• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم / المكتبة .
              • الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء الخامس) ، تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي .
                    • الموضوع : سورة الاعراف من آية 80 ـ 122 من ( ص 105 ـ 156 ) .

سورة الاعراف من آية 80 ـ 122 من ( ص 105 ـ 156 )

[105]

الآيات

وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَومِهِ أَتَأْتُونَ الْفَـحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَد مِّنَ الْعَـلَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسآءِ بَلْ أَنْتُمْ قَومٌ مُّسْرِفُونَ (81) وَمَا كَانَ جَوابَ قَومِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82)فَأَنْجَيْنَـهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَـبِرِينَ (83) وَأمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـقِبَةُ الُْمجْرِمِينَ(84)

التّفسير

مصير قوم لوط المؤلم:

في هذه الآيات يستعرض القرآن الكريمُ فَصلا آخر غنياً بالعبر من قصص الأنبياء، وبذلك يواصل هدف الآيات السابقة ويكمله، والقصة هذه المرّة هي قصة النّبي الإِلهي العظيم «لوط».

ولقد ذكرت هذه القصة في عدّة سور من القرآن الكريم، منها سورة «هود» و«الحجر» و«الشعراء» و«الأنبياء» و«النمل» و«العنكبوت».

وهنا يشير القرآن الكريم ـ ضمن آيات خمس ـ إلى خلاصة سريعة عن

[106]

الحوار الذي دار بين لوط، وقومه.

ويظهر أنّ الهدف الوحيد في هذه السورة (الأعراف) هو تقديم عصارات وخلاصات من مواجهات الأنبياء وحواراتهم مع الجماعات المتمردة من أقوامهم، ولكن الشرح الكامل لقصصهم موكول إلى السور القرآنية الأُخرى (وسوف نأتي بقصّة هذه الجماعة بصورة مفصلة في سورة هود والحجر إن شاء الله).

الآية الأُولى تقول في البدء: اذكروا وإذ قال لوط لقومه: أترتكبون فعلا قبيحاً لم يفعله أحد قبلكم من الناس؟ (ولوطاً إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ماسبقكم بها من أحد من العالمين)؟!

فهذه المعصية مضافاً إلى كونها عملا قبيحاً جدّاً ـ لم يفعلها أحد قبلكم من الأقوام ـ وبذلك يكون قبح هذا العمل الشنيع مضاعفاً، لأنّه أصبح أساساً لسنّة سيئة، وسبباً لوقوع الآخرين في المعصية عاجلا أو آجلا.

ويستفاد من الآية الحاضرة أنّ هذا العمل القبيح ينتهي ـ من الناحية التأريخية ـ إلى قوم لوط، وكانوا قوماً أثرياء مترفين شهوانيين، سنذكر أحوالهم بالتفصيل في السور التي أشرنا إليها إن شاء الله تعالى.

وفي الآية اللاحقة يشرح المعصية التي ذكرت في الآية السابقة ويقول: (إنّكم لتأتون الرّجال شهوة من دون النّساء).

وأي انحراف أسوأ وأقبح من أن يترك الإنسان وسيلة توليد النسل وإنجاب الأولاد، وهو مقاربة الرجل للمرأة، والذي أودعه الله في كيان كل إنسان بصورة غريزية طبيعية، ويعمد إلى «الجنس الموافق»، ويفعل بالتالي ما يخالف ـ أساساً ـ الفطرة، والتركيب الطبيعي للجسم والروح الإنسانيين، والغريزة السوية الصحيحة، وتكون نتيجة عقم الهدف المتوخى من المقاربة الجنسية.

وبعبارة أُخرى: يكون أثره الوحيد، هو الإشباع الكاذب والمنحرف للحاجة

[107]

الجنسية، والقضاء على الهدف الأصلي، وهو إستمرار النسل البشري.

ثمّ يقول تعالى في نهاية الآية: (بل أنتم قوم مسرفون) أي تجاوزتم حدود الله، ووقعتم في متاهة الإنحراف والتجاوز عن حدود الفطرة.

ويمكن أن تكون هذه العبارة إشارة إلى أنّهم لم يسلكوا سبيل الإسراف في مجال الغريزة الجنسية فحسب، بل تورطوا في مثل هذا الإنحراف والإسراف في كل شي، وفي كل عمل.

والجذير بالذكر أنّ الآية الأُولى ذكرت الموضوع بصورة مجملة، ولكن الآية الثّانية ذكرته بصورة مبيّنة وواضحة، وهذا هو أحد فنون البلاغة عند بيان القضايا الهامة، فإذا فعل أحد عملا شيئاً قال له مرشده ووليه الواعي الحكيم، لبيان أهمية الموضوع: أنت إرتكبت ذنباً عظيماً، فإذا قال له الشخص، ماذا فعلت؟ يقول له مرّة أُخرى: أنت إرتكبت ذنباً عظيماً، وفي المآل يكشف القناع عن فعله ويشرحه.

إنّ هذا النوع من البيان يهيء فكر الطرف الآخر ونفسه للوقوف تدريجاً على شناعة عمله القبيح وخطورته، وهو أبلغ في التأثير.

وفي الآية اللاحقة أشار القرآن الكريم إلى الجواب المتعنت وغير المنطقي لقوم لوط، وقال: إنّهم لم يكن لديهم أي جواب في مقابل دعوة هذا النّبي الناصح المصلح، إلاّ أن قالوا: أخرجوا لوطاً وأتباعه من مدينتكم. ولكن ما كان ذنبهم؟ إنّ ذنبهم هو أنّهم كانوا جماعة طاهرين لم يلوثوا أنفسهم بأدران المعصية (وماكان جواب قومه إلاّ أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنّهم أناس يتطهرون).

وهذا ليس موضع تعجب وإستغراب أن يطرد جماعة من العصاة الفسقة أشخاصاً طاهرين لا لشيء إلاّ لأنّهم أنقياء الجيب، يجتنبون المنكرات، وذلك لأنّ هؤلاء القوم يعتبرون هؤلاء مزاحمين لشهواتهم، فكانت نقاط القوة لدى أُولئك الأطهار نقاط ضعف وعيب في نظرهم.

ويحتمل أيضاً في تفسير جملة (إنّهم أناس يتطهرون) أنّ قوم لوط كانوا

[108]

يريدون بهذه العبارة أن يتهموا ذلك النّبي العظيم وأتباعه الأتقياء بالرياء والتظاهر بالتطهر، كما سمعنا وقرأنا في الأشعار كثيراً حيث يتهم الخمارون الأشخاص الطيبين النزيهين بالرياء والتظاهر، ويعتبرون (خرفتهم الملوثة بالخمر) أفضل من (سجادة الزاهد) وهذا نوع من التزكية الكاذبة للنفس التي يتذرع بها هؤلاء العصاة الأشقياء.

مع ملاحظة كل ما قيل في الآيات الثلاثة أعلاه، يستطيع كل قاض منصف أن يصدر حكمه بحق مثل هذه الجماعات والأقوام الذين يتوسلون ـ في مقابل إصلاح المصلحين ونصيحة الناصحين، ودعوة نبي إلهيّ عظيم ـ بالتهديد والإتهام، ولا يعرفون إلاّ لغة القوة والقهر، ولهذا قال الله تعالى في الآية اللاحقة: (فأنجيناه وأهله إلاّ امرأته كانت من الغابرين)(1) أي لما بلغ الأمر إلى هذا الحد أنجينا لوطاً وأتباعه الواقعين وأهله الطيبين، إلاّ زوجته التي كانت على عقيدة قومه المنحرفين فتركناها.

قال البعض: إنّ كلمة «أهل» وإن كان المتعارف إطلاقها على العائلة، ولكن في الآية الحاضرة استعملت في الأتباع الصادقين ـ أيضاً ـ يعني أنّهم كانوا معدودين جزءاً من أهله وعائلته أيضاً، ولكن يستفاد من الآية (36) من سورة الذاريات أنّه لم يؤمن بلوط ودعوته أحد من قومه قط إلاّ عائلته وأقرباؤه، وعلى هذا الأساس يكون لفظ الأهل هنا مستعملا في معناه الأصلي، أي أقرباؤه.

من الآية (10) من سورة التحريم إجمالا أنّ زوجة لوط كانت في البداية امرأة صالحة، ولكنّها سلكت سبيل الخيانة فيما بعد، وجرأت أعداء لوط عليه.

وفي آخر آية من الآيات إشارة قصيرة جداً ـ ولكن ذات مغزى ومعنى  عميق ـ إلى العقوبة الشديدة والرهيبة التي حلّت بهؤلاء القوم، إذ قال تعالى:

_____________________________

1 ـ يقال «الغابر» لمن ذهب أهله وفنوا وبقي هو وحده، كما ذهبت عائلة لوط معه، وبقيت زوجته وحدها معه، وأصيبت بما أصيب به العصاة.

[109]

(وأمطرنا عليهم مطراً) أيّ مطر ... إنّه كان مطراً عجيباً حيث إنهالت عليهم الشهب والنيازك كالمطر وأبادتهم عن آخرهم!!.

إنّ هذه الآية وإن لم تبيّن نوع المطر الذي نزل على القوم، ولكن من ذكر لفظة «المطر» بصورة مجملة اتضح أنّ ذلك المطر لم يكن مطراً عادياً، بل كان مطراً من الحجارة، كما سيأتي في سورة هود الآية (83).

(فانظر كيف كان عاقبة المجرمين).

إنّ هذا الخطاب وإن كان موجهاً إلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ولكنّه من الواضح أنّ الهدف هو إعتبار جميع المؤمنين به.

هذا وسيأتي تفصيل قصّة هذه الجماعة، وكذا مضار اللواط المتعددة، وحكمه في الشريعة الإسلامية، عند تفسير آيات سورة «هود» و«الحجر».

* * *

[110]

الآيات

وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبَاً قَالَ يَـقَوْم اعْبُدُوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـه غَيْرُهُ قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَتَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَلاَ تُفْسِدُوا فِى الاَْرْضِ بَعْدَ إِصْلَـحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنينَ(85) وَلاَ تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَط تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ مَنْ ءَامَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً واذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلا فَكَثَّرَكُمْ وانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَـقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ ءَامَنُوا بِالَّذِى أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَآئِفَةٌ لَّمْ يُؤمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحَـكِمِينَ (87)

التّفسير

رسالة شعيب في مدين:

في هذه الآيات يستعرض القرآن الكريم فصلا خامساً من قصص الأقوام الماضين، ومواجهة الأنبياء العظام معهم، وهذا الفصل يتناول قوم شعيب.

[111]

بعث شعيب(عليه السلام) الذي ينتهي نسبه ـ حسب كتب التاريخ ـ إلى إبراهيم عبر خمس طبقات، إلى أهل مدين. وهي مدينة من مدن الشام، كان أهلها أهل تجارة وترف قد سادت فيهم الوثنية، وكذا الحيلة، والتطفيف في المكيال والميزان، والبخس في المعاملة.

وقد جاء تفصيل هذه المواجهة بين هذا النّبي العظيم و بين أهل مدين، في سور متعددة من القرآن الكريم، وبخاصّة في سورة «هود» و«الشعراء»، ونحن تبعاً للقرآن الكريم سنبحث بتفصيل هذه القصّة في ذيل آيات سورة هود إن شاء الله. أمّا هنا فنذكر شيئاً عن هذه القصّة باختصار طبقاً للآيات المطروحة هنا.

في البداية يقول سبحانه: ولقد أرسلنا إلى أهل مدين أخاهم شعيباً (وإلى مدين أخاهم شعيباً).

روى جماعة من المفسّرين، مثل العلاّمة الطبرسي في مجمع البيان، والفخر الرازي في تفسيره المعروف، أن «مدين» في الأصل اسم لأحد أبناء إبراهيم الخليل، وحيث أنّ أبناءه وأحفاده سكنوا في أرض على طريق الشام سميت تلك الأرض «مدين».

هذا وقد أوضحنا السرّ في إستعمال لفظة «أخاهم» في الآية (65) من هذه السورة.

