• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم / المكتبة .
              • الكتاب : التبيان في تفسير القرآن ( الجزء التاسع ) ، تأليف : شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي .
                    • الموضوع : سورة الزخرف .

سورة الزخرف

43 - سورة الزخرف

هي مكية في قول مجاهد وقتادة وهي تسع وثمانون آية بلا خلاف في جملتها.

الآية: 1 - 45

بسم الله الرحمن الرحيم

(حم(1) والكتاب المبين(2) إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون(3) وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم(4) أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين(5))

خمس آيات في الكوفى وأربع في ما سواه، عد الكوفيون " حم " ولم بعده الباقون.

قرأ نافع وحمزة والكسائي وخلف " ان كنتم " بكسر الهمزة جعلوه شرطا مستأنفا واستغنى عما تقدم، كقولك: انت عالم ان فعلت، فكانه قال: ان كنتم قوما مسرفين نضرب. الباقون بفتحها جعلوه فعلا ماضيا أي اذا كنتم، كما قال " أن جاء‌ه الاعمى "(1) والمعنى اذ جاء‌ه الاعمى، فموضع (ان) نصب عند البصريين، وجر عند الكسائي، لان التقدير افنضرب الذكر صفحا لان كنتم، وبأن كنتم قوما مسرفين. والمسرف الذي ينفق ماله في معصية الله، ولا اسراف في الطاعة.

قد بينا معنى " حم " في ما مضى، واختلاف المفسرين فيه، فلا معنى لا عادته

___________________________________

(1) سورة 8 (عبس) آية 2

[180]

وقوله " والكتاب " خفض بالقسم.

وقيل: تقديره ورب الكتاب، والمراد بالكتاب القرآن، والمبين صفة له وانما وصف بذلك لانه أبان عن طريق الهدى من الضلالة، وكل ما تحتاج اليه الامة في الديانة. والبيان هو الدليل الدال على صحة الشئ وفساده.

وقيل: هو ما يظهر به المعنى للنفس عند الادراك بالبصر والسمع، وهو على خمسة أوجه: باللفظ، والحظ، والعقد بالاصابع، والاشارة اليه، والهيئة الظاهرة للجاسة، كالاعراض عن الشئ، والاقبال عليه، والتقطيب وضده وغير ذلك. واما مايوجد في النفس من العلم، فلا يسمى بيانا على الحقيقة وكل ما هو بمنزلة الناطق بالمعنى المفهوم فهو مبين.

وقوله " انا جعلناه قرآنا عربيا " اخبار منه تعالى انه جعل القرآن الذي ذكره عربيا بأن يفعله على طريقة العرب في مذاهبها في الحروف والمفهوم. ومع ذلك فانه لا يتمكن أحد منهم من انشاء مثله والاتيان بما يقاربه في علو طبقته في البلاغة والفصاحة، اما لعدم علمهم بذلك أو صرفهم على حسب اختلاف الناس فيه. وهذا يدل على جلالة موقع التسمية في التمكن به والتعذر مع فقده. وفيه دلالة على حدوثه لان المجعول هو المحدث. ولان ما يكون عربيا لا يكون قديما لحدوث العربية.

فان قيل: معنى جعلناه سميناه لان الجعل قد يكون بمعنى التسمية.

قلنا: لا يجوز ذلك - ههنا - لانه لو كان كذلك لكان الواحد منا اذا سماه عربيا فقد جعله عربيا، وكان يجب لو كان القرآن على ما هو عليه وسماه الله اعجميا أن يكون اعجميا او كان يكون بلغة العجم وسماه عربيا ان يكون عربيا، وكل ذلك فاسد.

وقوله " لعلكم تعقلون " معناه جعلناه على هذه الصفة لكي تعقلوا وتفكروا في ذلك فتعلموا صدق من ظهر على يده.

[181]

وقوله " وانه " يعني القرآن " في ام الكتاب لدنيا " يعنى اللوح المحفوظ الذي وكتب الله فيه ما يكون إلى يوم القيامة لما فيه من مصلحة ملائكته بالنظر فيه وللخلق فيه من اللطف بالاخبار عنه " وأم الكتاب " أصله لان أصل كل شئ أمه.

وقوله " لعلي حكيم " معناه لعال في البلاغة مظهر ما بالعباد اليه الحاجة مما لا شئ منه إلا يحسن طريقه ولا شئ أحسن منه. والقرآن بهذه الصفة علمه من علمه وجهله من جهله لتفريطه فيه و (حكيم) معناه مظهر المعنى الذي يعمل عليه المؤدي إلى العلم والصواب. والقرآن من هذا الوجه مظهر للحكمة البالغة لمن تدبره وأدركه.

ثم قال لمن جحده ولم يعتبر به على وجه الانكار عليهم " أفنضرب عنكم الذكر صفحا " معناه أنعرض عنكم جانبا باعراضكم عن القرآن والتذكر له والتفكر فيه " أن كنتم قوما مسرفين " على نفوسكم بترككم النظر فيه والاعتبار بحججه. ومن كسر الهمزة جعله مستأنفا شرطا. ومن فتحها جعله فعلا ماضيا أي إذ كنتم كما قال " أن جاء‌ه الاعمى "(1) بمعنى إذ جاء‌ه الاعمى، فموضع (أن) نصب عند البصريين وجر عند الكسائي، لان التقدير الذكر صفحا، لان كنتم وبأن كنتم.

قال الشاعر:

اتجزع ان بان الخليط المودع *** وجعل الصفا من عزة المتقطع(2)

والمسرف الذي ينفق ماله في معصية الله، لان من انفقه في طاعة او مباح لم يكن مسرفا وقال علي عليه السلام (لا إسراف في المأكول والمشروب) و (صفحا) نصب على المصدر، لان قوله " افنضرب عنكم الذكر " يدل على ان اصفح عنكم صفحا وكأن قولهم: صفحت عنه أي أعرضت ووليته صفحة العنق.

والمعنى افنضرب ذكر الانتقام منكم والعقوبة لكم أن كنتم قوما مسرفين، كما قال " ايحسب الانسان

___________________________________

(1) سورة 80 عبس آية 2.

(2) مر في 1 / 349 و 7 / 9

[182]

أن يترك سدى "(1) ومن كسر فعلى الجزاء واستغنى عن جوابه بما تقدم كقولهم: انت ظالم ان فعلت كانه قال إن كنتم مسرفين نضرب، وقال المبرد: المعنى متى فعلتم هذا طلبتم أن نضرب الذكر عنكم صفحا.

قال الفراء: تقول العرب: أضربت عنك وضربت عنك بمعنى تركتك واعرضت عنك.

وقال الزجاج: المعنى افنضرب عنكم الذكر أي نهلكم فلا نعرفكم ما يجب عليكم لان أسرفتم وأصل ضربت عنه الذكران الراكب إذا ركب دابة فأراد أن يصرفها عن جهة ضربها بعصا او سوط لتعدل به إلى جهة أخرى يريدها ثم يوضع الضرب موضع الصرف والعدل. وصفحا مصدر أقيم قيام الفاعل، ونصب على الحال.

والمعنى افنضرب عنكم تذكيرنا إياكم الواجب صافحين او معرضين، يقال صفح فلان بوجهه عني أي اعرض قال كثير:

صفوح فما تلقاك إلا بخيلة *** فمن مل منها ذلك الوصل ملت

والصفوح في صفات الله معناه العفو يقال: صفح عن ذنبه إذا عفا.

وقال بعضهم: المعنى افظننتم أن نضرب عنكم هذا الذكر الذي بينا لكم فيه امر دينكم صفحا، فلا يلزمكم العمل بما فيه، ولا نؤاخذكم لمخالفتكم إياه إن كنتم قوما مسرفين على أنفسكم، وجرى ذلك مجرى قول أحدنا لصاحبه وقد أنكر فعله أأتركك تفعل ما تشاء أغفل عنك إذا أهملت نفسك، ففي ذلك إنكار ووعيد شديد.

___________________________________

(1) سورة 75 القيامة آية 36

[183]

قوله تعالى: (وكم أرسلنا من نبي في الاولين(6) وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزؤن(7) فأهلكنا أشد منهم بطشا ومضي مثل الاولين(8) ولئن سألتهم من خلق السموات والار ض ليقولن خلقهن العزيز العليم(9) الذي جعل لكم الارض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون(10))

خمس آيات بلا خلاف

يقول الله تعالى مخبرا " وكم أرسلنا من نبي في الاولين " يعني في الامم الماضية (وكم) موضوعة للتكثير في باب الخبر، وهي ضد (رب) لانها للتقليل. ثم اخبر عن تلك الامم الماضية انه كان ما يجيئهم نبي من قبل الله إلا كانوا يستهزؤن به بمعنى يسخرون منه. فالاستهزاء إظهار خلاف الابطان استصغارا او استحقارا فالامم الماضية كفرت بالانبياء واحتقروا ما أتوا به، وظنوا انه من المخاريق التي لا يعمل عليها لجهلهم وفرط عنادهم، فلذلك حملوا أنفسهم على الاستهزاء بهم، وهو عائد بالوبال عليهم.

فان قيل: لم بعث الله الانبياء مع علمه بأنهم يستهزؤن بهم ولا يؤمنون عنده؟ قيل: يجوز أن يكون قوم آمنوا وإن قلوا.

وإنما اخبر الله بالاستهزاء عن الاكثر، ولذلك قال في موضع " ومن آمن وما آمن معه إلا قليل "(1) وايضا فكان يجوز ان يكون لولا إرسالهم لوقع منهم من المعاصي أضعاف ما وقع عند إرسالهم، فصار إرسالهم لطفا في كثير من القبائح، فلذلك وجب وحسن، على ان في إرسالهم تمكينهم مما كلفوه، لانه إذا كان هناك مصالح لا يمكنهم معرفتها إلا من جهة الرسل وجب على الله أن يبعث اليهم الرسل ليعرفوهم تلك المصالح، فاذا لم يؤمنوا بهم وبما معهم من المصالح أتوا بالقبائح من قبل نفوسهم، والحجة قائمة عليهم وقوله " فاهلكنا اشد منهم بطشا " اخبار منه تعالى انه اهلك الذين هم اشد

___________________________________

(1) سورة 11 هود آية 40

[184]

بطشا من هؤلاء المشركين الذين كانوا في عصر النبي صلى الله عليه واله، فلذلك قال " او مضى مثل الاولين " أي وهو مثل هؤلاء الباقين، ومعناه انكم قد سلكتم في تكذيب الرسل مسلك من كان قبلكم فاحذروا أن ينزل بكم من الخزي ما نزل بهم.

