• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم / المكتبة .
              • الكتاب : التفسير البنائي للقرآن الكريم ـ الجزء الثاني ، تأليف : الدكتور محمود البستاني .
                    • الموضوع : سورة إبراهيم .

سورة إبراهيم

سورة إبراهيم

______________________________________________________

الصفحة 409

 

قال تعالى: (الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربّهم إلى صراط العزيز الحميد * الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وويل للكافرين من عذاب شديد * الذين يستحبّون الحياة الدنيا على الآخرة ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً أولئك في ضلال بعيد * وما أرسلنا من رسولٍ إلاّ بلسان قومه ليبيّن لهم فيُضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم).

في هذه المقدّمة من السورة جملة من الدلالات الفكرية، منها: إن هدف رسالة الإسلام هو إخراج الناس من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، ومنها: أنّ من الناس من لا يستجيب للرسالة الإسلامية إيثاراً لمتاع الحياة العابر. ومنها: أن هؤلاء المنحرفين لا يكتفون بمجرد الرفض لرسالة الإسلام بل يمنعون غيرهم من الإيمان بها، ومنها: أن أمثلة هؤلاء سوف يلحقهم عذاب متسم بالشدّة... أخيراً، أن كل رسول من رسل الله تعالى جاء برسالة السماء وفق لغة مجتمعه، وإلى أن الله تعالى يهدي مَن يشاء من الناس ويضلّ من يشاء منهم وفق معرفته تعالى بطبيعة استعدادهم للاستجابة أو الرفض.

هذه المقدمة التي انتظمتها مجموعةُ الأفكار المشار إليها تبعتها مباشرةً أقصوصةٌ عن موسى ـ عليه السلام ـ ومجتمعه (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أنْ أخرِجْ قومَكَ مِنَ الظُلماتِ إلى النور وذكِّرهُم بأيام الله إنَّ في ذلك لآياتٍ لكلِ صَبّارٍ شكور).

لا نحتاج إلى أدنى تأمّل حتى ندرك على الفور أنّ بداية هذه الأقصوصة جاءت (من حيث عمارة النص) موظفةً لإنارة الأفكار المطروحة في مقدمة السورة، فها هو موسى ـ عليه السلام ـ نموذج واحد من نماذج الرسل الذين جاءوا

 

______________________________________________________

الصفحة 410

 

برسالات السماء وفق لغة مجتمعاتهم، لكي يُخرجوا الناس من الظلمات إلى النور، ها هو موسى يُطالب أيضاً بنفس المطالبة (أخرج قومَك من الظلمات إلى النور) بعد أن استُهلت السورة بخطاب لمحمد ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ (كتابٌ أنْزَلْنَاهُ إليكَ لِتُخْرِجَ الناسَ مِنَ الظلماتِ إلى النور...).

إذاً، إخراج الناس من الظلمات إلى النور يجسّد قمة الدلالات المطروحة في السورة ما دامت مقدّمتها (الحديث عن رسالة الإسلام) ووسطها (التذكير برسالة موسى ـ عليه السلام ـ) قد حامتا على هذا الجانب، كما لحظنا.

لكن، لنا أن نتساءل عن السرّ الفنيّ الكامن وراء الاستشهاد بأقصوصة موسى دون غيره من الرسل.

لا نحتاج إلى أدنى تأمّل أيضاً حتى ندرك أن قوم موسى (وهم اليهود يظلّون من أشد المجتمعات إفساداً في الأرض وإلى أنهم أشدّ رفضاً من غيرهم لرسالة الله تعالى... نفهم ذلك، ليس من خلال معرفتنا فحسب بسلوك المجتمع اليهودي طوال التاريخ، بل من خلال الأقصوصة التي نتحدث عنها وذلك لسببٍ فنيّ يتصل بالهيكل الهندسي للسورة، بصفة أن الاستشهاد بالعنصر القصصي لابدّ أن يكون موظفاً (من الزاوية الفنية) لإنارة السورة، كما قلنا.

ويمكننا معرفة المزيد من ذلك حين نتابع الآن محتويات الأقصوصة. تقول الأقصوصة بأن الله تعالى طالب موسى ـ عليه السلام ـ بأن يذكّر قومه بأيام الله تعالى، والمقصود بـ(أيام الله) ـ وفقاً لما ورد عن المعصوم ـ عليه السلام ـ ـ ((نِعَم الله تعالى)).

نفهم ذلك أيضاً ليس من خلال التفسير الذي قدّمه الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ قبالة نصوص تفسيرية أخرى ـ بل من خلال الأقصوصة ذاتها أيضاً، وهذا بدوره واحدٌ من أشد الأسرار الفنية خطورة في بناء السورة القرآنية الكريمة، حيث تجيء الأجزاء اللاحقة من الأقصوصة لتفسّر لنا بطريقة فنية: المقصود

 

______________________________________________________

الصفحة 411

 

من عبارة (أيّام الله).

 

تقول الأقصوصة عبر نقلها للخطاب الذي وجّهه موسى لقومه: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ).

إذاً، جاء التفسير الفني (لأيام الله) ضمن منطق الأقصوصة ذاتها، حيث لحظنا أن الله تعالى طالب موسى بتذكير قومه بأيام الله، وحين خاطب موسى قومَه بأن يذكروا نعمة الله عليهم، أدركنا أن المقصود من أيام الله هو نِعَم الله، وأن التذكير بإنقاذ مجتمع موسى من آل فرعون الذين كانوا يذبّحون أبناء المجتمع المذكور ويستحيون نساءهم، إنما يعّدُ واحداً من سلسلة النِعَم المشار إليها.

والواقع أن المنطق الفني لهذه الأقصوصة لا ينحصر إعجازها في البناء الهندسي المحكم لها، بل يتجاوز معطاها إلى مستويات أخرى، منها: وقوفنا على صحة التفسير الذي يقدمه أئمة التشريع ـ عليهم السلام ـ مقابل التفسيرات المتفاوتة التي عرضتها نصوص أخرى بالنسبة للمقصود من عبارة (أيام الله)... فالمتلقّي يهمه جداً أن يقف على التفسير الصحيح للعبارة المذكورة، وحين يواجه أكثر من نصٍ تفسيري في هذا الصدد، سوف يتّجه إلى المعصوم عليه السلام، وبعد ذلك: حينما يقف (من الزاوية الفنية) على منطق الأقصوصة يجدها متوافقة تماماً مع التفسير الذي قدّمه المعصوم ـ عليه السلام ـ ممّا يعني أنّ واحداً من أسرار الفن العماري للسورة الكريمة أمكن أن نتبيّنه بوضوح، وأن تتجاوز ميدان (الفن) إلى ميدان (العلم) أيضاً لنتبيّن صحة النصوص المفسّرة عبر مواجهتنا لنصوص متفاوتة في هذا الصدد.