ثمّ إنّه تعالى أضاف: إنّ شعيباً مثل سائر الأنبياء بدأ دعوته بمسألة التوحيد و (قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره).

وقال: إنّ هذا الحكم مضافاً إلى كونه من وحي العقل، ثابت بواسطة الأدلة الواضحة التي جاءتهم من جانب الله أيضاً: (قد جاءتكم بيّنة من ربّكم).

أمّا أنّ هذه «البيّنة» ماهي؟ فإنّه لم يرد كلام حولها في الآيات الحاضرة، ولكن الظاهر أنّها إشارة إلى معجزات شعيب(عليه السلام).

[112]

ثمّ أنّه(عليه السلام) بعد الدعوة إلى التوحيد أخذ في محاربة المفاسد الإجتماعية والأخلاقية والإقتصادية السائدة فيهم، وفي البدء منعهم من ممارسة التطفيف، والغش في المعاملة، يقول: (فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم)(1).

وواضح أن تسرّب أيّ نوع من أنواع الخيانة والغش في المعاملات يزعزع بل ويهدم أسس الطمأنينة والثقة العامّة التي هي أهم دعامة لإقتصاد الشعوب وتلحق بالمجتمع خسائر غير قابلة للجبران. ولهذا السبب كان أحد الموضوعات الهامّة التي ركز عليها شعيب هو هذا الموضوع بالذات.

ثمّ يشير إلى عمل آخر من الأعمال الأثيمة، وهو الإفساد في الأرض بعد أن أُصلحت أوضاعها بجهود الأنبياء، وفي ضوء الإيمان فقال: (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها).

ومن المسلّم أنّه لا يستفيد أحد من إيجاد الفساد ومن الإفساد، سواء كان فساداً أخلاقياً، أو من قبيل فقدان الإيمان، أو عدم وجود الأمن، لهذا أضاف في آخر الآية قائلا: (ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين).

وكأنّ إضافة عبارة: «إن كنتم مؤمنين» إشارة إلى أنّ هذه التعاليم الإجتماعية والأخلاقية إنما تكون متجذرة ومثمرة إذا كانت نابعة من الإيمان ومستمدة من نوره. أمّا لو كانت قائمة على أساس سلسلة من ملاحظة المصالح المادية، لم يكن لها بقاء ودوام.

وفي الآية اللاحقة يشير إلى رابع نصيحة لشعيب، وهي منعهم عن الجلوس على الطرقات وتهديد الناس، وصدّهم عن سبيل الله، وتضليل الناس بإلقاء

_____________________________

1 ـ البخس يعني نقص حقوق الأشخاص، والنّزول عن الحد بصورة توجب الظلم والحيف.

[113]

الشبهات وتزييف طريق الحق المستقيم في نظرهم، فقال: (ولا تقعدوا بكل صراط توعدون، وتصدون عن سبيل الله من آمن به، وتبغونها عوجاً).

وأمّا أنّه كيف كانوا يهدّدون الراغبين في الإِيمان، فقد ذكر المفسّرون في هذا المجال إحتمالات متعددة، فالبعض إحتمل أنّه كان ذلك عن طريق التهديد بالقتل، وبعض آخر احتمل أنّه كان عن طريق قطع الطريق ونهب أموال المؤمنين، ولكن المناسب مع بقية العبارات الأُخرى في الآية هو المعنى الأوّل.

وفي ختام الآية جاءت النصيحة الخامسة لشعيب، التي ذكّر فيها قومه بالنعم الإلهية لتفعيل حسّ الشكر فيهم، فيقول: تذكّروا عندما كنتم أفراداً قلائل فزادكم الله في الأفراد وضاعف من قوتكم: (واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم).

ثمّ يلفت نظرهم إلى عاقبة المفسدين ونهاية أمرهم ومصيرهم المشؤوم حتى لا يتبعوهم في السلوك فيصابوا بما أصيبوا به، فيقول: (وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين).

ويستفاد من الجملة الأخيرة أنّه على العكس من الدعايات غير المدروسة لتحديد النسل في هذه الأيّام فإنّ كثرة أفراد المجتمع، يمكن أن تكون منشأ القوّة وعظمة وتقدم المجتمع في أكثر الموارد، طبعاً شريطة أن تضمن معيشتهم وفقاً لبرامج منظمة، من الناحية المادية والمعنوية.

إنّ آخر آية من الآيات المبحوثة هنا بمثابة إجابة على بعض استفهامات المؤمنين والكفار من قومه، لأنّ المؤمنين ـ على أثر الضغوط التي كانت تتوجه إليهم من جانب الكفار ـ كان من الطبيعي أن يطرحوا هذا السؤال على نبيّهم: إلى متى نبقى في العذاب ونتحمل الأذى؟

وكان معارضوهم ـ أيضاً ـ والذين تجرأوا لأنّهم لم تصبهم العقوبة الإلهية فوراً يقولون: إذا كنت من جانب الله حقّاً فلماذا لا يصيبنا شيء رغم كل ما نقوم به

[114]

من إيذاء ومعارضة؟ فيقول لهم شعيب: إن كانت طائفة منكم آمنت بما بُعِثت به، وأعرض أُخرى فلا ينبغي أن يكون ذلك سبباً لغرور الكفار، ويأس المؤمنين، اصبروا حتى يحكم الله بيننا وبينهم. فالمستقبل سوف يكشف عمن يكون على حق، ومن يكون على باطل (وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلتُ به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين).

* * *

[115]

الآيتان

قَالَ الْمَلاَُ الَّذِينَ اسْتَكبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَـشُعَيْبُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا قَالَ أَوَ لَوْ كُنَّا كَـرِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِى مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّْنا اللهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَىْء عِلْماً عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَـتِحِينَ (89)

التّفسير

هذه الآيات تستعرض ردّ فعل قوم شعيب مقابل كلمات هذا النّبي العظيم المنطقية، وحيث أنّ الملا والأثرياء المتكبرين في عصره كانوا أقوياء في الظاهر، كان رد فعلهم أقوى من رد فعل الآخرين.

إنّهم كانوا ـ مثل كل المتكبرين المغرورين يهددون شعيباً معتمدين على قوتهم وقدرتهم، كما يقول القرآن الكريم: (قال الملا الذين استكبروا من قومه لنخرجنّك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودنّ في ملتنا).

قد يتصور البعض من ظاهر هذا التعبير «لتعودن إلى ملتنا» أنّ شعيباً كان قبل

[116]

ذلك في صفوف الوثنيين، والحال ليس كذلك، بل حيث إنّ شعيباً لم يكن مكلّفاً بالتبليغ، لذلك كان يسكت على أعمالهم، وكانوا يظنون أنّه كان على دين الوثنية، في حين أنّ أحداً من النّبيين لم يكن وثنياً حتى قبل زمان النّبوة، وإنّ عقول الأنبياء ودرايتهم كانت أسمى من أن يرتكبوا مثل هذا العمل غير المعقول والسخيف، هذا مضافاً إلى أنّ هذا الخطاب لم يكن موجهاً إلى شعيب وحده، بل يشمل المؤمنين من أتباعه ـ أيضاً ـ ويمكن أن يكون هذا الخطاب لهم.

على أن تهديد المعارضين لم يقتصر على هذا، بل كانت هناك تهديدات أُخرى سنبحثها في سائر الآيات المرتبطة بشعيب.

وقد أجابهم شعيب في مقابل كل تهديداتهم وخشونتهم تلك بكلمات في غاية البساطة والرفق والموضوعية، إذ قال لهم: وهل في إمكانكم أن تعيدوننا إلى دينكم إذا لم نكن راغبين في ذلك: (قال أو لو كنّا كارهين)(1)؟

وفي الحقيقة يريد شعيب أن يقول لهم: هل من العدل أن تفرضوا عقيدتكم علينا، وتكرهوننا على أن نعتنق ديناً ظهر لنا بطلانه وفساده؟ هذا مضافاً إلى أنّه ما جدوى عقيدة مفروضة، ودين جبريّ؟!

وفي الآية اللاحقة يواصل شعيب قوله: (قد افترينا على الله كذباً إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها).

إن هذه الجملة في الحقيقة توضيح للجملة السابقة المجملة، ومفهوم هذه الجملة هو: نحن لم نترك الوثنية بدافع الهوى والهوس، بل أدركنا بطلان هذه العقيدة بجلاء، وسمعنا الأمر الإِلهي في التوحيد بأُذن القلب، فإذا عدنا من عقيدة التوحيد إلى الشرك ـ والحال هذه ـ نكون حينئذ قد إفترينا على الله عن وعي وشعور، ومن المسلم أنّ الله سيعاقبنا على ذلك بشدة.

_____________________________

1 ـ إنّ في هذه الجملة حذفاً وتقديراً، فالكلام في الأصل على هذه الصورة: «أتردوننا في ملتكم ولو كنّا كارهين».

[117]

ثمّ يضيف شعيب قائلا: (وما يكون لنا أن نعود فيها إلاّ أن يشاء الله).

ومراد شعيب من هذا الكلام هو أنّنا تابعون لأمر الله، ولا نعصيه قيد شعرة، فعودتنا غير ممكنة إلاّ إذا أمر الله بذلك.

ثمّ من دون إبطاء يضيف: إنّ الله يأمر بمثل هذا، لأنّ الله يعلم بكل شيء ويحط علماً بجميع الأُمور (وسع ربّنا كل شيء علماً) وعلى هذا الأساس ليس من الممكن أن يعود عن أمر أعطاه، لأنّه لا يعود ولا يرجع عن أمر أعطاه إلاّ من كان علمه محدوداً، واشتبه ثمّ ندم على أمره، أمّا الذي يعلم بكل شيء ويحيط بجميع الأُمور علماً فيستحيل أن يعيد النظر.

ثمّ لأجل أن يفهمهم بأنّه لا يخاف تهديداتهم، وأنّه ثابت في موقفه، قال: (على الله توكلنا).

وأخيراً لأجل أن يثبت حسن نيّته، ويظهر رغبته في طلب الحقيقة والسلام، حتى لا يتهمه أعداؤه بالشغب والفوضوية والإخلال بالأمن يقول: (ربّنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين).

أي: يا ربّ أنت أحكم بيننا وبين هؤلاء بالحق، وارفع المشاكل التي بيننا وبين هؤلاء، وافتح علينا أبواب رحمتك، فأنت خير الفاتحين.

وقد روي عن ابن عباس أنّه قال: ما كنت أعرف ماذا يعني الفتح في الآية حتى سمعت امرأة تقول لزوجها: أفاتحك عند القاضي، يعني أطلبك عند القاضي للفصل بيننا، فعرفت معنى الفتح في مثل هذه الموارد، وأنّه بمعنى القضاء والحكم (لأن القاضي يفتح العقدة في مشكلة الطرفين)(1).

* * *

_____________________________

1 ـ تفسير منهج الصادقين.

[118]

الآيات

وَقَالَ الْمَلاَُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَومِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيباً إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَـسرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فأَصْبَحُوا فِى دَارِهِمْ جَـثِمِينَ(91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبَاً كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِين كَذَّبُوا شُعَيْباً كَانُوا هُمُ الْخَـسِرينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَـقَومِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَـلَـتِ رَبِّى وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ ءَاسَى عَلى قَوْم كَـفِرِينَ (93)

التّفسير

تتحدث الآية الأُولى عند الدعايات التي كان يبثّها معارضو شعيب ضدّ من يحتمل فيهم الميل إلى الإيمان به فتقول: (وقال الملأ الذين كفروا من قومه لئن اتّبعتم شعيباً إنّكم إذاً لخاسرون).

والمقصود من الخسارة ـ هنا ـ الخسارات المادية التي تصيب المؤمنين بدعوة شعيب، إذ من المسلّم عدم عودتهم إلى عقيدة الوثنية، وعلى هذا الأساس كان يجب يخرجوا من بلدهم وديارهم بالقهر، ويتركوا بيوتهم وأملاكهم.