قال الحسن: أشد قوة من قومك.

ثم قال " ولئن سألتهم " يعني الكفار " من خلق السموات والارض " بأن انشاء‌ها واخترعها " ليقولن " أي لم يكن جوابهم في ذلك إلا أن يقولوا " خلقهن " يعني السموات والارض " العزيز " الذي لا يغالب ولا يقهر " العليم " بمصالح الخلق، وهو الله تعالى، لانهم لا يمكنهم أن يحلفوا في ذلك على الاجسام والاوثان لظهور فساد ذلك، وبليس في ذلك ما يدل على انهم كانوا عالمين بالله ضرورة، لانه لا يمتنع أن يكونوا عالمين بذلك استدلالا وإن دخلت علهيم شبهة في انه يستحق العبادة، سواه.

وقال الجبائي لا يمتنع أن يقولوا بذلك تقليدا لانهم لو علموه ضرورة لعلموا أنه لا يجوز أن يعبد معه غيره وهو الذي يليق بمذهبنا في المواقاة.

ثم وصف العزيز العليم الخالق للسموات والارض فقال هو " الذي جعل لكم الارض مهدا وجعل لكم فيها سبلا " تسلكونها لكي تهتدوا إلى مقاصدكم في اسفاركم.

وقيل: معناه لتهتدوا إلى الحق في الدين والاعتبار الذي جعل لكم بالنظر فيها.

[185]

قوله تعالى: (والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون(11) والذي خلق الازواج كلها وجعل لكم من الفلك والانعام ما تركبون(12) لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين(13) وإنا إلى ربنا لمنقلبون(14) وجعلوا له من عباده جزء‌ا إن الانسان لكفور مبين(15))

خمس آيات بلا خلاف.

يقول الله تعالى إن الذي جعل لكم الارض مهدا لتهتدوا إلى مراشدكم في دينكم ودنياكم هو " الذي نزل من السماء ماء " يعني غيثا ومطرا (بقدر) أي على قدر الحاجة لا زيادة عليها فيفسد ولا ناقصا عنها فيضر ولا ينفع، بل هو مطابق للحاجة وبحسبها وذلك يدل على انه واقع من مختار يجعله على تلك الصفة قد قدره على ما تقتضيه الحكمة لعلمه بجميع ذلك.

وقوله " فانشرنا به بلدة ميتا " أي احييناها بالنبات بعد أن كانت ميتا بالقحل والجفاف تقول: أنشر الله الخلق فنشروا أي احياهم فحييوا، ثم قال " وكذلك تخرجون " أي مثل ما أخرج النبات من الارض اليابسة فأحياها بالنبات مثل ذلك يخرجكم من القبور بعد موتكم، وإنما جمع بين أخراج الانبات وإخراج الاموات لان كل ذلك متعذر على كل قادر إلا القادر لنفسه الذي لا يعجزه شي ء ومن قدر على احدهما قدر على الآخر بحكم العقل.

وقوله " والذي خلق الازواج كلها " معناه الذي خلق الاشكال من الحيوان والجماد من الحيوان الذكر والانثى ومن غير الحيوان مما هو متقابل كالحلو والحامض والحلوا والمر والرطب واليابس وغير ذلك من الاشكال.

وقال الحسن: الازواج الشتاء والصيف، والليل والنهار، والشمس والقمر، والسماء والارض، والجنة والنار

[186]

وقوله " وجعل لكم من الفلك " يعني السفن " والانعام ما تركبون " يعني الابل والبقر وما جرى مجراهما من الدواب والحمير التي تصلح المركوب. ثم بين انه خلق ذلك وغرضه (لتستورا على ظهوره) وإنما وحد الهاء في قوله " على ظهوره " لانها راجعة إلى (ما) كما قال " مما في بطونه "(1) وفي موضع آخر (بطونها) ردها إلى الانعام، فذكر في (ما) وانث في الانعام.

وقال الفراء: اضاف الظهور إلى الواحد، لان الواحد فيه بمعنى الجميع، فردت الظهور إلى المعنى.

ولم يقل ظهره، فيكون كالواحد الذي معناه ولفظه واحد.

ومعنى الآية ان غرضه تعالى ان تنتفعوا بالاستواء على ظهورها " ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه " فتشكروه على تلك النعم وتقولوا معترفين بنعم الله ومنزهين له عن صفات المخلوقين " سبحان الذي سخر لنا هذا " يعني هذه الانعام والفلك " وما كنا له مقرنين " أي مطيقين، يقال: أنا لفلان مقرن أي مطيق أي انا قرن له، ويقال: أقرن يقرن إقرانا إذا اطاق وهو من المقارنة كأنه يطيق حمله في تصرفه.

وقيل " مقرنين " أي مطيقين أي يقرن بعضا ببعض حتى يسيرها إلى حيث يشاء، وليقولوا أيضا " وإنا إلى ربنا لمنقلبون " أي راجعون اليه يوم القيامة.

فان قيل: قوله " ولتستورا على ظهوره " يفيد ان غرضه بخلق الانعام والفلك ان يستورا على ظهورها، وإنه يريد ذلك منهم. والاستواء على الفلك والانعام مباح، ولا يجوز ان يريده الله تعالى؟ ! قيل: يجوز ان يكون المراد بقوله " لتستورا على ظهوره " في المسير إلى

___________________________________

(1) سورة 16 النحل آية 66

[187]

ما أمر الله بالمسير اليه من الحج والجهاد وغير ذلك من العبادات، وذلك يحسن إرادته، وإنما لا يحسن إرادة ما هو مباح محض. وايضا، فانه تعالى قال " ثم تذكروا نعمة ربكم " أي تعترفون بنعم الله بالشكر عليها وتقولوا " سبحان الذي سخر لنا هذا " وذلك طاعة يجوز ان يكون مرادا تتعلق الارادة به.

وقوله " وجعلوا له من عباده جزء‌ا " اخبار منه تعالى ان هؤلاء الكفار جعلوا لله من عباده جزء‌ا.

وقيل فيه وجهان: احدهما - انهم جعلوا لله جزء‌ا من عبادته لانهم اشركوا بينه وبين الاصنام.

وقال الحسن: زعموا ان الملائكة بنات الله وبعضه فالجزء الذي جعلوه له من عباده هو قولهم " الملائكة بنات الله " ثم قال تعالى مخبرا عن حال الكافر لنعم الله فقال " إن الانسان لكفور " لنعم الله جاحد لها " مبين " أي مظهر لكفره غير مستتر به.

قوله تعالى: (أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفيكم بالبنين(16) وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم(17) أو من ينشؤ في الحلية وهو في الخصام غير مبين(18) وجعلوا الملئكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسئلون(19) وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم مالهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون(20))

خمس آيات بلا خلاف.

قرأ اهل الكوفة إلا أبابكر " او من ينشأ " بضم الياء وتشديد الشين.

[188]

الباقون بفتح الياء والتخفيف. وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر " عند الرحمن " بالنون. الباقون " عباد " على الجمع وقرأ نافع " أأشهدوا " بضم الالف وفتح الهمزة من (اشهدت) الباقون " اشهدوا " من (شهدت) من قرأ (ينشأ) بالتشديد جعله في موضع مفعول لانه تعالى قال " إنا انشأناهن إنشاء "(1) فانشأت ونشأت بمعنى إذا ربيت.

وتقول: نشأ فلان ونشأه غيره وغلام ناشئ أي مدرك.

وقيل في قوله " ثم انشأناه خلقا آخر "(2) قال هو نبات شعر ابطه ومن خفف جعل الفعل لله، لان الله انشأهم فنشؤوا، ويقال للجوار الملاح: النشأ قال نصيب:

ولولا ان يقال صبا نصيب *** لقلت بنفسى النشأ الصغار(3)

ومن قرء عباد فجمع (عبد) فهو كقوله " لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون "(4) فاراد الله أن يكذبهم في قولهم: إن الملائكة بنات الله، وبين انهم عباده.

ومن قرأ " عند " بالنون، فكقوله " إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته "(5) وقال سعيد بن جبير: قلت لابن عباس في مصحفي " عباد " فقال: حكه.

ووجه قراء‌ة نافع " أأشهدوا " انه جعله من اشهد يشهد جعلهم مفعولين وقال تعالى (ما اشهدتهم خلق السموات والارض ولا خلق أنفسهم)(6) من قرأ بفتح الهمزة جعله من شهد يشهد فهؤلاء الكفار إذا لم يشهدوا خلق السموات والارض ولا خلق انفسهم من اين علموا ان الملائكة بنات الله وهم

___________________________________

(1) سورة 56 الواقعة آية 35.

(2) سورة 23 المؤمنون آية 14.

(3) مر في 4 / 304 و 8 / 194.

(4) سورة 4 النساء آية 171.

(5) سورة 7 الاعراف آية 205.

(6) سورة 18 الكهف آية 52

[189]

لم يشهدوا ذلك، ولم يخبرهم عنه مخبر؟ !.

لما اخبر الله تعالى عن الكفار انهم جعلوا له من عباده جزء‌ا على ما فسرناه، وحكم عليهم بأنهم يجحدون نعمه ويكفرون أياديه، فسر ذلك وهو انهم قالوا " ام اتخذ مما يخلق بنات واصفاكم بالبنين " في هذا القول حجة عليهم لانه ليس بحكيم من يختار لنفسه أدون المنزلتين ولغيره اعلاهما، فلو كان على ما يقول المشركون من جواز اتخاذ الولد عليه لم يتخذ لنفسه البنات ويصفيهم بالبنين فغلطوا في الاصل الذي هو جواز إتخاذ الولد عليه، وفي البناء على الاصل باتخاذ البنات، فنعوذ بالله من الخطاء في الدين. ومعنى (أصفاكم) خصكم وآثركم بالذكور واتخذ لنفسه البنات.

ثم قال تعالى " واذا بشر احدهم بما ضرب للرحمن مثلا " يعني إذا ولد لواحد منهم بنت حسب ما اضافوها إلى الله تعالى ونسبوها اليه على وجه المثل لذلك " ظل وجهه مسودا " أي متغيرا مما يلحقه من الغم بذلك حتى يسود وجهه ويربد " وهو كظيم " قال قتادة معناه حزين، وفى هذا ايضا حجة عليهم لان من اسود وجهه بما يضاف اليه مما لا يرضى فهو احق ان يسود وجهه باضافة مثل ذلك إلى من هو اجل منه، فكيف إلى ربه.

ثم قال تعالى على وجه الانكار لقولهم " او من ينشؤ في الحلية " قال ابن عباس " او من ينشوء في الحلية " المراد به المرأة.

