• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم / المكتبة .
              • الكتاب : التبيان في تفسير القرآن ( الجزء التاسع ) ، تأليف : شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي .
                    • الموضوع : سورة محمد صلى الله عليه واله .

سورة محمد صلى الله عليه واله

47 - سورة محمد صلى الله عليه واله

هي مدينة كلها إلا آية واحدة قال ابن عباس وقتادة: فالآية الواحدة نزلت حين خرج النبي صلى الله عليه واله من مكة وجعل ينظر إلى البيت، وهو يبكي حزنا عليه فنزل قوله " فكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي اخرجتك.. " الآية وهي ثمان وثلاثون آية في الكوفي وتسع وثلاثون في المدنيين واربعون في البصري.

بسم الله الرحمن الرحيم

(الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم(1) والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيآتهم وأصلح بالهم(2) ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم كذلك يضرب الله للناس أمثالهم(3) فاذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فاما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم(4) سيهديهم ويصلح بالهم(5))

خمس آيات كوفي وست في ما عداه.

[289]

قرأ اهل البصرة وحفص عن عاصم " والذين قتلوا " على ما لم يسم فاعله بضم القاف وكسر التاء. الباقون " قاتلوا " بألف من المفاعلة. وقرئ شاذا " قتلوا " بفتح القاف وتشديد التاء.

من قرأ بألف كان أعم فائدة، لانه يدخل فيه من قتل.

ومن قرأ بغير الف لم يدخل في قراء‌ته القاتل الذى لم يقتل وكلاهما لم يضل الله أعمالهم، فهو اكثر فائدة.

ومن قرأ بغير الف خص هذه الآية بمن قتل.

وقال: علم أن الله لم يضل اعمال من قاتل بدليل آخر ولان من قاتل لم يضل عمله بشرط ألا يحبط عند من قال بالاحباط، وليس من قتل كذلك، لانه لا يضل الله أعمالهم على وجه بلا شرط، ولانه لا يقتل إلا وقد قاتل فصار معناهما واحد.

قال مجاهد عن ابن عباس إن قوله " الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله " نزلت في أهله مكة.

وقوله " والذين آمنوا وعملوا الصالحات " في الانصار. يقول الله تعالى مخبرا بأن الذين جحدو توحيد الله وعبدوا معه غيره وكذبوا محمدا نبيه صلى الله عليه واله في الذي جاء به وصدوا من أراد عبادة الله والاقرار بتوحيده وتصديق نبيه عن الدين، ومنعوه من الاسلام " أظل اعمالهم " ومعناه حكم الله على أعمالهم بالضلال عن الحق والعدول من الاستقامة وسماها بذلك لانها عملت على غير هدى وغير رشاد. والصد عن سبيل الله هو الصرف عن سبيل الله بالنهي عنه والمنع منه. والترغيب في خلافه، وكل ذلك صد، فهؤلاء كفروا في أنفسهم ودعوا

[290]

غيرهم إلى مثل كفرهم، والضلال الاهلاك حتى يصير بمنزلة مالم يعمل، وليس في الآية ما يدل على القول بصحة الاحباط إذا حملناها على ما قلناه. ومن قال بالتحابط بين المستحقين لابد ان يترك ظاهر الآية.

ثم قال " والذين آمنوا وعملو الصالحات " يعني صدقوا بتوحيد الله والاقرار بنبوة نبيه واضافوا إلى ذلك الاعمال الصالحات " وآمنوا بما انزل على محمد " من القرآن والعبادات وغيرها " وهو الحق من ربهم " الذي لا مرية فيه " كفر الله عنهم سيئاتهم " وقوله " وهو الحق " يعني القرآن - على ما قاله قوم - وقال آخرون إيمانهم بالله وبالنبي صلى الله عليه واله " هو الحق من ربهم " أي بلطفه لهم فيه وجثه عليه وأمره به.

ومعنى تكفير السيئات هو الحكم باسقاط المستحق عليها من العقاب، فاخبر تعالى انه متى فعل المكلف الايمان بالله والتصديق لنبيه أسقط عقاب معاصيه حتى يصير بمنزلة ما لم يفعل.

وقوله " وأصلح بالهم " قال قتادة: معناه وأصلح حالهم في معائشهم وأمر دنياهم.

وقال مجاهد: واصلح شأنهم، والبال لا يجمع، لانه ابهم أخواته من الحال والشأن.

ثم بين تعالى لم فعل ذلك ولم قسمهم هذين القسمين فقال " ذلك بأن الذين كفروا " فعلنا ذلك بهم وحكمنا بابطال أعمالهم جزاء على انهم " اتبعوا الباطل " والمعاصي، وفعلنا بالمؤمنين من تكفير سيئاتهم لانهم " اتبعوا الحق " الذي أمر الله باتباعه. وقيل الباطل هو الشيطان - ههنا - والحق هو القرآن، ويجوز ان يكون التقدير الامر ذلك، وحذف الابتداء.

ثم قال تعالى (كذلك يضرب الله للناس امثالهم) أي هؤلاء الذين حكمنا بهلاكهم وضلالهم بمنزلة من دعاه الباطل فاتبعه، والمؤمن بمنزلة من دعاه الحق من الله فاتبعه ويكون التقدير يضرب الله للناس صفات أعمالهم بأن بينها وبين ما يستحق عليها من ثواب وعقاب.

[291]

ثم خاطب تعالى المؤمنين فقال (فاذا لقيتم) معاشر المؤمنين " الذين كفروا " بالله وجحدوا ربوبيته من أهل دار الحرب (فضرب الرقاب) ومعناه اضربوهم على الرقاب، وهي الاعناق (ختى إذا اثخنتموهم) أي اثقلتموهم بالجراح وظفرتم بهم (فشدوا الوثاق) ومعناه احكموا وثاقهم في الامر.

