• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم / المكتبة .
              • الكتاب : التبيان في تفسير القرآن ( الجزء التاسع ) ، تأليف : شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي .
                    • الموضوع : سورة حم السجدة .

سورة حم السجدة

41 - سورة حم السجدة

هي مكية في قول قتادة ومجاهد ليس فيها ناسخ ولا منسوخ وهي اربع وخمسون.

آية كوفي وثلاث في المدنيين واثنتان وخمسون في البصري والشامي.

الآية: 1 - 25

بسم الله الرحمن الرحيم

(حم(1) تنزيل من الرحمن الرحيم(2) كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون(3) بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون(4) وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون(5))

خمس آيات في الكوفي وأربع في الباقي عد الكوفيون " حم " ولم يعده الباقون.

قرأ بعض الكوفيين (حم) رفع ب‍ (تنزيل) ر (تنزيل) رفع ب‍ (حم) وقال الفراء: ارتفع (تنزيل) باضمار (ذلك) او هذا تنزيل.

وقال البصريون (تنزيل) رفع بالابتداء، وخبره " كتاب فصلت آياته " و " قرانا " نصب على المصدر او الحال ذهب اليه قوم. قد بينا اختلاف المفسرين في معنى قوله (حم) فلا وجه لا عادته.

[104]

وقيل: في وجه الاشتراك في اسماه هذه السور السبع ب‍ (حم) انه للمشاكلة التي بينهما بما يختص به بما ليس لغيرها، لانه إسم علم أجري على الصفة الغالبة بما يصح فيه الاشتراك، والتشاكل الذي اختصت به هو ان كل واحدة منها استفتحت بصفة الكتاب مع تقاربها في الطول والقصر ومع شدة تشاكل الكلام في النظام، وحكم الكتاب البيان عن طريق النجاة الذي يصغر كل شئ في حنب الفائدة به من طريق الهلاك الذي لا صبر للنفس عليه، وهو على وجوه: منها تبيين الواجب مما ليس بواجب، وتبيين الاولى في الحكمه مما ليس بأولى، وتبيين الجائز مما ليس بجائز، وتبيين الحق في الدين من الباطل، وتبيين الدليل على الحق مما ليس بدليل، وتبيين ما يرغب فيه مما لا يرغب فيه، وما يحذر منه مما لا يحذر مثله. وغير ذلك من وجوه أحكامه وهي اكثر من ان تحصى.

وقوله " تنزل من الرحمن الرحيم " وصف الكتاب بأنه تنزيل لان جبرائيل عليه السلام نزل به على محمد صلى الله عليه واله وفى ذلك دلالة على حدوثه، لان التنزيل لا يكون إلا محدثا.

وقوله " كتاب فصلت آية " أي هذا كتاب، وإنما وصف القرآن بأنه كتاب وإن كان المرجع فيه إلى كلام مسموع، لانه مما ينبغي أن يكتب ويدون لان الحافظ ربما نسيه او نسي بعضه، فينذكر، وغير الحافظ فيتعلم منه.

وقوله " فصلت آياته " معناه ميزت دلائله. وإنما وصفه بالتفصيل دون الاجمال، لان التفصيل يأتى على وجوه البيان، لانه تفصيل جملة عن جملة او مفرد عن مفرد، ومدار أمر البيان على التفصيل والتمييز في ما يحتاج اليه من أمور الدين إذ العلم

[105]

علمان: علم دين وعلم دنيا وعلم الدين أجلهما واشرفهما لشرف النفع به.

وقيل: " فصلت آياته " بالامر والنهي والوعد والوعيد والترغيب والترهيب.

ونصب قوله " قرآنا عربيا " على الحال - في قول الزجاج - وتقديره فصلت آياته في حال جمعه.

ووصف بأنه قرآن، لانه جمع بعضه إلى بعض، وبأنه عربي لانه يخالف جميع اللغات التي هي ليست عربية " لقوم يعلمون " أي لمن يعلم العربية.

وقوله " بشيرا " أي مبشرا بالجنة وثوابها " ونذيرا " أي مخوفا من النار وعقابها.

وقوله " فاعرض اكثرهم " اخبار منه تعالى عن الكفار أن اكثرهم يعدل عن التفكر فيه وعن سماعه " فهم لا يسمعون " لعدولهم عنه. ويجوز أن يكون مع كونهم سامعين إذا لم يفكروا فيه ولم يقبلوه فكأنهم لم يسمعوه.

وقال البلخي: معناه إنهم يفعلون فعل من لا يسمعه، لانهم مع سماعه يستثقلونه ويعرضون عن الفكر فيه.

ثم حكى ما قاله الكفار من قولهم " قلوبنا في أكنة مما تدعونا اليه " قال مجاهد والسدي: معناه في أغطية وإنما قالوا ذلك لييؤسوا النبي صلى الله عليه واله من قبولهم دينه، فهو على التمثيل، فكأنهم شبهوا قلوبهم بما يكون في غطاء فلا يصل اليه شئ مما وراء‌ه، وفيه تحذير من مثل حالهم في كل من دعي إلى امر أن لا يمتنع ان يكون هو الحق، فلا يجوز ان يدفعه بمثل ذلك الدفع " وفي آذاننا وقر " أي ثقل عن استماع هذا القرآن " ومن بيننا وبينك حجاب " قيل الحجاب الخلاف الذى يقتضي أن يكون بمعزل عنك.

قال الزجاج: معناه حاجز في النحلة والدين أي لا نوافقك في مذهب " فاعمل اننا عاملون " معناه فاعمل بما يقتضيه دينك، فانا عاملون بما يقتضيه ديننا، وقال الفراء: معناه فاعمل في هلاكنا، فاننا عاملون في هلاكك، تهديدا منهم.

[106]

قوله تعالى: (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين(6) الذين لا يؤتون الزكوة وهم بالآخرة هم كافرون(7) إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون(8) قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الارض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين(9) وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين(10))

خمس آيات بلا خلاف.

قرأ ابوجعفر " سواء " رفعا. وقرأه يعقوب خفضا. وقرأه الباقون نصبا. فمن رفعه فعل الاستئناف. ومن خفضه جعله نعتا للايام. ومن نصبه فعلى المصدر.

امر الله تعالى نبيه صلى الله عليه واله أن يقول لهؤلاء الكفار " إنما انا بشر مثلكم " لحم ودم، ومن ولد آدم، وإنما خصني الله بنبوته وأمرني برسالته وميزني منكم بأني " يوحى إلي أنما إلهكم " الذي يستحق العبادة " إله واحد " لا شريك له في العبادة (فاستقيموا اليه) أي استمروا على وجه واحد في الطاعة له وإخلاص العبادة له على ما تقتضيه الحكمة " واستغفروه " أي واطلبوا المغفرة من جهته لذنوبكم.

[107]

ثم اخبر فقال " فويل للمشركين " الذين اشركوا بعبادة الله غيره من الاصنام والاوثان ووصفهم بانهم " الذين لا يؤتون الزكاة " وقال الحسن: معناه لا يؤتون ما يكونون به ازكياء اتقياء من الدخول في دين الله.

وقال الفراء: الزكاة في هذا الموضع ان قريشا كانت تطعم الحاج وتسقيهم فحرموا ذلك على من آمن بمحمد صلى الله عليه واله.

وقال قوم: إنما توعدهم على ترك الزكاة الواجبة عليهم لانهم متعبدون بجميع العبادات ويعاقبون على تركها وهو الظاهر.

وقال الزجاج: معناه وويل للمشركين الذين لا يؤمنون بأن الزكاة واجبة.

وإنما خص الزكاة بالذكر تقريعا لهم على شحهم الذي يأنف منه أهل الفضل ويتركون ما يقتضي انهم ان يعملوه عملوه لاجله. وفي ذلك دعاء لهم إلى الايمان وصرف لهم عن الشرك. وكان يقال: الزكاة قنطرة الايمان فمن عبرها نجا.

وقال الطبري: معناه الذين لا يعطون الله الطاعة التي يطهرهم بها ويزكي أبدانهم، ولا يوحدونه.

وقال عكرمة: هم الذين لا يقولون: لاإله إلا الله. وقد بينا أن الاقوى قول من قال إن الذين لا يؤدون زكاة اموالهم، لان هذا هو حقيقة هذه اللفظة " وهم بالآخرة هم كافرون " معناه وهم مع ذلك يجحدون ما أخبرالله به من الثواب والعقاب في الآخرة.

ثم اخبر الله تعالى عن المؤمنين فقال " ان الذين يؤمنون بالآخرة " أي يصدقون بأمر الآخرة من الثواب والعقاب " وعملوا الصالحات " أي الطاعات " لهم اجر غير ممنون " أي لهم جزاء على ذلك غير مقطوع، بل هو متصل دائم، ويجوز ان يكون معناه انه لا أذى فيه من المن الذي يكدر الصنيعة.