وبه قال مجاهد والسدي، فهو في موضع نصب والتقدير او من ينشؤ في الحلية يجعلون. ويجوز ان يكون الرفع بتقدير أولئك ولده على ما قالوا هم بناته يعني من ينشؤ في الحلية على وجه التزين بها يعني النساء في قول اكثر المفسرين.

وقال ابوزيد: يعني الاصنام.

والاول اصح " وهو في الخصام غير مبين " في حال الخصومة، فهو ناقص عمن هو بخلاف هذه الصفة من

[190]

الشبيه على ما يصلح للجدال ودفع الخصم الالد بحسن البيان عند الخصومة، فعلى هذا يلزمهم ان يكونوا باضافة البنات قد اضافوا ادنى الصفات اليه.

ثم قال تعالى " وجعلوا " يعني هؤلاء الكفار " الملائكة الذين هو عباد الرحمن " متذللون له خلضعون له. ومن قرأ بالنون اراد الذين هم مصطفون عند الله " إناثا " فقال لهم على وجه الانكار " اشهدوا خلقهم " ثم قال " ستكتب شهادتهم " بذلك " ويسألون " عن صحتها. وفائدة الآية أن من شهد بمالا يعلم فهو حقيق بأن يوبخ ويذم على ذلك وشهادته بما هو متكذب به على الملائكة اعظم من الفاحشة، للاقدام على تنقصهم في الصفة، وإن كان في ذلك على جهالة.

ثم حكى عنهم إنهم قالوا " لو شاء الرحمن ما عبدناهم " كما قالت المجبرة بأن الله تعالى أراد كفرهم، ولو لم يشأ ذلك لما كفروا، فقال الله لهم على وجه التكذيب " مالهم بذلك من علم ان هم إلا يخرصون " أي ليس يعلمون صحة ما يقولونه وليس هم إلا كاذبين. ففي ذلك إبطال مذهب المجبرة في ان الله تعالى يريد القبيح من افعال العباد. لان الله تعالى قطع على كذبهم في ان الله تعالى يشأ عبادتهم للملائكة، وذلك قبيح لا محالة وعند المجبرة الله تعالى شاء‌ه. وقد نفاه تعالى عن نفسه وكذبهم في قولهم فيه.

[191]

قوله تعالى: (أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون(21) بل قالوا إنا وجدنا آباء‌نا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون(22) وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباء‌نا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون(23) قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباء‌كم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون(24) فانتقمنا منهم فانظر كيف كان عاقبة المكذبين(25))

خمس آيات بلا خلاف.

قرأ ابن عامر وحفص عن عاصم (قال اولو جئتكم) على انه فعل ماض، وتقديره قال النذير. الباقون (قل) على الامر على وجه الحكاية لما اوحى الله إلى النذير.

قال كأنه قال اوحينا اليه أي فقلنا له (قل اولو جئتكم) وقرأ ابو جعفر (جئناكم) بالنون على وجه الجمع.

لما حكى الله تعالى تخرص من يضيف عبادة الاصنام والملائكة إلى مشيئة الله، وبين انه لا يشاء ذلك قال (أم آتيناهم كتابا) والمعنى التقريع لهم على خطئهم بلفظ الاستفهام، والتقدير أهذا الذي ذكروه شئ تخرصوه وافتروه (أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون)؟ ! فاذا لم يمكنهم ادعاء ان الله أنزل بذلك كتابا علم انه من تخرصهم ودل على حذف حرف الاستفهام (أم) لانها المعادلة.

ثم قال ليس الامر على ما قالوه (بل قالوا) يعني الكفار (إنا وجدنا آباء‌نا على أمة) قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي: يعني على ملة وسميت الديانة أمة لاجتماع الجماعة على صفة واحدة فيها.

وقرئ " على إمة " - بكسر الهمزة - والمراد به الطريقة (وانا على آثارهم) أي على آثار آبائنا (مهتدون) نهتدي بهداهم.

ثم قال مثل ما قال هؤلاء في الحوالة على تقليد آبائهم في الكفر كذلك لم نرسل من قبلك في قرية ومجمع من الناس نذيرا - لان (من) زيادة - (إلا قال

[192]

مترفوها) وهم الذين آثروا الترفة على طلب الحجة، وهم المتنعمون الروساء (إنا وجدنا آباء‌نا على أمة) يعني على ملة (وانا على آثارهم مقتدون) نقتدي بهم فأحال الجميع على التقليد للاباء فحسب، دون الحجة، والتقليد قبيح بموجب العقل لانه لو كان جائزا للزم فيه أن يكون الحق في الشئ ونقيضه، فيكون عابد الوثن يقلد أسلافه، وكذلك يقلد اسلافه اليهودي والنصراني والمجوسي، وكل فريق يعنقد أن الآخر على خطأ وضلال. وهذا باطل بلا خلاف، فاذا لابد من الرجوع إلى حجة عقل او كتاب منزل من قبل الله، فقال الله تعالى للنذير (قل) لهم (او لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباء‌كم) فهل تقبلونه؟ وفي ذلك حسن التلطف في الاستدعاء إلى الحق، وهو انه لو كان ما تدعونه حقا وهدى على ما تدعونه، لكان ما جئتكم به من الحق اهدى من ذلك واوجب ان يتبع ويرجع اليه، لان ذلك، إذا سلموا أنه اهدى مما هم عليه بطل الرد والتكذيب، وإذا بطل ذلك لزم اتباعه في ترك ما هم عليه.

ثم حكى ما قالوا في الجواب عن ذلك فانهم قالوا (انا بما أرسلتم به) معاشر الانبياء (كافرون) ثم اخبر تعالى فقال (فانتقمنا منهم) بأن اهلكناهم وعجلنا عقوبتهم (فانظر) يامحمد (كيف كان عاقبة المكذبين) لانبياء الله والجاحدين لرسله.

قوله تعالى: (وإذ قال إبراهيم لابيه وقومه إنني براء مما تعبدون(26) إلا الذي فطرني فانه سيهدين(27) وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون(28) بل متعت هؤلاء وآباء‌هم حتى جاء‌هم الحق ورسول مبين(29) ولما جاء‌هم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون(30))

خمس آيات بلا خلاف.

[193]

يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه واله واذكر يا محمد (إذ قال ابراهيم لابيه وقومه) حين رآهم يعبدون الاصنام والكواكب (إنني براء مما تعبدون) أي برئ من عبادتكم الاصنام والكواكب فقوله (براء) مصدر وقع موقع الوصف، لايثنى ولا يجمع ولا يؤنث. ثم استثنى من جملة ما كانوا يعبدونه الله تعالى فقال (إلا الذي فطرني) معناه إني برئ من كل معبود سوى الله تعالى الذي فطرني أي خلقني وابتدأني، وتقديره إلا من الذي فطرني.

وقال قتادة: كانوا يقولون الله ربنا مع عبادتهم الاوثان (فانه سيهدين) في ما بعد.

والمعنى انه سيهديني إلى طريق الجنة بلطف من ألطافه يكون داعيا إلى ان اتمسك به حتى يؤديني اليها، وإنما قال ذلك ثقة بالله تعالى ودعاء لقومه إلى ان يطلبوا الهداية من ربه. والتبري من كل معبود من دون الله واجب بحكم العقل، كما يجب ذمهم على فعل القبيح لما في ذلك من الزجر عن القبيح والردع عن الظلم، فكذلك يجب قبول قول من أخلص عبادة الله، كما يجب مدحه على فعله.

وقوله (وجعلها كلمة باقية في عقبه) معناه جعل هذه الكلمة التي قالها إبراهيم كلمة باقية في عقبه بما اوصى به مما أظهره الله من قوله إجلالا له وتنزيها له ورفعا لقدره بما كان منه من جلالة الطاعة والصبر على أمر الله.

[194]

وقال قتادة ومجاهد والسدي: معنى قوله (وجعلها كلمة باقية في عقبه) قوله: لا إله إلا الله لم يزل في ذريته من يقولها وقال ابن زيد: هو الاسلام بدلالة قوله (هو سماكم المسلمين)(1).

وقال ابن عباس: في عقبه من خلفه.

وقال مجاهد: في ولده وذريته.

وقال السدي: في آل محمد عليهم السلام.

وقال الحسن: عقبه ولده إلى يوم القيامة.

وقوله (لعلهم يرجعون) قال الحسن: معناه راجع إلى قوم إبراهيم.

وقال الفراء: معناه (لعلهم يرجعون) عما هم عليه إلى عبادة الله، وقال قتادة: معناه لعلهم يعترفون ويذكرون الله.

وقال الله تعالى إنا لم نعاجل هؤلاء الكفار بالعقوبة (بل متعنا هؤلاء وآباء‌هم حتى جاء‌هم الحق) يعني القرآن (ورسول مبين) أي مظهر للحق، يعني محمدا صلى الله عليه واله.

ثم قال تعالى (ولما جاء‌هم الحق) يعني القرآن (قالوا هذا سحر) وهو حيلة خفية توهم المعجزة (وإنا به) يعني بالقرآن (كافرون) أي جاحدون لكونة من قبل الله تعالى وإنما كان من نسب الحق والدين إلى السحر كافرا بالله، لانه بمنزلة من عرف نعمة الله وجحدها في عظيم الجرم، فسمي باسمه ليدل على ذلك.

قوله تعالى: (وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم(31) أهم يقسمون رحمت ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحيوة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمت ربك خير مما يجمعون(32) ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون(33) ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكؤن(34) وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحيوة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين(35))

خمس آيات بلا خلاف.

___________________________________

(1) سورة 22 الحجج آية 78

[195]

قرأ ابن كثير وابوعمرو (سقفا) على التوحيد - بفتح السين - الباقون (سقفا) بضم السين والقاف - على الجمع - وقرأ حمزة والكسائي (لما متاع الحياة الدنيا) مشددة الميم. الباقون خفيفة.

من شدد الميم جعل (لما) بمعنى (إلا) ومن خفف جعل (ما) صلة إلا ابن عامر فانه خفف وشدد.

قال ابوعلي: من خفف جعل (إن) المخففة من الثقيلة وأدخل اللام للفصل بين النفي والايجاب، كقوله (وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين)(1) ومن نصب بها مخففة، فقال إن زيدا منطلق استغنى عن اللام، لان النافية لا ينتصب بعدها الاسم، و (ما) زائدة.