ثم قال (فاما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها) ومعناه اثقالها.

وقوله (فاما منا بعد) نصب على المصدر والتقدير إما أن تمنوا منا وإما أن تفدوا فداء، وقال قتادة وابن جريج: الآية منسوخة بقوله (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم)(1) وقوله (فاما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم)(2) وقال ابن عباس والضحاك: الفداء منسوخ.

وقال ابن عمر والحسن وعطا وعمر ابن عبد العزيز: ليست منسوخة.

وقال الحسن يكره أن يفادى بالمال، ويقال يفادي الرجل بالرجل، وقال قوم: ليست منسوخة، والامام مخيز بين الفداء والمن والقتل بدلالة الآيات الاخر (حتى تضع الحرب أوزارها) أي اثقالها، وقال قتادة: حتى لا يكون مشرك.

وقال الحسن: إن شاء الامام أن يستفد الاسير من المشركين، فله ذلك بالسنة، والذي رواه اصحابنا ان الاسير إن اخذ قبل انقضاء الحرب والقتال بأن تكون الحرب قائمة والقتال باق، فالامام مخير بين أن يقتلهم أو يقطع ايديهم وأرجلهم من خلاف ويتركهم حتى ينزفوا، وليس له المن ولا الفداء. وإن كان أخذ بعد وضع الحرب أوزارها وانقضاء الحرب والقتال كان مخيرا بين المن والمفادات. إما بالمال او النفس، وبين الاسترقاق، وضرب الرقاب، فان أسلموا في الحالين سقط جميع ذلك وصار حكمه حكم المسلم.

___________________________________

(1) سورة 9 التوبة آية 6.

(2) سورة 8 الانفال آية 58

[292]

وقوله (ذلك) أي الذي حكمنا به هو الحق الذي يجب عليكم إتباعه (ولو يشاء الله لا نتصر منهم) وأهلكهم بانزال العذاب عليهم (ولكن ليبلو بعضكم ببعض) ويختبرهم ويتعبدهم بقتالهم إن لم يؤمنوا. ثم اخبر تعالى أن (الذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم) قال قتادة هم الذين قتلوا يوم احد. ومن قرأ (قاتلوا) أراد قاتلوا سواء قتلوا او لم يقتلوا لن يهلك الله أعمالهم ولا يحكم بضلالهم وعدولهم عن الحق.

ثم قال (سيهديهم) يعني إلى طريق الجنة (ويصلح بالهم) أي شأنهم او حالهم، وليس في ذلك تكرار البال، لان المعنى يختلف، لان المراد بالاول انه يصلح حالهم في الدين والدنيا وبالثاني يصلح حالهم في النعيم، فالاول سبب النعيم، والثاني نفس النعيم.

قوله تعالى: (ويدخلهم الجنة عرفها لهم(6) يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم(7) والذين كفروا فتعسا لهم وأضل أعمالهم(8) ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم(9) أفلم يسيروا في الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها(10))

خمس آيات بلا خلاف.

لما خبر الله تعالى انه سيهدي المؤمنين إلى طريق الجنة، ويصلح حالهم فيها، بين أنه ايضا (يدخلهم الجنة عرفها لهم) وقيل في معنى (عرفها لهم) قولان: احدهما - بانه عرفها لهم بان وصفها على ما يسوق اليها، ليعملوا بما يستوجبونها

[293]

به من طاعة الله وإجتناب معاصيه. والثاني - عرفها لهم بمعنى طيبها بضروب الملاذ، مشتقا من العرف، وهي الرائحة الطيبة التي تتقبلها النفس تقبل ما تعرفه ولا تنكره.

وقال ابوسعيد الخدري وقتادة ومجاهد وابن زيد: معناه انهم يعرفون منازلهم فيها كما كانوا يعرفون منازلهم في الدنيا.

وقال الحسن: وصف الجنة في الدنيا لهم، فلما دخلوها عرفوها بصفتها.

ثم خاطب المؤمنين فقال (يا ايها الذين آمنوا) بتوحيد الله وصدقوا رسوله (إن تنصروا الله ينصركم) ومعناه إن تنصروا دينه بالدعاء اليه، واضافه إلى نفسه تعظيما كما قال (من ذاالذي يقرض الله قرضا حسنا)(1) وقيل معناه (تنصروا الله) تدفعوا عن نبيه (ينصركم) الله، أي يدفع عنكم اعداء‌كم في الدنيا عاجلا، وعذاب النار آجلا (ويثبت أقدامكم) في حال الحرب.

قيل: ويثبت أقدامكم يوم الحساب.

ثم قال (والذين كفروا) بنعم الله وجحدوا نبوة نبيه (فتعسا لهم) أي خزيا لهم وويلا لهم، فالتعس الانحطاط والعثار عن منازل المؤمنين (وأضل اعمالهم) أي أهلكها وحكم عليها بالضلال. وإنما كرر قوله (وأضل أعمالهم) و (احبط أعمالهم) تأكيدا، ومبالغة في الزجر عن الكفر والمعاصي وكرر ذكر النعيم إذا ذكر المؤمنين مبالغة في الترغيب في الطاعات. وإنما عطف قوله (واضل) وهو (فعل) على قوله (فتعسا) وهو اسم، لان المعنى اتعسهم الله وأضل اعمالهم فلذلك حسن العطف. ثم بين تعالى لم فعل ذلك، فقال فعلنا (ذلك) جزاء لهم على معاصيهم (بأنهم كرهوا ما انزل الله) من القرآن والاحكام وأمرهم بالانقياد لها، فخالفوا

___________________________________

(1) سورة 2 البقرة آية 245 وسورة 57 الحديد آية 11

[294]

ذلك (فاحبط أعمالهم) من أجل ذلك أي حكم ببطلانها، لانها وقعت على خلاف الوجه الامور به. ثم نبههم على الاستدلال على صحة ما دعاهم اليه من توحيده وإخلاص العبادة له، فقال (أفلم يسيروا في الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم) حين أرسل الله اليهم الرسل فدعوهم إلى توحيده وإخلاص العبادة له، فلم يقبلوا منهم وعصوهم وعملوا بخلافه، فأهلكهم الله جزاء على ذلك (ودمر عليهم) مثل ما فعل بعاد وثمود وقوم لوط وأشباههم.