ثم امر النبي صلى الله عليه واله ان يقول لهم على وجه الانكار عليهم بلفظ الاستفهام " أئكم لتكفرون بالذي خلق الارض في يومين " أي تجحدون نعمة من خلق الارض في يومين " وتجعلون له اندادا " أي تجعلون له اشباها وامثالا في استحقاق العبادة.

[108]

ثم قال الذي يستحق العبادة " ذلك رب العالمين " الذي خلق الخلائق وملك التصرف فيهم.

وقوله " وجعل فيها رواسي من فوقها " أي وخلق في الارض جبالا راسيات ثابتات فوق الارض " وبارك فيها " بما خلق فيها من المنافع " وقدر فيها اقواتها في أربعة ايام سواء للسائلين " روي عن النبي صلى الله عليه واله انه قال (إن الله خلق الارض يوم الاحد والاثنين وخلق الجبال يوم الثلاثاء وخلق الشجر والماء والعمران والخراب يوم الاربعاء فتلك أربعة ايام وخلق يوم الخميس السماء وخلق يوم الجمعة الشمس والقمر والنجوم والملائكة وآدم).

وقال الحسن والسدي: وابن زيد " قدر فيها اقواتها " أي ارزاقها.

وقال قتادة: معناه قدر فيها مافيه صلاحها.

قال ابوعبيدة، الاقوات جمع قوت وهي أرزاق الخلق وما يحتاجون اليه.

وقيل: إنما خلق ذلك شيئا بعد شئ في هذه الاربعة ايام لتعتبر به الملائكة وقيل: لاعتبار العباد في الاخبار عن ذلك إذا تصوروه على تلك الحال.

وقال الزجاج: الوجه فيه تعليم الخلق التأني في الامور وألا يستعجلوا فيها بأن الله تعالى كان قادرا على ان يخلق ذلك في لحظة. لكن خلقها في هذه المدة لما قلنا.

وقال قوم إنما خلق ذلك في هذه المدة ليعتبروا بذلك على انها صادرة من قادر مختار عالم بالمصالح وبوجوه الاحكام إذ لو كان صادرا عن مطبوع او موجب لحصلت في حالة واحدة.

وقال الزجاج: " في اربعة ايام " معناه في تتمة اربعة أيام.

وقوله " سواء للسائلين " قال قتادة والسدي: معناه سواء للسائلين عن ذلك لان كلا يطلب القوت ويسأله. وفي قراء‌ة عبدالله " وقسم فيها اقواتها " ومعناه خلق في هذه البلدة ما ليس في هذه ليتعايشوا ويتجروا. ومن نصب (سواء) فعلى تقدير استوت سواء واستواه لمن سأل في كم خلقت السموات والارض؟ فقيل في اربعة أيام سواء لا زيادة ولا نقصان.

[109]

قوله تعالى: (ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللارض أئتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين(11) فقضيهن سبع سموات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم(12) فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود(13) إذ جاء‌تهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم ألا تعبدوا إلا الله قالوا له شاء ربنا لانزل ملئكة فانا بما أرسلتم به كافرون(14) فأما عاد فآستكبروا في الارض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون(15))

اربع آيات في البصري والشامي وخمس في ما عداه. إختلفوا في قوله " وثمود " فلم يعدها البصريون والشاميون وعدها الباقون.

اخبر الله تعالى انه بعد خلق الارض والجبال وتقدير الاقوات فيها " استوى إلى السماء وهي دخان " قال الحسن: معناه استوى امره ولطفه إلى السماء. وقال غيره: معنى الاستواء إلى السماء العمد والقصد اليها، كأنه قال: ثم قصد اليها. واصل الاستواء الاستقامة والقصد للتدبير المستقيم تسوية له.

[110]

وقوله " ثم استوى على العرش "(1) معناه ثم استوى تدبيره بتقدير القادر عليه. وقيل إن الاستوى بمعنى الاستيلاء، كما قال الشاعر:

ثم استوى بشر على العراق *** من غير سيف ودم مهراق(2)

فاما الاستواء عن اعوجاج فمن صفات الاجسام لا يجوز ذلك على الله تعالى.

وقوله " ثم استوى إلى السماء " يفيد انه خلق السماء بعد خلق الارض وخلق الاقوات فيها، ولا ينافي ذلك قوله " أأنتم اشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها " إلى قوله (والارض بعد ذلك دخاها)(3) لان ذلك يفيد أن الارض كانت مخلوقة غير مدحوة، فلما خلق الله السماء دخا بعد ذلك الارض فبسطها، وإنما جعل الله السموات أولا دخانا ثم سبع سموات طباقا ثم زينها بالمصابيح، لما في ذلك من الدلالة على أن صانعها وخالقها ومدبرها ليس كمثله شئ من الموجودات غني عن كل شئ سواه، وإن كل ما سواه يحتاج اليه من حيث انه قادر لنفسه لا يعجزه شئ، عالم لنفسه لا يخفى عليه شئ.

و (الدخان) جسم لطيف مظلم، فالله تعالى خلق السموات اولا دخانا ثم نقلها إلى حال السماء من الكثافة والالتئام لما في ذلك من الاعتبار واللطف لخلقه.

وقوله (فقال لها وللارض ائتيا طوعا او كرها قالتا اتينا طائعين) قال ابن عباس أتت السماء بما فيها من الشمس والقمر والنجوم وأتت الارض بما فيها من الانها والاشجار والثمار، وليس هناك أمر بالقول على الحقيقة ولا إطاعة، ولا

___________________________________

(1) سورة 7 الاعراف آية 53 وسورة 10 يونس آية 3 وسورة 13 الرعد آية 2 وسورة 25 الفرقان آية 59 وسورة 32 الم السجدة آية 4 وسورة 57 الحديد آية 4.

(2) مر في 1 / 125 و 2 / 396 و 4 / 452 و 5 / 386.

(3) سورة 79 النازعات آية 30

[111]

جواب لذلك القول بل أخبرتعالى عن اختراعه السموات والارض وانشائه لهما من غير تعذر ولا مشقة ولا كلفومن غير ملابسة ولا معاناة بمنزلة ما قيل: للمأمور افعل ففعل من غير تلبث ولا توقف، فعبر عن ذلك بالامر والطاعة وهو كقوله (كن فيكون)(1) وقد بينا الوجه في ذلك ويكون التقدير كأنه قيل: أتينا بمن فينا طائعين أي سبحانه فعل الطبائع في ما أمر به وإنما قلنا ذلك لانه تعالى لا يأمر المعدوم ولا الجماد، لان ذلك قبيح يتعالى الله عن ذلك ومثل ذلك قول الشاعر:

امتلا الحوض وقال قطني *** مهلا رويدا قد ملات بطني(2)

ونظائر ذلك كثيرة بيناها في ما مضى وإنما قال (طائعين) ولم يقل طائعتين، لانه لما اسند الفعل اليهما وهو مالا يكون إلا من العقلاء اخبر عنهما بالياء والنون، وقال قطرب: لان المعنى أتينا بمن فينا من العقلاء فغلب حكم العقلاء.

وقال الشاعر:

فاجهشت للتوباد حين رأيته *** وكبر للرحمن حين رآني

فقلت له اين الذين عهدتهم *** بجنبيك في حفض وطيب زمان

فقال مضوا واستودعوني بلادهم *** ومن ذاالذي يبقى على الحدثان(3)

وقوله (فقضاهن سبع سموات في يومين) معناه جعلهن سبع سموات على اتمام خلقهن لان القضاء جعل الشئ على إتمام وإحكام ولذلك قيل: انقضى أي قدتم ومضى، وقضى فلان إذا مات، لان عمره تم ومضى.

وقيل: إن السماء موج مكفوف، روي ذلك في الخبر عن النبي صلى الله عليه واله.

وقال الحسن: هي سبع ارضين بين كل أرضين مسيرة خمسمائة عام.

___________________________________

(1) سورة 36 يس آية 82 وغيرها.

(2) مر في 1 / 431 و 8 / 85، 369.

(3) قد مر في 8 / 369

[112]

وقوله (في يومين) قال السدي: خلق الله السموات وسواها يوم الخميس والجمعة وسمي جمعة لانه جمع في خلق السموات والارض، وإنما خلقها في يومين نظير خلق الارض في يومين، فان قيل: قوله (خلق الارض في يومين) وخلق الجبال والاقوات في اربعة أيام وخلق السموات في يومين يكون ثمانية ايام، وذلك مناف لقوله (إن ربكم الله الذي خلق السموات والارض في ستة ايام)(1) قلنا: لا تنافي بين ذلك، لانه خلق السموات والارض وخلق الجبال والاشجار والاقوات في اربعة أيام منها اليومان المتقدمان، كما يقول القائل: خرجت من البصرة إلى بغداد في عشرة ايام ثم إلى الكوفة في خمسة عشر يوما أي في تمام هذه العدة، ويكون قوله (فقضاهن سبع سموات في يومين) تمام ستة أيام. وهو الذي ذكره في قوله في ستة أيام. وزال الاشكال.