ويُلاحظ أن هذا القسم من الأقصوصة قد ختمه النص بالمطالبة بالشكر

 

______________________________________________________

الصفحة 412

 

لله تعالى على النعم المذكورة، وإلى أن العذاب الشديد ـ في حالة الكفران بهذه النعم ـ سوف يلحق الكافرين: وهو أمرٌ طرحته مقدمة السورة حينما هددت الكافرين بعذاب شديد أيضاً، فيما جاءت صفة (العذاب الشديد) بصياغة واحدة في مقدمة السورة وأقصوصتها، مما يكشف ذلك عن بُعدٍ هندسي جديد في بناء السورة، مضافاً إلى ما لحظناه، وإلى ما نلحظه عبر متابعتنا للأجزاء اللاحقة من الأقصوصة.

 

* * *

 

قال تعالى: (وقال موسى ان تكفروا أنتم ومَن في الأرض جميعاً فإن الله لغنيّ حميد * ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلاّ الله جاءتهم رسلُهم بالبيّنات فردّوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أُرْسِلْتُم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب * قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمّىً قالوا إن أنتم إلا بشرٌ مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين * قالت لَهُمْ رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يَمن على من يشاء من بعاده وما كان لنا أن نأتيكم بسلطانٍ إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون * وما لنا الاّ نتوكل على الله وقد هدانا سُبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون).

يمكن القول، بأن هذا المقطع وما بعده من سورة إبراهيم، يمثّل شريحة قصصية تتعلق بأقصوصة موسى مع قومه حيث لحظنا (في مقطع أسبق) أن موسى طالب قومه بأن يذكروا نعمة الله عليهم إذ نجاهم الله من آل فرعون، كما لحظنا أن النص عقّب على ذلك بأنّ الآدميين إذا قدّروا نعم الله ليزيدنّهم وإلاّ فسيلحقهم العذاب.

والآن، يعود النص إلى قصة موسى عبْر منحىً فنيّ بالغ الجمال والدهشة

 

______________________________________________________

الصفحة 413

 

والأهمية: حيث نستكشف من خلال حوار موسى مع قومه، إنّ قومه (وهم اليهود) قد واجهوه بالكفران لنعم الله بدلاً من الشكر... هذه المواجهة لم تذكرها الأقصوصة بل أن جواب موسى لقومه يُوحي بمثل هذه المواجهة التي أشرنا إليها.

لنقرأ من جديد: (وقال موسى ان تكفروا أنتم ومَن في الأرض جميعاً فإن الله لغني حميد).

المهم، أن تقديم المجتمع اليهودي: نموذجاً للكفران بنعم الله، يفسر لنا السرّ الفني الكامن رواء الاستشهاد بموسى ـ عليه السلام ـ دون غيره من الرسل: خلال الربط بين رسالة الإسلام التي واجهت نموذجاً من المنحرفين في البدء وتذكير هذا النموذج بتجربة سابقة واجهها موسى ـ عليه السلام ـ مع قومه، وهذا الاستشهاد بالقوم المذكورين يوضح لنا بجلاء أن المجتمع اليهودي هو أشد المجتمعات انحرافاً وكفراناً بنعم الله، وإلاّ كان الاستشهاد بغيرهم يفرض ضرورته الفنية لو كان هناك أي مجتمع منحرف يبلغ درجة الانحراف عند اليهود.

والآن بعد أن يربط فنياً بين التجربة الجديدة لرسالة الإسلام وتجربة سابقة يبدأ بتفصيل ما أجملته أقصوصة موسى عليه السلام، فيعرض لتجارب ثلاث بدأتها المجتمعات البشرية هي: قوم نوح وعاد وثمود (الم يأتكم نبأُ الذينَ من قبلِكم قومٍ نوحٍ وعادٍ وثمودَ والذينَ من بعدهم).... والملاحظ هنا ـ من الزاوية الفنية ـ أن الاستشهاد بقصة موسى تمثّل (كفران اليهود بنعم الله)، وأمّا الاستشهاد بقصص ما قبلهم فتُمثّل نمط السلوك المنحرف العام للمجتمعات المذكورة يحث يذكر النص أن هذه المجتمعات (فَرَدُّوا أيدِيَهُم في أَفواهِهِم وقالُوا إنّا كَفَرْنَا بما أُرْسِلْتُم به).

والسؤال هو: هل أن الاستشهاد بهؤلاء الأقوام (نوح، عاد، ثمود) جاء على لسان موسى ـ عليه السلام ـ أم أنه خطابٌ جديد من الله حيال مجتمع محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم؟ إنّ

 

______________________________________________________

الصفحة 414

 

كلا من الاحتمالين له مسوغاته دون أدنى شك، بيد أن ما يعنينا هو: طبيعة الخطوط الهندسية التي تحكم بناء السورة لملاحظة جماليتها وانعكاس هذه الجمالية على ما تنطوي عليه من دلالات فكرية يستهدفها النص.

في تصورنا أن هذا الكلام هو تعقيب من القرآن الكريم على أقصوصة موسى: لأن الأجزاء اللاحقة من السورة توحي بهذا التصور: كما سنرى،... والمهم بعد ذلك أن نشير ـ فنياً ـ إلى أن دور موسى ـ عليه السلام ـ قد انتهى عند مخاطبته لليهود بأن كفرانهم بالله تعالى لا يضر الله شيئاً بقدر ما يضرّ أنفسهم. وبعد تقرير هذه الحقيقة تقدم النص إلى التذكير بمصائر قوم آخرين تجسّد نماذج من الكفران بنعم الله بعد أن أوحى النص بأن اليهود هم قمة الكفران المذكور.

ويُلاحظ ـ من الجهة الفنية ـ أن التذكير بمصائر قوم نوح وعاد وثمود: إنما تمّ من خلال السلسلة الزمنية، حيث كان قوم نوح أول مجتمع يتعرض للجزاء الدنيوي، تبعه مجتمعا عاد وثمود... ثم مجتمعات أخرى سكت النصُ عنها لانتفاء الحاجة.