ثم قال (وللكافرين) بك يا محمد إن لم يقبلوا ما تدعوهم إليه (أمثالها) أي امثال تلك العقوبات أي هم يستحقون مثلها، وإنما يؤخر عذابهم تفضلا منه.

قوله تعالى: (ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم(11) إن الله يدخل الذين آمنوا وعملو الصالحات جنات تجري من تحتها الانهار والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الانعام والنار مثوى لهم(12) وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم(13) أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواء‌هم(14) مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم كمن هو خالد في النار وسقوا ماء حميما فقطع أمعاء‌هم(15))

ست آيات بصري، وخمس في ما عداه، عد البصريون (للشاربين) ولم يعده الباقون.

[295]

قرأ ابن كثير (أسن) على وزن (فعل). الباقون على وزن (فاعل) ومعناهما واحد، لان المعنى من ماء غير متغير.

لما اخبر الله تعالى انه أهلك الامم الماضية بكفرهم وأن للكافرين أمثالها بين أنه لم كان كذلك؟ فقال (ذلك) أي الذي فعلناه في الفريقين (بأن الله مولى الذين آمنوا) ينصرهم ويدفع عنهم لان الله مولى كل مؤمن (وأن الكافرين لا مولى لهم) ينصرهم من عذابه إذا نزل بهم ولا أحد يدفع عنهم لا عاجلا ولا آجلا.

ثم اخبر تعالى انه (يدخل الذين آمنوا) بتوحيده وصدقوا نبيه (وعملوا الصالحات) مضافة اليها (جنات) أي بساتين تجنها الاشجار (تجري من تحتها الانهار) وقيل: ان أنهار الجنة في أخاديد من الارض، فلذلك قال من تحتها.

ثم قال (والذين كفروا) بتوحيده وكذبوا رسله (يتمتعون) في دار الدنيا ويلتذون فيها (ويأكلون) المآكل فيها (كما تأكل الانعام) أي مثل ما تأكل الانعام والبهائم، لانهم لا يعتبرون ولا ينظرون ولا يفكرون ولا يفعلون ما أوجبه الله عليهم، فهم بمنزلة البهائم. وقيل: إن المعنى بذلك الاخبار عن خستهم في أكلهم بأنهم يأكلون للشره والنهم، لانهم جهال.

ثم قال (والنار مثوى لهم) أى موضع مقامهم الذي يقيمون فيه.

ثم قال لنبيه صلى الله عليه واله مهددا لكفار قومه (وكأين من قرية في أشد قوة من

[296]

قريتك) يعني مكة (التي اخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم) الآن فما الذي يؤمن هؤلاء أن يفعل بهم مثل ذلك.

ومعنى (وكأين) (وكم) والاصل فيها (أي) قرية إلا أنها إذا لم تضف تؤنث.

ثم قال على وجه التهجين للكفار والتوبيخ لهم (أفمن كان على بينة من ربه) أي حجة واضحة.

قال قتادة: يعني محمدا صلى الله عليه واله.

وقال قوم: يعني به المؤمنين الذين عرفوا الله تعالى وأخلصوا العبادة (كمن زين له سوا عمله) من المعاصي زينها لهم الشيطان وأغواهم بها (واتبعوا أهواء‌هم) أي شهواتهم في ذلك، وما تدعوهم اليه طباعهم.

ثم اخبر تعالى عن وصف الجنة التي وعد المتقين بها، فقال (مثل الجنة أي وصف الجنة (التي وعد المتقون) بها (فيها أنهار من ماء غير آسن) أي غير متغير لطول المقام (وأنهار من لبن لم يتغير طعمه) لمثل ذلك (وأنهار من خمر لذة للشاربين) يلتذون بشر بها ولا يتأذون بها ولا بعاقبتها (وأنهار من عسل مصفى) من كل أذى (ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم) تلحقهم أي لا يلحقهم في الجنة توبيخ بشئ من معاصيهم، لان الله قد تفضل بسترها عليهم فصارت بمنزلة مالم يعمل بابطال حكمها.

وقوله (مثل الجنة) مرفوع بالابتداء، وخبره محذوف، وتقديره ما يتلى عليكم مثل الجنة التي وعد المتقون، ولو جعل المثل مقحما جاء الخبر المذكور عن الجنة كأنه قيل الجنة التي وعد المتقون فيها كذا وفيها كذا.

وقوله (كمن هو خالد في النار) أي يتساون من له نعيم الجنة على ما وصفناه ومن هو في النار مؤبد !؟ ومع ذلك (سقوا ماء حميما) أي حارا (فقطع أمعاء‌هم) من حرارتها، ولم يقل أمن هو في الجنة لدلالة قوله (كمن هو خالد) عليه.

[297]

وقيل: معنى قوله (كمن هو خالد في النار وسقوا ماء حميما فقطع أمعاء‌هم) أي هل يكون صفتهما وحالهما سواء؟ !. ويتماثلان فيه؟ ! فانه لا يكون ذلك أبدا.