وقوله (واوحى في كل سماه أمرها) قال السدي معناه جعل فيها ما اراده من ملك وغيره. وقيل معناه أوحي في كل سماء بما يصلحها " وزينا السماء الدنيا بمصابيح " روي ان الكواكب في السماء الدنيا، وهي الاقرب إلى الارض دون ما فوقها من السموات.

وقوله (وحفظا) منصوب على المعنى وتقديره جعلناها زينة وحفظا أي وجعلناها حفظا من استراق الشياطين السمع بالكواكب التي جعلت فيها.

وقيل: حفظا من ان تسقط على الارض (ذلك تقدير العزيز العليم) يعني القادر الذي لا يغالب العليم بجميع الاشياء لا يخفى عليه شئ منها.

ثم قال لنبيه صلى الله عليه واله (فان أعرضوا) يعني ان عدل الكفار عن الفكر في ما ذكرنا والتدبر لما بينا وأبوا إلا الشرك والجحود (فقل) لهم مخوفا لهم (انذرتكم

___________________________________

(1) سورة 7 الاعراف آية 53 وسورة 10 يونس آية 3

[113]

صاعقة) أي خوفتكم إياها ان ينزل بكم كما نزل بمن قبلكم ونصب (صاعقة) على انه مفعول ثان (مثل صاعقة عاد وثمود) التي أرسلها الله عليهم واهلكهم بها، فقال السدي: الصاعقة اراد بها العذاب، وقال قتادة: معناه وقيعة.

وقيل: إن عادا اهلكت بالريح والصاعقة جميعا.

وقوله (إذ جاء‌تهم الرسل من بين ايديهم) ف‍ (إذ) متعلقة بقوله (صاعقة) أي نزلت بهم إذ جاء‌تهم الرسل من بين ايديهم ومن خلفهم، منهم من تقدم زمانه ومنهم من تأخر عنه، وقال الفراء: اتت الرسل إياهم ومن كان قبلهم ومن خلفهم أي وجاء‌تهم انفسهم رسل من بعد اولئك الرسل فيكون الهاء والميم في خلفهم للرسل، ويكون لهم بجعل ما خلفهم ما معهم.

وقال قوم: معناه قبلهم وبعد أن بلغوا وتعبدوا بأمر الرسل الذين تقدموهم، قال البلخي: ويجوز أن يكون المراد أتتهم اخبار الرسل من ههنا وههنا مع ما جاء‌هم منهم (ألا تعبدوا إلا الله) أي ارسلناهم بأن لا يعبدوا إلا الله وحده لا شريك له وألا يشركوا بعبادته غيره، فقال المشركون عند ذلك (لو شاء ربنا) أن نؤمن ونخلع الانداد " لا نزل ملائكة " يدعوننا إلى ذلك ولم يبعث بشرا مثلنا، فكأنهم انفوا من الانقياد لبشر مثلهم وجهلوا أن الله يبعث الانبياء على ما يعلم من مصالح عباده ويعلم من يصلح للقيام بها وقالوا لهم ايضا (إنا) معاشر قومنا (بما أرسلتم به) من إخلاص العبادة والتوحيد (كافرون) جاحدون، ثم فصل تعالى اخبارهم فقال (فاما عاد فاستكبروا في الارض بغير الحق) أي تجبروا وعتوا وتكبروا على الله بغير حق جعله الله لهم بل للكفر المحض والظلم الصراح (وقالوا من أشد منا قوة) لما كان الله تعالى اعطاهم من فضله قوة تقوا بها على اهل زمانهم، فقال الله تعالى (او لم يروا)

[114]

ومعناه او لم يعلموا (ان الله الذي خلقهم) واخترعهم وخلق فيهم هذه القوة (اشد منهم قوة) واعظم اقتدارا (وكانوا) مع ذلك (بآيات الله) وادلته (يجحدون) أي ينكرونها، ولا يعترفون بها.

قوله تعالى: (فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحيوة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون(16) وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون(17) ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون(18) ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون(19) حتى إذا ما جاؤها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون(20))

خمس آيات بلا خلاف.

قرأ ابن كثير وابوعمرو ونافع (نحسات) ساكنة الحاء، الباقون بكسرها، لان (نحسات) صفة، تقول العرب، يوم نحس مثل رجل هرم. وقيل: هما لغتان، وقرأ نافع ويعقوب (ويوم نحشر) بالنون كقوله (ونحشره يوم القيامة اعمى)(1) وقوله (ونجينا الذين آمنوا) بالنون. الباقون بضم الياء على مالم يسم فاعله، لانه عطف عليه.

قوله (فهم يوزعون) فطابق بينهما. لما حكى الله عن عاد وثمود انه ارسل اليهم رسلا وأمرهم بعبادة الله وحده

___________________________________

(1) سورة 20 طه آية 124

[115]

وأن لا يشركوا به شيئا وانهم كفروا بذلك وجحدوه. واخبر انه أهلكهم بأن أرسل عليهم ريحا صرصرا أي شديدا صوته واشتقاقه من الصرير ولذلك ضوعف اللفظ اشعارا بمضاعفة المعنى، يقال صريصر صريرا، وصرصر يصرصر صرصرة وريح صرصر شديد هبوبها.

وقال قتادة: يعني باردة وقال السدي: باردة ذات صوت.

وقال مجاهد: شديدة السموم.

وقيل: اصله صرر قلبت الراء صادا، كما قيل: رده، ورد ده، ونههه ونهنهه.

وقال رؤية:

فاليوم قد نهنهني تنهنهي *** وأولى حلم ليس بالمتقه(1)

وكما قيل: كففه وكفكفه، قال النابغة:

اكفكف عبرة غلبت عبراتي *** إذا نهنتها عادت ذباحا(2)

ومنه سمي نهر صرصر لصوت الماء الجاري فيه، وقوله (في أيام نحسات) قال مجاهد وقتادة والسدي: يعني مشومات، والنحس سبب الشر، والسعد سبب الخير، وبذلك سميت سعود الايام ونحوسها وسعود النجوم ونحوستها، ومن سكن الحاء خففه، ومن جرها فعلى الاصل.

وقال ابوعبيدة: معناه ايام ذات نحوس أي مشائيم العذاب.

وقوله (لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا) إخبار منه تعالى انه انما يفعل بهم ذلك ليذيقهم حال الهوان في الدنيا، والخزي الهوان الذي يستحيا منه خوفا من الفضيحة، يقال: خزي يخزي خزيا واخزاه الله إخزاء فهو مخزي. ثم بين تعالى ان عذاب الآخرة اخزى وافضح من ذلك فقال (ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون) أي لا يدفع عنهم العذاب الذي ينزل بهم.

ثم قال تعالى (واما ثمود فهديناهم) فالذي عليه القراء رفع الدال، وقرأ

___________________________________

(1، 2) تفسير الطبري 24 / 59، 60

[116]

الحسن بالنصب على تقدير هديناثمود هديناهم، والرفع اجود، لان (اما) لا يقع بعدها إلا الاسماء، فالنصب ضعيف. والمعنى واما ثمود دللناهم على طريق الرشاد فعدلوا عنها إلى طريق الغي والفساد، والهدي يتصرف على وجوه بيناها في ما مضى.

وقال ابن عباس وقتادة والسدي وابن زيد: معناه بينا لهم، وإنما لم يصرف ثمود لانه اسم القبيلة او الامة، وهو معرفة. وإنما رفع لان (أما) رفع الاسم بعدها اولى.

وقوله (فاستحبوا العمى على الهدى) معناه اختاروا العمى على طريق الحق والاهتداء اليها وبئس الاختيار ذلك - وهو قول الحسن. وفى الآية دلالة على بطلان قول المجبرة في ان الله يضل الكفار عن الدين ولا يهديهم اليه لانه صرح بأنه هدى ثمود إلى الدين وانهم اختاروا العمى على الهدى، وذلك واضح لا اشكال فيه.

وقوله (فاخذتهم صاعقة العذاب الهون) أي ارسل عليهم الصاعقة التي بعثها للعذاب دون غيره، والهون والهوان واحد - في قول ابي عبيدة - وقال السدي: معناه الهوان (بما كانوا يكسبون) أي جزاء على ما كسبوه من الشرك والكفر.