والمعنى: وإن كل ذلك لمتاع الحياة. حكى الله عن هؤلاء الكفار الذين حكى عنهم أنهم قالوا لما جاء‌هم الحق الذي هو القرآن (لولا نزل) إن كان حقا (على رجل من القريتين عظيم) يعني بالقريتين مكة والطائف، ويعنون بالرجل العظيم من احد القريتين - في قول ابن عباس - الوليد ابن المغيرة المخزومي القرشي من أهل مكة، أو حبيب بن عمرو ابن عمير من الطائف، وهو الثقفي.

وقال مجاهد: يعني بالذي من أهل مكة عقبة بن ربيعة، والذي من اهل الطائف ابن عبد باليل.

وقال قتادة: الذى من أهل مكة يريدون الوليد ابن المغيرة، والذى من اهل الطائف عروة بن مسعود الثقفي.

وقال السدى: الذى من أهل الطائف كنانة بن عمرو.

وإنما قالوا ذلك لان الرجلين كانا عظيمي قومهما، وذوى الاموال الجسيمة فيهما، فدخلت الشبهة

___________________________________

(1) سورة 7 الاعراف آية 101

[196]

عليهم فاعتقدوا أن من كان كذلك كان أولى بالنبوة. وهذا غلط لان الله تعالى يقسم الرحمة بالنبوة كما يقسم الرزق في المعيشة على حسب ما يعلم من مصالح عباده فليس لاحد ان يتحكم في شئ من ذلك.

فقال تعالى على وجه الانكار عليهم والتهجين لقولهم (أهم يقسمون رحمة ربك) أى ليس لهم ذلك بل ذلك اليه تعالى.

ثم قال تعالى (نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا) وقيل: الوجه في إختلاف الرزق بين الخلق في الضيق والسعة زيادة على ما فيه من المصلحة إن في ذلك تسخير بعض العباد لبعض باحواجهم اليهم، لما في ذلك من الاحوال التي تدعو إلى طلب الرفعة وارتباط النعمة ولما فيه من الاعتبار بحال الغنى والحاجة، وما فيه من صحة التكليف على المثوبة.

ثم قال تعالى (ورحمة ربك خير مما يجمعون) يعني رحمة الله ونعمه من الثواب في الجنة خير مما يجمعه هؤلاء الكفار من حطام الدنيا.

ثم اخبر تعالى عن هوان الدنيا عليه وقلة مقدارها عنده بأن قال (ولو لا أن يكون الناس أمة واحدة) أي لولا انهم يصيرون كلهم كفارا (لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون) استحقارا الدنيا وقلة مقدارها ولكن لا يفعل ذلك، لانه يكون مفسدة. والله تعالى لا يفعل ما فيه مفسدة. ثم زاد على ذلك وكنا نجعل لبيوتهم على كون سقفهم من فضة معارج، والسقف بالضم سقف مثل رهن ورهن.

وقال مجاهد: كل شئ من السماء فهو سقف، وكل شئ من البيوت فهو سقف بضمتين، ومنه قوله (وجعلنا السماء سقفا محفوظا)(1)

قال الفراء قوله (لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا) يحتمل أن تكون اللام

___________________________________

(1) سورة 21 الانبياء آية 32

[197]

الثانية مؤكدة للاولى، ويحتمل أن تكون الثانية بمعنى (على) كأنه قال لجعلنا لمن يكفر بالرحمن على بيوتهم سقفا، كما تقول: جعلنا لك لقومك العطاء أي جعلته لاجلك (ولبيوتهم ابوابا وسررا) جمع سرير (عليها يتكؤن) من فضة ايضا وحذف لدلالة الكلام عليها.

وقوله (وزخرفا) قال ابن عباس: هو الذهب. وبه قال الحسن وقتادة والضحاك.

وقال ابن زيد: هو الفرش ومتاع البيت، والمزخرف المزين.

وقال الحسن المزخرف المنقوش والسقف جمع سقوف كرهون ورهن.

وقيل: هو جمع سقف ولا نظير له والاول أولى، لانه على وزن زبور وزبر.

والمعارج الدرج - في قول ابن عباس وقتادة - وهي المراقي قال جندب بن المثنى: يارب رب البيت ذي المعارج(1) (ومعارج) درجا (عليها يظهرون) أي يصعدون.

وقال ابن عباس والحسن وقتادة والسدي لولا ان يكون الناس أمة واحدة أي يجتمعون كلهم على الكفر.

وقال ابن زيد: معناه يصيرون كلهم أمة واحدة على طلب الدنيا.

ثم قال (وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا) معناه ليس كل ذلك يعني ما ذكره من الذهب والفضة والزخرف إلا متاع الحياة الدنيا الذي ينتفع به قليلا ثم يفنى وينقطع.

ثم قال (والآخرة) أي العاقبة (عند ربك) الثواب الدائم (للمتقين) الدين يتقون معاصيه ويفعلون طاعاته فصار كل عمل ما للدنيا صغير بالاضافة إلى ما يعمل للاخرة، لان ما يعمل للدنيا منقطع وما يعمل للآخرة دائم.

___________________________________

(1) مجاز القرآن 2 / 204

[198]

قوله تعالى: (ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين(36) وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون(37) حتى إذا جاء‌نا قال ياليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين(38) وينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون(39) أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين(40))

خمس آيات بلا خلاف.

قرأ حمزة والكسائي وابوعمرو وحفص عن عاصم (جاء‌نا) بالتوحيد. الباقون (جاء‌انا) على التثنية.

من قرأ على التثنية أراد الكافر وقرينه من الشياطين كقوله (وإذا النفوس زوجت)(1) أي قرنت بنظيرها.

ومن أفرد قال: لان الكافر هو الذي أفرد بالخطاب في الدنيا وأقيمت عليه الحجة بانفاذ الرسول اليه فاجتزى بالواحد عن الاثنين، كما قال (لينبذن في الحطمة)(2) والمراد لينبذان يعني هو وما له.

وقرأ يعقوب والعليمي (يقيض) بالياء على لفظ الخبر عن الغائب. الباقون بالنون على وجه الخبر عن الله تعالى.

يقول الله تعالى (ومن يعش عن ذكر الرحمن) أي يعرض عن ذكر الله لا ظلامه عليه لجهله، يقال: عيشا يعشو عشوا وعشوا إذا ضعف بصره وأظلمت عينه كأنه عليها غشاوة قال الشاعر:

متى تأته تعشو إلى ضوء ناره *** تجد حطبا جزلا ونارا تأججا(3)

واذا ذهب بصره قيل: عشى يعشى عشاء، ومنه رجل أعشى وامرأة

___________________________________

(1) سورة 81 كورت آية 7.

(2) سورة 104 الهمزة آية 4.

(3) تفسير الطيري 25 / 39 والكتاب لسيبويه 1 / 396

[199]

عشواء، فعشى يعشى مثل عمي يعمى، وعشا يعشو إذا نظر نظرا ضعيفا. وقرئ (من يعش) بفتح الشين.

ومعناه يعمى يقال: عشا إلى النار إذا تنورها فقصدها وعشى عنها إذا أعرض قاصدا لغيرها كقولهم مال اليه ومال عنه.

وقيل: معناه بالعين من يعرض عن ذكره.

وقوله (نقيض له شيطانا) قيل في معناه ثلاثة أقوال: احدها - قال الحسن: نخلي بينه وبين الشيطان الذي يغويه ويدعوه إلى الضلالة فلا نمنعه منه.

الثاني - وقيل: نجعل له شيطانا قرينا، يقال قيض له كذا وكذا أي سهل ويسر.

الثالث - قال قتادة: نقيض له شيطانا في الآخرة يلزمه حتى يصير به إلى النار فحينئذ يتمنى البعد عنه.

وأما المؤمن فيوكل به ملك فلا يفارقه حتى يصير به إلى الجنة. وإنما جاز ان يقيض له الشيطان إذا أعرض عن ذكر الله حتى يغويه لانه اذا كان ممن لا يفلح فلو لم يغوه الشيطان لفعل من قبل نفسه مثل ذلك كالفساد الذي يفعله باغواء الشيطان او أعظم منه فلم يمنع لطفا، وقيض له الشيطان عقابا. وفى ذلك غاية التحذير عن الاعراض عن حجج الله وآياته.

ثم قال تعالى (وانهم) يعني الشياطين (ليصدونهم) يعني الكفار (عن السبيل) يعني عن سبيل الحق الذي هو الاسلام (ويحسبون انهم مهتدون) إلى طريق الحق.

وقوله (حتى اذا جاء‌انا) على التثنية أراد حتى اذا جاء الشيطان ومن أغواه يوم القيامة إلى الموضع الذي يتولى الله حساب الخلق فيه وجزاء‌هم.

ومن قرأ على التوحيد فالمراد حتى اذا جاء الكافر وعلم ما يستحقه من العقاب ضرورة قال ذلك الوقت لقربه (ياليت بيني وبينك بعد المشرقين) قيل في معناه قولان: احدهما - أنه عنى المشرق والمغرب الا انه غلب احدهما، كما قيل سنة العمرين

[200]

وقال الشاعر:

اخذنا بآفاق السماء عليكم *** لنا قمراها والنجوم طوالع(1)

يعني الشمس والقمر، وقال المفضل: أراد النبي محمد وابراهيم عليها السلام وقال الآخر:

وبصرة الازد منا والعراق لنا *** والموصلان ومنا مصر والحرم(2)

يعني الموصل والجزيرة.

الثاني - انه أراد مشرق الشتاء ومشرق الصيف، كما قال (رب المشرقين ورب المغربين)(3) وإنما اراد (ياليت بيني وبينك بعد المشرقين) مسافة فلم أرك ولا اغتررت بك (فبئس القرين) كنت أنت، يقول لهذا الشيطان الذي اغواه، فقال الله تعالى (ولن ينفعكم اليوم) هذا الندم (إذ ظلمتم) نفوسكم بارتكاب المعاصي (إنكم في العذاب مشتركون) أي لانكم في العذاب شركاء، فلذلك لا ينفعكم هذا القول.

وقيل: إن المراد لا يسليكم عما أنتم فيه من انواع العذاب أن أعداء‌كم شركاؤكم فيها لانه قد يتسلى الانسان عن محنة يحصل فيها اذا رأى ان عدوه في مثلها فبين الله تعالى أن ذلك لا ينفعكم يوم القيامة ولا يسليكم عن العذاب ولا يخفف عنكم ذلك يوم القيامة.