ويلاحظ أيضاً من حيث عنصر (الصورة الفنية) وصلتها بعمارة النص، ان المقطع الذي نتحدث عنه ذكر بأن هذه المجتمعات (نوح، عاد، ثمود) واجهت رسلهم بنمطين من السلوك: نمط حركي هو (وضع اليد على الأفواه) ونمط لفظي هو: إقرارهم بالكفران والتشكيك برسالات السماء... أما الوضع الحركي فيدلّ بوضوح على أن المنحرفين يجسّدون أشد الأشكال المَرَضية في السلوك، لأن وضع اليد على الفم سواء أكان ذلك يتمثل في العض على الأصابع تعبيراً عن الغيظ، أو إيماءً إلى الرسل بأن يسكتوا، أو غير ذلك، إنما يُعد مثل هذا السلوك أشد الأشكال بدائية، وبالفعل فإن بدائية المجتمعات المذكورة، بصفتها: النماذج البشرية الأولى: لتتناسب فنياً مع الصورة التي أشرنا إليها، بمعنى (أن وضع اليد على الفم) ـ وهو صورة فنية واقعية ـ

 

______________________________________________________

الصفحة 415

 

يتناسب مع عرض النص لأول المجتمعات التي تعرّضت للدمار وهي (قومِ نوحٍ وعادٍ وثمود)، بل يمكن القول ان الوضع الحركي المذكور قد يتسم به مجتمع نوح بخاصة، نظراً لما نلحظه في سورة قرآنية أخرى نمطاً مَرَضياً مماثلاً من السلوك قد طبع القوم المذكورين، وهو وضع الثياب على الوجوه والأصابع في الآذان، كما أن الخطاب الذي وجهه نوح في سورة نوح إلى قومه من أن الله يغفر ذنوب قومه ويؤخرهم إلى جل مسمى في حالة تعديلهم للسلوك، هذا الخطاب يتكررُ الآن في هذه السورة (إبراهيم) حيث يقول النص (أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً).

المهم، أن الصورة الحركية المذكورة جاءت ـ كما قلنا ـ متجانسة فنياً مع بدائية هذه المجتمعات، كما جاءت متوافقة ـ عضوياً ـ مع قصة موسى التي مهدت للحديث عن هذه المجتمعات، بالنحو الذي فصلنا الحديث عنه.

 

* * *

 

قال تعالى: (قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلاّ بإذن الله وعلى الله فليتوكّل المؤمنون * وما لنا الاّ نتوكّل على الله وقد هدانا سبُلَنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون * وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرِجنَّكم من أرضنا أو لتعودن في ملّتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين * ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد * واستفتحوا وخاب كلُّ جبار عنيد * من ورائه جهنم ويُسقى من ماء صديد * يتجرّعه ولا يكاد يُسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميّت ومن ورائه عذاب غليظ * مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدّت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء ذلك هو الضلال البعيد * ألم تر أن الله خلق

 

______________________________________________________

الصفحة 416

 

السماوات والأرض بالحق إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد).

 

هذا المقطع من سورة إبراهيم: امتدادٌ لمقطع سابق يتحدث عن رسل الله السابقين وطريقة تعامل مجتمعاتهم المنحرفة حيالهم.

لقد كانت المجتمعات المنحرفة تمارس سلوكاً شاذاً من نحو (وضع الأيدي على الأفواه) تعبيراً عن شدة بدائيتهم في التعامل المنحرف.

وفي مستوى السلوك اللفظي كانوا يعبّرون عن نفس الذهنية البدائية في الإنحراف، فقد هددوا رسلهم بإخراجهم من مساكنهم وبلادهم ما لم يعودوا في ملّتهم (لَنُخْرِجَنَّكُم مِنْ أَرضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ في مِلَّتِنَأ) حيث خيّل إليهم أنّ القضية عائدة إلى مجرد رغبة في التسلط عليهم وتغيير مواقفهم الوثنية دون أن يصلوا ذلك برسالة السماء وبالمهمة العبادية التي أوكلها الله إلى الآدميين، لذلك جابهوا رسلهم أولاً بالشك في صحة رسالاتهم (وإنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَأ إليهِ مُرِيب) ثم اعترضوا عليهم بأنهم يصدونهم من عباد آبائهم، ثم طالبوهم بدليل. وبالرغم من أن رسلهم أجابتهم بكلام منطقي، إلا أنهم ـ بدلاً من الإذعان للحقيقة ـ هددوهم بالطرد من أرضهم.

وهنا ـ في غمرة عنادهم الذي تجاوز نطاق المعقول ـ جاءت اللطمة الحاسمة عليهم حينما أوحى الله إلى الرسل بأنه تعالى سوف يهلكهم أجمعين، وإلى أنه تعالى سوف يورث الأرض لهؤلاء الرسل الذين هددهم المنحرفون بإخراجهم من الأرض.

طبيعياً، ينبغي ألاّ يغيب عن بالنا هذا التلاحم العضوي بين تهديد المنحرفين بأنهم سوف يخرجون الرسل من (أرضهم) وبين تلويح الله للرسل بأنه سوف يسكنهم (الأرض) بعد إهلاكه للمنحرفين، حيث يجيء هذا التثبيت (للأرض) مقابلاً للتهديد بالإخراج من الأرض، مما يكسب النص بُعداً جديداً من الإحكام العماري.

 

______________________________________________________

الصفحة 417

 

ويُلاحظ، أنه مضافاً إلى تلويح السماء بإهلاك المنحرفين دنيوياً لُوّح لهم أخروياً أيضاً، وهو تلويح بعذاب خاص يتناسب (من وجهة فنية) مع نمط عناد المنحرفين، فالمنحرفون ـ كما لحظنا ـ لم يكتفوا بمجرد عدم تقبل رسالات السماء، بل قرنوا ذلك بأنماط من السلوك البالغ في الالتواء: بدءً من وضع اليد في الأفواه، وانتهاءً بتهديد الرسل بإخراجهم من الأرض، لذلك جاء التلويح بالعذاب الأخروي متجانساً ـ في نمط شدته وألوانه ـ مع السلوك الملتوي المذكور، ولنقرأ (مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ ...) فالملاحظ هنا، أن التلويح جاء متنوعاً من خلال (ماء صديد) ومن خلال الموت المتكرر الذي لا يتمّ قبل أن يتجدد. فأما (الصديد) فهو ـ وفق النصوص المفسرة ـ سيل من الدم والقيح، ففضلاً عن كراهة منظره يقترن بكراهة رائحته، ثم بكراهة طعمه، ثم بكراهة و... وأما الطرف الآخر من العذاب فهو: الإحساس بالموت دون وقوعه فعلاً (ويأْتِيهِ الموتُ مِنْ كُل مكانٍ وما هو بمَيِّت) ولا شيء اشدّ إيلاماً من الإحساس بالموت (من حيث شدة العذاب المشار إليه) ثم عدم تحققه بل تجدّده بين حين وآخر: حيث يشكّل هذا النمط من الجزاء أشدّ ما يمكن تصوّره في هذا الميدان.

أخيراً، ختم النصُ هذا المقطع بصورة فنية هي (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ).

إن هذه الصورة الفنية تُعدّ تتويجاً أو تلخيصاً لنتائج السلوك المنحرف الذي ينتظره العذاب بشكله الذي تقدم الحديث عنه. فالمنحرفون يمارسون أنماطاً مختلفة من السلوك تحقيقاً للإشباع العاجل، في حين أن هذا الاشباع الذي تعجلوه لا يعدو كونه (رماداً).

