• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم / المكتبة .
              • الكتاب : التبيان في تفسير القرآن ( الجزء التاسع ) ، تأليف : شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي .
                    • الموضوع : سورة الرحمن .

سورة الرحمن

55 - سورة الرحمن

قال قوم: هي مكية.

وقال آخرون هي مدنية: وهي ثمان وسبعون آية في الكوفي والشامي وسبع وسبعون عند الحجازيين وست وسبعون في البصري.

بسم الله الرحمن الرحيم

(ألرحمن(1) علم القرآن(2) خلق الانسان(3) علمه البيان(4) ألشمس والقمر بحسبان(5) والنجم والشجر يسجدان(6) والسماء رفعها ووضع الميزان(7) ألا تطغوا في الميزان(8) وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان(9) والارض وضعها للانام(10) فيها فاكهة والنخل ذات الاكمام(11) والحب ذو العصف والريحان(12) فبأي آلاء ربكما تكذبان(13))

ثلاث عشرة آية كوفى وشامي، وإثنتا عشرة آية بصري وإحدى عشرة آية في ما عداه، عد الكوفى والشامي (الرحمن) ولم يعده الباقون، وعدوا (خلق الانسان) إلا أهل المدينة فانهم عدوا (البيان) آخر الآية.

وقرأ (الحب ذا العصف) بالنصب شامي (والريحان) خفض كوفى غير عاصم، وعد الكوفيون

[463]

(الرحمن) آية مع أنه ليس بجملة، لانه في تقدير الله الرحمن حتى تصح الفاصلة وهو خبر مبتدأ محذوف نحو قوله (سورة أنزلناها)(1) أي هذه أنزلناها، ومعنى (الرحمن) هو الذي وسعت رحمته كل شئ، فلذلك لا يجوز أن يوصف به إلا الله تعالى، فأما (راحم ورحيم) فيجوز ان يوصف به العباد.

وقوله (علم القرآن) فالتعليم تبين ما به يصير من لم يعلم عالما. والاعلام إيجاد ما به يصير عالما، وفى قوله (الرحمن علم القرآن) تذكير بالنعمة في ما علم من الحكم بالقرآن التي يحتاج اليها الناس في دينهم ليؤدوا ما يجب عليهم وينالوا الفضل بطاعة ربهم ويستوجبوا به الثواب وينالوا الرضوان.

وقوله (خلق الانسان) معناه إنه الذي اخترع الانسان وأخرجه من العدم إلى الوجود، وقيل: المراد بالانسان - ههنا - آدم عليه السلام. وقيل: محمد صلى الله عليه واله وقيل: جميع الناس وهو الظاهر وهو الاعم في الجميع.

وقوله (علمه البيان) أى خلق فيه التمييز الذي بان به من سائر الحيوان. وقيل: معناه علمه الكلام الذى يبين به عن مراده ويتميز به عن سائر الحيوان، فالبيان هو الادلة الموصلة إلى العلم. وقيل: البيان إظهار المعنى للنفس بما يتميز به عن غيره كتميز معنى رجل من معنى فرس، ومعنى قادر من معنى عاجز، ومعنى عام من معنى خاص، ومعنى شئ من معنى هذا بعينه، وفيه تنبيه على أنه تعالى خلق الانسان غير عالم، ثم علمه البيان، خلافا لقول من يقول من الجهال: إن الانسان لم يزل عالما بالاشياء، وإنما يحتاج فيه إلى تذكير، فكيف يكون عالما من لم يخلق بعد لولا الغباوة وقلة التحصيل.

وقوله (والشمس والقمر بحسبان) أي يجريان بحسبان فاضمر يجريان وحذفه لدلالة الكلام عليه، فيكون إرتفاع الشمس بالفعل المقدر. وقال قوم: إرتفعا بتقديرهما بحسبان أي بحساب، والمعنى علمه البيان أن الشمس والقمر بحسبان

___________________________________

(1) سورة 24 النور آية 1

[464]

وقيل: المعنى أن أمرهما يجري في الادوار على مقدار من الحساب على ما وضعه حكيم عليم بتدبير صحيح، قد كان يمكن وضعهما على خلافه غير انه اختار ذلك لاستغناء العباد بها في وجوه المنافع وما في ذلك من المصالح.

وقال ابن عباس وقتادة وابن زيد: بحسبان، ومنازل يجريان فيها ولا يعدوانها. وقيل: إن القمر يقطع بروج السماء في ثمانية وعشرين يوما، والشمس تقطع ذلك في ثلثمائة وخمسمة وستين يوما وشئ.

وقوله (بحسبان) خبر الشمس والقمر على قول من رفعهما بالابتداء (وحسبان) مصدر حسبته أحسبه حسبانا نحو السكران والكفران. وقيل: هو جمع حساب كشهاب وشهبان.

وقوله (والنجم والشجر يسجدان) فالنجم من النبات ما طلع، يقال: نجم ينجم إذا طلع، ونجم القرن والنبات إذا طلعا، وبه سمي نجم السماء، وهو الكوكب لطلوعه. والنجم - ههنا - النبت الطالع من الارض، وهو النبات الذي ليس له ساق - في قول ابن عباس وسعيد وسفيان - وقال مجاهد: هو نجم السماء، وبه قال قتادة، والاول أقوى لمصاحبة الشجر. والشجر عند أهل اللغة النبات الذي له ساق وورق وأغصان يبقى ساقه على دور الحول من الرمان واكثره مما له ثمار تجنى على ما دبرها صانعها من الاتيان بها في أبانها.

وقوله (يسجدان) إخبار من الله تعالى بانهما يسجدان، وسجودهما هو ما فيهما من الآية الدالة على حدوثهما وعلى وجوب الخضوع لله تعالى والتذلل له لما خلق فيها من الاقوات المختلفة في النبات للناس وغيرهم من الحيوان والاستمتاع بأصناف الثمار والفواكه والرياض اللذيذة، فلا شئ أدعى إلى الخضوع والعبادة لمن أنعم بهذه النعمة الجليلة مما فيه مثل الذي ذكرنا في النجم والشجر.

[465]

وقال مجاهد وسعيد بن جبير: سجودهما ظلالهما الذي يلقيانه بكرة وعشيا، فكل جسم له ظل فهو يقتضي الخضوع بما فيه من دليل الحدوث الذي لا يقدر عليه إلا قادر لا يعجزه شئ.