وقوله (ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون) اخبار من الله تعالى انه خلص من جملتهم من آمن بالله واتقى معاصيه خوفا من عقابه نجاهم الله من ذلك العذاب. ثم قال تعالى (ويوم يحشر اعداء الله) يبعثون وهو يوم القيامة.

فمن قرأ بالنون فعلى الاخبار من الله عن نفسه بذلك.

ومن قرأ بالياء المضمومة فعلى انهم يبعثون ويجمعون إلى النار (فهم يوزعون) أي يمنعون من التفرق ويحبسون ويكفون، يقال: وزعت الرجل إذا منعته، ومنه قول الحسن لابد للناس من وزعة وقوله (اوزعني) أي الهمني.

[117]

وقول الشاعر: وإني بها باذا المعارج موزع ويروى موزع (حتى إذا ماجاؤها)

معناه حتى إذا أتي هؤلاء الكفار النار، واراد الله إلقاء‌هم فيها (شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون) وقيل: في شهادة هذه الجوارح قولان: احدهما - انها تبنى بنية حي وتلجأ إلى الشهادة والاعتراف بما فعله اصحابها. والآخر - ان يفعل فيها الشهادة ويضاف اليها مجازا. ووجه ثالث - قال قوم: إنه يظهر فيها امارات تدل على كون اصحابها مستحقين للنار، فسمى ذلك شهادة مجازا. كما يقال: عيناك تشهد بسهرك أي فيها ما يدل على سهرك.

وقيل: المراد بالجلود الفروج، على طريق الكناية. وقيل: لا: بل الجلود المعروفة وهو الظاهر.

قوله تعالى: (وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شئ وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون(21) وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون(22) وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرديكم فأصبحتم من الخاسرين(23) فان يصبروا فالنار مثوى لهم وإن يستعتبوا فماهم من المعتبين(24) وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم وحق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والانس إنهم كانوا خاسرين(25))

خمس آيات بلا خلاف.

[118]

هذا حكاية من الله من الكفار في الآخرة بعد ما شهدت عليهم ابصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون من المعاصي في دار الدنيا أنهم يقولون (لجلودهم لم شهدتم علينا) منكرين عليهم إقامة تلك الشهادة.

وقيل: اشتقاق الجلد من التقوية من قولهم: فلان يتجلد على كذا، وهو جلد أي قوي، فتقول جلودهم في الجواب عن ذلك (أنطقنا الله الذي أنطق كل شئ) فالانطاق جعل القادر على الكلام ينطق إما بالالجاء إلى النطق أو الدعاء اليه. فهؤلاء يلجئهم الله إلى ان ينطقوا بالشهادة. والنطق إدارة اللسان في الفم بالكلام، ولذلك لا يوصف تعالى بأنه ناطق، وإن وصف بأنه متكلم.

ومعنى (أنطق كل شئ) أي كل شئ لا يمتنع منه النطق كالاعراض والموات، والفائدة في الاخبار عنهم بذلك التحذير من مثل حالهم في ما ينزل بهم من الفضيحة بشهادة جوارحهم عليهم بما كانوا يعملون من الفواحش. فلم يكن عندهم في ذلك اكثر من هذا القول الذي لا ينفعهم وقال قوم: إن الجوارح تشهد عليهم حين يجحدون ما كان منهم.

وقوله (وهو خلقكم أول مرة) اخبار منه تعالى وخطاب لخلقه بأنه الذي حلقهم في الابتداء (واليه ترجعون) في الآخرة إلى حيث لا يملك احد النهي والامر سواه.

وقوله (وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا ابصاركم ولا جلودكم) قال مجاهد (وما كنتم تستترون) أي تتقون.

وقال السدي: معناه لم تكونوا في دار الدنيا تستخفون عن معاصي الله بتركها. وقيل: إن الآية نزلت في ثلاثة

[119]

نفر تساروا، فقال بعضهم لبعض: أترى الله يسمع إسرارنا؟ وقال الفراء: معناه لم تكونوا تخافون ان تشهد عليكم جوارحكم فتستتروا منها ولم تكونوا تقدروا على الاستتار منها، ويكون على وجه التغيير أي ولم تكونوا تستترون منها.

وقوله (ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون) وصف لهؤلاء الكفار بأنهم ظنوا انه تعالى يخفى عليه أسرارهم ولا يعلمها، فبين الله بذلك جهلهم به تعالى، وانهم وإن علموه من جهة انه قادر غير عاجز وعالم بما فعلوا فاذا ظنوا انه يخفى عليه شئ منها فهو جاهل على الحقيقة تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. وفي قراء‌ة عبدالله (ولكن زعمتم) قال الفراء: الزعم والظن يكونان بمعنى واحد وقد يختلفان.

ثم حكى ما يخاطبهم به فانه يقال لهم (وذلكم ظنكم) معاشر الكفار (الذي ظننتم بربكم أرادكم) أي اهلككم يقال: ردى فلن يردى إذا هلك قال الاعشى:

أي الطوف خفت علي الردى *** وكم من رد أهله لم يرم(1)

وقوله (فاصبحتم من الخاسرين) معناه فظللتم من جملة من خسر في تجارته لانكم خسرتم الجنة وحصل لكم النار.

ثم قال (فان يصبروا فالنار مثوى لهم) قال البلخي: معناه فان يتخيروا المعاصي فالنار مصيرلهم، وقال قوم: معناه وإن يصبروا في الدنيا على المعاصي فالنار مثواهم (وإن يستعتبوا) - بضم الياء - قرأ به عمرو ومعناه إن طلب منهم العتبى لم يعتبوا أي لم يرجعوا ولم ينزعوا.

وقال قوم: المعنى فان يصبروا أو يجزعوا فالنار مثوى لهم، (وإن يستعتبوا) معناه فان يجزعوا فيستعتبوا (فماهم من المعتببن) لانه ليس يستعتب إلا من قد جزع مما قد اصابه، فطلب العتبى حينئذ، كما قال (اصلوها فاصبروا او لا تصبروا

___________________________________

(1) ديوانه (دار بيروت) 200 وقد مر في 8 / 499

[120]

سواء عليكم)(1) ومعنى الآية (فان يصبروا) على ماهم فيه فمقامهم في النار (وإن يستعتبوا) أي وإن يطلبوا العتبي وهي الرضا (فما هم من المعتبين) أي ليس بمرضي عنهم، لان السخط من الله تعالى بكفرهم قد لزمهم وزال التكليف عنهم، فليس لهم طريق إلى الاعتاب، والمعتب الذي قبل عتابه وأجيب إلى ما سأل.

وقوله (وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين ايديهم وما خلفهم) قال الحسن: معناه خلينا بينهم وبين الشياطين الذين اغووهم ودعوهم إلى ما استوجبوا العقاب به، ولم نمنعهم منهم، جزاء على ما استحقوه من الخذلان، فمعنى (قيضنا) خلينا ومكنا.

قال الجبائي: (التقييض) إحواج بعض العباد إلى بعض كحاجة الرجل إلى المرأة، والمرأة إلى الرجل، وكحاجة الغني إلى الفقير يستعمله وحاجة الفقير إلى ان يستعمله الغني وغير ذلك من احواج بعضهم إلى بعض.

وقال قوم: التقييض المماثلة، والمقايضة المقايسة، قال الشماخ:

تذكرت لما اثقل الدين كاهلي *** وغاب يزيد ما اردت تعذرا

رجالا مضوا عني فلست مقايضا *** بهم أبدا من سائر الناس معشرا

فالمعنى على هذا إنا نضم إلى كل كافر قرينا له من الجن مثله في الكفر في نار جهنم كما قال (ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين)(2) ومعنى (فزينوا لهم) يعني فعل اهل الفساد الذين في زمانهم، وفعل من كان قبلهم، وقيل (ما بين ايديهم) من أمر الدنيا (وما خلفهم) من أمر الآخرة - في قول الحسن والسدي - وذلك بدعائهم إلى انه لا بعث ولا جزاء.

وقال الفراء (فزينوا لهم ما بين ايديهم) من أمر الآخرة، فقالوا: لا جنة ولا نار

___________________________________

(1) سورة 52 الطور آية 16.

(2) سورة 43 الزخرف آية 36

[121]

ولا بعث ولا حساب (وما خلفهم) من امر الدنيا فزينوا لهم اللذات وجمع الاموال وترك انفاقها في سبيل الله.

وقيل: زينوا لهم اعمالهم التي يعملونها، وهي (ما بين ايديهم) وزينوا لهم ما عزموا عليه أن يعملوه وهو (ما خلفهم).

