• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم / المكتبة .
              • الكتاب : التبيان في تفسير القرآن ( الجزء التاسع ) ، تأليف : شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي .
                    • الموضوع : سورة الممتحنة .

سورة الممتحنة

60 - سورة الممتحنة

مدينة بلا خلاف وهي ثلاث عشرة آية بلا خلاف

بسم الله الرحمن الرحيم

(يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاء‌كم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل)(1) آية بلا خلاف.

هذه الآية نزلت في حاطب بن أبي بلتعة حين عزم النبي صلى الله عليه واله على ان بدخل مكة بغتة، فسأل الله أن يعمي اخبارهم على قريش ومنع احدا أن يخرج من المدينة إلى مكة فكتب حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة يعلمهم بذلك، فأوحى الله تعالى إلى النبي صلى الله عليه واله بذلك، فدعا عليا عليه السلام والزبير، وقال لهما: اخرجا حتى تلحقا جارية سوداء متوجهة إلى مكة معها كتاب، فخذاه منها، فخرجا حتى لحقاها فسألاها عن الكتاب، فأنكرت ففتشاها، فلم يجدا معها شيئا، فقال الزبير: ارجع بنا فليس

[576]

معها شئ، فقال علي عليه السلام يقول رسول الله صلى الله عليه واله: خذ الكتاب منها، وتقول: ليس معي شئ ! ! ثم اقبل عليها، وسل سيفه.

وقال: والله لئن لم تخرجي الكتاب لا ضربن عنقك فقالت له أعرض بوجهك عني، فلما أعرض عنها أخرجت الكتاب من بين ضفيرتين لها، وسلمته اليه، فلما عادا سلماه إلى النبي فأمر النبي صلى الله عليه واله بأن ينادى بالصلاة جامعة فاجتمع الناس، فصعد النبي صلى الله عليه واله المنبر وخطب.

ثم قال: (أما إني كنت سألت الله ان يعمي اخبارنا عن قريش حتى ندخل مكة بغتة، وإن رجلا منكم كتب اليهم ينذرهم خبرنا، وهذا كتابه فليقم صاحبه) فلم يقم أحد فأعاد ثانيا، فلم يقم احد، فأعاد ثلاثا، ثم قال: فليقم وإلا فضحه الوحي، فقام حاطب، وهو يرعد، وقال يا رسول الله: والله ما نافقت منذ اسلمت، فقال ما حملك على ذلك، فقال إن لي بمكة أهلا وليس لي بها عشيرة، فأردت ان اتخذ بذلك عندهم يدا ان كانت الدائرة لهم، فقام عمر بن الخطاب وقال: يا رسول الله مرني بأن أضرب عنقه، فانه نافق، فقال رسول الله: إنه من أهل بدر، ولعل الله تعالى أطلع إطلاعة فغفر لهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية يخاطب فيها المؤمنين وينهاهم أن يتخذوا عدو الله من الكفار وعدو المؤمنين أولياء يوالونهم ويلقون اليهم بالمودة. والباء زائدة وتقديره ويلقون اليهم المودة، وهي المحبة، كما قال الشاعر:

ولما زجت بالشرب هز لها العصا *** شحيح له عند الازاء نهيم(1)

أي زجت الشرب، ويجوز أن يكون المراد يلقون اليهم ما يريدون بالمودة (وقد كفروا) يعنى الكفار الذين يلقون اليهم المودة (بما جاء‌كم) به النبي صلى الله عليه واله (من الحق) يعنى من التوحيد والاخلاص لله في العبادة والقرآن وشريعة الاسلام (يخرجون الرسول وإياكم) يعنى إخراجهم لهم من مكة (أن تؤمنوا بالله ربكم)

___________________________________

(1) مر في 7 / 307

[577]

ومعناه كراهة ان تؤمنوا بالله وقال قوم: اخرجوكم لا يمانكم بالله ربكم الذي خلقكم (إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضائي) أي وطلبا لمرضاتي فلا تلقوا اليهم بالمؤدة ان كنتم خرجتم مجاهدين في سبيل الله وطالبين مرضاته.

