• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم / المكتبة .
              • الكتاب : الميزان في تفسير القرآن ( الجزء الرابع ) ، تأليف : العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي (قده) .
                    • الموضوع : من ص ( 93 ـ 194 ) .

من ص ( 93 ـ 194 )

 

كلام في المرابطة في المجتمع الاسلامي

 1 - الانسان والاجتماع كون النوع الانساني نوعا اجتماعيا لا يحتاج في إثباته إلى كثير بحث فكل فرد من هذا النوع مفطور على ذلك ولم يزل الانسان يعيش في حال الاجتماع على ما يحكيه التاريخ والآثار المشهودة الحاكية لاقدم العهود التي كان هذا النوع يعيش فيها ويحكم على هذه الارض. وقد أنبأ عنه القرآن أحسن إنباء في آيات كثيرة كقوله تعالى يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا الآية " الحجرات - 13 " وقال تعالى نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحيوة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا: الزخرف - 32 وقال تعالى بعضكم من بعض: آل عمران - 195 وقال تعالى وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا: الفرقان - 54 إلى غير ذلك (1). 2 - الانسان ونموه في اجتماعه الاجتماع الانساني كسائر الخواص الروحية الانسانية وما يرتبط بها لم يوجد حين وجد تاما كاملا لا يقبل النماء والزيادة بل هو كسائر الامور الروحية الادراكية الانسانية لم يزل يتكامل بتكامل الانسان في كمالاته المادية والمعنوية وعلى الحقيقة لم يكن من المتوقع أن يستثنى هذه الخاصة من بين جميع الخواص الانسانية فتظهر أول ظهورها تامة كاملة أتم ما يكون وأكمله بل هي كسائر الخواص الانسانية التى لها ارتباط بقوتى العلم والارادة تدريجية الكمال في الانسان. والذى يظهر من التأمل في حال هذا النوع أن أول ما ظهر من الاجتماع فيه

_________________________________

(1) وليرجع في دلالة كل واحدة من الآيات إلى المحل المختص بها من هذا التفسير.

[ 93 ]

الاجتماع المنزلي بالازدواج لكون عامله الطبيعي وهو جهاز التناسل أقوى عوامل الاجتماع لعدم تحققه إلا بأزيد من فرد واحد أصلا بخلاف مثل التغذى وغيره ثم ظهرت منه الخاصة التى سميناها في المباحث المتقدمة من هذا الكتاب بالاستخدام وهو توسيط الانسان غيره في سبيل رفع حوائجه ببسط سلطته وتحميل إرادته عليه ثم برز ذلك في صورة الرئاسة كرئيس المنزل ورئيس العشيرة ورئيس القبيلة ورئيس الامة وبالطبع كان المقدم المتعين من بين العدة أولا أقواهم وأشجعهم ثم أشجعهم وأكثرهم مالا وولدا وهكذا حتى ينتهي إلى أعلمهم بفنون الحكومة والسياسة وهذا هو السبب الابتدائي لظهور الوثنية وقيامها على ساقها حتى اليوم وسنستوفي البحث عنها فيما سيأتي إن شاء الله العزيز. وخاصة الاجتماع بتمام أنواعها المنزلى وغيره وإن لم تفارق الانسانية في هذه الادوار ولو برهة إلا أنها كانت غير مشعور بها للانسان تفصيلا بل كانت تعيش وتنمو بتبع الخواص الاخرى المعنى بها للانسان كالاستخدام والدفاع ونحو ذلك. والقرآن الكريم يخبر أن أول ما نبه الانسان بالاجتماع تفصيلا واعتنى بحفظه استقلالا نبهته به النبوة قال تعالى وما كان الناس إلا امة واحدة فاختلفوا: يونس - 19 وقال كان الناس امة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه: البقرة - 213 حيث ينبئ أن الانسان في أقدم عهوده كان امة واحدة ساذجة لا اختلاف بينهم حتى ظهرت الاختلافات وبانت المشاجرات فبعث الله الانبياء وأنزل معهم الكتاب ليرفع به الاختلاف ويردهم إلى وحدة الاجتماع محفوظة بالقوانين المشرعة. وقال تعالى شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذى أوحينا اليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه: الشورى - 13 فأنبأ أن رفع الاختلاف من بين الناس وإيجاد الاتحاد في كلمتهم إنما كان في صورة الدعوة إلى إقامة الدين وعدم التفرق فيه فالدين كان يضمن اجتماعهم الصالح. والآية كما ترى تحكي هذه الدعوة دعوة الاجتماع والاتحاد عن نوح عليه السلام وهو أقدم الانبياء اولى الشريعة والكتاب ثم عن إبراهيم ثم عن موسى ثم عيسى عليهم السلام

[ 94 ]

وقد كان في شريعة نوح وإبراهيم النزر اليسير من الاحكام وأوسع هؤلاء الاربعة شريعة موسى وتتبعه شريعة عيسى على ما يخبر به القرآن وهو ظاهر الاناجيل وليس في شريعة موسى على ما قيل إلا ستمائة حكم تقريبا. فلم تبدء الدعوة إلى الاجتماع دعوة مستقلة صريحة إلا من ناحية النبوة في قالب الدين كما يصرح به القرآن والتاريخ يصدقه على ما سيجئ. 4 - الاسلام وعنايته بالاجتماع لا ريب أن الاسلام هو الدين الوحيد الذي أسس بنيانه على الاجتماع صريحا ولم يهمل أمر الاجتماع في شأن من شؤونه فانظر إن أردت زيادة تبصر في ذلك إلى سعة الاعمال الانسانية التي تعجز عن إحصائها الفكرة وإلى تشعبها إلى أجناسها وأنواعها وأصنافها ثم انظر إلى إحصاء هذه الشريعة الالهية لها وإحاطتها بها وبسط أحكامها عليها ترى عجبا ثم انظر إلى تقليبه ذلك كله في قالب الاجتماع ترى أنه أنفذ روح الاجتماع فيها غاية ما يمكن من الانفاذ. ثم خذ في مقايسة ما وجدته بسائر الشرائع الحقة التي يعتنى بها القرآن وهي شرائع نوح وإبراهيم وموسى وعيسى حتى تعاين النسبة وتعرف المنزلة. وأما ما لا يعتنى به القرآن الكريم من الشرائع كأديان الوثنية والصابئة والمانوية والثنوية وغيرها فالامر فيها أظهر وأجلى. وأما الامم المتمدنة وغيرها فالتاريخ لا يذكر من أمرها إلا أنها كانت تتبع ما ورثته من أقدم عهود الانسانية من استتباع الاجتماع بالاستخدام واجتماع الافراد تحت جامع حكومة الاستبداد والسلطة الملوكية فكان الاجتماع القومي والوطني والاقليمى يعيش تحت راية الملك والرئاسة ويهتدي بهداية عوامل الوراثة والمكان وغيرهما من غير أن يعتنى امة من هذه الامم عناية مستقلة بأمره وتجعله موردا للبحث والعمل حتى الامم المعظمة التي كانت لها سيادة الدنيا حينما شرقت شارقة الدين وأخذت في إشراقها وإنارتها أعني امبراطورية الروم والفرس فإنها لم تكن إلا قيصرية وكسروية تجتمع اممها تحت لواء الملك والسلطنة ويتبعها الاجتماع في رشده ونموه ويمكث بمكثها. نعم يوجد فيما ورثوه أبحاث اجتماعية في مسفورات حكمائهم من أمثال سقراط

[ 95 ]

وأفلاطون وأرسطو وغيرهم إلا أنها كانت أوراقا وصحائف لا ترد مورد العمل، ومثلا ذهنية لا تنزل مرحلة العين والخارج والتاريخ الموروث أعدل شاهد على صدق ما ذكرناه. فأول نداءقرع سمع النوع الانساني ودعى به هذا النوع إلى الاعتناء بأمر الاجتماع بجعله موضوعا مستقلا خارجا عن زاوية الاهمال وحكم التبعية هو الذي نادى به صادع الاسلام عليه أفضل الصلاة والسلام، فدعى الناس بما نزل عليه من آيات ربه إلى سعادة الحياة وطيب العيش مجتمعين قال تعالى: وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم " الانعام: 153 " وقال: واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا إلى أن قال: ولتكن منكم امة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر (يشير إلى حفظ المجتمع عن التفرق والانشعاب) واولئك هم المفلحون ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات " آل عمران: 105 " وقال: إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شئ " الانعام: 159 " إلى غير ذلك من الآيات المطلقة الداعية ألى أصل الاجتماع والاتحاد. وقال تعالى: إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم " الحجرات: 10 " وقال ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم " الانفال: 46 " وقال: وتعاونوا على البر والتقوى " المائدة: 2 " وقال ولتكن منكم امة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر " آل عمران: 104 " إلى غير ذلك من الآيات الآمرة ببناء المجتمع الاسلامي على الاتفاق والاتحاد في حيازة منافعها ومزاياها المعنوية والمادية والدفاع عنه على ما سنوضحه بعض الايضاح. 4 - اعتبار الاسلام رابطة الفرد والمجتمع الصنع والايجاد يجعل أولا أجزاءا ابتدائية لها آثار وخواص ثم يركبها ويؤلف بينها على ما فيها من جهات البينونة فيستفيد منها فوائد جديدة مضافة إلى ما للاجزاء من الفوائد المشهودة فالانسان مثلا له أجزاء وأبعاض وأعضاء وقوى لها فوائد متفرقة مادية وروحية ربما ائتلفت فقويت وعظمت كثقل كل واحد من الاجزاء وثقل المجموع والتمكن والانصراف من جهة إلى جهة وغير ذلك وربما لم تأتلف وبقيت على حال التبائن والتفرق كالسمع والبصر والذوق والارادة والحركة إلا أنها جميعا من جهة الوحدة في التركيب تحت سيطرة

[ 96 ]

الواحد الحادث الذي هو الانسان وعند ذلك يوجد من الفوائد ما لا يوجد عند كل واحد من أجزائه وهي فوائد جمة من قبيل الفعل والانفعال والفوائد الروحية والمادية ومن فوائده حصول كثرة عجيبة في تلك الفوائد في عين الوحدة فإن المادة الانسانية كالنطفة مثلا إذا استكملت نشأتها قدرت على إفراز شئ من المادة من نفسها وتربيتها إنسانا تاما آخر يفعل نظائر ما كان يفعله أصله ومحتده من الافعال المادية والروحية فأفراد الانسان على كثرتها إنسان وهو واحد وأفعالها كثيرة عددا واحدة نوعا وهي تجتمع وتأتلف بمنزلة الماء يقسم إلى آنية فهى مياه كثيرة ذو نوع واحد وهي ذات خواص كثيرة نوعها واحد وكلما جمعت المياه في مكان واحد قويت الخاصة وعظم الاثر. وقد اعتبر الاسلام في تربية أفراد هذا النوع وهدايتها إلى سعادتها الحقيقية هذا المعنى الحقيقي فيها ولا مناص من اعتباره قال تعالى وهو الذى خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا: الفرقان - 54 وقال يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وانثى: الحجرات - 13 وقال بعضكم من بعض: آل عمران - 195. وهذه الرابطة الحقيقية بين الشخص والمجتمع لا محالة تؤدى إلى كينونة اخرى في المجتمع حسب ما يمده الاشخاص من وجودهم وقواهم وخواصهم وآثارهم فيتكون في المجتمع سنخ ما للفرد من الوجود وخواص الوجود وهو ظاهر مشهود ولذلك اعتبر القرآن للامة وجودا وأجلا وكتابا وشعورا وفهما وعملا وطاعة ومعصية فقال ولكل امة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون: الاعراف - 34 وقال كل امة تدعى إلى كتابها: الجاثية - 28 وقال زينا لكل امة عملهم: الانعام - 108 وقال منهم امة مقتصدة: المائدة - 66 وقال امة قائمة يتلون آيات الله: آل عمران - 113 وقال وهمت كل امة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب: غافر - 5 وقال ولكل امة رسول فإذا جاء رسولهم قضى بينهم بالقسط: يونس - 47. ومن هنا ما نرى أن القرآن يعتنى بتواريخ الامم كاعتنائه بقصص الاشخاص بل أكثر حينما لم يتداول في التواريخ إلا ضبط أحوال المشاهير من الملوك والعظماء ولم يشتغل المؤرخون بتواريخ الامم والمجتمعات إلا بعد نزول القرآن فاشتغل بها بعض الاشتغال آحاد منهم كالمسعودي وابن خلدون حتى ظهر التحول الاخير في التاريخ النقلي

[ 97 ]

بتبديل الاشخاص أمما وأول من سنه على ما يقال " اغوست كنت الفرنسي المتوفى سنة 1857 ميلادية. وبالجملة لازم ذلك على ما مرت الاشارة إليه تكون قوى وخواص اجتماعية قوية تقهر القوى والخواص الفردية عند التعارض والتضاد على أن الحس والتجربة يشهدان بذلك في القوى والخواص الفاعلة والمنفعلة معا فهمة الجماعة وإرادتها في أمر كما في موارد الغوغاءات وفي الهجمات الاجتماعية لا تقوم لها إرادة معارضة ولا مضادة من واحد من أشخاصها وأجزائها فلا مفر للجزء من أن يتبع كله ويجري على ما يجري عليه حتى أنه يسلب الشعور والفكر من أفراده وأجزائه وكذا الخوف العام والدهشة العامة كما في موارد الانهزام وانسلاب الامن والزلزلة والقحط والوباء أو ما هو دونها كالرسومات المتعارفة والازياء القومية ونحوهما تضطر الفرد على الاتباع وتسلب عنه قوة الادراك والفكر. وهذا هو الملاك في اهتمام الاسلام بشأن الاجتماع ذلك الاهتمام الذي لا نجد ولن نجد ما يماثله في واحد من الاديان الاخر ولا في سنن الملل المتمدنة ولعلك لا تكاد تصدق ذلك فإن تربية الاخلاق والغرائز في الفرد وهو الاصل في وجود المجتمع لا تكاد تنجح مع كينونة الاخلاق والغرائز المعارضة والمضادة القوية القاهرة في المجتمع إلا يسيرا لا قدر له عند القياس والتقدير. فوضع أهم أحكامه وشرائعه كالحج والصلاة والجهاد والانفاق وبالجملة التقوى الديني على أساس الاجتماع وحافظ على ذلك مضافا إلى قوى الحكومة الاسلامية الحافظة لشعائر الدين العامة وحدودها ومضافا إلى فريضة الدعوة إلى الخير والامر بالمعروف والنهي عن المنكر العامة لجميع الامة بجعل غرض المجتمع الاسلامي - وكل مجتمع لا يستغني عن غرض مشترك - هي السعادة الحقيقية والقرب والمنزلة عند الله وهذا رقيب باطني لا يخفى عليه ما في سريرة الانسان وسره - فضلا عما في ظاهره - وإن خفي على طائفة الدعاة وجماعة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وهذا هو الذي ذكرنا أن الاسلام تفوق سنة اهتمامه بشأن الاجتماع سائر السنن والطرائق.

[ 98 ]

5 - هل تقبل سنة الاسلام الاجتماعية الاجراء والبقاء ؟ ولعلك تقول لو كان ما ذكر من كون نظر الاسلام في تكوين المجتمع الصالح أرقي بناءا وأتقن أساسا حتى من المجتمعات التي كونتها الملل المتمدنة المترقية حقا فما باله لم يقبل الاجراء إلا برهة يسيرة ثم لم يملك نفسه دون أن تبدل قيصرية وكسروية ؟ وتحول إمبراطورية أفجع وأشنع أعمالا مما كان قبله بخلاف المدنية الغربية التي تستديم البقاء. وهذا هو الدليل على كون مدنيتهم أرقي وسنتهم في الاجتماع أتقن وأشد استحكاما وقد وضعوا سنتهم الاجتماعية وقوانينهم الدائرة على أساس إرادة الامة واقتراح الطباع والميول ثم اعتبروا فيها إرادة الاكثر واقتراحهم لاستحالة اجتماع الكل بحسب العادة إرادة وغلبة الاكثر سنة جارية في الطبيعة مشهودة فإنا نجد كلا من العلل المادية والاسباب الطبيعية مؤثرة على الاكثر لا على الدوام وكذا العوامل المختلفة المتنازعة إنما يؤثر منها الاكثر دون الكل ودون الاقل فمن الحرى أن يبنى هيكل الاجتماع بحسب الغرض وبحسب السنن والقوانين الجارية فيه على إرادة الاكثر وأما فرضية الدين فليست في الدنيا الحاضرة إلا أمنية لا تتجاوز مرحلة الفرض ومثالا عقليا غير جائز النيل. وقد ضمنت المدنية الحاضرة فيما ظهرت فيه من الممالك قوة المجتمع وسعادتها وتهذب الافراد وطهارتهم من الرذائل وهي الامور التي لا يرتضيها المجتمع كالكذب والخيانة والظلم والجفاء والجفاف ونحو ذلك. وهذا الذي أوردناه محصل ما يختلج في صدور جمع من باحثينا معاشر الشرقيين وخاصة المحصلين من فضلائنا المتفكرين في المباحث الاجتماعية والنفسية غير أنهم وردوا هذا البحث من غير مورده فاختلط عليهم حق النظر ولتوضيح ذلك نقول أما قولهم إن السنة الاجتماعية الاسلامية غير قابلة الجريان في الدنيا على خلاف سنن المدنية الحاضرة في جو الشرائط الموجودة ومعناه أن الاوضاع الحاضرة في الدنيا لا تلائم الاحكام المشرعة في الاسلام فهو مسلم لكنه لا ينتج شيئا فإن جميع السنن الدائرة في الجامعة الانسانية إنما حدثت بعد ما لم تكن وظهرت في حين لم تكن عامة الاوضاع والشرائط الموجودة إلا مناقضة له طاردة إياه فانتهضت ونازعت السنن السابقة المستمرة المتعرقة وربما اضطهدت وانهزمت في أول نهضتها ثم عادت ثانيا وثالثا

[ 99 ]

حتى غلبت وتمكنت وملكت سيطرتها وربما بادت وانقرضت إذ لم يساعدها العوامل والشرائط بعد والتاريخ يشهد (1) بذلك في جميع السنن الدينية والدنيوية حتى في مثل الديموقراطية والاشتراك وإلى مثله يشير قوله تعالى قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الارض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين: آل عمران - 137 يشير إلى أن السنة التي تصاحب تكذيب آيات الله لا تنتهي إلى عاقبة حسنة محمودة. فمجرد عدم انطباق سنة من السنن على الوضع الانساني الحاضر ليس يكشف عن بطلانه وفساده بل هو من جملة السنن الطبيعية الجارية في العالم لتتميم كينونة الحوادث الجديدة إثر الفعل والانفعال وتنازع العوامل المختلفة. والاسلام كسائر السنن من جهة النظر الطبيعي والاجتماعي وليس بمستثنى من هذه الكلية فحاله من حيث التقدم والتأخر والاستظهار بالعوامل والشرائط حال سائر السنن وليس حال الاسلام اليوم وقد تمكن في نفوس ما يزيد على أربعمائة مليون من أفراد البشر ونشب في قلوبهم بأضعف من حاله في الدنيا زمان دعوة نوح وإبراهيم ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم وقد قامت دعوة كل منهم بنفس واحدة ولم تكن تعرف الدنيا وقتئذ غير الفساد ثم انبسطت وتعرقت وعاشت واتصل بعضها ببعض فلم ينقطع حتى اليوم. وقد قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالدعوة ولم يكن معه من يستظهر به يومئذ إلا رجل وامرأة ثم لم يزل يلحق بهم واحد بعد واحد واليوم يوم العسرة كل العسرة حتى أتاهم نصر الله فتشكلوا مجتمعا صالحا ذا أفراد يغلب عليهم الصلاح والتقوى ومكثوا برهة على الصلاح الاجتماعي حتى كان من أمر الفتن بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما كان. وهذا الانموذج اليسير على قصر عمره وضيق نطاقه لم يلبث حتى انبسط في أقل

_________________________________

(1) ومن أوضح الشواهد أن السنة الديمقراطية بعد الحرب العالمية الاولى (وهي اليوم السنة العالمية المرضية الوحيدة) تحولت في روسيا إلى الشيوعية والحكومة الاشتراكية ثم لحق لها بعد الحرب العالمية الثانية ممالك الاروبا الشرقية ومملكة الصين فخسرت بذلك صفقة الديموقراطية فيما يقرب من نصف المجتمع البشري. وقد أعلنت المجتمعات الشيوعية قبل سنة تقريبا أن قائدها الفقيد " ستالين " كان قد حرف مدى حكومته وهو ثلاثون سنة تقريبا بعد حكومة لينين الحكومة الاشتراكية إلى الحكومة الفردية الاستبدادية وحتى اليوم لا تزال تؤمن به طائفة بعد الكفر وترتد عنها طائفة بعد الايمان وهي تطوى وتبسط وهناك نماذج وامثلة اخرى كثيرة في التاريخ. (*)

[ 100 ]

من نصف قرن على مشارق الارض ومغاربها وحول التاريخ تحويلا جوهريا يشاهد آثاره الهامة إلى يومنا وستدوم ثم تدوم. ولا يستطيع أن يستنكف الابحاث الاجتماعية والنفسية في التاريخ النظري عن الاعتراف بأن المنشأ القريب والعامل التام للتحول المعاصر المشهود في الدنيا هو ظهور السنة الاسلامية وطلوعها ولم يهمل جل الباحثين من اوربا استيفاء البحث عن تأثيرها في جامعة الانسان إلا لعصبية دينية أو علل سياسية وكيف يسع لباحث خبير لو أنصف النظر أن يسمي النهضة المدنية الحديثة نهضة مسيحية ويعد المسيح عليه السلام قائدها وحامل لوائها والمسيح يصرح (1) بأنه إنما يهتم بأمر الروح ولا يشتغل بأمر الجسم ولا يتعرض لشأن الدولة والسياسة ؟ وهو ذا الاسلام يدعو إلى الاجتماع والتألف ويتصرف في جميع شؤون المجتمع الانساني وأفراده من غير استثناء فهل هذا الصفح والاغماض منهم إلا لاطفاء نور الاسلام (ويأبى الله إلا أن يتم نوره) وإخماد ناره عن القلوب بغيا وعدوا حتى يعود جنسية لا أثر لها إلا أثر الانسال المنشعبة. وبالجملة قد أثبت الاسلام صلوحه لهداية الناس إلى سعادتهم وطيب حياتهم وما هذا شأنه لا يسمى فرضية غير قابلة الانطباق على الحياة الانسانية ولا مأيوسا من ولاية أمر الدنيا يوما (مع كون مقصده سعادة الانسان الحقيقية) وقد تقدم في تفسير قوله كان الناس أمة واحدة: البقرة - 213 أن البحث العميق في أحوال الموجودات الكونية يؤدي إلى أن النوع الانساني سيبلغ غايته وينال بغيته وهي كمال ظهور الاسلام بحقيقته في الدنيا وتوليه التام أمر المجتمع الانساني وقد وعده الله تعالى طبق هذه النظرية في كتابه العزيز قال فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون في الله لومة لائم: المائدة - 54 وقال وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الارض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا الآية: النور - 55 وقال أن الارض يرثها عبادي الصالحون الانبياء - 105 إلى غير ذلك من الآيات.

_________________________________

(1) راجع الجزء الثالث في تفسير آية 79 - 80 من سورة آل عمران. (*)

[ 101 ]

وهنا جهة اخرى أغفلها هؤلاء في بحثهم وهي أن الاجتماع الاسلامي شعاره الوحيد هو اتباع الحق في النظر والعمل والاجتماع المدني الحاضر شعاره اتباع ما يراه ويريده الاكثر وهذان الشعاران يوجبان اختلاف الغاية في المجتمع المتكون فغاية الاجتماع الاسلامي السعادة الحقيقية العقلية بمعنى أن يأخذ الانسان بالاعتدال في مقتضيات قواه فيعطي للجسم مشتهياته مقدار ما لا يعوقه عن معرفة الله من طريق العبودية بل يكون مقدمة توصل إليها وفيه سعادة الانسان بسعادة جميع قواه وهي الراحة الكبرى (وإن كنا لا ندركها اليوم حق الادراك لاختلال التربية الاسلامية فينا) ولذلك وضع الاسلام قوانينه على أساس مراعاة جانب العقل المجبول على اتباع الحق وشدد في المنع عما يفسد العقل السليم وألقى ضمان إجراء الجميع من الاعمال والاخلاق والمعارف الاصلية إلى عهدة المجتمع مضافا إلى ما تحتفظ عليه الحكومة والولاية الاسلامية من إجراء السياسات والحدود وغيرها وهذا على أي حال لا يوافق طباع العامة من الناس ويدفعه هذا الانغمار العجيب في الاهواء والاماني الذي نشاهده من كافة المترفين والمعدمين ويسلب حريتهم في الاستلذاذ والتلهي والسبعية والافتراس إلا بعد مجاهدة شديدة في نشر الدعوة وبسط التربية على حد سائر الامور الراقية التي يحتاج الانسان في التلبس بها إلى همة قاطعة وتدرب كاف وتحفظ على ذلك مستدام. واما غاية الاجتماع المدني الحاضر فهي التمتع من المادة ومن الواضح أن هذه تستتبع حياة إحساسية تتبع ما يميل إليه الطبع سواء وافق ما هو الحق عند العقل أو لم يوافق بل إنما يتبع العقل فيما لا يخالف غايته وغرضه. ولذلك كانت القوانين تتبع في وضعها وإجرائها ما يستدعيه هوى أكثرية المجتمع وميول طباعهم وينحصر ضمان الاجراء في مواد القانون المتعلقة بالاعمال وأما الاخلاق والمعارف الاصلية فلا ضامن لاجرائها بل الناس في التلبس بها وتبعيتها وعدمه إلا أن تزاحم القانون في مسيره فتمنع حينئذ. ولازم ذلك أن يعتاد المجتمع الذي شأنه ذلك بما يوافق هواه من رذائل الشهوة والغضب فيستحسن كثيرا مما كان يستقبحه الدين وأن يسترسل باللعب بفضائل الاخلاق والمعارف العالية مستظهرا بالحرية القانونية. ولازم هذا اللازم أن يتحول نوع الفكرة عن المجرى العقلي إلى المجرى الاحساسي

[ 102 ]

العاطفي فربما كان الفجور والفسق في مجرى العقل تقوى في مجرى الميول والاحساسات وسمي فتوة وبشرا وحسن خلق كمعظم ما يجري في اوربا بين الشبان وبين الرجال والنساء المحصنات أو الابكار وبين النساء والكلاب وبين الرجال وأولادهم ومحارمهم وما يجري في الاحتفالات ومجالس الرقص وغير ذلك مما ينقبض عن ذكره لسان المتأدب بأدب الدين. وربما كان عاديات الطريق الديني غرائب وعجائب مضحكة عندهم وبالعكس كل ذلك لاختلاف نوع الفكرة والادراك باختلاف الطريق ولا يستفاد في هذه السنن الاحساسية من التعقل كما عرفت إلا بمقدار ما يسوى به الطريق إلى التمتع والتلذذ فهو الغاية الوحيدة التي لا يعارضها شئ ولا يمنع منها شئ إلا في صورة المعارضة بمثلها حتى إنك تجد بين مشروعات القوانين الدائرة أمثال الانتحار ودئل وغيرهما فللنفس ما تريده وتهويه إلا أن يزاحم ما يريده ويهواه المجتمع. إذا تأملت هذا الاختلاف تبين لك وجه أوفقية سنة المجتمع الغربي لمذاق الجامعة البشرية دون سنة المجتمع الديني غير أنه يجب أن يتذكر أن سنة المدنية الغربية وحدها ليست هي الموافقة لطباع الناس حتى تترجح بذلك وحدها بل جميع السنن المعمولة الدائرة في الدنيا بين أهلها من أقدم أعصار الانسانية إلى عصرنا هذا من سنن البداوة والحضارة تشترك في أن الناس يرجحونها على الدين الداعي إلى الحق في أول ما يعرض عليهم لخضوعهم للوثنية المادية. ولو تأملت حق التأمل وجدت هذه الحضارة الحاضرة ليست إلا مؤلفة من سنن الوثنية الاولى غير أنها تحولت من حال الفردية إلى حال الاجتماع ومن مرحلة السذاجة إلى مرحلة الدقة الفنية. والذى ذكرناه من بناء السنة الاسلامية على اتباع الحق دون موافقة الطبع من أوضح الواضحات في بيانات القرآن قال تعالى هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق: التوبة - 33 وقال تعالى والله يقضي بالحق: المؤمن - 20 وقال في وصف المؤمنين وتواصوا بالحق: العصر - 3 وقال لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون: الزخرف - 78 فاعترف بأن الحق لا يوافق طباع الاكثرين وأهواءهم ثم رد لزوم موافقة أهواء الاكثرية بأنه يؤول إلى الفساد فقال بل جاءهم بالحق

[ 103 ]

وأكثرهم للحق كارهون ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والارض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون: المؤمنون - 71 ولقد صدق جريان الحوادث وتراكم الفساد يوما فيوما ما بينه تعالى في هذه الآية وقال تعالى فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون: يونس - 32 والآيات في هذا المعنى وما يقرب منه كثيرة جدا وإن شئت زيادة تبصر فيه فراجع سورة يونس فقد كرر فيه ذكر الحق بضعا وعشرين مرة. و أما قولهم إن اتباع الاكثر سنة جارية في الطبيعة فلا ريب أن الطبيعة تتبع الاكثر في آثارها إلا أنها ليست بحيث تبطل أو تعارض وجوب اتباع الحق فإنها نفسها بعض مصاديق الحق فكيف تبطل نفسها توضيح ذلك يحتاج إلى بيان امور أحدها أن الامور الخارجية التي هي اصول عقائد الانسان العلمية والعملية تتبع في تكونها وأقسام تحولها نظام العلية والمعلولية وهو نظام دائم ثابت لا يقبل الاستثناء أطبق على ذلك المحصلون من أهل العلم والنظر وشهد به القرآن على ما مر (1) فالجريان الخارجي لا يتخلف عن الدوام والثبات حتى أن الحوادث الاكثرية الوقوع التي هي قياسية هي في أنها أكثرية دائمة ثابتة، مثلا النار التي تفعل السخونة غالبا بالقياس إلى جميع مواردها " سخونتها الغالبية " أثر دائم لها وهكذا وهذا هو الحق. والثاني أن الانسان بحسب الفطرة يتبع ما وجده أمرا واقعيا خارجيا بنحو فهو يتبع الحق بحسب الفطرة حتى أن من ينكر وجود العلم الجازم إذا القي إليه قول لا يجد من نفسه التردد فيه خضع له بالقبول. والثالث: أن الحق كما عرفت هو الامر الخارجي الذي يخضع له الانسان في اعتقاده أو يتبعه في عمله وأما نظر الانسان وإدراكه فإنما هو وسيلة يتوسل بها إليه كالمرآة بالنسبة إلى المرئي. إذا عرفت هذه الامور تبين لك أن الحقية وهي دوام الوقوع أو أكثرية الوقوع

_________________________________

(1) في الكلام على الاعجاز في الجزء الاول من الكتاب. (*)

[ 104 ]

في الطبيعة الراجعة إلى الدوام والثبات أيضا إنما هي صفة الخارج الواقع وقوعا دائميا أو أكثريا دون العلم والادراك وبعبارة اخرى هي صفة الامر المعلوم لا صفة العلم فالوقوع الدائمي والاكثري أيضا بوجه من الحق وأما آراء الاكثرين وأنظارهم واعتقاداتهم في مقابل الاقلين فليست بحق دائما بل ربما كانت حقا إذا طابقت الواقع وربما لم تكن إذا لم تطابق وحينئذ فلا ينبغي أن يخضع لها الانسان ولا أنه يخضع لها لو تنبه للواقع فإنك إذا أيقنت بأمر ثم خالفك جميع الناس فيه لم تخضع بالطبع لنظرهم وإن اتبعتهم فيه ظاهرا فإنما تتبعهم لخوف أو حياء أو عامل آخر لا لانه حق واجب الاتباع في نفسه ومن أحسن البيان في أن رأي الاكثر ونظرهم لا يجب أن يكون حقا واجب الاتباع قوله تعالى بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون: المؤمنون - 70 فلو كان كل ما يراه الاكثر حقا لم يمكن أن يكرهوا الحق ويعارضوه. وبهذا البيان يظهر فساد بناء اتباع الاكثرية على سنة الطبيعة فإن هذه السنة جارية في الخارج الذي يتعلق به العلم دون نفس العلم والفكر والذي يتبعه الانسان من هذه السنة في إرادته وحركاته إنما هو ما في الخارج من أكثرية الوقوع لا ما اعتقده الاكثرون أعني أنه يبني أفعاله وأعماله على الصلاح الاكثري وعليه جرى القرآن في حكم تشريعاته ومصالحها قال تعالى ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون: المائدة - 6 وقال تعالى كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون: البقرة - 183 إلى غير ذلك من الآيات المشتملة على ملاكات غالبية الوقوع للاحكام المشرعة. وأما قولهم إن المدنية الحاضرة سمحت للممالك المترقية سعادة المجتمع وهذب الافراد وطهرهم عن الرذائل التي لا يرتضيها المجتمع فكلام غير خال من الخلط والاشتباه. وكأن مرادهم من السعادة الاجتماعية تفوق المجتمع في عدتها وقوتها وتعاليها في استفادتها من المنابع المادية وقد عرفت كرارا أن الاسلام لا يعد ذلك سعادة والبحث البرهاني أيضا يؤيده بل السعادة الانسانية أمر مؤلف من سعادة الروح والبدن وهي تنعم الانسان من النعم المادية وتحليه بفضائل الاخلاق والمعارف الحقة الالهية وهي التي تضمن سعادته في الحياة الدنيا والحياة الاخرى وأما الانغمار في لذائذ المادة مع إهمال سعادة الروح فليس عنده إلا شقاء.