وهناك إحتمال آخر في تفسير الآية، وهو أنّ مرادهم هو الأضرار المعنوية

[119]

بالإضافة إلى الأضرار المادية، لأنّهم كانوا يتصورون أنّ طريق النجاة يتمثل في الوثنية لا في دين شعيب.

وعندما وَصَل أمرهُم إلى الإصرار على ضلاتهم، وَعلى إضلال غيرهم أيضاً، ولم يبق أي أمل في إيمانهم وهدايتهم، حلّت بهم العقوبة إلالهية بحكم قانون حسم مادة الفساد، فأصابهم زلزالٌ رهيبٌ شديدٌ بحيث تهاوى الجميع أجساداً ميّتة، في داخل بيوتهم ومنازلهم (فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين).

وقد مرّ في ذيل الآية (78) من هذه السورة ـ تفسير لفظة «جاثمين» وقلنا هناك أنّه قد استعملت عبارات وألفاظ مختلفة للتعبير عن عامل هلاك هذه الجماعة لا منافاة بينها.

فمثلا: جاء في شأن قوم شعيب ـ في الآية الحاضرة ـ أنّ عامل هلاكهم كان هو: «الزلزال» وفي الآية (94) من سورة هود أنّه «صيحة سماوية» وفي الآية (189) من سورة الشعراء: أنّه «ظلة من السحاب القاتل» وتعود كلها إلى موضوع واحد، وهو أنّ العذاب المهلك كان صاعقة سماوية مخيفة، اندلعت من قلب السحب الكثيفة المظلمة، واستهدفت مدينتهم، وعلى أثرها حدث زلزال شديد (هو خاصية الصواعق العظيمة) ودمّر كل شيء.

في الآية اللاحقة شرح القرآن الكريم أبعاد هذا الزلزال العجيب المخيف الرهيب بالعبارة التالية: (الذين كذبوا شعيباً كأن لم يغنوا فيها)(1). أي أنّ الذين كذبوا شعيباً أُبيدوا إبادة عجيبة، وكأنّهم لم يكونوا يسكنون تلك الديار.

وفي ختام الآية يقول: (الذين كذبوا شعيباً كانوا هم الخاسرون).

وكأنّ هاتين الجملتين جواباً لأقوال معارضي شعيب، لأنّهم كانوا قد هدّدوا بأن يخرجوه هو وأتباعه في حالة عدم انصرافهم من دين التوحيد إلى الدين

_____________________________

1 ـ «يغنوا» مشقة من مادة «غنيَ» بمعنى «الإقامة في المكان» يقول الطبرسي في مجمع البيان: لا يبعد أن يكون المفهوم الأصلي للغنى هو عدم الحاجة، لأنّ من كان عنده منزل حاضر، فهو مستغن عن منزل آخر.

[120]

السابق، فقال القرآن: إنّهم أُبيدوا كاملة، وكأنّهم لم يسكنوا في تلك المنازل، فضلا عن أن يستطيعوا إخراج غيرهم من البلد.

وفي مقابل قولهم: إنّ أتباع شعيب يستلزم الخسران، قال القرآن الكريم: إنّ نتيجة الأمر أثبتت أنّ مخالفة شعيب هي العامل الأصلي في الخسران.

وفي آخر آية ـ من الآيات المبحوثة ـ نقرأ آخر كلام لشعيب مع قومه بعد اعراضه عنهم حيث قال: لقد بلّغت رسالات ربّي، ونصحتكم بالمقدار الكافي، ولم آلُ جهداً في إرشادكم: (فتولى عنهم وقال ياقوم لقد أبلغتكم رسالات ربّي ونصحت لكم).

ثمّ قال (فكيف آسي على قوم كافرين) أي لست متأسّفاً على مصير الكافرين، لأنني قد بذلت كل ما في وسعي لهدايتهم وإرشادهم، ولكنّهم لم يخضعوا للحق ولم يسلّموا، فكان يجب أن ينتظروا هذا المصير المشؤوم.

أمّا أنّه هل قال شعيب هذا الكلام بعد هلاكهم، أم قبل ذلك؟ هناك احتمالان، فيمكن أن يكون قبل هلاكهم، ولكن عند شرح القصة جاء ذكره بعد ذلك.

ولكن مع الإلتفات إلى آخر عبارة، والتي يقول فيها: إنّ مصير هؤلاء الكافرين المؤلم لا يدعو إلى الأسف أبداً، يترجح للنظر أنّ هذه الجملة قيلت بعد نزول العذاب، وأنّ هذه التعابير ـ كما أشرنا في ذيل الآية (79) من هذه السورة قيلت وتقال للأموات كثيراً (وقدأشرنا إلى شواهد ذلك).

* * *

[121]

الآيتان

وَمَآ أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَة مِّن نَّبِيٍّ إِلاّ أَخَذَنَآ أَهْلَهَا بِالْبَأسَآءِ وَالضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثمّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوا وَّقَالَوا قَدْ مَسَّ ءَابَآءَنَا الضَّرِّآءُ وَالسَّرَّآءُ فَأَخَذْنـَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ (95)

التّفسير

إذ لم تنفع المواعظ:

إنّ هذه الآيات ـ التي ذكرت بعد استعراض قصص مجموعة من الأنبياء العظام، مثل نوح وهود وصالح ولوط وشعيب، وقبل أن يعمد القرآن الكريم إلى استعراض قصّة موسى بن عمران ـ إشارة إلى عدّة أصول وقواعد عامّة تحكم في جميع القصص والحوادث، وهي قواعد وأُصول إذا فكَّرنا فيها كشفت القناع عن حقائق قيمة ترتبط بحياتنا ـ جميعاً ـ ارتباطاً وثيقاً.

في البداية يقول: (وما أرسلنا في قرية من نبي إلاّ أخذنا أهلها بالبأساء والضرّاء لعلّهم يضرعون) فالصِعاب والمشاق والبلايا التي تصيب الأفراد إنّما يفعلها الله بهم عسى أن ينتبهوا، ويتركوا طغيانهم، ويرجعوا إلى الله ويتوبوا إليه.

[122]

وذلك لأنّ الناس ما داموا في الرخاء والرفاه فهم في غفلة وقلما يكون لديهم استعداد وقابلية لقبول الحق. أمّا عندما يتورّطون في المحنة والبلاء، يشرق نور فطرتهم وتوحيدهم ويتذكرون الله قهراً بلا اختيار، وتستعد قلوبهم لقبول الحق.

ولكن هذه اليقظة والنهضة ليست عند الجميع على حدّ سواء، فهي في كثير من الناس سريعة وعابرة وغير ثابتة، وبمجرّد أن تزول المشكلات يعودون إلى غفلتهم وغفوتهم، ولكن هذه المشكلات تعتبر بالنسبة إلى جماعة آخرين نقطة تحول في الحياة، ويعودون إلى الحق إلى الأبد.

والأقوام الذين جرى الحديث ـ في الآيات السابقة ـ حولهم كانوا من النمط الأوّل.

ولهذا قال تعالى في الآية اللاحقة: عندما لم تغيّر تلك الجماعات سلوكها ومسيرها تحت ضعظ المشكلات والحوادث، بل بقوا في الضلال، رفعنا عنهم المشكلات وجعلنا مكانها النعم والرخاء فازدهرت حياتهم وكثر عددهم وزادت أموالهم (ثمّ بدّلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا) .

و«عفوا» من مادة «عفو» التي تكون أحياناً بمعنى الكثرة، وأحياناً بمعنى الترك والإعراض، وتارة تكون بمعنى محو آثار الشيء. ولكن لا يبعد أن يكون أصل جميع تلك الأُمور هو الترك، غاية ما هنالك قد يترك شيء لحاله حتى يتجذر، ويتوالد ويتناسل ويزداد، وربّما يترك حتى يهلك وينهدم تدريجاً وشيئاً فشيئاً. ولهذا جاء بمعنى الزيادة والهلاك معاً.

وقد احتمل المفسّرون في الآية المبحوثة ثلاثة احتمالات أيضاً:

الأوّل: أنّنا أعطيناهم إمكانيات حتى يزدادوا فيستعيدوا كل ما فقدوه ـ في فترة الشدّة والضراء ـ من الأفراد والاموال.

الآخر: أنّنا أعطيناهم نعماً كثيرة جداً بحيث غرتهم، فنسوا الله، وتركوا شكره.

الثّالث: أنّنا أعطيناهم نعماً كي يستطيعوا بها أن يزيلوا أثار فترة النكبة

[123]

ويمحوها.

إنّ هذه التفاسير وإن كانت متفاوتة من حيث المفهوم، ولكنّها من حيث النتيجة متقاربة فيما بينها.

ثمّ أضاف: أنّهم عند زوال المشكلات بدل أن يلتفتوا إلى هذه الحقيقة وهي«النعمة» و«النقمة» بيدالله، وأنّهم راجعون إلى الله، يتذرعون ـ لخداع أنفسهم ـ بهذا المنطق، وهو إذا تعرضنا للمصائب والبلايا، فإنّ ذلك ليس بجديد، فقد مس آباءنا الضراء والسراء، وكانت لهم حالات رخاء وحالات بلاء، فالحياة لها صعود ونزول، والصعاب أمواج غير ثابتة وسريعة الزوال (وقالوا قد مسّ آباءَنا الضّراء والسّراء). فهي إذن قضية طبيعية، ومسألة إعتيادية.

فيقول القرآن الكريم في الختام: إنّ الأمر عندما بلغ إلى هذا الحد، ولم يستفيدوا من عوامل التربية ـ أبداً ـ بل ازدادوا غروراً وعنجهيّة وتكبراً أهلكناهم فجأة ومن غير سابق انذار، لأنّ ذلك أشد إيلاماً ونكالا لهم، وعبرة لغيرهم: (فأخذناهم بغتة وهم لايشعرون).

* * *

[124]

الآيات

وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءَامَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَـت مِّن السَّمَآءِ وَالاَْرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَـهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَـتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ (97) أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98)أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَـسِرُونَ (99)أَوَ لَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الاَْرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَآ أَن لَّوْ نَشَآءُ أَصَبْنَـهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ (100)

التّفسير

التّقدم والعمران في ظل الإيمان والتقوى:

في الآيات الماضية وقع البحث فيما جرى لأقوام مثل قوم هود وصالح وشعيب ونوح ولوط على نحو الإجمال، وإن كانت تلك الآيات كافية لبيان

[125]

النتائج المشحونة بالعبر في هذه القصص، ولكن الآيات الحاضرة تبيّن النتائج بصورة أكثر وضوحاً فتقول: (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض)، أي لو أنّهم سلكوا سبيل الإيمان والتقوى، بدل الطغيان والتمرد وتكذيب آيات الله والظلم والفساد، لم يتخلصوا من غضب الله وعقوبته فسحب، بل لفتحت عليهم أبواب السماء والأرض.

ولكن للأسف ـ تركوا الصراط المستقيم الذي هو طريق السعادة والرفاه والأمن، وكذبوا الأنبياء، وتجاهلوا برامجهم الإصلاحية، فعاقبناهم بسبب أعمالهم (ولكن كذّبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون).

* * *

بحوث

وهنا مواضيع ينبغي الوقوف عندها:

1 ـ بركات الأرض والسماء

لقد وقع حديث بين المفسّرين في ما هو المراد من «بركات» الأرض والسماء؟ فقال البعض: إنّها المطر، والنباتات التي تنبت من الأرض.

وفسّرها البعض بإجابة الدعاء، وحل مشاكل الحياة.

ولكن هناك احتمال آخر ـ أيضاً ـ هو أنّ المراد من البركات السماوية هي البركات المعنوية، والمراد من البركات الأرضية هي البركات المادية.

ولكن مع ملاحظة الآيات السابقة يكون التّفسير الأوّل أنسب من الجميع، لأنّه في الآيات السابقة التي شرحت العقوبات الشديدة التي حلّت بالمجرمين والطغاة، فأشارت تارة إلى نزول السيول من السماء وطغيان الينابيع والعيون من الأرض (مثل طوفان نوح) وأُخرى إلى الصواعق والصيحات السماوية، وثالثة إلى الزلازل الأرضية الرهيبة.