قال الزجاج: وهو شرط جوابه متقدم وتقديره إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي فلا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء.

و (جهادا، وابتغاء) منصوبان على المفعول له.

وقوله (تسرون اليهم بالمودة) فتكاتبونهم باخبار النبي صلى الله عليه واله (وأنا اعلم بما أخفيتم وما أعلنتم) أي بسركم وعلانيتكم وظاهركم وباطنكم، لا يخفى علي من ذلك شئ، فكيف تسرون بمودتكم إياهم مني.

وقوله (ومن يفعله منكم) يعنى من ألقى اليهم المودة والقى اليهم اخبار النبي صلى الله عليه واله منكم جماعة المؤمنين بعد هذا البيان (فقد ضل سواء السبيل) أي قد عدل من الحق وجار عن طريق الرشد. وفي الآية دليل على ان مرتكب الكبيرة لا يخرج عن الايمان، لان حاطب بن أبي بلتعة رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه واله قد فعل ذلك، ولا يقول أحد انه أخرجه ذلك من الايمان.

قوله تعالى: (إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون(2) لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيمة يفصل بينكم والله بما تعملون بصير(3))

آيتان بلا خلاف.

[578]

قرأ ابن كثير وابوعمرو ونافع (يفصل) بضم الياء وفتح الصاد وسكون الفاء خفيفة.

وقرأ ابن عامر - بضم الياء وفتح الياء وتشديد الصاد وفتحها - على ما لم يسم فاعله، وقرأ حمزة والكسائي بضم الياء وفتح الفاء وكسر الصاد مشددة.

وقرأ عاصم ويعقوب وسهل بفتح الياء وسكون الفاء وكسر الصاد خفيفة: أربع قراء‌ات، يقال: فصلت بين الشئ أفصله فصلا إذا ميزته، وفصلته تفصيلا، بمعنى واحد.

فمن قرأ بفتح الياء أراد إن الله يفصل بينهم ويميز بعضهم عن بعض، ومن ضم الياء جعله لما لم يسم فاعله ومعلوم أن الله هو المفصل بينهم.

وقوله (ان يثقفوكم) معناه أن يصادفوكم هؤلاء الكفار الذين تسرون اليهم بالمودة، يقال: ثقفته أثقفه ثقفا فأنا ثاقف، ومنه سمي ثقيف، ومنه المثاقفة، وهي طلب مصادفة العزة في المسابقة، وما يجرى مجراها من المصادفة بالشطب ونحوه و (يكونوا لكم أعداء) أي يعادونكم ولا ينفعكم ما تلقون اليهم " ويبسطوا اليكم أيديهم " بما يقدرون عليه من الاذى والقتل، ويبسطوا (ألسنتهم) ايضا (بالسوء) فيذكرونكم بكل ما تكرهونه وجميع ما يقدرون عليه من السوء ويحثون على قتالكم (وودوا) مع هذا كله (لو تكفرون) بالله كما كفروا وتجحدون كما جحدوا.

ثم قال (لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم) الذين جعلتموهم علة في القاء المودة اليهم والافشاء اليهم بسر النبي صلى الله عليه واله يوم القيامة (والله يفصل بينكم) ذلك اليوم ويميز بعضكم عن بعض إذا كانوا كفارا وكنتم مؤمنين (والله على كل شئ قدير) لا يتعذر عليه تمييز بعضكم عن بعض فيأمر بالمؤمنين إلى الجنة وبالكفار إلى النار

[579]

قوله تعالى: (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءآوا منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدأ بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لابيه لاستغفرن لك وما أملك لك من الله من شئ ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير(4) ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم(5))

آيتان بلا خلاف.

قرأ عاصم (أسوة) بضم الهمزة في جميع القرآن. الباقون - بكسرها - وهما لغتان.

