• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم / المكتبة .
              • الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء الخامس عشر ، تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي .
                    • الموضوع : سورة الزمر من أول السورة ـ آية 21 من ( ص 3 ـ 55 ) .

سورة الزمر من أول السورة ـ آية 21 من ( ص 3 ـ 55 )

الأَمْثَلُ في تفسير كتابِ اللهِ المُنزَل

طبعة جديدة منقّحة مع إضافات

تَأليف

العلاّمة الفقيه المفسّر آية الله العظمى

الشَيخ نَاصِر مَكارم الشِيرازي

المجَلّد الخامسْ عَشرْ

[3]

سُورَة الزُّمَر

مكيّة

وَ عَدَدُ آيَاتِهَا خَمسٌ وَ سبعُون آية

 

 

[5]

«سورة الزّمر»

 

محتوى سورة الزّمر:

هذه السورة نزلت في مكّة المكرمة، ولهذا السبب فإنّها تتطرق للقضايا المتعلقة بالتوحيد والمعاد، وأهميّة القرآن، ومقام نبوّة نبيّ الإسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) كما هو الحال في بقية السور المكّية.

فالمرحلة التي قضاها المسلمون في مكّة كانت مرحلة للبناء الإيماني والعقائدي، ولذلك فإن السور المكية حوت أقوى البحوث وأكثرها تأثيراً في هذا المجال. وكانت الأساس القوي المحكم الذي ظهرت آثاره العجيبة في المدينة، و في الغزوات وعند مواجهة العدو، وأمام عراقيل المنافقين، وفي قبول النظام الإسلامي، وإذا أردنا معرفة سر الأنتصار السريع للمسلمين في المدينة فإنّ علينا أن نطالع دروس مكّة المؤثرة.

وعلى أية حال فإنّ هذه السورة تضم عدّة أقسام مهمّة:

1 ـ تتطرق السورة إلى مسألة الدعوة إلى توحيد الله، توحيده في الخلق، توحيده في الربوبية، توحيده في العبودية، كما تسلط الضوء على مسألة الإخلاص في العبادة لله، وآيات هذه السورة في هذال المجال مؤثرة جدّاً بحيث تجذب قلب الإنسان وتدفعه نحو الإخلاص.

2 ـ الأمر المهم الآخر الذي تكرر في عدّة آيات في هذه السورة من بدايتها و حتى نهايتها، هو مسألة (المعاد) والمحكمة الإلهية الكبرى، ومسألة الثواب

[6]

والعقاب، وغرف الجنّة، وكور النّار في جهنمّ، ومسألة الخوف والرهبة من يوم القيامة، وظهور نتائج الأعمال في ذلك اليوم، وتجسّدها في ذلك المشهد الكبير، إضافة إلى أنّها تستعرض قضية اسوداد أوجه الكاذبين والذين افتروا على الله الكذب، وسوق الكافرين صوب جهنم، وتعرض الكافرين لتوبيخ وملامة ملائكة العذاب ودعوة أهل الجنّة إلى دخول الجنّة وتقديم ملائكة الرحمة التهاني والتبريكات لهم، وهذه الأُمور التي تدور حول محور المعاد ممزوجة مع قضايا التوحيد بشكل كبير وكأنّها تشكل معها نسيجاً واحداً.

3ـ قسم آخر من السورة يتناول أهمية القرآن المجيد، ورغم قلّة عدد آيات هذا القسم، فهو يجسّد بصورة لطيفة القرآن وتأثيره القوي على القلوب والأرواح.

4 ـ قسم آخر أيضاً يبيّن مصير الأقوام السابقين والعذاب الإلهي الأليم الذي نزل بهم من جراء تكذيبهم لآيات الله الحقّ.

5 ـ وأخيراً قسم آخر من هذه السورة يتحدث عن مسألة التوبة، وكون أبواب التوبة مفتوحة لمن يرغب في العودة إلى الله، وقد تضمّن هذا القسم أقوى آيات القرآن تأثيراً في مجال التوبة، ويمكن القول بأن آيات هذا القسم تزف البشرى و تحمل أخباراً سارّة قد لا يوجد مثيل لها في بقية آيات القرآن.

هذه السورة معروفة باسم سورة (الزمر) وهذا الاسم مأخوذ من الآيتين (71) و(73) من هذه السورة، وتعرف أيضاً باسم سورة (الغرف) وهذا الاسم مأخوذ من الآية (20) إلاّ أن هذه التسمية غير مشهورة.

 

فضيلة سورة الزمر:

لقد أولت الأحاديث الإسلامية أهمية كبيرة لتلاوة هذه السورة، وقد ورد حديث عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول فيه: «من قرأ سورة الزّمر لم يقطع الله رجاه،

[7]

وأعطاه ثواب الخائفين الذين خافو الله تعالى»(1).

وورد في حديث آخر عن الإمام الصادق(عليه السلام) «من قرأ سورة الزمر أعطاه الله شرف الدنيا والآخرة، وأعزه بلا مال ولا عشيرة، حتى يهابه من يراه وحرّم جسده على النّار»(2).

مقارنة فضائل تلاوة سورة الزمر مع محتوياتها في مجال الخوف من الله، ورجاء رحمته، والإخلاص في العبودية، والتسليم المطلق لذات الله، يوضح أنّ هذه المكافآت إنّما تعطى لمن كانت تلاوته مقدمة للتفكر والتفكر وسيلة للإيمان والعمل.

وبعبارة اُخرى: أن يتوغل محتوى السورة في اعماق روحه. ويتجلّى في كافة مظاهر الحياة الاجتماعية والفردية. أجل فمثل هؤلاء الافراد لائقون لهذا الثواب العظيم والرحمة الواسعة.

 

* * *

____________________________________

1 ـ مجمع البيان بداية سورة الزمر.

2 ـ مجمع البيان وثواب الأعمال و تفسير نور الثقلين.

[8]

الآيات

تَنزِيلُ الْكِتـبِ مِنَ اللهَ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ( 1 ) إِنَّآ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَـبَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ( 2 ) أَلاَ ِللهَ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَآءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللهِ زُلْفى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِى مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِى مَنْ هُوَ كَـذِبٌ كَفَّارٌ( 3 )

 

التّفسير

عليك الاخلاص في الدين!

هذه السورة تبدأ بآيتين تتحدثان عن نزول القرآن المجيد: الأولى تقول: إن الله هو الذي أنزل القرآن، والثانية: تبيّن محتوى وأهداف القرآن.

في البداية تقول: (تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم)(1).

من الطبيعي أنّ كلّ كتاب تتمّ معرفته من خلال مؤلفه أو منزله، وعندما ندرك

____________________________________

1 ـ (تزيل الكتاب) خبر لمبتدأ محذوف و التقدير «هذا تنزيل الكتاب» ، و احتمل بعض المفسّرين أن «تنزيل الكتاب» مبتدأ و «من الله» خير. لكن الرأي الأوّل أصحّ، و«تنزيل» مصدر بمعنى المفعول. فتكون إضافته إلى الكتاب من باب إضافة الصفة إلى موصوفها، و المعنى (هذا الكتاب منزل من الله) .

[9]

أنّ هذا الكتاب السماوي الكبير مستلهم من علم الله القادر والحكيم، الذي لا يقف أمام قدرته المطلقة شيء، ولا يخفى على علمه المطلق أمر، لأيقنّا بلا عناء أن محتوياته حقّ وكلّها حكمة ونور وهداية.

مثل هذه العبارات عندما ترد في بدايات سور القرآن، ترشد المؤمنين إلى هذه الحقيقة، وهي أن كلّ ما هو موجود في القرآن المجيد هو كلام الله وليس بكلام الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، ورغم كون كلامه (صلى الله عليه وآله وسلم) بليغاً وحكيماً أيضاً.

ثم تنتقل السورة إلى عرض محتويات هذا الكتاب السماوي وأهدافه (إِنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق).

لا يوجد فيه غير الحقّ، ولهذا السبب يتبعه طلاب الحقّ، والباحثون عن الحقيقة مشغولون بالبحث في محتوياته. من هنا، ولكون هدف نزول القرآن يتحدد في إعطاء الدين الخالص للبشريه، فإنّ آخر الآية يقول: (فاعبد الله مخلصاً له الدين).

قد يكون المراد هنا من كلمة (دين) هو عبادة الله، لأنّ الجملة التي وردت قبلها (فاعبدالله) فيها أمر بالعبادة، ولذا فإنّ العبارة التي تليها (مخلصاً له الدين)تبيّن شروط صحة العبادة والتي تتمثل في الإخلاص وفي الشرك والرياء.

على كلّ حال فإنّ اتساع مفهوم (الدين) وعدم ذكر قيد أو شرط له، يعطي معنى واسعاً، بحيث يشمل العبادات وبقية الأعمال إضافة إلى العقائد، وبعبارة اُخرى فإنّ (الدين) يتناول مجموعة شؤون الحياة المادية والمعنوية للإنسان، ويجب على عباد الله المخلصين أن يخلصوا كلّ حياتهم لله وأن يطهروا قلوبهم وأرواحهم وساحة عملهم ودائرة حديثهم عن كل ما هو لغير اللّه، وأن يفكروا به ويعشقوه، وأن يتحدثوا عنه ويعملوا من أجله، وأن يسيروا دائماً في سبيل رضاه، وهذا هو (إخلاص الدين).

ولذا لا يوجد أيّ داع أو دليل واضح لتحديد مفهوم الآية في شهادة (لا إله إلا

[10]

الله) أو بخصوص (العبادة والطاعة).

الآية التّالية تؤّكد مرّة اُخرى على مسألة الإخلاص، وتقول: ( ألا لله الدين الخالص) وهذه العبارة ذات معنيين:

الأوّل: هو أنّ البارىء عزّوجلّ لا يقبل سوى الدين الخالص، والإستسلام الكامل له من دون أيّ قيد أو شرط، ولا يقبل أي عمل فيه رياء أو شرك، أو خلط للقوانين الإِلهية بغيرها من القوانين الوضعية.

والثّاني: هو أنّ الدين والشريعة الخالصة يجب أخذها من الله فقط، لأن أفكار الإنسان ناقصة وممزوجة بالأخطاء والأوهام.

ولكن وفق ما جاء في ذيل الآية السابقة فإنّ المعنى الأوّل أنسب، لأن الذين يؤدون المطلوب منهم بإخلاص هم العباد، ولهذا فإنّ هذا الخلوص في الآية مورد بحثنا يجب أن يراعى من جانب أُولئك.

وهناك دليل آخر على هذا الكلام، وهو حديث ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، جاء فيه أن رجلا قال لرسول الله: يا رسول الله! إنّا نعطي أموالنا التماس الذكر، فهل لنا من أجر؟ فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): لا، قال: يا رسول الله! إنّا نعطي التماس الأجر والذكر، فهل لنا أجر؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «إن الله تعالى لا يقبل إلاّ  من أخلص له، ثمّ تلا هذه الآية: (ألا لله الدين الخالص)»(1).

وعلى أية حال، فإنّ هذه الآية في الواقع استدلال للآية التي جاءت قبلها، فهناك تقول: (فاعبدالله مخلصاً له الدين) وهنا تقول: (ألا لله الدين الخالص).

مسألة الإخلاص تناولتها الكثير من الآيات القرآنية والأحاديث الإسلامية، وبدء الجملة مورد بحثنا بـ (ألا) التي تستعمل عادة لجلب الإنتباه، هو دليل آخر على أهمية هذا الموضوع.

ثم تنتقل الآية إلى إبطال المنطق الواهي الضعيف للمشركين الذين تركوا

____________________________________

1 ـ روح المعاني، المجلد 23، الصفحة 212 ذيل آيات البحث.

[11]

طريق الخلاص، وضاعوا في طرق الشرك والإنحراف: (و الذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلاّ ليقربونا إلى الله زلفى، إنّ الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون)(1)، وهنا سيتّضح للجميع فساد أفكارهم وأعمالهم وبطلان عقائدهم..

هذه الآية هي تهديد قاطع للمشركين في أنّ البارىء عزّوجلّ سيحاكمهم في يوم القيامة، اليوم الذي تنكشف فيه الإلتباسات وتظهر فيه الحقائق، ليجزوا ويعاقبوا على ما ارتكبوه من الأعمال المحرّمة، إضافة إلى فضيحتهم أمام الجميع في ساحة المحشر.