[ 105 ]

وأما استعجابهم بما يرون من الصدق والصفاء والامانة والبشر وغير ذلك فيما بين أفراد الملل المترقية فقد اختلط عليهم حقيقة الامر فيه وذلك أن جل المتفكرين من باحثينا معاشر الشرقيين لا يقدرون على التفكر الاجتماعي وإنما يتفكرون تفكرا فرديا فالذي يراه الواحد منا نصب العين أنه موجود إنساني مستقل عن كل الاشياء غير مرتبط بها ارتباطا تبطل استقلاله الوجودي مع أن الحق خلافه ثم لا يتفكر في حياته إلا لجلب المنافع إلى نفسه ودفع المضار عن نفسه فلا يشتغل إلا بشأن نفسه وهو التفكر الفردي ويستتبع ذلك أن يقيس غيره على نفسه فيقضي فيه بما يقضي على هذا النحو من الاستقلال. وهذا القضاء إن صح فإنما يصح فيمن يجرى في تفكره هذا المجرى وأما من يتفكر تفكرا اجتماعيا ليس نصب عينيه إلا انه جزء غير منفك ولا مستقل عن المجتمع وأن منافعه جزء من منافع مجتمعه يرى خير المجتمع خير نفسه وشره شر نفسه وكل وصف وحال له وصفا وحالا لنفسه فهذا الانسان يتفكر نحوا آخر من التفكر ولا يشتغل في الارتباط بغيره إلا بمن هو خارج عن مجتمعه وأما اشتغاله بأجزاء مجتمعه فلا يهتم به ولا يقدره شيئا. واستوضح ذلك بما نورده من المثال الانسان مجموع مؤلف من أعضاء وقوى عديدة تجتمع الجميع نوع اجتماع يعطيها وحدة حقيقية نسميها الانسانية يوجب ذلك استهلاك الجميع ذاتا وفعلا تحت استقلاله فالعين والاذن واليد والرجل تبصر وتسمع وتبطش وتمشي للانسان وإنما يلتذ كل بفعله في ضمن التذاذ الانسان به وكل واحدة من هذه الاعضاء والقوى همها أن ترتبط بالخارج الذى يريد الانسان الواحد الارتباط به بخير أو شر فالعين أو الاذن أو اليد أو الرجل إنما تريد الاحسان أو الاساءة إلى من يريد الانسان الاحسان أو الاساءة إليه من الناس مثلا وأما معاملة بعضها مع بعض والجميع تحت لواء الانسانية الواحدة فقلما يتفق أن يسئ بعضها إلى بعض أو يتضرر بعضها ببعض. فهذا حال أجزاء الانسان وهي تسير سيرا واحدا اجتماعيا وفي حكمه حال أفراد مجتمع إنساني إذا تفكروا تفكرا اجتماعيا فصلاحهم وتقواهم أو فسادهم وإجرامهم وإحسانهم وإسائتهم إنما هي ما لمجتمعهم من هذه الاوصاف إذا أخذ ذا شخصية واحدة. وهكذا صنع القرآن في قضائه على الامم والاقوام التى ألجأتهم التعصبات المذهبية

[ 106 ]

أو القومية أن يتفكروا تفكرا اجتماعيا كاليهود والاعراب وعدة من الامم السالفة فتراه يؤاخذ اللاحقين بذنوب السابقين ويعاتب الحاضرين ويوبخهم بأعمال الغائبين والماضين كل ذلك لانه القضاء الحق فيمن يتفكر فكرا اجتماعيا وفي القرآن الكريم من هذا الباب آيات كثيرة لا حاجة إلى نقلها. نعم مقتضى الاخذ بالنصفة أن لا يضطهد حق الصالحين من الافراد بذلك إن وجدوا في مجتمع واحد فإنهم وإن عاشوا بينهم واختلطوا بهم إلا أن قلوبهم غير متقذرة بالفكر الفاسد والمرض المتبطن الفاشي في مثل هذا المجتمع وأشخاصهم كالاجزاء الزائدة في هيكله وبنيته وهكذا فعل القرآن في آيات العتاب العام فاستثنى الصلحاء والابرار. ويتبين مما ذكرنا أن القضاء بالصلاح والطلاح على أفراد المجتمعات المتمدنة الراقية على خلاف أفراد الامم الاخرى لا ينبغى أن يبنى على ما يظهر من معاشرتهم ومخالطتهم فيما بينهم وعيشتهم الداخلية بل بالبناء على شخصيتهم الاجتماعية البارزة في مماستها ومصاكتها سائر الامم الضعيفة ومخالطتها الحيوية سائر الشخصيات الاجتماعية في العالم. فهذه هي التى يجب أن تراعى وتعتبر في القضاء بصلاح المجتمع وطلاحه وسعادته وشقائه وعلى هذا المجرى يجب أن يجري باحثونا ثم إن شاؤوا فليستعجبوا وإن شاؤوا فليتعجبوا. ولعمري لو طالع المطالع المتأمل تاريخ حياتهم الاجتماعية من لدن النهضة الحديثة الاوروبية وتعمق فيما عاملوا به غيرهم من الامم والاجيال المسكينة الضعيفة لم يلبث دون أن يرى أن هذه المجتمعات التى يظهرون أنهم امتلؤوا رأفة ونصحا للبشر يفدون بالدماء والاموال في سبيل الخدمة لهذا النوع وإعطاء الحرية والاخذ بيد المظلوم المهضوم حقا وإلغاء سنة الاسترقاق والاسر يرى أنهم لا هم لهم إلا استعباد الامم الضعيفة مساكين الارض ما وجدوا إليه سبيلا بما وجدوا إليه من سبيل فيوما بالقهر ويوما بالاستعمار ويوما بالاستملاك ويوما بالقيمومة ويوما باسم حفظ المنافع المشتركة ويوما باسم الاعانة على حفظ الاستقلال ويوما باسم حفظ الصلح ودفع ما يهدده ويوما باسم الدفاع عن حقوق الطبقات المستأصلة المحرومة ويوما... ويوما....

[ 107 ]

والمجتمعات التي هذا شأنها لا ترتضي الفطرة الانسانية السليمة أن تصفها بالصلاح أو تذعن لها بالسعادة وإن اغمضت النظر عما يشخصه قضاء الدين وحكم الوحى والنبوة من معنى السعادة. وكيف ترضى الطبيعة الانسانية أن تجهز أفرادها بما تجهزها على السواء ثم تناقض نفسها فتعطي بعضا منهم عهدا أن يتملكوا الآخرين تملكا يبيح لهم دماءهم وأعراضهم وأموالهم ويسوى لهم الطريق إلى اللعب بمجامع حياتهم ووجودهم والتصرف في إدراكهم وإرادتهم بما لم يلقه ولا قاساه إنسان القرون الاولى والمعول في جميع ما نذكره تواريخ حياة هؤلاء الامم وما يقاسيه الجيل الحاضر من أيديهم فإن سمى ما عندهم سعادة وصلاحا فلتكن بمعنى التحكم وإطلاق المشية. 6 - بما ذا يتكون ويعيش الاجتماع الاسلامي ؟ لا ريب أن الاجتماع أي اجتماع كان إنما يتحقق ويحصل بوجود غاية واحدة مشتركة بين أفراده المتشتتة وهو الروح الواحدة السارية في جميع أطرافه التى تتحد بها نوع اتحاد وهذه الغاية والغرض في نوع الاجتماعات المتكونة غير الدينية إنما هي غاية الحياة الدنيوية للانسان لكن على نحو الاشتراك بين الافراد لا على نحو الانفراد وهي التمتع من مزايا الحياة المادية على نحو الاجتماع. والفرق بين التمتع الاجتماعي والانفرادي من حيث الخاصية أن الانسان لو استطاع أن يعيش وحده كان مطلق العنان في كل واحد من تمتعاته حيث لا معارض له ولا رقيب إلا ما قيد به بعض جهازاته بعضا فإنه لا يقدر أن يستنشق كل الهواء فإن الرئة لا تسعه وإن اشتهاه ولا يسعه أن يأكل من المواد الغذائية لا إلى حد فإن جهاز الهاضمة لا يتحمله فهذا حاله بقياس بعض قواه وأعضائه إلى بعض وأما بالنسبة إلى إنسان آخر مثله فأذ كان لا شريك له في ما يستفيد منه من المادة على الفرض فلا سبب هناك يقتضي تضييق ميدان عمله ولا تحديد فعل من أفعاله وعمل من أعماله. وهذا بخلاف الانسان الواقع في ظرف الاجتماع وساحته فإنه لو كان مطلق العنان في إرادته وأعماله لادى ذلك إلى التمانع والتزاحم الذي فيه فساد العيش وهلاك النوع وقد بينا ذلك في مباحث النبوة السابقة أو في بيان

[ 108 ]

وهذا هو السبب الوحيد الذي يدعو إلى حكومة القانون الجارى في المجتمع غير أن المجتمعات الهمجية لا تتنبه لوضعها عن فكر وروية وإنما يكون الآداب والسنن فيها المشاجرات والمنازعات المتوفرة بين أفرادها فتضطر الجميع إلى رعاية امور تحفظ مجتمعهم بعض الحفظ ولما لم تكن مبنية على أساس مستحكم كانت في معرض النقض والابطال تتغير سريعا وتنقرض ولكن المجتمعات المتمدنة تبنيه على أساس قويم بحسب درجاتهم في المدنية والحضارة فيرفعون به التضاد والتمانع الواقع بين الارادات وأعمال المجتمع بتعديلها بوضع حدود وقيود لها ثم ركز القدرة والقوة في مركز عليه ضمان إجراء ما ينطق به القانون. ومن هنا يظهر أولا أن القانون حقيقة هو ما تعدل به ارادات الناس وأعمالهم برفع التزاحم والتمانع من بينهما بتحديدها. وثانيا أن أفراد المجتمع الذي يحكم فيه القانون أحرار فيما وراءه كما هو مقتضى تجهز الانسان بالشعور والارادة بعد التعديل ولذا كانت القوانين الحاضرة لا تتعرض لامر المعارف الالهية والاخلاق وصار هذان المهمان يتصوران بصورة يصورهما بها القانون فيتصالحان ويتوافقان معه على ما هو حكم التبعية فيعودان عاجلا أو آجلا رسوما ظاهرية فاقدة للصفاء المعنوي ولذلك السبب أيضا ما نشاهده من لعب السياسة بالدين فيوما تقضى عليه وتدحضه ويوما تميل إليه فتبالغ في إعلاء كلمته ويوما تطوى عنه كشحا فتخليه وشأنه. وثالثا أن هذه الطريقة لا تخلو عن نقص فإن القانون وإن حمل ضمان إجرائه على القدرة التي ركزها في فرد أو أفراد لكن لا ضمان على إجرائه بالاخرة بمعنى أن منبع القدرة والسلطان لو مال عن الحق وحول سلطة النوع على النوع إلى سلطة شخصه على النوع وانقلبت الدائرة على القانون لم يكن هناك ما يقهر هذا القاهر فيحوله إلى مجراه العدل وعلى هذا القول شواهد كثيرة مما شاهدناه في زماننا هذا وهو زمان الثقافة والمدنية فضلا عما لا يحصى من الشواهد التاريخية وأضف إلى هذا النقص نقصا آخر وهو خفاء نقض القانون على القوة المجرية أحيانا أو خروجه عن حومة قدرته ولنرجع إلى أول الكلام. وبالجملة الاجتماعات المدنية توحدها الغاية الواحدة التي هي التمتع من مزايا الحياة.

[ 109 ]

الدنيا وهي السعادة عندهم لكن الاسلام لما كان يرى أن الحياة الانسانية أوسع مدارا من الحياة الدنيا المادية بل في مدار حياته الحياة الاخروية التي هي الحياة ويرى أن هذه الحياة لا تنفع فيها إلا المعارف الالهية التي تنحل بجملتها إلى التوحيد ويرى أن هذه المعارف لا تنحفظ إلا بمكارم الاخلاق وطهارة النفس من كل رذيلة ويرى أن هذه الاخلاق لا تتم ولا تكمل إلا بحياة اجتماعية صالحة معتمدة على عبادة الله سبحانه والخضوع لما تقتضيه ربوبيته ومعاملة الناس على أساس العدل الاجتماعي أخذ أعني الاسلام الغاية التي يتكون عليها المجتمع البشرى ويتوحد بها دين التوحيد ثم وضع القانون الذي وضعه على أساس التوحيد ولم يكتف فيه على تعديل الارادات والافعال فقط بل تممه بالعباديات وأضاف إليها المعارف الحقة والاخلاق الفاضلة. ثم جعل ضمان إجرائها في عهدة الحكومة الاسلامية أولا ثم في عهدة المجتمع ثانيا وذلك بالتربية الصالحة علما وعملا والامر بالمعروف والنهي عن المنكر. ومن أهم ما يشاهد في هذا الدين ارتباط جميع أجزائه ارتباطا يؤدي إلى الوحدة التامة بينها بمعنى أن روح التوحيد سارية في الاخلاق الكريمة التي يندب إليها هذا الدين وروح الاخلاق منتشرة في الاعمال التي يكلف بها أفراد المجتمع فالجميع من أجزاء الدين الاسلامي ترجع بالتحليل إلى التوحيد والتوحيد بالتركيب يصير هو الاخلاق والاعمال فلو نزل لكان هي ولو صعدت لكانت هو إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه. فان قلت ما اورد من النقص على القوانين المدنية فيما إذا عصت القوة المجرية عن إجرائها أو فيما يخفى عليها من الخلاف مثلا وارد بعينه على الاسلام وأوضح الدليل عليه ما نشاهده من ضعف الدين وزوال سيطرته على المجتمع الاسلامي وليس إلا لفقدانه من يحمل نواميسه على الناس يوما. قلت حقيقة القوانين العامة سواء كانت الهية أو بشرية ليست إلا صورا ذهنية في أذهان الناس وعلوما تحفظها الصدور وإنما ترد مورد العمل وتقع موقع الحس بالارادات الانسانية تتعلق بها فمن الواضح أن لو عصت الارادات لم توجد في الخارج ما تنطبق عليه القوانين وإنما الشأن فيما يحفظ به تعلق هذه الارادات بالوقوع

[ 110 ]

حتى تقوم القوانين على ساقها والقوانين المدنية لا تهتم بأزيد من تعليق الافعال بالارادات أعني إرادة الاكثرية ثم لم يهتموا بما تحفظ هذه الارادة فمهما كانت الارادة حية شاعرة فاعلة جرى بها القانون وإذا ماتت من جهة انحطاط يعرض لنفوس الناس وهرم يطرأ على بنية المجتمع أو كانت حية لكنها فقدت صفة الشعور والادراك لانغمار المجتمع في الملاهي وتوسعه في الاتراف والتمتع أو كانت حية شاعرة لكنها فقدت التأثير لظهور قوة مستبدة فائقة غالبة تقهر إرادتها إرادة الاكثرية وكذا في الحوادث التي لا سبيل للقوة المجرية على الوقوف عليها كالجنايات السرية أو لا سبيل لها إلى بسط سيطرتها عليها كالحوادث الخارجة عن منطقة نفوذها ففي جميع هذه الموارد لا تنال الامة امنيتها من جريان القانون وانحفاظ المجتمع عن التفاسد والتلاشى وعمدة الانشعابات الواقعة في الامم الاوربية بعد الحرب العالمية الكبرى الاولى والثانية من أحسن الامثلة في هذا الباب. وليس ذلك أعني انتقاض القوانين وتفاسد المجتمع وتلاشيه إلا لان المجتمع لم يهتم بالسبب الحافظ لارادات الامة على قوتها وسيطرتها وهي الاخلاق العالية إذ لا تستمد الارادة في بقائها واستدامة حياتها إلا من الخلق المناسب لها كما بين ذلك في علم النفس فلو لا استقرار السنة القائمة في المجتمع واعتماد القانون الجارى فيه على أساس قويم من الاخلاق العالية كانت كشجرة اجتثت من فوق الارض ما لها من قرار. واعتبر في ذلك ظهور الشيوعية فليست إلا من مواليد الديموقراطية أنتجها إتراف طبقة من طبقات المجتمع وحرمان آخرين فكان بعدا شاسعا بين نقطتي القساوة وفقد النصفة و السخط وتراكم الغيظ والحنق وكذا في الحرب العالمية التي وقعت مرة بعد مرة وهى تهدد الانسانية ثالثة وقد أفسدت الارض وأهلكت الحرث والنسل ولا عامل لها إلا غريزة الاستكبار والشره والطمع هذا. ولكن الاسلام بنى سنته الجارية وقوانينه الموضوعة على أساس الاخلاق وبالغ في تربية الناس عليها لكون القوانين الجارية في الاعمال في ضمانها وعلى عهدتها فهي مع الانسان في سره وعلانيته وخلوته وجلوته تؤدي وظيفتها وتعمل عملها أحسن مما يؤديه شرطى مراقب أو أي قوة تبذل عنايتها في حفظ النظم. نعم تعتني المعارف العمومية في هذه الممالك بتربية الناس على الاخلاق المحمودة

[ 111 ]

وتبذل جهدها في حض الناس وترغيبهم إليها لكن لا ينفعهم ذلك شيئا. أما أولا فلان المنشأ الوحيد لرذائل الاخلاق ليس إلا الاسراف والافراط في التمتع المادي والحرمان البالغ فيه وقد أعطت القوانين للناس الحرية التامة فيه فأمتعت بعضا وحرمت آخرين فهل الدعوة إلى فضائل الاخلاق والترغيب عليها إلا دعوة إلى المتناقضين أو طلبا للجمع بين الضدين ؟ على أن هؤلاء كما عرفت يفكرون تفكرا اجتماعيا ولا تزال مجتمعاتهم تبالغ في اضطهاد المجتمعات الضعيفة ودحض حقوقهم والتمتع بما في أيديهم واسترقاق نفوسهم والتوسع في التحكم عليهم ما قدروا والدعوة إلى الصلاح والتقوى مع هذه الخصيصة ليست إلا دعوة متناقضة لا تزال عقيمة. وأما ثانيا فلان الاخلاق الفاضلة أيضا تحتاج في ثباتها واستقرارها إلى ضامن يضمن حفظها وكلاءتها وليس الا التوحيد أعني القول بأن للعالم إلها واحدا ذا أسماء حسنى خلق الخلق لغاية تكميلهم و سعادتهم وهو يحب الخير والصلاح ويبغض الشر والفساد وسيجمع الجميع لفصل القضاء وتوفية الجزاء فيجازي المحسن بإحسانه والمسئ بإساءته ومن الواضح أن لو لا الاعتقاد بالمعاد لم يكن هناك سبب أصيل رادع عن اتباع الهوى والكف عن حظوظ النفس الطبيعية فانما الطبيعة الانسانية تريد وتشتهي مشتهيات نفسها لا ما ينتفع به غيرها كطبيعة الفرد الآخر إلا إذا رجع بنحو إلى مشتهى نفسها (أحسن التأمل فيه). ففيما كان للانسان مثلا تمتع في إماتة حق من حقوق الغير ولا رادع يردعه ولا مجازي يجازيه ولا لائم معاتب يلومه ويعاتبه فأي مانع يمنعه من اقتراف الخطيئة وارتكاب المظلمة وإن عظمت ما عظمت ؟ وأما ما يتوهم وكثيرا ما يخطي فيه الباحث من الروادع المختلفة كالتعلق بالوطن وحب النوع والثناء الجميل ونحو ذلك فانما هي عواطف قلبية ونزوعات باطنية لا سبب حافظا عليها إلا التعليم والتربية من غير استنادها إلى السبب الموجب فهي إذن أوصاف اتفاقية وامور عادية لا مانع معها يمنع من زوالها فلماذا يجب على الانسان أن يفدي بنفسه غيره ليتمتع بالعيش بعده وهو يرى أن الموت فناء وبطلان ؟ والثناء الجميل إنما هو في لسان آخرين ولا لذة يلتذ به الفادي بعد بطلان ذاته.

[ 112 ]

وبالجملة لا يرتاب المتفكر البصير في أن الانسان لا يقدم على حرمان لا يرجع إليه فيه جزاء ولا يعود إليه منه نفع والذي يعده ويمنيه في هذه الموارد ببقاء الذكر الحسن والثناء الجميل الخالد والفخر الباقي ببقاء الدهر فإنما هو غرور يغتر به وخدعة ينخدع بها بهيجان إحساساته وعواطفه فيخيل إليه أنه بعد موته وبطلان ذاته حاله كحاله قبل موته فيشعر بذكره الجميل فيلتذ به وليس ذلك إلا من غلط الوهم كالسكران يتسخر بهيجان إحساساته فيعفو ويبذل من نفسه وعرضه وماله أو كل كرامة له ما لا يقدم عليه لو صحا وعقل وهو سكران لا يعقل ويعد ذلك فتوه وهو سفه وجنون. فهذه العثرات وأمثالها مما لا حصن للانسان يتحصن فيه منها غير التوحيد الذي ذكرناه ولذلك وضع الاسلام الاخلاق الكريمة التي جعلها جزءا من طريقته الجارية على أساس التوحيد الذي من شؤونه القول بالمعاد ولازمه أن يلتزم الانسان بالاحسان ويجتنب الاساءة أينما كان ومتى ما كان سواء علم به أو لم يعلم وسواء حمده حامد أو لم يحمد وسواء كان معه من يحمله عليه أو يردعه عنه أو لم يكن فإن معه الله العليم الحفيظ القائم على كل نفس بما كسبت وورائه يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء وفيه تجزى كل نفس بما كسبت 7 منطقان منطق التعقل ومنطق الاحساس أما منطق الاحساس فهو يدعو إلى النفع الدنيوي ويبعث إليه فإذا قارن الفعل نفع وأحس به الانسان فالاحساس متوقد شديد التوقان في بعثه وتحريكه وإذا لم يحس الانسان بالنفع فهو خامد هامد وأما منطق التعقل فإنما يبعث إلى اتباع الحق ويرى أنه أحسن ما ينتفع به الانسان أحس مع الفعل بنفع مادى أو لم يحس فإن ما عند الله خير وأبقى وقس في ذلك بين قول عنترة وهو على منطق الاحساس وقولى

كلما جشأت وجاشت * مكانك تحمدي أو تستريحي.

 يريد إني أستثبت نفسي كلما تزلزلت في الهزاهز والمواقف المهولة من القتال بقولى لها اثبتي فإن قتلت يحمدك الناس على الثبات وعدم الانهزام وإن قتلت العدو استرحت ونلت بغيتك فالثبات خير على أي حال وبين قوله تعالى وهو على منطق التعقل قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون

[ 113 ]

قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون: التوبة - 52 يريد أن أمر ولايتنا وانتصارنا إلى الله سبحانه لا نريد في شئ مما يصيبنا من خير أو شر إلا ما وعدنا من الثواب على الاسلام له والالتزام لدينه كما قال تعالى لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا ألا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون: التوبة - 121. وإذا كان كذلك فإن قتلتمونا أو أصابنا منكم شئ كان لنا عظيم الاجر والعاقبة الحسنى عند ربنا وإن قتلناكم أو أصبنا منكم شيئا كان لنا عظيم الثواب والعاقبة الحسنى والتمكن في الدنيا من عدونا فنحن على أي حال سعداء مغبوطون ولا تتحفون لنا في قتالنا ولا تتربصون بنا في أمرنا إلا إحدى الحسنيين فنحن على الحسنى والسعادة على أي حال وأنتم على السعادة ونيل البغية بعقيدتكم على أحد التقديرين وفي إحدى الحالين وهو كون الدائرة لكم علينا فنحن نتربص بكم ما يسوؤكم وأنتم لا تتربصون بنا إلا ما يسرنا ويسعدنا. فهذان منطقان أحدهما يعني الثبات وعدم الزوال على مبنى إحساسي وهو أن للثابت أحد نفعين إما حمد الناس وإما الراحة من العدو هذا إذا كان هناك نفع عائد إلى الانسان المقاتل الذي يلقي بنفسه إلى التهلكة أما إذا لم يكن هناك نفع عائد كما لو لم يحمده الناس لعدم تقديرهم قدر الجهاد وتساوى عندهم الخدمة والخيانة أو كانت الخدمة مما ليس من شأنه أن يظهر لهم البتة أو لا هي ولا الخيانة أو لم يسترح الاحساس بفناء العدو بل إنما يستريح به الحق فليس لهذا المنطق إلا العي واللكنة. وهذه الموارد المعدودة هي الاسباب العامة في كل بغي وخيانة وجناية يقول الخائن المساهل في أمر القانون إن خدمته لا تقدر عند الناس بما يعدلها وإن الخادم والخائن عندهم سواء بل الخائن أحسن حالا وأنعم عيشا ويرى كل باغ وجان أنه سيتخلص من قهر القانون وأن القوى المراقبة لا يقدرون على الحصول عليه فيخفى أمره ويلتبس

[ 114 ]

على الناس شخصه ويعتذر كل من يتثبط ويتثاقل في إقامة الحق والثورة على أعدائه ويداهنهم بأن القيام على الحق يذلله بين الناس ويضحك منه الدنيا الحاضرة ويعدونه من بقايا القرون الوسطى أو أعصار الاساطير فإن ذكرته بشرافة النفس وطهارة الباطن رد عليك قائلا ما أصنع بشرافة النفس إذا جرت إلى نكد العيش وذلة الحياة هذا. وأما المنطق الآخر وهو منطق الاسلام فهو يبنى أساسه على اتباع الحق وابتغاء الاجر والجزاء من الله سبحانه وإنما يتعلق الغرض بالغايات والمقاصد الدنيوية في المرتبة التالية وبالقصد الثاني ومن المعلوم أنه لا يشذ عن شموله مورد من الموارد ولا يسقط كليته من العموم والاطراد فالعمل أعم من الفعل والترك إنما يقع لوجهه تعالى وإسلاما له واتباعا للحق الذي أراده وهو الحفيظ العليم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم ولا عاصم منه ولا يخفى عليه شئ في الارض ولا في السماء والله بما تعملون خبير. فعلى كل نفس فيما وردت مورد عمل أو صدرت رقيب شهيد قائم بما كسبت سواء شهده الناس أو لا حمدوه أو لا قدروا فيه على شئ أو لا. وقد بلغ من حسن تأثير التربية الاسلامية أن الناس كانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيعترفون عنده بجرائمهم وجناياتهم بالتوبة ويذوقون مر الحدود التي تقام عليهم القتل فما دونه ابتغاء رضوان الله وتطهيرا لانفسهم من قذارة الذنوب ودرن السيئات وبالتأمل في هذه النوادر الواقعة يمكن للباحث أن ينتقل إلى عجيب تأثير البيان الدينى في نفوس الناس وتعويده لهم السماحة في ألذ الاشياء وأعزها عندهم وهي الحياة وما في تلوها ولو لا أن البحث قرآني لاوردنا طرفا من الامثلة التاريخية فيه. 8 ما معنى ابتغاء الاجر عند الله والاعراض عن غيره ربما يتوهم المتوهم أن جعل الاجر الاخروي وهو الغرض العام في حياة الانسان الاجتماعية يوجب سقوط الاغراض الحيوية التي تدعو إليه البنية الطبيعية الانسانية وفيه فساد نظام الاجتماع والانحطاط إلى منحط الرهبانية وكيف يمكن الانقطاع إلى مقصد من المقاصد مع التحفظ على المقاصد المهمة الاخرى وهل هذا إلا تناقض. لكنه توهم ناش من الجهل بالحكمة الالهية والاسرار التي تكشف عنها المعارف القرآنية فإن الاسلام يبني تشريعه على أصل التكوين كما مر ذكره مرارا في المباحث

[ 115 ]

السابقة من هذا الكتاب قال تعالى فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم: الروم - 30. وحاصله أن سلسلة الاسباب الواقعية التكوينية تعاضدت على إيجاد النوع الانساني في ذيلها وتوفرت على سوقه نحو الغاية الحيوية التي هيأت له فيجب له أن يبني حياته في ظرف الكدح والاختيار على موافقة الاسباب فيما تريد منه وتسوقه إليه حتى لا تناقضها حياته فيؤديه ذلك إلى الهلاك والشقاء وهذا لو تفهمه المتوهم هو الدين الاسلامي بعينه ولما كان هناك فوق الاسباب سبب وحيد هو الموجد لها المدبر لامرها فيما دق وجل وهو الله سبحانه الذي هو السبب التام فوق كل سبب بتمام معنى الكلمة كان الواجب على الانسان الاسلام له والخضوع لامره وهذا معنى كون التوحيد هو الاساس الوحيد للدين الاسلامي. ومن هنا يظهر أن حفظ كلمة التوحيد والاسلام لله وابتغاء وجهه في الحياة جرى على موافقة الاسباب طرا وإعطاء كل ذي حق منها حقه من غير شرك ولا غفلة فعند المرء المسلم غايات وأغراض دنيوية واخرى اخروية وله مقاصد مادية واخرى معنوية لكنه لا يعتني في أمرها بازيد مما ينبغي من الاعتناء والاهتمام ولذلك بعينه نرى ان الاسلام يندب إلى توحيد الله سبحانه والانقطاع إليه والاخلاص له والاعراض عن كل سبب دونه ومبتغي غيره ومع ذلك يأمر الناس باتباع نواميس الحياة والجري على المجاري الطبيعية. ومن هنا يظهر أن أفراد المجتمع الاسلامي هم السعداء بحقيقة السعادة في الدنيا وفي الآخرة وأن غايتهم وهو ابتغاء وجه الله في الاعمال لا تزاحم سائر الغايات الحيوية إذا ظهرت واستوثرت. ومن هنا يظهر أيضا فساد توهم آخر وهو الذي ذكره جمع من علماء الاجتماع من الباحثين أن حقيقة الدين والغرض الاصلي منه هو إقامة العدالة الاجتماعية والعباديات فروع متفرعة عليها فالذي يقيمها فهو على الدين ولو لم يتلبس بعقيدة ولا عبودية. والباحث المتدبر في الكتاب والسنة وخاصة في السيرة النبوية لا يحتاج في الوقوف على بطلان هذا التوهم إلى مؤونة زائدة وتكلف استدلال على أن هذا الكلام الذي

[ 116 ]