قوله تعالى: (ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواء‌هم(16) والذين اهتدوا زادهم هدى وآيتهم تقويهم(17) فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها فأنى لهم إذا جاء‌تهم ذكريهم(18) فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات والله يعلم متقلبكم ومثويكم(19) ويقول الذين آمنو لولا نزلت سورة فاذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم(20))

خمس آيات بلا خلاف.

قرأ ابن كثير في احدى الروايتين (انفا) على وزن (فعل) الباقون (آنفا) بالمد على وزن (فاعل) قال ابوعلي الفارسي: جعل ابن كثير ذلك مثل (حاذر، وحذر. وفاكه، وفكه) والوجه الرواية الاخرى.

حكى الله تعالى لنبيه صلى الله عليه واله أن من الكفار من إذا جاء إلى النبي صلى الله عليه واله واستمع

[298]

لقراء‌ة القرآن منه وسمع ما يؤديه إلى الحق من الوحي وما يدعوه اليه، فلا يصغي اليه ولا ينتفع به حتى إذا خرج من عنده لم يدر ما سمعه ولا فهمه، ويسألون أهل العلم الذين آتاهم الله العلم والفهم من المؤمنين (ماذا قال آنفا) اي أي شئ قال الساعة؟ وقيل: معناه قرينا مبتديا. وقيل: إنهم كانوا يتسمعون للخطبة يوم الجمعة وهم المنافقون، والآنف الجائي باول المعنى ومنه الاستئناف، وهو استقبال الامر بأول المعنى، ومنه الانف لانه اول ما يبدو من صاحبه، ومنه الانفة رفع النفس عن أول الدخول في الرتبة. وإنما قال (ومنهم من يستمع اليك) فرده إلى لفظة (من) وهي موحدة.

ثم قال (حتى إذا خرجوا) بلفظ الجمع برده إلى المعنى، لان (من) يقع على الواحد والجماعة.

ثم قال تعالى (أولئك الذين طبع الله على قلوبهم) أي وسم قلوبهم وجعل عليها علامة تدل على انهم كفار لا يؤمنون، وهو كالختم وإن صاحبه لا يؤمن فطبع الله على قلوب هؤلاء الكفار ذما لهم على كفرهم أي لكونهم عادلين عن الحق واخبر أنهم (اتبعوا) في ذلك (اهواء‌هم) وهو شهوة نفوسهم وما مال اليه طبعهم دون ما قامت عليه الحجة يقال: هوى يهوي هوى فهو هاو، واستهواه هذا الامر أي دعاه إلى الهوى.

ثم وصف تعالى المؤمنين فقال (والذين اهتدوا) إل الحق، ووصلوا إلى الهدى والايمان (زادهم هدى) فالضمير في زادهم يحتمل ثلاثة اوجه: احدها - زادهم الله هدى بما ينزل عليهم من الآيات والاحكام، فاذا اقروا بها وعرفوها زادت معارفهم.

الثاني - زادهم ما قال النبي صلى الله عليه واله هدى.

الثالث - زادهم استهزاء المنافقين إيمانا.

[299]

والوجه في إضافة الزيادة في الهدى إلى الله هو ما يفعله تعالى بهم من الالطاف التي تقوي دواعيهم إلى التمسك بما عرفوه من الحق وتصرفهم عن العدول إلى خلافه. ويكون ذلك تأكيدا لما عملوه من الحق وصارفا لهم عن تقليد الرؤساء من غير حجة ولا دلالة.

ثم قال (وآتاهم) على زيادة الهدى (تقواهم) أي خوفا من الله من معاصيه ومن ترك مفترضاته بما فعل بهم من الالطاف في ذلك. وقيل معناه (آتاهم) ثواب (تقواهم) ولا يجوز ان يكون المراد خلق لهم تقواهم لانه يبطل أن يكون فعلهم.

ثم قال (فهل ينظرون إلا الساعة) أي ليس ينتظرون إلا القيامة (أن تأتيهم بغتة) أي فجأة، فقوله (أن تأتيهم) بدل من الساعة، وتقديره إلا الساعة إتيانها بغتة، فان حذف الساعة كان التقدير هل ينظرون إلا إتيانهم الساعة بغتة.

ثم قال تعالى (فقد جاء أشراطها) أي علاماتها. وقيل: منها إنشقاق القمر في وقت النبي صلى الله عليه واله ومنها مجئ محمد صلى الله عليه واله بالآيات لانه آخر الانبياء، فالاشراط العلامات واحدها شرط قال جرير:

ترى شرط المعزى مهور نسائهم *** وفي شرط المعزى لهن مهور(1)

وأشرط فلان لنفسه إذا علمها بعلامة، وقال أوس بن حجر:

فاشرط فيها نفسه وهو مقصم *** والقى باسباب له وتوكلا(2)

والفاء في قوله (فقد جاء أشراطها) عطف جملة على جملة فيها معنى الجزاء، والتقدير إن تأتهم بغتة، فقد جاء اشراطها. وقد قرئ شاذا عن أبي عمرو (الا إن) والقراء‌ة بفتح (أن) وقال المبرد: هذا لا يجوز لانه تعالى أخبر انه لا تأتي الساعة إلا بغتة، فكيف تعلق بشرط.

___________________________________

(1) الطبري 26 / 30.

(2) الطبري 26 / 31

[300]

وقال تعالى (فأنى لهم) أي من اين لهم (إذا جاء‌تهم) يعني الساعة (ذكراهم) أي ما يذكرهم أعمالهم من خير او شر، فانه لا ينفعهم في ذلك الوقت الايمان والطاعات لزوال التكليف عنهم.