منطق عبدة الأصنام واضح هنا، فأحد أسباب عبادة الأصنام هي أنّ مجموعة كانت تزعم أنّ الله سبحانه وتعالى أجلّ من أن يحيط به الإدراك الإنساني من عقل أو وهم أو حس، فهو منزّه عن أن يكون مورداً للعبادة مباشرة، فلذا قالوا: من الواجب أن نتقرّب إليه بالتقرب إلى مقربيه من خلقه، وهم الذين فوض إليهم تدبير شؤون العالم، فنتخذهم أرباباً من دون الله ثمّ آلهة نعبدهم ونتقرب إليهم ليشفعوا لنا عند الله ويقربونا إليه زلفى، وهؤلاء هم الملائكة والجن وقديسو البشر.

ولما أحسّوا بأن ليس باستطاعتهم الوصول إلى أولئك المقدسين، بنوا تماثيل لهم، وأخذوا يعبدونها، وهذه التماثيل هي نفسها الأصنام، ولأنّهم كانوا يزعمون أن لا فرق بين التماثيل وأُولئك المقدسين وأنّ لهما نوعاً من التوحّد،، لذا عمدوا إلى عبادة الأصنام واتخاذه آلهة لهم.

وبهذا الشكل فإنّ الأرباب في نظرهم، هم أُولئك الذين خلقهم الله وقربهم إلى نفسه، وفوض إليهم تدبير شؤون العالم حسب زعمهم، وكانوا يعتبرون البارىء عزّوجلّ هو (رب الأرباب) وهو خالق عالم الوجود، ومن النادر أن يوجد من الوثنيين من يقول بأن هذه الأصنام المصنوعة من الحجر والخشب، أو حتى آلهتهم

____________________________________

1 ـ من الواضح أنّ في الآية المذكورة أعلاه و قبل عبارة (ما نعبدهم) جملة تقديرها «و يقولون ما نعبدهم» .

[12]

الوهمية ـ أي الملائكة والجن وأمثالهم ـ هي التي خلقت هذا الكون وأوجدته(1).

وبالطبع فإنّ هناك أسباباً اُخرى لعبادة الأصنام، ومنها أنّ الإحترام الفائق الذي يكنونه في بعض الأحيان للأنبياء والصالحين يتسبب في احترام حتى التمثال الذي ينحت أو يصنع لهم بعد وفاتهم، ومع مرور الزمن تأخذ هذه لتماثيل طابعاً استقلالياً، ويتبدل الإحترام إلى عبادة، ولهذا فإنّ الإسلام نهى بشدّة عن صنع التماثيل.

وقد ورد في كتب التأريخ أنّ عرب الجاهلية كانوا يكنون إحتراماً فائقاً للكعبة الشريفة ولأرض مكّة المكرّمة، ولهذا كانوا يأخذون معهم قطعة حجر صغيرة من تلك الأرض عندما يذهبون إلى مكان آخر، ويضفون عليها الإحترام والتقديس، ومن ثمّ يعمدون إلى عبادتها.

وما ورد في قصة (عمرو بن لحي)التي جاء فيها، أنّ عمراً في إحدى رحلاته إلى بلاد الشام شاهد بعض مشاهد عبدة الأصنام، وفي طريق عودته إلى الحجاز، اصطحب معه صنماً من بلاد الشام، ومنذ ذلك الحين بدأت عبادة الأصنام في الحجاز هذه القصّة لا تتعارض مع ما ذكرناه لأنّه يبيّن بعض جذور عبادة الأصنام، وهدف أهل الشام من عبادة الأصنام كان مأخوذاً من أحد تلك الأمور أو نظائرها.

عبادة الأصنام ـ بأي شكل كانت ـ ما هي إلاّ أوهام وخيالات لا صحة لها ترشحت من أفكار ضعيفة وعاجزة، حرفت الناس عن الطريق الرئيسي الأصيل لمعرفة الله.

والقرآن المجيد يؤكّد بصورة خاصّة على أنّ الإنسان يستطيع أن يتصل بالله من دون أي واسطة، وأن يتحدث معه ويناجيه ويطلب منه حاجته، ويطلب العفو

____________________________________

1 ـ تفسير الميزان، المجلد 17، الصفحة 247 مع بعض التغييرات.

[13]

والتّوبة، فكلّ هذه الاُمور من الله وتحت تسلط قدرته. وسورة الحمد توضّح هذه الحقيقة، لانّ قراءة العباد المستمر لهذه السورة في صلواتهم اليومية، تجعل العبد على اتصال مباشر مع البارىء، عزّوجلّ، إذ أنّه يقرؤها ويطلب من الله ـ دون أي واسطة ـ حاجاته منه.

سبل الإستغفار والتوبة، وكذلك طلب العون من البارىء، عزّوجلّ وما ورد في الأدعية ا لمأثورة، كلها تبيّن أنّ الإسلام لا يرى وجود واسطة في هذا الأمر، وهذه هي حقيقة التوحيد. حتى أن مسألة الشفاعة والتوسل بأولياء الله مشروطة باذن البارىء عزّوجلّ وسماحه، وهذا تأكيد على مسألة التوحيد.

ويجب أن تكون العلاقة هكذا، لأنّ الله سبحانه وتعالى أقرب إلينا من أيّ شيء، كما يقول بذلك القرآن: (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد)(1)، (واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه)(2).

وبهذا الشكل فالبارى، عزّوجلّ ليس ببعيد عنّا، ولسنا بعيدين عنه كي تكون هناك حاجة للوساطة بين الطرفين، إنّه أقرب إلينا من كلّ قريب، وموجود في مكان وفي أعماق قلوبنا.

وفقأ لهذا فإنّ عبادة الوسطاء من الملائكة والجنّ ونظائرهم، أو الأصنام الحجرية والخشبية، عمل باطل لا صحّة له، إضافة إلى أنّه يعدّ كفراً بنعمة اللّه، لأنّ الذي يهب النعم أجدر بالعبادة من تلك الموجودات الميتة، أو المحتاجة إلى الآخرين من أعلى رأسها إلى أخمص قدمها. لذا يقول القرآن المجيد في نهاية الآية: (إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار).

فلا يهديه إلى الطريق الصحيح في هذا العالم، ولا إلى الجنّة في العالم الآخر،

____________________________________

1 ـ سورة ق، 16.

2 ـ سورة الأنفال، 24.

[14]

لأنّه أوصد بكلتا يديه أبواب الهداية أمامه، ولأنّ البارىء عزّوجلّ يبعث فيض هدايته إلى من يراه لائقاً ومستعداً لإستقبالها، ولا يبعثها إلى الذين تعمدوا قتل الإستعدادات الموجودة في قلوبهم وذاتهم.

 

* * *

ملاحظة

الفرق بين التنزيل والإنزال:

في الآية الأولى وردت عبارة (تنزيل الكتاب)، وفي الثانية عبارة (أنزلنا إليك الكتاب)، فما الفرق بين الإنزال والتنزيل؟ وما المراد من تباين العبارتين في هاتين الآيتين؟

كتب اللغة تقول: إنّ كلمة (تنزيل)تعني نزول الشيء على عدّة دفعات، في حين أن كلمة (إنزال) لها معنى عام يشمل النّزول التدريجي والنّزول دفعة واحدة(1).

قال بعضهم إنّ لكل منهما معنى خاصاً بها وأن (تنزيل) تعني ـ فقط ـ النّزول على عدّة دفعات، و (إنزال) تعني ـ فقط ـ النّزول دفعة واحدة(2).

اختلاف العبارتين المذكورتين أعلاه إنّما يعود إلى أن القرآن المجيد نزل بصورتين:

الأُولى: نزل دفعة واحدة على قلب النّبي محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)في ليلة القدر في شهر

____________________________________

1 ـ مفردات الراغب مادة (نزل) والفرق بين الإنزال و التنزيل في وصف القرآن و الملائكة، أن التنزيل يختص بالموضع الذي يشير إليه إنزاله مفرقاً و مرّة بعد اُخرى و الإنزال عام.

2 ـ هذا الإختلاف ورد في التّفسير الكبير للفخر الرازي نقلا عن آخرين.

[15]

رمضان المبارك كما ورد في الآيات المباركة: (إنا أنزلناه في ليلة القدر)(1) و (إنا أنزلناه في ليلة مباركة)(2) و (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن)(3).

وفي كلّ هذه الآيات استخدمت عبارة (الإنزال) التي تشير إلى نزوله دفعة واحدة.

ويوجد نزول آخر تمّ بصورة تدريجية استغرقت (23) عاماً، أي طوال فترة نبوّة الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ كانت تنزل في كلّ حادثة وقضية آية تناسبها، وتنتقل بالمسلمين من مرحلة إلى اُخرى ليرتقوا سلم الكمال المعنوي والأخلاقي والعقائدي والإجتماعي، كما ورد في الآية (106) من سورة الإسراء: (وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا).

والذي يثير الإنتباه، هو أنّ الكلمتين (تنزيل) و (إنزال) تأتيان أحياناً في آية واحدة للتعبير عن مقصودين، كما ورد في الآية (20) من سورة محمّد: (ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشى عليه من الموت).

فكأن المسلمين يطلبون احياناً نزول السورة القرآنية تدريجاً كي يهضموا محتوياتها بصورة جيدة، لكن الضرورة كانت تستدعي في بعض الحالات نزول السورة دفعة واحدة، وخاصة السور التي تتناول مسائل الجهاد في سبيل الله، لانّ نزولها التدريجي كان قد يؤدي إلى سوء استغلالها من قبل المنافقين الذين كانوا يتحينون الفرص لبث سمومهم. ففي مثل هذه الحالات ـ كما ذكرنا ـ كانت السورة تنزل دفعة واحدة. وهذا آخر شيء يمكن ذكره بشأن التباين الموجود بين العبارتين، وطبقاً لهذا فإنّ آيات بحثنا أشارت إلى طريقتي النّزول بصورة جامعة

____________________________________

1 ـ القدر، 1.

2 ـ سورة الدخان، 3.

3 ـ سورة البقرة، 185.

[16]

كاملة.

ومع هذا فإنّه توجد هناك بعض الأُمور الإستثنائية لتفسير وبيان الإختلاف المذكور أعلاه، كماورد في الآية (32) من سورة الفرقان: (وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا).

بالطبع، لكل من (التنزيل) و (الإنزال) فوائد و آثار خاصّة به، سنتطرق إليها في مواضعها(1).

 

* * *

____________________________________

1 ـ هناك بحث مفصل عن فوائد النّزول التدريجي للقرآن تعرضنا له لدى تفسير الآية (34) من سورة الفرقان.

[17]

الآيتان

لَّوْ أَرَادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاَّصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ سُبْحَـنَهُ هُوَ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ( 4 ) خَلَقَ السَّمَـوَاتَ وَ الاََرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ الَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَ يُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى الَّيْلِ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى لاَِجَل مُّسَمًّى أَلاَ هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّـرُ( 5 )

 

التّفسير

ما حاجة الله إلى الأولاد؟

المشركون إضافة إلى أنّهم يعتبرون الأصنام وسيطاً وشفيعاً لهم عند الله، كما استعرضت ذلك الآيات السابقة، فقد اعتقدوا ـ أيضاً ـ أن بعض المخلوقات ـ كالملائكة ـ هي بنات الله، والآية الأولى في بحثنا تجيب على هذا الإعتقاد الخاطىء والتصور القبيح بالقول: (لو أراد الله أن يتخذ ولداً لاصطفى ممّا يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار).

ذكر المفسرون آراء مختلفة في تفسير هذه الآية:

قال البعض: يقصد منها لو أنّ الله كان راغباً في انتخاب ولد له، فلِمَ ينتخب

[18]

البنات اللاتي تزعمون أنّهنّ لا قيمة لهنّ؟ فلم لا ينتخب له أبناء؟ وهذا ـ في الحقيقة ـ نوع من أنواع الإستدلال وفق ذهنية الطرف المقابل كي يفهم أن كلامه  لا أساس له من الصحة.

وقال آخر: إنّما يقصد منها لو أنّ الله كان راغباً في انتخاب ولد له، لكان قد خلق موجودات اُخرى أفضل وأرفى من الملائكة.

وبالنظر إلى كون مكانة الأنثى لا تقلّ عن مكانة الذكر عند الباريء عزّوجلّ،وبالنظر إلى كون الملائكة أو عيسى عليه السلام ـ والذين اعتبرهم بعض المنحرفين أبناء الله ـ من الموجودات الشريفة والمحترمة، فإنّه لا يعدّ أيّ من التّفسيرين السابقين مناسباً.

