الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين ، والطيبين من أصحابه أجمعين . جاء الاسلام الحنيف بأحكامه العادلة ، لينقذ الانسانية المعذبه من هلكات الجهل ، وويلات الظلم ، ومداحض التمرد والعصيان ، وعبادة الاوثان . فأمر الناس بالتوحيد ، وسلك لهم سبلا ، وسن لهم قوانين وأنظمة تنير لهم نواحي الحياة بجميع أبعادها ، وأنزل الكتاب الدستور الأساس ، فيه تبيان كل شيء ، و جعله نبراسا للساري ، ونورا للمهتدي ، وشفاء لصدور المؤمنين ،و خسارا للكافرين . وبعث رسوله الكريم ـ صلى الله عليه وآله ـ به بشيرا ونذيرا ، وداعيا إلى الهدى وسراجا منيرا ، وهاديا إلى كتابه شارحا ومفسرا ومؤوّلاً . فهو أول مفسر للقرآن الكريم ، يتلو عليهم آياته ، ويعلمهم الكتاب والحكمة ، يبين محكمه ، ويفسر غوامضه ، ويؤول متشابهه . والبررة من أصحابه يحوطونه كما يحوط الفراش السراج المنير ، يتزودون من نوره الوهاج ؛ ليهتدوا إلى سبل الفجاج من سماحة أحكام القرآن . ولذا فقد اهتم المسلمون منذ صدر الاسلام حتى يومنا هذا بالقرآن الكريم ؛ ليفوزوا به الفوز العظيم في الدنيا والآخرة . فبادروا إلى حفظه والمحافظة
عليه ، وترتيله ومعرفة ما لديه ، والتدقيق في فهم مبانيه ، والتوصل إلى مفاهيمه ومعانيه ، لتطبيق أوامره ونواهيه . فانبرى طبقة من أعلام الصحابة والتابعين وعلى رأسهم أمير المؤمنين ـ باب مدينة علم الرسول الأمين ـ والبررة من أبنائه ـ عليهم السلام ـ وشيعتهم بتفسير كتاب الله العزيز . قال ابن النديم في كتابه : « الفهرست ص 47 » وهو يذكر جماع القرآن على عهد النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ : « علي بن أبي طالب ـ رضوان الله عليه ـ ، سعد بن عبيد الله بن النعمان بن عمرو بن زيد ـ رضى الله عنه ـ ، أبو الدرداء عويمر بن زيد ـ رضى الله عنه ـ ، معاذ بن جبل بن أوس ـ رضى الله عنه ـ ، أبو زيد ثابت بن زيد بن النعمان ، أبيّ بن كعب بن قيس بن مالك ابن امرئ القيس ، عبيد بن معاوية بن زيد بن ثابت ابن الضحاك » . هؤلاء الذين ذكر هم ابن النديم وهم الذين جمعوا القرآن على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ وعلى رأسهم وأولهم أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ وإنما ذكرنا هذه القائمة لنستدل بها على اهتمام كبار الصحابة وأولي الشأن منهم بحفظ القرآن من التلف والضياع بين العسب واللخاف والأكتاف. وقال العلامة السيد حسن الصدر في كتابه « تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام ص 317 » بعد أن ذكر الروايات الواردة عن طريق أبناء السنة في ذلك : وأما الروايات عن أهل البيت في أن عليا أول من جمع القرآن على ترتيب النزول ففوق حد الإحصاء ـ ثم أردف قائلا : وأما التفسير فهو الذي عنده علم الكتاب . قال السيوطي في الاتقان : وأما علي فروي عنه الشيء الكثير ، وقد روى معمر بن وهب بن عبد الله عن أبي الطفيل قال : شهدت عليا يخطب ويقول : سلوني ، فوالله لا تسألوني عن شيء إلا خبرتكم ، وسلوني عن كتاب الله ، فوالله ما من آية إلا وأنا أعلم بليل نزلت أم بنهار ، أم في سهل أم في جبل . وأخرج أبو نعيم في « الحلية » عن ابن مسعود ، قال : إن القرآن نزل على سبعة أحرف ، ما منها حرف إلا وله ظهر وبطن ، وأن علي بن أبي طالب عنده من