ثم قال لنبيه صلى الله عليه واله والمراد به جميع المكلفين (فاعلم) يا محمد (أنه لا إله إلا الله) أي لا معبود يحق له العبادة إلا الله. وفي ذلك دلالة على ان المعرفة بالله اكتساب، لانها لو كانت ضرورية، لما أمر بها (واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات) فالخطاب له والمراد به الامة لانه صلى الله عليه واله لا ذنب له يستغفر منه، ويجوز ان يكون ذلك على وجه الانقطاع اليه تعالى.

ثم قال (والله يعلم متقلبكم ومثواكم) أي الموضع الذي تتقلبون فيه وكيف تتقلبون وموضع استقراركم، لا يخفى عليه شئ من أعمالكم طاعة كانت او معصية.

وقيل: يعلم متقلبكم في أسفاركم ومثواكم في اوطانكم، وقيل: متقلبكم في أعمالكم ومثواكم في نومكم.

ثم قال تعالى حكاية عن المؤمنين أنهم كانوا يقولون (لولا نزلت سورة) أي هلا نزلت سورة لانهم كانوا يأنسون بنزول الوحي ويستوحشون من ابطائه فقال الله تعالى حاكيا عن حالهم عند نزول السورة فقال (وإذا أنزلت سورة محكمة) أي ليس فيها متشابه ولا تأويل (وذكر فيها القتال) أي أوجب عليهم القتال (رأيت الذين في قلوبهم مرض) أي نفاق وشك (ينظرون اليك نظر المغشي عليه من الموت) لثقل ذلك عليهم وعظمه في نفوسهم (فأولى لهم) قال قتادة: هو وعيد، وكأنه قال العقاب اولى بهم، وهو ما يقتضيه قبح أحوالهم.

وروي عن ابن عباس، انه قال: قال الله تعالى (فأولى) ثم استأنف فقال (لهم طاعة وقول معروف) يعني للمؤمنين فصارت أولى للذين في قلوبهم مرض.

[301]

وقيل: المعنى (أولى لهم طاعة وقول معروف) من أن يجزعوا عن فرض الجهاد عليهم.

وقال الجبائي: معنى الكلام ينظرون اليك نظر المغشى عليه من الموت فأولى لهم أن يعاقبوا (فلو صدقوا الله) في ما أمرهم به (لكان خيرا لهم) ودخل بين الكلامين (طاعة وقول معروف) وليس من قصته وإنما هي من صفة المؤمن يأمره الله أن يطيعه، ويقول له قولا معروفا. وقرأ ابن مسعود " سورة محدثة " وهو شاذ.

قوله تعالى: (طاعة وقول معروف فاذا عزم الامر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم(21) فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الارض وتقطعوا أرحامكم(22) أولئكم الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم(23) أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها(24) إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم(25))

خمس آيات بلا خلاف.

قرأ ابوعمرو " وأملي لهم " على مالم يسم فاعله. الباقون " وأملى لهم " بمعنى الشيطان أملى لهم ويجوز أن يريد ان الله أملى لهم كما قال " إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم "(1) وقرأ يعقوب مثل أبي عمرو إلا انه أسكن الياء بمعنى الاخبار عن الله عن نفسه وابوعمرو جعله لما لم يسم فاعله.

وقرأ رويس " توليتم " بضم التاء والواو وكسر اللام. الباقون بفتحهما.

وقوله " طاعة وقول معروف " قيل في معناه قولان:

___________________________________

(1) سورة 3 آل عمران آية 178

[302]

احدهما - قولوا أمرنا طاعة وقول معروف. قال مجاهد أمر الله بذلك المنافقين. وقيل هو حكاية عنهم أنهم يقولون " طاعة وقول معروف " مثل فرض الجهاد. لانه يقتضيه قوله " فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم ".

الثاني - طاعة وقول معروف أمثل أي اولى بالحق من أقوال هؤلاء المنافقين وقيل: طاعة وقول معروف خير لهم من جزعهم عند نزول فرض الجهاد - ذكره الحسن - والطاعة موافقه الارادة الداعية إلى الفعل بطريق الترغيب فيه. والقول المعروف هو القول الحسن، وسمي بذلك لانه معروف صحته، وكذلك الامر بالمعروف أي المعروف أنه حق. والباطل منكر، لانه تنكر صحته، فعلى هذا المعنى وقع الاعتراف والانكار.

وقوله " فاذا عزم الامر " معناه إذا انعقد الامر بالارادة انه يفعله فاذا عقد على انه يفعل قيل عزم الامر على طريق البلاغة. وقيل معنى عزم أي جد الامر (فلو صدقوا الله) يعني في ما أمرهم به من القتال وامتثلوا أمره (لكان خيرا لهم) لانهم كانوا يصلون إلى نعيم الابد. ثم خاطبهم فقال " فهل عسيتم " يا معشر المنافقين أن توليتم. وقيل في معناه قولان: احدهما - " إن توليتم " الاحكام وجعلتم ولاة " أن تفسدواك " في الارض بأخذ الرشا. وقيل أن اعرضتم عن كتاب الله ان تعودوا إلى ما كنتم من أمر الجاهلية أن يقتل بعضكم بعضا كما كنتم تفعلونه.

والثاني - ان توليتم الامر أن يقطع بعضكم رحم بعض، ويقتل بعضكم بعضا كما قتلت قريش بني هاشم، وقتل بعضهم بعضا.

[303]

وقيل المعنى ان اعرضتم عن كتاب الله والعمل بما فيه من وجوب القتال " أن تفسدوا في الارض " بان تعملوا فيها بالمعاصي " وتقطعوا أرحامكم " فلا تصلونها، فان الله تعالى يعاقبكم عليه بعذاب الابد ويلعنكم.