والأفضل هو القول بأنّ الآية تريد القول: إنّ الابن مطلوب إمّا لتقديم العون أو لمؤانسة الروح، وبفرض المحال فإنّ الله عزّوجلّ لو كان محتاجاً لمثل هذا الأمر، لا صطفى لهذا بعضاً ممّن يشاء من أشرف خلقه، فلم يتخذ ولداً؟

ولكن لكونه الواحد الذي لا نظير له والقاهر والغالب لكل شيء والأزلي والأبدي، فإنّه لا يحتاج إلى مساعدة أيّ أحد، ولا يستوحش من وحدانيته حتى يزيلها عن طريق الأُنس مع الآخرين، لهذا فهو منزّه ومقدّس عن الولد، حقيقياً كان أو منتخباً.

وإضافة إلى ما ذكرناه من قبل، فإنّ أُولئك الجهلة الذين يتصورون أحياناً أن الملائكة هم أبناء الله، وأحياناً اُخرى يقولون بوجود نسبة بين الباري، عزّوجلّ والجن، وأحياناً يقولون بأن (المسيح) أو (العزير) هم أبناء الله، يجهلون الكثير من الحقائق الواضحه، فإن كان قصدهم هو الولد الحقيقي:

فأولاً: يجب أن يكون الباري تعالى جسماً.

ثانياً: التركيب من أجزاء (لأنّ الوالد جزء من الأب ينفصل عن وجود أبيه).

ثالثاً: حتمية وجود شبيه ونظير له (لأنّ الأولاد على الدوام يشبهون الآباء).

[19]

رابعاً: احتياجه لزوجة، والله منزّه ومقدّس عن كلّ تلك الأُمور.

وإن كان المقصود هو الولد المنتخب أي (المتبنىّ) فإن ذلك إنّما يتمّ لأجل احتياجه لمساعدة جسدية أو لمؤانسة روحية، والله القادر القاهر لا يحتاج إلى كلّ هذه الأمور. وبهذا فإنّ وصفه بـ (الواحد) و(القهار) هو جواب مختصر على كلّ تلك الإحتمالات.

على أية حال، فإنّ عبارة (لو) التي تستخدم عادة للشرط المستحيل إشارة إلى أن هذا الفرض محال في أن ينتخب الباريء عزّوجلّ ولداً له، وبفرض المحال أنّه يحتاج، فإنّه غير محتاج لما يقولونه من اتخاد الولد، بل إن مخلوقاته المنتخبة هي التي تؤمن هذا الأمر.

ولإثبات حقيقة أنّ الله لا يحتاج إلى مخلوقاته، ولبيان دلائل توحيده وعظمته، يقول الباريء عزّوجلّ: (خلق السموات والأرض بالحق).

كون تلك الأُمور حقّاً دليل على وجود هدف كبير من وراء خلقها، وذلك لتكامل المخلوقات وفي مقدمتها الإنسان، ثمّ لا تنتهي عند البعث.

بعد عرض هذا الخلق الكبير، تشير الآية إلى جوانب من تدبيره العجيب، والتغيرات التي تطرأ بحسابات دقيقة، والأَنظمة الدقيقة أيضاً التي تحكم أُولئك، إذ يقول القرآن المجيد: (يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل).

ما أجملها من عبارة! فلو وقف الإنسان في منطقة تقع خارج نطاق الكرة الأرضية، ونظر إلى مشهد حركة الأرض حول نفسها وتكون الليل والنهار اللذين يطوقان سطحها المكور، لشاهد ـ بصورة منتظمة ـ أن سواد الليل يستولي على طرف النهار من جهة ومن الجهة المقابلة يرى بأن ضوء النهار يستولي محركة مستمرة على ظلام الليل.

«يكور» من (تكوير) وتعني الشيء المتكور أو المنحني، ويعتبر أصحاب اللغة تكوير العمامة على الرأس نموذجاً للتكوير، وهذا التعبير القرآني الجميل

[20]

يكشف عن بعض الأسرار، لكن الكثير من المفسّرين نتيجة عدم التفاتهم إلى كروية الأرض ذكروا مواضيع اُخرى لا تناسب مفهوم كلمة (التكوير)، فمن هذه الآية يتجلّى لنا أن الأرض كروية وتدور حول نفسها، ومن جراء هذا الدوران، يطّوق الأرض دائماً شريطان، أحدهما سواد الليل، والثّاني بياض النهار، ولا يبقى هذان الشريطان ثابتين، وإنّما يغطي الشريط الأسود الأبيض من جهة والشريط الأبيض يغطي الأسود من جهة اُخرى، أثناء حركة الأرض حول نفسها.

وعلى أية حال، فإنّ القرآن المجيد يبيّن ظاهرة الليل والنهار و (النور) و (الظلمات) في عدّة آيات مختلفة، كلّ واحدة منها تشير إلى نقطة معينة، وتنظر إلى هذه الظاهرة من زاوية خاصة، فأحياناً يقول: (يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل)(1).

الحديث ـ هنا ـ يتطرق لتوغّل الليل في النهار وتوغل النهار في الليل التي تتمّ بصورة بطيئة وهادئة.

و أحياناً اُخرى يقول: (يغشى الليل النهار) (2) ، وهنا تمّ تشبيه الليل بستائر مظلمة تنزل على ضياء النهار وتحجبه.

ثمّ تنتقل إلى جانب آخر، ألا وهو التدبير والنظام الدقيق المسير لشؤون هذا العالم، قال تعالى: (و سخر الشمس والقمر كلّ يجري لأجل مسمى).

فلا يظهر في حركة الشمس التي تدور حول نفسها، أو التي تتحرك مع بقية كواكب المجموعة الشمسية نحو نقطة خاصّة في مجرة درب التبانة أدنى خلل، فهي تتحرك وفق نظام خاص ودقيق جدّاً، ولا يظهر أي خلل في حركة القمر أثناء دورانه حول الأرض أو حول نفسه، فالكلّ يخضع لقوانين (الخالق) ويتحرك وفقها، وسيستمر في التحرك وفق هذه القوانين حتى آخر يوم من أجله.

____________________________________

1 ـ سورة فاطر، 13.

2 ـ سورة الأعراف، 54.

[21]

ويوجد احتمال آخر، وهو أنّ المراد من تسخير الشمس والقمر هو تسخيرها للإنسان بإذن الله، كما ورد في الآية (33) من سورة إبراهيم: (وسخر لكم الشمس والقمر دائبين). ولكن بالإلتفات إلى الجملة السابقة واللاحقة في هذه الآية مورد البحث، إضافة إلى عدم ورود كلمة (لكم) في الآية، يجعل التّفسير المذكور أعلاه مستبعداً بعض الشيء.

نهاية الآية كانت بمثابة تهديد وترغيب للمشركين إذ تقول: (ألا هو العزيز الغفار) فبحكم عزّته و قدرته المطلقة لا يمكن لأىّ مذنب ومشرك أن يهرب من قبضة عذابه، وبمقتضى كونه الغفّار، فإنّه يستر عيوب وذنوب التائبين، ويظللهم بظلّ رحمته.

«غفار» صيغة مبالغة مشتقّة من المصدر (غفران) وتعني في الأصل لبس الإِنسان لشيء يقيه من التلوّث، وعندما تستخدم بشأن الباري، عزّوجلّ فإنّها تعني ستره لعيوب وذنوب عباده النادمين وحفظهم من عذابه وجزائه، نعم فهو (غفار) في اوج عزته وقدرته، وهو (قهار) في أوج رحمته وغفرانه، والهدف من ذكر هاتين الصفتين في آخر الآية، هو إيجاد حالة من «الخوف» و «الرجاء» عند العباد، وهما عاملان رئيسيان وراء كلّ تحرك نحو الكمال.

 

* * *

 

[22]

الآيتان

خَلَقَكُم مِّن نَّفْسِ وَاحِدَة ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِّنَ الاَْنْعَـمِ ثَمَـنِيَةَ أَزْوَاج يَخْلُكُمْ فِى بُطُونِ أُمَّهَـتِكُمْ خَلْقاً مِّنْ بَعْدِ خَلْقً فِى ظُلُمَـتِ ثَلَـثِ ذَلِكُمُ اللهَُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ( 6 ) إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهََ غَنِىٌّ عَنْكُمْ وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَ إِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخرى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمُ بِذَاتِ الصُّدُورِ( 7 )

 

التّفسير

الجميع مخلوقون من نفس واحدة:

مرّة اُخرى تستعرض آيات القرآن الكريم عظمة خلق الله، وتبيّن في نفس الوقت بعض النعم الأُخرى التي منّ بها الله سبحانه وتعالى على الإنسان.

في البداية تتحدّث عن خلق الإنسان وتقول: (خلقكم من نفس واحدة ثمّ جعل منها زوجها).

[23]

خلق كلّ بني آدم من نفس واحدة إشارة إلى مسألة خلق آدم أبي البشر، إذ أنّ كل البشر وبتنوع خلقتهم وأخلاقهم وطبائعهم واستعداداتهم وأذواقهم المختلفة يعودون في الأصل إلى آدم(عليه السلام)

وعبارة: (ثمّ جعل منها زوجها)(1) إشارة إلى أن الله خلق آدم في البداية، ثمّ خلق حواء ممّا تبقى من طينته.

وعلى هذا الأساس فإنّ عملية خلق حواء تمّت بعد خلق آدم، وقبل خلق أبناء آدم.

عبارة(ثمّ) لا تأتي دائماً كتأخير للزمان، وإنّما تأتي أحياناً كتأخير للبيان، فمثلا يقال: رأيت ما عملته اليوم ثمّ رأيت ما عملته بالأمس، في حين أنّ عمل الأمس قد نفذ قبل عمل اليوم، ولكن المراد هنا أنّ مشاهدته تمّت بعد عمل اليوم.

والبعض اعتبر الآية المذكورة أعلاه تشير إلى (عالم الذّر) وخلق أبناء آدم بعد خلق آدم وقبل خلق حواء بشكل أرواح، هذا التّفسير غير صحيح، وقد بيّنا هذا في تفسير وتوضيح «عالم الذّر» في ذيل الآية (172) من سورة الأعراف.

وممّا يجدر ذكره أنّ زوجة آدم(عليه السلام) لم تخلق من أي جزء منه، وإنّما خلقت ممّا تبقى من طينته التي خلق منها، وذلك كما ورد في الرّوايات الإسلامية، وأمّا الرّوايات التي تقول بأنّها خلقت من ضلع آدم الأيسر، فإنّه كلام خاطىء مأخوذ من بعض الرّوايات الإِسرائيلية، ومطابق في نفس الوقت لما جاء في الفصل الثّاني من كتاب التّوراة (سفر التكوين) المحرّف، إضافة إلى كونه مخالفاً للواقع والعقل، إذ أنّ تلك الرّوايات ذكرت أنّ أحد أضلاع آدم قد أخذ وخلقت منه حواء، ولهذا فإنّ الرجال ينقصهم ضلع في جانبهم الأيسر، في حين أنّنا نعلم بعدم وجود أيّ فارق بين عدد أضلع المرأة والرجل، وهذا الإختلاف ليس أكثر من خرافة.

بعد هذا ينتقل الحديث إلى مسألة خلق أربعة أنواع من الانعام تؤمّن للإنسان

____________________________________

1 ـ في قوله تعالى: (ثم جعل منها زوجها) محذوف تقديره (خلقكم من نفس واحدة خلقها، ثمّ جعل منها زوجها) .

[24]

ضروريات الحياة، حيث يستفيد من جلودها لملابسه، ومن حليبها ولحمه الغذائه، ومن جهة اُخرى يصنع من جلودهاوأصوافها عدّة أُمور يستفيد منها في حياته، ومن جهة ثالثة يستخدمها كوسيلة لتنقّله وحمل أثقاله: (وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج) والمقصود من (الأزواج الثمانية) الذكر والأنثى لكلّ من الإِبل والبقر والضأن والمعز، ومن هنا فإنّ كلمة (زوج) تطلق على كلّ من الذكر والأنثى، ولهذا فأنّ عدده يكون ثمانية أزواج. (ولذا في بداية الآية هذه اُطلقت كلمة زوج على حواء).

وعبارة(أنزل لكم) والتي تخص هنا الأنعام الأربعة ـ كما بيّنا ذلك من قبل ـ لا تعني فقط إنزال الشيء من كان عال، وإنّما في مثل هذه الحالات تعني (تدني المقام) والنعم من مقام أعلى الى أدنى.