وقوله (والسماء رفعها) أي رفع السماء رفعها فوق الارض للاعتبار بها والتفكر فيها، وأنه لا يقدر على رفعها غير القادر لنفسه الذي لا يعجزه شئ ولا يماثله موجود.

وقوله " ووضع الميزان " فالميزان آلة التعديل في النقصان والرجحان، والوزن يعدل في ذلك، ولو لا الميزان لتعذر الوصول إلى كثير من الحقوق، فلذلك نبه على النعمة فيه والهداية اليه.

وقوله " إلا تطغوا في الميزان " نهي كأنه قال أي لا تطغوا، لان (أن) تكون بمعنى أي ويجوز ان تكون علة، وتقديره ووضع الميزان لان لا تطغوا، وإنما أعاد ذكر الميزان من غير أضمار لئلا يكون الثاني مضمنا بالاول، وليكون قائما بنفسه في النهي عنه إذا قيل ألا تطغوا في الميزان. وقيل: لانه نزل في وقتين. والاول أحسن.

وقيل: المراد بالميزان العدل لان المعادلة موازنة الاسباب، والطغيان الافراط في مجاوزة الحد في العدل.

وقيل: لا تطغوا فيه لان مالا يضبط في الوزن موضوع عنهم.

وقال الزجاج: تقديره فعلت ذلك لئلا تطغوا. ويحتمل ان يكون نهيا مفردا. ويجوز أن يكون بمعنى (أي) مفسرة.

وقوله " واقيموا الوزن بالقسط " أمر من الله تعالى أن يقيموا الوزن إذا أرادوا الاخذ أو الاعطاء " بالقسط " أي بالعدل " ولا تخسروا الميزان " بمعنى لا تنقصوه. والخسران نقصان أصل المال، وهو ذهاب ما كان من رأس المال: خسر يخسر خسرا وخسرانا، وخسره تخسيرا، فهو خاسر ومخسر.

[466]

قال الزجاج: قولهم: أخسرت الميزان وخسرت، فعلى خسرت " لا تخسر " بفتح التاء، وقد قرأ به بعض المتقدمين شاذا لا يؤخذ به.

وقوله " والارض وضعها للانام " ليستقروا عليها.

وقال ابن عباس: الانام كل شئ فيه روح.

وقال الحسن: الانام الانس والجن.

وقال قتادة: الانام الخلق.

ويجوز أن يكون الانام من ونم الذباب إذا صوت من نفسه، ويسمى كل ما يصوت من نفسه أناما. وقلبت الواو من ونام همزة كقولهم: أناة من (وناة). ثم بين وجه المنافع للخلق فوضع الارض " فيها فاكهة " وهي أنواع الثمار التي تؤخذ من الشجر فيها أنواع الملاذ وفنون الامتاع، فسبحان الذي خلقه لعباده وأجرى فيه ضروب الطعوم بلطفه، وكله يسقى بماء واحد في ارض واحدة من شجرة يابسة تنقلب إلى حال الغضاضة والنضرة، ثم تحمل الثمرة الكريمة، وكل ذلك بعين المعتبر وعلم المفكر.

وقوله " والنخل ذات الاكمام " اسم جنس يقع على القليل والكثير وواحده نخلة، وهو يذكر ويؤنث، والاكمام جمع (كم) وهو وعاء ثمر النخل، تكمم في وعائه إذا اشتمل عليه. وقيل: الاكمام ليف النخلة التي تكمم فيه - في قول الحسن وقتادة - وقال ابن زيد: الاكمام الطلع الذي فيه ثمر النخلة.

وقال الزجاج: كم القميص من هذا، لانه يغطي اليد.

وقوله " والحب ذو العصف والريحان " قال ابن عباس وقتادة وابن زيد: العصف التبن. لان الرياح تعصفه أي تطيره بشدة هبوبها ومنه الريح العاصف، قال علقمة بن عبدة:

تسفي مذانب قد مالت عصيفتها *** حدورها من أني الماء مطموم(1)

___________________________________

(1) ديوانه 111 واللسان (عصف) ومجاز القرآن 2 / 242

[467]

وهو دقاق الزرع إذا يبس عصفته الريح. وقيل: العصف التبن. ويقال: له العصيفة. والحب حب الحنطة والشعير ونحوهما، والريحان الرزق - في قول ابن عباس ومجاهد والضحاك - وقال الحسن وابن زيد: الريحان هو الذي يشم. وفي رواية اخرى عن ابن عباس والضحاك: إن الريحان الحب.

والعرب تقول: خرجنا نطلب ريحان الله أى رزقه ويقال: سبحانك وريحانك أى رزقك، قال النمر بن تولب

سماء الاله وريحانه *** وجنته وسماء درد(1)

وقرأ اهل الكوفة إلا عاصما " والريحان " جرا على تقدير، وذو الريحان. الباقون بالرفع عطفا على (الحب) وقرأ ابن عامر وحده " والحب ذا العصف والريحان " بالنصب فيها كلها على تقدير، وخلق الحب ذا العصف وخلق الريحان الباقون بالرفع على تقدير فيها الحب ذو العصف وفيها الريحان.

وقوله " فبأى آلاء ربكما تكذبان " قال ابن عباس والحسن وقتادة: معناه فبأى نعمة من نعمه يا معشر الجن والانس تكذبان؟ ! وريحان أصله ريحان، فخفف. وتلخيصه ريوحان على وزن فيعلان، فلما التقت الواو والياء والثاني ساكن قلبوا الواو ياء وأدغموا ثم خففوا كراهية التشديد كما قالوا: هين لين.

___________________________________

(1) مجاز القرآن 2 / 243 واللسان (روح)

[468]

قوله تعالى: (خلق الانسان من صلصال كالفخار(14) وخلق الجان من مارج من نار(15) فبأي آلآء ربكما تكذبان(16) رب المشرقين ورب المغربين(17) فبأي آلآء ربكما تكذبان(18) مرج البحرين يلتقيان(19) بينهما برزخ لا يبغيان(20) فبأي آلآء ربكما تكذبان(21))

ثمان آيات بلا خلاف.

يقول الله تعالى إنه " خلق الانسان " وأنشائه ويعني به آدم عليه السلام " من صلصال " وهو الطين اليابس الذي يسمع له صلصلة - في قول قتادة - " كالفخار " أي مثل الطين الذي طبخ بالنار حتى صار خزفا " وخلق الجان من مارج من نار " فالمارج هو المختلط الاجزاء، قال الحسن أبليس ابوالجن، وهو مخلوق من لهب النار، كما أن آدم ابوالبشر مخلوق من طين.