يتضمن إسقاط التوحيد وكرائم الاخلاق من مجموعة النواميس الدينية فيه إرجاع للغاية الدينية التي هي كلمة التوحيد إلى الغاية المدنية التي هي التمتع وقد عرفت أنهما غايتان مختلفتان لا ترجع إحديهما إلى الاخرى لا في أصلها ولا في فروعها وثمراتها. 9 - ما معنى الحرية في الاسلام ؟ كلمة الحرية على ما يراد بها من المعنى لا يتجاوز عمرها في دورانها على الالسن عدة قرون ولعل السبب المبتدع لها هي النهضة المدنية الاوربية قبل بضعة قرون لكن معناها كان جائلا في الاذهان وامنية من أماني القلوب منذ أعصار قديمة. والاصل الطبيعي التكويني الذي ينتشي منه هذا المعنى هو ما تجهز به الانسان في وجوده من الارادة الباعثة إياه على العمل فإنها حالة نفسية في إبطالها إبطال الحس والشعور المنجر إلى إبطال الانسانية. غير أن الانسان لما كان موجودا اجتماعيا تسوقه طبيعته إلى الحياة في المجتمع وإلقاء دلوه في الدلاء بإدخال إرادته في الارادات وفعله في الافعال المنجر إلى الخضوع لقانون يعدل الارادات والاعمال بوضع حدود لها فالطبيعة التي أعطته إطلاق الارادة والعمل هي بعينها تحدد الارادة والعمل وتقيد ذلك الاطلاق الابتدائي والحرية الاولية. والقوانين المدنية الحاضرة لما وضعت بناء أحكامها على أساس التمتع المادي كما عرفت أنتج ذلك حرية الامة في أمر المعارف الاصلية الدينية من حيث الالتزام بها وبلوازمها وفي أمر الاخلاق وفي ما وراء القوانين من كل ما يريده ويختاره الانسان من الارادات والاعمال فهذا هو المراد بالحرية عندهم. وأما الاسلام فقد وضع قانونه على أساس التوحيد كما عرفت ثم في المرتبة التالية على أساس الاخلاق الفاضلة ثم تعرضت لكل يسير وخطير من الاعمال الفردية والاجتماعية كائنة ما كانت فلا شئ مما يتعلق بالانسان أو يتعلق به الانسان إلا وللشرع الاسلامي فيه قدم أو أثر قدم فلا مجال ولا مظهر للحرية بالمعنى المتقدم فيه. نعم للانسان فيه الحرية عن قيد عبودية غير الله سبحانه وهذا وإن كان لا يزيد على كلمة واحدة غير أنه وسيع المعنى عند من بحث بحث تعمق في السنة الاسلامية

[ 117 ]

والسيرة العملية التي تندب إليها وتقرها بين أفراد المجتمع وطبقاته ثم قاس ذلك إلى ما يشاهد من سنن السؤدد والسيادة والتحكمات في المجتمعات المتمدنة بين طبقاتها وأفرادها أنفسها وبين كل امه قوية وضعيفة. وأما من حيث الاحكام فالتوسعة فيما أباحه الله من طيبات الرزق ومزايا الحياة المعتدلة من غير إفراط أو تفريط قال تعالى قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق الآية " الاعراف - 32 " وقال تعالى خلق لكم ما في الارض جميعا " البقرة: 29 وقال تعالى وسخر لكم ما في السموات وما في الارض جميعا منه: الجاثية - 13. ومن عجيب الامر ما رامه بعض الباحثين والمفسرين وتكلف فيه من إثبات حرية العقيدة في الاسلام بقوله تعالى لا إكراه في الدين " البقرة - 256 " وما يشابهه من الآيات الكريمة. وقد مر البحث التفسيري عن معنى الآية في سورة البقرة والذي نضيف إليها هيهنا أنك عرفت أن التوحيد أساس جميع النواميس الاسلامية ومع ذلك كيف يمكن أن يشرع حرية العقائد ؟ وهل ذلك إلا التناقض الصريح ؟ فليس القول بحرية العقيدة إلا كالقول بالحرية عن حكومة القانون في القوانين المدنية بعينه. وبعبارة اخرى العقيدة بمعنى حصول إدراك تصديقي ينعقد في ذهن الانسان ليس عملا اختياريا للانسان حتى يتعلق به منع أو تجويز أو استعباد أو تحرير وإنما الذي يقبل الحظر والاباحة هو الالتزام بما تستوجبه العقيدة من الاعمال كالدعوة إلى العقيدة وإقناع الناس بها وكتابتها ونشرها وإفساد ما عند الناس من العقيدة والعمل المخالفين لها فهذه هي التي تقبل المنع والجواز ومن المعلوم أنها إذا خالفت مواد قانون دائر في المجتمع أو الاصل الذي يتكي عليه القانون لم يكن مناص من منعها من قبل القانون ولم يتك الاسلام في تشريعه على غير دين التوحيد (التوحيد والنبوة والمعاد) وهو الذي يجتمع عليه المسلمون واليهود والنصارى والمجوس (أهل الكتاب) فليست الحرية إلا فيها وليست فيما عداها إلا هدما لاصل الدين نعم هيهنا حرية اخرى وهي الحرية من حيث إظهار العقيدة في مجرى البحث وسنبحث عنها في الفصل 14 الآتي. 10 - ما هو الطريق إلى التحول والتكامل في المجتمع الاسلامي ؟ ربما أمكن

[ 118 ]

أن يقال هب أن السنة الاسلامية سنة جامعة للوازم الحياة السعيدة والمجتمع الاسلامي مجتمع سعيد مغبوط لكن هذه السنة لجامعيتها وانتفاء حرية العقيدة فيها تستوجب ركود المجتمع ووقوفه عن التحول والتكامل وهو من عيوب المجتمع الكامل كما قيل فإن السير التكاملي يحتاج إلى تحقق القوى المتضادة في الشئ وتفاعلها حتى تولد بالكسر والانكسار مولودا جديدا خاليا من نواقص العوامل المولدة التي زالت بالتفاعل فإذا فرض أن الاسلام يرفع الاضداد والنواقص وخاصة العقائد المتضادة من أصلها فلازمه أن يتوقف المجتمع الذي يكونه عن السير التكاملي. اقول وهو من إشكالات المادية التحولية (ماترياليسم ديالكتيك) وفيه خلط عجيب فإن العقائد والمعارف الانسانية على نوعين نوع يقبل التحول والتكامل وهو العلوم الصناعية التي تستخدم في طريق ترفيع قواعد الحياة المادية وتذليل الطبيعة العاصية للانسان كالعلوم الرياضية والطبيعية وغيرهما وهذه العلوم والصناعات وما في عدادها كلما تحولت من النقص إلى الكمال أوجب ذلك تحول الحياة الاجتماعية لذلك. ونوع آخر لا يقبل التحول وإن كان يقبل التكامل بمعنى آخر وهو العلوم والمعارف العامة الالهية التي تقضي في المبدأ والمعاد والسعادة والشقاء وغير ذلك قضاءا قاطعا واقفا غير متغير ولا متحول وإن قبلت الارتقاء والكمال من حيث الدقة والتعمق وهذه العلوم والمعارف لا تؤثر في الاجتماعات وسنن الحياة إلا بنحو كلي فوقوف هذه المعارف والآراء وثبوتها على حال واحد لا يوجب وقوف الاجتماعات عن سيرها الارتقائي كما نشاهد أن عندنا آراءا كثيرة كلية ثابتة على حال واحد من غير أن يقف اجتماعنا لذلك عن سيره كقولنا إن الانسان يجب أن ينبعث إلى العمل لحفظ حياته وإن العمل يجب أن يكون لنفع عائد إلى الانسان وإن الانسان يجب أن يعيش في حال الاجتماع وقولنا إن العالم موجود حقيقة لا وهما وإن الانسان جزء من العالم وإن الانسان جزء من العالم الارضي وإن الانسان ذو أعضاء وأدوات وقوى إلى غير ذلك من الآراء والمعلومات الثابتة التي لا يوجب ثبوتها ووقوفها وقوف الاجتماعات وركودها ومن هذا القبيل القول بأن للعالم إلها واحدا شرع للناس شرعا جامعا لطرق السعادة من طريق النبوة وسيجمع الجميع إلى يوم يوفيهم فيه جزاء أعمالهم وهذه هي الكلمة الوحيدة التي بنى عليها الاسلام مجتمعه وتحفظ عليها كل التحفظ ومن المعلوم أنه مما لا يوجب

[ 119 ]

باصطكاك ثبوته ونفيه وإنتاج رأي آخر فيه إلا انحطاط المجتمع كما بين مرارا وهذا شأن جميع الحقائق الحقة المتعلقة بما وراء الطبيعة فإنكارها بأي وجه لا يفيد للمجتمع إلا انحطاطا وخسة. والحاصل أن المجتمع البشري لا يحتاج في سيره الارتقائي إلا إلى التحول والتكامل يوما فيوما في طرق الاستفادة من مزايا الطبيعة وهذا إنما يتحقق بالبحث الصناعي المداوم وتطبيق العمل على العلم دائما والاسلام لا يمنع من ذلك شيئا. وأما تغير طريق إدارة المجتمعات وسنن الاجتماع الجارية م كالاستبداد الملوكي والديموقراطية والكمونيزم ونحوها فليس بلازم إلا من جهة نقصها وقصورها عن إيفاء الكمال الانساني الاجتماعي المطلوب لا من جهة سيرها من النقص إلى الكمال فالفرق بينها لو كان فإنما هو فرق الغلط والصواب لا فرق الناقص والكمال فإذا استقر أمر السنة الاجتماعية على ما يقصده الانسان بفطرته وهو العدالة الاجتماعية واستظل الناس تحت التربية الجيدة بالعلم النافع والعمل الصالح ثم أخذوا يسيرون مرتاحين ناشطين نحو سعادتهم بالارتقاء في مدارج العلم والعمل ولا يزالون يتكاملون ويزيدون تمكنا واتساعا في السعادة فما حاجتهم إلى تحول السنة الاجتماعية زائدا على ذلك ؟ ومجرد وجوب التحول على الانسان من كل جهة حتى فيما لا يحتاج فيه إلى التحول مما لا ينبغي أن يقضي به ذو نظر وبصيرة. فان قلت لا مناص من عروض التحول في جميع ما ذكرت أنه مستغن عنه كالاعتقادات والاخلاق الكلية ونحوها فإنها جميعا تتغير بتغير الاوضاع الاجتماعية والمحيطات المختلفة ومرور الازمنة فلا يجوز أن ينكر أن الانسان الجديد تغاير أفكاره أفكار الانسان القديم وكذا الانسان يختلف نحو تفكره بحسب اختلاف مناطق حياته كالاراضي الاستوائية والقطبية والنقاط المعتدلة وكذا بتفاوت أوضاع حياته من خادم ومخدوم وبدوي وحضري ومثر ومعدم وفقير وغني ونحو ذلك فالافكار والآراء تختلف باختلاف العوامل وتتحول بتحول الاعصار بلا شك كائنة ما كانت. قلت الاشكال مبني على نظرية نسبية العلوم والآراء الانسانية ولازمها كون الحق والباطل والخير والشر امورا نسبية إضافية فالمعارف الكلية النظرية المتعلقة بالمبدء والمعاد وكذا الآراء الكلية العملية كالحكم بكون الاجتماع خيرا للانسان وكون

[ 120 ]

العدل خيرا (حكما كليا لا من حيث انطباقه على المورد) تكون أحكاما نسبية متغيرة بتغير الازمنة والاوضاع والاحوال وقد بينا في محله فساد هذه النظرية من حيث كليتها. وحاصل ما ذكرناه هناك أن النظرية غير شاملة للقضايا الكلية النظرية وقسم من الآراء الكلية العملية. وكفى في بطلان كليتها أنها لو صحت أي كانت كلية مطلقة ثابتة أثبتت قضية مطلقة غير نسبية وهي نفسها ولو لم تكن كلية مطلقة بل قضية جزئية أثبتت بالاستلزام قضية كلية مطلقة فكليتها باطلة على أي حال وبعبارة اخرى لو صح أن " كل رأي واعتقاد يجب أن يتغير يوما " وجب أن يتغير نفس هذا الرأي يوما أي لا يتغير بعض الاعتقادات أبدا فافهم ذلك. 11 - هل الاسلام بشريعته يفي باسعاد هذه الحياة الحاضرة ؟ ربما يقال هب أن الاسلام لتعرضه لجميع شؤون الانسانية الموجودة في عصر نزول القرآن كان يكفي في إيصاله مجتمع ذاك العصر إلى سعادتهم الحقيقية وجميع أمانيهم في الحياة لكن مرور الزمان غير طرق الحياة الانسانية فالحياة الثقافية والعيشة الصناعية في حضارة اليوم لا تشبه الحياة الساذجة قبل أربعة عشر قرنا المقتصرة على الوسائل الطبيعية الابتدائية فقد بلغ الانسان إثر مجاهداته الطويلة الشاقة مبلغا من الارتقاء والتكامل المدني لو قيس إلى ما كان عليه قبل عدة قرون كان كالقياس بين نوعين متبائنين فكيف تفي القوانين الموضوعة لتنظيم الحياة في ذلك العصر للحياة المتشكلة العبقرية اليوم ؟ وكيف يمكن أن تحمل كل من الحياتين أثقال الاخرى ؟. والجواب أن الاختلاف بين العصرين من حيث صورة الحياة لا يرجع إلى كليات شؤونها وإنما هو من حيث المصاديق والموارد وبعبارة اخرى يحتاج الانسان في حياته إلى غذاء يتغذى به ولباس يلبسه ودار يقطن فيه ويسكنه ووسائل تحمله وتحمل أثقاله وتنقلها من مكان إلى مكان ومجتمع يعيش بين أفراده وروابط تناسلية وتجارية وصناعية وعملية وغير ذلك وهذه حاجة كلية غير متغيرة ما دام الانسان إنسانا ذا هذه الفطرة والبنية وما دام حياته هذه الحياة الانسانية والانسان الاولي وإنسان هذا اليوم في ذلك على حد سواء. وإنما الاختلاف بينهما من حيث مصاديق الوسائل التي يرفع الانسان بها حوائجه المادية ومن حيث مصاديق الحوائج حسب ما يتنبه لها وبوسائل رفعها.

[ 121 ]

فقد كان الانسان الاولي مثلا يتغذى بما يجده من الفواكه والنبات ولحم الصيد على وجه بسيط ساذج وهو اليوم يهيئ منها ببراعته وابتداعه الوفا من ألوان الطعام والشراب ذات خواص تستفيد منها طبيعته وألوان يستلذ منها بصره وطعوم يستطيبها ذوقه وكيفيات يتنعم بها لمسه وأوضاع وأحوال اخرى يصعب إحصاؤها وهذا الاختلاف الفاحش لا يفرق الثاني من الاول من حيث إن الجميع غذاء يتغذى به الانسان لسد جوعه وإطفاء نائرة شهوته. وكما أن هذه الاعتقادات الكلية التي كانت عند الانسان أولا لم تبطل بعد تحوله من عصر إلى عصر بل انطبق الاول على الآخر انطباقا كذلك القوانين الكلية الموضوعة في الاسلام طبق دعوة الفطرة واستدعاء السعادة لا تبطل بظهور وسيله مكان وسيلة ما دام الوفاق مع أصل الفطرة محفوظا من غير تغير وانحراف وأما مع المخالفة فالسنة الاسلامية لا توافقها سواء في ذلك العصر القديم والعصر الحديث. وأما الاحكام الجزئية المتعلقة بالحوادث الجارية التي تحدث زمانا وزمانا وتتغير سريعا بالطبع كالاحكام المالية والانتظامية المتعلقة بالدفاع وطرق تسهيل الارتباطات والمواصلات والانتظامات البلدية ونحوها فهي مفوضة إلى اختيار الوالي ومتصدي أمر الحكومة فإن الوالي نسبته إلى ساحة ولايته كنسبة الرجل إلى بيته فله أن يعزم ويجري فيها ما لرب البيت أن يتصرف به في بيته وفيما أمره إليه فلوالي الامر أن يعزم على امور من شؤون المجتمع في داخله أو خارجه مما يتعلق بالحرب أو السلم مالية أو غير مالية يراعي فيها صلاح حال المجتمع بعد المشاورة مع المسلمين كما قال تعالى وشاورهم في الامر فإذا عزمت فتوكل على الله: آل عمران - 159 كل ذلك في الامور العامة. وهذه أحكام وعزمات جزئية تتغير بتغير المصالح والاسباب التي لا تزال يحدث منها شئ ويزول منها شئ غير الاحكام الالهية التي يشتمل عليها الكتاب والسنة ولا سبيل للنسخ إليها ولبيانه التفصيلي محل آخر. 12 - من الذي يتقلد ولاية المجتمع في الاسلام وما سيرته ؟ كان ولاية أمر المجتمع الاسلامي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وافتراض طاعته صلى الله عليه وآله وسلم على الناس واتباعه صريح القرآن الكريم.

[ 122 ]

قال تعالى وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول: التغابن - 12 وقال تعالى لتحكم بين الناس بما أريك الله: النساء - 105 وقال تعالى النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم: الاحزاب - 6 وقال تعالى قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله: آل عمران - 31 إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التى يتضمن كل منها بعض شؤون ولايته العامة في المجتمع الاسلامي أو جميعها. والوجه الوافى لغرض الباحث في هذا الباب أن يطالع سيرته صلى الله عليه وآله وسلم ويمتلئ منه نظرا ثم يعود إلى مجموع ما نزلت من الآيات في الاخلاق والقوانين المشرعة في الاحكام العبادية والمعاملات والسياسات وسائر المرابطات والمعاشرات فإن هذا الدليل المتخذ بنحو الانتزاع من ذوق التنزيل الالهي له من اللسان الكافي والبيان الوافى ما لا يوجد في الجملة والجملتين من الكلام البتة وهيهنا نكتة اخرى يجب على الباحث الاعتناء بأمرها وهو أن عامة الآيات المتضمنة لاقامة العبادات والقيام بأمر الجهاد وإجراء الحدود والقصاص وغير ذلك توجه خطاباتها إلى عامة المؤمنين دون النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاصة كقوله تعالى وأقيموا الصلاة: النساء - 77 وقوله وأنفقوا في سبيل الله: البقرة - 195 وقوله كتب عليكم الصيام: البقرة - 183 وقوله ولتكن منكم امة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر: آل عمران - 104 وقوله وجاهدوا في سبيله: المائدة - 35 وقوله وجاهدوا في الله حق جهاده: الحج - 78 وقوله الزانية والزانى فاجلدوا كل واحد منهما: النور - 2 وقوله والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما: المائدة - 38 وقوله ولكم في القصاص حيوة: البقرة - 179 وقوله وأقيموا الشهادة لله: الطلاق - 2 وقوله واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا: آل عمران - 103 وقوله أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه: الشورى - 13 وقوله وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزى الله الشاكرين: آل عمران - 144 إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة. ويستفاد من الجميع أن الدين صبغة اجتماعية حمله الله على الناس ولا يرضى لعباده الكفر ولم يرد إقامته إلا منهم بأجمعهم فالمجتمع المتكون منهم أمره إليهم من غير

[ 123 ]

مزية في ذلك لبعضهم ولا اختصاص منهم ببعضهم والنبى ومن دونه في ذلك سواء قال تعالى أنى لا اضيع عمل عامل منكم من ذكر أو انثى بعضكم من بعض: آل عمران - 195 فإطلاق الآية تدل على أن التأثير الطبيعي الذى لاجزاء المجتمع الاسلامي في مجتمعهم مراعى عند الله سبحانه تشريعا كما راعاه تكوينا وأنه تعالى لا يضيعه وقال تعالى إن الارض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين: الاعراف - 128 نعم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الدعوة والهداية والتربية قال تعالى يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة: الجمعة - 2 فهو صلى الله عليه وآله وسلم المتعين من عند الله للقيام على شأن الامة وولاية امورهم في الدنيا والآخرة وللامامة لهم ما دام حيا. لكن الذى يجب أن لا يغفل عنه الباحث أن هذه الطريقة غير طريقة السلطة الملوكية التى تجعل مال الله فيئا لصاحب العرش وعباد الله أرقاء له يفعل بهم ما يشاء ويحكم فيهم ما يريد وليست هي من الطرق الاجتماعية التى وضعت على أساس التمتع المادى من الديموقراطية وغيرها فإن بينها وبين الاسلام فروقا بينه مانعة من التشابه والتماثل. ومن أعظمها أن هذه المجتمعات لما بنيت على أساس التمتع المادى نفخت في قالبها روح الاستخدام والاستثمار وهو الاستكبار الانساني الذى يجعل كل شئ تحت إرادة الانسان وعمله حتى الانسان بالنسبة إلى الانسان ويبيح له طريق الوصول إليه والتسلط على ما يهواه ويأمله منه لنفسه وهذا بعينه هو الاستبداد الملوكى في الاعصار السالفة وقد ظهرت في زى الاجتماع المدنى على ما هو نصب أعيننا اليوم من مظالم الملل القوية وإجحافاتهم وتحكماتهم بالنسبة إلى الامم الضعيفة وعلى ما هو في ذكرنا من أعمالهم المضبوطة في التواريخ. فقد كان الواحد من الفراعنة والقياصرة والاكاسرة يجرى في ضعفاء عهده بتحكمه ولعبه كل ما يريده ويهواه ويعتذر لو اعتذر أن ذلك من شؤون السلطنة ولصلاح المملكة وتحكيم أساس الدولة ويعتقد أن ذلك حق نبوغه وسيادته ويستدل عليه بسيفه كذلك إذا تعمقت في المرابطات السياسية الدائرة بين أقوياء

[ 124 ]

الامم وضعفائهم اليوم وجدت أن التاريخ وحوادثه كرت علينا ولن تزال تكر غير أنها أبدلت الشكل السابق الفردى بالشكل الحاضر الاجتماعي والروح هي الروح والهوى هو الهوى وأما الاسلام فطريقته بريئة من هذه الاهواء ودليله السيرة النبوية في فتوحاته وعهوده. ومنها أن أقسام الاجتماعات على ما هو مشهود ومضبوط في تاريخ هذا النوع لا تخلو عن وجود تفاضل بين أفرادها مؤد إلى الفساد فأن اختلاف الطبقات بالثروة أو الجاه والمقام المؤدى بالاخرة إلى بروز الفساد في المجتمع من لوازمها لكن المجتمع الاسلامي مجتمع متشابه الاجزاء لا تقدم فيها للبعض على البعض ولا تفاضل ولا تفاخر ولا كرامة وإنما التفاوت الذى تستدعيه القريحة الانسانية ولا تسكت عنه إنما هو في التقوى وأمره إلى الله سبحانه لا إلى الناس قال تعالى يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم: الحجرات - 13 وقال تعالى فاستبقوا الخيرات: البقرة - 148 فالحاكم والمحكوم والامير والمأمور والرئيس والمرؤوس والحر والعبد والرجل والمرأة والغنى والفقير والصغير والكبير في الاسلام في موقف سواء من حيث جريان القانون الدينى في حقهم ومن حيث انتفاء فواصل الطبقات بينهم في الشؤون الاجتماعية على ما تدل عليه السيرة النبوية على سائرها السلام والتحية. ومنها أن القوة المجرية في الاسلام ليست هي طائفة متميزة في المجتمع بل تعم جميع أفراد المجتمع فعلى كل فرد أن يدعو إلى الخير ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وهناك فروق اخر لا يخفى على الباحث المتتبع. هذا كله في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأما بعده فالجمهور من المسلمين على أن انتخاب الخليفة الحاكم في المجتمع إلى المسلمين والشيعة من المسلمين على أن الخليفة منصوص من جانب الله ورسوله وهم اثنا عشر إماما على التفصيل المودوع في كتب الكلام. ولكن على أي حال أمر الحكومة الاسلامية بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبعد غيبة الامام كما في زماننا الحاضر إلى المسلمين من غير إشكال والذى يمكن أن يستفاد من الكتاب في ذلك أن عليهم تعيين الحاكم في المجتمع على سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهى سنة الامامة دون الملوكية والامبراطورية والسير فيهم بحفاظة الاحكام من غير تغيير

[ 125 ]

والتولى بالشور في غير الاحكام من حوادث الوقت والمحل كما تقدم والدليل على ذلك كله جميع ما تقدم من الآيات في ولاية النبي صلى الله عليه وآله وسلم مضافة إلى قوله تعالى لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة: الاحزاب - 21. 13 ثغر المملكة الاسلاميه هو الاعتقاد دون الحدود الطبيعية أو الاصطلاحية ألغى الاسلام أصل الانشعاب القومي من أن يؤثر في تكون المجتمع أثره ذاك الانشعاب الذى عامله الاصلى البدوية والعيش بعيشة القبائل والبطون أو اختلاف منطقة الحياة والوطن الارضى وهذان أعنى البدوية واختلاف مناطق الارض في طبائعها الثانوية من حرارة وبرودة وجدب وخصب وغيرهما هما العاملان الاصليان لانشعاب النوع الانساني شعوبا وقبائل واختلاف ألسنتهم وألوانهم على ما بين في محله. ثم صارا عاملين لحيازة كل قوم قطعة من قطعات الارض على حسب مساعيهم في الحياة وبأسهم وشدتهم وتخصيصها بأنفسهم وتسميتها وطنا يألفونه ويذبون عنه بكل مساعيهم. وهذا وإن كان أمرا ساقهم إلى ذلك الحوائج الطبيعية التى يدفعهم الفطرة إلى رفعها غير أن فيه خاصة تنافى ما يستدعيه أصل الفطرة الانسانية من حياة النوع في مجتمع واحد فإن من الضرورى أن الطبيعة تدعو إلى اجتماع القوى المتشتتة وتألفها وتقويها بالتراكم والتوحد لتنال ما تطلبه من غايتها الصالحة بوجه أتم وأصلح وهذا أمر مشهود من حال المادة الاصلية حتى تصير عنصرا ثم... ثم نباتا ثم حيوانا ثم انسانا. والانشعابات بحسب الاوطان تسوق الامة إلى توحد في مجتمعهم يفصله عن المجتمعات الوطنية الاخرى فيصير واحدا منفصل الروح والجسم عن الآحاد الوطنية الاخرى فتنعزل الانسانية عن التوحد والتجمع وتبتلي من التفرق والتشتت بما كانت تفر منه ويأخذ الواحد الحديث يعامل سائر الآحاد الحديثة أعنى الآحاد الاجتماعية بما يعامل به الانسان سائر الاشياء الكونية من استخدام واستثمار وغير ذلك والتجريب الممتد بامتداد الاعصار منذ أول الدنيا إلى يومنا هذا يشهد بذلك وما نقلناه من الآيات في مطاوي الابحاث السابقة يكفى في استفادة ذلك من القرآن الكريم. وهذا هو السبب في أن ألغى الاسلام هذه الانشعابات والتشتتات والتميزات

[ 126 ]

وبنى الاجتماع على العقيدة دون الجنسية والقومية والوطن ونحو ذلك حتى في مثل الزوجية والقرابة في الاستمتاع والميراث فإن المدار فيهما على الاشتراك في التوحيد لا المنزل والوطن مثلا. ومن أحسن الشواهد على هذا ما نراه عند البحث عن شرائع هذا الدين أنه لم يهمل أمره في حال من الاحوال فعلى المجتمع الاسلامي عند أوج عظمته واهتزاز لواء غلبته أن يقيموا الدين ولا يتفرقوا فيه وعليه عند الاضطهاد والمغلوبية ما يستطيعه من إحياء الدين وإعلاء كلمته وعلى هذا القياس حتى أن المسلم الواحد عليه أن يأخذ به ويعمل منه ما يستطيعه ولو كان بعقد القلب في الاعتقاديات والاشارة في الاعمال المفروضة عليه. ومن هنا يظهر أن المجتمع الاسلامي قد جعل جعلا يمكنه أن يعيش في جميع الاحوال وعلى كل التقادير من حاكمية ومحكومية وغالبية ومغلوبية وتقدم وتأخر وظهور وخفاء وقوة وضعف ويدل عليه من القرآن آيات التقية بالخصوص قال تعالى من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان الآية: النحل - 106 وقوله إلا أن تتقوا منهم تقاة: آل عمران - 28 وقوله فاتقوا الله ما استطعتم (1) وقوله يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون: آل عمران - 102. 14 الاسلام اجتماعي بجميع شؤونه يدل على ذلك قوله تعالى وصابروا ورابطوا لعلكم تفلحون الآية على ما مر بيانه وآيات أخر كثيرة. وصفة الاجتماع مرعية مأخوذة في الاسلام في جميع ما يمكن أن يؤدى بصفة الاجتماع من أنواع النواميس والاحكام بحسب ما يليق بكل منها من نوع الاجتماع وبحسب ما يمكن فيه من الامر والحث الموصل إلى الغرض فينبغي للباحث أن يعتبر الجهتين معا في بحثه فالجهة الاولى من الاختلاف ما نرى أن الشارع شرع الاجتماع مستقيما في الجهاد إلى حد يكفى لنجاح الدفاع وهذا نوع وشرع وجوب الصوم والحج مثلا للمستطيع غير المعذور ولازمه اجتماع الناس للصيام والحج وتمم ذلك بالعيدين الفطر والاضحى

_________________________________

(1) سورة التغابن: 16.

[ 127 ]

والصلاة المشروعة فيهما وشرع وجوب الصلوات اليومية عينيا لكل مكلف من غير أن يوجب فيها جماعة وتدارك ذلك بوجوب الجماعة في صلاة الجمعة في كل أسبوع مرة صلاة جماعة واحدة في كل أربعة فراسخ وهذا نوع آخر والجهة الثانية ما نرى أن الشارع شرع وجوب الاجتماع في أشياء بلا واسطة كما عرفت وألزم على الاجتماع في امور اخرى غير واجبة لم يوجب الاجتماع فيها مستقيما كصلاة الفريضة مع الجماعة فإنها مسنونة مستحبة غير أن السنة جرت على أدائها جماعة وعلى الناس أن يقيموا السنة (1) وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: في قوم من المسلمين تركوا الحضور في الجماعة - ليوشك قوم يدعون الصلاة في المسجد أن نأمر بحطب - فيوضع على أبوابهم فتوقد عليهم نار فتحرق عليهم بيوتهم وهذا هو السبيل في جميع ما سنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيجب حفظ سنته على المسلمين بأي وسيلة أمكنت لهم وبأي قيمة حصلت. وهذه امور سبيل البحث فيها الاستنباط الفقهى من الكتاب والسنة والمتصدي لبيانها الفقه الاسلامي. وأهم ما يجب هيهنا هو عطف عنان البحث إلى جهة اخرى وهى اجتماعية الاسلام في معارفه الاساسية بعد الوقوف على أنه يراعى الاجتماع في جميع ما يدعو الناس إليه من قوانين الاعمال العبادية والمعاملية والسياسية ومن الاخلاق الكريمة ومن المعارف الاصلية. نرى الاسلام يدعو الناس إلى دين الفطرة بدعوى أنه الحق الصريح الذى لا مرية فيه والآيات القرآنية الناطقة بذلك كثيرة مستغنية عن الايراد وهذا أول التألف والتأنس مع مختلف الافهام فإن الافهام على اختلافها وتعلقها بقيود الاخلاق والغرائز لا تختلف في أن الحق يجب اتباعه. ثم نراه يعذر من لم تقم عليه البينة ولم تتضح له المحجة وإن قرعت سمعه الحجة قال تعالى ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حى عن بينة: الانفال - 42 وقال تعالى إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فاولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا: النساء - 99 انظر إلى إطلاق الآية ومكان قوله لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا وهذا يعطى الحرية

_________________________________

(1) باب كراهة ترك حضور الجماعة من كتاب الصلاة من الوسائل.