 

______________________________________________________

الصفحة 418

 

ولو كان شيئاً غير الرماد لهان الأمر، إلا أن الرماد نفسه لا يحمل أيّ شيء ذي إمتاع بل يقترن بالبشاعة وبالقَرَف. وحتى ذلك لا يبقى محتفظاً بديموميته بل يتناثر بنحوٍ لا يبقى له أيّ أثر: تماماً مثل الرماد الذي تعصف به الريح الشديدة فتنثره بين طيّاتها، وهذا ـ كما عبر المقطع عنه ـ (هو الضلال البعيد). وفعلاً، لا ضلالَ ابعد من أن يُعنى الإنسان بمتاع عابر تتمثل نتيجته في رماد تكتسحه الريح.

إن هذه الصورة الفنية بالرغم من كونها تبدو وكأنها متسمة بمنتهى البساطةِ والوضوح، إلا أنها ـ في الآن ذاته ـ تظل عميقة كلّ العمق، معبّرة، حيّة تلخص تجربة الإنسان المنحرف عن مبادئ السماء، فضلاً عن أنها جاءت في سياق بناء السورة التي عرضت لنا قصتين عن المجتمعات البائدة، حيث وُظِّفت هذه الصورة لإحكام البناء الهندسي للنص، وهو بناء تتجانس أبعاد مختلفة فيه، سواء ما كان يتصل منها بالعنصر القصصي (الذي وُظّف لتجلية دلالات السورة أو ما كان يتصل بالعنصر الصوري) الذي وظف لإنارة القصص، بالنحو الذي تقدم الحديث عنه.

 

* * *

 

قال تعالى: (وبرزوا لله جميعاً فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنّا لكم تبعاً فهل أنتم مُغنون عنا من عذاب الله من شيء قالوا لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص * وقال الشيطان لما قُضي الأمر ان الله وَعَدكم وعدَ الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلاّ أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمونِ من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم).

هذا المقطع يجسّد أُقصوصةً تتناول البيئةِ الأخروية التي يحياها

______________________________________________________

الصفحة 419

 

المنحرفون. فبعد أن تحدث مقطع سابق عن البيئة الأخروية المتمثلة في (الجحيم) من حيث الشدائد (الجسمية) التي يكابدها المنحرفون، يجيء هذا المقطع الذي نحن بصدده متناولاً الشدائدَ (النفسية) التي يكابدها المنحرفون. وهذا التقسيم للشدائد إلى جسمي ونفسي ثم استقلال كل منهما في حقل قصصي: أحدهما يمثّل (الحدث) والآخر يمثّل (الموقف)، يظل (من حيث البناء العماري للسورة) أمراً له جماليته فنيّاً، كما أنه ـ فكرياً ـ يظل إفصاحاً عن مدى حجم الشدائد التي سيكابدها المنحرفون عن مبادئ الله.

إن الشدائد النفسية التي عرضتها هذه الأقصوصة لا تقل فاعلية عن الشدائد الجسمية بخاصة أن الموقف الذي تعرضه الأقصوصة مقرون بظواهر الندم والعقاب الذاتي واللوم فيما لا فائدة البتة من أمثلة هذه المشاعر التي لا تغيَّر من الحدث المحدق بالمنحرفين شيئاً.

الأقصوصة تنقل لنا حواراً ثلاثياً بين فئات المنحرفين: 1 ـ فئة الاتباع 2 ـ فئة المتبوعين 3 ـ الشيطان.

ويُلاحظ أن الشدة النفسية لهذه الأطراف الثلاثة تتركز أكثر من سواها في فئة (الاتباع) بصفتهم: الفريق الأضعف دنيوياً من الطرفين الآخرين (المتبوعين، الشيطان)، فهناك كبير المنحرفين (الشيطان) وهناك كبار المسؤولين المنحرفين الذين وظّفهم الشيطان لتحقيق مهمّته الضالة، وهناك طبقات الضعفاء الذين ألغوا عقولهم وأسلموها لقادتهم. ونتيجة لهذا الإلغاء لعقولهم مع أنهم لم يفيدوا من متاع الحياة الدنيا ما أفاد منه: المتبوعون (الشيطان) تجيء مشاعر الندم واللوم والعقاب الذاتي شديدة الوقع في نفوسهم، كما تجيء المبادرة بالسؤال مِن قبلِهم حيث تنقل الأقصوصة مبادرتهم على النحو الآتي:

 

(فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا:

 

______________________________________________________

الصفحة 420

 

إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ

 

قَالُوا:

 

لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ).

وما أن ينتهي هذا الحوار بين الضعفاء والمستكبرين، حتى يعرض المقطع لنا حواراً انفرادياً من قِبل الشيطان يوجهه فيما يبدو إلى الطرفين كليهما، حيث يمكن أن نستخلص بأن المنحرفين (اتباعاً ومتبوعين) يوجهون نفس اللوم إليه، أو أن الشيطان نفسه يتبرع بإلقاء الكلام التالي عليهم:

 

(وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ:

 

إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ).

إن أدنى تأمل لهذا الحوار الانفرادي والحوار الثاني السابق يكشف لنا مستويات فنية وفكرية في غاية الخطورة، فالحوار الأول (وهو محاورة الضعفاء مع المستكبرين) يلخص تجربة الأتباع الذين ألغوا عقولهم، كما يلخص تجربة المتبوعين الذين يقررون حقيقة مهمة ذات طرفين، أولهما قولهم (لو هدانا الله لهديناكم) والآخر قولهم (سواء علينا أَجَزِعْنا أمْ صَبَرْنا مَا لَنا مِنْ مَحِيص).

هذه الحقائق التي نقلها الموقف القصصي المذكور كان من الممكن أن تتم من خلال (السرد) الذي يصف أعماق المنحرفين، إلا أن النص اتجه إلى (الحوار) الذي يحدث فعلاً بين الاتباع والمتبوعين حينئذٍ، لكي ينفعل المتلقّي بالموقف بنحو أشدّ عبر وقوفه مباشرة على حقيقة المشاعر المريرة التي يبرزها الموقف، فالحقيقة الفكرية التي يمكن أن يفيد المتلقي فها هو أن قضية الهداية مرتبطة بالله تعالى حيث نقلت مقدمة السورة بأن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وهي حقيقة عرضها المتبوعون لاتباعهم: تجسيداً للحقيقة التي خبرها

 

______________________________________________________

الصفحة 421

 

الاتباع في حياتهم الدنيا من خلال توصيلها إليهم من قِبل رُسل الله. كما أن الحقيقة الأخرى القائلة بأنه لو جزع المنحرفون أو صبروا على العذاب، ففي الحالتين لا مناص من مواجهة العذاب، وهو أمرٌ لأشدّ كبراً منه حجماً على المنحرفين...