وصف الله تعالى الانسان الذي هو آدم ابوالبشر انه خلقه من صلصال. وفي موضع آخر " من طين لازب "(1) وفي موضع آخر " من حمأ مسنون "(2) وفى موضع آخر " خلقه من تراب "(3) وإختلاف هذه الالفاظ لا تناقض فيها، لانها ترجع إلى أصل واحد وهو التراب، فجعله طينا. ثم صار كالحمأ المسنون. ثم يبس فصار صلصالا كالفخار.

وقوله " فبأي آلاء ربكما تكذبان " معناه فبأى نعم ربكما يا معشر الجن والانس تكذبان؟ ! وإنما كررت هذه الآية، لانه تقرير بالنعمة عند ذكرها على التفصيل نعمة نعمة. كأنه قيل بأى هذه الآلاء تكذبان. ثم ذكرت آلاء أخر فاقتضت من التذكير والتقرير بها ما اقتضت الاولى ليتأمل كل واحد في نفسها وفى ما تقتضيه صفتها من حقيقتها التي تتفصل بها من غيرها.

وقوله " رب المشرقين ورب المغربين " تقديره هو رب المشرقين، فهو خبر ابتداء، ولو قرئ بالخفض ردا على قوله " فبأى آلاء ربكما تكذبان " لكان جائزا غير انه

___________________________________

(1) سورة 27 السافات آية 11.

(2) سورة 15 الحجر آية 26، 28، 33.

(3) سورة 3 آل عمران آية 59

[469]

لم يقرأ به أحد. والمعنى انه الخالق المشرق الشتاء ومشرق الصيف، وهو عند غاية طول النهار في الصيف وغاية قصره في الشتاء " ورب المغربين " مثل ذلك - وهو قول مجاهد وقتادة وابن زيد - والمشرق موضع شروق الشمس، وهو طلوعها تقول: شرقت الشمس تشرق شروقا إذا طلعت واشرقت إذا أضائت وصفت. والمغرب موضع غروب الشمس. والغروب مصيرها في حد الغروب وهو المغيب، غربت تغرب غروبا، ومنه الغريب وهو الصابر في حد الغائب عن النفس وأصله الحد ومنه الغروب مجاري الدموع لزوالها من حدها إلى الحد الآخر.

وقوله " فبأي آلاء ربكما تكذبان " أي فبأي نعمة ربكما معاشر الجن والانس تكذبان. وقد بينا الوجه في تكراره. وواحد الآلاء ألى على وزن (معا) و (ألا) على وزن (قفا) عن أبي عبيدة.

وقوله " مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان " معنى مرج أرسل - في قول ابن عباس.

وقال الحسن وقتادة و (البحران) بحر فارس والروم.

وقال ابن عباس في رواية أخرى هما بحر السماء وبحر الارض " يلتقيان " في كل عام.

وقيل البحران الملح والعذب.

وقيل: مرج البحرين خلط طرفيهما عند التقائهما من غير أن يختلط جملتها " لا يبغيان " أي لا يبغي أحدهما على الآخر بأن يقلبه إلى مثل حاله في الملوحة والعذوبة. ومرج معناه أرسل باذهاب الشيئين فصاعدا في الارض، فمرج البحرين أرسلهما بالاجراء في الارض يلتقيان، ولا يختلطان، ذلك تقدير العزيز العليم. والبرزخ الحاجز بين الشيئين، ومنه البرزخ الحاجز بين الدنيا والآخرة.

وقال قتادة: البرزخ الحاجز أن يبغي الملح على العذب أو العذب على الملح.

وقال مجاهد: معناه لا يبغيان لا يختلطان ومعناه لا يبغيان على الناس.

والنعمة بتسخير الشمس أنها تجري دائبة بمنافع الخلق في الدنيا والدين، فبأي آلاء

[470]

ربكما تكذبان معاشر الجن والانس.

قوله تعالى: (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان(22) فباي آلآء ربكما تكذبان(23) وله الجوار المنشآت في البحر كالاعلام(24) فبأي آلآء ربكما تكذبان(25) كل من عليها فان(26) ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام(27) فبأي آلآء ربكما تكذبان(28) يسئله من في السموات والارض كل يوم هو في شأن(29) فبأي آلآء ربكما تكذبان(30))

تسع آيات بلا خلاف.

قرأ " المنشئآت " بالكسر حمزة، ويحيى وقرأ " يخرج " بفتح الياء أهل الكوفة، وابن كثير وابن عامر أسندوا الفعل إلى اللؤلؤ والمرجان. الباقون، على ما لم يسم فاعله. وإنما أجازوا اسناد الفعل إلى الجوار واللؤلؤ والمرجان، كما قالوا مات زيد ومرض عمرو وما أشبه ذلك في ما يضاف الفعل اليه إذا وجد منه. وإن كان في الحقيقة لغيره، وكان المعنى المنشئات السير فحذف المفعول وأضاف السير اليه إتساعا، لان سيرها إنما يكون بهبوب الريح.

وقال الزجاج: من فتح الشين أراد المرفوعات الشرع، وبالكسر الحاملات الرافعات الشرع.

لما ذكر الله تعالى النعمة على الخلق بمرج البحرين اللذين يلتقيان، وإنهما مع ذلك لا يبغيان، بين أيضا ما فيهما من النعمة، فقال يخرج منهما يعني من البحرين اللؤلؤ والمرجان. فاللؤلؤ معروف، ويقع على الصغار والكبار. والمرجان ضرب من الجوهر كالقضبان يخرج من البحر.

وقال ابن عباس: اللؤلؤ كبار الدر والمرجان

[471]

صغاره. وبه قال الحسن وقتادة والضحاك، وسمي المرجان بذلك لانه حب من الجوهر كبير مختلط به مرجت أي خلطت. وإنما جاز أن يقول يخرج منهما، وهو يخرج من الملح دون العذب، لان العذب والملح يلتقيان فيكون العذب كاللقاح للملح، كما يقال يخرج الولد من الذكر والانثى، وإنما تلده الانثى.

وقال قوم: لا يخرج اللؤلؤ إلا من الموضع الذي يلتقي فيه العذب والملح، وذلك معروف عند الغواصين.