[ 128 ]

التامة لكل متفكر يرى نفسه صالحة للتفكر مستعدة للبحث والتنقير أن يتفكر فيما يتعلق بمعارف الدين ويتعمق في تفهمها والنظر فيها على أن الآيات القرآنية مشحونة بالحث والترغيب في التفكر والتعقل والتذكر. ومن المعلوم أن اختلاف العوامل الذهنية والخارجية مؤثرة في اختلاف الافهام من حيث تصورها وتصديقها ونيلها وقضائها وهذا يؤدى إلى الاختلاف في الاصول التى بنى على أساسها المجتمع الاسلامي كما تقدم. إلا أن الاختلاف بين إنسانين في الفهم على ما يقضى به فن معرفة النفس وفن الاخلاق وفن الاجتماع يرجع ألى أحد امور أما إلى اختلاف الاخلاق النفسانية والصفات الباطنة من الملكات الفاضلة والردية فإن لها تأثيرا وافرا في العلوم والمعارف الانسانية من حيث الاستعدادات المختلفة التى تودعها في الذهن فما إدارك الانسان المنصف وقضاؤه الذهنى كادراك الشموس المتعسف ولا نيل المعتدل الوقور للمعارف كنيل العجول والمتعصب وصاحب الهوى والهمجى الذى يتبع كل ناعق والغوى الذي لا يدرى أين يريد ولا أنى يراد به والتربية الدينية تكفى مؤونة هذا الاختلاف فإنها موضوعة على نحو يلائم الاصول الدينية من المعارف والعلوم وتستولد من الاخلاق ما يناسب تلك الاصول وهى مكارم الاخلاق قال تعالى كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدى إلى الحق وإلى طريق مستقيم: الاحقاف - 30 وقال تعالى يهدى به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم: المائدة - 16 وقال تعالى والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين: العنكبوت - 69 وانطباق الآيات على مورد الكلام ظاهر. وإما أن يرجع إلى اختلاف الافعال فإن الفعل المخالف للحق كالمعاصي وأقسام التهوسات الانسانية ومن هذا القبيل أقسام الاغواء والوساوس يلقن الانسان وخاصة العامي الساذج الافكار الفاسدة ويعد ذهنه لدبيب الشبهات وتسرب الآراء الباطلة فيه وتختلف إذ ذاك الافهام وتتخلف عن اتباع الحق وقد كفى مؤونة هذا أيضا الاسلام حيث أمر المجتمع بإقامة الدعوة الدينية دائما أولا وكلف المجتمع بالامر بالمعروف والنهى عن المنكر ثانيا وأمر بهجرة أرباب الزيغ والشبهات ثالثا قال تعالى

[ 129 ]

ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير و يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر الآية: آل عمران - 104 فالدعوة إلى الخير تستثبت الاعتقاد الحق وتقرها في القلوب بالتلقين والتذكير والامر بالمعروف والنهى عن المنكر يمنعان من ظهور الموانع من رسوخ الاعتقادات الحقة في النفوس وقال تعالى وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين وما على الذين يتقون من حسابهم من شئ ولكن ذكرى لعلهم يتقون وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحيوة الدنيا وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت الآيات: الانعام - 70 ينهى الله تعالى عن المشاركة في الحديث الذى فيه خوض في شئ من المعارف الالهية والحقائق الدينية بشبهة أو اعتراض أو استهزاء ولو بنحو الاستلزام أو التلويح ويذكر أن ذلك من فقدان الانسان أمر الجد في معارفه وأخذه بالهزل واللعب واللهو وأن منشأه الاغترار بالحياة الدنيا وأن علاجه التربية الصالحة والتذكير بمقامه تعالى. وإما أن يكون الاختلاف من جهة العوامل الخارجية كبعد الدار وعدم بلوغ المعارف الدينية إلا يسيرة أو محرفة أو قصور فهم الانسان عن تعقل الحقائق الدينية تعقلا صحيحا كالجربزة والبلاده المستندتين إلى خصوصية المزاج وعلاجه تعميم التبليغ والارفاق في الدعوة والتربية وهذان من خصائص السلوك التبليغى في الاسلام قال تعالى قل هذه سبيلى أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعنى: يوسف - 108 ومن المعلوم أن البصير بالامر يعرف مبلغ وقوعه في القلوب وأنحاء تأثيراته المختلفة باختلاف المتلقين والمستمعين فلا يبذل أحدا إلا مقدار ما يعيه منه وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ما رواه الفريقان: إنا معاشر الانبياء نكلم الناس على قدر عقولهم وقال تعالى فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون: التوبة - 122 فهذه جمل ما يتقى به وقوع الاختلاف في العقائد أو يعالج به إذا وقع. وقد قرر الاسلام لمجتمعه دستورا اجتماعيا فوق ذلك يقيه عن دبيب الاختلاف المؤدى إلى الفساد والانحلال فقد قال تعالى وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا

[ 130 ]

تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصيكم به لعلكم تتقون: الانعام - 153 فبين أن اجتماعهم على اتباع الصراط المستقيم وتحذرهم عن اتباع سائر السبل يحفظهم عن التفرق ويحفظ لهم الاتحاد والاتفاق ثم قال يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا: آل عمران - 103 وقد مر أن المراد بحبل الله هو القرآن المبين لحقائق معارف الدين أو هو والرسول صلى الله عليه وآله وسلم على ما يظهر من قوله تعالى قبله يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم: آل عمران - 101. تدل الآيات على لزوم أن يجتمعوا على معارف الدين ويرابطوا أفكارهم ويمتزجوا في التعليم والتعلم فيستريحوا في كل حادث فكرى أو شبهة ملقاة إلى الآيات المتلوة عليهم والتدبر فيها لحسم مادة الاختلاف وقد قال تعالى أ فلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا: النساء - 82 وقال وتلك الامثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون: العنكبوت - 43 وقال فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون: النحل - 43 فأفاد أن التدبر في القرآن أو الرجوع إلى من يتدبر فيه يرفع الاختلاف من البين. وتدل على أن الارجاع إلى الرسول وهو الحامل لثقل الدين يرفع من بينهم الاختلاف ويبين لهم الحق الذى يجب عليهم أن يتبعوه قال تعالى وأنزلنا اليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون: النحل - 44 وقريب منه قوله تعالى ولو ردوه إلى الرسول وإلى اولى الامر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم: النساء - 83 وقوله يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واولى الامر منكم فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا: النساء - 59 فهذه صورة التفكر الاجتماعي في الاسلام. ومنه يظهر أن هذا الدين كما يعتمد بأساسه على التحفظ على معارفه الخاصة الالهية كذلك يسمح للناس بالحرية التامة في الفكر ويرجع محصله إلى أن من الواجب على المسلمين أن يتفكروا في حقائق الدين ويجتهدوا في معارفه تفكرا واجتهادا بالاجتماع والمرابطة وإن حصلت لهم شبهة في شئ من حقائقه ومعارفه أو لاح لهم ما يخالفها

[ 131 ]

فلا بأس به وإنما يجب على صاحب الشبهة أو النظر المخالف أن يعرض ما عنده على كتاب الله بالتدبر ف‍ بحث اجتماعي فإن لم يداو داءه عرضه على الرسول أو من أقامه مقامه حتى تنحل شبهته أو يظهر بطلان ما لاح له إن كان باطلا قال تعالى الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه اولئك الذين هداهم الله واولئك هم اولوا الالباب: الزمر - 18 والحرية في العقيدة والفكر على النحو الذى بيناه غير الدعوة إلى هذا النظر وإشاعته بين الناس قبل العرض فإنه مفض إلى الاختلاف المفسد لاساس المجتمع القويم. هذا أحسن ما يمكن أن يدبر به أمر المجتمع في فتح باب الارتقاء الفكري على وجهه مع الحفظ على حياته الشخصية وأما تحميل الاعتقاد على النفوس والختم على القلوب وإماتة غريزة الفكرة في الانسان عنوة وقهرا والتوسل في ذلك بالسوط أو السيف أو بالتكفير والهجرة وترك المخالطة فحاشا ساحة الحق والدين القويم أن يرضى به أو يشرع ما يؤيده وإنما هو خصيصة نصرانية وقد امتلا تاريخ الكنيسة من أعمالها وتحكماتها في هذا الباب و خاصة فيما بين القرن الخامس وبين القرن السادس عشر الميلاديين بما لا يوجد نظائره في أشنع ما عملته أيدي الجبابرة والطواغيت وأقساه. ولكن من الاسف أنا معاشر المسلمين سلبنا هذه النعمة وما لزمها الاجتماع الفكري وحرية العقيدة كما سلبنا كثيرا من النعم العظام التى كان الله سبحانه أنعم علينا بها لما فرطنا في جنب الله وإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم فحكمت فينا سيرة الكنيسة واستتبع ذلك أن تفرقت القلوب وظهر الفتور وتشتت المذاهب والمسالك يغفر الله لنا ويوفقنا لمرضاته ويهدينا إلى صراطه المستقيم. 15 الدين الحق هو الغالب على الدنيا بالآخرة والعاقبة للتقوى فإن النوع الانساني بالفطرة المودوعة فيه تطلب سعادته الحقيقية وهو استواؤه على عرش حياته الروحية والجسمية معا حياة اجتماعية بأعطاء نفسه حظه من السلوك الدنيوي والاخروي وقد عرفت أن هذا هو الاسلام ودين التوحيد. وأما الانحرافات الواقعة في سير الانسانية نحو غايته وفي ارتقائه إلى أوج كماله فإنما هو من جهة الخطأ في التطبيق لا من جهة بطلان حكم الفطرة والغاية التى يعقبها

[ 132 ]

الصنع والايجاد لا بد أن تقع يوما معجلا أو على مهل قال تعالى فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التى فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون يريد أنهم لا يعلمون ذلك علما تفصيليا وإن علمته فطرتهم إجمالا إلى أن قال ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون إلى أن قال ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدى الناس ليذيقهم بعض الذى عملوا لعلهم يرجعون: الروم - 41 30 وقال تعالى فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم: المائدة - 54 وقال تعالى ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الارض يرثها عبادي الصالحون: الانبياء - 105 وقال تعالى والعاقبة للتقوى: طه - 132 فهذه وأمثالها آيات تخبرنا أن الاسلام سيظهر ظهوره التام فيحكم على الدنيا قاطبة ولا تصغ إلى قول من يقول إن الاسلام وإن ظهر ظهورا ما وكانت أيامه حلقة من سلسلة التاريخ فأثرت أثرها العام في الحلقات التالية واعتمدت عليها المدنية الحاضرة شاعرة بها أو غير شاعرة لكن ظهوره التام أعنى حكومة ما في فرضية الدين بجميع موادها وصورها وغاياتها مما لا يقبله طبع النوع الانساني ولن يقبله أبدا ولم يقع عليه بهذه الصفة تجربة حتى يوثق بصحة وقوعه خارجا وحكومته على النوع تامة. وذلك أنك عرفت أن الاسلام بالمعنى الذى نبحث فيه غاية النوع الانساني وكماله الذى هو بغريزته متوجه إليه شعر به تفصيلا أو لم يشعر والتجارب القطعية الحاصلة في أنواع المكونات يدل على أنها متوجهة إلى غايات مناسبة لوجوداتها يسوقها إليها نظام الخلقة والانسان غير مستثنى من هذه الكلية. على أن شيئا من السنن والطرائق الدائرة في الدنيا الجارية بين المجتمعات الانسانية لم يتك في حدوثه وبقائه وحكومته على سبق تجربة قاطعة فهذه شرائع نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ظهرت حينما ظهرت ثم جرت بين الناس وكذا ما أتى به برهما وبوذا ومانى وغيرهم وتلك سنن المدنية المادية كالديموقراطية والكمونيسم وغيرهما كل ذلك جرى في المجتمعات الانسانية المختلفة بجرياناتها المختلفة من غير سبق تجربة. وإنما تحتاج السنن الاجتماعية في ظهورها ورسوخها في المجتمع إلى عزائم قاطعة وهمم عالية من نفوس قوية لا يأخذها في سبيل البلوغ إلى مأربها عى ولا نصب ولا

[ 133 ]

تذعن بأن الدهر قد لا يسمح بالمراد والمسعى قد يخيب ولا فرق في ذلك بين الغايات والمآرب الرحمانية والشيطانية.

( بحث روائي )

 في المعاني عن الصادق عليه السلام: في قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا الآية - اصبروا على المصائب وصابروهم على الفتنة ورابطوا على من تقتدون به وفي تفسير العياشي عنه عليه السلام: اصبروا على دينكم وصابروا عدوكم ورابطوا امامكم اقول وروى ما يقرب منه من طرق أهل السنة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وفي الكافي عنه عليه السلام: اصبروا على الفرائض - وصابروا على المصائب ورابطوا على الائمة وفي المجمع عن على عليه السلام: رابطوا الصلوات - قال أي انتظروها لان المرابطة لم تكن حينئذ أقول اختلاف الروايات مستند إلى ما تقدم من إطلاق الاوامر. وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن حيان عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أ لا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا - ويكفر به الذنوب قلنا بلى يا رسول الله - قال إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد - وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط: أقول ورواه بطرق اخرى عنه صلى الله عليه وآله وسلم والاخبار في فضيلة المرابطة أكثر من أن تحصى

[ 134 ]

سورة النساء مدنية وهى مائة وست وسبعون آية

بسم الله الرحمن الرحيم يا أيها الناس ا تقوا ربكم الذى خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذى تساءلون به والارحام إن الله كان عليكم رقيبا (1)):

( بيان )

 غرض السورة كما يلوح إليه هذا الصدر بيان أحكام الزواج كعدد الزوجات ومحرمات النكاح وغير ذلك وأحكام المواريث وفيها امور اخرى من أحكام الصلاة والجهاد والشهادات والتجارة وغيرها وتعرض لحال أهل الكتاب. ومضامين آياتها تشهد أنها مدنية نزلت بعد الهجرة وظاهرها أنها نزلت نجوما لا دفعة واحدة وإن كانت أغلب آياتها غير فاقدة للارتباط فيما بينها. وأما هذه الآية في نفسها فهى وعدة من الآيات التالية لها المتعرضة لحال اليتامى والنساء كالتوطئة لما سيبين من أمر المواريث والمحارم وأما عدد الزوجات الواقعة في الآية الثالثة فإنه وإن كان من مهمات السورة إلا أنه ذكر في صورة التطفل بالاستفادة من الكلام المقدمى الذى وقع في الآية كما سيجئ بيانه. قوله تعالى يا أيها الناس اتقوا ربكم إلى قوله ونساء يريد دعوتهم إلى تقوى ربهم في أمر أنفسهم وهم ناس متحدون في الحقيقة الانسانية من غير اختلاف فيها بين الرجل منهم والمرأة والصغير والكبير والعاجز والقوى حتى لا يجحف الرجل منهم بالمرأة ولا يظلم كبيرهم الصغير في مجتمعهم الذى هداهم الله إليه لتتميم سعادتهم والاحكام والقوانين المعمولة بينهم التى ألهمهم إياها لتسهيل طريق حياتهم وحفظ

[ 135 ]

وجودهم وبقائهم فرادى ومجتمعين. ومن هناك تظهر نكتة توجيه الخطاب إلى الناس دون المؤمنين خاصة وكذا تعليق التقوى بربهم دون أن يقال اتقوا الله ونحوه فإن الوصف الذى ذكروا به أعنى قوله الذى خلقكم من نفس واحدة الخ يعم جميع الناس من غير أن يختص بالمؤمنين وهو من أوصاف الربوبية التى تتكفل أمر التدبير والتكميل لا من شؤون الالوهية. وأما قوله تعالى الذى خلقكم من نفس واحدة الخ فالنفس على ما يستفاد من اللغة عين الشئ يقال جاءني فلان نفسه وعينه وإن كان منشأ تعين الكلمتين النفس والعين لهذا المعنى ما به الشئ شئ مختلفا ونفس الانسان هو ما به الانسان إنسان وهو مجموع روح الانسان وجسمه في هذه الحياة الدنيا والروح وحدها في الحياة البرزخية على ما تحقق فيما تقدم من البحث في قوله تعالى ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات الآية: البقرة - 154. وظاهر السياق أن المراد بالنفس الواحدة آدم عليه السلام ومن زوجها زوجته وهما أبوا هذا النسل الموجود الذى نحن منه وإليهما ننتهي جميعا على ما هو ظاهر القرآن الكريم كما في قوله تعالى خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها: الزمر - 6 وقوله تعالى يا بنى آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة: الاعراف - 27 وقوله تعالى حكاية عن إبليس لئن أخرتن إلى يوم القيامة لاحتنكن ذريته إلا قليلا: أسرى - 62. وأما ما احتمله بعض المفسرين أن المراد بالنفس الواحدة وزوجها في الآية مطلق الذكور والاناث من الانسان الزوجين اللذين عليهما مدار النسل فيؤول المعنى ألى نحو قولنا خلق كل واحد منكم من أب وام بشرين من غير فرق في ذلك بينكم فيناظر قوله تعالى يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم: الحجرات - 13 حيث إن ظاهره نفى الفرق بين الافراد من جهة تولد كل واحد منهم من زوجين من نوعه ذكر وانثى. ففيه فساد ظاهر وقد فاته أن بين الآيتين أعنى آية النساء وآية الحجرات فرقا بينا فإن آية الحجرات في مقام بيان اتحاد أفراد الانسان من حيث الحقيقة الانسانية

[ 136 ]

ونفى الفرق بينهم من جهة انتهاء تكون كل واحد منهم إلى أب وام إنسانين فلا ينبغى أن يتكبر أحدهم على الآخرين ولا يتكرم إلا بالتقوى وأما آية النساء فهى في مقام بيان اتحاد أفراد الانسان من حيث الحقيقة وأنهم على كثرتهم رجالا ونساءا إنما اشتقوا من أصل واحد وتشعبوا من منشأ واحد فصاروا كثيرا على ما هو ظاهر قوله وبث منهما رجالا كثيرا ونساءا وهذا المعنى كما ترى لا يناسب كون المراد من النفس الواحدة وزوجها مطلق الذكر والانثى الناسلين من الانسان على أنه لا يناسب غرض السورة أيضا كما تقدم بيانه. وأما قوله وخلق منها زوجها فقد قال الراغب يقال لكل واحد من القرينين من الذكر والانثى في الحيوانات المتزاوجة زوج ولكل قرينين فيها وفي غيرها زوج كالخف والنعل ولكل ما يقترن بآخر مماثلا له أو مضادا زوج إلى أن قال وزوجة لغة رديئة انتهى. وظاهر الجملة أعنى قوله وخلق منها زوجها أنها بيان لكون زوجها من نوعها بالتماثل وأن هؤلاء الافراد المبثوثين مرجعهم جميعا إلى فردين متماثلين متشابهين فلفظة من نشوئية والآية في مساق قوله تعالى ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة: الروم - 21 وقوله تعالى والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة: النحل - 72 وقوله تعالى فاطر السموات والارض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الانعام أزواجا يذرؤكم فيه: الشورى - 11 ونظيرها قوله ومن كل شئ خلقنا زوجين: الذاريات - 49 فما في بعض التفاسير أن المراد بالآية كون زوج هذه النفس مشتقة منها وخلقها من بعضها وفاقا لما في بعض الاخبار أن الله خلق زوجة آدم من ضلع من أضلاعه مما لا دليل عليه من الآية. وأما قوله وبث منهما رجالا كثيرا ونساء البث هو التفريق بالاثارة ونحوها قال تعالى فكانت هباء منبثا: الواقعة - 6 ومنه بث الغم ولذلك ربما يطلق البث ويراد به الغم لانه مبثوث يبثه الانسان بالطبع قال تعالى قال إنما أشكوا بثى وحزني إلى الله: يوسف - 86 أي غمى وحزني. وظاهر الآية أن النسل الموجود من الانسان ينتهى إلى آدم وزوجته من غير

[ 137 ]

أن يشاركهما فيه غيرهما حيث قال وبث منهما رجالا كثيرا ونساء ولم يقل منهما ومن غيرهما ويتفرع عليه أمران احدهما أن المراد بقوله رجالا كثيرا ونساءا أفراد البشر من ذريتهما بلا واسطة أو مع واسطة فكأنه قيل وبثكم منهما أيها الناس وثانيهما أن الازدواج في الطبقة الاولى بعد آدم وزوجته أعنى في أولادهما بلا واسطة إنما وقع بين الاخوة والاخوات ازدواج البنين بالبنات إذ الذكور والاناث كانا منحصرين فيهم يومئذ ولا ضير فيه فإنه حكم تشريعي راجع إلى الله سبحانه فله أن يبيحه يوما ويحرمه آخر قال تعالى والله يحكم لا معقب لحكمه: الرعد - 41 وقال إن الحكم إلا لله: يوسف - 40 وقال ولا يشرك في حكمه أحدا: الكهف - 26 وقال وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الاولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون: القصص - 70. قوله تعالى واتقوا الله الذى تسألون به والارحام المراد بالتسأل سؤال بعض الناس بعضا بالله يقول أحدهم لصاحبه أسألك بالله أن تفعل كذا وكذا هو إقسام به تعالى والتسائل بالله كناية عن كونه تعالى معظما عندهم محبوبا لديهم فإن الانسان إنما يقسم بشئ يعظمه ويحبه. وأما قوله والارحام فظاهره أنه معطوف على لفظ الجلالة والمعنى واتقوا الارحام وربما قيل إنه معطوف على محل الضمير في قوله به وهو النصب يقال مررت بزيد وعمرا وربما أيدته قراءة حمزة والارحام بالجر عطفا على الضمير المتصل المجرور وإن ضعفه النحاة فيصير المعنى واتقوا الله الذى تسألون به وبالارحام يقول أحدكم لصاحبه أسألك بالله وأسألك بالرحم هذا ما قيل لكن السياق ودأب القرآن في بياناته لا يلائمانه فإن قوله والارحام أن جعل صلة مستقلة للذى وكان تقدير الكلام واتقوا الله الذى تسألون بالارحام كان خاليا من الضمير وهو غير جائز وإن كان المجموع منه ومما قبله صلة واحدة للذى كان فيه تسوية بين الله عز اسمه وبين الارحام في أمر العظمة والعزة وهى تنافى أدب القرآن. وأما نسبة التقوى إلى الارحام كنسبته إليه تعالى فلا ضير فيها بعد انتهاء

[ 138 ]

الارحام إلى صنعه وخلقه تعالى وقد نسب التقوى في كلامه تعالى إلى غيره كما في قوله واتقوا يوما ترجعون فيه ألى الله: البقرة - 281 وقوله واتقوا النار التى اعدت للكافرين: آل عمران - 131 وقوله واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة: الانفال - 25. وكيف كان فهذا الشطر من الكلام بمنزلة التقييد بعد الاطلاق والتضييق بعد التوسعة بالنسبة إلى الشطر السابق عليه أعنى قوله يا أيها الناس اتقوا إلى قوله ونساء فإن محصل معنى الشطر الاول أن اتقوا الله من جهة ربوبيته لكم ومن جهة خلقه وجعله إياكم معاشر أفراد الانسان من سنخ واحد محفوظ فيكم ومادة محفوظة متكثرة بتكثركم وذلك هو النوعية الجوهرية الانسانية ومحصل معنى هذا الشطر أن اتقوا الله من جهة عظمته وعزته عندكم وذلك من شؤون الربوبية وفروعها واتقوا الوحدة الرحمية التى خلقها بينكم والرحم شعبة من شعب الوحدة والسنخية السارية بين أفراد الانسان. ومن هنا يظهر وجه تكرار الامر بالتقوى وإعادته ثانيا في الجملة الثانية فإن الجملة الثانية في الحقيقة تكرار للجملة الاولى مع زيادة فائدة وهى إفادة الاهتمام التام بأمر الارحام. والرحم في الاصل رحم المرأة وهى العضو الداخلي منها المعبأ لتربية النطفة وليدا ثم استعير للقرابة بعلاقة الظرف والمظروف لكون الاقرباء مشتركين في الخروج من رحم واحدة فالرحم هو القريب والارحام الاقرباء وقد اعتنى القرآن الشريف بأمر الرحم كما اعتنى بأمر القوم والامة فإن الرحم مجتمع صغير كما أن القوم مجتمع كبير وقد اعتنى القرآن بأمر المجتمع وعده حقيقة ذات خواص وآثار كما اعتنى بأمر الفرد من الانسان وعده حقيقة ذات خواص وآثار تستمد من الوجود قال تعالى وهو الذى مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا وهو الذى خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا: الفرقان - 54 وقال تعالى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا: الحجرات - 13 وقال تعالى واولوا الارحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله: الاحزاب - 6 وقال تعالى فهل عسيتم ان توليتم أن تفسدوا في الارض وتقطعوا أرحامكم: سورة محمد - 22

[ 139 ]

وقال تعالى وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم الآية: النساء - 9 إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى إن الله كان عليكم رقيبا الرقيب الحفيظ والمراقبة المحافظة وكأنه مأخوذ من الرقبة بعناية أنهم كانوا يحفظون رقاب عبيدهم أو أن الرقيب كان يتطلع على من كان يرقبه برفع رقبته ومد عنقه وليس الرقوب مطلق الحفظ بل هو الحفظ على أعمال المرقوب من حركاته وسكناته لاصلاح موارد الخلل والفساد أو ضبطها فكأنه حفظ الشئ مع العناية به علما وشهودا ولذا يستعمل بمعنى الحراسة والانتظار والمحاذرة والرصد والله سبحانه رقيب لانه يحفظ على العباد أعمالهم ليجزيهم بها قال تعالى وربك على كل شئ حفيظ: سبأ - 21 وقال الله حفيظ عليهم وما أنت عليهم بوكيل: الشورى - 6 وقال فصب عليهم ربك سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد: الفجر - 14. وفي تعليل الامر بالتقوى في الوحدة الانسانية السارية بين أفراده وحفظ آثارها اللازمة لها بكونه تعالى رقيبا أعظم التحذير والتخويف بالمخالفة وبالتدبر فيه يظهر ارتباط الآيات المتعرضة لامر البغى والظلم والفساد في الارض والطغيان وغير ذلك وما وقع فيها من التهديد والانذار بهذا الغرض الالهي وهو وقاية الوحدة الانسانية من الفساد والسقوط.

( كلام في عمر النوع الانساني والانسان الاولى )

 يذكر تاريخ اليهود أن عمر هذا النوع لا يزيد على ما يقرب من سبعة آلاف سنة والاعتبار يساعده فإنا لو فرضنا ذكرا وانثى زوجين اثنين من هذا النوع وفرضناهما عائشين زمانا متوسطا من العمر في مزاج متوسط في وضع متوسط من الامن والخصب والرفاهية ومساعده سائر العوامل والشرائط المؤثرة في حياة الانسان ثم فرضناهما وقد تزوجا وتناسلا وتوالدا في أوضاع متوسطة متناسبة ثم جعلنا الفرض بعينه مطردا فيما أولدا من البنين والبنات على ما يعطيه متوسط الحال في جميع ذلك وجدنا ما فرضناه من العدد أولا وهو اثنان فقط يتجاوز في قرن واحد رأس المائة الالف أي إن كل نسمة يولد في المائة سنة ما يقرب من خمس مائة نسمة.

[ 140 ]

ثم إذا اعتبرنا ما يتصدم به الانسان من العوامل المضادة له في الوجود والبلايا العامة لنوعه من الحر والبرد والطوفان والزلزلة والجدب والوباء والطاعون والخسف والهدم والمقاتل الذريعة والمصائب الاخرى غير العامة وأعطيناها حظها من هذا النوع أوفر حظ وبالغنا في ذلك حتى أخذنا الفناء يعم الافراد بنسبة تسعمائة وتسعة وتسعين إلى الالف وأنه لا يبقى في كل مائة سنة من الالف إلا واحد أي إن عامل التناسل في كل مائة سنة يزيد على كل اثنين بواحد وهو واحد من ألف. ثم إذا صعدنا بالعدد المفروض أولا بهذا الميزان إلى مدة سبعة آلاف سنة 70 قرنا وجدناه تجاوز بليونين ونصفا وهو عدد النفوس الانسانية اليوم على ما يذكره الاحصاء العالمي. فهذه الاعتبار يؤيد ما ذكر من عمر نوع الانسان في الدنيا لكن علماء الجيولوجي علم طبقات الارض ذكروا أن عمر هذا النوع يزيد على مليونات من السنين وقد وجدوا من الفسيلات الانسانية والاجساد والآثار ما يتقدم عهده على خمس مائة ألف سنة على ما استظهروه فهذا ما عندهم غير أنه لا دليل معهم يقنع الانسان ويرضي النفس باتصال النسل بين هذه الاعقاب الخالية والامم الماضية من غير انقطاع فمن الجائز أن يكون هذا النوع ظهر في هذه الارض ثم كثر ونما وعاش ثم انقرض ثم تكرر الظهور والانقراض ودار الامر على ذلك عدة أدوار على أن يكون نسلنا الحاضر هو آخر هذه الادوار. وأما القرآن الكريم فإنه لم يتعرض تصريحا لبيان أن ظهور هذا النوع هل ينحصر في هذه الدورة التي نحن فيها أو أن له أدوارا متعددة نحن في آخرها ؟ وإن كان ربما يستشم من قوله تعالى وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الارض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء الآية: البقرة - 30 سبق دورة انسانية اخرى على هذه الدورة الحاضرة وقد تقدمت الاشارة إليه في تفسير الآية. نعم في بعض الروايات الواردة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام ما يثبت للانسانية أدوارا كثيرة قبل هذه الدورة وسيجئ في البحث الروائي.

[ 141 ]

(كلام في أن النسل الحاضر ينتهي إلى آدم وزوجته)

ربما قيل إن اختلاف الالوان في أفراد الانسان وعمدتها البياض كلون أهل النقاط المعتدلة من آسيا واوروبا والسواد كلون أهل إفريقيا الجنوبية والصفرة كلون أهل الصين واليابان والحمرة كلون الهنود الامريكيين يقضي بانتهاء النسل في كل لون إلى غير ما ينتهي إليه نسل اللون الآخر لما في اختلاف الالوان من اختلاف طبيعة الدماء وعلى هذا فالمبادئ الاول لمجموع الافراد لا ينقصون من أربعة أزواج للالوان الاربعة. وربما يستدل عليه بأن قارة أمريكا انكشفت ولها أهل وهم منقطعون عن الانسان القاطن في نصف الكرة الشرقي بالبعد الشاسع الذي بينهما انقطاعا لا يرجى ولا يحتمل معه أن النسلين يتصلان بانتهائهما إلى أب واحد وام واحدة والدليلان كما ترى مدخولان: أما مسألة اختلاف الدماء باختلاف الالوان فلان الابحاث الطبيعية اليوم مبنية على فرضية التطور في الانواع ومع هذا البناء كيف يطمأن بعدم استناد اختلاف الدماء فاختلاف الالوان إلى وقوع التطور في هذا النوع وقد جزموا بوقوع تطورات في كثير من الانواع الحيوانية كالفرس والغنم والفيل وغيرها وقد ظفر البحث والفحص بآثار أرضية كثيرة يكشف عن ذلك ؟ على أن العلماء اليوم لا يعتنون بهذا الاختلاف ذاك الاعتناء (1). وأما مسألة وجود الانسان في ما وراء البحار فإن العهد الانساني على ما يذكره علماء الطبيعة يزهو إلى ملايين من السنين والذي يضبطه التاريخ النقلي لا يزيد على ستة آلاف سنة وإذا كان كذلك فما المانع من حدوث حوادث فيما قبل التاريخ تجزي قارة أمريكا عن سائر القارات وهناك آثار أرضية كثيرة تدل على تغييرات هامة في سطح الارض بمرور الدهور من تبدل بحر إلى بر وبالعكس وسهل إلى جبل وبالعكس وما هو أعظم من ذلك كتبدل القطبين والمنطقد على ما يشرحه علوم

_________________________________

(1) وقد ورد في الجرائد في هذه الايام: أن جمعا من الاطباء قد اكتشفوا فورمول طبي يغير به لون بشرة الانسان كالسواد إلى البياض مثلا (*)

[ 142 ]

طبقات الارض والهيئة والجغرافيا فلا يبقى لهذا المستدل إلا الاستبعاد فقط هذا. وأما القرآن فظاهره القريب من النص أن هذا النسل الحاضر المشهود من الانسان ينتهي بالارتقاء إلى ذكر وأنثى هما الاب والام لجميع الافراد أما الاب فقد سماه الله تعالى في كتابه بآدم وأما زوجته فلم يسمها في كتابه ولكن الروايات تسميها حواء كما في التوراة الموجودة قال تعالى وبدء خلق الانسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين " ألم السجدة - 8 " وقال تعالى إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون: آل عمران - 59 وقال تعالى وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الارض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون وعلم آدم الاسماء كلها الآية: البقرة - 31 وقال تعالى إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين الآيات: ص - 72 فإن الآيات كما ترى تشهد بأن سنة الله في بقاء هذا النسل أن يتسبب إليه بالنطفة لكنه أظهره حينما أظهره بخلقه من تراب وأن آدم خلق من تراب وأن الناس بنوه فظهور الآيات في انتهاء هذا النسل إلى آدم وزوجته مما لا ريب فيه وإن لم تمتنع من التأويل. وربما قيل إن المراد بآدم في آيات الخلقة والسجدة آدم النوعي دون الشخصي كأن مطلق الانسان من حيث انتهاء خلقه إلى الارض ومن حيث قيامه بأمر النسل والايلاد سمي بآدم وربما استظهر ذلك من قوله تعالى ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم " الاعراف - 11 " فإنه لا يخلو عن إشعار بأن الملائكة إنما أمروا بالسجدة لمن هيأه الله لها بالخلق والتصوير وقد ذكرت الآية أنه جميع الافراد لا شخص إنساني واحد معين حيث قال ولقد خلقناكم ثم صورناكم وهكذا قوله تعالى قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي إلى أن قال قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين إلى أن قال " قال فبعزتك لاغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين: ص - 83 حيث أبدل ما ذكره مفردا أولا من الجمع ثانيا. ويرده مضافا إلى كونه على خلاف ظاهر ما نقلناه من الآيات ظاهر قوله تعالى بعد سرد قصة آدم وسجدة الملائكة وإباء إبليس في سورة الاعراف يا بني آدم

[ 143 ]

لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما " الاعراف - 27 " فظهور الآية في شخصية آدم مما لا ينبغي أن يرتاب فيه. وكذا قوله تعالى وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا قال أرأيتك هذا الذي كرمت على لئن أخرتن إلى يوم القيامة لاحتنكن ذريته إلا قليلا: أسرى - 62 وكذا الآية المبحوث عنها يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء الآية بالتقريب الذي مر بيانه. فالآيات كما ترى تأبى أن يسمى الانسان آدم باعتبار وابن آدم باعتبار آخر وكذا تأبى أن تنسب الخلقة إلى التراب باعتبار وإلى النطفة باعتبار آخر وخاصة في مثل قوله تعالى إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون الآية وإلا لم يستقم استدلال الآية على كون خلقه عيسى خلقة استثنائية ناقضة للعادة الجارية فالقول بأدم النوعي في حد التفريط والافراط الذي يقابله قول بعضهم إن القول بخلق أزيد من آدم واحد كفر ذهب إليه زين العرب من علماء أهل السنه.