الظاهر والباطن. وأخرج ـ أيضا ـ من طريق أبي بكر بن عياش عن نصير بن سليمان الأحمسي عن أبيه عن علي قال : والله ما نزلت آية إلا وقد علمت فيما نزلت ، وأين نزلت ، إن ربي وهب لي قلبا عقو لا ولسانا سؤولا ، إنتهى . ثم قال ـ السيد الصدر ـ : وأما سائر أنواع علوم القرآن ، فأول من نوعها و قسمها فهو ـ أيضا ـ علي أمير المؤمنين ، أملى ستين نوعا من أنواع علوم القرآن ، وذكر لكل نوع مثالا يخصه . وهو في كتاب نرويه عنه من عدة طرق ، موجود بايدينا إلى اليوم . وقد أخرجه بتمامه العلامة المجلسي في الجزء التاسع عشر من بحار الأنوار المطبوع بايران ، وهو الأصل لكل من كتب في أنواع علوم القرآن ، إنتهى . إن الحديث عن القرآن الكريم شيق وشاق ، أي أنه ممتع ومتعب ؛ لأنه لا نهاية له ولا نفاد ، وهو طويل متشعب بعدد علومه وفنونه ، فالحديث كإعجازه الذي لا ينفد ، كرموزه وأسراره ، كأحكامه ومعانيه ، كنظمه ومبانيه ؛ فكما أن أحكامه تسير مسير الزمان ، ومعانيه لا نهاية لها ، كذلك الحديث عن القرآن وأخباره وآثاره وبلاغته وبدائعه لا تنتهي معانيه ، ولا تضاهى مبانيه ، وقد ولع الذين عرفوا بعض جوانب جماله وروعته ، ولعوابه منذ نزوله حتى يومنا هذا ، حيث غاصوا في لججه وهو يمدهم بلآلئه وفرائده ، ولا زالوا كذلك ، ولا زاك كذلك . يزدادون غوصا ، ويزداد عطاء ، فلا تنفد مواهبه أبدا . فدأب علماء اللغة والنحو ، والتفسير ، والفقه ، وأصول الفقه ، والتأريخ ، و الكلام ، والبلاغة والأدب ، كل يعمل على شاكلته ، وحسب رغبته ، و بموجب اختصاصه ، يبحث في جانب من جوانبه ، ويتجول في بعد من أبعاده ، ويطرق بعض أبوابه . والكل لا يرجع إلاّ بملء كفيه مما أفاض عليه هذا الكتاب الكريم . وكل منهم قاصر لا مقصر ؛ لأنهم بذلوا ما بوسعهم من الجهد لما يتوخونه ، ولكن عظمة القرآن لا يمكن أن تحيط بها الأفكار القاصرة
« ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء » . ولو أردنا أن نستقصي أسماء الذين كتبوا عن تفسير القرآن وعلومه و فنونه لبلغنا الجهد وما بلغناهم لكثرتهم في البلدان الاسلامية ، وقد أوردت بعض الكتب المعنية بالفهارس والفنون بعض الأسماء إما متتالية أو متناثرة في طياتها . ومنها ابن النديم « في الفهرست ص 56 » في عرض تسمية الكتب المصنفة في تفسير القرآن ، فيقول :ـ « كتاب الباقر محمد بن على بن الحسين ـ عليهم السلام ـ رواه عنه أبو الجارود زياد بن المنذر ، رئيس الجارودية الزيدية ، ونحن نستقصي خبره في موضعه . كتاب ابن عباس » ( ويذكر رواته ) ، ثم يذكر كتاب التفسير لابن ثعلب ، وبعده يقول : « كتاب تفسير أبي حمزة الثمالي ، واسمه ثابت بن دينار ، وكنية دينار أبو صفية . وكان أبو حمزة من أصحاب علي ـ عليه السلام ـ من النجباء الثقات ، وصحب أبا جعفر . . » أقول : نقل الشيخ الطوسي في تفسيره « التبيان » ، والعلامة الطبرسي في تفسيره « مجمع البيان » في كثير من الموارد عن تفسير أبي حمزة الثمالى ، مما يشير إلى أن هذا التفسير كان موجودا آن ذاك . وبادر العلماء بالقرآن إلى تفسيره جيلا بعد جيل ، وكل منهم نحا مَنحىً في هذا المضمار ، فلم يدعوا ـ حسب مقدرتهم العلمية ـ جانبا منه إلا تحدثوا عنه بما لديهم من طاقة وإدراك ، وما أروع كلمة العلامة المحقق السيد الخوئي ـ قدس سره ـ في كتابه « البيان ص 21 » من مقدمة الطبعة الأولى ، حيث يقول : « على المفسر أن يجري مع الآية حيث تجري ، ويكشف معناها حيث تشير ، ويوضح دلالتها حيث تدل . عليه أن يكون حكيما حين تشتمل الآية على الحكمة ، وخلقيا حين ترشد الآية إلى الأخلاق ، وفقيها حين تتعرض للفقه ، و اجتماعيا حين تبحث في الاجتماع ، وشيأ آخر حين تنظر في أشياء اخر . على المفسر أن يوضح الفن الذي يظهر في الآية ، والأدب الذي يتجلى
بلفظها ، عليه أن يحرر دائرة لمعارف القرآن ، إذا أراد أن يكون مفسرا . والحق إني لم أجد من تكفل بجميع ذلك من المفسرين » . والحقيقة الملموسة في كتب التفاسير هي كما قرره وحرره شيخنا المحقق الخوئي ـ قدس الله نفسه الزكية ـ ، وأن كل مفسر التزم جانب رغته وعلمه بالتفسير . وبين يدي القارئ الكريم ( تفسير الصافي ) لعلامة دهره ، ووحيد عصره ، الفقيه الفيلسوف ، والمتبحر العارف ، محمد المحسن بن مرتضى بن محمود المعروف بالفيض الكاشاني ، الذي نحا فيه منحى الفلاسفة والعرفاء . وكان ـ رحمه الله ـ من أعلام القرن الحادي عشر ، ذكره معاصره الشيخ الحر العاملي ـ قدس سره ـ في كتابه « أمل الآمل : 2 | 305 » فقال : « المولى الجليل محمد بن مرتضى المدعو بمحسن الكاشاني . كان فاضلا عالما ماهرا حكيما متكلما محدثا فقيها محققا شاعرا أديبا ، حسن التصنيف ، من المعاصرين ، له كتب ، منها كتاب الوافى ، جمع الكتب الأربعة مع شرح أحاديثها المشكلة ، إلا أن فيه ميلا إلى بعض طريقة الصوفية ، وكذا جملة من كتبه وكتاب سفينة النجاة في طريقة العمل ، وتفاسير ثلاثة : كبير وصغير ومتوسط . . » ثم ذكر سبعة وعشرين من كتبه بأسمائها . أقول : إن ما ذكره الشيخ الحر العاملي ـ رضوان الله عليه ـ في وصف كتبه من : « أن فيها ميلا إلى بعض الطريقة الصوفية » قد يكون ناتجا مما رآه من أسلوبه في الشرح الذي نحا فيه منحى العرفاء والفلاسفة ـ كما قلنا وأنه استعمل الكلمات المصطلحة لديهم ، متأثرا بأستاذه صدر المتألهين المعروف بملا صدرا الشيرازي الذي ثنيت له الوسادة في الفلسفة والعرفان ، فتراءى للشيخ العاملي أن فيها ميلا إلى بعض الطريقة الصوفية . ولو أردنا أن نحتسب الجملة هذه باحتساب ما تعبر كل كلمة منها عن المعنى الذى تحمله ، يتضح لنا ما أراد الشيخ العاملي . ففي كلمة « ميل » منعى أقل بكثير من معنى الا تجاه ، فلو كان صوفيا ـ كما