[126]

وفي الآية المطروحة هنا طرحت هذه الحقيقة على بساط البحث، وهي: أنّ العقوبات ما هي إلاّ لأفعالهم هم، وإلاّ فلو كان الإنسان طاهراً مؤمناً، فإنّه بدل أن يحل العذاب السماوي أو الأرضي بساحته، تتواتر عليه البركات الإلهية من السماء والأرض.... أجل، إنّ الإنسان هو الذي يبدل البركات بالبلايا.

2 ـ معنى «البركات»

«البركات» جمع «بركة» وهذه الكلمة ـ كما أسلفنا ـ تعني في الأصل «الثبات» والإستقرار، ويطلق على كل نعمة وموهبة تبقى ولا تزول، في مقابل الموجودات العارية عن البركة، والسريعة الفناء والزوال، والخالية عن الأثر.

والملفت للنظر أنّ فائدة التقوى والإيمان لا تقتصر على نزول البركات الإِلهية، بل هما سبب في أن يَصرف الإنسان مالديه في المصارف اللازمة الصَحيحة.

ففي المثل نلاحظ اليوم أنّ قسماً كبيراً من الطاقات الإنسانية، والمصادر الإقتصادية تصرف في سبيل سباق التسلح وصنع الأسلحة المدمّرة. وبذلك تنعدم البركة فيها، ولا تثمر سوى الدمار والخراب، ولكن المجتمعات البشرية اذا تحلّت بالتقوى والإيمان، فإنّ هذه المواهب الإِلهية سيكون لها وضع آخر، ومن الطبيعي أن تبقى آثارها وتخلد، وتكون مصداقاً لكلمة البركات.

3 ـ ماذا يعني «الأخذ»؟

في الآية أعلاه استعملت كلمة «أخذ» في مفهوم المجازاة والعقوبة، وهذا في الحقيقة لأجل أنّ الشخص الذي يراد عقوبته يؤخذ أوّلا في العادة، ثمّ يُوَثق بوسائل خاصّة حتى لا تبقى له قدرة على الفرار، ثمّ يعاقب.

[127]

4 ـ المفهوم الواسع للآية

إنّ الآية الحاضرة وإن كانت ناظرة إلى وضع الأقوام الغابرة، ولكنّه من المسلّم أن مفهومها مفهوم واسع وعام ودائم، ولا تنحصر في شعب معين أو قوم خاص، فإنّها سنة إلهية أن يبتلى غير المؤمنين، والمتورطين في المعاصي والذنوب بأنواع مختلفة ومتنوعة من البلايا في هذه الدنيا، فربّما ينزل عليهم البلاء السماوي والأرضي، وربّما تشتعل نيران الحروب العالمية أو المحلية فتبتلغ أموالهم وتبيدها وربّما يفارقهم الأمن والإستقرار، فتسحق المخاوف والهواجس بأظلافها أبدانهم ونفوسهم، وحسب تعبير القرآن يكون كل ذلك بما كسبت أيديهم ورد فعل لأعمالهم.

إن فيض الله ليس محدوداً ولا ممنوعاً، كما أنّ عقوباته لا تختص بقوم أو شعب.

لماذا تعيش الأُمم الكافرة في الرخاء؟

من كل ما قلناه يتّضح الجواب على سؤال يدور كثيراً بين جماعة من الناس، وهو: إذا كان الإيمان والتقوى يبعثان على نزول أنواع البركات الإِلهية، ويكون العكس موجباً لسلب البركات، فلماذا نشاهد الشعوب غيرالمؤمنة ترفل في الرخاء والرفاه، في حين يعيش جماعة من أهل الإيمان بعسر ومشقّة؟

إنّ الإجابة على هذا السؤال تتّضح بملاحظة نقطتين:

1 ـ إنّ تصوّر أنّ الشعوب غيرالمؤمنة الفاقدة للتقوى ترفل في النعمة والرخاء وتغرق في السعادة هو تصور خاطيء ينبع من اشتباه أكبر، وهو إعتبار الثروة دليلا على السعادة.

إنّ الناس يتصورون ـ عادة ـ أنّ كل شعب امتلك صناعة أكثر تقدماً، وثروة أكبر، كان أسعد من غيره، في حين لو تسنى لنا أن ننفذ إلى أعماق هذه المجتمعات

[128]

ونلاحظ الآلام الممضة التي تحطم روح هذه الشعوب وجسمها عن كثب، فسوف نُسلّم أن أكثر تلك الشعوب هي من أشقى سكان الأرض.

هذا بغض النظر عن أنّ هذا التقدم النسبيّ إنّما هو نتيجة استخدامهم لأُصول ومباديء مثل السعي والإجتهاد، والنظم والشعور بالمسؤولية التي هي جزء من تعاليم الأنبياء، ومن صلب توجيهاتهم.

في هذه الأيّام ـ التي نكتب فيها هذا القسم من التّفسير ـ نشرت الجرائد والصحف أنّه حدث في نيويورك ـ التي هي واحدة من أكبر نقاط العالم المادي ثروة وأكثرها تقدماً ـ حادث جدّ عجيب على أثر انقطاع فجائي للتيار الكهربائي، وذلك الحادث هو أنّ كثيراً من الناس هاجموا المحلات والمخازن وسرقوا كل ما فيها بحيث أن ثلاثة آلاف من المغيرين على المحلات اعتقلوا بواسطة البوليس.

إنّ من المسلّم أن عدد المغيرين ـ في الواقع ـ أكثر بأضعاف من هذا العدد، وهذا العدد هم الذين لم يمكنهم الفرار والهرب والنجاة من قبضة البوليس، كما أنّه من المسلّم أن المغيرين لم يكونوا سراقاً محترفين هيّأوا أنفسهم من قبل لمثل هذه الإغارة العمومية، لأنّ الحادثة المذكورة كانت حادثة فجائية.

من هذا نستنتج أنّه مع حالة إنقطاع عابر للتيار الكهربائي يتحول عشرات الالآف من سكان مدينة ثرية ومتقدمة ـ كما يشاؤون تسميتها ـ إلى لصوص وسراق، إن هذا لا يدل على الإنحطاط الخلقي لدى شعب من الشعوب فحسب، بل يدل على فقدان الأمن الإجتماعي الشديد أيضاً.

والخبر الآخر الذي نقلته الصحف، ويكمل ـ في الحقيقة ـ هذا الخبر، وهو أن أحد الشخصيات المعروفة كان يقيم في تلك الأيّام في نيويورك، في أحد الفنادق الشهيرة ذات العشرات من الطوابق، قال: إنّ انقطاع التيار الكهربائي تسبب في أن يمسي التجول في معابر وصالات ذلك الفندق عملا بالغ الخطورة، بحيث أنّ مسؤولي الفندق ما كانوا يسمحون لأحد بأن يغادر مكانه إلى غرفته منعاً من أن

[129]

يتعرض للمغيرين داخل صالات الفندق، ولهذا نظموا المسافرين والنزلاء في جماعات مكونة من عشرة أو أكثر، وتولى موظفون مسلحون إيصالهم إلى غرفهم تحت حراسة مشددة.

ثمّ يضيف ذلك الشخص المذكور: أنّه ما لم يعانِ من الجوع الشديد لم يجرؤ على الخروج من غرفته.

ولكن انقطاع التيار الكهربائى هذا يقع في البلاد المتأخرة الشرقية كثيراً، ولكن لا تحدث مثل هذه المشاكل، وهذا يفيد أن سكان البلدان المتقدمة رغم كونهم يمتلكون ثروة عظيمة، وصنائع عظيمة، لا يملكون أدنى قدر من الأمن في بيئتهم.

هذا مضافاً إلى أنّ شهود عيان يقولون: إنّ القتل والإغتيال في تلك البيئات كشرب الماء من حيث السهولة واليسر.

ونحن نعلم أنّنا أعطينا الدنيا كلها لأحد وكان يعيش في مثل هذه الظروف، كان من أشقى أهل الأرض... على أنّ مشكلة الأمن هي واحدة من مشكلاتهم، وإلاّ فهناك مفاسد إجتماعية أُخرى كل واحد منها بدوره حالة مؤلمةً جداً ... ومع الإلتفات إلى هذه الحقائق فلا معنى لتوهّم أنّ الثروة سعادة.

2 ـ أمّا ما يقال عن سبب تخلّف المجتمعات المتحلية بالإيمان والتقوى، فإذا كان المقصود من الإيمان والتقوى هو مجرّد ادعاء الإسلام وإدعاء أتباع مبادىء الأنبياء وتعاليمهم، فالاعتراض وجيه. ولكننا لا نعتبر حقيقة الإيمان والتقوى إلاّ نفوذهما في جميع أعمال الإنسان، وجميع شؤون الحياة، وهذا أمر لا يتحقق بمجرّد الإدعاء والزعم.

إنّ من المؤسف جدّاً أن نجد التعاليم الإسلامية ومبادىء الأنبياء متروكة أو شبه متروكة في كثير من المجتمعات الإسلامية، فملامح هذه المجتمعات ليست ملامح مجتمعات المسلمين الصادقين الحقيقيين.

[130]

لقد دعا الإسلام إلى الطهارة والإستقامة والأمانة والإجتهاد والجد، فأين تلك الأمانة والإجتهاد؟

إنّ الإسلام يدعو إلى العلم والمعرفة واليقظة والوعي، فأين ذلك العلم والوعي واليقظة؟!

وإن الإسلام يدعو إلى الإتحاد والتضامن ووحدة الصفوف والتفاني، فهل سادت هذه الأصول والمبادىء في المجتمعات الإسلامية الحاضرة بصورة كاملة، ومع ذلك بقيت متخلّفة؟!

لهذا يجب أن نعترف بأنّ الإسلام شيء، والمسلمون اليوم شيء آخر.

في الآيات اللاحقة ولمزيد من التأكيد على عمومية هذا الحكم، وأن القانون أعلاه ليس خاصاً بالأقوام الغابرة بل يشمل الحاضر والمستقبل أيضاً ـ يقول: هل أنّ المجرمين الذين يعيشون في نقاط مختلفة من الأرض يرون أنفسهم في أمن من أن تحل بهم العقوبات الإلهية، فتنزل بهم صاعقة أو يصبهم زلزال في الليل وهم نائمون (أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً وهم نائمون).

وهل هم في أمان من ذلك العذاب في النهار وهم غارقون في أنواع اللهو واللعب (أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون).

يعني أنّهم في قبضة القدرة الإِلهية في جميع الأحوال والأوقات، ليلا ونهاراً، في اليقظة والنوم، في ساعات الفرح والترح، وبإشارة واحدة وأمر واحد يقضى عليهم جميعاً، ويطوي صفحة حياتهم نهائياً، دون الحاجة الى مقدمات وأسباب قبلية، أو لمرور الزمان لهذا العمل.

أجل في لحظة واحدة، ومن دون أية مقدمات يمكن أن تحل أنواع المصائب والنوائب بهذا الإنسان الغافل.

والعجيب أنّ البشرية الحاضرة، رغم كل ما أحرزته من تقدم ورقي في الصنائع وفي التكنولوجيا، ومع أنّها سخرت طاقات الكون والطبيعة المختلفة

[131]

لخدمة نفسها، فإنّها ضعيفة وعاجزة تجاه هذه الحوادث، بنفس المقدار من العجز والضعف الذي كان عليه إنسان العصور السابقة. يعني أن الإنسان لم يتغير حاله تجاه الزلازل والصواعق وما شابهها، حتى بالنسبة إلى إنسان ما قبل التاريخ. وهذه علامة قوية على نهاية عجز الإنسان وشدة ضعفه رغم قدرته وقوته... وهذه حقيقة يجب أن يجعلها الإنسان نصب عينيه دائماً وأبداً.

وفي الآية اللاحقة يعود القرآن الكريم إلى ذكر وتأكيد هذه الحقيقة بشكل آخر فيقول: أفأمن المجرمون من المكر الإِلهي في حين لا يأمن مكره إلاّ الخاسرون (أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلاّ القوم الخاسرون).