يقول الله تعالى مخاطبا للمؤمنين وحاثا لهم على ترك موالاة الكفار ومبينا لهم ان ذلك غير جائز بأن قال (قد كانت لكم) في ترك موالاة الكفار وترك الركون إلى جنايتهم (اسوة حسنة) أي اقتداء حسن (في إبراهيم) خليل الرحمن عليه السلام (والذين معه) قال ابن زيد: يعني الانبياء.

وقال غيره: يعنى الذين آمنوا معه (إذ قالوا) أي حين قالوا (لقومهم) من الكفار الذين كانوا يعبدون الاصنام (إنا برآؤ منكم) على وزن فعلاء، ومثله ظريف وظرفاء وكريم وكرماء وفقير وفقراء الهمزة الاولى لام الفعل والثانية المنقلبة من الف التأنيث والالف التي قبله الهمزة زيادة مع علامة التأنيث، وهو جمع برئ وبراؤ منكم (ومما تعبدون من دون الله) أي وبريئون من الاصنام التي تعبدونها، ويجوز أن تكون (ما) مصدرية ويكون المعنى وبريئون من عبادتكم للاصنام (كفرنا بكم) أي يقولون لهم: جحدنا ما تعبدون من دون الله وكفرنا به (وبدأ بيننا) أي ظهر بيننا (وبينكم العداوة

[580]

والبغضاء ابدا) لا يكون بيننا وبينكم موالاة في الدين (حتى تؤمنوا بالله وحده) أي حتى تصدقوا بوحدانيته وإخلاص العبادة له.

وقوله (إلا قول إبراهيم لابيه لاستغفرن لك) استثناء لقول إبراهيم لابيه: لاستغفرن أي فلا تقتدوا به فيه. فان إبراهيم عليه السلام إنما استغفر لابيه على (موعدة وعدها إياه) لان اباه كان وعده بالايمان، فوعده إبراهيم بالاستغفار، فلما اظهر له الايمان استغفر له إبراهيم في الظاهر (فلما تبين له انه عدو لله) وعرف ذلك من جهته (تبرأ منه)(1) قال الحسن: إنما تبين ذلك عند موت أبيه، ولو لم يستثن ذلك لظن إنه يجوز الاستغفار للكفار مطلقا من غير موعدة بالايمان منهم.

وقيل: إن الاستثناء راجع إلى قوله (وبدأ بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا) لانه لما كان استغفار إبراهيم لابيه مخالفا لما تضمنته هذه الجملة وجب استثناؤه وإلا توهم بظاهر الكلام انه عامل أباه من العداوة والبراء‌ة بما عامل به غيره.

وقال البلخي: هذا استثناء منقطع.

ومعناه لكن قول إبراهيم لابيه لاستغفرن لك كان لاجل موعدة أبيه بالايمان.

ثم قال إبراهيم لابيه (وما أملك لك من الله من شئ) إذا اراد عقابك، فلا يمكن دفع ذلك عنك.

وقوله (ربنا) أي يقولون ربن (عليك توكلنا) فالتوكل على الله تفويض الامور اليه ثقة بحسن تدبيره في كل ما يدبره به (واليك أنبنا) أي رجعنا وتبنا اليك أي رجعنا إلى طاعتك (واليك المصير) معناه واليك مرجع كل شئ يوم القيامة، وقال ايضا وكانوا يقولون (ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا) ومعناه لا ترهم فينا ما يشمتون بجهلهم بنا.

وقال مجاهد: معناه لا تعذبنا بأيديهم ولا ببلاء من عندك، فيقولوا: لو كان هؤلاء على حق ما اصابهم هذا (واغفر لنا ذنوبنا

___________________________________

(1) سورة 9 التوبة آية 115

[581]

إنك أنت العزيز الحكيم) في جميع افعالك. وفي ذلك تعليم انه ينبغي ان يدعو الانسان بهذه الدعاء.

وقال الحسن: كان استغفار إبراهيم لابيه صغيرة، وقال عمرو ابن عبيد، واصل دعاء إبراهيم لابيه بشرط الايمان بأنه إن آمن يستغفر له.