وقوله (وحق عليهم القول) يعني وجب عليهم القول بتصييرهم إلى العذاب الذي كان اخبر انه يعدب به من عصاه (في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والانس) أي حق على هؤلاء الكفار وعلى امم من الجن والانس انهم متى عصوا الله حق القول بأنهم يعاقبون.

ثم قال تعالى (انهم كانوا خاسرين) خسروا الجنة وحصلت لهم النار.

الآية: 26 - 54

قوله تعالى: (وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون(26) فلنذيقن الذين كفروا عذابا شديدا ولنجزينهم أسوأ الذي كانوا يعملون(27) ذلك جزاء أعداء الله النار لهم فيها دار الخلد جزاء بما كانوا بآياتنا يجحدون(28) وقال الذين كفروا ربنا أرنا اللذين أضلانا من الجن والانس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الاسفلين(29) إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملئكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشر بالجنة التي كنتم توعدون(30))

خمس آيات بلا خلاف

[122]

حكى الله تعالى عن الكفار انهم يقول بعضهم لبعض (لا تسمعوا لهذا القرآن) الذي يقرؤه محمد صلى الله عليه واله ولا تصغوا إليه (والغوا فيه) لكي تغلبوه، ويجوز ان تغلبوه فاللغو هو الكلام الذي لا معنى له يستفاد، وإلغاء الكلمة إسقاط عملها، ويقال: لغا يلغو لغوا، ولغا، قال الراجز: عن اللغا ورفث التكلم(1) وإذا كانت جملة الكلام لغوا لا فائدة فيه لم يحسن وإذا كان تأكيدا لمعنى تقدم - وإن لم يكن له معنى في نفسه مفرد - حسن لانه يجري مجرى المتمم للكلمة التي تدل معها على المعنى، وإن لم يكن له معنى في نفسه.

وقال مجاهد: قالوا خلطوا عليهم القول بالمكاء والصفير، وقال غيره: هو الضجيج والصياح، وأقسم تعالى فقال (فلنذيقن الذين كفروا) بالله وجحدوا آياته (عذابا شديدا ولنجزينهم أسوأ الذي كانوا يعملون) قيل: معناه أسوأ الذي كانوا يعملون من المعاصي من جملة ما كانوا يعملون دون غيرها مما لا يستحق به العقاب.

وقال قوم: خص بذلك الكبائر - زجرا وتغليظا - بعينها. واقتصر في الصغير على الجملة في الوعيد.

ثم قال (ذلك) يعني ما تقدم الوعيد به (جزاء اعداء الله) الذين عادوه بالعصيان وكفروا به، وعادوا أولياء‌ه: من الانبياء والمؤمنين وهي (النار) والكون فيها. ف‍ (النار) رفع بأنه بدل من قوله (ذلك) جزاؤهم وهو دخولهم فيها (لهم فيها دار الخلد) أي منزل دوام وتأييد (جزاء) لهم وعقوبة على كفرهم به تعالى في الدنيا وجحدهم لآياته.

قال الفراء: هو كقولهم: لاهل الكوفة فيها دار صالحة، والدار هي الكوفة، وحسن ذلك لما اختلف لفظاهما، فكذلك قوله (ذلك جزاء اعداء الله النار) ثم قال (لهم فيها دار الخلد) وهي النار بعينها.

___________________________________

(1) مر في 2 / 132، 164، 230 و 7 / 138 و 8 / 163

[123]

وفي قراء‌ة عبدالله (ذلك جزاء أعداء الله النار دارالخلد)، فهذا بين لا شئ فيه لان الدار هي النار، فأعداء الله العصاة الذين يعاديهم الله - عزوجل - وليس هو من عداوة الانسان لغيره إلا أن يراد به أنه يعمل عمل المعادي، كما قال (يخادعون الله والذين آمنوا..)(1).

ثم حكى ما يقول الكفار ايضا، فانهم يقولون (ربنا ارنا اللذين اضلانا من الجن والانس) قيل: أراد به إبليس الابالسة وهو رأس الشياطين، وابن آدم الذي قتل أخاه، وهو قابيل. روي ذلك عن علي عليه السلام، لان قابيل أسس الفساد في ولد آدم. وقيل: هم الدعاة إلى الضلال من الجن والانس.

وقوله (نجعلهما تحت أقدامنا) انهم لشدة عداوتهم وبغضهم لهم بما أضلوهم وأغووهم يتمنون ان يجعلوهما تحت اقدامهم ويطؤهم (ليكونا من الاسفلين) وقيل: المعنى فيكونا في الدرك الاسفل من النار.

وقوله (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) اخبار منه تعالى أن الذين يقرون بلسانهم بتوحيد الله ويصدقون أنبياء‌ه ويعترفون بالله (يقولون ربنا الله ثم استقاموا) أي استمروا على ما توجبه الربوبية.

وقال الحسن وقتادة وابن زيد: معناه ثم استقاموا على طاعة الله (تتنزل عليهم الملائكة) قال مجاهد والسدي: يعني عند الموت.

وقال الحسن: تتنزل عليهم الملائكة تستقبلهم إذا خرجوا من قبورهم في الموقف بالبشارة.

ويقولون لهم (لا تخافوا) عقاب الله " ولا تحزنوا " لفوات الثواب (وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون) بها في دار الدنيا جزاء على الطاعات. وموضع (أن لا تخافوا) النصب وتقديره تتنزل عليهم والملائكة بأن لا تخافوا، فلما حذف الباء نصب، وفي قراء‌ة عبدالله (لا تخافوا) بلا (أن)

___________________________________

(1) سورة 2 البقرة آية 9

[124]

قبلها، وتقديره يقولون لهم: لا تخافوا، وقال مجاهد: معنى لا تخافوا على ما تقدمون عليه من أمر الآخرة، ولا تحزنوا على ما تخلفونه في دار الدنيا. وقيل البشرى في ثلاثة مواضع: عند الموت، وفي القبر، وفي البعث.

قوله تعالى: (نحن أولياؤكم في الحيوة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون(31) نزلا من غفور رحيم(32) ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين(33) ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فاذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم(34) وما يلقيها إلا الذين صبروا وما يلقيها إلا ذوحظ عظيم(35))

خمس آيات بلا خلاف.

لما حكى الله تعالى أن الملائكة تتنزل على المؤمنين المستقيمين على طاعة الله التاركين لمعصيته وتبشرهم بالجنة وتؤمنهم من عقاب الله. ذكر ايضا انهم يقولون لهم مع ذلك (نحن أولياؤكم) وهو جمع ولي أي انصاركم واحباؤكم في الحياة الدنيا وأولياؤكم أيضا في الآخرة، ففي ذلك البشارة للمؤمنين بمودة الملائكة لهم وفي الآية بشارة لهم بنيل مشتهاهم في الجنة.

وتفيد الآية وجوب اعتقاد تودد الملائكة إلى من كان مستقيما على طاعاته. وفيها حجة على شرف الاستقامة بالطاعة على كل ما عداه من أعمال العباد يتولى الملائكة لصاحبه من اجله.

[125]

وقوله (ولكم فيها ما تشتهي انفسكم) يعني ما تشتهونه وتتمنونه من المنافع ما تدعي انه لك فهو لك بحكم الله لك بذلك.

وقوله (نزلا من غفور رحيم) تقديره انزلكم ربكم في ما تشتهون من النعمة نزلا. فيكون نصبا على المصدر. ويجوز ان يكون نصبا على الحال، وتقديره: لكم فيها ما تشتهي انفسكم منزلا كما تقول: جاء زيد مشيا تريد ماشيا.

وقال الحسن (نزلا من غفور رحيم) ليس منا.

وقيل: معناه إن هذا الموعود به مع جلالته في نفسه له جلالة لمعطيه بعد ان غفر الذنب حتى صار بمنزلة مالم يكن رحمة منه لعباده فهو أهنأ لك واكمل للسرور به.

وقوله " ومن احسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال انني من المسلمين " صورته صورة الاستفهام، ونصب " قولا " على التفسير، ومعناه النفي وتقديره وليس أحد أحسن قولا ممن دعا إلى طاعة الله واضاف إلى ذلك أن يعمل الاعمال الصالحات، ويقول مع ذلك إنني من المسلمين الذين استسلموا لامر الله وانقادوا إلى طاعته.

وقيل: المعني بالآية النبي صلى الله عليه واله لانه الداعي إلى الله. وروي أنها نزلت في المؤذنين. وفى الآية دلالة على من يقول: أنا مسلم إن شاء الله من أصحاب عبدالله بن مسعود، لانه لا أحد احسن قوله منه، فيجب عليه أن يقول: إني مسلم ويقطع في الحكم إذا لم يكن فاسقا.