ثم قال " أولئك الذين لعنهم الله " أي أبعدهم الله عن رحمته " فأصمهم وأعمى ابصارهم " أي سماهم عميا وصما، وحكم عليهم بذلك، لانهم بمنزلة الصم والعمي من حيث لم يهتدوا إلى الحق ولا أبصروا الرشد، ولم يرد الاصمام في الجارحة والاعماء في العين، لانهم كانوا بخلافه صحيحي العين صحيحي السمع.

ثم قال موبخا لهم " افلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها " معناه أفلا يتدبرون القرآن بأن يتفكروا فيه ويعتبروا به أم على قلوبهم قفل يمنعهم من ذلك تنبيها لهم على ان الامر بخلافه. وليس عليها ما يمنع من التدبر والتفكر والتدبر في النظر في موجب الامر وعاقبته، وعلى هذا دعاهم إلى تدبر القرآن. وفى ذلك حجة على بطلان قول من يقول لا يجوز تفسير شئ. من ظاهر القرآن إلا بخبر وسمع. وفيه تنبيه على بطلان قول الجهال من اصحاب الحديث انه ينبغي ان يروى الحديث على ما جاء وإن كل مختلا في المعنى، لان الله تعالى دعا إلى التدبر والفقه وذلك مناف للتاجل والتعامي.

ثم قال " إن الذين ارتدوا على ادبارهم " أي رجعوا عن الحق والايمان " من بعد ما تبين لهم الهدى " أي ظهر لهم الطريق الواضح المفضي إلى الجنة. وليس في ذلك ما يدل على ان المؤمن على الحقيقة يجوز ان يرتد، لانه لا يمتنع ان يكون المراد من رجع عن إظهار الايمان بعد وضوح الامر فيه وقيام الحجة بصحته.

ثم قال " الشيطان سول لهم " أي زين لهم ذلك. وقيل: معناه أعطاهم سؤلهم من خطاياهم " وأملى لهم " أي أمهلهم الشيطان، وأملى لهم بالاطماع والاغتراز.

[304]

وقيل: المعنى واملى الله لهم أي اخرهم فاغتروا بذلك. ومن قرأ - على مالم يسم فاعله - احتمل الامرين ايضا.

وقيل الآية نزلت في اليهود، لانهم عرفوا صفات النبي صلى الله عليه واله في التوراة فلما جاء‌هم كفروا به.

وقيل نزلت في المنافقين حين صدوا عن القتال معه من بعد ما علموا وجوبه في القرآن.

 قوله تعالى: (ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الامر والله يعلم إسرارهم(26) فكيف إذا توفتهم الملئكة يضربون وجوههم وأدبارهم(27) ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم(28) أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم(29) ولو نشاء لاريناكم فلعرفتهم بسيميهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم(30))

خمس آيا بلا خلاف.

قرأ اهل الكوفة إلا أبابكر " إسرارهم " بكسر الهمزة على انه مصدر. الباقون بفتحها على انه جمع سر.

لما اخبرالله تعالى عن حال المرتدين على اعقابهم والراجعين عن إظهار الحق خلافه، بين لم فعلوا ذلك، فقال " ذلك بأنهم " يعني الشياطين " قالوا للذين كرهوا ما انزل الله " من القرآن وما أمرهم به من الامر والنهي والحلال والحرام

[305]

وشبهوا عليهم ذلك ومالوا إلى خلافه. وقيل: هذا قول اليهود للمنافقين " سنطيعكم في بعض الامر " أي نفعل بعض ما تريدونه من الميل اليكم وإعطاء شهواتكم.

ثم قال " والله يعلم اسرارهم " أي بواطنهم - فمن فتح الهمزة، ومن كسرها - أراد يعلم ما يسرونه.

ثم قال " فكيف إذا توفتهم الملائكة " والمعنى كيف حالهم إذا توفتهم الملائكة وحذف تفخيما لشأن ما ينزل بهم " يضربون وجوههم وأدبارهم، على وجه العقوبة لهم في القبر ويوم القيامة. ثم بين تعالى لم يفعل الملائكة بهم ذلك، فقال " ذلك بأنهم اتبعوا ما اسخط الله " يعني المعاصي التى يكرهها الله ويعاقب عليها " وكرهوا رضوانه " أي كرهوا سبب رضوانه من الايمان والطاعات والامتناع من القبائح " فأحبط أعمالهم " أي حكم بأنها باطلة محبطة لا يستحق عليها الثواب.

ثم قال " أم حسب الذين في قلوبهم مرض " أي نفاق وشك يظنون " أن لن يخرج الله اضغانهم " أي احقادهم مع المؤمنين ولا يظهرها ولا يبدي عوراتهم للنبي صلى الله عليه واله " ولو نشاء لاريناكهم " يعني المنافقين بأعيانهم، ولو شئت لعرفتكهم حتى تعرفهم.

ثم قال " فلعرفتهم بسيماهم " أي بعلاماتهم التي نصبها الله لكم، يعرفهم بها يعني الامارات الدالة على سوء نياتهم.

ثم قال " ولتعرفنهم في لحن القول " أي في فحوى أقوالهم ومتضمنها.

ومنه قوله صلى الله عليه واله (ولعل بعضكم ألحن بحجنه) أي أذهب بها في الجهات لقوته على تصريف الكلام، واللحن الذهاب عن الصواب في الاعراب، واللحن ذهاب الكلام إلى خلاف جهته.

ثم قال " والله يعلم أعمالكم " الطاعات منها والمعاصي، فيجازيكم بحسبها.

[306]

قوله تعالى: (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم(31) إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئا وسيحبط أعمالهم(32) يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم(33) إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم(34) فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الاعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم(35))

خمس آيات بلا خلاف.