قوله تعالى: (لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ومن يتول فان الله هو الغني الحميد(6) عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم(7))

آيتان بلا خلاف.

إنما أعيد ذكر الاسوة في الآيتين، لان الثاني منعقد بغير ما انعقد به الاول فان الثاني فيه بيان أنه كان أسوة في إبراهيم والذين معه، وهو لرجاء ثواب الله وحسن المنقلب في اليوم والآخر، والاول فيه بيان ان الاسوة في المعاداة للكفار بالله حسنة وإذا انعقد الثاني بغير ما انعقد به الاول صارت الفائدة في الثاني خلاف الفائدة في الاول.

ووجه الجواب في قوله (ومن يتول فان الله هو الغني الحميد) أي من يذهب عما يحتاج اليه دون الداعي له، لان الداعي له غنى حميد، فجاء على الايجاز.

والحميد هو المستحق للحمد على إحسانه، والمحمود الذي قد حمد، فان الله تعالى حميد محمود.

وقوله (عسى الله ان يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة) بالاسلام وقال ابن زيد: وكان ذلك حين أسلم كثير منهم. وقيل معنى (عسى الله ان

[582]

يجعل) أيي ليجعل بينكم مودة، وقيل معناه كونوا على رجاء من ذلك وطمع فيه وهو الوجه، لانه الاصل في هذه اللفظة.

ثم قال (والله قدير) أي قادر على كل ما يصح ان يكون مقدورا له (والله غفور) لذنوب عباده ساتر لمعاصيهم " رحيم " بهم أي منعم عليهم.

قوله تعالى: (لا ينهيكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين(8) إنما ينهيكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فاولئك هم الظالمون(9))

آيتان بلا خلاف.

قال الحسن: إن المسلمين استأذنوا النبي صلى الله عليه واله في أن يبروا قرباتهم من المشركين، وكان ذلك قبل أن يؤمروا بالقتال لجميع المشركين، فنزلت هذه الآية وقال قتادة: هي منسوخة بقوله (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم)(1) وبه قال ابن عباس: يقول الله تعالى مخاطبا للمؤمنين (لا ينهاكم الله) " عن " مخالطة " الذين لم يقاتلوكم في الدين " من الكفار " ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم " وتحسنوا اليهم " وتقسطوا اليهم " معناه تعدلوا إليهم " إن الله يحب المقسطين " يعني الذين يعدلون في الخلق.

وقيل معناه إن الله يحب الذين يقسطون قسطا من أموالهم على وجه البر.

وقوله " إن تبروهم " في موضع خفض، وتقديره: لا ينهاكم الله عن أن

___________________________________

(1) سورة 9 التوبة آية 6

[583]

تبروهم، وهو بدل من (الذين) بدل الاشتمال.

وقال مجاهد: عنى بالذين لم يقاتلوكم من آمن من أهل مكة ولم يهاجروا، وقال ابن الزبير: هو عام في كل من كل بهذه الصفة، والذي عليه الاجماع والمفسرون بأن بر الرجل من شاء من أهل دار الحرب قرابة كان او غير قرابة ليس بمحرم، وإنما الخلاف في اعطائهم الزكاة والفطرة والكفارات، فعندنا لا يجوز. وفيه خلاف.

وقال الفراء الآية نزلت في جماعة كانوا عاقدوا النبي صلى الله عليه واله ألا يقاتلوه ولا يخرجوه، فأمر رسول الله صلى الله عليه واله ببرهم والوفاء لهم إلى مدة اجلهم.

ثم بين تعالى على من يتوجه النهي ببره وإحسانه فقال " إنما ينهاكم الله عن " مبرة " الذين قاتلوكم في الدين " من اهل مكة وغيرهم " واخرجوكم من دياركم " يعنى منازلكم وأملاككم " وظاهروا على اخراجكم " أي تعاونوا على ذلك وتعاضدوا، والمظاهرة هي المعاونة ليظهر بها على العدو بالغلبة.