ثم قال لنبيه صلى الله عليه واله (أفانت) يا محمد (تسمع الصم او تهدي العمي) شبه الكفار في عدم انتفاعهم بما يسمعونه من إنذار النبي صلى الله عليه واله ووعظه بالصم الذين لايسمعون، وفى عدم انتفاعهم بما يرونه بالعمي الذين لا يبصرون شيئا (ومن كان في ضلال) عن الحق (مبين) أي بين ظاهر لا شبهة فيه. ومن لا يطلب الحق ولا يجتهد فيه لسبقه إلى الباطل وإغتباطه به، فهو الذي يمتنع هدايته ولا حيلة

___________________________________

(1) تفسير القرطبي 16 / 91 والطبري 25 / 40.

(2) تفسير الطبرى 25 / 40.

(3) سورة 55 الرحمن آية 17

[201]

فيه ولا طريق إلى ارشاده وصار بمنزلة الاصم والاعمى عنه.

وقرأ ابن عامر وحده (ولن ينفعكم اليوم إنكم) بكسر الهمزة، جعل تمام الآية والوقف على قوله (إذ ظلمتم) ثم استأنف (إنكم) وفتح الباقون، جعلوا (أن) اسما في موضع رفع.

قوله تعالى: (فاما نذهبن بك فانا منهم منتقمون(41) أو نرينك الذي وعدناهم فانا عليهم مقتدرون(42) فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم(43) وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسئلون(44) وسئل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون(45))

خمس آيات بلا خلاف

قوله (فاما نذهبن بك فانا منهم) معناه إن نذهب بك، فلما دخلت (ما) على حرف الشرط اشبه القسم في التأكيد والايذان بطلب التصديق، فدخلت النون في الكلام لذلك لان النون تلزم في جواب القسم ولا تلزم في الجزاء، لانه شبه به، وإنما وجب باذهاب النبي إهلاك قومه من الكفار، لانه علامة اليأس من فلاح أحد منهم، كما اسرى لوط بأهله، وموسى بقومه وغيرهما من النبيين وكأنه قال: فاما نذهبن بك على سنتنا فيمن قبلك فيكون إذهابه به إخراجه من بين الكفار.

وقال قوم: إنما أراد إذهابه بالموت، ويكون قوله (فانا منهم منتقمون) على هذا ما كان من نقم الله على أهل الكفر اكرم بها نبيه حيث أعلمه ما كان من النقمة في أمته بعده - ذهب اليه

[202]

الحسن وقتادة - وهو الذي روي عن اهل البيت عليه السلام ورووا أن التأويل: فانا بعلي منهم منتقمون، وقال الاولون إن ذلك في المشركين، وقووا ذلك بان الله ذكر ذلك عقيب ذكر المشركين، قالوا: وهو ما كان من نقم الله على المشركين يوم بدر بعد إخراج النبي من مكة وإنه استعلى عليهم واسر منهم مع قلة اصحابه وضعف عددهم وكثرة الكفار وشدة شوكتهم وكثرة عدتهم، فقتلوهم كيف شاؤا واسروا من احبوا وكان ذلك مصداقا لما قاله لهم.

وقوله (او نرينك الذي وعدناهم فانا عليهم مقتدون) يعني ما أراهم بهم يوم بدر في ما قدمناه. وبين تعالى أنه على ذلك قادر وكان كما قال، ومن قال بالتأويل الاخير، قال معنى (او نرينك) او نعلمنك ما وعدناهم وفعلنا بهم. ثم قال لنبيه (فاستمسك بالذى أوحي اليك) من إخلاص العبادة لله تعالى وإتباع أوامره والانتهاء عما نهى عنه (إنك على صراط مستقيم) وصف الاسلام بانه صراط مستقيم لانه يؤدى إلى الحق المطلوب حيث يستقيم بصاحبه حتى يوصله اليه.

وقوله (وإنه لذكر لك ولقومك) قيل في معناه قولان: احدهما - ان هذا القرآن شرف لك بما اعطاك الله - عزوجل - من الحكمة ولقومك بما عرضهم له من إدراك الحق به وانزاله على رجل منهم. الثاني - انه حجة تؤدي إلى العلم لك ولكل أمتك. والاول اظهر.

وقال الحسن: ولقومك لامتك.

وقيل: إنه لذكر لك ولقومك يذكرون به الدين ويعلمونه وسوف تسألون عما يلزمكم من القيام بحقه والعمل به.

ثم قال لنبيه صلى الله عليه واله (واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا) قال قتادة والضحاك: سل من أرسلنا يعني أهل الكتابين التوراة والانجيل، وقال ابن زيد: إنما يريد الانبياء الذين جمعوا ليلة الاسراء. وهو الظاهر، لان من قال بالاول يحتاج ان يقدر فيه محذوفا، وتقديره وإرسال أمم من أرسلنا من قبلك.

[203]

وقيل: المراد سلهم فانهم وإن كانوا كفارا، فان تواتر خبرهم تقوم به الحجة.

وقيل: الخطاب وإن توجه إلى النبي صلى الله عليه واله فالمراد به الامة كأنه قال واسألوا من أرسلنا كما قال (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء)(1) وقوله (اجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون) معناه سلوا من ذكرناه هل جعل الله في ما مضى معبودا سواه يعبده قوم: من الاصنام او غيرها، فانهم يقولون لكم إنا لم نأمرهم بذلك ولا تعبدناهم به.

___________________________________

(1) سورة 65 لطلاق آية 1

الآية: 46 - 89

قوله تعالى: (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون وملايه فقال إني رسول رب العالمين(46) فلما جاء‌هم بآياتنا إذا هم منها يضحكون(47) وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون(48) وقالوا يا أية الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون(49) فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون(50))

خمس آيات بلا خلاف.

هذا قسم من الله تعالى بأنه أرسل موسى بالآيات الباهرات والحجج الواضحات إلى فرعون واشراف قومه وخص الملاء بالذكر، وان كان مرسلا إلى غيرهم، لان من عداهم تبع لهؤلاء، فقال موسى له (اني رسول من رب العالمين) الذي خلق الخلق أرسلني اليكم.

ثم اخبر تعالى فقال (فلما جاء‌هم بآياتنا) يعني موسى جاء إلى فرعون وملائه بالآيات والحجج (إذا هم منها) يعني من تلك

 [204]

الآيات (يضحكون) جهلا منهم بما عليهم من ترك النظر فيها، وما لم من النفع بحصول علمهم بها. وفى الخبر عن ضحك أولئك الجهال عند ظهور الآيات زجر عن مثل حالهم ودعاء إلى العلم الذي ينافي الجهل. وفيه ايضا أنه لا ينبغي ان يلتفت إلى تضاحك أمثالهم من الادلة إذا كان الانسان على يقين من أمره. والانبياء كلهم يشتركون في الدعاء إلى الله باخلاص عبادته وطاعته في جميع ما يأمر به او ينهى عنه، ودعوتهم إلى محاسن الافعال ومكارم الخلاق وإن اختلفت شرائعهم وتبانيت مللهم ونسخت بعضها بعضا.

وقوله (وما نريهم من آية إلا هي اكبر من أختها) معناه إنه تعالى لا يريهم يعني فرعون وقومه معجزة ولا دلالة إلا وهي اكبر من الاخرى عند إدراك الانسان لها لما يهوله من أمرها، فيجد نفسه يقضي أنها اكبر كما يقول الانسان: هذه العلة التي نزلت بي اعظم من كل علة، وهو يريد أن لها مزية اعظم منهاء لا انه ذهب هول الاولى بانصرافها وحكم الثانية بحضورها.

وقال قوم: المعنى وما نريهم من آية إلا هي أهول في صدورهم من التي مضت قبلها.

ثم قال تعالى (واخذناهم بالعذاب) إذ عصوا فيها، وفكروا بها (لعلهم يرجعون) إلى طاعته وإنما جاز أخذهم بالعذاب ليرجعوا مع العلم بأنهم لا يرجعون لا مكان أن يرجعوا اليه، لان كلما في المعلوم أنه لا يقع لا يجوز أن يفعل العالم شيئا من أجل انه سيقع ولكن يجوز أن يفعل شيئا لا مكان أن يقع والمعنى - ههنا - لعلهم يرجعون إلى طريق الحق الذي ذهبوا عنه إلى طريق الباطل.

ثم حكى تعالى ما قال فرعون وملاء‌ه لموسى عند ذلك فانهم (قالوا يا أيها الساحر أدع لنا ربك بما عهد عندك إنا لمهتدون) وقال قوم: إنما قالوا له يا أيها الساحر لجهلهم بنبوته وصدقه واعتقادهم انه سحرهم بذلك.

[205]

وقال قوم: كان الساحر عندهم هو العالم ولم يكن صفة ذم.

وقال الحسن: إنما قالوا ذلك على وجه الاستهزاء بموسى، كما قال المشركون (يا ايها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون)(1) وقال الزجاج: وجه ذلك انه جرى ذلك على ألسنتهم على عادتهم فيه قبل ذلك.

وقال قوم: أرادوا يا أيها الفطن يا أيها العالم، لان السحر عندهم دقة النظر والعلم بالشئ كالسحر الحلال، يقال فلان: يسحر بكلامه.

وقال قوم: وخاطبوه بما تقدم تشبيها له بالساحر، فقالوا له (ادع لنا ربك بما عهد عندك) معناه أن يا موسى ادع لنا ربك ليكشف عنا العذاب - في قول مجاهد - فانه متى كشف عنا ذلك اهتدينا ورجعنا إلى الحق الذي يدعونا اليه. وفى الكلام حذف لان تقديره فدعا موسى وسأل ربه وضرع اليه أن يكشف عنهم العذاب، فكشف الله عنهم ذلك فاذا هم عند ذلك ينكثون. ومعناه ينقضون ما عقدوا على أنفسهم.

وقال قتادة: معناه يغدرون، وإنما أخبر الله تعالى وقص خبر موسى وما جرى له تسلية للنبي صلى الله عليه واله والمعنى إن حال موسى مع قومه وحالك مع قومك سواء، فاصبر إن أمرك يؤل إلى الاستعلاء، كما آل أمر موسى عليه السلام.

___________________________________

(1) سورة 15 الحجر آية 6

[206]

قوله تعالى: (ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الانهار تجري من تحتي أفلا تبصرون(51) أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين(52) فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملئكة مقترنين(53) فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين(54) فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين(55) فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين(56) ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون(57) وقالوا ء‌آلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون(58) إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل(59) ولو نشاء لجعلنا منكم ملئكة في الارض يخلفون(60))

عشر آيات كوفي وشامي. واحدى عشرة في ما عداه، عدوا (مهين) ولم يعده الكوفيون والشاميون.

قرأ حفص عن عاصم (اسورة) بغير ألف. الباقون (أسلورة) بألف.

وقرأ حمزة والكسائي وخلف " سلفا " بضم السين واللام. الباقون بفتحهما.