قرأ ابوبكر عن عاصم " وليبلونكم حتى يعلم... ويبلو أخباركم " بالياء فيهن ردا على اسم الله في قوله " والله يعلم أعمالكم " الباقون بالنون على وجه الاخبار من الله عن نفسه.

وقرأ حمزة وابوبكر عن عاصم " إلى السلم " بكسر السين. الباقون بفتحها، وهما لغتنان على ما بيناه في ما تقدم في الاسلام والمصالحة(1) يقول الله تعالى مقسما إنا نبلو هؤلاء الكفار، ومعناه نختبرهم بما نكلفهم من الامور الشاقة، فالابتلا والاختبار واحد.

وقوله " حتى نعلم المجاهدين منكم " قيل في معناه قولان: احدهما - حتى نعلم جهادكم موجودا لان الغرض ان تفعلوا الجهاد فيثيبكم

___________________________________

(1) انظر 5 / 175

[307]

على ذلك، لانكم لا تستحقون الثواب على ما يعلم الله انه يكون. الثاني - حتى نعاملكم معاملة من كأنه يطلب ان يعلم.

وقيل: معناه حتى يعلم أوليائي المجاهدين منكم، وأضافه إلى نفسه تعظيما لهم وتشريفا، كما قال " إن الذين يؤذون الله ورسوله "(1) يعني يؤذن أولياء الله.

وقيل: معناه حتى يتميز المعلوم في نفسه، لانهم إنما يتميزون بفعل الايمان.

وقيل: المعنى حتى تعلموا أنتم، واضافه إلى نفسه تحسنا كما أن الانسان العالم إذا خولف في ان النار تحرق الحطب يحسن ان يقول: نجمع بين النار والحطب لنعلم هل تحرق ام لا، ولا يجوز ان يكون المراد حتى نعلم بعد ان لم نكن عالمين، لانه تعالى عالم في مالم يزل بالاشياء كلها، ولو تجدد كونه عالما لاحتاج إلى علم محدث كالواحد منا وذلك لا يجوز أن يكون غرضا بالتكليف، لكن يجوز ان يكون الغرض ظهور حق الذم على الاساء‌ة، وإنما جاز في وصف الله الابتلاء، لان المعنى انه يعامل معاملة المبتلي المختبر مظاهرة في العدل بالجزاء لها.

والجهاد احتمال المشقة في قتال المشركين واعداء دين الله. وافضل الاعمال علم الدين، والجهاد في سبيل الله، لان علم الدين به يصح العمل بالحق والدعاء اليه. والجهاد داع إلى الحق مع المشقة فيه. والصابر هو الحابس نفسه عما لا يحل له. وهي صفة مدح. ومع ذلك ففيها دليل على حاجة الموصوف بها، لانه إنما يحبس نفسه ويمنعها مما تشتهيه او تنازع اليه من القبيح " ونبلو أخباركم " أي نختبر اخباركم ونعلم المطيع من العاصي.

ثم اخبر تعالى " إن الذين كفروا " بوحدانيته وجحدوا نبوة نبيه " وصدوا " أي منعوا غيرهم " عن " إتباع " سبيل الله " بالقهر تارة وبالاغراء أخرى " وشاقوا الرسول " أي عاندوه وباعدوه بمعاداته " من بعدما تبين لهم الهدى " ووضح لهم

___________________________________

(1) سورة 33 الاحزاب آية 57

[308]

سبيله " لن يضروا الله " بذلك " شيئا " وإنما ضروا نفوسهم " وسيحبط اعمالهم " ويستحقون عليها العقاب.

والهدى الدلالة المؤدية إلى الحق. والهادي الدال على الحق وفي الآية دلالة على أن هؤلاء الكفار كان قد تبين لهم الهدى فارتدوا عنه او يكون ظهر لهم أمر النبي، فلم يقبلوه. وقيل: تبين لهم الهدى، لانهم كانوا قد عرفوا الايمان ورجعوا عنه.

ثم خاطب المؤمنين فقال " يا ايها الذين آمنوا " بالله وصدقوا رسوله " اطيعوا الله وأطيعوا الرسول " أي افعلوا الطاعات التي أمركم الله بها وامركم بها رسوله " ولا تبطلوا اعمالكم " بأن توقعوها على خلاف الوجه المأمور به فيبطل ثوابكم عليها وتستحقون العقاب.

ثم اخبر تعالى فقال " إن الذين كفروا " أي جحدوا وحدانية الله وكذبوا رسوله " وصدوا عن سبيل الله " بالمنع والاغراء والدعاء إلى غيره " ثم ماتوا وهم كفار " أي في حال كفرهم " فلن يغفرالله لهم " معاصيهم بل يعاقبهم عليها. ثم قال " فلا تهنوا " أي لا تتوانوا.

وقال مجاهد وابن زيد: لا تضعفوا " وتدعوا إلى السلم " يعني المصالحة " وأنتم الاعلون " أي وانتم القاهرون الغالبون - في قول مجاهد - " والله معكم " اي ناصركم والدافع عنكم فلا تميلوا مع ذلك إلى الصلح والمسالمة بل جاهدوا واصبروا عليه.

وقوله " ولن يتركم اعمالكم " أي لن ينقصكم اجور اعمالكم يقال: وتره يتره وترا إذا أنقصه. وهو قول مجاهد.

وقال ابن عباس وقتادة وابن زيد والضحاك: لن يظلمكم واصله القطع، فمنه البتر القطع بالقتل. ومنه الوتر المنقطع بانفراده عن غيره.