وقوله " أن تولوهم " اى ينهاكم عن ان تنصروهم وتوادوهم وتحبونهم ثم قال " ومن يتولهم " أي ومن ينصرهم ويواليهم " فاولئك هم الظالمون " لا نفسهم، لانهم يستحقون بذلك العقاب والكون في النار.

قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا جاء‌كم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بايمانهن فان علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لاهن حل لهم ولا هم يحلون لهن وآتوهم ما أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن ولا تمسكوا بعصم الكوافر وسئلوا ما أنفقتم وليسئلوا ما أنفقوا ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم(10))

آية بلا خلاف

[584]

قرأ ابوعمرو واهل البصرة " ولا تمسكوا " بالتشديد. الباقون " تمسكوا " خفيفة وهما لغتان. يقولون امسكت به وتمسكت به.

قيل كان سبب نزول هذه الآية إن النبي صلى الله عليه واله كان صالح قريشا يوم الحديبية على ان يرد عليهم من جاء بغير أذن وليه، فلما هاجر النساء وقيل: هاجرت كلثم بنت أبي معيط فجاء أخواها فسألا رسول الله صلى الله عليه واله أن يردها، فنهى الله تعالى ان يرددن إلى المشركين، ونسخ ذلك الحكم، ذكره عروة بن الزبير.

فقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا " بالله ورسوله " إذا جاء‌كم المؤمنات " بالله ورسوله " مهاجرات " من دار الحرب إلى دار الاسلام " فامتحنوهن " وقيل في كيفية الامتحان أربعة اقوال: قال ابن عباس: كانت امتحان رسول الله إياهن أن يحلفن بالله ما خرجت من بغض زوج وبالله ما خرجت رغبة عن ارض، وبالله ما خرجت التماس دنيا وبالله ما خرجت إلا حبا لله ورسوله - وفى رواية أخرى - عن ابن عباس قال: كان امتحانه لهن أن يشهدن أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله.

وروي عن عائشة انه كان امتحانهن بما في الآية التي بعدها، يا أيها النبي إذا جاء‌ك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن..، الآية، وقال ابن عباس وقتادة: كان امتحانهن ما خرجن إلا للدين، ورغبة في الاسلام وحبا لله ورسوله كقول ابن عباس الاول.

ثم قال " الله أعلم بايمانهن " لانه يعلم باطنهن وظاهرهن وانتم لا تعلمون باطنهن

[585]

ثم قال " فان علمتموهن مؤمنات " يعني في الظاهر " فلا ترجعوهن إلى الكفار " أي لا تردوهن اليهم " لاهن حل لهم ولا هم يحلون لهن " قال ابن زيد: وفرق بينهما النبي صلى الله عليه واله وإن لم يطلق المشرك.

وقيل: إن النبي صلى الله عليه واله كان شرط لهم رد الرجال دون النساء، فعلى هذا لا نسخ في الآية. ومن قال كان شرط رد النساء والرجال قال: نسخ الله حكم رد النساء.

وقوله " وآتوهم ما أنفقوا " قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد: اعطوا رجالهم ما انفقوا من الصداق.

وقال الزهري: لولا الهدنة لم يرد إلى المشركين صداقا كما كان يفعل قبل.

وقيل نسخ رد المهور على الازواج من المشكرين ثم قال " ولا جناح عليكم " معاشر المؤمنين " ان تنكحوهن " يعني المهاجرات لانهن بالاسلام قد بن من أزواجهن " إذا آتيتموهن " أجورهن " يعني مهورهن التي يستحل بها فروجهن.