كما ذكروا احتمالا آخر في أن (إنزال) مشتقّة هنا من (نزل) على وزن (رسل) وتعني ضيافة الضيف، أو أوّل ما يقدم للضيف، ونظير هذا المعنى ورد في الآية (198) من سورة ال عمران بخصوص أهل الجنّة، قال تعالى: (خالدين فيها نزلا من عند الله).

وقد ذهب بعض المفسّرين الى أنّ الأنعام الأربعة مع أنّها لم تنزل من مكان أعلى إلى الأرض، فأنّ مقدّمات توفير متطلبات حياتها وتربيتها والتي هي قطرات المطر وأشعة الشمس هي التي تنزل من الأعلى إلى الأرض.

وورد تفسير رابع لهذه العبارة هو أنّ كلّ الموجوات كانت من البداية موجودة في خزائن علم وقدرة الباريء عزّوجلّ، أي في علم الغيب، ثمّ انتقلت من الغيب إلى الشهادة أي إلى (الظهور)، ولهذا أطلقوا على هذا الإنتقال عبارة (الإنزال) كما ورد ذلك في الآية (21) في سورة الحجر: (و إن من شيء إلاّ عندنا خزائنه وما ننزله إلاّ بقدر معلوم)(1).

____________________________________

1 ـ تفسير الميزان; وروح المعاني ذيل آيات البحث.

[25]

لكنّ التّفسير الأوّل أكثر مناسبة من غيره، رغم عدم وجود أي تعارض بين هذه التفاسير، بل من الممكن أن تصب جميعها في نفس المفهوم والمعنى.

وورد عن أمير المؤمنين(عليه السلام) حديث في تفسير هذه الآية جاء فيه: «إنزاله ذلك خلقه إباه» أي أن إنزال تلك الأزواج الثمانية من الأنعام يعني خلقها من قبل الله.

ظاهر الحديث يشير إلى التّفسير الأوّل، لأنّ الله سبحانه وتعالى هو خالق الخلق، وله المقام الأسمى والأرفع.

وعلى أية حال، فرغم أنّ الأنعام المذكورة قليلا ما يستفاد منها اليوم في عمليات النقل وحمل الأثقال، لكنّها تقوم بمنافع مهمّة اُخرى يزداد ويتسع حجم الإحتياج إليها يوماً بعد آخر، لأنّها تغطي اليوم الجانب الأعظم من احتياجات الإنسان الغذائية كالحليب واللحوم، إضافة إلى أصوافها وجلودها التي كانت منذ السابق وحتى يومنا هذا تستخدم في صناعة الألبسة وغيرها من الأُمور التي يحتاج إليها الإنسان، حتى أنّ أحد المنابع المالية المهمّة بيد الدول الكبيرة في العالم يأتي عن طريق تربيه وتكثير هذه الحيوانات.

ثمّ تتطرق الآيات إلى حلقة اُخرى من حلقات خلق الله، وهي عملية نمو الجنين إذ تقول الآية: (يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق في ظلمات ثلاث).

يتضح أنّ المقصود من (خلقاً من بعد خلق) هو الخلق المتكرر والمستمر، وليس الخلق مرتين فقط.

«يخلقكم»: فعل مضارع يعطي معنى الإستمرارية، وهو هنا بمثابة إشارة قصيرة ذات معان عميقة إلى التحولات العجيبة والصور المختلفة التي تطرأ على الجنين في مراحل وجوده المختلفة في بطن الأُم. وطبقاً لأقوال علماءعلم الأجنّة

[26]

فإنّ عملية خلق ونمو الجنين في بطن الأُمّ تعدّ من أعجب وأدقّ صور خلق الباريء عزّوجلّ، ونادراً ما نلاحظ أنّ المطلعين على دقائق هذه القضايا لا تلهج ألسنتهم بحمد الخالق وثنائه.

وقوله (ظلمات ثلاث)إشارة إلى ظلمة بطن الأمّ وظلمة الرحم وظلمة المشيمة (الكيس الخاص الذي يستقر فيه الجنين) التي هي في الحقيقة ثلاثة أغلفة سميكة تغطي الجنين.

فالمصورون ـ الآن ـ بحاجة إلى ضوء ساطع ونور من أجل التصوير، أمّا خالق الإنسان فيخطط في تلك الظلمة بشكل عجيب ويصور بشكل يدهش العقول، ويمدّه بأسباب العيش في مكان لا يمكن لأحد أن يوصل إليه رزقه الذي هو في أمسّ الحاجة إليه للنمو.

الإمام الحسين(عليه السلام) سيد الشهداء يقول في دعائه المعروف بدعاء عرفه، الذي يعدّ دورة دراسية كاملة وعالية في التوحيد، يقول عند استعراضه للنعم التي منّ بها الباري عزّوجلّ عليه: «وابتدعت خلقي من مني يمنى، ثمّ أسكنتني في ظلمات ثلاث: بين لحم وجلد ودم لم تشهدني خلقي، ولم تجعل إليّ من أمري ثمّ أخرجتني إلى الدنيا تامّاً سويّاً»(1).

(ممّا يذكر أنّنا قد تطرقنا إلى عجائب خلق الجنين ومراحل خلقه في ذيل الآية (6) من سورة آل عمران وفي ذيل الآية (5) من سورة الحج).

وفي نهاية الآية، بعد ذكر الحلقات التوحيدية الثلاث الخاصة بخلق الإنسان والأنعام ومراحل خلق الجنين، يقول الباريء عزّوجلّ: (ذلكم الله ربّكم له الملك لا إله إلاّ هو فأنى تصرفون).

____________________________________

1 ـ دعاء عرفة، مصباح الزائر، ابن طاووس.

[27]

فأحياناً يصل الإنسان بعد مشاهدته لهذه الأثار التوحيدية العظيمة إلى مقام الشهود. ثمّ أشار تعالى إلى ذاته القدسية، حيث يقول: (ذلكم الله ربّكم) حقّاً لو كانت هناك عين بصيرة فيمكنها أن تراه إنّه وراء هذه الآثار... فعين الجسم ترى الآثار، وعين القلب ترى خالق الآثار.

عبارتي «ربّكم» و «له الملك» تدلان في الحقيقة على حصر الربوبية بذاته الطاهرة المقدسة، والذي اتضح بصورة جيدة في عبارة (لا إله إلا هو) فعندما يكون هو الخالق والمالك والمربي والحاكم لكلّ عالم الوجود، فما هو دور غيره في هذا العالم كي يستحق العبودية؟!

وهنا تصرخ الآية بوجه مجموعة من النائمين والغافلين قائلة: (فأنى تصرفون) أي كيف ضللتم وانحرفتم عن سبيل التوحيد(1)؟

بعد ذكر هذه النعم الكبرة التي منّ بها الباريء عزّوجلّ على عباده، تتطرق الآية التالية إلى مسألة الشكر والكفر، وتناقش جوانب من هذه المسألة. وفي البداية تقول: (إن تكفروا فإنّ الله غني عنكم) اي إن تكفروا أو تشكروا فإنّ نتائجه تعود عليكم، والله غني عنكم في حال كفركم وشكركم.

ثمّ تضيف، إنّ غناه وعدم احتياجه لا يمنعان من أن تشكروا وتتجنبوا الكفر، لأنّ التكليف إنّما هو لطف ونعمة إلهية، نعم، قال تعالى: (ولا يرضى لعباده الكفر و إن تشكروا يرضه لكم)(2).

وبعد استعراض هاتين النقطتين تستعرض الآية نقطة ثالثة وهي

____________________________________

1 ـ نلفت الإنتباه إلى أن (أنّى) تأتي أحياناً بمعنى (اين) وأحياناً اُخرى بمعنى(كيف) .

2 ـ وفق القراءات المشهورة، فإن (يرضه) تقرأ بضم الهاء و بدون إشباع الضمير، لأنّها كانت في الأصل (يرضاه) و قد أسقطت الألف بسبب الجزم و أصبحت (يرضه) و الضمير فيها يعود على الشكر. و رغم أن كلمة (شكر) لم ترد من العبارة السابقة بصورة صريحة، إلاّ أن عبارة (إن تشكروا) تدل عليها، كما هو الحال بالنسبة إلى الضمير في (اعدلوا هو أقرب للتقوى) الذي يعود على العدالة.

[28]

تحمل شخص مسؤولية أعماله، لأن قضية التكليف لا يكتمل معناها بدون هذا الأمر، قال تعالى: (ولا تزر وازرةٌ وزر اُخرى).

ولأنّه لا معنى للتكليف إن لم يكن هناك عقاب وثواب، فالآية تشير في المرحلة الرّابعة إلى قضية المعاد، وتقول: (ثمّ إلى ربّكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون).

ولكون مسألة الحساب والعقاب لا يمكن أن تتمّ ما لم يكن هناك إطلاع وعلم كاملين بالأسرار الخفية للإنسان، تختتم الآية بالقول: (إنه عليم بذات الصدور).

بهذا الشكل، ومن خلال جمل قصار، استعرضت فلسفة التكليف وخصوصياته ومسؤولية الإنسان ومسألة العقاب والجزاء والثواب. وهذه الآية جواب قاطع لمن يتولى المذهب الجبري، الذي انتشر ـ ممّا يؤسف له ـ في صفوف بعض الطوائف الإسلامية، لأنّ الآيات الكريمة تقول وبصراحة: (ولا يرضى لعباده الكفر).

وهذا دليل واضح على أن إرادة الكفر لم تفرض على الكافرين (كما يقول بذلك أتباع المذهب الجبري) لأنّ من البديهي أنّ من لا يرتضي شيئاً لا يأتي به، فهل يمكن أنّ تكون إرادة الله منفصلة عن رضاه؟ متعصبو المذهب الجبري يثيرون العجب عندما يعمدون إلى ستر هذه العبارة الواضحة من خلال حصر كلمة (العباد) بالمؤمنين أو المعصومين، في حين أنّها كلمة ذات معنى مطلق وتشمل بصورة واضحة كلّ العباد، نعم، فالباري، عزّوجلّ لا يرتضي الكفر لأحد من عباده، مثلما يرتضي الشكر لكلّ عباده من دون أي استثناء(1).

____________________________________

1 ـ هناك بحث مفصل في ذيل الآية (5) من سورة إبراهيم ـ عن أهمية و فلسفة الشكر وعن مفهومها الحقيقي وأبعادها.

[29]

وهذه النقطة تلفت الإنتباه، وهي أنّ أساس تحمّل كلّ إنسان لمسؤولية أعماله يعدّ من الأسس المنطقية والمسلم بها في كلّ الأديان السماوية(1).

وبالطبع يمكن أحياناً أن يكون الإنسان مشتركاً في ذنوب الأُخرين، وذلك عندما يكون مضطلعاً أو مساهمأ مع آخرين في تهيئة مقدمات أو أسس ذلك العمل، كالذين يبتدعون البدع أو السنن الضالة، في هذه الحالة تكون ذنوب أي شخص يرتكب تلك المحرمات في ذمة مسببها الرئيسي دون أن تقلل ذنوب ذلك الشخص الذي ارتكب الذنب(2).

 

* * *

____________________________________

1 ـ بهذا الخصوص هناك بحث في ذيل الآية (15) من سورة الإسراء.

2 ـ هناك بحث بهذا الشأن في ذيل الآية (14) من سورة الأنعام.

[30]

الآيتان

وَ إِذَا مَسَّ الاِْنَسـنَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِىَ مَا كَانَ يَدْعُواْ إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَ جَعَلَ ِللهِ أَنْدَاداً لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَـبِ النَّارِ ( 8 )أَمَّنْ هُوَ قَـنِتٌ ءَانَآءَ الَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الاَْخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الاَْلْبَـبِ( 9 )

 

التّفسير

هل العلماء والجهلة متساوون؟

الآيات السابقة تحدثت بالأدلة والبراهين عن توحيد ومعرفة الباريء عزّوجلّ، وذلك من خلال عرض بعض الظواهر العظيمة له في الآفاق والأنفس، أما آيات بحثنا فتتحدث في البداية عن التوحيد الفطري وتوضح أن ما يدركه الإنسان عن طريق العقل أو الفهم أو المطالعة في شؤون الخلق موجود بصورة فطرية في أعماقه، وأنّه يظهر أثناء المشاكل وأعاصير الحوادث التي تعصف به، ولكن هذا الإنسان الكثير النسيان يبتلى مرّة اُخرى بالغفلة والغرور فور ما تهدأ

[31]

العواصف والمشاكل وتقول الآية الكريمة: (وإذا مسّ الإنسان ضر دعا ربّه منيباً إليه) ونادماً من ذنوبه وغفلته.

