمراح

إلا الفتى الصبار في النجدات والفرس الوقاح(5)

وقال آخر:

وبلدة ليس بها انيس *** إلا اليعافير وإلا العيس(6)

واستدل الرماني على أنه لم يكن من الملائكة باشياء: منها - قوله: " لايعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون " فنفى عنهم المعصية نفيا عاما والثاني - انه قال: " إلا إبليس كان من الجن " ومتى اطلق لفظ الجن لم

___________________________________

(1) سورة النساء: آية 156.

(2) سورة يس: آية 43 و 44.

(3) سورة هود: آية 43.

(4) مر القول في هذا البيت وايضا في المطبوعة " لا اسائلها ".

(5) جحم - من الحرب - معظمها وشدة القتل في معركتها - القاموس - الوقاح: الحافر الصلب - القاموس.

(6) اليعافير: ج يعفور وهو الظبي العيس: الابل البيض يخالط بياضها شقرة و هو اعيس وهي عيساء.

[152]

يجز أن يعنى به إلا الجنس المعروف المباين لجنس الانس والملائكة والثالث - ان ابليس له نسل وذرية.

قال الحسن: ابليس ابوالجن كما أن آدم ابوالانس وابليس مخلوق من النار والملائكة روحانيون خلقوا من الريح في قول ابي علي - وقال الحسن: خلقوا من النار لا يتناسلون ولا يطعمون ولايشربون وقال الله في ابليس وولده " أتتخذونه وذريته اولياء من دوني وهم لكم عدو " والرابع - وهو اقوى ما عنده - قوله تعالى: " جاعل الملائكة رسلا أولي اجنحة مثنى وثلاث ورباع " فعمها بالوصف بالرسالة ولايجوز على رسل الله أن يكفروا أو يفسقوا كالرسل من البشر والجواب عما ذكره:

اولا: إن قوله: " لايعصون الله ما أمرهم " صفة لخزنة النيران، لا جميع الملائكة يدل على ذلك قوله: " يا آيها الذين آمنوا قوا أنفسكم واهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويقعلون ما يؤمرون "(1) وليس إذا كان هؤلاء معصومين وجب ذلك في جميعهم والجواب عما ذكره.

ثانيا: ان قوله: كان من الجن معناه صار ذكر ذلك الاخفش وجماعة من اهل اللغة وقيل ايضا: إن ابليس كان من طائفة من الملائكة يسمون جنا من حيث كانوا خزنة الجنة وقيل سموا بذلك لاختفائهم عن العيون كما قال اعشى قيس بني ثعلبة:

ولو كان شئ خالدا أو معمرا *** لكان سليمان البرئ من الدهر

براه إلهي واصطفاه عباده *** وملكه ما بين ثريا إلى مصر

وسخر من جن الملائك تسعة *** قياما لديه يعملون بلا أجر(2)

وقد قال الله تعالى: " وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا "(3)، لان قريشا

___________________________________

(1) سورة التحريم: آية 6.

(2) ملحق ديوان الاعشى الدهر هنا نكباته وفي المطبوعة " تربا " بدل " ثريا ".

(3) سورة الصافات: آية 58.

[153]

قالت: الملائكة بنات الله والجواب عما ذكره.

ثالثا من أن أبليس له نسل،(1) ريقه الآحاد، ولو كان صحيحا، لم يمنع ان يكون الله ركب فيه شهوة النكاح تغليظا عليه في التكليف وإن لم يكن ذلك في باقي الملائكة، فلا وجه لاستبعاده والجواب عما ذكره.

رابعا قوله " جاعل الملائكة رسلا أولي اجنحة "(2) فمعارض بقوله: " الله يصطفي من الملائكة رسلا "(3) فان كان ظاهر تلك يقتضي العموم فظاهر هذه يقتضي التخصيص، لان (من) للتبعيض، ولو لم يكن كذلك، لجاز لنا أن نخص هذا العموم بقوله: (إلا إبليس) لان حمل الاستثناء على أنه منقطع حمل له على المجاز كما أن تخصيص العموم مجاز، واذا تعارضا، سقطا.

فأما ما روي عن ابن عباس أن الملائكة كانت تقاتل الجن، فسبي إبليس، وكان صغيرا مع الملائكة، فتعبد معها فلما أمروا بالسجود لآدم، سجدوا إلا إبليس ابى، فلذلك قال الله تعالى: " إلا إبليس كان من الجن " فانه خبر واحد لا يصح والمعروف عن ابن عباس ما قلناه أنه كان من الملائكة فأبى واستكبر وكان من الكافرين.