وقوله " ولا تمسكوا بعصم الكوافر، فالكوافر جمع كافرة، والعصمة سبب تمنع به من المكروه وجمعه عصم. وفي ذلك دلالة على انه لا يجوز العقد على الكافرة سواء كانت ذمية او حربية او عابدة وثن، وعلى كل حال، لانه عام في جميع ذلك وليس لاحد أن يخص الآية بعابدة الوثن لنزولها بسببهم، لان المعتبر بعموم اللفظ لا بالسبب، وقوله " واسألوا ما انفقتم " يعني إذا صارت المرأة المسلمة إلى دار الحرب عن دار الاسلام فاسألوهم عن ان يردوا عليكم مهرهن، كما يسئلونكم مهر نسائهم إذا هاجرون اليكم، وهو قوله " وليسألوا ما انفقوا " ثم قال " ذلكم " يعني ما تقدم ذكروه وشرحه " حكم الله يحكم بينكم والله عليم. بجميع الاشياء " حكمى " فيما يفعله ويأمركم به.

وقال الحسن: كان في صدر الاسلام وتكون المسلمة تحت الكافر والكافرة تحت المسلم

[586]

فنسخت هذه الآية ذلك. والمفسرون على ان حكم هذه الآية منسوخ، وعندنا أن الآية غير منسوخة، وفيها دلالة على المنع من تزوج المسلم اليهودية والنصرانية، لانهما كافرتان والآية على عمومها في المنع من التمسك بعصم الكوافر، ولا نخصها إلا بدليل.

قوله تعالى: (وإن فاتكم شئ من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون(11) يا أيها النبي إذا جاء‌ك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم(12) يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور(13))

ثلاث آيات.

معنى قوله " وإن فاتكم شئ من أزواجكم إلى الكفار " أي إن أعجزكم ومضى شئ من أزواجم إلى كفار أهل مكة ومعنى شئ أحد، فكأنه قال وإن فاتكم احد منكم " فعاقبتم " بمصير أزواج الكفار اليكم إما من جهة سبي او مجيئهن مؤمنات " فآتوا الذين ذهبت أزواجهم " إلى الكفار " مثل ما انفقوا " من المهور كما عليهم أن يردوا عليكم مثل ما أنفقتم لمن ذهب من أزواجكم.

[587]

قال الزجاج: وقد قرئ " فعقبتم " بلا الف مشددا ومخففا، وجاء في التفسير فغمتم ومعناه في اللغة فكانت العقبى لكم أي كانت لكم الغلبة حتى غنمتم، قال " وعقبتم " مشددة أجودها في اللغة، ومخففة جيدة أيضا أي صارت لكم عقبى، والتشديد أبلغ ومعنى " فعاقبتم " أصبتموهم في القتال بعقوبة حتى غنمتم أي ان مضت امرأة منكم إلى من لا عهد بينكم وبينه " فآتو الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا " يعني في مهورهن، وكذلك إن مضت إلى من بينكم وبينه عهد فنكث في اعطاء المهر، فالذي ذهبت زوجته يعطى المهر من الغنيمة ولا ينقص شيئا من حقه بل يعطى حقه كاملا بعد إخراج مهور النساء.

وقال الزهري: فآتوا الذين ذهبت أزواجهم من المؤمنين مثل ما أنفقوا من مال الفئ.

وقال ابن عباس من مال الغنيمة - وفي رواية عن الزهري - عليهم أن يعطوهم من صداق من لحق بهم وقال قوم: يعطونهم من جميع هذه الاموال.

وقال قتادة: معنى الآية " وإن فاتكم شئ من أزواجكم إلى الكفار " الذين ليس بينهم وبين اصحاب رسول الله صلى الله عليه واله عهد " فعاقبتم " يعني الغنيمة يقول: فاذا غنمتم فاعطوا زوجها صداقها الذي كان قد ساقه اليها من الغنيمة ثم نسخ هذا الحكم في براء‌ة، فنبذ إلى كل ذي عهد عهده.

ثم قال " واتقوا الله الذى أنتم به مؤمنون " أى اجتنبوا معاصي الله الذى أنتم مصدقون بثوابه وعقابه ومعترفون بنبوة نبيه.