وقال الزجاج: لانه إذا أخرجه من أحدهما فقد أخرجه من الآخر، لانه داخل فيهما وقال ابن عباس: إذا جاء القطر من السماء تفتحت الاصداف فكان من ذلك القطر اللؤلؤ.

وقال قوم المعنى من جهتهما ولا يجب إنه من كل واحد منهما، والاول وجه التأويل.

وقوله " وله الجوار المنشآت " والجوار جمع جارية وهي السفينة لانها تجري في الماء بأمر الله تعالى. والجارية المرأة الشابة، لانه يجري فيها ماء الشباب، والمنشئآت المبتدآت للسير برفع القلاع.

وقال مجاهد: ما رفع له القلاع، فهو منشأ وما لم يرفع قلاعه فليس بمنشأ، فجعل الانشاء برفع القلاع. والاعلام الجبال واحدها علم سمي بذلك لارتفاعه كارتفاع الاعلام المعروفة.

وقال جرير:

إذا قطعن علما بعد علم *** حتى تناهين بنا إلى حكم(1)

وقيل كالاعلام في العظم.

وقوله " كل من عليها فان " إخبار من الله تعالى أن جميع من على وجه الارض من العقلاء يفنون ويخرجون من الوجود إلى العدم. وإذا ثبت ذلك وكانت الجواهر لا تفنى إلا بفناء يضادها على الوجود، فاذا وجد الفناء أنتفت الجواهر كلها، لانها إختصاص له بجوهر دون جوهر، فالآية دالة على عدم جميع الاجسام على ما قلناه، لانه إذا ثبت عدم العقلاء بالآية ثبت

___________________________________

(1) مجاز القرآن 2 / 244 والقرطبي 17 / 164

[472]

عدم غيرهم، لانه لا يفرق من الامة أحد بين الموضعين.

وقوله " ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام " معناه ويبقى ربك الظاهر بأدلته كظهور الانسان بوجهه فالوجه يذكر على وجهين: احدهما - بعض الشئ كوجه الانسان. الثاني - بمعنى الشئ المعظم في الذكر كقولهم: هذا وجه الرأى، وهذا وجه التدبير أي هو التدبير، وهو الرأي. والاكرام والاعظام بالاحسان، فالله تعالى يستحق الاعظام بالاحسان الذي هو في أعلى مراتب الاحسان. ومعنى ذو الجلال ذو العظمة بالاحسان.

وقوله " يسأله من في السموات والارض كل يوم هو في شأن " معناه يسأل الله تعالى من في السموات والارض من العقلاء حوائجهم، ويضرعون اليه. ثم قال " كل يوم هو في شأن " فالشان معنى له عظم، وكذلك قال كل يوم هو في شان، ويقال: لا يشغله شأن عن شأن. والمعنى إن كل يوم اله تعالى في شأن من احياء قوم وإماتة آخرين، وعافية قوم ومرض غيرهم، ونجاة واهلاك ورزق وحرمان وغير ذلك من الامور والنعمة.

وقوله " كل من عليها فان " في التسوية بين الخلق في الفناء " فبأي آلاء ربكما تكذبان " قد فسرناه.

[473]

قوله تعالى: (سنفرغ لكم أيه الثقلان(31) فبأي آلاء ربكما تكذبان(32) يا معشر الجن والانس إن استطعتم أن تنفدوا من أقطار السموات والارض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان(33) فبأي آلآء ربكما تكذبان(34) يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران(35) فبأي آلاء ربكما تكذبان(36))

سبع آيات حجازى وست في ما عداه، عد الحجازيون " من نار " ولم يعده الباقون.

قرأ " شواظ " - بكسر الشين - أهل مكة. الباقون بضمها، وهما لغتان مثل صوار وصوار.

وقرأ " نحاس " بالجر أهل مكة والبصرة، غير يعقوب عطفا على (نار). الباقون بالرفع عطفا على " شواظ " وقرأ اهل الكوفة إلا عاصما " سيفرغ " على تقدير سيفرغ الله لكم. الباقون - بالنون - على وجه الاخبار من الله عن نفسه يعني قوله " سنفرغ لكم " من أبلغ الوعيد وأعظم التهديد.

وقيل في معناه قولان: أحدهما - سنفرغ لكم من الوعيد وينقضي ويأتيكم المتوعد به فشبه ذلك بمن فرغ من شئ وأخذ في غيره. الثاني - إنا نستعمل عمل من يتفرغ للعمل لتجويده من غير تضجيع فيه كما يقول: القائل: سأتفرغ لك. والله تعالى لا يشغله شئ عن شئ، لانه من صفات الاجسام، وهو من أبلغ الوعيد لانه يقتضي أن يجازى بصغير ذنبه وكبيره إذا كان مستحقا لسخط الله.

والفراغ انتفاع القاطع عنه من القادر عليه. والشغل والفراغ من صفات الاجسام التي تحلها الاعراض، وشغلها عن الاضداد في تلك الحال ولذلك وجب ان يكون في صفة القديم تعالى مجازا.

وقوله " أيها الثقلان " خطاب للجن والانس، وإنما سميا ثقلين لعظم شأنهما بالاضافة إلى ما في الارض من غيرهما، فهما أثقل وزنا لعظم الشأن بالعقل والتمكين

[474]

والتكليف لاداء الواجب في الحقوق، ومنه قول النبي صلى الله عليه واله (إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي) يريد عظيمي المقدار، فلذلك وصفهما بأنهما ثقلان.

وقوله " إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والارض " قال الضحاك: ان استطعتم أن تنفذوها ربين من العذاب يقال: لهم ذلك يوم القيامة.

وقال قوم: معناه إن استطعتم أن تنفذوها ربين من الموت فاهربوا فانه حيث كنتم أدرككم الموت.

وقال ابن عباس: معناه إن استطعتم أن تعلموا ما في السموات والارض فاعلموا أنه لا يمكنكم ذلك.

وقوله " لا تنفذون إلا بسلطان " معناه إلا بحجة وبيان.

وقيل معناه: إلا بملك وقهر، وليس لكم ذلك.

وقال الزجاج: المعنى " فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان " أي حيثما كنتم شاهدين.

ثم حجة الله وسلطانه الذي يدل على توحيده وواحد الاقطار قطر وهي الاطراف - في قول سفيان - فانفذوا في صورة الامر والمراد به التحدي. ثم قال " لا تنفذون إلا بسلطان " وهو القوة التي يتسلط بها على الامر " فبأي آلاء ربكما تكذبان " وقد فسرناه. وفائدة الآية أن عجز الثقلين عن الهرب من الجزاء كعجزهم عن النفوذ من الاقطار، وفي ذلك اليأس من رفع الجزاء بوجه من الوجوه، فلينظر امرء ما يختار لنفسه مما يجازى به.