(كلام في أن الانسان نوع مستقل)

(غير متحول من نوع آخر)

 الآيات السابقة تكفي مؤونة هذا البحث فإنها تنهي هذا النسل الجاري بالنطفة إلى آدم وزوجته وتبين أنهما خلقا من تراب فالانسانية تنتهي اليهما وهما لا يتصلان بآخر يماثلهما أو يجانسهما وإنما حدثا حدوثا. والشائع اليوم عند الباحثين عن طبيعة الانسان أن الانسان الاول فرد تكامل إنسانا وهذه الفرضية بخصوصها وإن لم يتسلمها الجميع تسلما يقطع الكلام واعترضوا عليه بامور كثيرة مذكورة في الكتب لكن أصل الفرضية وهي أن الانسان حيوان تحول إنسانا مما تسلموه وبنوا عليه البحث عن طبيعة الانسان. فإنهم فرضوا أن الارض وهي أحد الكواكب السيارة قطعة من الشمس

[ 144 ]

مشتقة منها وقد كانت في حال الاشتعال والذوبان ثم أخذت في التبرد من تسلط عوامل البرودة وكانت تنزل عليها أمطار غزيرة وتجري عليها السيول وتتكون فيها البحار ثم حدثت تراكيب مائية وأرضية فحدثت النباتات المائية ثم حدثت بتكامل النبات واشتمالها على جراثيم الحياة السمك وسائر الحيوان المائي ثم السمك الطائر ذو الحياتين ثم الحيوان البري ثم الانسان كل ذلك بتكامل عارض للتركيب الارضي الموجود في المرتبة السابقة يتحول به التركيب في صورته إلى المرتبة اللاحقة فالنبات ثم الحيوان المائي ثم الحيوان ذو الحياتين ثم الحيوان البري ثم الانسان على الترتيب هذا. كل ذلك لما يشاهد من الكمال المنظم في بنيها نظم المراتب الآخذة من النقص إلى الكمال ولما يعطيه التجريب في موارد جزئية التطور. وهذه فرضية افترضت لتوجيه ما يلحق بهذه الانواع من الخواص والآثار من غير قيام دليل عليها بالخصوص ونفي ما عداها مع إمكان فرض هذه الانواع متبائنة من غير اتصال بينها بالتطور وقصر التطور على حالات هذه الانواع دون ذواتها وهي التي جرى فيها التجارب فإن التجارب لم يتناول فردا من أفراد هذه الانواع تحول إلى فرد من نوع آخر كقردة إلى إنسان وإنما يتناول بعض هذه الانواع من حيث خواصها ولوازمها وأعراضها. واستقصاء هذا البحث يطلب من غير هذا الموضع وإنما المقصود الاشارة إلى أنه فرض افترضوه لتوجيه ما يرتبط به من المسائل من غير ان يقوم عليه دليل قاطع فالحقيقة التي يشير إليها القرآن الكريم من كون الانسان نوعا مفصولا عن سائر الانواع غير معارضة بشئ علمي.

(كلام في تناسل الطبقة الثانية من الانسان)

 الطبقة الاولى من الانسان وهي آدم وزوجته تناسلت بالازدواج فأولدت بنين وبنات (إخوة وأخوات) فهل نسل هؤلاء بالازدواج بينهم وهم إخوة وأخوات أو بطريق غير ذلك ظاهر إطلاق قوله تعالى وبث منهما رجالا كثيرا ونساء الآية على ما تقدم من التقريب أن النسل الموجود من الانسان إنما ينتهي إلى آدم وزوجته من

[ 145 ]

غير أن يشاركهما في ذلك غيرهما من ذكر أو أنثى ولم يذكر القرآن للبث إلا أياهما ولو كان لغيرهما شركة في ذلك لقال وبث منهما ومن غيرهما أو ذكر ذلك بما يناسبه من اللفظ ومن المعلوم أن انحصار مبدأ النسل في آدم وزوجته يقضي بازدواج بنيهما من بناتهما. وأما الحكم بحرمته في الاسلام وكذا في الشرائع السابقة عليه على ما يحكى فإنما هو حكم تشريعي يتبع المصالح والمفاسد لا تكويني غير قابل للتغيير وزمامه بيد الله سبحانه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فمن الجائز أن يبيحه يوما لاستدعاء الضرورة ذلك ثم يحرمه بعد ذلك لارتفاع الحاجة واستيجابه انتشار الفحشاء في المجتمع. والقول بأنه على خلاف الفطرة وما شرعه الله لانبيائه دين فطري قال تعالى فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم: الروم - 30 فاسد فإن الفطرة لا تنفيه ولا تدعو إلى خلافه من جهه تنفرها عن هذا النوع من المباشرة (مباشرة الاخ الاخت) وإنما تبغضه وتنفيه من جهة تأديته إلى شيوع الفحشاء والمنكر وبطلان غريزة العفة بذلك وارتفاعها عن المجتمع الانساني ومن المعلوم أن هذا النوع من التماس والمباشرة إنما ينطبق عليه عنوان الفجور والفحشاء في المجتمع العالمي اليوم وأما المجتمع يوم ليس هناك بحسب ما خلق الله سبحانه إلا الاخوة والاخوات والمشية الالهية متعلقة بتكثرهم وانبثاثهم فلا ينطبق عليه هذا العنوان. والدليل على أن الفطرة لا تنفيه من جهة النفرة الغريزية تداوله بين المجوس أعصارا طويلة على ما يقصه التاريخ وشيوعه قانونيا في روسيا على ما يحكى وكذا شيوعه سفاحا من غير طريق الازدواج القانوني في اوربا (1). وربما يقال إنه مخالف للقوانين الطبيعية وهي التي تجرى في الانسان قبل عقده

_________________________________

(1) من العادات الرائجة في هذه الازمنة في الملل المتمدنة من اوربا وامريكا أن الفتيات يزلن بكارتهن قبل الازدواج القانوني والبلوغ إلى سنه وقد أنتج الاحصاء أن بعضها انما هو من ناحية آبائهن أو اخوانهم (*).

[ 146 ]

المجتمع الصالح لاسعاده فإن الاختلاط والاستيناس في المجتمع المنزلي يبطل غريزة التعشق والميل الغريزي بين الاخوة والاخوات كما ذكره بعض علماء الحقوق (1). وفيه أنه ممنوع كما تقدم أولا ومقصور في صورة عدم الحاجة الضرورية ثانيا ومخصوص بما لا تكون القوانين الوضعية غير الطبيعية حافظة للصلاح الواجب الحفظ في المجتمع ومتكفلة لسعادة المجتمعين وإلا فمعظم القوانين المعمولة والاصول الدائرة في الحياة اليوم غير طبيعية.

 (بحث روائي)

 في التوحيد عن الصادق عليه السلام في حديث قال: لعلك ترى أن الله لم يخلق بشرا غيركم ؟ بلى والله لقد خلق ألف ألف آدم أنتم في آخر اولئك الآدميين. اقول ونقل ابن ميثم في شرح نهج البلاغه عن الباقر عليه السلام ما في معناه ورواه الصدوق في الخصال ايضا. وفي الخصال عن الصادق عليه السلام قال: إن الله تعالى خلق اثنى عشر ألف عالم كل عالم منهم أكبر من سبع سماوات وسبع أرضين - ما يرى عالم منهم أن الله عز وجل عالما غيرهم. وفيه عن أبي جعفر عليه السلام: لقد خلق الله عز وجل في الارض منذ خلقها سبعة عالمين ليس هم من ولد آدم خلقهم من أديم الارض فأسكنهم فيها واحدا بعد واحد مع عالمه ثم خلق الله عز وجل آدم أبا البشر وخلق ذريته منه الحديث. وفي نهج البيان للشيباني عن عمرو بن أبي المقدام عن أبيه قال: سألت أبا جعفر عليه السلام من أي شئ خلق الله حواء ؟ فقال عليه السلام: أي شئ يقولون هذا الخلق ؟ قلت يقولون إن الله خلقها من ضلع من أضلاع آدم فقال كذبوا أكان الله يعجزه أن يخلقها من غير ضلعه ؟ فقلت جعلت فداك من أي شئ خلقها ؟ فقال أخبرني أبي عن آبائه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله تبارك وتعالى قبض قبضة من طين فخلطها

_________________________________

(1) مونتسكيو في كتابه روح القوانين. (*)

[ 147 ]

بيمينه وكلتا يديه يمين فخلق منها آدم - وفضلت فضلة من الطين فخلق منها حواء أقول ورواه الصدوق عن عمرو مثله وهناك روايات اخر تدل على أنها خلقت من خلف آدم وهو أقصر أضلاعه من الجانب الايسر وكذا ورد في التوراة في الفصل الثاني من سفر التكوين وهذا المعنى وإن لم يستلزم في نفسه محالا إلا أن الآيات القرآنية خالية عن الدلالة عليها كما تقدم. وفي الاحتجاج عن السجاد عليه السلام في حديث له مع قرشي يصف فيه تزويج هابيل بلوزا اخت قابيل - وتزويج قابيل بإقليما اخت هابيل - قال فقال له القرشى فأولداهما ؟ قال نعم - فقال له القرشى فهذا فعل المجوس اليوم - قال فقال إن المجوس فعلوا ذلك بعد التحريم من الله - ثم قال له لا تنكر هذا إنما هي شرائع الله جرت - أليس الله قد خلق زوجة آدم منه ثم أحلها له - فكان ذلك شريعة من شرائعهم - ثم أنزل الله التحريم بعد ذلك الحديث أقول وهذا الذى ورد في الحديث هو الموافق لظاهر الكتاب والاعتبار وهناك روايات اخر تعارضها وهى تدل على أنهم تزوجوا بمن نزل إليهم من الحور والجان وقد عرفت الحق في ذلك. وفي المجمع: في قوله تعالى واتقوا الله الذى تساءلون به والارحام - عن الباقر عليه السلام واتقوا الارحام أن تقطعوها أقول وبناؤه على قراءة النصب. وفي الكافي وتفسير العياشي: هي أرحام الناس إن الله عز وجل أمر بصلتها وعظمها - أ لا ترى أنه جعلها معه أقول قوله أ لا ترى الخ بيان لوجه التعظيم والمراد بجعلها معه الاقتران الواقع في قوله تعالى واتقوا الله الذى تساءلون به والارحام. وفي الدر المنثور أخرج عبد بن حميد عن عكرمة: في قوله الذى تساءلون به والارحام قال قال ابن عباس - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى صلوا أرحامكم - فإنه أبقى لكم في الحياة الدنيا وخير لكم في آخرتكم.

[ 148 ]

أقول قوله فإنه أبقى لكم الخ إشارة إلى ما ورد مستفيضا أن صلة الرحم تزيد في العمر وقطعها بالعكس من ذلك ويمكن أن يستأنس لوجهه بما سيأتي في تفسير قوله تعالى وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم الآية: النساء - 9 ويمكن أن يكون المراد بكونه أبقى كون الصلة أبقى للحياة من حيث أثرها فإن الصلة تحكم الوحدة السارية بين الاقارب فيتقوى بذلك الانسان قبال العوامل المخالفة لحياته المضادة لرفاهية عيشه من البلايا والمصائب والاعداء. وفي تفسير العياشي عن الاصبغ بن نباتة قال سمعت أمير المؤمنين عليه السلام يقول: إن أحدكم ليغضب فما يرضى حتى يدخل النار - فأيما رجل منكم غضب على ذى رحمه - فليدن منه فإن الرحم إذا مستها الرحم استقرت - وأنها متعلقة بالعرش تنقضه انتقاض الحديد فتنادى - اللهم صل من وصلنى واقطع من قطعني - وذلك قول الله في كتابه - واتقوا الله الذى تساءلون به والارحام إن الله كان بكم رقيبا - وأيما رجل غضب وهو قائم - فليلزم الارض من فوره فإنه يذهب رجز الشيطان أقول والرحم كما عرفت هي جهة الوحدة الموجودة بين أشخاص الانسان من حيث اتصال مادة وجودهم في الولادة من أب وام أو أحدهما وهى جهة حقيقية سائرة بين اولى الارحام لها آثار حقيقية خلقية وخلقية وروحية وجسمية غير قابلة الانكار وإن كان ربما توجد معها عوامل مخالفة تضعف أثرها أو تبطله بعض الابطال حتى يلحق بالعدم ولن يبطل من رأس. وكيف كان فالرحم من أقوى أسباب الالتيام الطبيعي بين أفراد العشيرة مستعدة للتأثير أقوى الاستعداد ولذلك كان ما ينتجه المعروف بين الارحام أقوى وأشد مما ينتجه ذلك بين الاجانب وكذلك الاساءة في مورد الاقارب أشد أثرا منها في مورد الاجانب. وبذلك يظهر معنى قوله عليه السلام فأيما رجل منكم غضب على ذى رحمه فليدن منه الخ فإن الدنو من ذى الرحم رعاية لحكمها وتقوية لجانبها فتتنبه بسببه وتحرك لحكمها ويتجدد أثرها بظهور الرأفة والمحبة.

[ 149 ]

وكذلك قوله عليه السلام في ذيل الرواية وأيما رجل غضب وهو قائم فليلزم الارض الخ فأن الغضب إذا كان عن طيش النفس ونزقها كان في ظهوره وغليانه مستندا إلى هواهاو إغفال الشيطان إياها وصرفها إلى أسباب واهية وهمية وفي تغيير الحال من القيام إلى القعود صرف النفس عن شأن إلى شأن جديد يمكنها بذلك أن تشتغل بالسبب الجديد فتنصرف عن الغضب بذلك لان نفس الانسان بحسب الفطرة أميل إلى الرحمة منها إلى الغضب ولذلك بعينه ورد في بعض الروايات مطلق تغيير الحال في حال الغضب كما في المجالس عن الصادق عن أبيه عليهما السلام: أنه ذكر الغضب فقال - إن الرجل ليغضب حتى ما يرضى أبدا ويدخل بذلك النار - فأيما رجل غضب وهو قائم فليجلس - فإنه سيذهب عنه رجز الشيطان وإن كان جالسا فليقم - وأيما رجل غضب على ذى رحم فليقم إليه وليدن منه وليمسه - فإن الرحم إذا مست الرحم سكنت أقول وتأثيره محسوس مجرب. قوله عليه السلام وإنها متعلقة بالعرش تنقضه انتقاض الحديد الخ أي تحدث فيه صوتا مثل ما يحدث في الحديد بالنقر وفي الصحاح الانقاض صويت مثل النقر وقد تقدم في الكلام على الكرسي إشارة إجمالية سيأتي تفصيلها في الكلام على العرش أن المراد بالعرش مقام العلم الاجمالي الفعلى بالحوادث وهو من الوجود المرحلة التى تجتمع عندها شتات أزمة الحوادث ومتفرقات الاسباب والعلل الكونية فهى تحرك وحدها سلاسل العلل والاسباب المختلفة المتفرقة أي تتعلق بروحها السارى فيها المحرك لها كما أن أزمة المملكة على اختلاف جهاتها وشؤونها وأشكالها تجتمع في عرش الملك والكلمة الواحدة الصادرة منه تحرك سلاسل القوى والمقامات الفعالة في المملكة وتظهر في كل مورد بما يناسبه من الشكل والاثر. والرحم كما عرفت حقيقة هي كالروح السالب في قوالب الاشخاص الذين يجمعهم جامع القرابة فهي من متعلقات العرش فإذا ظلمت واضطهدت لاذت بما تعلقت به واستنصرت وهو قوله عليه السلام تنقضه انتقاض الحديد وهو من أبدع التمثيلات شبه فيه ما يحدث في هذا الحال بالنقر الواقع على الحديد الذى يحدث فيه رنينا يستوعب بالارتعاش الاهتزاز جميع جسامة الحديد كما في نقر الاجراس والجامات وغيرها.

[ 150 ]

قوله عليه السلام فتنادى اللهم صل من وصلنى واقطع من قطعني حكاية لفحوى التجائها واستنصارها وفي الروايات الكثيرة أن صلة الرحم تزيد في العمر وأن قطعها يقطعه وقد مر في البحث عن ارتباط الاعمال والحوادث الخارجية من أحكام الاعمال في الجزء الثاني من الكتاب أن مدير هذا النظام الكونى يسوقه نحو الاغراض والغايات الصالحة ولن يهمل في ذلك وإذا فسد جزء أو أجزاء منه عالج ذلك إما بإصلاح أو بالحذف والازالة وقاطع الرحم يحارب الله في تكوينه فإن لم يصلح بالاستصلاح بتر الله عمره وقطع دابره وأما أن الانسان اليوم لا يحس بهذه الحقيقة وأمثالها فلا غرو لان الادواء قد أحاطت بجثمان الانسانية فاختلطت وتشابهت وأزمنت فالحس لا يجد فراغا يقوى به على إدراك الالم والعذاب = وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا (2) - و إن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فأن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا (3) - وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا (4) - ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التى جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا (5) - وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها أسرافا وبدارا أن يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف

[ 151 ]

فإذا دفعتم إليهم أموالهم فاشهدوا عليهم وكفى بالله حسيبا (6)):

( بيان )

 الآيات تتمة التهميد والتوطئة التى وضعت في أول السورة لبيان أحكام المواريث وعمدة أحكام التزويج كعدد النساء وتعيين المحارم وهذان البابان من أكبر أبواب القوانين الحاكمة في المجتمع الانساني وأعظمها ولهما أعظم التأثير في تكون المجتمع وبقائه فان النكاح يتعين به وضع المواليد من الانسان الذين هم أجزاء المجتمع والعوامل التى تكونه والارث يتعلق بتقسيم الثروة الموجودة في الدنيا التى يبتنى عليها بنية المجتمع في عيشته وبقائه. وقد تعرضت الآيات في ضمن بيانها للنهى عن الزنا والسفاح والنهى عن أكل المال بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض وعند ذلك تأسس أساسان قيمان لامر المجتمع في أهم ما يشكله وهو أمر المواليد وأمر المال. ومن هنا يظهر وجه العناية بالتمهيد المسوق لبيان هذه الاحكام التى تعلقت بالاجتماع الانساني ونشبت في اصوله وجذوره وصرف الناس عما اعتادت عليه جماعتهم والتحمت عليه أفكارهم ونبتت عليه لحومهم ومات عليه أسلافهم ونشأ عليه أخلافهم عسير كل العسر. وهذا شأن ما شرع في صدر هذه السورة من الاحكام المذكورة يتضح ذلك بتأمل إجمالي في وضع العالم الانساني يومئذ بالعموم وفي وضع العالم العربي ودارهم دار نزول القرآن وظهور الاسلام بالخصوص وفي كيفيد تدرج القرآن في نزوله وظهور الاحكام الاسلامية في تشريعها.

( كلام في الجاهلية الاولى )

 القرآن يسمى عهد العرب المتصل بظهور الاسلام بالجاهلية وليس إلا أشارة منه إلى أن الحاكم فيهم يومئذ الجهل دون العلم والمسيطر عليهم في كل شئ الباطل

[ 152 ]

وسفر الرأي دون الحق وكذلك كانوا على ما يقصه القرآن من شؤونهم قال تعالى يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية: آل عمران - 154 وقال أ فحكم الجاهلية يبغون: المائدة - 50 وقال أذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية: الفتح - 26 وقال ولا تبرجن تبرج الجاهلية الاولى: الاحزاب - 33. كانت العرب يومئذ تجاور في جنوبها الحبشة وهى نصرانية وفي مغربها إمبراطورية الروم وهى نصرانية وفي شمالها الفرس وهم مجوس وفي غير ذلك الهند ومصر وهما وثنيتان وفي أرضهم طوائف من اليهود وهم أعنى العرب مع ذلك وثنيون يعيش أغلبهم عيشة القبائل وهذا كله هو الذى أوجد لهم اجتماعا همجيا بدويا فيه أخلاط من رسوم اليهودية والنصرانية والمجوسية وهم سكارى جهالتهم قال تعالى وإن تطع أكثر من في الارض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون: الانعام - 116. وقد كانت العشائر وهم البدو على ما لهم من خساسة العيش ودناءته يعيشون بالغزوات وشن الغارات واختطاف كل ما في أيدى آخرين من متاع أو عرض فلا أمن بينهم ولا أمانة ولا سلم ولا سلامة والامر إلى من غلب والملك لمن وضع عليه يده. أما الرجال فالفضيلة بينهم سفك الدماء والحمية الجاهلية والكبر والغرور واتباع الظالمين وهضم حقوق المظلومين والتعادى والتنافس والقمار وشرب الخمر والزنا وأكل الميتة والدم وحشف التمر. وأما النساء فقد كن محرومات من مزايا المجتمع الانساني لا يملكن من أنفسهن إرادة ولا من أعمالهن عملا ولا يملكن ميراثا ويتزوج بهن الرجال من غير تحديد بحد كما عند اليهود وبعض الوثنية ومع ذلك فقد كن يتبرجن بالزينة ويدعون من أحببن إلى أنفسهن وفشا فيهن الزنا والسفاح حتى في المحصنات المزوجات منهن ومن عجيب بروزهن أنهن ربما كن يأتين بالحج عاريات. وأما الاولاد فكانوا ينسبون إلى الآباء لكنهم لا يورثون صغارا ويذهب الكبار بالميراث ومن الميراث زوجة المتوفى ويحرم الصغار ذكورا وإناثا والنساء. غير أن المتوفى لو ترك صغيرا ورثه لكن الاقوياء يتولون أمر اليتيم ويأكلون

[ 153 ]

ماله ولو كان اليتيم بنتا تزوجوها وأكلوا مالها ثم طلقوها وخلوا سبيلها فلا مال تقتات به ولا راغب في نكاحها ينفق عليها والابتلاء بأمر الايتام من أكثر الحوادث المبتلى بها بينهم لمكان دوام الحروب والغزوات والغارات فبالطبع كان القتل شائعا بينهم. وكان من شقاء أولادهم أن بلادهم الخربة وأراضيهم القفرة البائرة كان يسرع الجدب والقحط إليها فكان الرجل يقتل أولاده خشية الاملاق الانعام آية 151 وكانوا يئدون البنات التكوير آية 8 وكان من أبغض الاشياء عند الرجل أن يبشر بالانثى الزخرف آية 17 وأما وضع الحكومة بينهم فأطراف شبه الجزيرة وإن كانت ربما ملك فيها ملوك تحت حماية أقوى الجيران وأقربها كإيران لنواحي الشمال والروم لنواحي الغرب والحبشة لنواحي الجنوب إلا أن قرى الاوساط كمكة ويثرب والطائف وغيرها كانت تعيش في وضع أشبه بالجمهورية وليس بها والعشائر في البدو بل حتى في داخل القرى كانت تدار بحكومة رؤسائها وشيوخها وربما تبدل الوضع بالسلطنة. فهذا هو الهرج العجيب الذى كان يبرز في كل عدة معدودة منهم بلون ويظهر في كل ناحية من أرض شبه الجزيرة في شكل مع الرسوم العجيبة والاعتقادات الخرافية الدائرة بينهم وأضف إلى ذلك بلاء الامية وفقدان التعليم والتعلم في بلادهم فضلا عن العشائر والقبائل. وجميع ما ذكرناه من أحوالهم وأعمالهم والعادات والرسوم الدائرة بينهم مما يستفاد من سياق الآيات القرآنية والخطابات التى تخاطبهم بها أوضح استفادة فتدبر في المقاصد التى ترومها الآيات والبيانات التى تلقيها إليهم بمكة أولا ثم بعد ظهور الاسلام وقوته بالمدينة ثانيا وفي الاوصاف التى تصفهم بها والامور التى تذمها منهم وتلومهم عليها والنواهي المتوجهة إليهم في شدتها وضعفها إذا تأملت كل ذلك تجد صحة ما تلوناه عليك على أن التاريخ يذكر جميع ذلك ويتعرض من تفاصيلها ما لم نذكره لاجمال الآيات الكريمة وإيجازها القول فيه وأوجز كلمة وأوفاها لافادة جمل هذه المعاني ما سمى القرآن هذا العهد بعهد الجاهلية فقد أجمل في معناها جميع هذه التفاصيل هذا حال عالم العرب ذلك اليوم.

[ 154 ]

وأما العالم المحيط بهم ذلك اليوم من الروم والفرس والحبشة والهند وغيرهم فالقرآن يجمل القول فيه أما أهل الكتاب منهم أعنى اليهود والنصارى ومن يلحق بهم فقد كانت مجتمعاتهم تدار بالاهواء الاستبدادية والتحكمات الفردية من الملوك والرؤساء والحكام والعمال فكانت مقتسمة طبعا إلى طبقتين طبقة حاكمة فعالة لما تشاء تعبث بالنفس والعرض والمال وطبقة محكومة مستعبدة مستذلة لا أمن لها في مال وعرض ونفس ولا حرية إرادة إلا ما وافق من يفوقها وقد كانت الطبقة الحاكمة استمالت علماء الدين وحملة الشرع وائتلفت بهم وأخذت مجامع قلوب العامة وأفكارهم بأيديهم فكانت بالحقيقة هي الحاكمة في دين الناس ودنياهم تحكم في دين الناس كيفما أرادت بلسان العلماء وأقلامهم وفي دنياهم بالسوط والسيف. وقد اقتسمت الطبقة المحكومة أيضا على حسب قوتها في السطوة والجدة فيما بينهم نظير الاقتسام الاول والناس على دين ملوكهم إلى طبقتي الاغنياء المترفين والضعفاء والعجزة والعبيد وكذا إلى رب البيت ومربوبيه من النساء والاولاد وكذا إلى الرجال المالكين لحرية الارادة والعمل في جميع شؤون الحياة والنساء المحرومات من جميع ذلك التابعات للرجال محضا الخادمات لهم في ما أرادوه منهن من غير استقلال ولو يسيرا. وجوامع هذه الحقائق التاريخية ظاهرة من قوله تعالى قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون: آل عمران - 64 وقد أدرجها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كتابه إلى هرقل عظيم الروم وقد قيل إنه كتب بها أيضا إلى عظيم مصر وعظيم الحبشة وملك الفرس وألى نجران. وكذا قوله تعالى يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم: الحجرات - 13 وقوله في ما وصى به التزوج بالاماء والفتيات بعضكم من بعض فانكحوهن بإذن أهلهن: النساء - 25 وقوله في النساء أنى لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض: آل عمران - 195 إلى غير ذلك من الآيات. وأما غير أهل الكتاب وهم يومئذ الوثنية ومن يلحق بهم فقد كان الوضع فيهم أردأ وأشأم من وضع أهل الكتاب والآيات النازلة في الاحتجاج عليهم تكشف عن

[ 155 ]

خيبة سعيهم وخسران صفقتهم في جميع شؤون الحياة وضروب السعادة قال تعالى ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الارض يرثها عبادي الصالحون إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين قل إنما يوحى إلى إنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء: الانبياء - 109 وقال تعالى واوحى إلى هذا القرآن لانذركم به ومن بلغ: الانعام - 19.

( كيف ظهرت الدعوة الاسلامية )

 كان وضع المجتمع الانساني يومئذ عهد الجاهلية ما سمعته من إكباب الناس على الباطل وسلطة الفساد والظلم عليهم في جميع شؤون الحياة وهو ذا دين التوحيد وهو الدين الحق يريد أن يؤمر الحق ويوليه عليهم تولية مطلقة ويطهر قلوبهم من ألواث الشرك ويزكى أعمالهم ويصلح مجتمعهم بعد ما تعرق الفساد في جذوره وأغصانه وباطنه وظاهره. وبالجملة يريد الله ليهديهم إلى الحق الصريح وما يريد ليجعل عليهم من حرج ولكن يريد ليطهرهم وليتم نعمته عليهم فما هم عليه من الباطل وما يريد منهم كلمة الحق في نقطتين متقابلتين وقطبين متخالفين فهل كان يجب أن يستمال منهم البعض ويصلح بهم الباقين من أهل الباطل ثم بالبعض البعض حرصا على ظهور الحق مهما كان وبأي وسيلة تيسر كما قيل إن أهمية الغاية تبيح المقدمة ولو كانت محظورة وهذا هو السلوك السياسي الذى يستعمله أهل السياسة. وهذا النحو من السلوك إلى الغرض قلما يتخلف عن الايصال إلى المقاصد في أي باب جرى غير أنه لا يجرى في باب الحق الصريح وهو الذى تؤمه الدعوة الاسلامية فإن الغاية وليدة مقدماتها ووسائلها وكيف يمكن أن يلد الباطل حقا وينتج السقيم صحيحا والوليد مجموعة مأخوذة من اللذين يلدانه. وبغية السياسة وهواها أن تبلغ السلطة والسيطرة وتحوز السبق والتصدر والتعين والتمتع بأي نحو اتفق وعلى أي وصف من أوصاف الخير والشر والحق والباطل انطبق ولا هوى لها في الحق ولكن الدعوة الحقة لا تبتغى إلا الغرض

[ 156 ]

الحق ولو توسلت إليه بباطل لكان ذلك منها إمضاءا وإنفاذا للباطل فتصير دعوة باطلة لا دعوة حقة. ولهذه الحقيقة ظهورات بارزة في سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والطاهرين من آله عليهم السلام. وبذلك أمره صلى الله عليه وآله وسلم ربه ونزل به القرآن في مواطن راودوه فيها للمساهلة أو المداهنة ولو يسيرا في أمر الدين قال تعالى قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد لكم دينكم ولى دين: سورة الكافرون - وقال تعالى وفيه لحن التهديد ولو لا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا إذن لاذقناك ضعف الحياة وضعف الممات: أسرى - 75 وقال تعالى وما كنت متخذ المضلين عضدا: الكهف - 51 وقال تعالى وهو مثل وسيع المعنى والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذى خبث لا يخرج إلا نكدا: الاعراف - 58. وإذ كان الحق لا يمازج الباطل ولا يلتئم به فقد أمره الله سبحانه حينما أعباه ثقل الدعوة بالرفق والتدرج في أمرها بالنظر إلى نفس الدعوة والمدعو والمدعو إليه من ثلاث جهات. الاولى من جهة ما اشتمل عليه الدين من المعارف الحقة والقوانين المشرعة التى من شأنها إصلاح شؤون المجتمع الانساني وقطع منابت الفساد فإن من الصعب المستصعب تبديل عقائد الناس ولا سيما إذا كانت ناشبة في الاخلاق والاعمال وقد استقرت عليها العادات ودارت عليها القرون وسارت عليها الاسلاف ونشأت عليها الاخلاف ولا سيما إذا عمت كلمة الدين ودعوته جميع شؤون الحياة واستوعبت جميع الحركات الانسانية وسكناتها في ظاهرها وباطنها في جميع أزمنتها ولجميع أشخاصها وأفرادها ومجتمعاتها من غير استثناء كما أنه شأن الاسلام فإن ذلك مما يدهش الفكرة تصوره أو هو محال عادى. وصعوبة هذا الامر ومشقته في الاعمال أزيد منها في الاعتقادات فإن استيناس الانسان واعتياده ومساسه بالعمل أقدم منه بالاعتقاد وهو أظهر لحسه وآثر عند

[ 157 ]

شهواته وأهوائه ولذلك أظهرت الدعوة الاعتقادات الحقة في أول أمرها جملة لكن القوانين والشرائع الالهية ظهرت بالتدريج حكما فحكما. وبالجملة تدرجت الدعوة في إلقاء مضمراتها إلى الناس لئلا يشمس عن تلقيها الطباع ولا تتزلزل النفوس في نضد بعض أجزاء الدعوة على بعض وهذا الذى ذكرناه ظاهر للمتدبر الباحث في هذه الحقائق فانه يجد الآيات القرآنية مختلفة في إلقاء المعارف الالهية والقوانين المشرعة في مكيتها ومدنيتها الآيات المكية تدعو إلى كليات أجمل فيها القول والمدنية ونعنى بها ما نزلت بعد الهجرة أينما نزلت تفصل القول وتأتى بالتفاصيل من الاحكام التى سبقت في المكية كلياتها ومجملاتها قال تعالى كلا إن الانسان ليطغى أن رآه استغنى إن إلى ربك الرجعى أرأيت الذى ينهى عبدا إذا صلى أ رأيت إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى أرأيت إن كذب وتولى أ لم يعلم بأن الله يرى: العلق - 14 والآيات نازلة في أول الرسالة بعد النبوة على ما مرت إليه الاشارة في آيات الصوم من الجزء الثاني وفيها إجمال التوحيد والمعاد وإجمال أمر التقوى والعبادة. وقال تعالى يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر: المدثر - 3 وهى أيضا من الآيات النازلة في أول البعثة وقال تعالى ونفس وما سويها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكيها وقد خاب من دسيها: الشمس - 10 وقال تعالى قد أفلح من تزكى وذكر إسم ربه فصلى: الاعلى - 15 وقوله تعالى قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلى أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكوة وهم بالآخرة هم كافرون إن الذين آمنوا وعلموا الصالحات لهم أجر غير ممنون: حم السجدة - 8 وهذه الآيات أيضا من الآيات النازلة في أوائل البعثة. وقال تعالى قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التى حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتى هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون: الانعام - 153

[ 158 ]

فانظر إلى سياق الآيات الشريفة كيف اجمل القول فيها في النواهي الشرعية أولا وفي الاوامر الشرعية ثانيا وأنما أجمل بجمع الجميع تحت وصف لا يستنكف حتى العقل العامي من قبوله فإن الفواحش لا يتوقف في شناعتها ولزوم اجتنابها والكف عنها ذو مسكة وكذا الاجتماع على صراط مستقيم يؤمن به التفرق والضعف والوقوع في الهلكة والردى لا يرتاب فيه أحد بحكم الغريزة فقد استمد في هذه الدعوة من غرائز المدعوين ولذلك بعينه ذكر ما ذكر من المحرمات بعنوان التفصيل كعقوق الوالدين والاساءة اليهما وقتل الاولاد من إملاق وقتل النفس المحترمة وأكل مال اليتيم إلى آخر ما ذكر فأن العواطف الغريزية من الانسان تؤيد الدعوة في أمرها لاشمئزازها في حالها العادى عن ارتكاب هذه الجرائم والمعاصي وهناك آيات اخر يعثر عليها المتدبر ويرى أن الحال فيها نظير ما ذكرناه فيما نقلنا من الآيات. وكيف كان فالآيات المكية شأنها الدعوة إلى مجملات فصلتها بعد ذلك الآيات المدنية ومع ذلك فالآيات المدنية نفسها لا تخلو عن مثل هذا التدرج فما جميع الاحكام والقوانين الدينية نزلت في المدينة دفعة واحدة بل تدريجا ونجوما ويكفيك التدبر في أنموذج منها قد تقدمت الاشارة إليها وهى آيات حرمة الخمر فقد قال تعالى ومن ثمرات النخيل والاعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا: النحل - 67 والآية مكية ذكر فيها أمر الخمر وسكت عنه إلا ما في قوله ورزقا حسنا من الايماء إلى أن السكر ليس من الرزق الحسن ثم قال قل إنما حرم ربى الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم: الاعراف - 33 والآية أيضا مكية تحرم الاثم صريحا لكن لم تبين أن شرب الخمر إثم إرفاقا في الدعوة إلى ترك عادة سيئة اجتذبتهم إليها شهواتهم ونبتت عليها لحومهم وشدت عظامهم ثم قال يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما: البقرة - 219 والآية مدنية تبين أن شرب الخمر من الاثم الذى حرمته آية الاعراف ولسان الآية كما ترى لسان رفق ونصح ثم قال تعالى يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلوة فهل أنتم منتهون: المائدة - 91 والآية مدنية ختم بها أمر التحريم.