وقوله " يا أيها النبي " خطاب للنبي صلى الله عليه واله يقول الله له " إذا جاء‌ك المؤمنات يبايعنك " ووجه بيعة النساء مع أنهن لسن من أهل النصرة في المحاربة هو أخذ العهد عليهن بما يصلح شأنهن في الدين للانفس والازواج، فكان ذلك في صدر الاسلام لئلا ينفتق بهن فتق لما صيغ من الاحكام، فبايعهن النبي صلى الله عليه واله حسما لذلك وقيل: إنه كان يبايعهن من وراء الثوب. وروى أنه استدعى ماء فوضع يده فيه

[588]

ثم أمر النساء ان يضعن أيديهن فيه، فكان ذلك جاريا مجرى المصافحة بأخذ العهد " على أن لا يشركن بالله شيئا " من الاصنام والاوثان " ولا يسرقن " لا من أزواجهن ولا من غيرهم " ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن " على وجه من الوجوه لا بالوأد، ولا بالاسقاط " ولا يأتين ببهتان " يعني بكذب " يفترينه بين أيديهن وأرجلهن " أي لا يأتين بكذب يكذبنه في مولود يوجد بين أيديهن وأرجلهن.

وقال ابن عباس: لا يلحقن بأزواجهن غير اولادهم.

وقال الفراء: كانت المرأة تلتقط فتقول لزوجها: هذا ولدي منك، فذلك البهتان المفترى.

وقال قوم: البهتان الذي نهوا عنه في الآية قذف المحصنات والكذب على الناس وإضافة الاولاد إلى الازواج على البطلان في الحاضر والمستقبل من الزمان، ولا يعصينك في معروف، فالمعروف نقيض المنكر، وهو ما دل العقل والسمع على وجوبه او ندبه، وسمي معروفا لان العقل يعترف به من جهة عظم حسنه ووجوبه.

وقال زيد بن أسلم: فيما شرط ألا يعصينه فيه أن لا يلطمن ولا يشققن جيبا ولا يدعون بالويل والثبور، كفعل أهل الجاهلية.

وقال ابن عباس: فيما شرط ألا يعصينه فيه النوح.

وقوله " فبايعهن " والمعنى إذا شرطت عليهن هذا الشروط ودخلن تحتها فبايعهن على ذلك " واستغفر لهن الله " أي اطلب من الله ان يغفر لهن ذنوبهن ويستر عليهن " إن الله غفور رحيم " أي صفوح عنهن منعم عليهن.

وقال الحسن: إذا جاء‌ت المرأة اليوم من غير أهل العهد لم ترد إلى زوجها، ولم تمتحن وهذه الآيه منسوخة.

ثم قال " يا ايها الذين آمنوا " يخاطب المؤمنين بالله ورسوله " لا تتولوا قوما غضب الله عليهم " أي لا توالوا اليهود، ولا من يجري مجراهم من الكفار الذين غضب الله عليهم بأن يريد عقابهم " ولعنهم الله " ثم وصف الكفار، فقال

[589]

" قد يئسوا من الآخرة " جملة في موضع الحال أي باياسهم من الآخرة، فان اليهود ييأسون من ثواب الجنة على ما يقوله المسلمون من الاكل والشرب وغير ذلك من أنواع اللذات كما يئس من لم يؤمن بالبعث والنشور أصلا " كما يئس الكفار من اصحاب القبور " قال الحسن الذين يئسوا من الآخرة أي اليهود مع الاقامة على ما يغضب الله، كما يئس كفار العرب أن يرجع أهل القبور أبدا، وقيل هم أعداء المؤمنين من قريش قد يئسوا من خير الآخرة، كما يئس سائر الكفار من العرب من النشأة الثانية.

وقيل " كما يئس الكفار من أصحاب القبور، من حظ الآخرة.

وقيل: قد يئسوا من ثواب الآخرة كما يئس الكفار من النشأة الثانية ذكره ابن عباس، وقال مجاهد: قد يئسوا من ثواب الآخرة كما ئيس منه أصحاب القبور، لانهم قد ايقنوا بعذاب الله.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/books/index.php?id=1315
  • تاريخ إضافة الموضوع : 0000 / 00 / 00
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29