وعندما يمنّ الله على الإنسان بالنعم ينسى المشاكل والإبتلاءات السابقة التي دعا الله عزّوجلّ من أجل كشفها عنه، قال تعالى: (ثم إذا خوله نعمة منه نسي ماكان يدعوا إليه من قبل)(1).

إذ يجعل لله أنداداً وشركاء ويعمد إلى عبادتها، ولا يكتفي بعبادتها بل يعمد ـ أيضاً ـ لإضلال وحرف الناس عن سبيل الله: (وجعل لله أنداداً ليضل عن سبيله).

المقصود هنا من (الإنسان) هم الناس العاديون الذين لم يتربّوا في ظل إشعاعات أنوار تعاليم الأنبياء، ولا يشمل هذا الكلام المؤمنين الذين يذكرون الله في السراء والضراء ويطلبون العون من لطفه دائماً.

المراد من (ضر) هنا كلّ أذى أو محنة أو ضرر يصيب الجسم أو الروح.

«خولناه»: من مادة (خول) على وزن (عمل) وتعني المراقبة المستمرة لشيء ما، المراقبة والتوجّه الخاص يستلزم العطاء والبذل، فقد استخدمت هنا بمعنى الهبة.

وقال البعض: إنّ (خول) على وزن (عمل) وتعني الخادم، ولهذا فإنّ كلمة «خوله» تعني الخادم الذين وهب لصاحبه، ثمّ استعملت في كافة أشكال هبة النعم بالتخويل.

والبعض الآخر قال: إنّها تعني الفخر والتباهي، ولهذا فإنّ العبارة المذكورة

____________________________________

1 ـ هناك اختلاف بين المفسّرين حول المعنى الذي تعطيه(ما) في عبارة (نسي ما كان يدعو إليه) البعض يعتقد أن (ما) موصولة تشير إلى (ضر) و لكون هذا المعنى هو الأنسب، فقد قدم على المعاني الأخرى، و قال البعض أيضاً: إن (ما) موصولة و المراد منها هو الله سبحانه و تعالى: و مجموعة أخرى قالت: إن (ما) مصدرية و تعني الدعاء، و إمعان النظر في الآية (12) من سورة يونس: (و إذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعداً أو قائماً فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسّه) يبيّن أن هذه الآية شاهد على صحة المعنى الأوّل.

[32]

أعلاه تعني حصول الإنسان على الفخر عن طريق منحه وهبته النعم(1).

ويصورة عامة فإنّ هذه الجملة تعكس إضافة إلى العطاء والهبة، اهتمام الباريء عزّوجلّ الخاصّ بعبده.

عبارة (منيباً إليه) تبيّن أنّ الإنسان في الحالات الصعبة يضع كافّة ستائر غروره وغفلته جانباً، ويترك وراءه كلّ ما كان يعبده أو يتمسك به من دون الله، ويعود إلى الباري، عزّوجلّ، ويستشفّ من مفهوم (الإنابة) هذه الحقيقة وهي أن مبدأ الانسان ومقصده وغايته هو الله تعالى.

«أنداد»: جمع (ند) على وزن (ضد) وتعني الشبيه والمثيل، مع وجود بعض الإختلاف وهو أنّ (مثل) لها مفهوم واسع، ولكن (ند) لها معنى واحد، وهو المماثلة في الذات والجوهر.

عبارة (جعل) تبيّن أن تصورات وخيالات الإنسان تصنع مثيلا وشبيهاً لله، الأمر الذي لا يمكن أن ينطبق مع الواقع.

وعبارة (ليضل عن سبيله) تبيّن أن الضالين المغرورين لا يقتنعون بإضلال أنفسهم، وإنّما يعمدون لجر الآخرين إلى وادي الضلال.

وعلى أية حال، فإنّ آيات القرآن المجيد أشارت ـ مرّات عديدة ـ إلى العلاقة الموجودة بين (التوحيد الفطري) و (الحوادث الصعبة في الحياة) كما عكست اضطراب الإنسان المغرور الذي يلجأ إلى الله ويوحده بإخلاص فور ما تعصف به العواصف والأعاصير، وكيف أنّه ينسى الله ويعود إلى غروره ولجاجته فور هدوء العاصفة ليسير من جديد في طريق الشرك والضلال.

وما أكثر أمثال هؤلاء الأشخاص المتلونون، وما أقل من ينقلب ويتغير عندما يمنّ الباريء عزّوجلّ عليه بالنصر والنعم والإستقرار.

نعم، فأبسط نسمة هواء تمرّ على حوض ماء تجعل مياه مضطربة، أمّا المحيط

____________________________________

1 ـ يراجع (لسان العرب) و (مفردات الراغب) و تفسيز (روح المعاني).

[33]

الهادي فإنّه لا يتأثر أبداً بأشدّ الأعاصير ولذا سمّي المحيط الهادي.

نهاية الآية تخاطب مثل أُولئك الأشخاص بلغة ملؤها التهديد الصريح والحازم والقاطع: (قل تمتع بكفرك قليلا إنّك من أصحاب النّار).

فهل يمكن أن يكون لإنسان كهذا مصير أفضل من هذا؟!

الآية التالية استخدمت أُسلوب المقارنة، الأُسلوب الذي طالما استخدمه القرآن المجيد لإفهام الآخرين القضايا المختلفة، حيث تقول: هل أن مثل هذا الشخص انسان لائق وذو قيمه: (أمن هو قانت آناء الليل ساجدأ وقائماً يحذر الآخرة ويرجوا رحمة ربّه)(1).

أين ذلك الإنسان المشرك والغافل والمتلون والضالّ والمضلّ من هذا الإنسان ذو القلب اليقظ الطاهر الساطع بالنور، الذي يسجد لله في جوف الليل والناس نيام، ويدعو ربّه خائفاً راجياً؟!

فهؤلاء في حال النعمة لا يعدون أنفسهم في مأمن من العقاب والعذاب، وفي حال البلاء لا ييأسون من رحمته، وهذان العاملان يرافقان وجودهم أثناء حركتهم المستمرة بحذر واحتياط نحو معشوقهم.

«قانت» من مادة «قنوت» بمعنى ملازمة الطاعة المقرونة بالخشوع والخضوع.

«آناء» هي جمع (انا) ـ على وزن كذاـ وتعني ساعة أو مقداراً من الوقت.

التأكيد هنا على ساعات الليل، لأنّ تلك الساعات يحضر فيها القلب أكثر، وتقلّ نسبة تلوثه بالرياء أكثر من أيّ وقت آخر.

قدمت الآية السجود على القيام، وذلك لكون السجود من أعلى درجات العبادة، وإطلاق الرحمة وعدم تقيّدها بالآخرة دليل على سعة الرحمة الإلهية التي تشمل الحياة الدنيا والآخرة.

____________________________________

1 ـ في هذه العبارة شق محذوف، و التقدير (أهذا الذي ذكرنا خير أمن هو قانت آناء الليل) .

[34]

وفي حديث ورد في كتاب «علل الشرائع» وفي كتاب «الكافي» نقلا عن الإمام الباقر (عليه السلام)، إنّه فسّر هذه الآية: (أمن هو قانت آناء الليل) بأنّها صلاة الليل(1).

من الواضح أن هذا التّفسير يشبه الكثير من التفاسير الأُخرى التي بيّنت في ذيل آيات مختلفة في القرآن الكريم من قبيل ذكر مصاديقها الواضحة، ولا ينحصر مفهوم الآية بصلاة الليل.

وتتمة الآية تخاطب الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) بالقول: (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون).

كلا، إنّهم غير متساوين: (إنّما يتذكر أولو الألباب).

لا شك في أن السؤال المذكور أعلاه سؤال شامل، وأنّه يقارن ما بين الذين يعلمون والذين لا يعلمون، أي بين العلماء والجهلة، لأنّه قبل طرح هذا السؤال، كان هناك سؤال آخر قد طرح، وهو: هل يستوي المشركون والمؤمنون الذين يحيون الليل بالعبادة، فالسؤال الثّاني يشير أكثر إلى هذه المسألة وهو: هل أن الذين يعلمون بأن المشركين المعاندين لا يتساوون مع المؤمنين الطاهرين، يتساوون مع الذين لا يعلمون بهذه الحقيقة الواضحة؟

وعلى أية حال فهذه العبارة التي تبدأ باستفهام استنكاري، توضح أحد شعارات الإسلام الأساسية وهو سمو وعلو منزلة العلم والعلماء في مقابل الجهل والجهلة. ولأنّ عدم التساوي ـ هذا ـ ذكر بصورة مطلقة، فمن البديهي أن تكون هاتان المجموعتان غير متساويتين عند الباريء، عزّوجلّ، وغير متساويين في وجهة نظر العقلاء، ولا يقفون في صفّ واحد من الدنيا، ولا في الأخرة وأنّهم مختلفون ظاهراً وباطناً.

* * *

____________________________________

1 ـ علل الشرائع; والكافي نقلا عن نور الثقلين، المجلد 4، الصفحة 479.

[35]

ملاحظة

تتضمّن هاتان الآيتان إشارات لطيفة إلى نقاط مهمّة:

1 ـ في الآية الأولى، ذكرت فلسفة الحوادث المرّة والصعبة، وانكشاف ستائر الغرور والغفلة عن عين القلب، وصيرورة شعاع الإيمان شعلة وهّاجة، والعودة والإنابة إلى لله سبحانه وتعالى، وأجابت الآية في نفس الوقت أُولئك الذين يتصورون أنّ وجود مثل تلك الحوادث الصعبة في الحياة إنّما هي نقص في مسألة نظام الخلق وفي عدالة الباريء عزّوجلّ.

2 ـ الآية الثّانية تبدأ بالدعوة إلى العمل وبناء الذات وتنتهي بالعلم والمعرفة، لأنّ من لم يبن ذاته، لا تشع أنوار المعرفة من قلبه، حيث لا يمكن أصلا فصل العلم عن بناء الذات.

3 ـ قوله تعالى: (قانت آناء الليل) وردت هنا بصيغة اسم فاعل، وكلمة (الليل) جاءت مطلقة لتشير إلى استمرار عبودية وخضوع أُولئك لله سبحانه، لأنّ العمل إذا لم يستمر فيكون ضعيف جدّاً.

4 ـ إنّ العلم الاضطراري المتولّد من نزول البلاء والذي يربط الإنسان بخالقه، لا يكون مصداقاً حقيقياً للعلم الاّ اذا استمر إلى ما بعد هدوء العاصفة. لذا فإنّ الآيات المذكورة أعلاه تجعل الإنسان الذي يستيقظ حال نزول البلاء ويعود إلى غفلته عند زواله تجعله في عداد الجهلة. إذن فإنّ العلماء الحقيقيين هم المتوجهون إليه تعالى في كلّ الحالات.

5 ـ ممّا يلفت الإنتباه أنّ نهاية الآية الأخيرة تقول: إنّ الفرق بين الجاهل والعالم لا يدركه سوى أولي الألباب! لأنّ الجاهل لا يدرك قيمة العلم! وفي الحقيقة إنّ كلّ مرحلة من مراحل العلم هي مقدمة لمرحلة اُخرى.

6 ـ العلم في هذه الآية وبقية الآيات لا يعني معرفة مجموعة من المصطلحات، أو العلاقة المادية بين الأشياء، وإنّما يقصد به المعرفة الخاصة التي

[36]

تدعو الإنسان إلى (القنوت) أي إلى طاعة الباريء عزّوجلّ والخوف من محكمته وعدم اليأس من رحمته، هذه هي حقيقة العلم، وإن كانت العلوم الدنيوية تؤدي إلى ما ذكرناه آنفأ، فهي علم أيضاً. وإلاّ فهي سبب الغفلة والظلم والغرور والفساد في الارض، ولا يحصل منها سوى «القيل والقال» وليس «الكيفية والحال».

7 ـ على عكس ما يعتقد به الجهلة الذين يعدّون الذين مخدراً (أفيوناً)، فإنّ أهم ما يدعوا إليه الأنبياء هو طلب العلم والمعرفة، وقد أعلنوا عداءهم للجهل أينما كان، وإضافة إلى أنّ القرآن الحكيم استغل الكثير من المناسبات كي يوضح هذا الأمر، كما وردت في الروايات الإسلامية أحاديث تصور عدم وجود شيء أفضل من العلم.

فقد ورد في حديث عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): «لا خير في العيش إلاّ لرجلين: عالم مطاع، أو مستمع واع»(1).