[ 159 ]

ونظيرها الارث فقد آخى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أولا بين أصحابه وورث أحد الاخوين الآخر في أول الامر إعدادا لهم لما سيشرعه الله في أمر الوراثة ثم نزل قوله تعالى واولوا الارحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين: الاحزاب - 6 وعلى هذا النحو غالب الاحكام المنسوخة والناسخة. ففى جميع هذه الموارد وأشباهها تدرجت الدعوة في إظهار الاحكام وإجرائها أخذا بالارفاق لحكمة الحفظ لسهولة التحميل وحسن التلقى بالقبول قال تعالى وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا: أسرى - 106 ولو كان القرآن نزل عليه صلى الله عليه وآله وسلم دفعة واحدة ثم بين الرسول تفاصيل شرائعه على ما يوظفه عليه قوله تعالى وأنزلنا اليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم: النحل - 44 فأتى ببيان جميع معارفه الاعتقادية والاخلاقية وكليات الاحكام العبادية والقوانين الجارية في المعاملات والسياسات وهكذا لم تستطع الافهام عندئذ تصورها وحملها فضلا عن قبول الناس لها وعملهم بها وحكومتها على قلوبهم في أرادتها وعلى جوارحهم وأبدانهم في فعلها فتنزيله على مكث هو الذى هيأ للدين إمكان القبول والوقوع في القلوب وقال تعالى وقال الذين كفروا لو لا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا: الفرقان - 32 وفي الآية دلالة على أن سبحانه كان يرفق برسوله صلى الله عليه وآله وسلم في إنزال القرآن نجوما كما أرفق بامته فتدبر في ذلك وتأمله وفي ذيل الآية قوله ورتلناه ترتيلا. ومن الواجب أن يتذكر أن السلوك من الاجمال إلى التفصيل والتدرج في إلقاء الاحكام إلى الناس من باب الارفاق وحسن التربية ورعاية المصلحة غير المداهنة والمساهلة وهو ظاهر. الثانية السلوك التدريجي من حيث انتخاب المدعوين وأخذ الترتيب فيهم فمن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان مبعوثا إلى كافة البشر من غير اختصاص دعوته بقوم دون قوم ولا بمكان دون مكان ولا بزمان دون زمان ومرجع الاخيرين إلى الاول في الحقيقة البتة قال تعالى قل يا أيها الناس إنى رسول الله اليكم جميعا الذى له ملك السموات والارض: الاعراف - 158 وقال تعالى واوحى إلى هذا القرآن لانذركم به ومن بلغ: الانعام - 19 وقال تعالى وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين: الانبياء - 107

[ 160 ]

على أن التاريخ يحكى دعوته صلى الله عليه وآله وسلم اليهود وهم من بنى إسرائيل والروم والعجم والحبشة ومصر وليسوا من العرب وقد آمن به من المشاهير سلمان وهو من العجم ومؤذنه بلال وهو من الحبشة وصهيب وهو من الروم فعموم نبوته صلى الله عليه وآله وسلم في زمانه لا ريب فيه والآيات السابقة تشمل بعمومها الازمان والامكنة أيضا. على أن قوله تعالى وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد: حم السجدة - 42 وقوله تعالى ولكن رسول الله وخاتم النبيين: الاحزاب - 40 تدلان على عموم النبوة وشمولها للامكنة والازمنة أيضا والبحث التفصيلي عن هذه الآيات يطلب من تفسيرها في مواردها. وكيف كان فالنبوة عامة والمتأمل في سعة المعارف والقوانين الاسلامية وما كان عليه الدنيا يوم ظهر الاسلام من ظلمة الجهل وقذارة الفساد والبغى لا يرتاب في عدم إمكان مواجهة الدنيا ومكافحة الشرك والفساد حينئذ دفعة. بل كان من الواجب في الحكمة أن تبدأ الدعوة بالبعض وأن يكون ذلك البعض هو قوم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم يظهر بركوز الدين فيهم على غيرهم وهكذا كان قال تعالى وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم: إبراهيم - 4 وقال ولو نزلناه على بعض الاعجمين فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين: الشعراء - 199 والآيات التى تدل على ارتباط الدعوة والانذار بالعرب لا تدل على أزيد من كونهم بعض من تعلقت بهم الدعوة والانذار وكذا الآيات النازلة في التحدي بالقرآن لو كان فيها ما ينحصر تحديه بالبلاغة فحسب إنما هي لكون البلاغة إحدى جهات التحدي بالاعجاز ولا دليل في ذلك على كون الامة العربية هي المقصودة بالدعوة فقط نعم اللسان مقصود بالاستقلال للبيان كما مر من قوله وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم الآية وقوله نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا اليك هذا القرآن: يوسف - 3 وقوله وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الامين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين: الشعراء - 195 فاللسان العربي هو المظهر للمعانى والمقاصد الذهنية أتم إظهار ولذلك اختاره الله سبحانه لكتابه العزيز من بين الالسن وقال إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون: الزخرف - 3. وبالجملة أمره الله تعالى بعد القيام بأصل الدعوة أن يبدأ بعشيرته فقال وأنذر

[ 161 ]

عشيرتك الاقربين: الشعراء - 214 فامتثل أمره وجمع عشيرته ودعاهم إلى ما بعث له ووعدهم أن أول من لباه فهو خليفته من بعده فأجابه إلى ذلك على عليه السلام فشكر له ذلك واستهزأ به الباقون على ما في صحاح الروايات (1) وكتب التاريخ والسير ثم لحق به اناس من أهله كخديجة ه زوجته وعمه حمزة بن عبد المطلب وعبيد وعمه أبى طالب على ما روته الشيعة وفي أشعاره تصريحات وتلويحات بذلك (2) وإنما لم يتظاهر بالايمان ليتمكن من حمايته صلى الله عليه وآله وسلم. ثم أمره الله سبحانه أن يوسع الدعوة لقومه على ما يظهر من قوله وكذلك أوحينا اليك قرآنا عربيا لتنذر ام القرى ومن حولها: الشورى - 7 وقوله لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون: الم السجدة - 3 وقوله واوحى إلى هذا القرآن لانذركم به ومن بلغ وهذه الآية من الشواهد على أن الدعوة غير مقصورة عليهم وإنما بدأ بهم حكمة ومصلحة. ثم أمره الله سبحانه بتوسعة الدعوة للدنيا من جميع المليين وغيرهم كما يدل عليه الآيات السابقة كقوله تعالى قل يا أيها الناس إنى رسول الله اليكم جميعا وقوله ولكن رسول الله وخاتم النبيين وغيرهما مما تقدم. الثالثة الاخذ بالمراتب من حيث الدعوة والارشاد والاجراء وهى الدعوة بالقول والدعوة السلبية والجهاد. أما الدعوة بالقول فهى مما يستفاد من جميع القرآن بالبداهة وقد أمره الله سبحانه برعاية الكرامات الانسانية والاخلاق الحسنة في ذلك قال تعالى قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى ألى: الكهف - 110 وقال واخفض جناحك للمؤمنين: الحجر - 88 وقال ولا تستوى الحسنة ولا السيئة ادفع بالتى هي أحسن فإذا الذى بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميم: حم السجدة 34 وقال ولا تمنن تستكثر: المدثر - 6 إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.

_________________________________

(1) راجع سادس البحار وسيرة ابن هشام وغيرهما. (2) راجع ديوان أبي طالب.

[ 162 ]

وأمره صلى الله عليه وآله وسلم أن يستعمل جميع فنون البيان على حسب اختلاف الافهام واستعدادات الاشخاص قال تعالى ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن " النحل - 125 ". وأما الدعوة السلبية فهو اعتزال المؤمنين الكافرين في دينهم وأعمالهم وتكوين مجتمع إسلامي لا يمازجه دين غيرهم ممن لا يوحد الله سبحانه ولا أعمال غير المسلمين من المعاصي وسائر الرذائل الاخلاقية إلا ما أوجبته ضرورة الحياة من المخالطة قال تعالى لكم دينكم ولي دين: الكافرون - 6 وقال فاستقم كما امرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون: هود - 113 وقال فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لاعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا واليه المصير: الشورى - 15 وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق إلى أن قال لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم ؟ ؟ أن تولوهم ومن يتولهم فاولئك هم الظالمون: الممتحنة - 9 والآيات في معنى التبري والاعتزال عن أعداء الدين كثيرة وهي كما ترى تشرح معنى هذا التبري وكيفيته وخصوصيته. وأما الجهاد فقد تقدم الكلام فيه في ذيل آيات الجهاد من سورة البقرة وهذه المراتب الثلاث من مزايا الدين الاسلامي ومفاخره والمرتبة الاولى لازمه في الاخيرتين وكذا الثانية في الثالثة فقد كانت من سيرته صلى الله عليه وآله وسلم الدعوة والموعظة في غزواته قبل الشروع فيها على ما أمره به ربه سبحانه فقال فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء ". ومن أخنى القول ما نبذوا به الاسلام أنه دين السيف دون الدعوة مع أن الكتاب والسيرة والتاريخ تشهد به وتنوره ولكن من لم يجعل الله له نورا فما له من نور. وهؤلاء المنتقدون بعضهم من أهل الكنيسه التي كانت عقدت منذ قرون فيها محكمة دينية تقضي على المنحرفين عن الدين بالنار تشبها بالمحكمة الالهية يوم القيامة

[ 163 ]

فكان عمالها يجولون في البلاد فيجلبون إليها من الناس من اتهموه بالردة ولو بالاقوال الحديثة في الطبيعيات والرياضيات مما لم يقل به الفلسفة الاسكو لاستيكية التي كانت الكنيسة تروجها. فليت شعري هل بسط التوحيد وقطع منابت الوثنية وتطهير الدنيا من قذارة الفساد أهم عند العقل السليم أو تخنيق من قال بمثل حركة الارض أو نفي الفلك البطليموسي ورد أنفاسه إلى صدره والكنيسة هي التي أثارت العالم المسيحي على المسلمين باسم الجهاد مع الوثنية فأقامت الحروب الصليبية على ساقها مائتي سنة تقريبا وخربت البلاد وأفنت الملايين من النفوس وأباحت الاعراض. وبعضهم من غير أهل الكنيسة من المدعين للتمدن والحرية ! ! وهؤلاء هم الذين يوقدون نار الحروب العالمية ويقلبون الدنيا ظهر البطن كلما هتفت بهم مزاعمهم توجه خطر يسير على بعض منافعهم المادية فهل استقرار الشرك في الدنيا وانحطاط الاخلاق وموت الفضائل وإحاطة الشؤم والفساد على الارض ومن فيها أضر أم زوال السلطة على أشبار من الارض أو الخسارة في دريهمات يسيرة ؟ ! نعم إن الانسان لربه لكنود. ويعجبني نقل ما ذكره بعض المحققين الاعاظم (1) في هذا الباب في بعض رسائله قال رحمه الله الوسائل المتبعة للاصلاح الاجتماعي وتحقيق العدل وتمزيق الظلم ومقاومة الشر والفساد تكاد تنحصر في ثلاثة أنواع: 1 - وسائل الدعوة والارشاد بالخطب والمقالات والمؤلفات والنشرات وهذه هي الخطة الشريفة التي أشار إليها الحق جل شأنه بقوله ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن وقوله ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وهذه هي الطريقة التي استعملها الاسلام في أول البعثة إلى أن قال: 2 - وسائل المقاومة السلمية والسلبية كالمظاهرات والاضرابات والمقاطعة الاقتصادية وعدم التعاون مع الظالمين وعدم الاشتراك في أعمالهم وحكومتهم

_________________________________

(1) الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء في رسالة: المثل العليا في الاسلام لا في بحمدون. (*)

[ 164 ]

وأصحاب هذه الطريقة لا يبيحون اتخاذ طريق الحرب والقتل والعنف وهي المشار إليها بقوله تعالى ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ولا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء وفي القرآن الكريم كثير من الآيات التي تشير إلى هذه الطريقة وأشهر من دعا إلى هذه الطريقة وأكد عليها النبي الهندي بوذا والمسيح عليه السلام والاديب الروسي تولستوي والزعيم الهندي الروحي غاندي. 3 - الحرب والثورة والقتال. والاسلام يتدرج في هذه الاساليب الثلاثة الاولى الموعظة الحسنة والدعوة السليمة فإن لم ينجح في دفع الظالمين ودرء فسادهم واستبدادهم فالثانية المقاطعة السلمية أو السلبية وعدم التعاون والمشاركة معهم فإن لم تجد وتنفع فالثالثة الثورة المسلحة فإن الله لا يرضى بالظلم أبدا بل والراضي الساكت شريك الظالم. الاسلام عقيدة وقد غلط وركب الشطط من قال إن الاسلام نشر دعوته بالسيف والقتال فإن الاسلام إيمان وعقيدة والعقيدة لا تحصل بالجبر والاكراه وإنما تخضع للحجة والبرهان والقرآن المجيد ينادي بذلك في عدة آيات منها لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي. والاسلام إنما استعمل السيف وشهر السلاح على الظالمين الذين لم يقتنعوا بالآيات والبراهين استعمل القوة في سبيل من وقف حجر عثرة في سبيل الدعوة إلى الحق أجهز السلاح لدفع شر المعاندين لا إلى إدخالهم في حظيرة الاسلام يقول جل شأنه قاتلوهم حتى لا تكون فتنة فالقتال إنما هو لدفع الفتنة لا لاعتناق الدين والعقيدة. فالاسلام لا يقاتل عبطة واختيارا وإنما يحرجه الاعداء فيلتجئ إليه اضطرارا ولا يأخذ منه إلا بالوسائل الشريفة فيحرم في الحرب والسلم التخريب والاحراق والسم وقطع الماء عن الاعداء كما يحرم قتل النساء والاطفال وقتل الاسرى ويوصي بالرفق بهم والاحسان إليهم مهما كانوا من العداء والبغضاء للمسلمين ويحرم الاغتيال في الحرب والسلم ويحرم قتل الشيوخ والعجزة ومن لم يبدأ بالحرب ويحرم الهجوم على العدو ليلا وانبذ إليهم على سواء ويحرم القتل على الظنة والتهمة والعقاب قبل ارتكاب الجريمة إلى أمثال ذلك من الاعمال التي يأباها الشرف والمروءة والتي تنبعث من الخسة والقسوة والدناءة والوحشية.

[ 165 ]

كل تلك الاعمال التي أبى شرف الاسلام ارتكاب شئ منها مع الاعداء في كل ما كان له من المعارك والحروب قد ارتكبتها بأفظع صورها وأهول أنواعها الدول المتمدنة في هذا العصر الذي يسمونه عصر النور نعم أباح عصر النور قتل النساء والاطفال والشيوخ والمرضى والتبييت ليلا والهجوم ليلا بالسلاح والقنابل على العزل والمدنيين الآمنين وأباح القتل بالجملة. ألم يرسل الالمان في الحرب العالمية الثانية القنابل الصاروخية إلى لندن فهدمت المباني وقتلت النساء والاطفال والسكان الآمنين ؟ ! ألم يقتل الالمان الوف الاسرى ؟ ! ألم يرسل الحلفاء في الحرب الماضية الوف الطائرات إلى ألمانيا لتخريب مدنها ؟ ! ألم يرم الامريكان القنابل الذرية إلى المدن اليابانية. وبعد اختراع وسائل الدمار الحديثة كالصواريخ والقنابل الذرية والهيدروجينية لا يعلم إلا الله ماذا يحل بالارض من عذاب وخراب ومآسي وآلام إذا حدثت حرب عالمية ثالثة ولجأت الدول المتحاربة إلى استعمال تلك الوسائل أرشد الله الانسان إلى طريق الصواب وهداه الصراط المستقيم انتهى. قوله تعالى وآتوا اليتامى أموالهم إلى آخر الآية أمر بإيتاء اليتامى أموالهم وهو توطئة للجملتين اللاحقتين ولا تتبدلوا إلخ أو الجملتان كالمفسر لهذه الجملة غير أن التعليل الذي في آخر الآية لكونه راجعا إلى الجملتين أو الجملة الاخيرة يؤيد أن الجملة الاولى موضوعة في الكلام تمهيدا للنهي الذي في الجملتين اللاحقتين. أصل النهي عن التصرف المضار في أموال اليتامى كما تقدم بيانه توطئة وتمهيد لما سيذكر من أحكام الارث ولما سيذكر في الآية التالية من حكم التزوج. وأما قوله تعالى ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب أي لا تتبدلوا الخبيث من أموالكم من الطيب من أموالهم بأن يكون لهم عندكم مال طيب فتعزلوه لانفسكم وتردوا إليهم ما يعادله من ردي أموالكم ويمكن أن يكون المراد لا تتبدلوا أكل الحرام من أكل الحلال كما قيل لكن المعنى الاول أظهر فإن الظاهر أن كلا من الجملتين أعني قوله ولا تتبدلوا الخ وقوله ولا تأكلوا الخ بيان لنوع خاص من التصرف غير الجائز وقوله وآتوا اليتامى الخ تمهيد لبيانهما معا وأما قوله إنه كان حوبا كبيرا

[ 166 ]

الحوب الاثم مصدر واسم مصدر قوله تعالى وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فانحكوا ما طاب لكم من النساء قد مرت الاشارة فيما مر إلى أن أهل الجاهلية من العرب وكانوا لا يخلون في غالب الاوقات عن الحروب والمقاتل والغيلة والغارة وكان يكثر فيهم حوادث القتل كان يكثر فيهم الايتام وكانت الصناديد والاقوياء منهم يأخذون إليهم يتامى النساء وأموالهن فيتزوجون بهن ويأكلون أموالهن إلى أموالهم ثم لا يقسطون فيهن وربما أخرجوهن بعد أكل مالهن فيصرن عاطلات ذوات مسكنة لا مال لهن يرتزقن به ولا راغب فيهن فيتزوج بهن وينفق عليهن وقد شدد القرآن الكريم النكير على هذا الدأب الخبيث والظلم الفاحش وأكد النهي عن ظلم اليتامى وأكل أموالهم كقوله تعالى إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا: النساء - 10 وقوله تعالى وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا الآية: النساء - 2 فأعقب ذلك أن المسلمين أشفقوا على أنفسهم كما قيل وخافوا خوفا شديدا حتى أخرجوا اليتامى من ديارهم خوفا من الابتلاء بأموالهم والتفريط في حقهم ومن أمسك يتيما عنده أفرز حظه من الطعام والشراب وكان إذا فضل من غذائهم شئ لم يدنوا منه حتى يبقى ويفسد فاصبحوا متحرجين من ذلك وسألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك وشكوا إليه فنزل ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لاعنتكم إن الله عزيز حكيم البقرة - 220 فأجاز لهم أن يؤووهم ويمسكوهم إصلاحا لشأنهم وإن يخالطوهم فإنهم إخوانهم فجلى عنهم وفرج همهم. إذا تأملت في ذلك ثم رجعت إلى قوله تعالى وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فانكحوا الخ وهو واقع عقيب قوله وآتوا اليتامى أموالهم الآية اتضح لك أن الآية واقعة موقع الترقي بالنسبة إلى النهي الواقع في الآية السابقة والمعنى والله أعلم: اتقوا أمر اليتامى ولا تتبدلوا خبيث أموالكم بطيب أموالهم ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم حتى أنكم إن خفتم أن لا تقسطوا في اليتيمات منهم ولم تطب نفوسكم أن تنكحوهن وتتزوجوا بهن فدعوهن وانكحوا نساءا غيرهن ما

[ 167 ]

طاب لكم مثنى وثلاث ورباع. فالشرطية أعني قوله إن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء في معنى قولنا إن لم تطب لكم اليتامى للخوف من عدم القسط فلا تنكحوهن وانكحوا نساءا غيرهن فقوله فانكحوا ساد مسد الجزاء الحقيقي وقوله ما طاب لكم يغني عن ذكر وصف النساء أعني لفظ غيرهن وقد قيل ما طاب لكم ولم يقل من طاب لكم إشارة إلى العدد الذي سيفصله بقوله مثنى وثلاث إلخ ووضع قوله إن خفتم أن لا تقسطوا موضع عدم طيب النفس من وضع السبب موضع المسبب مع الاشعار بالمسبب في الجزاء بقوله ما طاب لكم هذا. وقد قيل في معنى الآية امور أخر غير ما مر على ما ذكر في مطولات التفاسير وهي كثيرة منها أنه كان الرجل منهم يتزوج بالاربع والخمس وأكثر ويقول ما يمنعني أن أتزوج كما تزوج فلان فإذا فنى ماله مال إلى مال اليتيم الذي في حجره فنهاهم الله عن أن يتجاوزوا الاربع لئلا يحتاجوا إلى أخذ مال اليتيم ظلما. ومنها أنهم كانوا يشددون في أمر اليتامى ولا يشددون في أمر النساء فيتزوجون منهن عددا كثيرا ولا يعدلون بينهن فقال تعالى إن كنتم تخافون أمر اليتامى فخافوا في النساء فانكحوا منهن واحدة إلى أربع. ومنها أنهم كانوا يتحرجون من ولاية اليتامى وأكل أموالهم فقال سبحانه إن كنتم تحرجتم من ذلك فكذلك تحرجوا من الزنا وانكحوا ما طاب لكم من النساء ومنها أن المعنى إن خفتم أن لا تقسطوا في اليتيمة المرباة في حجوركم فانكحوا ما طاب لكم من النساء مما احل لكم من يتامى قرباتكم مثنى وثلاث ورباع. ومنها أن المعنى إن كنتم تتحرجون عن مواكلة اليتامى فتحرجوا من الجمع بين النساء وأن لا تعدلوا بينهن ولا تتزوجوا منهن إلا من تأمنون معه الجور فهذه وجوه ذكروها لكنك بصير بأن شيئا منها لا ينطبق على لفظ الآية ذاك الانطباق فالمصير إلى ما قدمناه. قوله تعالى مثنى وثلاث ورباع بناء مفعل وفعال في الاعداد تدلان على تكرار المادة فمعنى مثنى وثلاث ورباع اثنتين اثنتين وثلاثا ثلاثا وأربعا أربعا ولما

[ 168 ]

كان الخطاب متوجها إلى أفراد الناس وقد جئ بواو التفصيل بين مثنى وثلاث ورباع الدال على التخيير أفاد الكلام أن لكل واحد من المؤمنين أن يتخذ لنفسه زوجتين أو ثلاثا أو أربعا فيصرن بالاضافة إلى الجميع مثنى وثلاث و رباع. وبذلك وبقرينة قوله بعده وإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم وكذا آية المحصنات بجميع ذلك يدفع أن يكون المراد بالآية أن تنكح الاثنتان بعقد واحد أو الثلاث بعقد واحد مثلا أو يكون المراد أن تنكح الاثنتان معا ثم الاثنتان معا وهكذا وكذا في الثلاث والاربع أو يكون المراد اشتراك أزيد من رجل واحد في الزوجد الواحدة مثلا فهذه محتملات لا تحتملها الآية. على أن الضرورة قاضية أن الاسلام لا ينفذ الجمع بين أزيد من أربع نسوة أو اشتراك أزيد من رجل في زوجة واحدة. وكذا يدفع بذلك احتمال أن يكون الواو للجمع فيكون في الكلام تجويز الجمع بين تسع نسوة لان مجموع الاثنتين والثلاث والاربع تسع وقد ذكر في المجمع أن الجمع بهذا المعنى غير محتمل البتة فأن من قال دخل القوم البلد مثنى وثلاث ورباع لم يلزم منه اجتماع الاعداد فيكون دخولهم تسعة تسعة ولان لهذا العدد لفظا موضوعا وهو تسع فالعدول عنه إلى مثنى وثلاث ورباع نوع من العى جل كلامه عن ذلك وتقدس. قوله تعالى وأن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة أي فانكحوا واحدة لا أزيد وقد علقه تعالى على الخوف من ذلك دون العلم لان العلم في هذه الامور ولتسويل النفس فيها أثر بين لا يحصل غالبا فتفوت المصلحة. قوله تعالى أو ما ملكت أيمانكم وهى الاماء فمن خاف أن لا يقسط فيهن فعليه أن ينكح واحدة وأن أحب أن يزيد في العدد فعليه بالاماء إذ لم يشرع القسم في الاماء. ومن هنا يظهر أن ليس المراد التحضيض على الاماء بتجويز الظلم والتعدى عليهن فأن الله لا يحب الظالمين وليس بظلام للعبيد بل لما لم يشرع القسم فيهن فأمر العدل فيهن أسهل ولهذه النكتة بعينها كان المراد بذكر ملك اليمين الاكتفاء باتخاذهن وأتيانهن بملك اليمين دون نكاحهن بما يبلغ العدد أو يكثر عليه فأن مسألة نكاحهن

[ 169 ]

سيتعرض لها في ما سيجئ من قوله ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات الآية: النساء - 25. قوله تعالى ذلك أدنى أن لا تعولوا العول هو الميل أي هذه الطريقة على ما شرعت أقرب من أن لا تميلوا عن العدل ولا تتعدوا عليهن في حقوقهن وربما قيل إن العول بمعنى الثقل وهو بعيد لفظا ومعنى. وفي ذكر هذه الجملة التى تتضمن حكمة التشريع دلالة على أن أساس التشريع في أحكام النكاح على القسط ونفى العول والاجحاف في الحقوق. قوله تعالى وآتوا النساء صدقاتهن نحلة الصدقة بضم الدال وفتحها والصداق هو المهر والنحلة هي العطية من غير مثامنة. وفي إضافة الصدقات إلى ضمير هن دلالة على أن الحكم بوجوب الايتاء مبنى على المتداول بين الناس في سنن الازدواج من تخصيص شئ من المال أو أي شئ له قيمة مهرا لهن كأنه يقابل به البضع مقابلة الثمن المبيع فإن المتداول بين الناس أن يكون الطالب الداعي للازدواج هو الرجل على ما سيأتي في البحث العلمي التالى وهو الخطبة كما أن المشترى يذهب بالثمن إلى البائع ليأخذ سلعته وكيف كان ففى الآية إمضاء هذه العادة الجارية عند الناس. ولعل إمكان توهم عدم جواز تصرف الزوج في المهر أصلا حتى برضى من الزوجة هو الموجب للاتيان بالشرط في قوله فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا مع ما في اشتراط الاكل بطيب النفس من تأكيد الجملة السابقة المشتملة على الحكم والدلالة على أن الحكم وضعي لا تكليفي. والهناء سهولة الهضم وقبول الطبع ويستعمل في الطعام والمرئ من الرى وهو في الشراب كالهنئ في الطعام غير أن الهناء يستعمل في الطعام والشراب معا فإذا قيل هنيئا مريئا اختص الهناء بالطعام والرى بالشراب. قوله تعالى ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التى جعل الله لكم قياما السفه خفة العقل وكأن الاصل في معناه مطلق الخفة فيما من شأنه أن لا يخف ومنه الزمام السفيه أي كثير الاضطراب وثوب سفيه أي ردئ النسج ثم غلب في خفة النفس واختلف

[ 170 ]

باختلاف الاغراض والمقاصد فقيل سفيه لخفيف الرأي في الامور الدنيوية وسفيه للفاسق غير المبالي في أمر دينه وهكذا. وظاهر ما يتراءى من الآية أنه نهى عن الاكثار في الانفاق على السفهاء وإعطائهم من المال أزيد من حاجاتهم الضرورية في الارتزاق غير أن وقوع الآية في سياق الكلام في أموال اليتامى التى يتولى أمر إدارتها وإنمائها الاولياء قرينة معينة على كون المراد بالسفهاء هم السفهاء من اليتامى وأن المراد بقوله أموالكم في الحقيقة أموالهم اضيف إلى الاولياء بنوع من العناية كما يشهد به أيضا قوله بعد و ارزقوهم فيها واكسوهم وإن كان ولا بد من دلالة الآية على أمر سائر السفهاء غير اليتامى فالمراد بالسفهاء ما يعم اليتيم وغير اليتيم لكن الاول أرجح. وكيف كان فلو كان المراد بالسفهاء سفهاء اليتامى فالمراد بقوله أموالكم أموال اليتامى وإنما اضيفت إلى الاولياء المخاطبين بعناية أن مجموع المال والثروة الموجودة في الدنيا لمجموع أهلها وإنما اختص بعض أفراد المجتمع ببعض منه وآخر بآخر للصلاح العام الذى يبتنى عليه أصل الملك والاختصاص فيجب أن يتحقق الناس بهذه الحقيقة ويعلموا أنهم مجتمع واحد والمال كله لمجتمعهم وعلى كل واحد منهم أن يكلاه ويتحفظ به ولا يدعه يضيع بتبذير نفوس سفيهة وتدبير كل من لا يحسن التدبير كالصغير والمجنون وهذا من حيث الاضافة كقوله تعالى ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم: النساء - 25 ومن المعلوم أن المراد بالفتيات ليس الاماء اللاتى يملكها من يريد النكاح. ففى الآية دلالة على حكم عام موجه إلى المجتمع وهو أن المجتمع ذو شخصية واحدة له كل المال الذى أقام الله به صلبه وجعله له معاشا فيلزم على المجتمع أن يدبره ويصلحه ويعرضه معرض النماء ويرتزق به ارتزاقا معتدلا مقتصدا ويحفظه عن الضيعة والفساد ومن فروع هذا الاصل أنه يجب على الاولياء أن يتولوا أمر السفهاء فلا يؤتوهم أموالهم فيضيعوها بوضعها في غير ما ينبغى أن توضع فيه بل عليهم أن يحبسوها عنهم ويصلحوا شأنها وينموها بالكسب والاتجار والاسترباح ويرزقوا اولئك السفهاء من فوائدها ونمائها دون أصلها حتى لا ينفد رويدا رويدا وينتهى إلى مسكنة صاحب المال وشقوته.