ثم قال " ولا تستوي الحسنة ولا السيئة " أي لا يتماثلان، ودخلت (لا) في " ولا السيئة " تأكيدا.

وقيل: دخلت لتحقيق انه لا يساوي ذا ذاك، ولا ذاك ذا، فهو تبعيد المساواة.

وقوله " أدفع بالتي هي احسن " أمر للنبي صلى الله عليه واله ان يدفع بالتي هي احسن

[126]

وقيل: معنى الحسنة - ههنا - المداراة. والسيئة المراد بها الغلظة. فأدب الله تعالى عباده بهذا الادب.

ثم قال " فاذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم " معناه دار القوم ولا تغلظ عليهم حتى كأن عدوك الذي يعاديك في الدين بصورة وليك من حسن عشرتك له وبشرك له. ويدعو ذلك ايضا عدوك إلى أن يصير لك كالولي الحميم.

وقيل: المراد ان من اساء اليك فأحسن اليه ليعود عدوك وليك. وكأنه حميمك. والحميم القريب الذي يحم لغضب صاحبه.

وقوله " وما يلقاها إلا الذين صبروا " معناه ما يعطى هذه الخصلة في رفع السيئة بالحسنة إلا ذو نصيب في الخير عظيم.

وقيل: معناه وما يلقاها يعني البشرى بالجنة والامان من العذاب إلا الذين صبروا على طاعة الله والجهاد في دينه " وما يلقاها " ايضا " إلا ذو حظ عظيم " من الثواب والخير وقد لقي الله تعالى جميع الخلق مثل ما لقي من صبر، غير ان فيهم من لم يتلقه كما يتلقاه من صبروا وقبلوا ما امرهم الله به.

قوله تعالى: (وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم(36) ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون(37) فان استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسئمون(38) ومن آياته أنك ترى الارض خاشعة فاذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شئ قدير(39) إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمنا يوم القيمة اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير(40))

خمس آيات بلا خلاف.

[127]

قوله " واما ينزغنك " اصله (إن) التي للشرط وزيد عليها (ما) تأكيدا فاشبه ذلك القسم، فلذلك دخلت نون التأكيد في قوله " ينزغنك " كما تقول: والله ليخرجن.

والنزغ النخس بما يدعوا إلى الفساد ومنه قوله " من بعد ان نزغ الشيطان بيني وبين اخوتي "(1) فنزغ الشيطان وسوسته ودعاؤه إلى معصية الله بايقاع العداوة بين من يجب موالاته، يقال نزغ ينزغ نزغا فهو نازغ بين رجلين. وفلان ينزغ فلانا كأنه ينخسه بما يدعوه إلى خلاف الصواب.

والمعنى وإن ما يدعوك إلى المعاصي نزغ من الشيطان بالاغواء والوسوسة " فاستعذ بالله " ومعناه اطلب الاعتصام من شره من جهة الله واحذر منه وامتنع من جهته بقوة الله، فنحن نستعيذ بالله من شر كل شيطان وشر كل ذي شر من انس وجان.

وقوله " إنه هو السميع العليم " يعني انه سميع لاقوالكم من الاستعاذة وغيرها عليم بضمائركم قادر على إجابة دعائكم وقوله " ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر " معناه ومن أدلته وحججه الباهرة الدالة على توحيده وصفاته التي باين بها خلقه الليل بذهاب الشمس عن بسيط الارض والنهار بطلوعها على وجهها بالمقادير التي أجريا عليه ورتبا فيه بما يقتضي تدبير عالم بهما قادر على تصريفهما، لان ذلك لا يقدر عليه غير الله.

___________________________________

(1) سورة 12 يوسف آية 100

[128]

والشمس والقمر وجه الدلالة فيهما أن الاجرام الثقيلة لا تقف بغير عمد ولا تتصرف على غير قرار ولا عماد إلا أن يصرفهما قادر ليس كالقادرين من الاجسام التي تحتاج في نقلها وتمسكها إلى غيرها، وكل جسم ثقيل يصرف من غير عماد فمصرفه هو الله تعالى.

والافعال الدالة على الله تعالى على وجهين: احدهما - مالا يقدر عليه إلا هو كخلق الحياة والقدرة والاجسام وغير ذلك والآخر - أنه إذا وقع على وجه مخصوص لا يتأتى من القادر بقدرة وإن كان جنسه مقدورا للعباد كتسكين الارض من غير عمد وتصرف الشمس والقمر بكونها مرة صاعدة ومرة هابطة ومرة طالعة ومرة غاربة مع ثقل أجرامهما وبعدهما من عماد لها اعظم دلالة على ان لهما مصرفا ومدبرا لا يشبههما ولا يشبهه شئ.

قال تعالى " لا تسجدوا للشمس ولا للقمر " كما يفعل قوم من المجوس بل " اسجدوا لله الذي خلقهن " وانشاهن.

وإنما قال " خلقهن " لانه أجري مجرى جمع التكسير، ولم يغلب المذكر على المونث، لانه في مالا يعقل.

وقال الزجاج: تقديره الذي خلق هذه الآيات " إن كنتم إياه تعبدون " أي ان كنتم تقصدون بعبادتكم الله فوجهوا العبادة اليه دون الشمس والقمر.

ثم قال " فان استكبروا " يعني هؤلاء الكفار أي تكبروا عن توجيه العبادة إلى الله وابوا إلا عبادة الاصنام " فالذين عند ربك " يعني من الملائكة " يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون " أي لا يفترون من عبادته ولا يملونه. والسجود عند اصحابنا عند قوله " إن كنتم إياه تعبدون " وهو مذهب أبي عمرو بن العلا. وعند الباقين عند قوله " وهم لا يسأمون ".

ثم قال تعالى " ومن آياته " أي من ادلته الدالة على توحيده وإخلاص العبادة له " إنك ترى الارض خاشعة " يعني دارسة مهشمة - في قول قتادة

[129]

والسدي - والخاشع الخاضع فكان حالها حال الخاضع المتواضع " فاذا انزلنا عليها الماء اهتزت " أي تحركت بالنبات " وربت " قال السدي: معناه انفتحت وارتفعت قبل ان تنبت.

وقرئ " ربأت " بمعنى عظمت، ومعنى ربأت ارتفعت - ذكره الزجاج - ثم قال " إن الذي أحياها " يعني من أحيا الارض بما انزله من الماء حتى تنبت " لمحيي الموتى " مثل ذلك بعد ان كانوا أمواتا ويرد فيها الارواح، لانه قادر على ذلك. ومن قدر على ذلك قدر على هذا، لانه ليس احدهما بأعجب من الآخر " انه على كل شئ قدير " يصح أن يكون مقدورا له، وهو قادر لا تتناهى مقدوراته.

ثم قال " إن الذين يلحدون في آياتنا " معناه الذين يميلون عن الحق في أدلتنا يقال: الحد يلحد إلحادا.

وقيل: لحد يلحد أيضا.

وقال مجاهد: معناه ما يفعلونه من المكاء والصفير.

وقال ابوروق: يعني الذين يقعون فيه " لا يخفون علينا " بل نعلمهم على التفصيل، لا يخفى علينا شئ من احوالهم.

ثم قال على وجه الانكار عليهم والتهجين لفعلهم والتهديد لهم " أفمن يلقى في النار " جزاء على كفره ومعاصيه " خير أم من يأتي آمنا " من عذاب الله جزاء على معرفته بالله وعمله بالطاعات.

ثم قال " اعملوا ما شئتم " ومعناه التهديد وإن كان بصورة الامر، لانه تعالى لم يخيرنا، ويجبنا أن نفعل ما شئنا، بل نهانا عن القبائح كلها.

ثم قال " إنه بما تعملون بصير " أي عالم بأفعالكم لا يخفى عليه شئ منها فيجازيكم بحسبها.

[130]

قوله تعالى: (إن الذين كفروا بالذكر لما جاء‌هم وإنه لكتاب عزيز(41) لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد(42) ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم(43) ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أعجمي وعربي قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد(44) ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب(45))

خمس آيات بلا خلاف.

قرأ " أعجمي وعربي " على الخبر حفص والحلواني عن هشام وابن مجاهد عن قنبل في غير رواية ابن الحمامي عن بكار. الباقون بهمزتين. وحففهما اهل الكوفة إلا حفصا وروح. والباقون بتخفيف الاولى وتليين الثانية.

وفصل بينهما بألف اهل المدينة إلا ورشا وابوعمر. ومن قرأ بلفظ الاستفهام اراد الانكار، فادخل حرف الاستفهام على الف " أعجمي " وهي الف قطع. ومن حققها، فلانها الاصل. ومن خففهما او فصل بينهما فلكراهة اجتماع الهمزتين.