وقوله " يرسل عليكما شواظ من نار " فالشواظ لهب النار - في قول ابن عباس ومجاهد وقتادة - ومنه قول رؤية:

إن لهم من وقعنا أيقاظا *** ونار حرب تسعر الشواظا(1)

والنحاس الصفر المذاب للعذاب - في قول ابن عباس ومجاهد وسفيان وقتادة - وفي رواية أخرى عن ابن عباس وسعيد: النحاس الدخان قال النابغة الجعدي:

___________________________________

(1) اللسان (شوظ) ومجاز القرآن 2 / 244 والطبري 27 / 23

[475]

يضئ كضوء سراج السليط *** السليط لم يجعل الله فيها نحاسا(1)

أي دخانا.

والسليط دهن السمسم.

وقال قوم: هو دهن السنام.

وقال الفراء: هو دهن الزيت.

وقوله " فلا تنتصران " أي لا تقدران على دفع ذلك عنكما، ووجه النعمة في إرسال الشواظ من النار والنحاس على الثقلين هو ما لهم في ذلك من الزجر في دار التكليف عن مواقعة القبيح، وذلك نعمة جزيلة، فلذلك قال " فبأي آلاء ربكما " معاشر الجن والانس " تكذبان ".

قوله تعالى: (فاذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان(37) فبأي آلآء ربكما تكذبان(38) فيومئذ لا يسئل عن ذنبه إنس ولا جان(39) فبأي آلآء ربكما تكذبان(40) يعرف المجرمون بسيميهم فيؤخذ بالنواصي والاقدام(41) فبأي آلاء ربكما تكذبان(42) هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون(43) يطوفون بينها وبين حميم آن(44) فبأي آلآء ربكما تكذبان(45))

ثمان آيات بصرى وتسع في ما عداه، عد الكل " يكذب بها المجرمين " ولم يعده البصريون.

يقول الله تعالى " فاذا انشقت السماء " ومعناه إن ينفك بعضها عن بعض، فالسماء تنشق يومئذ وتصير حمراء كالوردة. ثم تجرى كالدهان قال الفراء: الوردة الفرس الوردة.

___________________________________

(1) ديوانه 75 ومجاز القرآن 2 / 245

[476]

وقال الزجاج: يتلون كما يتلون الدهان المختلفة أى فكان كلون فرس ورده، وهو الكميت فيتلون في الشتاء لونه بخلاف لونه في الصيف، وكذلك في الفصول فسبحان خالقها والمصرف لها كما يشاء. والوردة واحدة الورد، وإنما تصير السماء كالوردة في الاحمرار ثم تجري كالدهان، وهو جمع دهن كقولك قرط وقراط عند انقضاء الامر وتناهي المدة.

وقال الحسن: هي كالدهان أى كالدهن الذى يصب بعضه على بعض بألوان مختلفة.

وقيل: تمور كالدهن صافية.

وقال قتادة: لونها حينئذ الحمرة كالدهان في صفاء الدهن وإشراقه.

وقال قوم: إن السماء تذوب يوم القيامة من حر نار جهنم فتصير حمراء ذائبة كالدهن.

قال الجبائي: وروي أن السماء الدنيا من حديد وليس في الآية مايدل ما قاله، لاحتمال ذلك ما قاله المفسرون. والاقوال التي ذكرناها.

وقال الفراء: الدهان الاديم الاحمر ووجه النعمة في إنشقاق السماء حتى وقع التقرير بها في قوله " فبأى آلاء ربكما تكذبان " هو ما في الاخبار به من الزجر والتخويف بانشقاق السماء فوقع في السبب ولا يصلح في المسبب أن يكون منفعة، ولكن لسبب النفع الذى هو الزجر في دار الدنيا، فلذلك وقع التقرير بقوله " فبأى آلاء ربكما تكذبان ".

وقوله " فيومئذ لا يسأل عن ذنبه أنس ولا جان " معناه لا يسأل في ذلك الموطن لما يلحقه من الدهش والذهول الذى تحار له العقول، وإن وقعت المسألة في وقت غيره بدلالة قوله " وقفوهم إنهم مسؤلون "(1) وقال قتادة: يكون المسائلة قبل ثم يختم على الافواه عند الجحد فتنطق الجوارح.

وقيل: معناه إن يومئذ لا يسأل عن ذنبه أنس ولا جان ليعرف المذنب من المؤمن المخلص، لان الله تعالى قد جعل عليهم علامة كسواد الوجوه وقبح الخلق ولم يدخل في ذلك سؤال المحاسبة للتوبيخ

___________________________________

(1) سورة 37 الصافات آية 24

[477]

والتقريع، لانه تعالى قال " وقفوهم إنهم مسؤلون " وتقدير الاية فيومئذ لا يسأل أنس عن ذنبه ولا جان عن ذنبه.

وقيل: يجوز أن يكون المراد أنه لا يسأل احد من انس ولا جان عن ذنب غيره، وإنما يسأل هو سؤال توبيخ عن فعل نفسه.

وقوله " يعرف المجرمون بسيماهم " معناه إن الله تعالى جعل للكفار والعصاة علامات تعرفهم بها الملائكة والسيماء العلامة. ومنه قوله " سيماهم في وجوههم من اثر السجود "(1) وهو مشتق من السوم وهو رفع الثمن عن مقداره، ومنه " مسومين "(2) أي معلمين بعلامة والعلامة يرفع باظهارها لتقع المعرفة بها والمعرفة هي العلم عند المتكلمين.

وقال بعض النحويين: إن متعلق المعرفة المفرد ومتعلق العلم الجملة كقولهم عرفت زيدا وعلمت زيد قائما ولو جئت بقائم في عرفت لكان حالا ولم يخرج عن معرفة زيد.

وقوله " فيؤخذ بالنواصي والاقدام " قال الحسن: يجمع بين ناصيته وقدمه بالغل فيسحب إلى النار. والناصية شعر مقدم الرأس، ومنه ناصية الفرس ومنه قوله تعالى " لنسفعا بالناصية "(3) أي ليقترن بها ما سحقته النار إذلالا لها وأصله الاتصال من قول الشاعر: في يناصيها بلادقى أي يتصل بها فالناصية متصلة بالرأس و (الاقدام) جمع قدم وهو العضو الذي يقدمه صاحبه للوطئ به على الارض.