وأما الحوار الانفرادي من الشيطان، فإنه ـ يجسّد تجربة لا شدة من بعدها حينما يقرر عهدئذٍ جملة من الحقائق التي تمزّق اتباعه يقرر أولاً أنه وَعَد المنحرفين ووعدهم الله، فأخلف هو (أي الشيطان) ويقرر ثانياً بأنه لم يكن له عليهم سلطان بل هم الذين اتبعوه بمحض اختيارهم وإرادتهم، ويقرّر ثالثاً بأنه لا سبيل لأن يلوموه بل ليلوموا أنفسهم باتباعه، ويقرر رابعاً بأنه لا هو بمستطيع أن ينقذهم الآن ولا هم بمستطيعين أن ينقذوه، ويقرر خامساً بأنه قد كفر بعملية إنقيادهم له.

إن تقرير هذه الحقائق ـ من قبل الشيطان نفسه ـ ليزيد من المرارة التي تعصف بالمنحرفين، مما يقتاد ذلك إلى أن يحاول المتلقي الإفادة من هذه التجربة في عملية تعديل السلوك ما دمنا نعرف بأن الغرض الذي يستهدفه القصص القرآني ليس حمل الكافر على أن يتجه إلى الإيمان فحسب، بل ـ وهذا هو المهم ـ حمل المتلقّي على تعديل سلوكه وعدم متابعة الشيطان في تزيينه بسلوك الغالبية من الآدميين، بالنحو الذي نحياه في سلوكنا اليومي، سائلين الله أن يعصمنا من ذلك.

 

* * *

 

قال تعالى: (ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيّبة كشجرة طيّبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تُؤتي أُكُلَها كل حين بإذن ربها، ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون * ومَثَلُ كلمةٍ خبيثةٍ كشجرةٍ خبيثةٍ اجتثت من فوق الأرض مالها من قرار).

 

______________________________________________________

الصفحة 422

 

هذا المقطع وما بعده يتناول قضية (الإيمان) في أرفع صُعده، حيث اتجه النص القرآني إلى عنصر فنيّ هو (الصورة) التمثيلية، ليبلور دلالة الإيمان في مستوياته التي أشرنا إليها.

إن الصورة الفنية تأخذ أشكالاً مختلفة من التركيب، ومنها: الصورة التمثيلية التي تتركب من عدة صور تتداخل فيما بينها لتشكّل صورة استمرارية واحدة يطبعها (التمثيل)، وأهمية مثل هذه الصورة التمثيلية الفنية تتجسّد في كونها قد استهدفت تبيين منحنيات الإيمان المختلفة وليس مجرد الإيمان وهو أمرٌ يستتلي أن تأخذ الصورة الفنية طابعاً تفريعياً أو استمرارياً تتداخل الصور الجزئية من خلالها بنحو يتناسب ومستويات الإيمان الذي يأخذ تفريعات مختلفة بدوره.

لكن، قبل أن نتحدث عن هذه الصورة التمثيلية، ينبغي أن نتبيّن موقعها الهندسي من عمارة السورة ما دمنا ـ أساساً ـ نُعنى بدراسة السور من حيث بناؤها الهندسي وصلة أجزائها بعضاً بالآخر. لقد كانت السورة تتحدث عن المجتمعات المنحرفة التي كفرت بأنعم الله بعد أن استُهلت السورة بالحديث عن رسالات الله وإلى أنها جاءت لتخرج الناس من الظلمات إلى النور، كما أنها تحدثت عن كل من الظلمات والنور وإلى أن الله يهدي إلى النور من يشاء أو يضله، تبعاً لما يختار الشخص بملء إرادته من السلوك الخير أو الشرّير.

هنا في الصورة التمثيلية المشار إليها، نجد أنها جاءت عقيب الحديث عن مصائر المنحرفين دنيوياً وأخروياً مقابل مصائر المؤمنين، حيث استثمر النص هذه المصائر ليصلها بقضية الإيمان أو عدمه حيث تترتب المصائر الإيجابية أو السلبية وفق الإيمان أو عدمه.

ليس هذا فحسب، بل أن الإيمان نفسه يجسد أكثر من صعيد أو درجة، فالمصائر البشرية لا تتجدد عند مجرد الإيمان وعدمه بل أن الإيمان نفسه من

 

______________________________________________________

الصفحة 423

 

الممكن أن تتخلله لحظات الضعف الإنساني بدرجات متفاوتة بحيث يترتب الجزاء السلبي على الإسلاميين أنفسهم في حالات السماح لشهواتهم بالتحرك.

الصورة التمثيلية المشار إليها، تقرر جانباً من هذه الحقيقة حينما تقدم قضية الإيمان بأنها مثل (شجرةٍ طيبةٍ أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أُكلها كُلَّ حين) ولابدّ أن يتسم طابع هذا الإيمان بأرفع مستوياته: نظراً لأن الشجرة حينما تتجذر أصولها عميقاً ثم تتعالى فروعها إلى السماء لا بدّ أن تنتج أفضل ما نتوقعه من الثمار، وهو أمرٌ وسمه النص بعبارة (شجرة طيّبة) تعبيراً عن النتاج المثمر الذي أشرنا إليه.

ولعل النصوص التفسيرية قد ألقت إنارة كاملة على هذا الجانب حينما أشارت إلى أن أهل البيت ـ عليهم السلام ـ والسير على هداهم، يمثل تجسيداً كاملاً للشجر المذكور وثمره. وبالمقابل، فإنّ الانحراف عن الخط المذكور، يتمثل بقوله تعالى (كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ...) بصفة أن الشجرة غير المعطاء فضلاً عن سمتها السلبية المذكورة، حينما تقطع جذورها عن الأرض: حينئذٍ تنتفي فاعليتها أساساً، وهو أمرٌ يشبه سلوك المنحرفين في إنتفاء كل المعطيات عنه. وهنا ينبغي أن نتذكر صورة فنية أخرى سبق أن وقفنا عليها في مقطع متقدم من السورة هي: تشبيه السلوك المنحرف بـ(الرماد) الذي تعصف به الريح، حيث جاءت هذه الصورة في سياق المصائر المترتبة على السلوك المنحرف بينما جاءت صورة الشجرة (الخبيثة) في سياق نفس السلوك المنحرف عن الله وعترته الطاهرين. والفارق بين الصورتين ينسحب على الفارق بين السلوك ونتائجه، فصورة (الرماد) ـ وهي تتحدث عن المصائر ـ تمثل ذهاب الأعمال التي صدرت عن المنحرفين هباءً منثوراً، وأمّا صورة (الشجرة الخبيثة) ـ وهي تتحدث عن السلوك المنحرف ذاته ـ فتمثل إنتفاء أية فائدة ومعطىً فيه بغض النظر عن المصائر التي يُفضي إليها مثل هذا السلوك.