ومن قرأ على الخبر، فالمعنى هلا كان النبي عربيا والقرآن اعجميا. والنبي اعجميا والقرآن عربيا، فكان يكون ابهر في باب الاعجاز.

يقول الله تعالى مخبرا " إن الذين كفروا بالذكر " الذي هو القرآن وجحدوه وسمي القرآن ذكرا، لانه تذكر به وجوه الدلائل المؤدية إلى الحق، والمعاني التي يعمل عليها فيه.

[131]

واصل الذكر ضد السهو وهو حضور المعنى للنفس " لما جاء‌هم " أي حين جاء‌هم، وخبر (ان) محذوف، وتقديره: إن الذين كفروا بالذكر هلكوا به وشقوا به ونحوه.

وقيل تقديره: إن الذين كفروا بالذكر لما جاء‌هم كفروا به، فحذف لدلالة الكلام عليه.

وقيل خبره " أولئك ينادون من مكان بعيد " وقيل قوله " وانه لكتاب عزيز " في موضع الخبر، وتقديره الكتاب الذي جاء‌هم عزيز، وقوله " وإنه " الهاء كناية عن القرآن، والمعنى وإن القرآن لكتاب عزيز بأنه لا يقدر احد من العباد على ان يأتي بمثله، ولا يقاومه في حججه على كل مخالف فيه.

وقيل: معناه إنه عزيز باعزاز الله - عزوجل - اياه اذ حفظه من التغيير والتبديل.

وقيل: هو عزيز حيث جعله على أتم صفة الاحكام.

وقيل: معناه انه منيع من الباطل بما فيه من حسن البيان ووضوح البرهان، ولان احكامه حق يقضي بصحتها العقل.

وقوله " لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه " قيل في معناه اقوال خمسة: احدها - انه لا تعلق به الشبهة من طريق المشاكلة، ولا الحقيقة من جهة المناقضة وهو الحق المخلص والذي لا يليق به الدنس.

والثاني - قال قتادة والسدي: معناه لا يقدر الشيطان أن ينقص منه حقا ولا يزيد فيه باطلا.

الثالث - ان معناه لا يأتي بشئ يوجب بطلانه مما وجد قبله ولا معه ولا مما يوجد بعده.

وقال الضحاك: لا يأتيه كتاب من بين يديه يبطله ولا من خلفه أي ولا حديث من بعده يكذبه.

الرابع - قال ابن عباس: معناه لا يأتيه الباطل من أول تنزيله ولا من آخره.

والخامس - ان معناه لا يأتيه الباطل في اخباره عما تقدم ولا من خلفه ولا عما تأخر.

[132]

ثم وصف تعالى القرآن بأنه " تنزيل من حكيم حميد " فالحكيم هو الذي افعاله كلها حكمة فيكون من صفات الفعل، ويكون بمعنى العالم بجميع الاشياء واحكامها فيكون من صفات الذات.

و (الحميد) هو المحمود الذي يستحق الحمد والشكر على جميع افعاله لان افعاله كلها نعمة يجب بها الشكر.

وقوله " ما يقال لك الا ما قد قيل للرسل من قبلك " قيل في معناه اقوال: احدها - من الدعاء إلى الحق في عبادة الله تعالى ولزوم طاعته.

والثاني - ما حكاه تعالى بعده من " ان ربك لذو مغفرة وذو عقاب اليم " فيكون على جهة الوعد والوعيد.

والثالث - قال قتادة والسدي: وهو تعزية للنبي صلى الله عليه واله بأن ما يقول لك المشركون مثل ما قال من قبلهم من الكفار لانبيائهم من التكذيب والجحد لنبوتهم.

وقوله " إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب اليم " أي وقد يفعل العقاب بالعصاة من الكفار قطعا ومن الفساق على تجويز عقابهم، فلا ينبغي ان يغتروا ويجب عليهم أن يتحرزوا بترك المعاصي وفعل الطاعات.

ثم قال تعالى " ولو جعلناه " يعني الذكر الذي قدم ذكره " قرآنا أعجميا " أي مجموعا بلغة العجم، يقال: رجل أعجمي إذا كان لا يفصح وإن كان عربي النسب، وعجمي إذا كان من ولد العجم وإن كان فصيحا بالعربية.

قال ابوعلي: يجوز ان يقال: رجل أعجمي يراد به اعجم بغير ياء كما يقال: أحمري واحمر، ودواري ودوار " قالوا لولا فصلت آياته " ومعناه هلا فصلت آياته وميزت.

وقالوا " اعجمي وعربي " أي، قالوا القرآن أعجمي ومحمد عربي - ذكره سعيد بن جبير - وقال السدي: قالوا اعجمي وقوم عرب. ومن قرأ على الخبر حمله على أنهم يقولون ذلك مخبرين.

[133]

ومن قرأ على الاستفهام أراد انهم يقولون ذلك على وجه الانكار، وإنما قوبل الاعجمي في الآية بالعربي، وخلاف العربي العجمي لان الاعجمي في انه لا يبين مثل العجمي عندهم من حيث اجتمعا في انهما لا يبينان، قوبل به العربي في قوله " أعجمي وعربي " وحكى ان الحسن قرأ " اعجمي " بفتح العين قابل بينه وبين قوله " وعربي " فقال الله تعالى لنبيه " قل " لهم يا محمد " هو " يعني القرآن " للذين آمنوا " بالله وصدقوا بتوحيده وأقروا بنبوة نبيه " هدى " يهتدون به " وشفاء " من سقم الجهل " والذين لا يؤمنون " بالله ولا يصدقون بتوحيده " في آذانهم وقر " يعني ثقل إذهم بمنزلة ذلك من حيث لم ينتفعوا بالقرآن فكانهم صم او في آذانهم ثقل " وهو عليهم عمى " حيث ضلوا عنه وجاروا عن تدبيره فكانه عمى لهم.

وقوله " اولئك ينادون من مكان بعيد " على وجه المثل، فكأنهم الذين ينادون من مكان بعيد ويسمعوا الصوت ولا يفهموا المعنى من حيث لم ينتفعوا به.

وقال مجاهد: لبعده عن قلوبهم.

وقال الضحاك: ينادون الرجل في الآخرة كبأشنع اسمائه، وقيل: معناه أولئك لا يفهمون ذلك كما يقال لمن لا يفهم شيئا: كبأنك تنادى من مكان بعيد.

ثم اقسم تعالى بأنه آنى " موسى الكتاب " يعني التوراة " فاختلف فيه " لانه آمن به قوم وجحدوه آخرون، تسلية للنبي صلى الله عليه واله عن جحود قومه وإنكارهم نبوته.

ثم قال " ولو لا كلمة سبقت من ربك " في انه لا يعاجلهم بالعقوبة وانه يؤخرهم إلى يوم القيامة " لقضي بينهم " أي لفصل بينم بما يجب من الحكم.

ثم اخبر عنهم فقال: وإنهم لفي شك منه " يعني مما ذكرناه " مريب " يعني اقبح الشك لان الريب افظع الشك. وفى ذلك دلالة على جواز الخطأ على اصحاب المعارف لانه تعالى بين انهم في شك وانهم يؤآخذون مع ذلك.

[134]

قوله تعالى: (من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد(46) إليه يرد علم الساعة وما تخرج من ثمرات من أكمامها وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه ويوم يناديهم أين شركائي قالوا آذناك ما منا من شهيد(47) وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل وظنوا ما لهم من محيص(48) لا يسئم الانسان من دعاء الخير وإن مسه الشر فيؤس قنوط(49) ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى فلننبئن الذين كفروا بما عملوا ولنذيقنهم من عذاب غليظ(50))

خمس آيات بلا خلاف.

قرأ اهل المدينة وابن عار وحفص " ثمرات " على الجمع. الباقون " ثمرة " على التوحيد من قرأ على الجمع فلا ختلاف أجناس الثمار، ولانه في المصاحف مكتوبا بتاء ممدودة.

ومن وحده قال: الثمرة تفيد الجمع والتوحيد فلا يحتاج إلى الجمع، لانه في مصحف عبدالله مكتوب بالهاء، و " الاكمام " جمع (كم) في قول الفراء، و (كمة) في قول ابي عبيدة. وهي الكفرى.

قال ابن خالويه: يجوز أن يكون (الاكمام) جمع (كم) و (كم) جمع كمة، فيكون جمع الجمع.

[135]

يقول الله تعالى " من عمل صالحا " أي فعل افعلا هي طاعة " فلنفسه " لان ثوابه واصل اليه، وهو المنتفع به دون غيره " ومن أساء " يعني فعالا فعلا قبيحا، من الاساء‌ة إلى غيره او غيرها " فعليها " أي فعلى نفسه لان وبال ذلك وعقابه يلحقه دون غيره.