فمن قرأ بالضم فيهما أراد جمع سليف أي جمع قد مضى من الناس.

ومن قرأ " أسورة " أراد جمع سوار، وقال أبوعبيدة: وقد يكون أسوار جمع أسورة.

ومن قرأ " سلفا " بضم السين واللام جعله جمع سليف.

وقال ابوعلي: ويجوز أن يكون جمع (سلف) مثل أسد واسد، ووثن ووثن.

ومن فتح فلان (فعلا) جاء في حروف يراد بها الكثرة، فكأنه اسم من اسماء الجمع، كقولهم خادم وخدم. والفتح اكثر. وقد روي - بضم السين - وقرأ الكسائي ونافع وابن عامر " يصدون " بضم الصاد بمعنى يعرضون أي يعدلون. الباقون - بفتح الياء وكسر الصاد - بمعنى يضجون. وقيل: هما لغتان.

[207]

لما حكى الله تعالى عن قوم فرعون أنه حين كشف العذاب عنهم نكثوا عهدهم وعادوا إلى ما كانوا عليه من الكفر، نادى فرعون في قومه الذين اتبعوه على دينه، وقال لهم " ياقوم " على وجه التقرير لهم " أليس لي ملك مصر " أتصرف فيها كما أشاه لا يمنعني احد منه " وهذه الانهار " كالنيل وغيرها " تجري من تحتي " أي من تحت أمري.

وقيل: إنها كانت تجري تحت قصره، وهو مشرف عليها " أفلا تبصرون " أن ما ادعيه حق وأن ما يقوله موسى باطل.

وقيل: قوله " من تحتي " معناه إن النيل كانت تجري منه أنهار تحت قصره. وقيل (من تحتي) من بين يديه لارتفاع سريره.

ثم قال لهم فرعون " أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين " وقال قوم: معنى (أم) بل.

فكانه قال: بل أنا خير من موسى، وقال قوم: مخرجها مخرج المنقطعة، وفيها معنى المعادلة لقوله " أفلا تبصرون " أم انتم بصراء، لانهم لو قالوا نعم لكان بمنزلة قولهم انت خير. والاصل في المعادلة على أي الحالين أنتم على حال البصر أم على حال خلافه. ولا يجوز ان يكون المعنى على أي الحالين أنتم على حال البصر أم حال غيرها في أني خير من هذا الذي هو مهين، وإنما المعادلة تفصيل ما أجمله. وقيل له - ههنا - بتقدير أنا خير من هذا الذي هو مهين أم هو إلا أنه ذكر ب‍ (أم) لاتصال الكلام بما قبله.

وحكى الفراء (اما أنا) وهذا شاذ على انه جيد المعنى.

والمهين الضعيف - في قول قتادة والسدي - وقيل: معناه فقير. وقيل يمتهن نفسه في جميع ما يحتاج اليه ليس له من يكفيه، ولا يكاد يبين - وقال الزجاج للثة كانت في لسانه.

وقال قتادة: كانت في لسانه آفة - وبه قال السدي.

وقيل: إنه كان احترق لسانه بالجمر الذي وضعه في فيه حين أراد أن يعتبر فرعون عقله لما لطم وجهه، وأراد أن

[208]

يأخذ غير النار فصرب جبرائيل يده إلى النار، فدفع عنه القتل، وقال الحسن: كان في لسانه ثقل، فنسبه إلى ما كان عليه أولا.

وقوله " فلولا ألقي عليه أساورة من ذهب " معناه هلا إن كان صادقا في نبوته طرح عليه أساورة من ذهب. فمن قرأ (أساورة) بألف أراد جمع أسورة وأسورة جمع سوار وهو الذي يلبس في اليد. وأما اسوار، فهو الرامي الحاذق بالرمي، ويقال أسوار - بالضم - ومن جعله جمع أسورة اراد أسلوير، فجعل الهاء عوضا عن الياء. مثل الزنادقة، فلذلك صرفه، لانه صار له نظير في الآحاد. ومثله في الجمع الزنادقة. والاسورة الرجل الرامي الحاذق بالرمي من رجال العجم.

وقوله " أو جاء معه الملائكة مقترنين " قال قتادة ومعناه متتابعين، وقال السدي معناه يقارن بعضهم بعضا. وقيل معناه متعاضدين متناصرين كل واحد مع صاحبه مماليا له على أمره. وقال مجاهد: معناه مقترنين يمشون معه.

وقوله " فاستخف قومه " يعني فرعون استخف عقول قومه، فأطاعوه في ما دعاهم اليه، لانه احتج عليهم بما ليس بدليل، وهو قوله " أليس لي ملك مصر وهذه الانهار تجري من تحتي " ولو عقلوا وفكروا لقالوا ليس في ملك الانسان ما يدل على انه محق لكون ملوك كثيرة يخالفونك مبطلين عندك، وليس يجب ان يأتي مع الرسل ملائكة، لان الذي يدل على صدق الجميع المعجز دون غيره.

ثم اخبر الله تعالى عنهم بأنهم كانوا قوما فاسقين خارجين عن طاعة الله إلى معصيته. ثم قال " فلما اسفونا انتقمنا منهم " قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي وابن زيد: معنى اسفونا أغضبونا، لان الله تعالى يغضب على العصاة بمعنى يريد عقابهم، ويرضى عن المطيعين بأن يريد ثوابهم بما يستحقونه من طاعاتهم ومعاصيهم كما يستحقون المدح والذم. وقيل الاسف هو الغيظ من المغتم إلا انه - ههنا - بمعنى الغضب.

[209]

ثم بين تعالى بماذا انتقم منهم، فقال " فاغرقناهم اجمعين " ثم قال " فجعلناهم سلفا ومثلا للاخرين " فالسلف المتقدم على غيره قبل مجيئ وقته، ومنه السلف في البيع. والسلف نقيض الخلف.

ومن قرأ - بضم السين واللام - فهو جمع سليف من الناس، وهو المتقدم أمام القوم.

وقيل: معناه " جعلناهم سلفا " متقدمين ليتعظ بهم الآخرون.

وقال قتادة: جعلناهم سلفا إلى النار ومثلا أي عظة للآخرين.

والمثل بيان عن أن حال الثاني كحال الاول بما قد صار في الشهرة كالعلم، فحال هؤلاء المشركين كحال من تقدم في الاشراك بما يقتضي أن يجروا مجراهم في الاهلاك إن اقاموا على الطغيان.

ثم قال الله تعالى " ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون " قيل: المراد بذلك لما ضرب الله المسيح مثلا بآدم في قوله " إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم "(1) اعترض على النبي صلى الله عليه واله عن ذلك قوم من كفار قريش، فانزل الله تعالى هذه الآية.

ووجه الاحتجاج في شبه المسيح بآدم ان الذي قدر أن ينشئ آدم من غير ذكر قادر على إنشاء المسيح من غير ذكر، فلا وجه لاستنكاره من هذا الوجه.

وقيل: إنه لما ذكر المسيح بالبراء‌ة من الفاحشة وانه كآدم في الخاصة، قالوا: هذا يقتضي ان نعبده كما عبده النصارى.

وقيل: انه لما نزل قوله " إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم "(2) قالوا قد رضينا أن يكون آلهتنا مع المسيح.

وروي عن النبي صلى الله عليه واله انه قال يوما لعلي عليه السلام (لولا أني اخاف ان يقال فيك ما قالت النصارى في عيسى لقلت فيك قولا لا تمر بملاء إلا اخذوا التراب من تحت قدميك) انكر ذلك جماعة من المنافقين، وقالوا: لم برض

___________________________________

(1) سورة 3 آل عمران آية 59.

(2) سوره 21 الانبياء آية 98

[210]

ان يضرب له مثلا إلا بالمسيح، فانزل الله الآية.

وقوله " يصدون " بكسر الصاد وضمها لغتان.

وقد قرئ بهما مثل يشد ويشد وينم وينم من النميمة.

وقيل: معنى يصدون - بكسر الصاد - يضجون أي يضجون سرورا منهم بأنهم عبدوا الاوثان كما عبد النصارى المسيح ومن ضمها أراد يعرضون.

ثم حكى عن الكفار انهم قالوا آلهتنا خير أم هو؟ ! قال السدي: يعنون أم المسيح.

وقال قتادة: يعنون أم محمد صلى الله عليه واله وقيل: معنى سؤالهم آلهتنا خير ام هو؟ انهم ألزموا مالا يلزم على ظن منهم وتوهم، كأنهم قالوا: ومثلنا في ما نعبد مثل المسيح، فأيهما خير أعبادة آلهتنا أم عبادة المسيح، على انه إن قال عبادة المسيح اقر بعبادة غير الله، وكذلك إن قال عبادة الاوثان.

وإن قال ليس في عبادة المسيح خير، قصر به عن المنزلة التي ليست لاحد من سائر العباد.

وجوابهم عن ذلك إن اختصاص المسيح بضرب من التشريف والانعام عليه لا يوجب العبادة له كما لا يوجب ذلك انه قد أنعم على غيره النعمة.

ووجه اتصال سؤالهم بما قبله انه معارضة لالهية الاوثان بالهية المسيح كمعارضة إنشاء المسيح عن غير ذكر بانشاء آدم عليه السلام من غير ذكر.

ثم قال لنبيه صلى الله عليه واله ما ضربوه يعني المسيح مثلا " إلا جدلا " أي خصومة لك ودفعا لك عن الحق، لان المجادلة لا تكون إلا وأحد المجادلين مبطلا. والمناظرة قد تكون بين المحقين، لانه قد يعارض ليظهر له الحق.

ثم قال تعالى " بل هم قوم خصمون " أي جدلون في دفع الحق بالباطل. ثم وصف المسيح عليه السلام فقال " إن هو الا عبد انعمنا عليه " أي ليس هو سوى عبد خلقناه وانعمنا عليه " وجعلناه مثلا لبني إسرائيل " قال السدي وقتاة: يعني موعظة وعبرة لهم يعتبرون به ويتعظون به. ثم قال " ولو نشاء لجعلنا منكم

[211]

ملائكة " أي بدلا منكم معاشر بني آدم ملائكة في الارض " يخلفون " بني آدم غير انه انشأ بني آدم لاسباغ النعمة عليهم. وقرأ قالون عن نافع " آلهتنا " بهمزة واحدة بعدها مدة. الباقون بهمزتين على اصولهم، غير انه لم يفصل احد بين الهمزتين بألف، وانما حققهما اهل الكوفة وروح. ولين الباقون الثانية.