[ 171 ]

ومن هنا يظهر أن المراد بقوله وارزقوهم فيها واكسوهم أن يرتزق السفيه في المال بأن يعيش من نمائه ونتاجه وأرباحه لا من المال بأن يشرع في الاكل من أصله على ركود منه من غير جريان ودوران فينفد عن آخره وهذه هي النكتة في قوله فيها دون أن يقول منها كما ذكره الزمخشري. ولا يبعد أن يستفاد من الآية عموم ولاية المحجور عليهم بمعنى أن الله لا يرضى بإهمال أمر هؤلاء بل على المجتمع الاسلامي تولى أمرهم فإن كان هناك واحد من الاولياء الاقربين كالاب والجد فعليه التولى والمباشرة وإلا فعلى الحكومة الشرعية أو على المؤمنين أن يقوموا بالامر على التفصيل المذكور في الفقه

( كلام في أن جميع المال لجميع الناس )

 هذه حقيقة قرآنية هي أصل لاحكام وقوانين هامة في الاسلام أنى ما تفيده هذه الآية أن المال لله ملكا حقيقيا جعله قياما ومعاشا للمجتمع الانساني من غير أن يقفه على شخص دون شخص وقفا لا يتغير ولا يتبدل وهبة تنسلب معها قدرة التصرف التشريعي ثم أذن في اختصاصهم بهذا الذى خوله الجميع على طبق نسب مشرعة كالوراثة والحيازة والتجارة وغير ذلك وشرط لتصرفهم امورا كالعقل والبلوغ ونحو ذلك. والاصل الثابت الذى يراعى حاله ويتقدر به فروعه هو كون الجميع للجميع فإنما تراعى المصالح الخاصة على تقدير انحفاظ المصلحة العامة التى تعود إلى المجتمع وعدم المزاحمة وأما مع المزاحمة والمفاوتة فالمقدم هو صلاح المجتمع من غير تردد. ويتفرع على هذا الاصل الاصيل في الاسلام فروع كثيرة هامة كأحكام الانفاق ومعظم أحكام المعاملات وغير ذلك وقد أيده الله تعالى في موارد من كتابه كقوله تعالى خلق لكم ما في الارض جميعا: البقرة - 29 وقد أوردنا بعض الكلام المتعلق بهذا المقام في البحث عن آيات الانفاق من سورة البقرة فليراجع هناك. قوله تعالى وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا قد تقدم استيفاء الكلام في معنى الرزق في قوله تعالى وترزق من تشاء بغير حساب: آل عمران - 27 وقوله وارزقوهم فيها واكسوهم كقوله وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن

[ 172 ]

البقرة - 233 فالمراد بالرزق هو الغذاء الذى يغتذى به الانسان والكسوة ما يلبسه مما يقيه الحر والبرد غير أن لفظ الرزق والكسوة في عرف القرآن كالكسوة والنفقة في لساننا كالكناية تكنى بها عن مجموع ما ترتفع به حوائج الانسان المادية الحيوية فيدخل فيه سائر ما يحتاج إليه الانسان كالمسكن ونحوه كما أن الاكل ذو معنى خاص بحسب أصله ثم يكنى به عن مطلق التصرفات كقوله فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا الآية. وأما قوله وقولوا لهم قولا معروفا فإنما هو كلمة أخلاقية يصلح بها أمر الولاية فأن هؤلاء وإن كانوا سفهاء محجورين عن التصرف في أموالهم غير أنهم ليسوا حيوانا أعجم ولا من الانعام السائمة بل بشر يجب أن يعامل معهم معاملة الانسان فيكلموا بما يكلم به الانسان لا بالمنكر من القول ويعاشروا بما يعاشر به الانسان. ومن هنا يظهر أن من الممكن أن يكون قوله وقولوا لهم قولا معروفا كناية عن المعاملة الحسنة والمعاشرة الممدوحة غير المذمومة كما في قوله تعالى وقولوا للناس حسنا: البقرة - 83. قوله تعالى وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم ألى قوله أموالهم الابتلاء الامتحان والمراد من بلوغ النكاح بلوغ أوانه ففيه مجاز عقلي والايناس المشاهدة وفيه شوب من معنى الالفة فإن مادته الانس والرشد خلاف الغى وهو الاهتداء إلى مقاصد الحياة ودفع مال اليتيم إليه كناية عن إعطائه إياه وإقباضه له كأن الولى يدفعه إليه ويبعده من نفسه فهو على ابتذاله كناية لطيفة. وقوله حتى إذا بلغوا النكاح متعلق بقوله وابتلوا ففيه دلالة ما على الاستمرار بأن يشرع الولى في ابتلائه من أول ما يأخذ في التمييز ويصلح للابتلاء حتى ينتهى إلى أوان النكاح ويبلغ مبلغ الرجال ومن طبع هذا الحكم ذلك فأن إيناس الرشد لا يحصل بابتلاء الصبى في واقعة أو واقعتين بل يجب تكراره إلى أن يحصل الايناس ويتمشى بالطبع في مدة مديدة حتى يبلغ الرهاق ثم النكاح. وقوله فإن آنستم الخ تفريع على قوله وابتلوا والمعنى وامتحنوهم فإن آنستم منهم الرشد فادفعوا إليهم أموالهم والكلام يؤذن بأن بلوغ النكاح بمنزلة المقتضى لدفع

[ 173 ]

المال إلى اليتيم واستقلاله بالتصرف في مال نفسه والرشد شرط لنفوذ التصرف وقد فصل الاسلام النظر في أمر البلوغ من الانسان فاكتفى في أمر العبادات وأمثال الحدود والديات بمجرد السن الشرعي الذى هو سن النكاح واشترط في نفوذ التصرفات المالية والاقارير ونحوها مما تفصيل بيانه في الفقه مع بلوغ النكاح الرشد وذلك من لطائف سلوكه في مرحلة التشريع فإن اهمال أمر الرشد وألغاءه في التصرفات المالية ونحوها مما يختل به نظام الحياة الاجتماعية في قبيل الايتام ويكون نفوذ تصرفاتهم وأقاريرهم مفضيا إلى غرور الافراد الفاسدة إياهم وإخراج جميع وسائل الحياة من أيديهم بأدنى وسيلة بالكلمات المزيفة والمواعيد الكاذبة والمعاملات الغررية ألى ذلك فالرشد لا محيص من اشتراطه في هذا النوع من الامور وأما أمثال العبادات فعدم الحاجة فيها إلى الاشتراط ظاهر وكذا أمثال الحدود والديات فإن ادراك قبح هذه الجنايات والمعاصي وفهم وجوب الكف عنها لا يحتاج فيه إلى الرشد بل الانسان يقوى على تفهم ذلك قبله ولا يختلف حاله في ذلك قبل الرشد و بعده. قوله تعالى ولا تأكلوها أسرافا وبدارا أن يكبروا اه الاسراف هو التعدي عن الاعتدال في العمل والبدار هو المبادرة إلى الشئ وقوله وبدارا أن يكبروا في معنى حذر أن يكبروا فلا يدعوكم أن تأكلوا وحذف النفى أو ما في معناه قبل أن وأن قياسي على ما ذكره النحاة قال تعالى يبين الله لكم أن تضلوا: النساء - 176 أي لئلا تضلوا أو حذر أن تضلوا. والتقابل الواقع بين الاكل إسرافا والاكل بدارا أن يكبروا يعطى أن الاكل إسرافا هو التعدي إلى أموالهم من غير حاجة ولا شائبة استحقاق بل إجحافا من غير مبالاة والاكل بدارا أن يأكل الولى منها مثل ما يعد اجرة لعمله فيها عادة غير أن اليتيم لو كبر أمكن أن يمنعه عن مثل هذا الاكل فالجميع ممنوع إلا أن يكون الولى فقيرا لا محيص له من أن يشتغل بالاكتساب لسد جوعه أو يعمل لليتيم ويسد حاجته الضرورية من ماله وهذا بالحقيقة يرجع إلى ما يأخذ العامل للتجارة والبناية ونحوهما وهو الذى ذكره بقوله من كان غنيا أي لا يحتاج في معاشه إلى الاخذ من مال اليتيم فليستعفف أي ليطلب طريق العفة وليلزمه فلا يأخذ من أموالهم ومن كان فقيرا فليأكل منها بالمعروف وذكر بعض المفسرين أن المعنى فليأكل بالمعروف من مال نفسه لا من

[ 174 ]

أموالهم وهو لا يلائم التفصيل بين الغنى والفقير. وأما قوله تعالى فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم فتشريع للاستشهاد عند الدفع تحكيما للامر ورفعا لغائلة الخلاف والنزاع فمن الممكن أن يدعى اليتيم بعد الرشد وأخذ المال من الولى عليه ثم ذيل الجميع بقوله تعالى وكفى بالله حسيبا ربطا للحكم بمنشأه الاصلى الاولى أعنى محتد كل حكم من أسمائه وصفاته تعالى فإنه تعالى لما كان حسيبا لم يكن ليخلى أحكام عباده من غير حساب دقيق وهو تشريعه المحكم وتتميما للتربية الدينية الاسلامية فإن الاسلام يأخذ في تربية الناس على أساس التوحيد إذ الاشهاد وإن كان رافعا غالبا للخلاف والنزاع لكن ربما تخلف عنه لانحراف من الشهود في عدالتهم أو غير ذلك من متفرقات العوامل لكن السبب المعنوي العالي القوى هو تقوى الله الذى كفى به حسيبا فلو جعل الولى والشهود واليتيم الذى دفع إليه المال هذا المعنى نصب أعينهم لم يقع هناك اختلاف ولا نزاع البتة. فانظر إلى الآيتين كيف أبدعتا في البيان فقد بينتا أولا رؤوس مسائل الولاية على أموال اليتامى والمحجور عليهم ومهماتها من كيفية الاخذ والحفظ والانماء والتصرف والرد ووقت الاخذ والدفع وتحكيم مبناه ببيان وجه المصلحة العامة في ذلك كله وهو أن المال لله جعله قياما للانسان على ما تقدم بيانه. وثانيا الاصل الاخلاقي الذى يربى الانسان على وفق هذه الشرائع وهو الذى ذكره تعالى بقوله وقولوا لهم قولا معروفا. وثالثا ببناء الجميع على أصل التوحيد الحاكم بوحدته في جميع الاحكام العملية والاخلاقية والباقى على حسن تأثيره في جميع الموارد لو فرض ضعف الاحكام العملية والدستورات الاخلاقية من حيث الاثر وهو الذى ذكره بقوله وكفى بالله حسيبا.

( بحث روائي )

 في الدر المنثور: في قوله تعالى وآتوا اليتامى أموالهم الآية - أخرج ابن أبى حاتم عن سعيد بن جبير قال - إن رجلا من غطفان - كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم - فلما بلغ اليتيم طلب ماله فمنعه عنه - فخاصمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية وآتوا اليتامى

[ 175 ]

أموالهم الحديث وفي تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام: لا يحل لماء الرجل أن يجرى في أكثر من أربعة أرحام من الحرائر وفي الكافي عنه عليه السلام: إذا جمع الرجل أربعا فطلق إحداهن فلا يتزوج الخامسة - حتى تنقضي عدة المرأة التى طلق أقول والروايات في الباب كثيرة. وفي العلل بإسناده عن محمد بن سنان: أن الرضا عليه السلام كتب إليه فيما كتب - من جواب مسائله علة تزويج الرجل أربع نسوة - وتحريم أن تتزوج المرأة أكثر من واحد - لان الرجل إذا تزوج أربع نسوة كان الولد منسوبا إليه - والمرأة لو كان لها زوجان أو أكثر من ذلك لم يعرف الولد لمن هو - إذ هم مشتركون في نكاحها - وفي ذلك فساد الانساب والمواريث والمعارف - قال محمد بن سنان ومن علل النساء الحرائر (1) وتحليل أربع نسوة لرجل واحد أنهن أكثر من الرجال - فلما نظر والله أعلم يقول الله عز وجل - فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع - فذلك تقدير قدره الله تعالى ليتسع فيه الغنى و الفقير - فيتزوج الرجل على قدر طاقته الحديث وفي الكافي عن الصادق عليه السلام: في حديث قال والغيرة للرجال - ولذلك حرم على المرأة إلا زوجها - وأحل للرجل أربعا - فإن الله أكرم من أن يبتليهن بالغيرة - ويحل للرجل معها ثلاثا أقول و يوضح ذلك أن الغيرة هي إحدى الاخلاق الحميدة والملكات الفاضلة وهى تغير الانسان عن حاله المعتاد ونزوعه إلى الدفاع والانتقام عند تعدى الغير إلى بعض ما يحترمه لنفسه من دين أو عرض أو جاه ويعتقد كرامته عليه وهذه الصفة الغريزية لا يخلو عنها في الجملة إنسان أي إنسان فرض فهى من فطريات الانسان والاسلام دين مبنى على الفطرة تؤخذ فيه الامور التى تقضى بها فطرة الانسان فتعدل بقصرها فيما هو صلاح الانسان في حياته ويحذف عنها ما لا حاجة إليه فيها من وجوه الخلل والفساد كما في اقتناء المال والمأكل والمشرب والملبس والمنكح وغير ذلك. * (1) كذا في النسخ.

[ 176 ]

فإذا فرض أن الله سبحانه أحل للرجل مع المرأة الواحدة ثلاثا اخرى والدين مبنى على رعاية حكم الفطرة كان لازم ذلك أن يكون ما يتراءى من حال النساء وتغيرهن على الرجال في أمر الضرائر حسدا منهن لا غيرة وسيتضح مزيد اتضاح في البحث الآتى عن تعدد الزوجات أن هذا الحال حال عرضى طار عليهن لا غريزى فطرى. وفي الكافي بإسناده عن زرارة عن الصادق عليه السلام قال: لا يرجع الرجل فيما يهب لامرأته - ولا المرأة فيما تهب لزوجها جيزت أو لم تجز - أ ليس الله تبارك وتعالى يقول - ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا - وقال فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا - وهذا يدخل في الصداق والهبة وفي تفسير العياشي عن عبد الله بن القداح عن أبى عبد الله عن أبيه عليهما السلام قال: جاء رجل إلى أمير المؤمنين عليه السلام - فقال يا أمير المؤمنين بى وجع في بطني - فقال له أمير المؤمنين عليه السلام أ لك زوجة قال نعم - قال استوهب منها شيئا طيبة به نفسها من مالها - ثم اشتر به عسلا ثم اسكب عليه من ماء السماء - ثم اشربه فإنى سمعت الله يقول في كتابه وأنزلنا من السماء ماء مباركا - وقال يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس - وقال فإن طبن لكم منه شيئا فكلوه هنيئا مريئا - شفيت إن شاء الله تعالى قال ففعل ذلك فشفى: اقول ورواه أيضا في الدر المنثور عن عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه عليه السلام وهو نوع من الاستفادة لطيف وبناؤه على التوسعة في المعنى ويوجد له نظائر في الاخبار المأثورة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام سنورد بعضها في الموارد المناسبة له. وفي الكافي عن الباقر عليه السلام: إذا حدثتكم بشئ فسألوني من كتاب الله - ثم قال في بعض حديثه - إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن القيل والقال - وفساد المال وكثرة السؤال - فقيل له يا ابن رسول الله أين هذا من كتاب الله - قال إن الله عز وجل يقول لا خير في كثير من نجويهم - إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس - وقال ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التى جعل الله لكم قياما - وقال ولا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم

[ 177 ]

وفي تفسير العياشي عن يونس بن يعقوب قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله - ولا تؤتوا السفهاء أموالكم قال من لا تثق به وفيه عن ابراهيم بن عبد الحميد قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن هذه الآية - ولا تؤتوا السفهاء أموالكم قال كل من يشرب الخمر فهو سفيه وفيه عن على بن أبى حمزة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن قول الله ولا تؤتوا السفهاء أموالكم قال - هم اليتامى لا تعطوهم أموالهم حتى تعرفوا منهم الرشد - فقلت فكيف يكون أموالهم أموالنا - قال إذا كنت أنت الوارث لهم وفي تفسير القمي عن الباقر عليه السلام: في الآية فالسفهاء النساء - والولد إذا علم الرجل أن امرأته سفيهة مفسدة - وولده سفيه مفسد - لم ينبغ له أن يسلط واحدا منهما - على ماله الذي جعل الله له قياما يقول معاشا الحديث أقول والروايات في هذه المعاني كثيرة وهى تؤيد ما قدمناه أن للسفه معنى وسيع ذو مراتب كالسفيه المحجور عليه والصبي قبل أن يرشد والمرأة المتلهية المتهوسة وشارب الخمر ومطلق من لا تثق به وبحسب اختلاف هذه المصاديق يختلف معنى إيتاء المال وكذا معنى إضافة أموالكم وعليك بالتطبيق والاعتبار. وقوله في رواية ابن أبي حمزة إذا كنت أنت الوارث لهم إشارة إلى ما قدمناه أن المال كله للمجتمع بحسب الاصل ثم لكل من الاشخاص ثانيا وللمصالح الخاصة فإن اشتراك المجتمع في المال أولا هو الموجب لانتقاله من واحد إلى آخر. وفي الفقيه عن الصادق عليه السلام: انقطاع يتم اليتيم الاحتلام وهو أشده - وإن احتلم ولم يؤنس منه رشد وكان سفيها أو ضعيفا - فليمسك عنه وليه ماله وفيه عنه عليه السلام: في قوله تعالى وابتلوا اليتامى الآية - قال إيناس الرشد حفظ المال اقول وقد تقدم وجه دلالة الآية عليه. وفي التهذيب عنه عليه السلام: في قول الله ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف قال - فذاك رجل يحبس نفسه عن المعيشة - فلا بأس أن يأكل بالمعروف إذا كان يصلح لهم - فإن كان المال قليلا فلا يأكل منه شيئا وفي الدر المنثور أخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة وابن أبي حاتم

[ 178 ]

والنحاس في ناسخه عن ابن عمر: أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال - ليس لي مال ولي يتيم فقال - كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبذر ولا متأثل مالا - ومن غير أن تقى مالك بماله اقول والروايات في هذه المعاني كثيرة من طرق أهل البيت عليهم السلام وغيرهم وهناك مباحث فقهية وأخبار ناظرة إليها من أرادها فعليه بجوامع الحديث وكتب الفقه. وفي تفسير العياشي عن رفاعة عنه عليه السلام: في قوله تعالى فليأكل بالمعروف - قال عليه السلام كان أبى يقول إنها منسوخة وفي الدر المنثور أخرج أبو داود والنحاس كلاهما في الناسخ وابن المنذر من طريق عطاء عن ابن عباس ": ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف قال نسختها - إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما الآية اقول وكون الآية منسوخة لا يلائم ميزان النسخ إذ ليس بين الآيات الكريمة ما نسبتها إلى هذه الآية نسبة الناسخة إلى المنسوخة وأما قوله تعالى إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما الآية فهو لا ينافي بمضمونه مضمون هذه الآية فإن الاكل في هذه الآية المجوزة مقيد بالمعروف وفي تلك الآية المحرمة بالظلم ولا تنافى بين تجويز الاكل بالمعروف وتحريم الاكل ظلما فالحق أن الآية غير منسوخة والروايتان لا توافقان الكتاب على ما فيهما من الضعف. وفي تفسير العياشي عن عبد الله بن المغيرة عن جعفر بن محمد عليه السلام: في قول الله فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم - قال فقال إذا رأيتموهم يحبون آل محمد فارفعوهم درجة أقول وهو من الجرى من باطن التنزيل فإن أئمة الدين آباء المؤمنين والمؤمنون أيتام المعارف عند انقطاعهم عنهم فإذا صح انتسابهم إليهم بالحب فليرفعوا درجة بتعليم المعارف الحقة التي هي ميراث آبائهم.

( بحث علمي في فصول ثلاثة )

 1 - النكاح من مقاصد الطبيعة أصل التواصل بين الرجل والمرأة مما تبينه

[ 179 ]

الطبيعة الانسانية بل الحيوانية بأبلغ بيانها والاسلام دين الفطرة فهو مجوزه لا محالة. وأمر الايلاد والافراخ الذي هو بغية الطبيعة وغرض الخلقة في هذا الاجتماع هو السبب الوحيد والعامل الاصلي في تقليب هذا العمل في قالب الازدواج وإخراجه من مطلق الاختلاط للسفاد والمقاربة إلى شكل النكاح والملازمة ولهذا ترى أن الحيوان الذي يشترك في تربيته الوالدان معا كالطيور في حضانة بيضها وتغذية أفراخها وتربيتها وكالحيوان الذى يحتاج في الولادة والتربية إلى وكر تحتاج الاناث منه في بنائه وحفظه إلى معاونة الذكور يختار لهذا الشأن الازدواج وهو نوع من الملازمة والاختصاص بين الزوجين الذكور والاناث منه فيتواصلان عندئذ ويتشاركان في حفظ بيض الاناث وتدبيرها وإخراج الافراخ منها وهكذا إلى آخر مدة تربية الاولاد ثم ينفصلان إن انفصلا ثم يتجدد الازدواج وهكذا فعامل النكاح والازدواج هو الايلاد وتربية الاولاد وأما إطفاء نائرة الشهوة أو الاشتراك في الاعمال الحيوية كالكسب وجمع المال وتدبير الاكل والشرب والاثاث وإدارة البيت فامور خارجة عن مستوى غرض الطبيعة والخلقة وإنما هي امور مقدمية أو فوائد مترتبة. ومن هنا يظهر أن الحرية والاسترسال من الزوجين بأن يتواصل كل من الزوجين مع غير زوجه أينما أراد ومهما أراد من غير امتناع كالحيوان العجم الذي ينزو الذكور منه على الاناث أينما وجدها على ما يكاد يكون هو السنة الجارية بين الملل المتمدنة اليوم وكذا الزنا وخاصة زنا المحصنة منه. وكذا تثبيت الازدواج الواقع وتحريم الطلاق والانفصال بين الزوجين وترك الزوج واتخاذ زوج آخر ما دامت الحياة تجمع بينهما. وكذا إلغاء التوالد وتربية الاولاد وبناء الازدواج على أساس الاشتراك في الحياة المنزلية على ما هو المتداول اليوم بين الملل الراقية ونظيره إرسال المواليد إلى المعاهد العامة المعدة للرضاع والتربية كل ذلك على خلاف سنة الطبيعة وقد جهز الانسان بما ينافى هذه السنن الحديثة على ما مرت الاشارة إليه. نعم الحيوان الذى لا حاجة في ولادته وتربيته إلى أزيد من حمل الام إياه وإرضاعها له وتربيته بمصاحبتها فلا حاجة طبيعية فيه إلى الازدواج والمصاحبة

[ 180 ]

والاختصاص فهذا النوع من الحيوان له حرية السفاد بمقدار ما لا يضر بغرض الطبيعة من جهة حفظ النسل. وإياك أن تتوهم أن الخروج عن سنة الخلقة وما تستدعيه الطبيعة لا بأس به بعد تدارك النواقص الطارئة بالفكر والروية مع ما فيه من لذائذ الحياة والتنعم فإن ذلك من أعظم الخبط فإن هذه البنيات الطبيعية التى منها البنية الانسانية مركبات مؤلفة من أجزاء كثيرة تستوجب بوقوع كل في موقعه الخاص على شرائطه المخصوصة به وضعا هو الملائم لغرض الطبيعة والخلقة وهو المناسب لكمال النوع كالمعاجين والمركبات من الادوية التي تحتاج إلى أجزاء بأوصاف ومقادير وأوزان وشرائط خاصة لو خرج واحد منها عن هيئته الخاصة أدنى خروج وانحراف سقط الاثر. فالانسان مثلا موجود طبيعي تكويني ذو أجزاء مركبة تركيبا خاصا يستتبع أوصافا داخلية وخواص روحية تستعقب أفعالا وأعمالا فإذا حول بعض أفعاله وأعماله من مكانته الطبيعية إلى غيرها يستتبع ذلك انحرافا وتغيرا في صفاته وخواصه الروحية وانحرف بذلك جميع الخواص والصفات عن مستوى الطبيعة وصراط الخلقة وبطل بذلك ارتباطه بكماله الطبيعي والغاية التي يبتغيها بحسب الخلقة. وإذا بحثنا في المصائب العامة التي تستوعب اليوم الانسانية وتحبط أعمال الناس ومساعيهم لنيل الراحة والحياة السعيدة وتهدد الانسانية بالسقوط والانهدام وجدنا أن أقوى العوامل فيها بطلان فضيلة التقوى وتمكن الخرق والقسوة والشدة والشره من نفوس الجوامع البشرية وأعظم أسبابه وعلله الحرية والاسترسال والاهمال في نواميس الطبيعة في أمر الزوجية وتربية الاولاد فإن سنة الاجتماع المنزلى وتربية الاولاد اليوم تميت قرائح الرأفة والرحمة والعفة والحياء والتواضع من الانسان من أول حين يأخذ في التمييز إلى آخر ما يعيش. وأما تدارك هذه النواقص بالفكر والروية فهيهات ذلك فإنما الفكر كسائر لوازم الحياة وسيلة تكوينية اتخذتها الطبيعة وسيلة لرد ما خرج وانحرف عن صراط الطبيعة والتكوين إليه لا لابطال سعى الطبيعة والخلقة وقتلها بنفس السيف الذي أعطته للانسان لدفع الشر عنها ولو استعمل الفكر الذى هو أحد وسائل الطبيعة في تأييد ما أفسد من شؤون الطبيعة عادت هذه الوسيلة أيضا فاسدة منحرفة كسائر

[ 181 ]

الوسائل ولذلك ترى أن الانسان اليوم كلما أصلح بقوة فكره واحدا من المفاسد العامة التي تهدد اجتماعه أنتج ذلك ما هو أمر وأدهى وزاد البلاء والمصيبة شيوعا وشمولا. نعم ربما قال القائل من هؤلاء إن الصفات الروحية التي تسمى فضائل نفسانية هي بقايا من عهد الاساطير والتوحش لا تلائم حياة الانسان الراقي اليوم كالعفة والسخاء والحياء والرأفة والصدق فإن العفة تقييد لطبيعة النفس فيما تشتهيه من غير وجه والسخاء إبطال لسعى الانسان في جمعه المال وما قاساه من المحن في طريق اكتسابه على أنه تعويد للمسكين بالبطالة في الاكتساب وبسط يده لذل السؤال والحياء لجام يلجم الانسان عن مطالبة حقوقه وإظهار ما في ضميره والرأفة تضعف القلب والصدق لا يلائم الحياة اليومية وهذا الكلام بعينه من مصاديق الانحراف الذى ذكرناه. ولم يدر هذا القائل أن هذه الفضائل في المجتمع الانساني من الواجبات الضرورية التى لو ارتفعت من أصلها لم يعش المجتمع بعدها في حال الاجتماع ولا ساعة. فلو ارتفعت هذه الخصال وتعدى كل فرد إلى ما لكل فرد من مختصات الحقوق والاموال والاعراض ولم يسخ أحد ببذل ما مست إليه حاجة المجتمع ولم ينفعل أحد من مخالفة ما يجب عليه رعايته من القوانين ولم يرأف أحد بالعجزة الذين لا ذنب لهم في عجزهم كالاطفال ومن في تلوهم وكذب كل أحد لكل أحد في جميع ما يخبر به ويعده وهكذا تلاشى المجتمع الانساني من حينه. فينبغي لهذا القائل أن يعلم أن هذه الخصال لا ترتحل ولن ترتحل عن الدنيا وأن الطبيعة الانسانية مستمسكة بها حافظة لحياتها ما دامت داعية للانسان إلى الاجتماع وإنما الشأن كل الشأن في تنظيم هذه الصفات وتعديلها بحيث توافق غرض الطبيعة والخلقة في دعوتها الانسان إلى سعادة الحياة ولو كانت الخصال الدائرة في المجتمع المترقي اليوم فضائل للانسانية معدلة بما هو الحرى من التعديل لما أوردت المجتمع مورد الفساد والهلكة ولاقر الناس في مستقر أمن وراحة وسعادة. ولنعد إلى ما كنا فيه من البحث فنقول الاسلام وضع أمر الازدواج فيما ذكرناه موضعه الطبيعي فأحل النكاح وحرم الزنا والسفاح ووضع علقة الزوجية على أساس جواز المفارقة وهو الطلاق ووضع هذه العلقة على أساس الاختصاص في الجملة على ما

[ 182 ]

سنشرحه ووضع عقد هذا الاجتماع على أساس التوالد والتربية ومن الاحاديث النبوية المشهورة قوله صلى الله عليه وآله وسلم: تناكحوا تناسلوا تكثروا الحديث 2 استيلاء الذكور على الاناث ثم إن التأمل في سفاد الحيوانات يعطى أن للذكور منها شائبة استيلاء على الاناث في هذا الباب فإنا نرى أن الذكر منها كأنه يرى نفسه مالكا للبضع مسلطا على الانثى ولذلك ما ترى أن الفحولة منها تتنازع وتتشاجر على الاناث من غير عكس فلا تثور الانثى على مثلها إذا مال إليها الذكر بخلاف العكس وكذا ما يجرى بينها مجرى الخطبة من الانسان إنما يبدأ من ناحية الذكران دون الاناث وليس إلا أنها ترى بالغريزة أن الذكور في هذا العمل كالفاعل المستعلي والاناث كالقابل الخاضع وهذا المعنى غير ما يشاهد من نحو طوع من الذكور للاناث في مراعاة ما تميل إليه نفسها ويستلذه طبعها فإن ذلك راجع إلى مراعاة جانب العشق والشهوة واستزادة اللذة وأما نحو الاستيلاء والاستعلاء المذكور فإنه عائد إلى قوة الفحولة وإجراء ما تأمر به الطبيعة. وهذا المعنى أعني لزوم الشدة والبأس لقبيل الذكور واللين والانفعال لقبيل الاناث مما يوجد الاعتقاد به قليلا أو كثيرا عند جميع الامم حتى سرى إلى مختلف اللغات فسمى كل ما هو شديد صعب الانقياد بالذكر وكل لين سهل الانفعال بالانثى يقال حديد ذكر وسيف ذكر ونبت ذكر ومكان ذكر وهكذا. وهذا الامر جار في نوع الانسان دائر بين المجتمعات المختلفة والامم المتنوعة في الجملة وإن كان ربما لم يخل من الاختلاف زيادة ونقيصة. وقد اعتبره الاسلام في تشريعه قال الله تعالى الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض: النساء - 34 فشرع وجوب إجابتها له إذا دعاها إلى المواقعة إن أمكنت لها. 3 تعدد الزوجات وأمر الوحدة والتعدد فيما نشاهده من أقسام الحيوان غير واضح ففيما كان بينها اجتماع منزلي تتأحد الاناث وتختص بالذكور لما أن الذكور في شغل شاغل في مشاركتها في تدبير المنزل وحضانة الافراخ وتربيتها وربما تغير الوضع الجاري بينها بالصناعة والتدبير والكفالة أعنى بالتأهيل والتربية كما يشاهد من

[ 183 ]

أمر الديك والدجاج والحمام ونحوها. وأما الانسان فاتخاذ الزوجات المتعدده كانت سنة جارية في غالب الامم القديمة كمصر والهند والصين والفرس بل والروم واليونان فإنهم كانوا ربما يضيفون إلى الزوجة الواحدة في البيت خدنا يصاحبونها بل وكان ذلك عند بعض الامم لا ينتهي إلى عدد يقف عليه كاليهود والعرب فكان الرجل منهم ربما تزوج العشرة والعشرين وأزيد وقد ذكروا أن سليمان الملك تزوج مئات من النساء. وأغلب ما كان يقع تعدد الزوجات أنما هو في القبائل ومن يحذو حذوهم من سكان القرى والجبال فإن لرب البيت منهم حاجة شديدة إلى الجمع وكثرة الاعضاء فكانوا يقصدون بذلك التكاثر في البنين بكثرة الاستيلاد ليهون لهم أمر الدفاع الذي هو من لوازم عيشتهم وليكون ذلك وسيلة يتوسلون بها إلى الترؤس والسودد في قومهم على ما في كثرة الازدواج من تكثر الاقرباء بالمصاهرة. وما ذكره بعض العلماء أن العامل في تعدد الزوجات في القبائل وأهل القرى إنما هو كثرة المشاغل والاعمال فيهم كأعمال الحمل والنقل والرعي والزراعة والسقاية والصيد والطبخ والنسج وغير ذلك فهو وإن كان حقا في الجملة إلا أن التأمل في صفاتهم الروحية يعطي أن هذه الاعمال في الدرجة الثانية من الاهمية عندهم وما ذكرناه هو الذي يتعلق به قصد الانسان البدوي أولا وبالذات كما أن شيوع الادعاء والتبني أيضا بينهم سابقا كان من فروع هذا الغرض. على أنه كان في هذه الامم عامل أساسي آخر لتداول تعدد الزوجات بينهم وهو زيادة عدة النساء على الرجال بما لا يتسامح فيه فإن هذه الامم السائرة بسيرة القبائل كانت تدوم فيهم الحروب والغزوات وقتل الفتك والغيلة فكان القتل يفني الرجال ويزيد عدد النساء على الرجال زيادة لا ترتفع حاجة الطبيعة معها إلا بتعدد الزوجات هذا. والاسلام شرع الازدواج بواحدة وأنفذ التكثير إلى أربع بشرط التمكن من القسط بينهن مع إصلاح جميع المحاذير المتوجهد ألى التعدد على ما سنشير إليها قال الله تعالى ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف: البقرة - 228.