كما ورد حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام، جاء فيه: «إنّ العلماء ورثة الأنبياء وذاك أنّ الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً، وإنّما أورثوا أحاديث من أحاديثهم، فمن أخذ بشيء منها فقد أخذ حظاً وافراً، فانظروا علمكم هذا عمن تأخذونه فإن فينا أهل البيت في كلّ خلف عدولاً ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين»(2).

8 ـ الآية الأخيرة تتحدث عن ثلاث مجموعات، هم العلماء والجهلة وأولو الألباب، وقد شخصهم الإمام الصادق(عليه السلام) في حديث له، عندما قال: «نحن الذين يعلمون، وعدوّنا الذين لا يعلمون، وشيعتنا أولوا الألباب»(3).

9 ـ ورد في الحديث خرج أمير المؤمنين(عليه السلام) ذات ليلة من مسجد الكوفة

____________________________________

1 ـ الكافي، المجلد الأوّل، باب صفة العلم و فضله الحديث (7).

2 ـ الكافي، المجلد الأوّل، باب صفة العلم و فضله الحديث(2).

3 ـ تفسير مجمع البيان ذيل آيات البحث.

[37]

متوجّهاً إلى داره وقد مضى ربع من اللّيل ومعه كميل بن زياد(رحمه الله) وكان من خيار شيعته ومحبّيه فوصل في الطّريق إلى باب رجل يتلو القرآن في ذلك الوقت ويقرأ قوله تعالى (أمَّنَ هُوَ قَانِتٌ أناءَ اللَّيْلِ... الآية) بصوت شجي حزين فاستحسن كميل ذلك في باطنه وأعجبه حال الرّجل من غير أن يقول شيئأ، فالتفت صلوات الله عليه إليه وقال: يا كميل لا يعجبك طنطنة الرّجل إنّه من أهل النّار سأنبئك بعد، فيما يصدر فتحيّر كميل مكاشفة له على ما في باطنه ولشهادته بدخول النّار مع كونه في هذا الأمر وتلك الحالة الحسنة ومضى مدّة متطاولة إلى أن ال حال الخوارج إلى ما ال وقاتلهم أمير المؤمنين(عليه السلام) وكانوا يحفظون القرآن كما أنزل، فالتفت أمير المؤمنين(عليه السلام) إلى كميل وهو واقف بين يديه والسيف في يده يقطر دماً ورؤوس اُولئك الكفرة الفجرة مجلقة على الارض فوضع رأس السيف على رأس من تلك الرؤوس وقال: يا كميل أمّن هو قانتٌ... الآية أي هو ذلك الشخص الذي كان يقرأ القرآن في تلك الليلة فاعجبك حاله قبّل كيمل قدميه(عليه السلام) واستغفر اللّه.(1).

 

* * *

____________________________________

1 ـ سفينة البحار، المجلد الثّاني، الصفحة 496 أحوال كميل.

[38]

الآيات

قُلْ يَـعِبَادِ الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِى هَـذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهَِ وَسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّـبِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَاب( 10 ) قُلْ إِنِّى أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهََ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ( 11 ) وَأُمِرْتُ ِلأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ( 12 ) قُلْ إِنِّى أَخَافَ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّى عَذَابَ يَوْم عَظِيم( 13 ) قُلِ اللهََ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِى( 14 ) فَاعْبُدُواْ مَا شِئْتُمْ مِّنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَـسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوآ أَنْفُسَهُمْ وَ أَهْلِيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَـمَةِ أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ( 15 ) لَهُمْ مِّنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللهَُ بِهِ عِبَادَهُ يَـعِبَادِ فَاتَّقُونِ( 16 )

 

التّفسير

الخطوط الرئسية لمناهج العباد المخلصين:

تتمة لما جاء في بحث الآيات السابقة التي قارنت بين المشركين المغرورين والمؤمنين المطيعين لله، وبين العلماء والجهلة، فإنّ آيات بحثنا هذا تبحث

[39]

الخطوط الرئيسية لمناهج عباد الله الحقيقيين المخلصين وذلك ضمن سبعة مناهج وردت في عدّة آيات تبدأ بكلمة (قل).

الآية الأولي تحثّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) على التقوى: (قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم)(1).

نعم، فالتقوى هي الحاجز الذي يصدّ الإنسان عن الذنوب، وتجعله يحسّ بالمسؤولية وبتكاليفه أمام الباريء، عزّوجلّ، هي المنهج الأوّل لعباد الله المؤمنين و المخلصين، فالتقوى هي الدرع الذي يقي الإنسان من النّار، والعامل الرئيسي الذي يردعه عن الإنحراف، فالتقوى هي ذخيرته الكبيرة في سوق القيامة، وهي ميزان شخصية وكرامة الإنسان عند الباريء عزّوجلّ.

المنهج الثّاني يختص بالإنسان والعمل الصالح في هذه الدنيا التي هي دار العمل، وقد شجعت الآية الناس وحثتهم على عمل الإحسان، من خلال بيان نتيجة ذلك العمل: (للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة)(2).

نعم فالإحسان بصورة مطلقة في هذه الدنيا ـ سواء كان في الحديث، أو في العمل، أو في نوع التفكر والتفكير بالأصدقاء والغرباء ـ يؤدّي إلى نيل ثواب عظيم في الدنيا والآخرة، لأنّ جزاء الإحسان هو الإحسان.

وفي الواقع فإنّ التقوى عامل ردع، والإحسان عامل صلاح، وكلاهما يشمل (ترك الذنب) و (أداء الفرائض والمستحبات).

المنهج الثّالث يدعو إلى الهجرة من مواطن الشرك والكفر الملوثة بالذنوب، قال تعالى: (و أرض الله واسعة).

____________________________________

1 ـ من البديهي أنّ الخطاب بعبارة «يا عبادي» هو من الله، و إن كان المخاطب هو رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فالمقصود هنا أن أبلغهم خطابي.

2 ـ أغلب المفسّرين اعتبروا عبارة (في هذه الدنيا) تعود على عبارة (أحسنوا) ، و استناداً لهذا فإن «حسنة» مطلقة تشمل كل حسنة في الدنيا و الآخرة، و مع إنتباه إلى أن استعمال التنوين في مثل هذه الموارد إنّما هو لإعطاء الكلمة طابع التفخيم و العظمة، فإنه يفيد بيان عظمة الثواب.

[40]

هذه الآية ـ في الحقيقة ـ ردّ على ذوي الإِرادة الضعيفة والمتذرعين بمختلف الذرائع الذين يقولون: إنّنا عاجزون عن أداء الأحكام الإلهية لأنّنا في أرض مكّة التي يحكمها المشركون، والقرآن يردّ عليهم بأن أرض الله لا تقتصر على مكّة، فإن لم تتمكنوا من أداء فرائضكم في مكّة فالمدينة موجودة، بل إن الأرض كلها لله، هاجروا من المواطن الملوثة بالشرك والكفر والظلم التي  لا يمكنكم فيها أداء الأحكام الإلهية بحرية إلى آخر.

مسألة الهجرة هي إحدى أهم المسائل التي لم تلعب دوراً أساسياً في صدر الإسلام بانتصار الحكومة الإسلامية فحسب، بل إنّ لها أهمية في كلّ زمان، لأنّها من جهة تمنع مجموعة من المؤمنين أن يستسلموا لضغط وكبت محيطهم، ومن جهة اُخرى تكون عاملا مساعداً لتصدير الإسلام إلى نقاط مختلفة في أنحاء العالم.

والقرآن المجيد يقول: (إنّ الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنّا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأُولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً)(1).

وهذا يوضح ـ بصورة جيدة ـ أنّ المؤمن الذي تحيط به الضغوط والكبت، ويستطيع أن يهاجر في سبيل الله عليه أن يهاجر، وإلاّ فإنّه غير معذور أمام الله.

(بشأن أهمية الهجرة في الإسلام وأبعادها المختلفة كانت لنا بحوث مختلفة و مفصلة في ذيل الآية (100) من سورة النساء، وفي ذيل الآية (72) من سورة الانفال).

ولأنّ الهجرة ترافقها بصورة طبيعية مشكلات كثيرة في مختلف جوانب الحياة، فالمنهج الرابع إذن يتعلق بالصبر والإستقامة، قال تعالى: (إنّما يوفى

____________________________________

1 ـ النساء، 97.

[41]

الصابرون أجرهم بغير حساب)(1).

وعبارة (يوفي) مشتقّة من (وفى) وتعني إعطاؤه حقّه تاماً كاملا. وعبارة (بغير حساب) تبيّن أن للصابرين أفضل الأَجر والثواب عند الله، ولا يوجد عمل آخر يبلغ ثوابه حجم ثواب الصبر والإستقامة.

والشاهد على هذا القول ما جاء في الحديث المعروف الذي رواه الإمام الصادق (عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والذي جاء فيه: «إذا نشرت الدواوين ونصبت الموازين لم ينصب لأهل البلاء ميزان، ولم ينشر لهم ديوان، ثمّ تلا هذه الآية: (إنّما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب)»(2).

والبعض يعتقد أنّ هذه الآية تخصّ الهجرة الأولى للمسلمين، أي هجرة مجموعة كبيرة من المسلمين إلى أرض الحبشة تحت قيادة جعفر بن أبي طالب(عليه السلام)، وكما قلنا مراراً رغم أنّ أسباب النّزول توضح مفهوم الآية، إلاّ أنّها لا تحددها.

أمّا المنهج الخامس فقد ورد فيه أمر الإخلاص والتوحيد الخالي من شوائب الشرك، وهنا تتغير لهجة الكلام بعض الشيء، ويتحدث الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) عن وظائفه ومسؤولياته، إذ يقول: (قل إنّي أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين).

ثم يضيف: (وأمرت لأن أكون أوّل المسلمين). وهذا هو المنهج السادس الذي يعترف بأنّ النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) هو أول الناس إسلاماً وتسليماً لأوامر الباريء عزّوجلّ.

أمّا المنهج السابع والأخير فيتناول مسألة الخوف من عقاب الباريء عزّوجلّ يوم القيامة، قال تعالى: (قل إنّي أخاف إن عصيت ربّي عذاب يوم

____________________________________

1 ـ «بغير حساب» من الممكن أن تكون متعلقة بـ (يوفى) ، أو أنّها (حال) لـ (أجرهم) لكن الإحتمال الأوّل أنسب.

2 ـ تفسير مجمع البيان ذيل آيات البحث، و نفس المعنى مع اختلاف بسيط ورد في تفسير القرطبي نقلا عن الإمام الحسين بن علي(عليهما السلام) عن جدّه رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) .

[42]

عظيم).

التأمل في هذه الآيات يكشف بوضوح عن أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هو عبد من عباد الله، وهو مكلف أيضاً بعبادة الله بإخلاص، لأنّه ـ هو أيضاًـ يخاف العذاب الإلهي، وهو مكلّف بإطاعة الأوامر الإلهية، كما أنّه مكلّف بتكاليف وواجبات أثقل وأعظم من تكاليف الأُخرين، ولذا يجب أن يكون أفضل وأسمى من الأُخرين.

إنّه لم يدّع الألوهية أبدأ، ولم يخط خطوة واحدة خارج مسير العبودية، بل إنّه يفتخر ويتباهى بهذا المقام، ولهذا السبب كان قدوة وأسوة، وهو (صلّى الله عليه و آله وسّلم) لم يفضّل نفسه على الآخرين، وهذا دليل على عظمته وأحقّيته، فهو ليس كالمدّعين الكذّابين الذين كانوا يدعون الناس إلى عبادتهم، ويعتبرون أنفسهم أرقى من البشر، وأنّهم من معدن ثمين أفضل من الناس، وأحياناً يدعون أتباعهم إلى التبرع سنوياً بالذهب والجواهر بقدر وزنهم .

إنّه يقول: إنّي لست مثل السلاطين المتجبرين على رقاب الناس الذين يكلفون الناس ببعض التكاليف ويعتبرون أنفسهم «فوق تلك التكاليف» وهذا في الواقع إشارة إلى موضوع تربوي هامّ، وهو أنّ كلّ إنسان ـ مربياً كان أم قائداً ـ عليه أن يكون السباق في تنفيذ من أجلها ما يمليه عليه نهجه، فيجب أن يكون أوّل مؤمن بشريعته أو سنته وأكثر الساعين والمضحين كي يؤمن الناس بصدقه، ويتخذونه أسوة وقدوة لهم في كلّ الأمور. ومن هنا يتضح أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن أوّل مسلم من حيث الزمان وحسب، وإنّما كان أوّل إسلاماً من كلّ النواحي، من ناحية الإيمان والإخلاص، والعمل، والتضحية، والجهاد، والصمود، والمقاومة، وتأريخ حياة الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) يؤيد هذه الحقيقة بصورة جيدة.