وقال ابوعبدالله بن خالويه: هي ثلاث ألفات الاولى للتوبيخ والتقرير بلفظ الاستفهام والثانية الف الجمع والثالثة اصلية. والاصل " ء‌الهتنا " فصارت الهمزة الثانية مدة ثم دخلت الف الاستفهام.

قوله تعالى: (وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون هذا صراط مستقيم(61) ولا يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو مبين(62) ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولا بين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون(63) إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم(64) فاختلف الاحزاب من بينهم فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم(65))

خمس آيات بلا خلاف.

الضمير في قوله " وانه لعلم للساعة " يحتمل أن يكون راجعا إلى عيسى عليه السلام لان ظهوره يعلم به مجيئ الساعة، لانه من أشراطها، وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك والسدي وابن زيد. وقيل: إنه اذا نزل المسيح رفع التكليف

[212]

لئلا يكون رسولا إلى اهل ذلك الزمان في ما يأمرهم به عن الله وينهاهم عنه.

وقيل: انه عليه السلام يعود غير مكلف في دولة الهدي وإن كان التكليف باقيا على اهل ذلك الزمان.

وقال قوم: إن الضمير يعود إلى القرآن يعلمكم بقيامها ويخبركم عنها وعن احوالها.

وهو قول الحسن، والفائدة بالعلم بالساعة انه يجب التأهب لها من اجل انها تقوم للجزاء لا محالة، وفى الشك فيها فتور في العمل لها، ويجب لاجلها اجتناب القبائح التي يستحق بها الذم والعقاب واجتناء المحاسن التي يستحق بها المدح والثواب.

وروي عن ابن عباس شاذا أنه من - العلم - بفتح العين واللام بمعنى انه علامة ودلالة على الساعة وقربها. ثم خاطب الامة فقال " فلا تمترن بها " أي لا تشكن فيها. والمرية الشك ويدل على ان المراد به جميع الامة قوله " وأتبعوني هذا صراط مستقيم " أي ما أخبرتكم به من البعث والنشور والثواب والعقاب " صراط مستقيم " ثم نهاهم فقال " ولا يصدنكم الشيطان " أي لا يمنعكم الشيطان عن اتباع الطريق المستقيم الذي بينه الذي يفضي بكم إلى الجنة، ولا يعدل بكم إلى الطريق المؤدي إلى النار " إنه لكم عدو مبين " فالعداوة طلب المكروه والمكيدة والايقاع في كل مهلكة من أجل العداوة التي في هلاك صاحبها شفاء لما في صدره منها.

ثم اخبر تعالى عن حال عيسى عليه السلام حين بعثه الله نبيا فقال " ولما جاء عيسى بالبينات " يعني بالمعجزات.

قال قتادة يعني بالانجيل " قال " لهم " قد جئتكم بالحكمة " أي بالذي من عمل به من العباد نجا ومن خالفه هلك.

وقوله تعالى " ولا بين لكم بعض الذي تختلفون فيه ". قال مجاهد: يعني من احكام التوراة وقال قوم: تقديره قد جئتكم بالانجيل، وبالبينات التي يعجز عنها الخلق. والذي جاء به عيسى هو بعض ما اختلفوا فيه، وبين لهم فيه. وقال قوم: البعض يراد به

[213]

- ههنا - الكل كأنه قال: ولابين لكم جميع ما تختلفون فيه. وقيل أراد به من أمر دينكم دون أمر دنياكم. والاختلاف اصل كل عداوة. والوفاق أصل كل ولاية لان الخلاف يوجب البغضة، ثم يقوى بالكثرة حتى يصير عداوة، ثم قال لهم يعني عيسى عليه السلام " فاتقوا الله " بأن تجتنبوا معاصيه وتفعلوا طاعاته " واطيعون " في ما أدعوكم اليه من العمل بطاعة الله.

ثم قال لهم ايضا " إن الله " الذي تحق له العبادة " هو ربي وربكم فاعبدوه " خالصا ولا تشركوا به معبودا آخر.

ثم قال " هذا صراط مستقيم " يفضي بكم إلى الجنة وثواب الله.

وقوله " فاختلف الاحزاب من بينهم " قال السدي يعني اليهود والنصارى.

وقال قتادة: يعني الفرق الذين تحزبوا في أمر عيسى عليه السلام فقال الله تعالى " فويل للذين ظلموا " نفوسهم بارتكاب معاصي الله " من عذاب يوم اليم " وهو يوم القيامة.

قوله تعالى: (هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون(66) ألاخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين(67) يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون(68) ألذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين(69) أدخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون(70))

خمس آيات بلا خلاف.

يقول الله تعالى مخاطبا لخلقه وموبخا لهم " هل ينظرون " أي هؤلاء الكفار، ومعناه هل ينتظرون " إلا الساعة " يعني القيامة.

وقيل: معناه هل ينتظر بهم لانهم لم يكونوا ينتظرونها، فاضاف اليهم مجازا.

وقيل: سميت القيامة الساعة لقرب أمرها، كأنها تكون في ساعة. ثم يحصل اهل الجنة في الجنة واهل

[214]

النار في النار، وقيل: سميت بذلك لانها ابتداء أوقات الآخرة، فهي ابتداء تجديد الساعات.

وقوله " بغتة " أي فجأة، وإنما كانت الساعة بغتة مع تقديم الانذاربها، لانهم مع الانذار لا يدرون وقت مجيئها، كما لا يدري الانسان وقت الرعد والزلازل، فتأتي بغتة وإن علم انها تكون.

ثم قال تعالى " الاخلاء " وهو جمع خليل " يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين " يعني من كانت خلته في دار الدنيا في غير طاعة الله بل كانت في معصية الله، فان تلك الخلة تنقلب عليه عداوة، لان صاحبها يتبين فساد تلك الخلة يوم القيامة وإنما كان كذلك، لان كل واحد من المتخالين في غير طاعة الله يزين لصاحبه خلاف الحق ويدعوه إلى ما يوبقه ويورثه سوء العاقبة بدل ما كان يلزمه من النصيحة له في الدعاء إلى ترك القبيح وفعل الحسن ثم استثنى من جملة الاخلاء الذين اخبر عنهم أنهم يصيرون اعداء‌ا " المتقين " لان من كانت مخالته في طاعة الله وعلى ما أمر الله به فانها تتأكد ذلك اليوم ولا تنقلب عداوة.

ثم اخبر تعالى بما يقال للمؤمنين المطيعين من عباده فانه يناديهم فيقول لهم " يا عبادي " وخصهم بأنهم عباده من حيث أطاعوه واجتنبوا معاصيه " لا خوف عليكم اليوم " من العقاب " ولا انتم تحزنون " من فوت الثواب. ثم وصف عباده وميزهم من غيرهم فقال " الذين آمنوا بآياتنا " يعني الذين صدقوا بحجج الله فاتبعوها " وكانوا مسلمين " أي مستسلمين لما امرهم الله به منقادين له.

ثم بين انه يقال لهم " ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم " اللاتي كن مؤمنات " تحبرون " أي تسرون فيها، والحبور السرور الذي يظهر في بشرة الوجه اثره، وحبرته حسنة بما يظهر أثر السرور به.

وقال قتادة وابن زيد: معنى " تحبرون "

[215]

تنعمون - قال السدي: معناه تكرمون، والمراد بالازواج من كان مستحقا للثواب ودخل الجنة.

وقيل: المراد بالازواج اللاتي يزوجهم الله بهن من الحور العين في الجنة.

قوله تعالى: (يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب وفيها ما تشتهيه الانفس وتلذ الاعين وأنتم فيها خالدون(71) وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون(72) لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون(73) إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون(74) لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون(75))

خمس آيات بلا خلاف.

قرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم " ما تشتهيه " الانفس ب‍ (هاء). الباقون " تشتهي " بلاهاء. وحذف الهاء من الصلة إذا كانت للمفعول حسن، كقوله تعالى " أهذا الذي بعث الله رسولا "(1) ومن أثبتها، فلانه الاصل.

لما استثنى الله تعالى المتقين من جملة الاخلاء الذين ثنقلب خلتهم عداوة وأن خلتهم باقية وأنه يقال لهم ولازواجهم إدخلوا الجنة محبورين، اخبر بما لهم فيها من انواع اللذات، فقال " يطاف عليهم بصحاف من ذهب واكواب " وتقديره تنقل ألوان الطعام اليهم في صحاف الذهب. ثم يؤتون باكواب الشراب على جهة الاستمتاع في جميع تلك الاحوال. والصحاف الجامات التي يؤكل فيها الوان

___________________________________

(1) سورة 25 الفرقان آية 41

[216]

الاطعمة واحدها صحفة. والذي يطوف بذلك الوصف او الوصايف من الحور العين الذين يخلقهم الله في الجنة واكتفى بذكر الصحاف والاكواب عن ذكر الطعام والشراب.

وواحد الاكواب كوب وهو إناء على صورة الابريق لا أذن له ولا خرطوم قال الاعشى:

صليفية طيبا طعمها *** لها زبد بين كوب ودن

وهو كالكأس للشراب.

وقال السدي: الصحاف القصاع.

وقوله تعالى " وفيها " يعني في الجنة " ما تشتهى الانفس وتلذ الاعين " وإنما اضاف الالتذاذ إلى الاعين وهو للسان لان المناظر الحسنة سبب من اسباب اللذة، فاضافتها إلى هذه الجهة احسن وأبلغ لما فيه من البيان مع الايجاز، لانه الموضع الذى يلتذ الانسان به عند رؤيته بعينه.

ثم قال " وانتم فيها " يعني في الجنة وفي هذه الانواع من اللذات " خالدون " أى مؤبدون.

وقوله " وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون " قال الحسن: ورث الله تعالى الذين اطاعوه وقبلوا امره ونهيه منازل الذين عصوه ولم يقبلوه أمره ونهيه. ويجوز ان يكون المراد لما كانت الجنة جزاء على أعمالهم التي عملوها وعقيب ذلك عبر عن ذلك بأنهم أورثوها.

ثم بين مالهم في الجنة ايضا فقال " لكم " معاشر المتقين " فيها " يعني في الجنة " فاكهة كثيرة " أى ثمار عظيمة " منها تأكلون ".

ثم اخبر تعالى عن حال أهل النار والعصاة فقال " إن المجرمين " يعني الذين عصوا الله " في عذاب جهنم " وعقابها " خالدون " أى دائمون " لا يفتر عنهم العذاب " واصل الفتور ضعف الحرارة " وهم فيه " يعني في العذاب (مبلسون) أى يائسون من رحمة الله وفرجه - وهو قول قتادة - والابلاس اليأس من الرحمة

[217]

من شدة الحيرة، يقال أبلس فلان إذا تجبر عند انقطاع الحجة.