ثم قال تعالى على وجه النفي عن نفسه مالا يليق به من فعل القبيح والتمدح به " وما ربك " أي وليس ربك " بظلام للعبيد " وإنما قال (بظلام) على وجه المبالغة في نفي الظلم عن نفسه مع انه لا يفعل مثقال ذرة لامرين: احدهما - انه لو فعل فاعل الظلم، وهو غير محتاج اليه مع علمه بقبحه وبأنه غني لكان ظلاما، وما هو تعالى بهذه الفصة لانه غني عالم. الثاني - إنه على طريق الجواب لمن زعم انه يفعل ظلم العباد.

فقال: ماهو بهذه الصفة التي يتوهمها الجهال، فيأخذ احدا بذنب غيره، والظلام هو الفاعل لما هو من افحش الظلم. والظالم من فعل الظلم، وظالم صفة ذم، وكذلك قولنا فاعل الظلم هما سواء، وكذلك آثم فاعل الاثم، وسيئ فاعل الاساء‌ة.

وقوله " اليه يرد علم الساعة " معناه اليه يرد علم الساعة التي يقع فيها الجزاء للمطيع والعاصي فاحذروها قبل ان تأني، كما يرد اليه علم إخراج الثمار وما يكون من الاولاد والنتاج، فذاك غائب عنكم وهذا مشاهد لكم، وقد دل عليه ولزم، وكل من سئل متى قيام الساعة؟ وجب أن يقول: الله تعالى العالم به حتى يكون قد رده إلى الله " وما يخرج من ثمرة من اكمامها " معناه وعنده علم ذلك. وآكمام الثمرة وعائها الذي تكون فيه.

وقيل: الآكمام جمع كمة، وهو الطرف المحيط بالشئ.

وقال الحسن: الآكمام - ههنا - ليف النخيل.

وقيل: من أكمامها معناه خروج الطلع من قشره " وما تحمل من أنثى وما تضع إلا بعلمه " أي وعنده

[136]

تعالى علم ما تحمله كل انثى من حمل ذكرا كان او انثى ولا تضع الانثى إلا بعلمه أي إلا في الوقت الذي علمه انه تضع فيه.

وقوله (ويوم يناديهم اين شركائي) أي ويوم يناديهم مناد اين شركاء الله الذين كنتم تعبدونهم من دون الله (قالوا أذناك ما منا من شهيد) معناه إنهم يقولون اعلمناك مامنا من شهيد لمكانهم. ثم بين ذلك فقال (وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل وظنوا ما لهم من محيص) قال السدي: معناه ايقنوا وقال ابن عباس أذناك معناه أعلمناك.

وقيل المنادي هو الله تعالى، وقال السدي: مامنا من شهيد ان لك شريكا.

وقيل: معناه أذناك اقررنا لك مامنا من شهيد بشريك له معك.

وقيل قوله أذناك من قول المعبودين مامنا من شهيد لهم بما قالوا: وقيل هذا: من قول العابدين مامنا من شهيد بأنهم آلهة.

وقال آخرون: يجوز ان يكون العابدون والمعبودون يقولون ذلك.

وقوله (وظنوا مالهم من محيص) أي ايقنوا ليس لهم من مخلص. ودخل الظن على (ما) التي للنفي كما تدخل (علمته) على لام الابتداء، وكلاهما له صدر الكلام.

وقوله (لا يسأم الانسان من دعاء الخير) أي لا يمل الانسان من طلب المال وصحة الجسم - وهو قول ابن زيد - وقال بعضهم: معناه لا يمل الانسان من الخير الذي يصيبه (وإن مسه الشر) أي إن ناله بذهاب مال او سقم في جسمه (فيؤس قم ط) أي يقنط من رحمة الله وييأس من روحه، ففي ذلك إخبار عن سرعة؟ الانسان وتنقله من حال إلى حال.

ثم قال تعالى (ولئن اذقناه رحمة منا) يعني لئن أذقنا الانسان نعمة وأنلناه إياها (من بعد ضراء مسته) أي من بعد شدة لحقته (ليقولن هذا لي) قال مجاهد: يقول أنا حقيق بهذا الفعل (وما

[137]

اظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي ان لي عند للحسنى) أي لو قامت لكان لي الحسني يعني الجنة.

فقال الله تعالى على وجه التهديد لمن هذه صفته (فلننبئن الذين كفرا بما عملوا ولنذيقنهم من عذاب غليظ) أي فلنجزين الكفار بعد ان نعلمهم ما عملوه من كفرهم ومعاصيهم ثم نجازيهم عليها بأن نذيقهم من عذاب غليظ قدر ما يستحقونه.

قوله تعالى: (وإذا أنعمنا على الانسان أعرض ونئا بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض(51) قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد(52) سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد(53) ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم ألا إنه بكل شئ محيط(54))

أربع آيات بلا خلاف.

اخبرالله تعالى عن جهل الانسان الذي تقدم وصفه بمواضع نعم الله وما يجب عليه من الاعتراف بشكره، بتركه النظر المؤدي إلى معرفته، فقال (وإذا انعمنا على الانسان) بنعمة من اعطاء مال او ولد او صحة جسم (اعرض) عن القيام بشكر الله على ذلك حسب ما يلزمه (ونآء بجانبه) أي بعد بجانبه كبرا وتجبرا عن الاعتراف بنعم الله.

وقيل: معناه وبعد عن الواجب (وإذا مسه الشر) يعني إذا ناله مرض او مصيبة في مال او نفس (فذو دعاء عريض) قال السدي يدعو الله كثيرا عند ذلك.

[138]

وإنما قال (فذو دعاء عريض) ولم يقل: طويل، لانه ابلغ، لان العرض يدل على الطول، ولا يدل الطول على العرض إذ قد يصح طويل ولا عرض له. ولا يصح عريض ولا طول له، لان العرض الانبساط في خلاف جهة الطول، والطول الامتداد في أي جهة كان.

وفى الآية دلالة على بطلان قول المجبرة: انه ليس الله على الكافر نعمة، لانه اخبر تعالى بأنه ينعم عليه وانه يعرض عن موجبها من الشكر وفي دعائه عند الشدة حجة عليه، لانه يجب من اجل قلة صبره على الشدة ان يشكر برفعها عنه إلى النعمة، فقال الله تعالى لهم على وجه الانكار عليهم (قل ارأيتم إن كان) هذه النعمة (من عند الله وكفرتم به) أي وجحدتموه (من اضل ممن هو في شقاق بعيد) أي في مشاقة الله بخلافه له بعيد عن طاعته.

والشقاق المبل إلى شق العداوة لا لاجل الحق كأنه قال لا احد اضل ممن هو في شقاق بكفره، وبه يذم من كان عليه، كما قال علي عليه السلام (يا اهل العراق يا اهل الشقاق والنفاق ومساوى، الاخلاق) وقيل: الشقاق فراق الحق إلى العداوة وأهله.

وقوله (سنربهم آياتنا في الافاق وفي أنفسهم) معناه إن الدلائل في آفاق السماء بسير النجوم وجريان الشمس والقمر فيها بأتم التدبير، وفي أنفسهم جعل كل شئ لما يصلح له من آلات الغذاء ومخارج الانفاس، ومجاري الدم، وموضع العقل والفكر، وسبب الافهام، وآلات الكلام.

وقال السدي: آياتنا في الآفاق بصدق ما يخبر به النبي صلى الله عليه واله من الحوادث عنها. وفي ما يحدث من انفسهم، وإذا رأوا ذلك تبينوا وعلموا أن خبره حق، وانه من قبل الله تعالى.

وقوله (او لم يكف بربك انه على كل شئ شهيد) أي هو عالم لجميع ذلك والباء زائدة، والتقدير او لم يكف ربك انه عالم بجميع الاشياء. والمعنى اليس في

[139]

الله كفاية في معاقبة هؤلاء الكفار على كفرهم إذ كان عالما بكل شئ مشاهدا لجميع ما يفعلونه قادرا على مجازاتهم عليه، وكما انه شهيد على ذلك هو شهيد على جميع الحوادث ومشاهد لجميعها وعالم بها لا يخفى عليه شئ من موضعها.

وقوله (إنه) يحتمل ان يكون موضعه رفعا ب‍ (يكف) ويحتمل ان يكون جرأ بالباء. وتقديره بأنه على كل شئ شهيد.

ثم قال (ألا انهم في مرية من لقاء ربهم) أي هم في شك من لقاء ثواب ربهم وعقابه، لانهم في شك من البعث والنشور (ألا انه بكل شئ محيط) أي هو عالم بكل شئ قادر عليه.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/books/index.php?id=1296
  • تاريخ إضافة الموضوع : 0000 / 00 / 00
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29