بعد استعراض المناهج السبعة المذكورة في الآيات أعلاه (التقوى، الإحسان، الهجرة، الصبر، الإخلاص، التسليم، الخوف).

ولكون مسألة الإخلاص لها ميزات خاصة في مقابل العلل المختلفة للشرك،

[43]

تعود الآيات لتؤّكد عليها مرّة اُخرى، إذ تقول وبنفس اللهجة السابقة: (قل الله أعبد مخلصأ له ديني)(1).

أما أنتم فاعبدوا ما شئتم من دون الله: (فاعبدوا ما شئتم من دونه).

ثمّ تضيف: (قل إنّ الخاسرين اللذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة). أي إنّهم لم يستثمروا طاقاتهم وعمرهم، ولا من عوائلهم وأو لادهم لإنقاذهم، ولا لإعادة ماء الوجه المراق إليهم، وهذا هو الخسران العظيم: (ألا ذلك هو الخسران المبين).

الآية الأخيرة في بحثنا هذا تصف إحدى صور الخسران المبين، إذ تقول: (لهم من فوقهم ظلل من النّار ومن تحتهم ظلل).

وبهذا الشكل فإنّ أعمدة النيران تحيط بهم من كلّ جانب، فهل هناك أعظم من هذا؟ وهل هناك عذاب أشدّ من هذا؟

«ظلل» جمع (ظلّة)على وزن «سنّة» وتعني الستر الذي ينصب في الجهة العليا. وطبقاً لهذا فإنّ إطلاق هذه الكلمة على ما يفرش تحت اهل النّار اطلاق مجازيومن باب التوسع في معنى الكلمة.

بعض المفسّرين قالوا: بما أنّ أصحاب النّار يتقلبون بين طبقات جهنم، فإنّ ستائر النّار محيط بهم من فوق رؤوسهم ومن تحت أرجلهم. والآية (55) من سورة العنكبوت تشبه هذه الآية: (يوم يغشهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم ويقول ذوقوا ما كنتم تعملون).

هذا في الحقيقة تجسيد لأحوالهم وأوضاعهم في هذه الدنيا، إذ أن الجهل والكفر والظلم محيط بكلّ وجودهم، ومستحوذ عليهم من كلّ جانب، ثمّ تضيف الآية مؤكّدة وواعظة إياهم: (ذلك يخوف الله به عباده يا عباد فاتقون).

إضافة كلمة (العباد)إلى لفظ الجلالة في هذه الآية، ولعدّة مرّات اشارة إلى أنّ

____________________________________

1 ـ تقديم (اسم الجلالة) و الذي هو مفعول (اعبد) يفيد الحصر هنا، و قوله (مخلصاً له ديني) التي هي حال يؤكّد معنى الحصر.

[44]

تهديد الباريء عزّوجلّ لعباده بالعذاب إنّما هو لطف ورحمة منه، وذلك كي  لا يبتلى عباده بمثل هذا المصير المشؤوم، ومن هنا يتضح أنّه لا حاجة لتفسير كلمة (العباد) هنا على أنّها تخصّ المؤمنين، فهي تشمل الجميع، كي لا يأمن أحد من العذاب الإلهي.

* * *

 

ملاحظات

1 ـ حقيقة الخسران!

يرى الراغب في مفرداته أنّ الخسران يعني ذهاب رأس المال كلّه أو بعضه، وأحياناً تنسب إلى الإنسان، عندما يقال: (الشخص الفلاني خسر) وأحياناً تنسب إلى العمل عندما يقولون: (خسرت تجارته).

وتستخدم كلمة (خسران) أحياناً في حالة فقدان الثروة الظاهرية، كالمال والجاه، الدنيوي، وأحياناً اُخرى تستخدم في حالة فقدان ثروة معنوية كالصحة والسلامة والعقل والإيمان والثواب، وهذا هو الشيء الذي سمّاه الباريء عزّوجلّ (الخسران المبين) فكلّ خسران ذكره الباريء عزّوجلّ في القرآن الكريم إنّما يشير إلى المعنى الثّاني وليس إلى الخسران الخاص بثروات الدنيا وتجارتها(1).

وقد شبّه القرآن الإنسان بتجارة الأثرياء الذين يدخلون أسواق التجارة العالمية برؤوس أموال كبيرة، فالبعض منهم يجني أرباحاً كبيرة، والبعض الآخر يخسر خسارة فادحة.

آيات كثيرة في القرآن المجيد تطرقت إلى مثل هذا التعبير والتشبيه، حيث توضح الحقيقة التالية: إنّ النجاة من العذاب الإلهي لا تتحقق بالجلوس وانتظار

____________________________________

1 ـ مفردات الراغب مادة (خسر).

[45]

هذا وذاك، وإن السبيل الوحيد للنجاة هو الإستفادة من الثروة، وبذل الجهود والمساعي في هذه التجارة الكبيرة، لأنّ كلّ شيء يعطى بثمن، ولا يعطى بالمعاذير!

وقد يتساءل البعض: ما هي أسباب وصف خسارة المشركين والمذنبين بالخسران المبين؟

الجواب هو:

أوّلا: لأنّهم باعوا أفضل ثروة لديهم ـ أي العمر والعقل والإدراك والعواطف الانسانية ـ بدون مقابل.

ثانياً: لو أنّهم باعوا تلك الثروة من دون أن يشتروا العذاب والعقاب لكان أمراً هيناً بعض الشيء، لكنّ الأمر لم يكن كذلك إذ أنّهم بخسرانهم لتلك الثروة العظيمة هيأوا لأنفسهم عذاباً أليماً وعظيماً.

ثالثأ: إنّ هذه الخسارة التي لا يمكن أن تعوّض بأيّ ثمن، وهذه هي (الخسران المبين).

 

2ـ ما هو المراد من الآية: (فاعبدوا ما شئتم)

عبارة (فاعبدوا ما شئتم) جاءت بصيغة أمر تهديدي، وهذا الأُسلوب يستعمل عندما لا تؤثر النصيحة والموعظة بالشخص المجرم والمذنب، إذ أنّ آخر ما يقال له: (افعل ما تشاء، ولكن انتظر العقاب أيضاً) ويعني أنّك وصلت إلى درجة لا تستحقّ معها النصيحة والموعظة، وأنّ مصيرك وعلاجك هو العذاب الأليم.

 

3 ـ من هم الأهل؟

الآيات المذكورة أعلاه تقول: إنّ أُولئك الخاسرين لم يخسروا ثروة وجودهم فحسب، وإنّما خسروا أهليهم أيضاً.

[46]

بعض المفسّرين قال: إنّ المراد من (أهل) هم أتباع الإنسان والسائرون على نهجه.

والبعض الآخر فسّرها بأنّها تعني الزوجات القاصرات الطرف في الجنّة، اللواتي خسرهن المشركون والمجرمون.

والبعض الآخر يقول: إنّها تعني العائلة والأرقاب في الدنيا.

والمعنى الأخير ـ مع الإلتفات إلى أنّه المعنى الأصلي لهذه الكلمة ـ يعد أنسب من الجميع، لأن الكافر يخسر أهله يوم القيامة، إذ ينفصلون عنه وإن كانوا مؤمنين، وأما إذا كانوا مشركين فمضافاً الى أنّهم لا ينفعونهم، سيكونون سبباً في زيادة العذاب الاليم.

 

* * *

 

[47]

الآيات

وَ الَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّـغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَ أَنَابُوا إِلَى اللهَِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ( 17 ) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقُولَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهَُ وَأُوْلَـئِكَ هُمْ أُوْلُواْ الاَْلْبَـبِ( 18 ) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِى النَّارِ( 19 ) لَـكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الاَْنْهَـرُ وَعْدَ اللهَِ لاَ يُخْلِفُ اللهَُ الْمِيعَادَ( 20 )

 

التّفسير

عباد الله الحقيقيون:

استخدم القرآن الكريم مرّة اُخرى أسلوب المقارنة في هذه الآيات، إذ قارن بين عباد الله الحقيقيين والمشركين المعاندين الذين لا مصير لهم سوى نار جهنّم، قال تعالى: (والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى).

ولكون كلمة (البشرى)جاءت هنا بصورة مطلقة وغير محدودة، فتشمل كافة

[48]

أنواع البشرى بالنعم الإِلهية المادية والمعنوية، وهذه البشرى بمعناها الواسع تختص فقط بالذين اجتنبوا عبادة الطاغوت وعمدوا إلى عبادة الله وحده من خلال إيمانهم به وعملهم الصالح.

وكلمة «طاغوت» من مادة (الطغيان) تعني الإعتداء وتجاوز الحدود، ولذا فإنّها تطلق على كلّ متعدّ، وعلى كلّ معبود من دون الله، كالشيطان والحكام المتجبرين (وتستعمل هذه الكلمة للمفرد والجمع)(1).

فعبارة (اجتنبوا الطاغوت)بمعناها الواسع تعني الإبتعاد عن كلّ أشكال الشرك وعبادة الأصنام وهوى النفس والشيطان، وتجنب الإنصياع والإستسلام للحكام المتجبرين الطغاة.

أمّا عبارة( أنابوا إلى الله) فإنّها تجمع روح التقوى والزهد والإيمان، وأمثال هؤلاء يستحقون البشرى.

ويجب الإلتفات إلى أنّ عبادة الطاغوت لا تعني فقط الركوع و السجود له، وإنّما تشمل كلّ طاعة له، كما ورد في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) «من أطاع جباراً فقد عبده»(2).

ثم تعرج الآية على تعريف العباد الخاصّين فتقول: (فبشر عباد(3) الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أُولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب).

الآيتان المذكورتان بمثابة شعار إسلامي، وقد بيّنتا حرية الفكر عند المسلمين، وحرية الإختيار في مختلف الأُمور.

____________________________________

1 ـ بعض المفسّرين، و منهم الزمخشري صاحب الكشّاف يعتقدون أنّ أصل كلمة (طاغوت) هو (طغوت) على وزن (فعلوت) (كملكوت)، ثمّ تقدت لام الفعل على عين الفعل و أصبحت (طوغوت) ، و بعد إبدال الواو بالألف أصبحت (طاغوت) و يستدل صاحب الكشّاف على هذا الكلام من عدّة مصادر (تفسير الكشاف ج 4 ص 120).

2 ـ مجمع البيان، الجزء السابع، الصفحة 493، ذيل آية البحث.

3 ـ (عباد) كانت في الأصل (عبادي) و قد حذفت الياء و عوض عنها بالكسرة.

[49]

ففي البداية تقول (بشر عباد) ثمّ تعرّج على تعريف أُولئك العباد المقربين بأنّهم أُولئك الذين لا يستمعون لقول هذا وذاك ما لم يعرفوا خصائص وميزات المتكلم، والذين ينتخبون أفضل الكلام من خلال قوّة العقل والإدراك، إذ  لا تعصب ولا لجاجة في أعمالهم، ولا تحديد وجمود في فكرهم وتفكيرهم، إنّهم يبحثون عن الحقيقة وهم متعطشون لها، فأينما وجدوها استقبلوها بصدور رحبة، ليشربوا من نبعها الصافي من دون أيّ حتى يرتووا.

إنّهم ليسوا طالبين للحق ومتعطشين للكلام الحسن وحسب، بل هم يختارون الأجود والأحسن من بين (الجيد) و (الأجود) و (الحسن) و (الأحسن)، وخلاصة الأمر فإنّهم يطمحون لنيل الأفضل والأرفع، وهذه هي علامات المسلم الحقيقي المؤمن الساعي وراء الحق.

أمّا ما المقصود من كلمة (القول) في عبارة (يستمعون القول) فإنّ المفسّرين أعطوا عدّة آراء لتفسيرها، منها:

البعض فسّره بأنّه يعني (القرآن) الذي يحتوي على الطاعات والمباحات، واقتفاء الأحسن يعني اقتفاء الطاعات.

والبعض الآخر فسّرها بأنّها تعني مطلق الأوامر الإليهة المذكورة في القرآن وغير المذكورة فيه.

ولكن لم يتوفّر أيّ دليل على هذين التّفسيرين، بل أن ظاهر الآية يشتمل كلّ قول وحديث، فالمؤمنون هؤلاء يختارون من جميع الكلمات والاحاديث ما هو (أحسن)، ليترجموه في أعمالهم.