يدعيه الصوفيون ـ لقال معاصره العامليّ . إن فيها اتجاه إلى ... ، وكلمة « بعض » تشير إلى الجزئية التى تتجلى في المصطلحات العرفانية التي طغت على كتاباته . ولو لا ذلك لقال ـ رحمه الله ـ إلى الطريقة الصوفية ، ولما قيدها بكلمة « بعض » . ولهذا نرى أن أصحابنا ـ قدست أسرارهم ـ لم يجدوا فيه مغمزا ، وأثنوا عليه غاية الثناء ، وأطروه بأحسن إطراء . ولنستعرض أقوال بعض هؤلاء الأعلام : ـ 1 ـ محمد باقر الخوانساري في روضات الجنات : 6 | 79 : « اسمه كما يظهر من تقريرات نفسه محمد ، وأمره في الفضل والفهم والنبالة في الفروع والأصول ، والإحاطة بمراتب المعقول والمنقول ، وكثرة التصنيف والتأليف مع جودة التعبير والترصيف ، أشهر من أن يخفى في هذه الطائفة على أحد إلى منتهى الأبد . وعمره كما استفيد لنا من تتبع تصانيفه الوافرة تجاوز حدود الثمانين ، ووفاته بعد الألف من الهجرة الطاهرة بنيف يلحق تمام التسعين ، ومرقده الشريف معروف بالكرامة والمقامة في دار المؤمنين . . » 2 ـ الأردبيلي في « جامع الرواة : 2 | 42 » : « العلامة المحقق المدقق ، جليل القدر ، عظيم الشأن ، رفيع المنزلة ، فاضل كامل أديب ، متبحر في جميع العلوم ، له قريبا من مائةٍ تأليفات منها كتاب تفسير الصافي وكتاب الوافي ، وكتاب الشافي ملخص الصافي و . . » . 3 ـ الشيخ عباس القمي في « الكنى والألقاب : ـ « الفيض لقب العالم الفاضل الكامل العارف المحدث المحقق المدقق الحكيم المتأله محمد بن المرتضى المدعو بالمولى محسن الكاشاني . صاحب التصانيف الكثيرة الشهيرة كالوافي ، والصافي ، والشافي ، والمفاتيح ، و . . » 4 ـ العلامة الأميني في « الغدير : 11 | 362 » قال عند ذكر ابنه « علم الهدى » : ـ
« هو ابن المحقق الفيض علم الفقه ، وراية الحديث ، ومنار الفلسفة ، ومعدن العرفان ، وطود الأخلاق ، وعباب العلوم والمعارف . هو ابن ذلك الفذ الذي قل ما أنتج شكل الدهر بمثيله ، وعقمت الأيام عن أن تأتي بمشبهه » . وكتابه « تفسير الصافي » هذا يعد من كتب التفسير المهمَّة التي يعول عليها كل من تأخر عنها . وها نحن نرى أن العلامة السيد محمد الحسين الطباطبائي قد أفاد كثيرا من تفسير الصافي ، واستشهد بأقوال مؤلفه في تفسيره الميزان ، ومن يتصفح تفسير الميزان ، يجد ذلك واضحا . وهذا يدلنا على أهمية تفسير الصافي ، والاعتماد على مؤلفه . وقد طبع هذا التفسير القيم عدة طبعات في ايران بالقطع الرحلي وبالطبعة الحجرية ، ثم طبع في المطبعة الاسلامية بطهران بخط الهمداني ، وبعد ذلك طبع طبعة حديثة في بيروت ، ضم إليه تعليقات بيانية لنفس المؤلف تحت رمز ( منه ) ، وتعليقات من كتب أخرى تحت رموز مثل : ـ م . ن = مجمع البيان في تفسير القرآن . ق = القاموس للفيروز آبادي . ص = الصحاح للجوهري . وقد تصدى أخيرا صديقنا الفاضل سماحه السيد كاظم صدر السادات الدزفولي صاحب مكتبة الصدر في طهران ، الذي طالما وفقه الله لإصدار الكتب الاسلامية المفيدة ، إلى طبع هذا الكتاب القيم والتفسير البين ، بطبعته الحديثة ، وحلته القشيبة هذه التي تتجلى ميزتها عما سبقها من الطبعات ، بنصاعة الورق ، ووضوح الحروف ، والإخراج الفني ، والتجليد الحديث . كل ذلك خدمة للاسلام والمسلمين ، فحيا الله روحه الاسلامية ، وأخذ بيده لما فيه الصلاح ، وكلّل مساعيه بالنجاح ، إنه ولي التوفيق .