و«المكر» ـ كما قلنا في ذيل الآية 94 من سورة آل عمران ـ يعني في اللغة العربية كل حيلة ووسيلة لصرف الشخص عن الهدف الذي يمضي إليه، سواء كان حقاً أو باطلا، وقد أخذ في مفهوم هذه اللغة نوع من التدرج والنفوذ التدريجي.

وعلى هذا فالمراد من المكر الإِلهي، هو أنّ الله تعالى يصرفهم بخططه القوية التي لا تقهر عن حياة الرفاه واللذة دون اختيارهم ويقطعها عليهم. وهذه إشارة إلى العقوبات الإِلهية الفجائية والمهلكة.

جواب على سؤال:

إنّ الجملة التي وردت في ختام الآية الحاضرة تقول: لا يأمن أحد ـ إلاّ الخاسرون ـ من المكر الإلهي والعقوبة الإلهية، وهنا يطرح هذا السؤال، وهو: هل تشمل هذه العبارة الأنبياء والأئمّة العظام والصالحين؟

لقد تصوّر البعض أنّهم خارجون من هذا الحكم، وأنّ الآية تختص بالمجرمين. ولكن الظاهر أن هذا الحكم عام يشمل الجميع، لأنّه حتى الأنبياء والأئمّة كانوا مراقبين لأعمالهم دائماً كي لا تصدر منهم أدنى زلة أو عثرة، لأنّنا نعلم أن مقام العصمة ليس مفهومه أن المعصية مستحيلة عليهم، بل يعني أنّهم

[132]

مصونون عن الإثمّ والمعصية بفعل إرادتهم وإيمانهم وحسن إختيارهم، إلى جانب العنايات الربانية.

إنّهم كانوا يخافون من ترك الأولى ويتجنبونه، ويخشون أن لا يتمكنوا من القيام بمسؤولياتهم الثقيلة. ولهذا نقرأ في الآية (15) من سورة الأنعام حول الرّسول الأعظم (قل إنّي أخاف إن عصيتُ ربي عذاب يوم عظيم).

ولقد رويت في تفسير الآية الحاضرة ـ أيضاً ـ أحاديث تؤيد ما قلناه: «صليت خلف أبي عبدالله (الصادق)(عليه السلام)، فسمعته يقول: «اللّهم لا تؤمني مكرك. ثمّ جهر فقال: (فلا يأمن مكر الله إلاّ القوم الخاسرون)».

ونقرأ في نهج البلاغة أيضاً: «لا تأمنن على خير هذه الأُمّة عذاب الله، لقول الله سبحانه: (فلا يأمن مكر الله إلاّ القوم الخاسرون)»(1).

إنّ عدم الأمن من المكر الإِلهي ـ في الحقيقة ـ يعني الخوف من المسؤوليات والخوف من التقصير فيها، ومن المعلوم أن الخوف يجب أن يكون في قلوب المؤمنين دائماً إلى جانب الأمل بالرحمة الإلهية بشكل متساو، وأن التوازن بين هذين هو منشأ كلّ حركة ونشاط، وهو الذي يعبّر عنه في الرّوايات بالخوف والرجاء.

وقد جاء التصريح في هذه الرّوايات بوجوب أن يكون المؤمنون دائماً بين الخوف والرجاء، ولكن المجرمين الخاسرين نسوا العقوبات الإِلهية بحيث صاروا يرون أنفسهم في منتهى الأمن المكر الإِلهي.

وفي الآية اللاحقة يقول القرآن الكريم ـ بهدف إيقاظ عقول الشعوب الغافية وإلفات نظرهم إلى العبر التي كانت في حياة الماضيين: ألا يتنبه الذين ورثوا السيادة على الأرض ـ من الأقوام الماضية ـ إلى ما في حياة الماضيين وقصصهم

_____________________________

1 ـ نهج البلاغة، الكلمات القصار، الجملة 377.

[133]

من عبر، فلو أنّنا أردنا أن نهلكهم بذنوبهم لفعلنا (أو لم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم).

ويمكننا أيضاً أن نتركهم أحياء ونسلب منهم الشعور وحس التشخيص والتمييز بالمرّة بسبب توغّلهم في الذنوب، بحيث لا يسمعون معها حقيقة، ولا يقبلون نصيحة، ويعيشون بقية حياتهم حيرى (ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون).

أمّا كيف يسلب الله تعالى من هذا الفريق من المجرمين حس التمييز والتشخيص، فيمكنك الوقوف على مزيد التوضيح في هذا المجال في تفسير الآية (7) من سورة البقرة.

* * *

[134]

الآيتان

تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَآئِهَا وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالبَيِّنَـتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِن قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَـفِرِينَ (101) وَمَا وَجَدْنَا لاَِكْثَرِهِم مِّنْ عَهْد وَإِن وَجَدْنَآ أَكْثَرَهُمْ لَفَـسِقِينَ(102)

التّفسير

في هاتين الآيتين ركّز القرآن الكريم على العبر المستفادة من بيان قصص الماضين، والخطاب متوجه هنا إلى الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) إلاّ أن الهدف هو الجميع، يقول القرآن الكريم أوّلا: هذه هي القرى والأقوام التي نقص عليك قصصهم: (تلك القرى نقص عليك من أنبائها)(1).

ثمّ يقول: لم يكن إهلاكهم قبل إتمام الحجة عليهم، بل لقد جاءهم الأنبياء أوّلا بالبراهين الجلية وبذلوا قصارى جهدهم في إيقاظهم وإرشادهم (ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات).

ولكنّهم قاوموا الأنبياء وخالفوا دعوتهم، وأصروا ولجّوا في عنادهم، ولم

_____________________________

1 ـ «نُقُصُّ» من مادة «قص» وقد مر شرحها في ذيل الآية 7.

[135]

يكونوا على استعداد لأن يؤمنوا بما كذبوا به من قبل، بل استمروا على تكذيبهم حتى مع مشاهدتهم البينات: (فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل).

من هذه الجملة يستفاد أنّ الأنبياء الإِلهيين قاموا بدعوتهم وإرشادهم مراراً وتكراراً، ولكن المشركين لجوا في عنادهم، وبقوا متصلبين في مواقفهم المتعنتة الرافضة، وأعرضوا عن قبول دعوة الأنبياء حتى بعد وضوح الكثير من الحقائق.

وفي العبارة اللاحقة يبيّن تعالى علّة هذا التعنت واللجاج: (كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين).

يعني أنّ الذين يسيرون في درب خاطيء، ويستمرون في السير في ذلك الطريق، ينتقش الإِنحراف والكفر على قلوبهم نتيجة تكرار العمل السيء. ويتجذر الفساد في نفوسهم، كما يثبت النقش على السكة (والطبع في اللغة نقش صورة على شيء كالسكة) وهذا في الحقيقة هو أثر العمل وخاصيته.

وقد نسب إلى الله هو تعالى مسبب الأسباب، وهو منشأ تأثير كل مؤثر، فهو يهب الفعل هذه الخاصية عند تكراره، حيث يجعله «مَلَكة» في نفس الشخص.

ولكن من الواضح والبيّن أن مثل الضلال ليس له أي صفة جبرية وقهرية، بل إنّ موجد الأسباب هو الإنسان وإن كان التأثير بأمر الله تعالى (فتأمل).

وفي الآية اللاحقة يبيّن تعالى قسمين آخرين من نقاط الضعف الأخلاقي لدى هذه الجماعات، والتي تسببت في ضلالها وهلاكها.

في البداية يقول: إنّهم كانوا لا يحترمون العهود والمواثيق بل ينقضونها (وما وجدنا لأكثرهم من عهد).

وهذا العهد يمكن أن يكون إشارة إلى «العهد الفطري» الذي أخذه الله على جميع عباده بحكم الجبلة والفطرة، لأنّه عندما أعطاهم العقل والذكاء والقابلية، كان مفهوم ذلك هو أخذ العهد الميثاق منهم بأن يفتحوا عيونهم وآذانهم، ويروا الحقائق ويسمعوها، وهذا هو ما أشارت إليه الآيات الأخيرة من هذه السورة (أي

[136]

الآية 173) وهو المعروف بـ «عالم الذّر» الذي سنشرحه بإذن الله في ذيل تلك الآيات.

كما أنّه يمكن أن يكون إشارة إلى العهد الذي كان الأنبياء الإلهيون يأخذونه من الناس، وكان أكثر الناس يقبلونه، ولكنّهم ينقضونه.

أو يكون إشارة إلى جميع المواثيق «الفطرية» و«التشريعية».

وعلى كل حال فإنّ روح نقض الميثاق كان من أسباب معارضة الأنبياء والإصرار على سلوك طريق الكفر والنفاق، والإبتلاء بعواقبها المشؤومة.

ثمّ يشير القرآن الكريم إلى عامل آخر إذ يقول: (وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين).

يعني أن روح التمرد والتجاوز على القانون، والخروج عن نظام الخلقة والقوانين الإلهية، كان عاملا آخر من عوامل استمرارهم على الكفر، وإصرارهم على مخالفة الدعوة الإِلهية.

ويجب الإِنتباه إلى أن الضمير في «أكثرهم» يرجع إلى جميع الأقوام والجماعات السالفة.

وما ورد في الآية من أن أكثرهم ينقضون العهد إنّما هو من باب رعاية حال الأقليات التي آمنت بالأنبياء السابقين، وبقيت وفيّة لهم، وهذه الجماعات المؤمنة وإن كانت قليلة وضئيلة العدد جدّاً بحيث أنّها ما كانت تتجاوز أحياناً أُسرة واحدة. ولكن روح الواقعية وتحري الحق المتجلّية في كل آيات القرآن أوجبت أن لا يتجاهل القرآن الكريم حق هذه الجماعات القليلة أو الأفراد المعدودين، بل يراعيها فلا يصف جميع الأفراد في المجتمعات السالفة بالإِنحراف والضلال ونقض العهد والفسق.

وهذا موضوع جميل جدّاً، وجدير بالإِهتمام، وهو ما نشاهده ونلحظه في آيات القرآن كثيراً.

* * *

[137]

الآيات

ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِم مُّوسَى بِأيَـتِنَآ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقَالَ مُوسَى يَـفِرْعَوْنُ إِنِّى رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَـلَمِينَ(104) حَقِيقٌ عَلى أَن لاَّ أَقُولَ عَلى اللهِ إِلاّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيَّنَة مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِىَ بَنِى إِسْرَئيلَ (105) قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِأَيَة فَأْتِ بِهَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّـدِقِينَ (106) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِىَ بَيْضَآءُ لِلنَّـظِرِينَ (108)

التّفسير

المواجهة بين موسى وفرعون:

بعد ذكر قصص ثلة من الأنبياء العظام باختصار في الآيات السابقة بيّن تعالى في هذه الآيات والآيات الكثيرة اللاحقة قصّة موسى بن عمران، وما جرى بينه وبين فرعون وملئه وعاقبة أمره.

وعلّة بيان هذه القصّة بصورة أكثر تفصيلا من قصص الأنبياء الآخرين في هذه السورة قد تكون لأجل أنّ اليهود أتباع موسى بن عمران كانوا أكثر من

[138]

غيرهم في بيئة نزول القرآن، وكان إرشادهم إلى الإسلام أوجب.(1)

وثانياً: لأنّ قيام النّبي الأكرم كان أشبه بقيام موسى بن عمران من غيره من الأنبياء.