والطريف في الأمر أنّ القرآن الكريم حصر في الآية المذكورة أعلاه الذين هداهم الله بأُولئك القوم الذين يستمعون القول ويتبعون أحسنه، كما أنّه اعتبر العقلاء ضمن هذه المجموعة، وهذه إشارة إلى أنّ أفراد هذه المجموعة مشمولون بالهداية الإلهية الظاهرية، والباطنية، الهداية الظاهرية عن طريق العقل والإدراك،

[50]

والهداية الباطنية عن طريق النور الإلهي والإمداد الغيبي، وهاتان مفخرتان كبيرتان للباحثين وراء الحقيقة ذوي التفكير الحرّ.

ولكون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يرغب ـ بشدّة ـ في هداية المشركين والضالين، و كان يتألّم كثيراً لإنحراف أُولئك الذين لم يعطوا آذاناً صاغبة للحقائق، فأنّ الأية التالية عمدت الى مواساته بعد أن وضحت له حقيقة أنّ عالمنا هذا هو عالم الحرية والإمتحان، و مجموعة من الناس ـ في نهاية الأمرـ يجب أن تدخل جهنم، إذ قالت: (أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النّار)(1).

عبارة (حقت عليه كلمة العذاب) إشارة إلى آيات مشابهة، كالآية (85) من سورة ص التي تقول بشأن الشياطين وأتباعهم: (لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين).

ومن البديهي أنّ حتمية تعذيب هذه المجموعة لا تحمل أيّ طابع إجباري، بل إنّهم يعذبون بسبب الأعمال التي ارتكبوها، ونتيجة إصرارهم على ارتكاب الظلم والذنب والفساد، بشكل يوضح أنّ روح الإيمان والتعقل كانت ميّتة في أعماقهم، وأنّ وجودهم كان قطعة من جهنم لا أكثر.

من هنا يتبيّن أنّ قوله تعالى: (أفأنت تنقذ من في النّار) هو إشارة الى حقيقة أنّ كونهم من أصحاب النّار يعد أمراً مسلماً به وكأنّهم الآن هم في قلب جهنم، حتّى أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي هو (رحمة للعالمين) لا يستطيع إنقاذهم من العذاب، لأنّهم قطعوا كافّة طرق الإتصال بالله سبحانه وتعالى ولم يبقوا أيّ سبيل لنجاتهم.

ولبعث السرور في قلب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولزيادة الأمل في قلوب المؤمنين،

____________________________________

1 ـ في الحقيقة، إنّ الآية تحوي جملة محذوفة تدل عليها الجملة التي تلتها، تقديرها (أفأنت تخلصه) إذ يصبح تقدير الجملة كالتالي (أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تخلصه (بقرينة الجملة التالية) أفأنت تنقذ من في النّار) و قال البعض الآخر: إن تقدير الآية هو كالتالي (أفمن حقت عليه كلمة العذاب ينجو منه).

[51]

جاء في آخر الآية: (لكن الذين اتقوا ربّهم لهم غرف من فوقها غرف).

فإن كان أهل جهنم مستقرين في ظلل من النّار، كما ورد في الآية السابقة: (لهم من فوقهم ظلل من النّار ومن تحتهم ظلل) فإنّ لأهل الجنّة غرفاً من فوقها غرف اُخرى، وقصور فوقها قصور اُخرى، لأنّ منظر الورود والماء والأنهار والبساتين من فوق الغرف يبعث على اللذة والبهجة بشكل أكثر.

«غرف» جمع «غرفة»من مادة «غرف» وعلى وزن حرف ـ بمعنى تناول الشيء ولذا يطلق على من يتناول الماء بكفه ليشربه «غرفة» ثمّ اطلقت على الطبقات العليا من المنازل.

وكشفت الآية أيضاً عن أن غرف أهل الجنّة الجميلة قد زينت بأنهار تجري من تحتها (تجري من تحتها الأنهار) نعم، هذا وعد الله (وعد الله لا يخلف الله الميعاد)(1).

* * *

 

بحوث

1 ـ منطق حرية التفكير في الإسلام

الكثير من المذاهب الوضعية تنصح أتباعها بعدم مطالعة ومناقشة مواضيع و آراء بقية المذاهب، إذ أنّهم يخافون من أن تكون حجّة الأُخرين أقوى من حجّتهم الضعيفة وبالتالي فقدان اتباعهم.

إلاّ أنّ الإسلام ـ شاهدنا في الآيات المذكورة أعلاه ـ ينتهج سياسة الأبواب المفتوحة في هذا المجال، إذ يعتبر المحققين هم عباد الله الحقيقيين الذين لا يرهبون سماع أراء الأُخرين، ولا يستسلمون لشيء من دون أي قيد أو شرط،

____________________________________

1 ـ يقول «الزمخشري» في الكشاف: (وعد الله) منصوب لكونه مفعولا مطلقاً للتأكيد، ولأنّ عبارة (لهم غرف) تعني (وعدهم الله غرفاً) .

[52]

ولا يتقبلون كلّ وسواس.

الإسلام الحنيف يبشّر الذين يستمعون القول ويتبعون أحسنه، الذين  لا يكتفون بترجيح الجيد على السيء، وإنّما ينتخبون الأحسن ثمّ الأحسن من كلّ قول ورأي.

ويوبّخ ـ بشدّةـ الجهلة الذين يضعون أصابعهم في آذانهم ويستغشون ثيابهم كلما سمعوا صوت الحق، كما ورد في قول نوح(صلى الله عليه وآله وسلم) عندما شكى قومه للباريء عزّوجلّ: (و إنّي كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكباراً)(1).

واساساً فإنّ المذهب القوي الذي يملك منطقاً قوياً لا يرهب أقوال الأُخرين، ولا يخاف من طرح آراء تلك المذاهب، لأنّه أقوى منها وهي التي ينبغي أن تخافه.

هذه الآية وضعت ـ في نفس الوقت الذين يتبعون أيّ قول يقال لهم من دون أيّ تفكير في مدى صدقه، وحتى أنّهم لا يحققون ولا يبحثون فيه بقدر ما تبحث الأغنام عن الغذاء الجيد في المراعي، وضعتهم خارج صف (أولوا الألباب) والذين (هداهم الله). فهاتان الصفتان تختصّان بالذين لم يبتلوا الإستسلام المفرط من دون أيّ قيد أو شرط، والذين لم يفرطوا في تعصبهم الجاهلي الأعمى.

 

2 ـ الردّ على بعض الأسئلة

من الممكن أن تطرح على ضوء البحث السابق عدّة أسئلة، منها:

1 ـ لماذا يمنع الإسلام بيع وشراء كتب الضلال.

2 ـ لماذا يحرم إعطاء القرآن الكريم بيد الكفار.

3 ـ كيف يمكن لإنسان ليس له إلمام بموضوع ما أن ينتخب ويميز الجيد من

____________________________________

1 ـ سورة نوح، الآية 7.

[53]

السي، ألا يستلزم هذا المعنى الدور؟

الجواب على السؤال الأوّل واضح، لأنّ البحث المتعلّق بالآيات المذكورة أعلاه يتناول أقوالا يؤمل منها الهداية، ففي أي وقت يتضح بعد البحث والتحقيق أن الكتاب الفلاني هو مضل فإنّه يخرج من هذا الأمر، فالإسلام لا يسمح بأن يسلك الناس في طريق ثبت انحرافه. وبالطبع فإنّه مادام الأمر لم يثبت لأحد، أي ما زال الشخص في حالة التحقيق عن المذاهب الأُخرى لقبول الدين الصحيح،  لا بأس بمطالعة كلّ تلك الكتب، ولكن بعد ثبوت ذلك الأمر يجب اعتبارها مادّة سامّة، ويجب إبعادها عن متناول الجميع.

أمّا بالنسبة إلى السؤال الثّاني، فإنّه لا يجوز إعطاء القرآن لغير المسلم إن كان ذلك الشخص يهدف إهانة وهتك القرآن، ولكن إن حصل علم بأن ذلك الكافر يفكر حقّاً بالتحقيق في الإسلام من خلال القرآن للوصول إلى هذا الهدف، فإن إعطاء القرآن هنا لا يعدّ أمراً ممنوعاً، بل يعدّ واجباً، والعلماء الذين حرّموا ذلك  لا يقصدون هذا المعنى.

ولهذا فإنّ الجمعيات الإسلامية الكبيرة تصرّ بشدّة على ترجمة القرآن إلى بقية اللغات الحية في العالم، ليوضع تحت تصرف المتعطشين لمعرفة الحقيقة.

وأمّا بشأن السؤال الثّالث، فيجب الإلتفات إلى أنّه في كثير من الأحيان  لا يستطيع شخص ما إنجاز عمل ما، ولكن عندما ينجزه الآخرون يتمكن هو من تشخيص الجيد من الرديء في ذلك العمل.

وعلى سبيل المثال، من الممكن أن يوجد شخص لا إطلاق له بفنّ الإعمار والبناء حتى أنّه لا يستطيع وضع لبنتين فوق بعضهما البعض بصورة صحيحة، ولكنّه يستطيع تمييز البناء الجيد ذي الكيفية العالية من البناء السىء غير المتناسق، كما أنّ هناك أشخاصاً كثيرين ليسوا بشعراء، إلاّ أنّهم يتمكنون من تقييم أشعار شعراء كبار وتميزها عن الأشعار الفارغة التي ينظمها بعض ناظمي الشعر. هناك

[54]

أشخاص ليسوا برياضيين ولكنّهم يتمكنون من التحكيم بين الرياضيين، وانتخاب الجيد منهم.

 

3 ـ نماذج من الروايات الإسلامية التي تؤّكد على حرية التفكير

وردت بعض الأحاديث الإسلامية في تفسير الآيات المذكورة أعلاه، كما وردت أحاديث مستقلة تؤكّد على هذا الموضوع، ومنها ما ورد عن الإمام موسى بن جعفر(عليه السلام)، خاطب فيه أحد أصحابه وهو هشام بن الحكم قائلا: «يا هشام، إن الله تبارك وتعالى بشر أهل العقل والفهم في كتابه، فقال (فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه)»(1).

وورد حديث آخر عن الأمام الصادق (عليه السلام) في تفسير الآية المذكورة أعلاه، قال فيه: «هو الرجل يسمع الحديث فيحدث به كما سمعه، لا يزيد فيه ولا ينقص»(2).

وبالطبع، فإنّ تفسير (فيتبعون أحسنه) هو المقصود في هذا الحديث، لأن إحدى علامات اتباع القول الحسن، هو أن لا يضيف الإنسان من عنده أي شيء على القول، وينقله ذاته للآخرين.

ونقرأ في البلاغة في حقل الكلمات القصار لأمير المؤمنين (عليه السلام): (الحكمة ضالة المؤمن، فخذ الحكمة ولو من أهل النفاق»(3).

 

4 ـ سبب النّزول

ذكر المفسّرون أسباباً لنزول هذه الآيات، ومنها، أنّ الآية: (و الذين اجتنبوا

____________________________________

1 ـ 1 الكافي، المحلد الأوّل، كتاب العقل الحديث (12).

2 ـ نور الثقلين، المجلد 4، الصفحة 486، الحديث 34.

3 ـ نهج البلاغة، قصار الكلمات، الخطبة (80)

[55]

الطاغوت...) والآية التي تلتها نزلنا بحق ثلاثة أشخاص (لم يستسلموا في عهد الجاهلية لغوغاء المشركين في مكّة) كانو يقولون لا إله إلا الله، والثلاثة هم (سلمان الفارسي وأبوذر الغفاري وزيد بن عمرو)(1).

وقد ورد اسم (سعيد بن زيد) بدلا (زيد بن عمرو) في بعض الرّوايات(2).

والبعض الآخر قال: إنّ الآية: (أفمن حق عليه كلمة العذاب...) نزلت بشأن (أبي جهل) وأمثاله(3).

وغير مستبعد أن تكون هذه الرّوايات من قبيل تطبيق الآية على المصاديق الواضحة وليس أسباباً للنزول.

 

* * *

 

____________________________________

1 ـ تفسير القرطبي; ومحمع البيان ذيل آيات البحث.

2 ـ الدر المنثور نقلا عن تفسير الميزان، المجلد17، صفحة 267.

3 ـ القول هذا أورده صاحب تفسير روح المعاني نقلا عن آخرين.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/books/index.php?id=849
  • تاريخ إضافة الموضوع : 0000 / 00 / 00
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19