وقيل: يأخذهم الزبانية بنواصيهم وأقدامهم فتسحبهم إلى النار أى تأخذهم تارة بذا، وتارة بذا.

وقال الحسن وقتادة يعرفون بأنهم سود الوجوه زرق العيون، كما قال تعالى " يوم تبيض وجوه وتسود

___________________________________

(1) سورة 48 الفتح آية 29.

(2) سورة 3 آل عمران آية 125.

(3) سورة 96 العلق آية 15

[478]

وجوه "(1) " فبأى آلاء ربكما تكذبان " وجه النعمة بذلك ما فيه من الزجر عن المعاصي والترغيب في الطاعات وذلك نعمة من الله على العباد في الدين.

وقوله " هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون " معناه يقال لهم يوم القيامة إذا شاهدوا جهنم " هذه جهنم " ويحتمل أن يكون المراد هذه جهنم التي وصفتها هي التي يكذب بها المجرمون الكفار بنعم الله " يطوفون بينها وبين حميم آن " قيل: يطوفون بين أطباقها في عذاب النار، وبين الحميم آن. والحميم الماء الحار. والآن الذي بلغ نهايته. والمراد - ههنا - هو الذى قد بلغ نهاية حره من آنى يأنى إنيا فهو آن، ومنه قوله " غير ناظرين إناه "(2) يعني نضاجه وبلوغه غايته " فبأي آلاء ربكما تكذبان " والاخبار بذلك لطف وزجر عن المعاصي فلذلك كانت نعمة اعتد بها وقرر بها.

قوله تعالى: (ولمن خاف مقام ربه جنتان(46) فباي آلآء ربكما تكذبان(47) ذواتا أفنان(48) فبأى آلآء ربكما تكذبان(49) فيهما عينان تجريان(50) فبأي آلآء ربكما تكذبان(51) فيهما من كل فاكهة زوجان(52) فبأي آلآء ربكما تكذبان(53) متكئين على فرش بطائنها من إستبرق وجنى الجنتين دان(54) فبأي آلآء ربكما تكذبان(55))

عشر آيات بلا خلاف.

لما وصف الله تعالى ما أعد للكفار من أنواع العذاب، بين بعد ذلك ما أعد

___________________________________

(1) سورة 3 آل عمران آية 106.

(2) سورة 33 الاحزاب آية 53

[479]

للمؤمنين والمتقين، فقال " ولمن خاف مقام ربه جنتان " والمعنى ولمن خاف المقام الذي يقفه فيه ربه للمسائلة عما عمل في ما يجب عليه مما أمره به أو نهاه عنه، فيكفه ذلك عما يدعوه هواه اليه يصبر صبر مؤثر للهدى على طريق الردى. والمقام الموضع الذي يصلح للقيام فيه وبضم الميم الموضع الذي يصلح للاقامة فيه.

والجنتان اللتان وعد الله من وصفه بهما قيل هما جنتان: إحداهما داخل قصره والاخرى خارج قصره على ما طبع الله تعالى العباد عليه من شهوة ذلك وجلالته فشوقوا إلى ما في طباعهم شهوة مثله.

ثم وصف الجنتين فقال " ذواتا أفنان " والافنان جمع (فن) وهو الغصن الفصن الورق، ومنه قولهم: له فنون، وهذا فن آخر أي نوع آخر أي ضرب آخر، وفيه فنون أي ضروب مختلفة، ويجوز أن يكون جمع فن.

وقال ابن عباس: معناه ذواتا ألوان. وقال عكرمة. ظل الاغصان على الحيطان.

وقال الضحاك: ذواتا ألوان يفضل بها على ما سواها " فبأي آلاء ربكما تكذبان " قد بيناه.

وقوله " فيهما عينان تجريان " اخبار منه تعالى أن في الجنتين اللتتين وعدتهما المؤمنين عينين من الماء تجريان بين أشجارها، فالجاري هو الذاهب ذهاب الماء المنحدر، فكل ذاهب على هذه الصفة فهو جار، وصفت بالعين لصفائها أو بأنها جارية لانه أمتنع لها " فبأي آلاء ربكما تكذبان " قد فسرناه.

وقوله " فيهما من كل فاكهة زوجان " معناه إن في تلك الجنتين من كل ثمرة نوعين وضربين متشاكلين كتشاكل الذكر والانثى، فلذلك سماهما (زوجين) وذلك بالرطب واليابس من العنب والزبيب والتين والرطب واليابس، فكذلك سائر الانواع لا يقصر يابسه عن رطبه في الفصل والطيب إلا أنه امتنع وأعذب بأن يكون على هذا المنهاج.

[480]

وقيل: فيهما من كل نوع من الفواكه ضربان ضرب معروف وضرب من شكله غريب، وكل ذلك للاطراف والامتاع " فبأي آلاء ربكما تكذبان. متكئين على فرش بطائنها من استبرق " فالاتكاء الاستناد للتكرمة والامتناع والمتكى هو ما يطرح للانسان في مجالس الملوك للاكرام والاجلال إتكا يتكي إتكاء‌ا، فهو متكي، ومنه وكاة السقاء إذا شددته، ومنه قوله صلى الله عليه واله (العين وكاء الجسد) والاتكاء شدة التقوية للاكرام والامتاع. وهو نصب على الحال (على فرش) وهو جمع فراش وهو الموطأ الممهد للنم عليه بطائنها، وهو جمع بطانة وهي باطن الظهار، فالبطانة من اسفله والظاهرة من أعلاه.

وقوله (وجنا الجنتين دان) فالجنى الثمرة التي قد أدركت في الشجرة وصلح أن تحبى غضه قال الشاعر:

هذا جناي وضياره فيه *** إذ كل جان يده إلى فيه(1)

والاستبرق الغليظ من الديباج - في قول عكرمة وابن اسحاق - وقيل: ان ثمارها دانية لا يرد يده عنها بعد، ولا شوك - في قول قتادة - وقيل: الظواهر من سندس وهو الديباج الرقيق، والبطاين من أستبرق وهو الديباج الغليظ.

وقيل: الاستبرق المتاع الصيني من الحرير، وهو بين الغليظ والرقيق.

وقال الفراء: الاستبرق غليظ الديباج.