قوله تعالى: (وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين(76) ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون(77) لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون(78) أم أبرموا أمرا فانا مبرمون(79) أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجويهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون(80))

خمس آيات بلا خلاف.

لما بين الله تعالى ما يفعله بالفساق والمجرمين من انواع العذاب بين انه لم يظلمهم بذلك لانه تعالى غني عن ظلمهم عالم بقبح الظلم، ومن كان كذلك لا يفعل القبيح، والظلم قبيح. وبين انهم هم الذين ظلموا أنفسهم بارتكابهم المعاصي وفعل القبائح. ثم حكى تعالى ما ينادي به هؤلاء العصاة في حال العذاب، فانهم ينادون مالكا خازن النار فيقولون (يا مالك ليقض علينا ربك) أي ليميتنا حتى نتلخص من العذاب، فيقول مالك مجيبا لهم (إنكم ماكثون) أى لا بثون فيها.

وقال ابن عباس والسدي: إنما يجيبهم مالك خازن جهنم بذلك بعد الف سنة، وقال عبدالله بن عمر: بعد أربعين سنة. وقال نوف: بعد مئة عام.

ثم اخبر تعالى إنه جاء الخلق بالحق في ما أخبر به من حال اهل الجنة واهل النار. ولكن اكثركم معاشر الخلق كارهون للحق. وإنما لا يكره ذلك المؤمنون منكم.

[218]

ثم قال (أم ابرموا أمرا فانا مبرمون) أي اجمعوا على التكذيب أي عزموا عليه فانا مجمعون على الجزاء لهم بالتعذيب - وهو قول قتادة - ويكون ذلك على وجه الازدواج، لان العزم لا يجوز عليه تعالى، ومثله (وجزاء سيئة سيئة مثلها)(1) وقيل: معناه أم احكموا أمرا في المخالفة، فانا محكمون أمرا في المجازاة.

ثم قال (ام يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم) أي يظن هؤلاء الكفار انا لا نسمع سرهم ونجواهم أي ما يخفونه بينهم وما يعلنونه.

ثم قال تعالى (بلى) نسمع ذلك وندركه ومع ذلك (رسلنا لديهم يكتبون) قال السدي وقتادة: معناه إن رسلنا الذين هم الحفظة لديهم يكتبون ما يفعلونه ويقولونه. وقد روي إن سبب نزول هذه الآية ما هو معروف في الكتب لا نطول بذكره.

قوله تعالى: (قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين(81) سبحان رب السموات والارض رب العرش عما يصفون(82) فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون(83) وهو الذي في السماء إله وفي الارض إله وهو الحكيم العليم(84) وتبارك الذي له ملك السموات والارض وما بينهما وعنده علم الساعة وإليه ترجعون(85))

خمس آيات بلا خلاف.

قيل في معنى قوله (قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين) اقوال: احدها - فانا أول الآنفين من عبادته، لان من كان له ولد لا يكون إلا

___________________________________

(1) سورة 42 الشورى آية 40

[219]

جسمامحدثا ومن كان كذلك لا يستحق العبادة، لانه لا يقدر على النعم التي يستحق بها العبادة تقول: العرب عبدت فصمت قال الفرزدق: واعبد ان يهجى كليب بدارم(1) وقال آخر:

ألا هذيت أم الوليد واصبحت *** لما أبصرت في الرأس مني تعبد(2)

الثاني - ما قاله ابن زيد وابن أسلم وقتادة: إن (ان) بمعنى (ما) وتقديره ما كان للرحمن ولد فأنا اول العابدين لله.

الثالث - هو انه لو كان له ولد لعبدته على ذلك كما تقول لو دعت الحكمة إلى عبادة غير الله لعبدته لكنها لا تدعوا إلى عبادة غيره، وكما تقول: لو دل الدليل على أن له ولدا لقلت به، لكنه لا يدل، فهذا تحقيق نفي الولد لانه تعليق محال بحال.

الرابع - قال السدي: لو كان له ولد لكنت اول من عبده بأن له ولدا، لكن لا ولد. وهذا قريب من الوجه (الثالث).

الخامس - إن كان لله ولد على قولكم، فأنا أول من وحده وعبده على ان لا ولد له - ذهب اليه مجاهد - وإنما لم يجز على الله تعالى الولد لانه لا يخلو من ان يضاف اليه الولد حقيقة او مجازا، وحقيقته أن يكون مخلوقا من مائه او مولودا على فراشه، وذلك مستحيل عليه تعالى.

ومجازه أن يضاف اليه على وجه التبني وإنما يجوز فيمن يجوز عليه حقيقته، ألا ترى انه لا يقال تبنى شاب شيخا لما لم يمكن أن يكون له ولد حقيقة، وانما جاز ان يضاف إلى شيخ شاب على انه تبناه لما

___________________________________

(1) القرطبي 16 / 120 والشوكاني 4 / 550.

(2) تفسير الطبرى 25 / 55

[220]

كان حقيقته مقدورة فيه، وكذلك لا يقال تبنى انسان بهيمة لما كان يستحيل أن يكون مخلوقا من مائه او على فراشه، فلما استحال حقيقته على الله تعالى استحال عليه مجازه ايضا. وإنما جاز أن يقال روح الله، ولم يجز ان يقال ولد الله لان روح الله بمعنى ملك الله للروح، وإنما اضيف اليه تشريفا. وإن كانت الارواح كلها لله بمعنى انه مالك لها. ولا يعرف مثل ذلك في الولد. ثم نزه نفسه تعالى عن اتخاذ الولد فقال (سبحان رب السموات والارض) يعني الذي خلقهن (رب العرش) أي خالقه ومدبره (عما يصفون) من اتخاذ الولد، لان من قدر على خلق ذلك وإنشائه مستغن عن اتخاذ الولد. ثم قال لنبيه صلى الله عليه واله على وجه التهديد للكفار (فذرهم) أي اتركهم (يخوضوا) في الباطل (ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذين يوعدون) بمعنى يوعدون فيه بالعذاب الابدي.

وقال تعالى (وهو الذي في السماء إله) أي يحق له العبادة في السماء ويحق له العبادة في الارض، وإنما كرر لفظة إله في قوله (وفي الارض إله) لاحد امرين: احدهما - للتأكيد ليتمكن المعنى في النفس لعظمه في باب الحق. الثاني - إن المعنى هو في السماء إله، يجب على الملائكة عبادته، وفي الارض اله يجب على الآدميين عبادته (وهو الحكيم) في جميع افعاله (العليم) بجميع المعلومات (وتبارك) وهو مأخوذ من البرك وهو الثبوت، ومعناه جل الثابت الذي لم يزل ولا يزال.

وقيل: معناه جل الذي عمت بركة ذكره (الذي له ملك السموات والارض) أي الذى له التصرف فيهما بلا دافع ولا منازع (وما بينهما وعنده علم الساعة) يعني علم يوم القيامة، لانه لا يعلم وقته على التعيين غيره (واليه ترجعون) يوم القيامة فيجازي كلا على قدر عمله.

[221]

فمن قرأ بالتاء خاطب الخلق. ومن قرأ بالياء رد الكناية إلى الكفار الذين تقدم ذكرهم.

قوله تعالى: (ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون(86) ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون(87) وقيله يارب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون(88) فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون(89))

أربع آيات بلا خلاف قرأ عاصم وحمزة (وقيله) بكسر اللام على تقدير وعنده علم الساعة وعلم قيله. والباقون بالنصب.

وقال الاخفش: ردا على قوله (أم يحسبوا أنا لا نسمع سرهم... وقيله) وهو نصب على المصدر.

وقال قوم: معناه أم يحسبون انا لا نسمع سرهم ولعلمهم وقيله، لانه لما قال (وعنده علم الساعة) كان تقديره ويعلم قيله، وقرأ قتادة (وقيله) بالرفع جعله ابتداء.

يقول الله تعالى مخبرا إن الذي يدعونه الكفار إلها ويوجهون عبادتهم اليه من الاصنام والاوثان وغيرها لا يملكون من دون الله الشفاعة. وهي مسألة الطالب العفو عن غيره وإسقاط الضرر عنه، لان حقيقة الشفاعة ذلك. وعند قوم يدخل فيها المسألة في زيادة المنافع. ثم استثنى من جملتهم من شهد بالحق وهم عالمون بذلك وهم الملائكة وعيسى وعزير.

وقيل: المعنى ولا يشفع الملائكة وعيسى وعزير لامن شهد بالحق، وهو يعلم الحق - ذكره مجاهد - وقال قوم (الا من شهد بالحق) الملائكة وعيسى وعزير لهم عند الله شهادة بالحق. وقيل: المعنى إلا من يشهد بأنه

[222]

أهل العفو عنه (وهم يعلمون) ذلك. وهؤلاء أصحاب الصغائر والذين تابوا من الكبائر.

ثم قال تعالى و (لئن سألتهم) يا محمد يعني هؤلاء الكفار (من خلقهم) وأخرجهم من العدم إلى الوجود (ليقولن الله) لانهم يعلمون ضرورة أن الاصنام لم تخلقهم. فقال الله تعالى معنفا لهم (فأني يؤفكون) مع علمهم بأن الله هو خالقهم، فكيف ينقلبون عن عبادته إلى عبادة غيره.

وقوله (وقيله يارب) من نصبه احتمل ان يكون بقوله (إلا من شهد بالحق) وقال (قيله يارب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون) على وجه الانكار عليهم. وقيل: المعنى أم يحسبون انا لا نسمع سرهم ونجواهم... وقيله.

وقال الزجاج: الاختيار (وعنده علم الساعة) ويعلم (قيله) ومن جر فعلى تقدير وعنده علم الساعة وعلم قيله يارب.

وقيل: معنى (وقيله) أنه شكا محمد صلى الله عليه واله شكوة إلى ربه.

ثم قال لنبيه صلى الله عليه واله (فاصفح عنهم) أي اعف عنهم.

قال قتادة: وكان ذلك قبل أمره إياه بقتالهم (وقل سلام) رفع على تقديره وهو عليكم سلام أي ما سلم به من شرهم وأذاهم.

وقال الحسن: يعني (وقل سلام) احلم عنهم ثم هددهم فقال (فسوف تعلمون) بالتاء على وجه الخطاب.

الباقون بالياء على الخبر عن الكفار الذين مضى ذكرهم.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/books/index.php?id=1298
  • تاريخ إضافة الموضوع : 0000 / 00 / 00
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29