وقوله " وتدعوا " يجوز ان يكون جرا عطفا على " تهنوا " أي لا تهنوا ولا تدعوا إلى السلم، ويجوز ان يكون في موضع نصب على الظرف(1)

___________________________________

(1) المقصود من (الظرف) واو المعصية الذي تضمر (ان) بعدها

[309]

قوله تعالى: (إنما الحيوة الدنيا لعب ولهو وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم ولا يسئلكم أموالكم(36) إن يسئلكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم(37) ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فانما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم(38))

ثلاث آيات بلا خلاف.

يقول الله تعالى مزهدا لخلقه في الانعكاف على الدنيا، ومرغبا لهم في التوفر على عمل الآخرة (إنما الحياة الدنيا لعب ولهو) وإنما زهدهم في الدنيا لكونها فانية ورغبهم في الآخرة لكونها باقية، فمن اختار الفاني على الباقي كان جاهلا ومنقوصا ومعنى (الحياة الدنيا لعب ولهو) أي ذات لعب ولهو، لان غالب أمر الناس في الدنيا اللعب واللهو، وذلك عبث وغرور وانصراف عن الحد الذي يدوم به السرور والحبور، وقيل: شبهت باللعب واللهو لانقطاعها عن صاحبها بسرعة، فالتقدير على هذا إنما الحياة الدنيا كاللعب واللهو في سرعة الانقضاء، والآخرة كالحقيقة في اللزوم والامتداد، فاحداهما كالحقيقة، والاخرى كالمخرقة.

ثم قال (وإن تؤمنوا) بوحدانيته وتصديق رسوله (وتتقوا) معاصيه (يؤتكم أجوركم) على ذلك وثوابكم على طاعتكم (ولا يسألكم أموالكم) أن تدفعوها اليه. وقيل (لا يسألكم أموالكم) كلها وإن أوجب عليكم الزكاة في بعض أموالكم. وقيل المعنى (لايسألكم أموالكم) بل أمواله، لانه تعالى مالكها والمنعم بها.

[310]

ثم بين تعالى لم لا يسألهم أموالهم، فقال (إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم) فالاحفاء الالحاح في المسألة حتى ينتهى إلى مثل الحفاء، والمشي بغير حذاء، احفاه بالمسألة يحفيه إحفاء. وقيل الاحفاء طلب الجميع (تبخلوا) أي تمنعونه. والبخل قال قوم: هو منع الواجب.

وقال الرماني: البخل منع النفع الذي هو أولى في العقل، قال: ومن زعم أن البخل منع الواجب عورض بأن البخل منع ما يستحق بمنعه الذم، لان البخيل مذموم بلا خلاف، وقد يمنع الواجب الصغير فلا يجوز وصفه بأنه بخيل (ويخرج أضغانكم) لان في سؤال الاموال بالاحفاء خروج الاضغان وهي الاحقاد التي في القلوب والعداوات الباطنة.

وقيل (الاضغان) هي المشاق التي في القلوب، ولذلك ذكر الاخراج.

وقيل: ويخرج الله المشقة التي في قلوبكم بسؤال أموالكم. وإنما قدم المخاطب على الغائب في قوله (أن يسألكموها) لانه ابتداء بالاقرب مع انه المفعول الاول، ويجوز مع الظاهر أن يسألها جماعتكم، لانه غائب مع غائب، فالمتصل أولى بأن يليه من المنفصل.

ثم قال (ها انتم هؤلاء) وإنما كرر التنبيه في موضعين للتوكيد، فقال (ها أنتم هؤلاء) وقيل (ها) للتقريب، ودخل على المضمر لمشاكلة (اليهم) في انه معرفة تصلح صيغته لكل مكنى عنه على جهة جماعة المخاطب، كما يصلح (هؤلاء) لكل خاص مشاراليه، ولم يجز مع الظاهر لبعده من المبهم.

وقال بعضهم: العرب إذا زادت التقريب جعلت المكنى بين (ها) وبين (ذا)، فيقولون ما أنت ذا قائما، لان التقريب جواب الكلام فربما اعادت (ها) مع (ذا) وربما اجتزأت بالاولى وحذفت الثانية، ولا يقدمون (أنتم) على (ها) لان (ها) جواب، فلا يقرب بها بعد الكلمة.

وقوله (تدعون لتنفقوا في سبيل الله) لينيلكم الجزيل من ثوابه وهو غني عنكم وعن جميع خلقه (فمنكم من يبخل) فلا ينفق ماله في سبيل الله.

[311]

ثم قال (ومن يبخل فانما يبخل عن نفسه) أي عن داعي نفسه، لا عن داعي ربه لان الله قد صرفه عن البخل بالنهي عنه والذم له.

ثم قال (والله الغني) الذي ليس بمحتاج لا اليكم ولا إلى احد (وانتم الفقراء اليه وإن تتولوا) أي ان تعرضوا عن أمره ونهيه ولا تقبلونهما، ولا تعملون بما فيهما (يستبدل قوما غيركم) قال قوم يستبدل الله بهم من في المعلوم أنهم يخلقون بعد، ويجوز أن يكونوا من الملائكة وقيل: هم قوم من اليمن، وهم الانصار.

وقيل: مثل سلمان واشباهه من ابناء فارس، ولم يجز الزجاج أن يستبدل الملائكة، لانه لا يعبر بالقوم عن الملائكة، لا يكونوا أمثالكم، لانهم يكونون مؤمنين مطيعين، وأنتم كفار بماصون.

وقال الطبري لا يكونوا أمثالكم في البخل والانفاق في سبيل الله، ولما نزلت هذه الآية فرح النبي صلى الله عليه واله وقال: هي أحب إلي من الدنيا.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/books/index.php?id=1302
  • تاريخ إضافة الموضوع : 0000 / 00 / 00
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 20