 

______________________________________________________

الصفحة 424

 

المهم، خارجاً عما تقدم، يعنينا أن نصل بين الصورتين التمثيليتين اللتين تحدثت أولاهما عن (الشجرة الطيبة) وعلاقتها بالكلمة الطيبة: (وهي الإيمان في أرفع درجاته)، وتحدثت أخراهما عن (الشجرة الخبيثة) وهي الانحراف عن الله والمعصومين عليهم السلام... أقول، يعنينا أن نصل بين تينك الصورتين وبين مفهومي (الظلمات) و(النور) اللذين استُهلت السورةُ الكريمة بهما، حيث أمكننا الآن أن نقف على الصلة العمارية بين كل من النور (وهو الشجرة الطيبة) والظلمات (وهي: الشجرة الخبيثة) حيث جاءت الصورتان تجسيداً فنياً لمفهومي النور والظلام، وحيث بدأت السورة الكريمة بالقول: بأن رسالة الإسلام جاءت لتخرج الناس من الظلمات إلى النور، من الالتفاف حول شجرة خبيثة اجتُثت من فوق الأرض ما لها من قرار، إلى الالتفاف حول شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء.

إذاً، أمكننا ملاحظة مستويات التجانس بين أجزاء السورة، وبين مقدمتها التي أشارت إلى النور والظلمات، ووسطها الذي أشار إلى ما هو (طيب) وما هو (خبيث) فضلاً عن أبعاد أخرى من التجانس وقفنا عليها، كما سنقف على مستويات أخرى من التجانس أيضاً في المقاطع اللاحقة من النص.

 

* * *

 

قال تعالى: (يثبّت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ويضلُّ الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء * ألم تر إلى الذين بدّلوا نعمة الله كفراً وأحلّوا قومهم دار البوار * جهنم يصلونها وبئس القرار * وجعلوا لله أنداداً ليضلوا عن سبيله قل تمتّعوا فإن مصيركم إلى النار * قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال * الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماءً فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم وسخّر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم

 

______________________________________________________

الصفحة 425

 

الأنهار * وسخّر لكم الشمس والقمر دائبين وسخّر لكم الليل والنهار * وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفّار).

لقد أوضح هذا المقطعُ بكلمة حاسمةٍ جامعةٍ قضيّةَ (نِعَم الله تعالى) عبْر قولِه: (وإنْ تَعُدُّوا نعمةَ الله لا تُحصوها)، وقبل أن يقرِّر المَقْطَعُ هذه الحقيقة قدّم جملةً مِنَ النِعَم منها: المطرُ، والنباتُ، والبِحارُ، والأنهارُ، والشمسُ، والقمرُ، وعقّب عَلى هذه النِعَم بأنَّ الإنْسانَ (لَظلُوم كفّار).

وهذا يَعْني أنَّ الآدميين وقفُوا مِنَ النِعَم المذكورة موقِفَ الكُفْر بِها بَدَلاً مِنَ الإيمان.

هذا الموقِفُ حين نربطه بمجموعة الأفكار التي انتظمت سورة إبراهيم نجد (من حيث البناء الهندسي للسورة) بأنه يجسّد إنماءً عضوياً لها بحيث بدأت السورة بعرض قصصي عن موسى ـ عليه السلام ـ ومجتمعه يتركز على قضية (النِعَم) أيضاً (وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم الخ) وخلال هذه الأقصوصة تحدث النص عن نتائج الشكر أو الكفران بالنعم (لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد).

إذاً: قضية النِعَم وتثمينها أو الكفران بها تظل البطانَة الفكرية للسورة... وإذا كانت أقصوصة موسى تتحدّث عن جانبٍ من النِعَم بالنسبة إلى قومه (وهي إنقاذهم من آل فرعون) حيث وقف الإسرائيليون من هذه النعم موقف الكفران الذي لا يضارعه أيّ كفران آخر، أقول: إذا كانت الأقصوصة المذكورة وما بعدها من الأقاصيص تتحدث عن النعم (في مظهرها السياسي والاجتماعي والفكري ونحوها)، فإن المقطع الذي نتحدث عنه، يتناول قضية النِعم في مطلق الثروات الطبيعية أو مصادر الحياة بعامة: ليتمّ الربط بين مختلف جوانب النعم التي شدّد النص على طرحها.

لكن من الملاحَظ أيضاً أن مقدمة السورة لم تكتفِ بطرح ظاهرة النِعم

 

______________________________________________________

الصفحة 426

 

فَحسب، بل تحدثّت عن ظاهرة أخرى هي قوله تعالى (فيضلّ الله من يشاء ويهدي من يشاء)...

إن هذه القضية لا تنفصم عن قضية (النعم) أيضاً بل ترتبط بها بخيوط فنيّة تصل أحدها بالآخر، لأنّ الكفران بالنعم سيترتّب عليه موقفٌ من الله تعالى هو سحب أحد أشكالها التي تحسم المصير النهائي للإنسان ألا وهو الإضلال أو الهداية حيث لحظنا أن مقدمة السورة أبرزت هذا الجانب بقولها (فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء) إن أهمية هذه المقولة: من الوضوح بمكان كبير، بمعنى أن الإضلال هو نتيجة لسلوك الإنسان وليس موقفاً قبلياً، كما أن الهداية تحمل نفس الطابع.

من هنا نجد أن المقطع الذي نتحدث عنه: طرح هذا المفهوم (ليس بالنحو المباشر) بل بطريقة فنية غير مباشرة حينما صدّر المقطع بقوله تعالى (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ويضل الله الظالمين...).

هذا التقرير للحقيقة المذكورة: شكّل (من الوجهة الهندسية لعمارة النص) إنماءً عضوياً لمفهوم الإضلال والهداية بنحوها الذي طرح في مقدمة السورة، حيث أوضح المقطعُ الآن دلالة ما كان يعنيه من هذين المفهومين وهي دلالة مهّد لها النص بمجموعة من الأقاصيص والمواقف التي تبيّن للمتلقّي كيفية استجابة البشر لقضية النِعم: كفراناً بها أو شكراً لها، حيث توّجها الآن (في المقطع الذي نتحدث عنه) بعبارة واضحة هي: أن الله تعالى يثبّت الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة (وهو الهداية ـ يهدي من يشاء) كما أنه يثبّتهم في البيئة التي تلي بيئة الحياة (وهي بيئة القبر) حيث أوضحت النصوص المفسرة بأن المقصود من قوله تعالى (يثبّت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة) المقصود من (الآخرة) هنا هو: بيئة (القبر) من حيث

 

______________________________________________________

الصفحة 427

 

السؤال المرحلي عن السلوك وانعكاسات ذلك: إيجاباً أو سلباً على البيئة الأخروية المفضية إلى الجنة أو النار. وهذا بالنسبة إلى المؤمنين.