وقوله (فبأي آلاء ربكما تكذبان) قد تكرر تفسيره.

___________________________________

(1) تفسير القرطبي 17 / 180

[481]

قوله تعالى: (فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان(56) فبأي آلآء ربكما تكذبان(57) كانهن الياقوت والمرجان(58) فبأي آلآء ربكما تكذبان(59) هل جزاء الاحسان إلا الاحسان(60) فبأي آلآء ربكما تكذبان(61) ومن دونهما جنتان(62) فبأي آلآء ربكما تكذبان(63) مدهامتان(64) فبأي آلآء ربكما تكذبان(65))

عشر آيات بلا خلاف.

قرأ الكسائي (لم يطمثهن) بكسر إحداهما وضم الاخرى الباقون بكسرهما وهما لغتان، يقال: طمثت المرأة تطمث وتطمثت إذا حاضت.

قال الزجاج وغيره: في الآية دلالة على أن الجن تنكح.

وقال الفراء: لم ينكحهن إنس ولا جان نكاح تدمية أي لم يقتضهن، والطمث الدم.

والضهير في قوله (فيهن قاصرات الطرف) عائد على الفرش التي بطائنها من استبرق، لانه قد تقدم ذكره، وكان أولى بالعود عليه، ولو لم يتقدم هذا الذكر لجاز أن يرجع إلى الجنان وإلى الجنتين المذكورتين وغيرهما من الجنان لانه معلوم، لكن المذكور أولى، لان اقتضاء‌ه له أشد، والقاصر المانع من ذهاب الشئ إلى جهة من الجهات، فالحور قاصرات الطرف عن غير أزواجهن إلى أزواجهن. والطرف جفن العين، لانه طرف لها، فيطبق عليها تارة وينفتح تارة، ومنه الاطراف بالامر لانه كالطرف الذي يليك بحدوثه لك.

وقوله (لم يطمثهن) قيل في معناه قولان: أحدهما - قال مجاهد وابن زيد وعكرمة: لم يمسسهن بجماع من قولهم: ما طمث هذا البعير جمل قط أي ما مسه جمل. الثاني - قال ابن عباس: لم يدمهن بنكاح من قولهم: امرأة طامث أي حائض كأنه قال هن أبكار لم يقتضهن أحد قبلهم. والاصل المس، كأنه ما مسها دم الحيض.

[482]

وقيل: إنما نفى الجان، لان للمؤمنين منهم لهم أزواجا من الحور، وهو قول ضمرة بن حبيب، قال البلخي: المعنى إن ما يهب الله لمؤمني الجن من الحور العين لم يطمثهن جان، وما يهب الله لمؤمني الانس لم يطمثهن إنس قبلهم، على أن هذا مبالغة.

وقال ضمرة بن حبيب في: الآية دلالة على أن للجن ثوابا فالانسيات للانس والجنيات للجن (فبأي آلاء ربكما تكذبان) قد مضى تفسيره.

وقوله (كأنهن الياقوت والمرجان) قال الحسن: هن على صفاء الياقوت في بياض المرجان.

وقيل: كالياقوت في الحسن والصفاء والنور.

وقال الحسن: المرجان أشد اللؤلؤ بياضيا وهو صغاره (فبأي آلاء ربكما تكذبان) قد بيناه.

وقوله (هل جزاء الاحسان إلا الاحسان) معناه ليس جزاء من فعل الاعمال الحسنة وأنعم على غيره إلا أن ينعم عليه بالثواب ويحسن اليه (فبأي آلاء ربكما تكذبان) قد مضى بيانه.

وقوله (ومن دونهما جنتان) معناه إن من دون الجنتين اللتين ذكرنا (لمن خاف مقام ربه) جنتين أخرتين دون الاولتين، وإنهما أقرب إلى قصره ومجالسه في قصره ليتضاعف له السرور بالتنقل من جنة إلى جنة على ما هو معروف في طبع البشرية من شهوة مثل ذلك.

ومعنى (دون) مكان قريب من الشئ بالاضافة إلى غيره، مما ليس له مثل قربه، وهو ظرف مكان، وإنما كان التنقل من جهة إلى جهة أنفع، لانه أبعد من الملل على ما طبع عليه البشر، لان من الاشياء مالا يمل لغلبة محبته على النفس بالامر اللازم، ومنها ما يمل لتطلع النفس إلى غيره، ثم الرجوع اليه.

وقوله (مدها متان) معناه خضراوتان تضرب خضرتهما إلى السواد من الري على أتم ما يكون من الحسن، لان الله شوق اليهما ووعد المطيعين في خوف مقامه بها، فناهيك بحسن صفتهما وما يقتضيه ذكرهما في موضعهما.

[483]

وقال ابن عباس وابن الزبير وعطية وأبوصالح وقتادة: هما خضراوان من الري.

وقال قوم: الجنان الاربع (لمن خاف مقام ربه) ذهب اليه ابن عباس: وقال الحسن: إلا وليان للسابقين والاخيرتان للتابعين.

قوله تعالى: (فيهما عينان نضاختان(66) فباي آلآء ربكما تكذبان(67) فيهما فاكهة ونخل ورمان(68) فبأي آلآء ربكما تكذبان(69) فيهن خيرات حسان(70) فبأي آلآء ربكما تكذبان(71) حور مقصورات في الخيام(72) فبأي آلآء ربكما تكذبان(73) لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان(74) فبأي آلآء ربكما تكذبان(75) متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان(76) فبأى آلآء ربكما تكذبان(77) تبارك اسم ربك ذي الجلال والاكرام(78))

ثلاث عشرة آية.

قرأ اهل الشام (ذوالجلال) على الرفع، على أنه نعت ل‍ (إسم). الباقون - بالخفض - على أنه نعت ل‍ (ربك).

وقوله (فيهما) يعني الجنتين اللتين وصفهما بأنهما (مدها متان) (عينان نضاختان) فعين الماء المكان الذي ينبع منه الماء، ومعنى (نضاختان) فوارتان بالماء.

وقيل: نضاختان بكل خير. والنضخ - بالخاء - أكثر من النضح - بالحاء - لان النضح غير المعجمة الرش وبالخاء كالبرك والفوارة التي ترمى بالماء صعداء،

[484]

نضخ ينضخ نضخا فهو ناضخ. وفى نضاخة مبالغة، ووجه الحكمة في العين النضاخة أن النفس إذا رأت الماء يفور كان أمتع، وذلك على ما جرت به العادة (فبأي آلاء ربكما تكذبان).