وعلى كل حال فإنّ هذه القصة الزاخرة بالعبر قد أشير إلى فصول أُخرى منها أيضاً في سور أُخرى، مثل: سورة البقرة، طه، الشعراء، النمل، القصص، وسور أُخرى، ولو أنّنا درسنا آيات كل سورة على حدة، ثمّ وضعناها جنباً إلى جنب لم نلحظ فيها جانب التكرار على خلاف ما يتصوره البعض، بل ذكر من هذه الملحمة التاريخية في كل سورة ما يناسبها من البحث للاستشهاد به. وحيث أنّ مصر كانت أوسع، وكان لشعبها حضارة أكثر تقدماً من قوم نوح وهود وشعيب وما شابههم، وكانت مقاومة الجهاز الفرعوني ـ بنفس النسبة ـ أكثر وأكبر، ولهذا تمتع قيام موسى بن عمران بأهمية أكبر، وحوى عبراً ونكات أكثر، وقد ركّز القرآن الكريم على النقاط البارزة المختلفة من حياة موسى وبني إسرائيل بمناسبات مختلفة.

وعلى العموم يمكن حصر وتلخيص حياة هذا النّبي الإِلهي العظيم في خمس دورات ومراحل:

ا ـ مرحلة الولادة، وما جرى عليه من الحوادث حتى ترعرعه في البلاط الفرعون.

2 ـ مرحلة فراره من مصر، وحياته في أرض «مدين» في كنف النّبي شعيب(عليه السلام).

3 ـ مرحلة بعثته، ثمّ المواجهات الكثيرة بينه وبين فرعون وجهازه.

4 ـ مرحلة نجاته ونجاة بني إسرائيل من مخالب فرعون، والحوادث التي جرت عليه في الطريق، وعند وروده إلى بيت المقدس.

_____________________________

1 ـ صحيح أنّ هذه السورة نزلت في مكّة، ولم تكن مكّة مركز تجمع اليهود، ولكن من دون شك كان لحضور في المدينة وسائر نقاط الحجاز أثر واسع في المجتمع المكّي.

[139]

5 ـ مرحلة مشاكله مع بني إسرائيل.

ويجب الإنتباه إلى أن القرآن الكريم تناول في كل سورة من سور قسماً ـ أو عدّة أقسام ـ من هذه المراحل الخمس.

ومن تلك الآيات التي تناولت جوانب من قصّة موسى(عليه السلام) هذه الآيات، وعشرات الآيات الأخر من هذه السورة، وهي تشير إلى مراحل مابعد بعثة موسى بن عمران بالنبوة. ولهذا فإنّنا نوكل الأبحاث المتعلقة بالمراحل السابقة على هذه المرحلة إلى حين تفسير الآيات المرتبطة بتلك الأقسام في السور الأُخرى، وبخاصّة سورة القصص.

في الآية الأُولى من الآيات الحاضرة يقول تعالى: (ثمّ بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملائه) أي من بعد قوم نوح وهود وصالح.

ويجب الإلتفات إلى أنّ «فرعون» اسم عام، وهو يطلق على كل ملوك مصر، كما يطلق على ملوك الروم «قيصر» وملوك فارس «كسرى» .

ولفظة «الملأ» ـ كما أشرنا إلى ذلك فيما سبق ـ تعني الأعيان والأشراف الذين يملأون ببريقهم وظواهرهم الباذخة العيون، ولهم حضور ملفت للنظر في جميع ميادين المجتمع.

والسر في إرسال موسى في بداية الدعوة إلى فرعون وملأه هو أنّه علاوة على أنّ إحدى برامج موسى كان هو نجاة بني اسرائيل من براثن استعمار الفراعنة وتخليصهم من أرض مصر ـ وهذا لا يمكن أن يتم من دون الحوار مع فرعون ـ إنّما هو لأجل أن المفاسد الإجتماعية وانحراف البيئة لا تعالج بمجرّد الإِصلاحات الفردية والموضعية فقط، بل يجب أن يُبدأ بإصلاح رؤوس المجتمع وقادته الذين يمسكون بأزمة السياسة والإقتصاد والثقافة، حتى تتهيأ الأرضية لإِصلاح البقية، كما يقال عرفاً: إنّ تصفية الماء يجب أن تكون من المنبع.

وهذا هو الدرس الذي يعطيه القرآن الكريم لجميع المسلمين، لإِصلاح

[140]

المجتمعات الإسلامية.

ثمّ يقول تعالى: (فظلموا بها).

ونحن نعلم أنّ لفظ الظلم بالمعنى الواسع للكلمة هو: وضع الشيء في غير محلّة، ولا شك في أن الآيات الإِلهية توجب أن يسلّم الجميع لها، وبقبولها يصلح الإِنسان نفسه ومجتمعه، ولكن فرعون وملأه بإنكارهم لهذه الآيات ظلموا هذه الآيات.

ثمّ يقول تعالى في ختام الآية: (فانظر كيف كان عاقبة المفسدين).

وهذه العبارة إشارة إجمالية إلى هلاك فرعون وقومه الطغاة المتمردين، الذي سيأتي شرحه فيما بعد.

وهذه الآية تشير إشارة مقتضبة إلى مجموع برنامج رسالة موسى، وما وقع بينه وبين فرعون من المواجهة وعاقبة أمرهم.

أمّا الآيات اللاحقه فتسلّط الاضواء بصورة أكثر على هذا الموضوع.

فيقول أوّلا: (وقال موسى يا فرعون إنّي رسول من ربّ العالمين).

وهذه هي أوّل مواجهة بين موسى وبين فرعون، وهي صورة حية وعملية من الصراع بين «الحق» و«الباطل».

والطريف أنّ فرعون كأنّه كان ينادى لأوّل مرّة بـ «يا فرعون» وهو خطاب رغم كونه مقروناً برعاية الأدب، خال عن أي نوع من أنواع التملق والتزلف وإظهار العبودية والخضوع، لأنّ الآخرين كانوا يخاطبونه عادة بألفاظ فيها الكثير من التعظم مثل: يا مالكنا، يا سيدنا، يا ربنا، وما شابه ذلك.

وتعبير موسى هذا، كان يمثل بالنسبة إلى فرعون جرس إنذار وناقوس خطر. هذا مضافاً إلى أن عبارة موسى (إنّي رسول من ربّ العالمين) كانت ـ في  الحقيقة ـ نوعاً من إعلان الحرب على جميع تشكيلات فرعون، لأنّ هذا التعبير يثبت أن فرعون و نظراءه من أدعياء الرّبوبية يكذبون جميعاً في ادعائهم، وأن

[141]

ربّ العالمين هو الله فقط، لا فرعون ولا غيره من البشر.

وفي الآية اللاحقة نقرأ أنّ موسى عقيب دعوى الرسالة من جانب الله قال: فالآن إذ أنا رسول ربّ العالمين ينبغي ألا أقول عن الله إلاّ الحق، لأنّ المرسل من قبل الله المنزّه عن جميع العيوب لا يمكن أن يكون كاذباً (حقيق عليّ أن لا أقول على الله إلاّ الحق).

ثمّ لأجل توثيق دعواه للنّبوة، أضاف: أنا لا أدعي ما أدّعيه من دون دليل، بل إنّ معي أدلة واضحة من جانب الله (قد جئتكم ببينة من ربّكم).

فإذا كان الأمر هكذا (فأرسل معي بني إسرائيل).

وكان هذا في الحقيقة قسماً من رسالة موسى بن عمران الذي حرّر بني إسرائيل من قبضة الإستعمار الفرعوني، ووضع عنهم إصرهم وأغلال العبودية التي كانت تكبّل أيديهم وأرجلهم، لأنّ بني إسرائيل كانوا في ذلك الزمان عبيداً أذلاّء بأيدي القبطيين (أهالي مصر) فكانوا يستفيدون منهم في القيام بالأعمال السافلة والصعبة والثقلية.

ويستفاد من الآيات القادمة ـ وكذا الآيات القرآنية الأُخرى بوضوح وجلاء أنّ موسى كان مكلفاً بدعوة فرعون وغيره من سكان أرض مصر إلى دينه، يعني أن رسالته لم تكن منحصرة في بني إسرائيل.

فقال فرعون بمجرّد سماع هذه العبارة ـ (أي قوله: قد جئتكم ببيّنة) ـ هات الآية التي معك من جانب الله إن كنت صادقاً (قال إن كنتَ جئتَ بآية فأت بها إن كنت من الصادقين).

وبهذه العبارة اتّخذ فرعون ـ ضمن إظهار التشكيك في صدق موسى ـ هيئة الطالب للحق المتحري للحقيقة ظاهراً، كما يفعل أي متحر للحقيقة باحث عن الحق.

ومن دون تأخير أخرج موسى معجزتيه العظميتين التي كانت إحداهما مظهر

[142]

«الخوف» والأُخرى مظهر «الأمل» وكانتا تكملان مقام إنذاره ومقام تبشيره، وألقى في البداية عصاه: (فالقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين)(1).

والتعبير بـ «المبين» إشارة إلى أنّ تلك العصا التي تبدلت إلى ثعبان حقّاً، ولم يكن سحراً وشعبذة وما شاكل ذلك، على العكس من فعل السحرة لأنّه يقول في شأنهم: إنّهم مارسوا الشعبذة والسحر، وعملوا ما تصوره الناس حيات تتحرك، وما هي بحيات حقيقة وواقعاً.

إنّ ذكر هذه النقطة أمرٌ ضروري، وهي أنّنا نقرأ في الآية (10) من سورة النمل، والآية (31) من سورة القصص، أن العصا تحركت كالجانّ، و «الجانّ» هي الحيات الصغيرة السريعة السير، وإنّ هذا التعبير لا ينسجم مع عبارة «ثعبان» التي تعني الحية العظيمة ظاهراً.

ولكن مع الإلتفات إلى أنّ تينك الآيتين ترتبطان ببداية بعثة موسى، والآية المبحوثة هنا ترتبط بحين مواجهته لفرعون، تنحل المشكلة، وكأن الله أراد أن يوقف موسى على هذه المعجزة العظيمة تدريجاً فهي تظهر في البداية أصغر، وفي الموقف اللاحق تظهر أعظم.

هل يمكن قلب العصا إلى حية عظيمة؟!

على كل حال لا شك في أنّ تبديل «العصا» إلى حية عظيمة معجزة، ولا يمكن تفسيرها بالتحليلات المادية المتعارفة، بل هي من وجهة نظر الإلهي الموحد ـ الذي يعتبر جميع قوانين المادة محكومة للمشيئة الربانية ـ ليس فيها ما يدعو للعجب فلا عجب أن تتبدل قطعة من الخشب إلى حيوان بقوة ما فوق الطبيعة.

_____________________________

1 ـ إحتمل «الراغب» في «المفردات» أن تكون كلمة ثعبان متخذة من مادة «ثعب» بمعنى جريان الماء، لأنّ حركة هذا الحيوان تشبه الأنهر التي تجري بصورة ملتوية.

[143]

ويجب أن لا ننسى أن جميع الحيوانات في عالم الطبيعة توجد من التراب، والأخشاب والنباتات هي الأُخرى من التراب، غاية ما هنالك أن تبديل التراب إلى حية عظيمة يحتاج عادة إلى ملايين السنين، ولكن في ضوء الإِعجاز تقصر هذه المدّة إلى درجة تتحقق كل تلك التحولات والتكاملات في لحظة واحدة وبسرعة، فتتخذ القطعة من الخشب ـ التي تستطيع وفق الموازين الطبيعية أن تغير بهذه الصورة بعد مضي ملايين السنين ـ تتخذ مثل هذه الصورة في عدّة لحظات.

والذين يحاولون أن يجدوا لمعاجز الأنبياء تفسيرات طبيعية ومادية ـ وينفوا طابعها الإعجازي، ويظهروها في صورة سلسلة من المسائل العادية مهما كانت هذه التفاسير مخالفة لصريح الكتب السماوية. إنّ هؤلاء يجب أن يوضحوا موقفهم: هل يؤمنون بالله وقدرته ويعتبرونه حاكماً على قوانين الطبيعة، أم لا؟ فإذا كانوا لا يؤمنون به وبقدرته، لم يكن كلام الأنبياء ومعجزاتهم إلاّ لغواً لديهم. وإذا كانوا مؤمنين بذلك، فما الداعي لنحت، مثل هذه التّفسيرات والتبريرات المقرونة بالتكلف والمخالفة لصريح الآيات القرآنية. (وإن لم نر أحداً من المفسّرين ـ على ما بينهم من اختلاف السليقة ـ عمد إلى هذا التّفسير المادي ، ولكن ما قلناه قاعدة كلية).