أما بالنسبة إلى المنحرفين (وهم الذين كفروا بِنَعم الله) فإن (الإضلال) هو الذي يَسِمُ مصائرهم في البيئتين المذكورتين (يثبّت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضلّ الله الظالمين)...

أخيراً، يُلاحظ أن المقطع الذي تحدثنا عن محتوياته وصلتها بهيكل السورة (ونعني بها قضية النعم وانعكاساتها المختلفة) قد تخلّله طرح لبعض مفردات السلوك العبادي مثل الصلاة والانفاق، (قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم...).

ومن الواضح، أن طرح مثل هاتين الممارستين خلال نص يتحدث عن النعم وانعكاساتها إنما يعني (من زاوية البناء الهندسي للنص) أهميّه كل من الصلاة والانفاق في ممارسات الشخصية الإسلامية، وإلاّ فإن الإخلال بهما سوف ينعكس على المصير الأخروي للشخصية الإسلامية أيضاً بحيث يعرّضها للجزاء السلبي الذي هدّد المقطعُ: المنحرفين بملاقاته.

إذاً، أمكننا الآن أن نقف مفصلاً على البناء الهندسي لهذا المقطع، ثم صلته بهيكل السورة الكريمة التي وُظّفَ نثرُها القصصي وغيره لإنارة هذا الجانب (قضية النعم وانعكاساتها) فضلاً عما سوف نلحظه من المقاطع اللاحقة في النص، مما تكشف جميعاً عن مدى التلاحم العضوي وإحكامه في النص القرآني الكريم.

 

* * *

 

قال تعالى: (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمناً واجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام * ربّ انهن أضللن كثيراً من الناس فمن تبعني فإنه منّي ومن عصاني فإنك غفور رحيم * ربنا أني أسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرعٍ عند بيتك

 

______________________________________________________

الصفحة 428

 

المحرّم ربَّنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون * ربّنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء * الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء * رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء * ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب).

هذا المقطع من سورة إبراهيم، يتضمّن أقصوصةً عن شخصية إبراهيم ـ عليه السلام ـ تتصل بالوظيفة العبادية في جملةٍ من مفرداتها، وفي مقدمتها قضيةُ توحيد الله تعالى، وهي قضيةُ ترتبط بفكرة السورة التي استُهِلت بالحديثِ عن رسالة الإسلام ومعطياتها المتمثلةِ في إخراج الناسِ من الظلمات إلى النور، من ظلماتِ (الوثنية) إلى نُورِ (التوحيد).

وها هي قصةُ إبراهيم تُوظّفُ فَنيّاً لإنارةِ هذا الجانب، حيث بدأتْ بِتَحاوُر إبراهيمَ ـ عليه السلام ـ مَعَ الله تعالى: (وإذ قال إبراهيم ربّ اجعل هذا البلد آمناً واجُنُبْني وبَنيَّ أنْ نَعْبُد الأصنام * ربِّ إنَّهُنَّ أضْلَلْنَ كثيراً مِنَ الناس...).

فالملاحظ هنا أن هذه المحاورة تتناول جانباً من سلوك المجتمع البشريّ القائم على عبادةِ الأوثان التي أضلَّتْ كما عبّر بذلك إبراهيمُ ـ كثيراً من الناسِ، داعياً إلى الله تعالى أنْ يَجْنُبَهُ وبِنيْهِ هذا النمط المنحرف من السلوك.

ومعلومٌ، أن إخراج الناس من الظلمات إلى النور الذي استُهِلّت السورةُ به إنَّما تُجسّدُهُ هذِه الأقصوصة التي أوضحت على لسان إبراهيم أن مجتمعه البشريَّ يَحيا في الضلالِ المتمثّلِ في عبادةِ الأصنام. وهذا يعني ـ من حيثُ البناءُ الهندسي للسورة أنَّ أقصوصةَ إبراهيم قد وُظَّفَتْ ـ كما أشرنا ـ لإنارة أفكارِ السورة.

ويلاحظ أيضاً أنَّ السورةَ تَناولَتْ جانباً آخر من الموضوعِ المتصلِ بفكرةِ إخراج الناس من الظلماتِ إلى النورِ هو شُكْرُ النِّعَم التي أغدقها الله تعالى على

 

______________________________________________________

الصفحة 429

 

الآدميين: حيث تكفلت قصة أخرى سبق أن وقفنا عليها هي: قصة موسى ـ عليه السلام ـ بتناول هذا الجانب (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآياتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ...) حيث كان التذكير بأيام الله تعالى هو: معطياته المشار إليها...

إذاً، للمرة الأخرى ينبغي أن ننتبه على مدى الإحكام العماري للسورة من حيث توظيف العنصر القصصي لإنارة أفكارها.

والآن حين نعود إلى قصة إبراهيم، نجد أنها ـ مضافاً لمهمتها الفنية المتقدمة ـ طرحت جملة من الأفكار التي استهدفتها السورة في سياق الفكرة العامة لها.

أول هذه الأفكار يتمثّل في الإشارة إلى مكة المكرمة حيث ترتبط هذه البقعة بشخصية إبراهيم التي أقامت قواعد البيت، وحيث تُعدّ ـ من الوجهة الفنية ـ (رمزاً) لمفهوم (التوحيد) الذي عالجته أقصوصة إبراهيم، وذلك عبْر مطالبته ـ عليه السلام ـ بأن يجنّب الله قومه من عبادة الأصنام، وأن يسكن ذريته في الحَرَم المبارك (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ). إن الإشارة إلى (الشكر) عبر قول إبراهيم (لعلهم يشكرون) تتضمّن الدوران حول نفس الفكرة التي حامت عليها قصة موسى عليه السلام، وحول نفس الفكرة التي حامت عليها مقدمة السورة أيضاً (وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم).

إذاً، للمرة الجديدة أيضاً، أمكننا أن نلحظ مدى تواشج وترابط وتلاحم القصص والموضوعات فيما بينها حيث تتداخل أفكار السورة بعضاً مع الآخر وفق هذا الإحكام الهندسي الجميل.

أخيراً، خُتِمت أقصوصة إبراهيم ـ عليه السلام ـ بالحمد لله تعالى على بعضٍ من نعمه

 

______________________________________________________

الصفحة 430

 

متمثلةً فيما وهبه الله لإبراهيم كلاً من إسماعيل وإسحاق، وبالدعاء إلى الله أن يجعله وذرّيته مقيمي الصلاة، وأن يغفر له ولوالديه وللمؤمنين يوم يقوم الحساب.