وقوله (فيهما فاكهة ونخل ورمان) أخبار منه تعالى أن في الجنتين المتقدم وصفهما (فاكهة) وهي الثمار (ونخل ورمان) وإنما افرد ذكر النخل والرمان من الفاكهة، وإن كان من جملتها تنبيها على فضلهما وجلالة النعمة بهما، كما أفرد ذكر جبرائيل وميكائيل في قوله (من كان عدوا لله وملائكته ورسوله وجبريل وميكال فان الله عدو للكافرين)(1) وقال قوم: ليسا من الفاكهة بدلا الآية. وليس له في ذلك حجة، لاحتمال ما قلناه.

قال يونس النحوي: النخل والرمان من أفضل الفاكهة، وإنما فضلا لفضلهما، والنخل شجر الرطب والتمر. والرمان مشتق من رم يرم رما، لان من شأنه أن يرم الفؤاد بجلائه له (فبأي آلاء ربكما تكذبان) قد مضى بيانه.

وقوله (فيهن خيرات حسان) قال ابوعبيدة: إمرأة خيرة ورجل خير، والجمع خيرات.

والرجال أخيار قال الشاعر:

ولقد طعنت مجامع الربلات *** ربلات هند خيرة الملكات(2)

وقال الزجاج: أصل (خيرات) خيرات، وخفف.

وفى الخبر المرفوع إن المعنى (خيرات الاخلاق حسان الوجوه) وإنما قيل للمرأة في الجنة: خيرة، لانها مما ينبغي أن تختار لفضلها في أخلاقها وأفعالها، وهي مع ذلك حسنة الصورة، فقد جمعت الاحوال التي تجل بها النعمة (فبأي آلاء ربكما تكذبان) قد بينا معناه.

وقوله (حور مقصورات في الخيام) فالحور البيض الحسان البياض، ومنه

___________________________________

(1) سورة 2 البقرة آية 98.

(2) مر في 5 / 319 وهو في مجاز القرآن شاهد 298

[485]

الدقيق الحواري لشدة بياضه، والعين الحورا اذا كانت شديدة بياض البياض، وشديدة سواد، السواد، وبذلك يتم حسن العين.

وقال ابن عباس والحسن ومجاهد: الحور: البيض.

وقوله (مقصورات) أي قصرن على أزواجهن، فلا بردن بدلا منهم - في قول مجاهد والربيع - وقيل: معناه محبوسات في الحجال - في قول ابن عباس وأبي العالية ومحمد بن كعب والضحاك والحسن، وعلى وجه الصيانة لهن والتكرمة لهن عن البذلة.

وقال ابوعبيدة: مقصورات أي مخدرات و (الخيام) جمع خيمة وهو بيت من الثياب على الاعمدة، والاوتاد مما يتخذ للاصحار، فاذا اصحر هؤلاء الحور، كانت لهن الخيام في تلك الحال وغيرها مما ينفى الابتذال.

وقال الزجاج: يقال للهوارج الخيام وقال عبدالله: الخيام در مجوف على هيئة البيت وقال ابن عباس: بيوت اللؤلؤ. وقيل: الخيمة درة مجوفة فرسخ في فرسخ لها أربعة آلاف مصراع من ذهب (فبأى آلاء ربكما تكذبان) قد مضى بيانه.

وقوله (لم يطمثهن انس قبلهم ولا جان فبأي آلاء ربكما تكذبان) قد مضى تفسيره.

قال البلخي في الآية دلالة على قول الحسن البصري: أن الحور العين هو أزواجهم في الدنيا إذا كن مؤمنات مطيعات لان الله قال (لم يطمثهن أنس قبلهم ولا جان) وقال: من نصر الحسن أن المراد لم يطمثهن بعد النشأة الثانية إنس قبلهم ولا جان. وإنما كرر قوله (لم يطمثهن) في الآية للبيان على أن صفة الحور المقصورات في الخيام كصفة القاصرات الطرف مع تمكين التشويق بهذه الحال الجليلة التي رغب فيها كل نفس سليمة.

وقوله (متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان) (متكئين) نصب على الحال، وقد فسرنا معناه. والرفارف جمع رفرف، وهي المجالس - في قول ابن عباس وقتادة والضحاك - وقيل: الرفرف هي فصول المجالس للفرش.

[486]

وقال الحسن: هي المرافق، وقيل: الرفارف الوسائد.

وقيل: الرفرفة الروضة. وأصله من رف النبت يرف إذا صاد غضا نضرا.

وقيل: لما في الاطراف رفرف، لانه كالنبت الغض الذي يرف من غضاضته.

والخضر جمع أخضر (والعبقري) الزرابي - في قول ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة - وهي الطنافس.

وقال مجاهد: هو الديباج: وقال الحسن: هو البسط.

وقيل (عبقر) اسم بلد ينسج به ضروب من الوشي الحسن، قال زهير:

بخيل عليها جبة عبقرية *** جد يرون يوما ان يبالوا ويستعلوا(1)

وقيل: الموشى من الديباج عبقري تشبيها بذلك، ومن قرأ (عباقري) فقط غلط لانه لا يكون بعد الف الجمع أربعة احرف ولا ثلاثة إلا أن يكون الثاني حرف لين نحو (قناديل).

وقوله (تبارك اسم ربك) معناه تعاظم وتعالى إسم ربك، لانه يستحق أن يوصف بما لا يوصف به أحد من كونه قديما وإلها، وقادرا لنفسه وعالما حيا لنفسه وغير ذلك.

وقوله (ذي الجلال والاكرام) خفض، لانه بدل من قوله (ربك) ومعنى الجلال العظمة والاكرام الاعظام بالاحسان والانعام.

وقال الحسن: الاكرام الذي يكرم به أهل دينه وولايته. ومن قرأ (ذو الجلال) بالرفع أراد ان اسم الله فيه البركة، وإذا قرئ بالخفض دل على أن اسم الله غير الله، لانه لو كان اسمه هو الله لجرى مجرى ذكر وجهه إلا ترى أنه لما قال (ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام) ورفعه، لانه أراد الله تعالى وههنا بخلافه.

___________________________________

(1) ديوانه 103 ومجاز القرآن 2 / 246 واللسان (عبقر)


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/books/index.php?id=1310
  • تاريخ إضافة الموضوع : 0000 / 00 / 00
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 16