ثمّ إنّ الآية اللاحقة تشير إلى المعجزة الثّانية للنّبي موسى(عليه السلام) التي لها طابع الرجاء والبشارة، يقول تعالى: (ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين).

«نزع» تعني في الأصل أخذ شيء من مكان، مثلا أخذ العباءة من الكتف واللباس عن البدن يعبر عنه في اللغة العربية بالنزع فيقال: نزع ثوبه ونزع عباءته، وهكذا أخذ الروح من البدن يطلق عليه النزع. وبهذه المناسبة قد يستعمل في الإستخراج، وقد جاءت هذه اللفظة في الآية الحاضرة بهذا المعنى.

ومع أنّ هذه الآية لم يرد فيها أي حديث عن محل إخراج اليد، ولكن من الآية (32) من سورة القصص (اُسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء) يستفاد أنّ

[144]

موسى كان يدخل يده في جيبه ثمّ يخرجها ولها بياض خاص، ثمّ تعود إلى سيرتها وحالتها الأُولى.

ونقرأ في بعض الأحاديث والرّوايات والتفاسير أنّ يد موسى كانت مضافاً إلى بياضها تشعّ بشدّة، ولكن الآيات القرآنية ساكتة عن هذا الموضوع، مع عدم تناف بينهما.

إنّ هذه المعجزة والمعجزة السابقة حول العصا ـ كما قلنا سابقاً ـ ليس لها جانب طبيعي وعادي، بل هي من صنف خوارق العادة التي كان يقوم بها الأنبياء، وهي غير ممكنة من دون تدخل قوة فوق طبيعية في الأمر.

وهكذا أراد موسى بإظهار هذه المعجزة أن يوضح هذه الحقيقة، وهي أن برامجه ليس لها جانب الترهيب والتهديد، بل الترهيب والتهديد للمخالفين والمعارضين، والتشويق والإصلاح والبناء والنورانية للمؤمنين.

* * *

[145]

الآيات

قَالَ الْمَلاَُ مِن قَومِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَـذَا لَسَـحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيُد أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِى الْمَدَآئِنِ حَـشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سـحِر عَلِيم(112)

التّفسير

بدء المواجهة:

في هذه الآيات جاء الحديث عن أوّل ردّ فعل لفرعون وجهازه في مقابل دعوة موسى(عليه السلام) ومعجزاته.

الآية الأُولى تَذكر عن ملأ فرعون أنّهم بمجرّد مشاهدتهم لأعمال موسى الخارقة للعادة اتهموه بالسحر، وقالوا: هذا ساحر عليم ماهر في سحره: (قال الملأ من قوم فرعون إنّ هذا لساحر عليم).

ولكن يستفاد من آيات سورة الشعراء الآية (34) أن هذا الكلام قاله فرعون حول موسى: (قال للملأ حوله إن هذا لساحر عليم).

ولكن لا منافاة بين هاتين الآيتين، لأنّه لا يبعد أن يكون فرعون قال هذا

[146]

الكلام في البداية، وحيث أن عيون الملأ كانت متوجهة إليه، ولم يكن لهذا الملأ المتملق المتزلف هدف إلاّ رضى رئيسه وسيده، وما ينعكس على محياه، وما توحي به إشارته، كرّر هو أيضاً ما قاله الرّئيس، فقالوا: أجل، إن هذا لساحر عليم.

وهذا السلوك لا يختص بفرعون وحواشيه، بل هو دأب جميع الجبارين في العالم وحواشيهم.

ثمّ أضافوا: إنّ هدف هذا الرجل أن يخرجكم من وطنكم (يريد أن يخرجكم من أرضكم).

يعني أنّه لا يهدف إلاّ إستعماركم واستثماركم، وإنّ الحكومة على الناس، وغصب أراضي الآخرين، وهذه الأعمال الخارقة للعادة وادعاء النّبوة كلّها لأجل الوصول إلى هذا الهدف.

ثمّ قالوا بعد ذلك: مع ملاحظة هذه الأوضاع فما هو رأيكم: (فماذا تأمرون)؟

يعني أنّهم جلسوا يتشاورون في أمر موسى، ويتبادلون الرأي فيما يجب عليهم اتّخاذه تجاهه، لأنّ مادة «أمر» لا تعني دائماً الإِيجاب والفرض، بل  تأتي ـ أيضاً ـ بمعنى التشاور.

وهنا لابدّ من الإِلتفات إلى أنّ هذه الجملة وردت في سورة الشعراء الآية (35) أيضاً، وذلك عن لسان فرعون، حيث قال لملائه: فماذا تأمرون. وقد قلنا: إنّه لا منافاة بين هذين.

وقد احتمل بعض المفسّرين ـ أيضاً ـ أن تكون جملة «فماذا تأمرون» في الآية الحاضرة خطاباً وجهه ملأ فرعون وحاشيته إلى فرعون، وصيغة الجمع إنما هي لرعاية التعظيم، ولكن الإحتمال الأوّل ـ وهو كون هذا الخطاب موجهاً من ملأ فرعون إلى الناس ـ أقرب إلى النظر.

وعلى كل حال فقد قال الجميع لفرعون: لا تعجل في أمر موسى وهارون، وأجلّ قرارك بشأنهما إلى ما بعد، ولكن ابعث من يجمع لك السحرة من جميع

[147]

أنحاء البلاد (قالوا أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين).

نعم ابعث من يجمع لك كل ساحر ماهر في حرفته عليم في سحره (يأتوك بكل ساحر عليم).

فهل هذا الإقتراح من جانب حاشية فرعون كان لأجل أنّهم كانوا يحتملون صدق ادعاء موسى للنّبوة، وكانوا يريدون اختباره؟

أو أنّهم على العكس كانوا يعتبرونه كاذباً في دعواه، ويريدون افتعال ذريعة سياسية لأي موقف سيتخذونه ضد موسى كما كانوا يفعلون ذلك في بقية مواقفهم ونشاطاتهم الشخصية؟ ولهذا اقترحوا ارجاء أمر قتل موسى وأخيه نظراً لمعجزتيه اللتين أورثتا رغبة في مجموعة كبيرة من الناس في دعوته وانحيازهم إليه، ومزجت صورة «نبوته» بصورة «المظلومية والشهادة» وأضفت بضم الثّانية إلى الأُولى ـ مسحة من القداسة والجاذبية عليه وعلى دعوته.

ولهذا فكروا في بداية الأمر في إجهاض عمله بأعمال خارقة للعادة مماثلة، ويسقطوا اعتباره بهذه الطريقة، ثمّ يأمرون بقتله لتنسى قصة موسى وهارون وتمحى عن الأذهان إلى الأبد.

يبدو أن الإحتمال الثّاني بالنظر إلى القرائن الموجودة في الآيات ـ أقرب إلى النظر.

* * *

[148]

الآيات

وَجَآءَ السَّحَرَةُ فِرْعَونَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لاََجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَـلِبِينَ(113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قَالُوا يَـمُوسى إِمَّآ أَن تُلْقِىَ وَإِمَّآ أن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّآ أَلْقُوا سَحَرُوا أعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَآءُو بِسِحْر عَظِيم(116) وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِىَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ(117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(118)فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وانْقَلَبُوا صَـغِرِينَ(119)وَأُلْقِىَ السَّحَرَةُ سَـجِدِينَ(120) قَالُوا ءَامَنَّا بِرَبِّ الْعَـلَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَـرُونَ (122)

التّفسير

كيف انتصر الحقّ في النهاية؟

في هذه الآيات جرى الحديث حول المواجهة بين النّبي موسى(عليه السلام)، وبين السحرة، وما آل إليه أمرهم في هذه المواجهة، وفي البداية تقول الآية: إنّ السحرة

[149]

بادروا إلى فرعون بدعوته، وكان أوّل ما دار بينهم وبين فرعون هو: هل لنا من أجر إذا غلبنا العدوّ (وجاء السحرة فرعون قالوا إنّ لنا لأجراً إن كنّا نحن الغالبين)؟!

وكلمة «الأجر» وإن كانت تعني أي نوع من أنواع الثواب، ولكن نظراً إلى ورودها هنا في صورة «النكرة»، و«النكرة» في هذه الموارد إنّما تكون لتعظيم الموضوع وإبراز أهميته بسبب إخفاء ماهيته ونوعيته، لهذا يكون الأجر هنا بمعنى الأجر المهم والعظيم وبخاصّة أنّه لم يكن ثمّة نزاع في أصل استحقاقهم للأجر والمثوبة، فالمطلوب من فرعون هو الوعد بإعطائهم أجراً عظيماً وعوضاً مهمّاً.

فوعدهم فرعون ـ فوراً ـ وعداً جيداً وقال: إنّكم لن تحصلوا على الأجر السخي فقط، بل ستكونون من المقرّبين عندي (قال نعم وإنّكم من المقرّبين).

وبهذه الطريقة أعطاهم وعداً بالمال ووعداً بمنصب كبير لديه، ويستفاد من هذه الآية أنّ التقرب إلى فرعون في ذلك المحيط، وتلك البيئة كان أعلى وأسمى وأهم من المال والثروة، لأنّه كان يعني منزلة معنوية كان من الممكن أن تصبح منشأ لأموال كثيرة وثروات كبيرة.

وفي المآل حُدِّدَ موعدٌ معين لمواجهة السحرة لموسى، وكما جاء في سورة «طه» و«الشعراء» دُعي جميع الناس لمشاهدة هذا النزال، وهذا يدل على أنّ فرعون كان مؤمناً بانتصاره على موسى(عليه السلام).

وحلّ اليوم الموعود، وهيّأ السحرة كل مقدمات العمل ... حفنة من العصىّ والحبال التي يبدو أنّها كانت معبئة بمواد كيمياوية خاصّة، تبعث على حركتها إذا سطعت عليها الشمس، لأنّها تتحول إلى غازات خفيفة تحرّك تلك العصي والحبال المجوفة.

وكانت واقعة عجيبة، فموسى وحده (ليس معه إلاّ أخوه) يواجه تلك المجموعة الهائلة من السحرة، وذلك الحشد الهائل من الناس المتفرجين الذين

[150]

كانوا على الأغلب من أنصار السحرة ومؤيديهم.

فالتفت السحرة في غرور خاص وكبير إلى موسى(عليه السلام) وقالوا: إمّا أن تشرع فتلقي عصاك، وإمّا أن نشرع نحن فنلقي عصيّنا؟ (قالوا ياموسى إمّا أن تلقى وإمّا أن نكون نحن المُلقين).

فقال موسى(عليه السلام) بمنتهى الثقة والإِطمئنان: بل اشرعوا أنتم (قال ألقوا).

وعندما ألقى السحرة بحبالهم وعصيّهم في وسط الميدان سحروا أعين الناس، وأوجدوا بأعمالهم وأقاويلهم المهرجة ومبالغاتهم وهرطقاتهم خوفاً في قلوب المتفرجين، وأظهروا سحراً كبيراً رهيباً: (فلمّا ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاؤوا بسحر عظيم).

وكلمة «السحر» ـ كما مرّ في المجلد الأوّل من هذه الموسوعة التفسيرية، عند تفسير الآية (102) من سورة البقرة ـ تعني في الأساس الخداع والشعبذية، وقد يطلق أيضاً على كل عامل غامض، ودافع غير مرئي.

وعلى هذا الأساس، فإن هذه الجماعة كانت توجد أفعالا عجيبة بالإعتماد على سرعة حركة الأيدي، والمهارة الفائقة في تحريك الأشياء لتبدو وكأنّها أمورٌ خارقة للعادة وكذلك الأشخاص الذين يستفيدون من الخواص الكيمياوية والفيزياوية الغامضة الموجودة في الأشياء والمواد، فيظهرون أعمالا مختلفة خارقة للعادة. كل هؤلاء يدخلون تحت عنوان «الساحر».