هذه الخاتمة ـ كما هو واضح ـ ترتبط أيضاً بأفكار السورة المتصلة بـ(الشكر) لله تعالى، وبقضية (الإيمان) وبطرح أهم مفرداته (إقامة الصلاة) وبأهم نتائجه (غفران الذنوب)، وهي موضوعات سوف تلقي بأضوائها على الجزء اللاحق من السورة، بالنحو الذي سنقف عليه لاحقاً إن شاء الله.

 

* * *

 

قال تعالى: (وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء ٌ).

بهذا المقطع وما بعده تُختتم سورة إبراهيم التي بدأت بالحديث عن رسالة الإسلام وإلى أنها تستهدف إخراج الناس من الظلمات إلى النور، ... ثم عرّجت على المجتمعات البشرية التي وقفت موقفاً منحرفاً عن رسالات السماء، وعرضت للجزاء الذي سيلحقهم يوم الحساب.

هنا في القسم الأخير من السورة يعرض النص ليوم الحساب أيضاً، إلا أنّ ما يعرضه هنا يختلف تماماً عما عرضه في موقع سابق من السورة حيث كان العرض هناك يتصل بسياق خاص هو: تبعية الناس لرؤسائهم وتبعية الجميع للشيطان حيث يبدأ التابعون باللوم على رؤسائهم الذين أضلوهم، وحيث يتبرأ المتبوعون من سلوك أتباعهم، وحيث يتبرأ الشيطان من سلوك الجميع تباعين ومتبوعين...

أما هنا ـ في القسم الأخير من السورة ـ فإن عملية الحساب في اليوم الآخر تأخذ شكلاً آخر من الموقف.

 

______________________________________________________

الصفحة 431

 

هذا الموقف يتمثّل في ردود فعل ذات طابع حركي من جانب، وذات طابع عام يتناسب مع ختام السورة الذي يستهدف خلاصة ما طرحته مقدمتها ووسطها.

أما الطابع الحركي للشخوص في يوم الحساب، فيتمثل في:

1 ـ فتح الأعين متجهة إلى ملاحظة هول الموقف (تشخص فيه الأبصار).

2 ـ الإسراع أو استمرارية النظر إلى نتائج الموقف.

3 ـ رفع الرؤوس أو خفضها (مهطعين، مقنعي رؤوسهم) بصفة أن (رفعها) مفصح عن الاستجابة المرعبة لنتائج الموقف، أو بصفة أن (خفضها) مفصح عن الخجل.

4 ـ انخلاع القلوب (وأفئدتهم هواء) وهو ناجم من شدة الهول الذي يواجههم.

إن هذه الطوابع الحركية تفصح عن طبيعة الأعماق كما هو واضح. وأهميتها الفنية تتمثل في تعميق الدلالة التي يستهدفها النص، بصفة: أنّ عرض ما هو حسّي أشد إثارة في الإفصاح عما تنطوي عليه الأعماق في مكابدة الهول، فضلاً عن أن تنويع الظواهر الحسية من حيث حركة العيون، والرؤوس، تساهم في فرز مستويات الهول الذي يكابده الناس في الموقف المذكور...

ويُلاحَظ أن النص أنهى رسم هذه الحركات العضوية برسمٍ داخليٍ للأفئدة حتى يتوازن فنياً رسمُ الخارج مع رسم الداخل، رسم الحركات الخارجية في تعبيرها عن شدة التمزق الداخلي للشخوص. ولعل التعبير الصُوري، أي: رسْم التمزق الداخلي للشخوص من خلال اللجوء إلى

 

______________________________________________________

الصفحة 432

 

عنصر (الصورة الفنية) وهي صورة (وأفئدتُهُم هواء) لعل هذا التعبير الصوري يظل تتويجاً لهذا التوازن بين المظهر الحسي والداخلي: لأنّ اللجوء إلى عنصر (الصورة) بدلاً من التقرير أو الكلام المباشر، يظل أشد إثارةً للدلالة التي يستهدفها النص.

إن صورة (وأفئدتهم هواء) تترشح عنها جملة من الإيحاءات الفنية المختلفة التي يستجيب لها كلُّ متلقٍ حسب خبراته في الحياة... ولذلك نجد أن النصوص المفسرة تتنوع بدورها في تحديد الدلالة التي ترشح بها الصورة المتقدمة، حيث استخلص البعض منها بأن المقصود من صورة (وأفئدتهم هواء): خلو الأفئدة من كل شيء إلاّ من الفزع، واستخلص بعض ثان: بأنها خالية من السرور، واستخلص ثالثٌ بأنها زائلة عن مواقعها قد ارتفعت إلى حلوقهم، واستخلص رابع أنّها خالية من التوازن العقلي الخ.

المهم، أن هذه الاستخلاصات جميعاً تظل موضع تقبّل دون أدنى شك، ما دام الفن المعجز يتسم بكونه مرشحاً لأن تتنوع إيحاءاته حتى يمكن أن يحقق الإثارة المطلوبة عند مختلف طبقات القرّاء للنص... وهذا ما حققته الصورة الفنية المُشار إليها.

بعد ذلك، يتجه النص إلى تحديد ردود الفعل حيال هذا الهول الذي جسدته الصورة الفنية المذكورة، حيث يعرض لنا محاورتهم التالية:

(رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ) إلا أن النص يردّهم قائلاً: (أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال) ثم يعقّب على سلوكهم المنحرف، وعدم فاعليته أساساً: (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ).

ثم: ختم السورة بالعود ثالثة إلى اليوم الآخر حيث عرض صوراً فنية جديدة تتصل بالجزاء الذي سيترتب على المنحرفين، بعد أن كان الحديث

 

______________________________________________________

الصفحة 433

 

سابقاً يتصل بهول الموقف، أما الآن فيتصل بنتائج الموقف (وترى المجرمين يومئذٍ مقرّنين في الأصفاد سرابيلهم من قطرانٍ وتغشى وجوههم النار...الخ) حيث تعبّر هذه الصور عن التجانس بين (مكر) المنحرفين وبين الجزاء المترتب على الإنحراف المذكور، وحيث تظل طبيعة شدّ الأيدي إلى الأعناق (وهو مفصح عن شدة الذل) مع ألبستهم التي تمزج فيها القطران مع النار، ولفحها لأوجههم، تظل هذه جميعاً متجانسة مع حجم انحرافاتهم، بالنحو الذي تقدم الحديث عنه.

 

______________________________________________________

 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/books/index.php?id=538
  • تاريخ إضافة الموضوع : 0000 / 00 / 00
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29