ومن قال إن إبليس خلق من نار ومن مارج والملائكة لم يخلقها من ذلك فقوله ضعيف، لانه لا يمنع أن يكون الله تعالى خلق الملائكة اصنافا: صنفا من نار، وصنفا من نور، وصنفا من غير ذلك، وصنفا آخر لا من شئ، فاستبعاد ذلك ضعف معرفة (وابليس).

قال الزجاج والرماني وغيرهما من النحويين انه ليس بمأخوذ من الابلاس كقوله " مبلسون " أي: آيسون من الخير قالوا: لانه أعجمي معرب بدلالة أنه لا ينصرف للعجمة والتعريف وقال الطبري: هو مشتق من الابلاس ووزنه افعيل وأنشد العجاج:

يا صاح هل تعرف رسما مكرسا *** قال نعم أعرفه وأبلسا

___________________________________

(1) زاد المصحح في المطبوعة في هذا الموضع " ان ذلك " وبدونه يصح المعنى.

(2) سورة فاصل آية 1.

(3) سورة الحج آية 75.

[154]

وقال رؤبة:

وحضرت يوم الخميس الاخماس *** وفي الوجوه صفرة وابلاس

يعني اكتئابا وكسوفا.

وقال: إنما لم يجر استثقالا، من حيث كان اسما لانظير له من أسماء العرب فشبه باسماء العجم التي لا تنصرف وزعم ان اسحاق لا ينصرف وهو من أسحقه الله إسحاقا، وأن أيوب من أب يئوب على زنة فعول كقيوم من قام يقوم.

قال الرماني: غلط في جميع ذلك، لانها الفاظ أعربت من العجميه ووافقت الفاظ العربية وكان ابن السراج يمثل ذلك - على جهة التبعيد - بمن زعم ان الطير ولد الحوت وغلط أيضا في قوله انه لا نظير له في اسماء العرب، لانهم يقولون: إزميل للشفرة، قال الشاعر:

هم منعوا الشيخ المناجي بعد ما *** رأي حمة الازميل فوق البراجم

والاعريض: الطلع، واحريض: صبغ أحمر، وقالوا: هو العصفر، وسيف اصليت: ماض كثير الماء، وثوب اضريج: مشبع الصبغ، وقالوا: هو من الصفرة خاصة وسبيل ابليس سبيل (انجيل) في انه معرب غير مشتق وحد الاستكبار الرفع للنفس إلى منزلة لا تستحق قوله: " وكان من الكافرين ".

قال قوم: يدل على أنه كان قبله قوم كفار من الجن وقال آخرون لايدل، ويجري ذلك مجرى قول القائل: كان آدم من الانس، ولم يكن قبله انسي وكان إبليس من الجن ولم يكن قبله جني، ومعناه: صار من الكافرين ومن قال ان ابليس كان من جملة الملائكة، قال: كان من جملة المأمورين بالسجود لآدم بدلالة قوله: " ما منعك الا تسجد إذ امرتك؟ " ولانه استثناه من جملتهم ولم يكن منهم.

علمنا انه كان من جملة المأمورين كقول القائل: أمر أهل البصرة بدخول الجامع فدخلوا إلا رجلا من أهل الكوفة، فانه يعلم بهذا ان غير اهل البصرة كان مأمورا بدخول الجامع غيران أهل البصرة كانوا اكثر فلذلك خصوا بالذكر، وكذلك القول في الآية ومن استدل بهذه الآية على أن أفعال الجوارح من من الايمان من حيث لو لم يكن كذلك، لوجب ان يكون ابليس مؤمنا بما معه من المعرفة بالله وان فسق بابائه، فقد أبعد، لان المخالف يقول: اذا علمت كفره

[155]

بالاجماع علمت انه لم يكن معه إيمان اصلا، كما اذا رأيت انه يصلي للشمس علمت ان معه كفرا، وان كانت، صلاته للشمس ليست كفرا فان قيل: اذا كانت " إذ " لما مضى، فما معنى قوله: " واذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وامي إلهين من دون الله "؟ وكيف قال: " واذ يتحاجون في النار "؟ قيل: معنى ذلك كله على تقدير الاستقبال لان ما تحقق بمنزلة ما قد كان، كما قال: " ونادى اصحاب النار أصحاب الجنة ".


 




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21335824

  • التاريخ : 28/03/2024 - 18:04

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net