هذا علاوة على أن السحرة يستفيدون ـ عادة ـ من سلسلة من الإيحاءات المؤثرة في مستميعهم، ومن العبارات والجمل المبالغة، وربّما الرهيبة المخوفة لتكميل عملهم، والتي تترك آثاراً جدّ عجيبة في مستمعيهم ومتفرجيهم وجمهورهم.

ويستفاد من آيات مختلفة في هذه السورة ومن سور قرآنية أُخرى حول قصة سحرة فرعون، أنّهم استخدموا كل هذه العوامل والأدوات، وعبارة «سحروا

[151]

أعين الناس» وجملة «استرهبوهم» أو تعبيرات أُخرى في سور «طه» و«الشعراء» جميعها شواهد على هذه الحقيقة.

* * *

بحوث

وهنا لابدّ من الإشارة إلى نقطتين:

1 ـ المشهد العجيب لسحر السّاحرين

لقد أشار القرآن الكريم إشارة إجمالية من خلال عبارة(وجاؤوا بسحر عظيم) إلى الحقيقة التالية وهي: أنّ المشهد الذي أوجده السحرة كان عظيماً ومهماً، ومدروساً ومهيباً، وإلاّ لما استعمل القرآن الكريم لفظة «عظيم» هنا.

ويستفاد من كتب التاريخ ومن روايات وأحاديث المفسّرين في ذيل هذه الآية، وكذا من آيات مشابهة ـ بوضوح ـ سعة أبعاد ذلك المشهد.

فبناء على ما قاله بعض المفسّرين كان عدد السحرة يبلغ عشرات الألوف، وكانت الأجهزة والوسائل المستعملة كذلك تبلغ عشرات الآلاف، ونظراً إلى أن السحرة المهرة والمحترفين لهذا الفن في مصر كانوا في ذلك العصر كثيرين جدّاً، لهذا لا يكون هذا الكلام موضع استغراب وتعجب. خاصّة أنّ القرآن الكريم في سورة «طه» الآية (67) يقول: (فأوجس في نفسه خيفةً موسى) أي أنّ المشهد كان عظيماً جدّاً ورهيباً إلى درجة أن موسى شعر بالخوف قليلا، وإن كان ذلك  الخوف ـ حسب تصريح نهج البلاغة ـ (1) لأجل أنّه خشي أن من الممكن أن يتأثر الناس بذلك المشهد العظيم، فيكون إرجاعهم إلى الحق صعباً، وعلى أي حال فإنّ

_____________________________

1 ـ الخطبة، 4.

[152]

ذلك يكشف عن عظمة ذلك المشهد ورهبته.

2 ـ الإستفادة من السلاح المشابه

من هذا البحث يستفاد ـ بجلاء ووضوح ـ أنّ فرعون بالنظر إلى حكومته العريضة في أرض مصر، كانت له سياسات شيطانية مدروسة، فهو لم يستخدم لمواجهة موسى وأخيه هارون من سلاح التهديد والإِرعاب، بل سعى للاستفادة من أسلحة مشابهة ـ كما يظن ـ في مواجهة موسى، ومن المسلّم أنّه لو نجح في خطّته لما بقي من موسى ودينه أي أثر أو خبر، ولكان قتل موسى(عليه السلام) في تلك الصورة أمراً سهلا جداً، بل وموافقاً للرأي العام، جهلا منه بأنّ موسى لا يعتمد على قوة إنسانية يمكن معارضتها ومقاومتها، بل يعتمد على قوّة أزلية إلهية مطلقة، تحطّم كلّ مقاومة، وتقضي على كل معارضة.

وعلى أية حال، فإنّ الإستفادة من السلاح المشابه أفضل طريق للإنتصار على العدو المتصلّب، وتحطيم القوى المادية.

في هذه اللحظة التي اعترت الناس فيها حالة من النشاط والفرح، وتعالت صيحات الإِبتهاج من كل صوب، وعلت وجوه فرعون وملائه ابتسامة الرضى، ولمع في عيونهم بريق الفرح، أدرك الوحي الإلهي موسى(عليه السلام) وأمره بإلقاء العصى، وفجأة انقلب المشهد وتغير، وبدت الدهشة على الوجوه، وتزعزت مفاصل فرعون وأصحابه كما يقول القرآن الكريم: (وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف مايأفكون).

و«تلقف» مشتقة من مادة «لَقْف» (على وزن سَقف) بمعنى أخذ شىء بقوة وسرعة، سواء بواسطة الفم، والأسنان، أو بواسطة الأيدي، ولكن تأتي في بعض الموارد بمعنى البلع والإبتلاع أيضاً، والظاهر أنّها جاءت في الآية الحاضرة بهذا المعنى.

[153]

و «يأفكون» مشتقّة من مادة «إفك» على وزن «مسك» وهي تعني في الأصل الإنصراف: عن الشيء، وحيث أن الكذب يصرف الإنسان من الحق أطلق على الكذب لفظ «الإفك».

وهناك احتمال آخر في معنى الآية ذهب إليه بعض المفسّرين، وهو أن عصا موسى بعد أن تحولت إلى حيّة عظيمة لم تبتلع أدوات سحر السحرة، بل عطّلها عن العمل والحركة وأعادها إلى حالتها الأُولى. وبذلك أوصد هذا العمل طريق الخطأ على الناس، في حين أن الإبتلاع لا يمكنه أن يقنع الناس بأنّ موسى لم يكن ساحراً أقوى منهم.

ولكن هذا الإحتمال لا يناسب جملة «تلقف» كما لا يناسب مطالب الآية، لأنّ «تلقف» ـ كما أسلفنا ـ تعني أخذ شيء بدقة وسرعة لا قلب الشيء وتغييره.

هذا مضافاً إلى أنّه لو كان المقرر أن يظهر إعجاز موسى(عليه السلام) عن طريق إبطال سحر السحرة، لم تكن حاجة إلى أن تتحول العصى إلى حيّة عظيمة، كما قال القرآن الكريم في بداية هذه القصّة.

وبغض النظر عن كل هذا، لو كان المطلوب هو إيجاد الشك والوسوسة في نفوس المتفرجين، لكانت عودة وسائل السحرة وأدواتهم إلى هيئتها  الأُولى ـ أيضاً ـ قابلة للشك والترديد، لأنّه من الممكن أن يحتمل أن موسى بارع في السحر براعة كبرى بحيث أنّه استطاع إبطال سحر الآخرين وإعادتها إلى هيئتها الأُولى.

بل إن الذي تسبب في أن يعلم الناس بأن عمل موسى أمر خارق للعاده، وأنّه عمل إلهي تحقق بالإعتماد على القدرة والإِلهية المطلقة، هو أنّه كان في مصر آنذاك مجموعة كبيرة من السحرة الماهرين جدّاً، وكان أساتذه هذا الفن وجوهاً معروفة في تلك البيئة، في حين أن موسى الذي لم يكن متصفاً بأي واحدة من هذه الصفات، وكان ـ في الظاهر ـ رجلا مغموراً، نهض من بين بني إسرائيل، وأقدم

[154]

على مثل ذلك العمل الذي عجز أمامه الجميع. ومن هنا عُلِمَ أن هناك قوة غيّبة تدخلت في عمل موسى، وأن موسى ليس رجلا عادياً.

وفي هذا الوقت ظهر الحق، وبطلت أعمالهم المزّيفة (فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون). لأنّ عمل موسى كان عملا واقعياً، وكانت أعمالهم حفنة من الحيل ومن أعمال الشعبذة، ولا شك أنّه لا يستطيع أي باطل أن يقاوم الحق دائماً.

وهذه هي أوّل ضربة توجهت إلى أساس السلطان الفرعوني الجبّار.

ثمّ يقول تعالى في الآية اللاحقة: وبهذه الطريقة ظهرت آثار الهزيمة فيهم، وصاروا جميعاً أذلاء: (فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين).

وبالرغم من أنّ المؤرخين ذكروا في كتب التاريخ قضايا كثيرة حول هذه الواقعة، ولكن حتّى من دون نقل ما جاء في التواريخ يمكن الحدس أيضاً بما حدث في هذه الساعة من اضطراب في الجماهير المتفرجة ... فجماعة خافوا بشدّة بحيث أنّهم فرّوا وهربوا، وأخذ آخرون يصيحون من شدّة الفزع، وبعض أُغمي عليه.

وأخذ فرعون وملأه ينظرون إلى ذلك المشهد مبهوتين مستوحشين، وقد تحدّرت على وجوههم قطرات العرق من الخجل والفشل، فأجموا يفكرون في مستقبلهم الغامض المبهم، ولم يدر في خلدهم أنّهم سيواجهون مثل هذا المشهد الرهيب الذي لا يجدون له حلاًّ.

والضربة الأقوى كانت عندما تغير مشهد مواجهة السحرة لموسى(عليه السلام) تغييراً كلّياً، وذلك عندما وقع السحرة فجأة على الأرض ساجدين لعظمة الله (وألقي السحرة ساجدين).

ثمّ نادوا بأعلى صوتهم و (قالوا آمنا بربّ العالمين ربّ موسى وهارون).

وبذكر هذه الجملة بينوا ـ بصراحة ـ الحقيقة التالية وهي: أنّنا آمنا بربّ هو غير الربّ المختلق، المصطنع، إنّه الربّ الحقيقي.

[155]

بل لم يكتفوا بلفظة «ربّ العالمين» أيضاً، لأنّ فرعون كان يدعي أنّه ربّ العالمين، لهذا أضافوا: «ربّ موسى وهارون» حتى يقطعوا الطريق على كل استغلال.

ولم يكن فرعون والملأ يتوقعون هذا الامر مطلقاً، يعني أنّ الجماعة التي كان يعلّق الجميع آمالهم عليها للقضاء على موسى و دعوته، أصبحت في الطليعة من المؤمنين بموسى ودعوته، ووقعوا ساجدين لله أمام أعين الناس عامّة، وأعلنوا عن تسليمهم المطلق وغير المشروط لدعوة موسى(عليه السلام).

على أنّ هذا الموضوع الذي غيّر أناساً بمثل هذه الصورة، يجب أن لا يكون موضوع استغراب وتعجب، لأنّ نور الإيمان والتوحيد موجود في جميع القلوب، ويمكن أن تخفيه بعض الموانع والحجب الإِجتماعية مدّة طويلة أو قصيرة، ولكن عندما تهب بعض العواصف بين حين وآخر تنزاح تلك الحجب، ويتجلّى ذلك النور ويأخذ بالابصار.

وبخاصّة أن السحرة المذكورين كانوا أساتذة مهرة في صناعتهم، وكانوا أعرف من غيرهم بفنون عملهم ورموز سحرهم، فكانوا يعرفون ـ جيداً ـ الفرق بين «المعجزة» و«السحر» فالامر الذي يحتاج الآخرون لمعرفته إلى المطالعة الطويلة والدقة الكبيرة، كان واضحاً عند السحرة وبيناً، بل أوضح وأبين من الشمس في رابعة النهار.

إنّهم مع معرفتهم بفنون ورموز السحر الذي تعلموه طوال سنوات، عرفوا وأدركوا أن عمل موسى لم يكن يشبه ـ أبداً ـ السحر، وأنّه لم يكن نابعاً من قدرة البشر، بل كان نابعاً من قدرة فوق الطبيعة وفوق البشر، وبذلك لا مجال للإستغراب والتعجب في اعلانهم إيمانهم بموسى بمثل تلك السرعة والصراحة والشجاعة وعدم الخوف من المستقبل.

وجملة «ألقى السحرة» التي جاءت في صيغة الفعل المبني للمجهول ، شاهد

[156]

ناطق على الإستقبال البالغ لدعوة موسى وتسليم السحرة المطلق له(عليه السلام). يعني أنّ جاذبية موسى كان لها من الأثر القوي البالغ في قلوب ونفوس أُولئك السحرة، بحيث أنّهم سقطوا على الأرض من دون اختيار، ودفعهم ذلك إلى الإقرار والإعتراف.

* * *


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/books/index.php?id=742
  • تاريخ إضافة الموضوع : 0000 / 00 / 00
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28