[ 184 ]

وقد استشكلوا على حكم تعدد الزوجات اولا انه يضع آثارا سيئة في المجتمع فإنه يقرع قلوب النساء في عواطفهن ويخيب آمالهن ويسكن فورة الحب في قلوبهن فينعكس حس الحب إلى حس الانتقام فيهملن أمر البيت ويتثاقلن في تربية الاولاد ويقابلن الرجال بمثل ما أساؤا إليهن فيشيع الزنا والسفاح والخيانة في المال والعرض فلا يلبث المجتمع دون أن ينحط في أقرب وقت. وثانيا: أن التعدد في الزوجات يخالف ما هو المشهود المتراءى من عمل الطبيعة فإن الاحصاء في الامم والاجيال يفيد أن قبيلي الذكورة والاناث متساويان عددا تقريبا فالذي هيأته الطبيعة هو واحدة لواحد وخلاف ذلك خلاف غرض الطبيعة. وثالثا أن في تشريع تعدد الزوجات ترغيبا للرجال إلى الشره والشهوة وتقوية لهذه القوة في المجتمع. ورابعا أن في ذلك حطا لوزن النساء في المجتمع بمعادلة الاربع منهن بواحد من الرجال وهو تقويم جائر حتى بالنظر إلى مذاق الاسلام الذي سوي فيه بين مرأتين ورجل كما في الارث والشهادة وغيرهما ولازمه تجويز التزوج باثنتين منهن لا أزيد ففي تجويز الاربع عدول عن العدل على أي حال من غير وجه وهذه الاشكالات مما اعترض بها النصارى على الاسلام أو من يوافقهم من المدنيين المنتصرين لمسألة تساوي حقوق الرجال والنساء في المجتمع. والجواب عن الاول ما تقدم غير مرة في المباحث المتقدمة أن الاسلام وضع بنية المجتمع الانساني على أساس الحياة التعقلية دون الحياة الاحساسية فالمتبع عنده هو الصلاح العقلي في السنن الاجتماعية دون ما تهواه الاحساسات وتنجذب إليه العواطف. وليس في ذلك إماتة العواطف والاحساسات الرقيقة وإبطال حكم المواهب الالهية والغرائز الطبيعية فإن من المسلم في الابحاث النفسية أن الصفات الروحية والعواطف والاحساسات الباطنة تختلف كما وكيفا باختلاف التربية والعادة كما أن كثيرا من الآداب والرسوم الممدوحة عند الشرقيين مثلا مذمومة عند الغربيين وبالعكس وكل امة تختلف مع غيرها في بعضها.

[ 185 ]

والتربية الدينية في الاسلام تقيم المرأة الاسلامية مقاما لا تتألم بأمثال ذلك عواطفها نعم المرأة الغربية حيث اعتادت منذ قرون بالوحدة ولقنت بذلك جيلا بعد جيل استحكم في روحها عاطفة نفسانية تضاد التعدد ومن الدليل على ذلك الاسترسال الفظيع الذي شاعت بين الرجال والنساء في الامم المتمدنة ! اليوم. أليس رجالهم يقضون أوطار الشهوة من كل من هووها وهوتهم من نسائهم من محارم وغيرها ومن بكر أو ثيب ومن ذات بعل أو غيرها حتى أن الانسان لا يقدر أن يقف في كل ألف منهم بواحد قد سلم من الزنا سواء في ذلك الرجال والنساء ولم يقنعوا بذلك حتى وقعوا في الرجال وقوعا قل ما يسلم منه فرد حتى بلغ الامر مبلغا رفعوا قبيل سنة إلى برلمان بريطانيا العظمى أن يبيح لهم اللواط سنة قانونية وذلك بعد شيوعه بينهم من غير رسمية وأما النساء وخاصة الابكار وغير ذوات البعل من الفتيات فالامر فيهن أغرب وأفظع. فليت شعري كيف لا تأسف النساء هناك ولا يتحرجن ولا تنكسر قلوبهن ولا تتألم عواطفهن حين يشاهدن كل هذه الفضائح من رجالهن ؟ وكيف لا تتألم عواطف الرجل وإحساساته حين يبنى بفتاه ثم يجدها ثيبا فقدت بكارتها وافترشت لا للواحد والاثنين من الرجال ثم لا يلبث حتى يباهي بين الاقران أن السيدة ممن توفرت عليها رغبات الرجال وتنافس في القضاء منها العشرات والمئات ! ! وهل هذا إلا أن هذه السيئات تكررت بينهم ونزعه الحرية تمكنت من أنفسهم حتى صارت عادة عريقة مألوفة لا تمتنع منها العواطف والاحساسات ولا تستنكرها النفوس ؟ فليس إلا أن السنن الجارية تميل العواطف والاحساسات إلى ما يوافقها ولا يخالفها. وأما ما ذكروه من استلزام ذلك إهمالهن في تدبير البيت وتثاقلهن في تربية الاولاد وشيوع الزنا والخيانة فالذي أفادته التجربة خلاف ذلك فإن هذا الحكم جرى في صدر الاسلام وليس في وسع أحد من أهل الخبرة بالتاريخ أن يدعى حصول وقفة في أمر المجتمع من جهته بل كان الامر بالعكس. على أن هذه النساء اللاتى يتزوج بهن على الزوجة الاولى في المجتمع الاسلامي وسائر المجتمعات التى ترى ذلك أعنى الزوجة الثانية والثالثة والرابعة إنما يتزوج بهن عن رضاء ورغبة منهن وهن من نساء هذه المجتمعات ولم يسترققهن الرجال من مجتمعات

[ 186 ]

اخرى ولا جلبوهن للنكاح من غير هذه الدنيا وإنما رغبن في مثل هذا الازدواج لعلل اجتماعية فطباع جنس المرأة لا يمتنع عن مسألة تعدد الزوجات ولا قلوبهن تتألم منها بل لو كان شئ من ذلك فهو من لوازم أو عوارض الزوجية الاولى أعنى أن المرأة إذا توحدت للرجل لا تحب أن ترد عليها وعلى بيتها اخرى لخوفها أن تميل عنها بعلها أو تترأس عليها غيرها أو يختلف الاولاد ونحو ذلك فعدم الرضاء والتألم فيما كان إنما منشأه حالة عرضية التوحد بالبعل لا غريزة طبيعية. والجواب عن الثاني أن الاستدلال بتسوية الطبيعة بين الرجال والنساء في العدد مختل من وجوه. منها أن أمر الازدواج لا يتكى على هذا الذى ذكروه فحسب بل هناك عوامل وشرائط اخرى لهذا الامر فأولا الرشد الفكري والتهيؤ لامر النكاح أسرع إلى النساء منها إلى الرجال فالنساء وخاصة في المناطق الحارة إذا جزن التسع صلحن للنكاح والرجال لا يتهيؤون لذلك غالبا قبل الست عشرة من السنين وهو الذى اعتبره الاسلام للنكاح. ومن الدليل على ذلك السنة الجارية في فتيات الامم المتمدنة فمن الشاذ النادر أن تبقى فتاة على بكارتها إلى سن البلوغ القانوني فليس إلا أن الطبيعة هيأتها للنكاح قبل تهيئتها الرجال لذلك. ولازم هذه الخاصة أن لو اعتبرنا مواليد ست عشرة سنة من قوم والفرض تساوى عدد الذكورة والاناث فيهم كان الصالح للنكاح في السنة السادسة عشر من الرجال وهى سنة أول الصلوح مواليد سنة واحدة وهم مواليد السنة الاولى المفروضة والصالحة للنكاح من النساء مواليد سبع سنين وهى مواليد السنة الاولى إلى السابعة ولو اعتبرنا مواليد خمسة وعشرين سنة وهى سن بلوغ الاشد من الرجال حصل في السنة الخامسة والعشرين على الصلوح من الرجال مواليد عشرة سنين ومن النساء مواليد خمس عشرة سنة وإذا أخذنا بالنسبة الوسطى حصل لكل واحد من الرجال اثنتان من النساء بعمل الطبيعة. وثانيا أن الاحصاء كما ذكروه يبين أن النساء أطول عمرا من الرجال ولازمه أن

[ 187 ]

تهيئ سنة الوفاة والموت عددا من النساء ليس بحذائهن رجال (1). وثالثا أن خاصة النسل والتوليد تدوم في الرجال أكثر من النساء فالاغلب على النساء أن يئسن من الحمل في سن الخمسين ويمكث ذلك في الرجال سنين عديدة بعد ذلك وربما بقي قابلية التوليد في الرجال إلى تمام العمر الطبيعي وهي مائة سنة فيكون عمر صلاحية الرجال للتوليد وهو ثمانون سنة تقريبا ضعفه في المرأة وهو أربعون تقريبا وإذا ضم هذا الوجه إلى الوجه السابق أنتج أن الطبيعة والخلقة أباح للرجال التعدي من الزوجة الواحدة إلى غيرها فلا معنى لتهيئة قوة التوليد والمنع عن الاستيلاد من محل شأنه ذلك فإن ذلك مما تأباه سنة العلل والاسباب الجارية. ورابعا أن الحوادث المبيدة لافراد المجتمع من الحروب والمقاتل وغيرهما تحل بالرجال وتفنيهم أكثر منها بالنساء بما لا يقاس كما تقدم أنه كان أقوى العوامل لشيوع تعدد الزوجات في القبائل فهذه الارامل والنساء العزل لا محيص لهن عن قبول التعدد أو الزنا أو خيبة القوة المودعة في طبائعهن وبطلانها. ومما يتأيد به هذه الحقيقة ما وقع في الآلمان الغربي قبل عدة شهور من كتابة هذه الاوراق أظهرت جمعية النساء العزل تحرجها من فقدان البعولة وسألت الحكومة أن يسمح لهن بسنة تعدد الزوجات الاسلامية حتى يتزوج من شاء من الرجال بأزيد من واحدة ويرتفع بذلك غائلة الحرمان غير أن الحكومة لم تجبهن في ذلك وامتنعت الكنيسة من قبوله ورضيت بفشو الزنا وشيوعه وفساد النسل به. ومنها أن الاستدلال بتسوية الطبيعة النوعية بين الرجال والنساء في العدد مع

_________________________________

(1) ومما يؤيد ذلك ما نشره بعض الجرائد في هذه الايام (جريدة الاطلاعات المنتشرة في طهران المؤرخة بالثلاثاء 11 ديماه سنة 1335 شمسي) حكاية عن دائرة الاحصاء في فرنسا ما حاصله قد تحصل بحسب الاحصاء أنه يولد في فرنسا حذاء كل " 100 " مولودة من البنات " 105 " من البنين ومع ذلك فإن الاناث يربو عدتهم على عدة الذكور بما يعادل " 1765000 " نسمة ونفوس المملكة " 40 مليونا تقريبا " والسبب فيه أن البنين أضعف مقاومة من البنات قبال الامراض ويهلك بها " 5 % " الزائد منهم إلى سنة " 19 " من الولادة. ثم يأخذ عدة الذكور في النقص ما بين 25 - 30 من السنين حتى إذا بلغوا سني 60 - 65 لم يبق تجاه كل " 15000000 " من الاناث إلا " 7500000 " من الذكور. (*)

[ 188 ]

الغض عما تقدم إنما يستقيم فيما لو فرض أن يتزوج كل رجل في المجتمع بأكثر من الواحدة إلى أربع من النساء لكن الطبيعة لا تسمح بإعداد جميع الرجال لذلك ولا يسع ذلك بالطبع إلا لبعضهم دون جميعهم والاسلام لم يشرع تعدد الزوجات بنحو الفرض والوجوب على الرجال بل إنما أباح ذلك لمن استطاع أن يقيم القسط منهم ومن أوضح الدليل على عدم استلزام هذا التشريع حرجا ولا فسادا أن سير هذه السنة بين المسلمين وكذا بين سائر الامم الذين يرون ذلك لم يستلزم حرجا من قحط النساء وإعوازهن على الرجال بل بالعكس من ذلك أعد تحريم التعدد في البلاد التي فيها ذلك ألوفا من النساء حرمن الازواج والاجتماع المنزلي واكتفين بالزنا. ومنها أن الاستدلال المذكور مع الاغماض عن ما سبق إنما يستقيم لو لم يصلح هذا الحكم ولم يعدل بتقييده بقيود ترتفع بها المحاذير المتوهمة فقد شرط الاسلام على من يريد من الرجال التعدد أن يقيم العدل في معاشرتهن بالمعروف وفي القسم والفراش وفرض عليهم نفقتهن ثم نفقة أولادهن ولا يتيسر الانفاق على أربع نسوة مثلا ومن يلدنه من الاولاد مع شريطة العدل في المعاشرة وغير ذلك إلا لبعض اولى الطول والسعة من الناس لا لجميعهم. على أن هناك طرقا دينية شرعية يمكن أن تستريح إليها المرأة فتلزم الزوج على الاقتصار عليها والاغماض عن التكثير. والجواب عن الثالث أنه مبني على عدم التدبر في نحو التربية الاسلامية ومقاصد هذه الشريعة فإن التربية الدينية للنساء في المجتمع الاسلامي الذي يرتضيه الدين بالستر والعفاف والحياء وعدم الخرق تنمي المرأة وشهوة النكاح فيها أقل منها في الرجل (على الرغم مما شاع أن شهوة النكاح فيها أزيد وأكثر واستدل عليه بتولعها المفرط بالزينة والجمال طبعا) وهذا أمر لا يكاد يشك فيه رجال المسلمين ممن تزوج بالنساء الناشئات على التربية الدينية فشهوة النكاح في المتوسط من الرجال تعادل ما في أكثر من امرأة واحدة بل والمرأتين والثلاث. ومن جهة اخرى من عناية هذا الدين أن يرتفع الحرمان في الواجب من مقتضيات الطبع ومشتهيات النفس فاعتبر أن لا تختزن الشهوة في الرجل ولا يحرم منها فيدعوه ذلك إلى التعدي إلى الفجور والفحشاء والمرأة الواحدة ربما اعتذرت فيما يقرب من ثلث

[ 189 ]

أوقات المعاشرة والمصاحبة كأيام العادة وبعض أيام الحمل والوضع والرضاع ونحو ذلك والاسراع في رفع هذه الحاجة الغريزية هو لازم ما تكرر منا في المباحث السابقة من هذا الكتاب أن الاسلام يبني المجتمع على أساس الحياه التعقلية دون الحياة الاحساسية فبقاء الانسان على حالة الاحساس الداعية إلى الاسترسال في الاهواء والخواطر السوء كحال التعزب ونحوه من أعظم المخاطر في نظر الاسلام. ومن جهة اخرى من أهم المقاصد عند شارع الاسلام تكثر نسل المسلمين وعمارة الارض بيد مجتمع مسلم عمارة صالحه ترفع الشرك والفساد. فهذه الجهات وأمثالها هي التي أهتم بها الاسلام في تشريع تعدد الزوجات دون ترويج أمر الشهوة وترغيب الناس إلى الانكباب عليها ولو أنصف هؤلاء المستشكلون كان هذه السنن الاجتماعية المعروفة بين هؤلاء البانين للاجتماع على أساس التمتع المادي أولي بالرمي بترويج الفحشاء والترغيب إلى الشره من الاسلام الباني للاجتماع على أساس السعادة الدينية. على أن في تجويز تعدد الزوجات تسكينا لثورة الحرص التي هي من لوازم الحرمان فكل محروم حريص ولا هم للممنوع المحبوس إلا أن يهتك حجاب المنع والحبس فالمسلم وإن كان ذا زوجة واحدة فإنه على سكن وطيب نفس من أنه ليس بممنوع عن التوسع في قضاء شهوته لو تحرجت نفسه يوما إليه وهذا نوع تسكين لطيش النفس وإحصان لها عن الميل إلى الفحشاء وهتك الاعراض المحرمة. وقد أنصف بعض الباحثين من الغربيين حيث قال لم يعمل في إشاعة الزنا والفحشاء بين الملل المسيحية عامل أقوى من تحريم الكنيسة تعدد الزوجات (1). والجواب عن الرابع أنه ممنوع فقد بينا في بعض المباحث السابقة عند الكلام في حقوق (2) المرأة في الاسلام أنه لم يحترم النساء ولم يراع حقوقهن كل المراعاة أي

_________________________________

(1) رسالة المستر جان ديون بورت الانجليزي في الاعتذار إلى حضرة محمد والقرآن ترجمة الفاضل: السعيدي بالفارسية. (2) البحث العلمي من الجزء الثاني ص 260.

[ 190 ]

سنة من السنن الدينية أو الدنيوية من قديمها وحديثها بمثل ما احترمهن الاسلام وسنزيد في ذلك وضوحا وأما تجويز تعدد الزوجات للرجل فليس بمبنى على ما ذكر من إبطال الوزن الاجتماعي وإماتة حقوقهن والاستخفاف بموقفهن في الحياة وإنما هو مبنى على جهات من المصالح تقدم بيان بعضها. وقد اعترف بحسن هذا التشريع الاسلامي وما في منعه من المفاسد الاجتماعية والمحاذير الحيوية جمع من باحثى الغرب من الرجال والنساء من أراده فليراجع إلى مظانه. وأقوى ما تشبث به مخالفوا سنة التعدد من علماء الغرب وزوقوه في أعين الناظرين ما هو مشهود في بيوت المسلمين تلك البيوت المشتملة على زوجات عديدة ضرتان أو ضرائر فإن هذه البيوت لا تحتوى على حياة صالحة ولا عيشة هنيئة لا تلبث الضرتان من أول يوم حلتا البيت دون أن تأخذا في التحاسد حتى أنهم سموا الحسد بداء الضرائر وعندئذ تنقلب جميع العواطف والاحساسات الرقيقة التى جبلت عليها النساء من الحب ولين الجانب والرقة والرأفة والشفقة والنصح وحفظ الغيب والوفاء والمودة والرحمة والاخلاص بالنسبة إلى الزوج وأولاده من غير الزوجة وبيته وجميع ما يتعلق به إلى أضدادها فينقلب البيت الذى هو سكن للانسان يستريح فيه من تعب الحياة اليومي وتألم الروح والجسم من مشاق الاعمال والجهد في المكسب معركة قتال يستباح فيها النفس والعرض والمال والجاه لا يؤمن فيه من شئ لشئ ويتكدر فيه صفو العيش وترتحل لذة الحياة ويحل محلها الضرب والشتم والسب واللعن والسعاية والنميمة والرقابة والمكر والمكيدة واختلاف الاولاد وتشاجرهم وربما انجر الامر إلى هم الزوجة بإهلاك الزوج وقتل بعض الاولاد بعضا أو أباهم وتتبدل القرابة بينهم إلى الاوتار التى تسحب في الاعقاب سفك الدماء وهلاك النسل وفساد البيت أضف إلى ذلك ما يسرى من ذلك إلى المجتمع من الشقاء وفساد الاخلاق والقسوة الظلم والبغى والفحشاء وانسلاب الامن والوثوق وخاصة إذا اضيف إلى ذلك جواز الطلاق فإباحة تعدد الزوجات والطلاق ينشئان في المجتمع رجالا ذواقين مترفين لا هم لهم إلا اتباع الشهوات والحرص والتولع على أخذ هذه وترك تلك ورفع واحدة ووضع اخرى وليس فيه إلا تضييع نصف المجتمع وإشقاؤه وهو قبيل النساء وبذلك

[ 191 ]

يفسد النصف الآخر. هذا محصل ما ذكروه وهو حق غير أنه إنما يرد على المسلمين لا على الاسلام وتعاليمه ومتى عمل المسلمون بجقيقة ما ألقته إليهم تعاليم الاسلام حتى يؤخذ الاسلام بالمفاسد التي أعقبته أعمالهم ؟ وقد فقدوا منذ قرون الحكومة الصالحة التي تربي الناس بالتعاليم الدينية الشريفة بل كان أسبق الناس إلى هتك الاستار التي أسدلها الدين ونقض قوانينه وإبطال حدوده هي طبقة الحكام والولاة على المسلمين والناس على دين ملوكهم ولو اشتغلنا بقص بعض السير الجارية في بيوت الملوك والفضائح التي كان يأتي بها ملوك الاسلام وولاته منذ أن تبدلت الحكومة الدينية بالملك والسلطنة المستبدة لجاء بحياله تأليفا مستقلا وبالجملة لو ورد الاشكال فهو وارد على المسلمين في اختيارهم لبيوتهم نوع اجتماع لا يتضمن سعادة عيشتهم ونحو سياسة لا يقدرون على إنفاذها بحيث لا تنحرف عن مستقيم الصراط والذنب في ذلك عائد إلى الرجال دون النساء والاولاد وإن كان على كل نفس ما اكتسبت من إثم وذلك أن سيرة هؤلاء الرجال وتفديتهم سعادة أنفسهم وأهليهم وأولادهم وصفاء جو مجتمعهم في سبيل شرههم وجهالتهم هو الاصل لجميع هذه المفاسد والمنبت لكل هذه الشقوة المبيدة وأما الاسلام فلم يشرع تعدد الزوجات على نحو الايجاب والفرض على كل رجل وإنما نظر في طبيعة الافراد وما ربما يعرضهم من العوارض الحادثة واعتبر الصلاح القاطع في ذلك كما مر تفصيله ثم استقصى مفاسد التكثير ومحاذيره وأحصاها فأباح عند ذلك التعدد حفظا لمصلحة المجتمع الانساني وقيده بما يرتفع معه جميع هذه المفاسد الشنيعة وهو وثوق الرجل بأنه سيقسط بينهن ويعدل فمن وثق من نفسه بذلك ووفق له فهو الذى أباح له الدين تعدد الزوجات وأما هؤلاء الذين لا عناية لهم بسعادة أنفسهم وأهليهم وأولادهم ولا كرامة عندهم إلا ترضية بطونهم وفروجهم ولا مفهوم للمرأة عندهم إلا أنها مخلوقة في سبيل شهوة الرجل ولذته فلا شأن للاسلام فيهم ولا يجوز لهم إلا الازدواج بواحدة لو جاز لهم ذلك والحال هذه. على أن في أصل الاشكال خلطا بين جهتين مفرقتين في الاسلام وهما جهتا التشريع والولاية. توضيح ذلك أن المدار في القضاء بالصلاح والفساد في القوانين الموضوعة والسنن

[ 192 ]

الجارية عند الباحثين اليوم هو الآثار والنتائج المرضية أو غير المرضية الحاصلة من جريانها في الجوامع وقبول الجوامع لها بفعليتها الموجودة وعدم قبولها وما أظن أنهم على غفلة من أن المجتمع ربما اشتمل على بعض سنن وعادات وعوارض لا تلائم الحكم المبحوث عنه وأنه يجب تجهيز المجتمع بما لا ينافى الحكم أو السنة المذكورة حتى يرى إلى ما يصير أمره وما ذا يبقى من الاثر خيرا أو شرا أو نفعا أو ضرا ؟ إلا أنهم يعتبرون في القوانين الموضوعة ما يريده ويستدعيه المجتمع بحاضر إرادته وظاهر فكرته كيفما كان فما وافق إرادتهم ومستدعياتهم فهو القانون الصالح وما خالف ذلك فهو القانون غير الصالح. ولذلك لما رأوا المسلمين تائهين في أودية الغى فاسدين في معاشهم ومعادهم نسبوا ما يشاهدونه منهم من الكذب والخيانة والخنى وهضم الحقوق وفشو البغى وفساد البيوت واختلال الاجتماع إلى القوانين الدينية الدائرة بينهم زعما منهم أن السنة الاسلامية في جريانها بين الناس وتأثيرها أثرها كسائر السنن الاجتماعية التى تحمل على الناس عن إحساسات متراكمة بينهم ويستنتجون من ذلك أن الاسلام هو المولد لهذه المفاسد الاجتماعية ومنه ينشأ هذا البغى والفساد (وفيهم أبغى البغى وأخنى الخنى وكل الصيد في جوف الفراء ولو كان دينا واقعيا وكانت القوانين الموضوعة فيه جيدة متضمنة لصلاح الناس وسعادتهم لاثرت فيهم الآثار المسعدة الجميلة ولم ينقلب وبالا عليهم. ولكنهم خلطوا بين طبيعة الحكم الصالحة المصلحة وبين طبيعة الناس الفاسدة المفسدة والاسلام مجموع معارف أصلية وأخلاقية وقوانين عملية متناسبة الاطراف مرتبطة الاجزاء إذا أفسد بعض أجزائها أوجب ذلك فساد الجميع وانحرافها في التأثير كالادوية والمعاجين المركبة التى تحتاج في تأثيرها الصحى إلى سلامة أجزائها وإلى محل معد مهيأ لورودها وعملها ولو أفسد بعض أجزائها أو لم يعتبر في الانسان المستعمل لها شرائط الاستعمال بطل عنها وصف التأثير وربما أثرت ما يضاد أثرها المترقب منها. هب أن السنة الاسلامية لم تقو على إصلاح الناس ومحق الذمائم والرذائل العامة لضعف مبانيها التقنينية فما بال السنة الديموقراطية لا تنجع في بلادنا الشرقية أثرها في

[ 193 ]

البلاد الاوربية وما بالنا كلما أمعنا في السير والكدح بالغنا في الرجوع على أعقابنا القهقرى ولا يشك شاك أن الذمائم والرذائل اليوم أشد تصلبا وتعرقا فينا ونحن مدنيون متنورون منها قبل نصف قرن ونحن همجيون وليس لنا حظ من العدل الاجتماعي وحياة الحقوق البشرية والمعارف العامة العالية وكل سعادة اجتماعية إلا أسماءا نسميها وألفاظا نسمعها. فهل يمكن لمعتذر عن ذلك إلا بأن هذه السنن المرضية إنما لم تؤثر أثرها لانكم لا تعملون بها ولا تهتمون بإجرائها فما بال هذا العذر يجرى فيها وينجع ولا يجرى في الاسلام ولا ينجع. وهب أن الاسلام لوهن أساسها والعياذ بالله عجز عن التمكن في قلوب الناس والنفوذ الكامل في أعماق المجتمع فلم تدم حكومته ولم يقدر على حفظ حياته في المجتمع الاسلامي فلم يلبث دون أن عاد مهجورا فما بال السنة الديموقراطية وكانت سنة مرضية عالمية ارتحلت بعد الحرب العالمية الكبرى الاولى عن روسيا وانمحت آثارها وخلفتها السنة الشيوعية وما بالها انقلبت إلى السنة الشيوعية بعد الحرب العالمية الكبرى الثانية في ممالك الصين ولتونى واستونى وليتوانى ورومانيا والمجر ويوغوسلاوى وغيرها وهى تهدد سائر الممالك وقد نفذت فيها نفوذا. وما بال السنة الشيوعية بعد ما عمرت ما يقرب من أربعين سنة وانبسطت وحكمت فيما يقرب من نصف المجتمع الانساني ولم يزل دعاتها وأولياؤها يتباهون في فضيلتها أنها المشرعة الصافية الوحيدة التى لا يشوبها تحكم الاستبداد ولا استثمار الديموقراطية وأن البلاد التى تعرقت فيها هي الجنة الموعودة ثم لم يلبث هؤلاء الدعاة والاولياء أنفسهم دون أن انتهضوا قبل سنتين على تقبيح حكومة قائدها الوحيد ستالين الذى كان يتولى إمامتها وقيادتها منذ ثلاثين سنة وأوضحوا أن حكومته كانت حكومة تحكم واستبداد واستعباد في صورة الشيوعية ولا محالة كان له التأثير العظيم في وضع القوانين الدائرة وإجرائها وسائر ما يتعلق بذلك فلم ينتش شئ من ذلك إلا عن إرادة مستبدة مستعبدة وحكومة فردية تحيى ألوفا وتميت ألوفا وتسعد أقواما وتشقى

[ 194 ]

آخرين والله يعلم من الذى يأتي بعد هؤلاء ويقضى عليهم بمثل ما قضوا به على من كان قبلهم. والسنن والآداب والرسوم الدائرة في المجتمعات أعم من الصحيحة والفاسدة ثم المرتحلة عنها لعوامل متفرقة أقواها خيانة أولياؤها وضعف إرادة الافراد المستنين بها كثيرة يعثر عليها من راجع كتب التواريخ. فليت شعرى ما الفارق بين الاسلام من حيث إنها سنة اجتماعية وبين هذه السنن المتقلبة المتبدلة حيث يقبل العذر فيها ولا يقبل في الاسلام نعم كلمة الحق اليوم واقعة بين قدرة هائلة غربية وجهالة تقليد شرقية فلا سماء تظلها ولا أرض تقلها وعلى أي حال يجب أن يتنبه مما فصلناه أن تأثير سنة من السنن أثرها في الناس وعدمه وكذا بقاؤها بين الناس وارتحالها لا يرتبط كل الارتباط بصحتها وفسادها حتى يستدل عليه بذلك بل لسائر العلل والاسباب تأثير في ذلك فما من سنة من السنن الدائرة بين الناس في جميع الاطوار والعهود إلا وهى تنتج يوما وتعقم آخر وتقيم بين الناس برهة من الزمان وترتحل عنهم في اخرى لعوامل مختلفة تعمل فيها وتلك الايام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء. وبالجملة القوانين الاسلامية والاحكام التى فيها تخالف بحسب المبنى والمشرب سائر القوانين الاجتماعية الدائرة بين الناس فإن القوانين الاجتماعية التى لهم تختلف باختلاف الاعصار و تتبدل بتبدل المصالح لكن القوانين الاسلامية لا تحتمل الاختلاف والتبدل من واجب أو حرام أو مستحب أو مكروه أو مباح غير أن الافعال التى للفرد من المجتمع أن يفعلها أو يتركها وكل تصرف له أن يتصرف به أو يدعه فلوالى الامر أن يأمر الناس بها أو ينهاهم عنها ويتصرف في ذلك كأن المجتمع فرد والوالى نفسه المتفكرة المريدة. فلو كان للاسلام وال أمكنه أن يمنع الناس عن هذه المظالم التى يرتكبونها باسم تعدد الزوجات وغير ذلك من غير أن يتغير الحكم الالهى بإباحته وإنما هو عزيمة إجرائية عامة لمصلحة نظير عزم الفرد الواحد على ترك تعدد الزوجات لمصلحة يراها لا لتغيير في الحكم بل لانه حكم إباحى له أن يعزم على تركه

 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/books/index.php?id=2035
  • تاريخ إضافة الموضوع : 0000 / 00 / 00
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19