• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم / المكتبة .
              • الكتاب : التبيان في تفسير القرآن (الجزء الثاني) ، تأليف : شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي .
                    • الموضوع : سورة البقرة ( من آية 260 ـ آخر السورة) .

سورة البقرة ( من آية 260 ـ آخر السورة)

 

قوله تعالى: وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ اربعة من الطير فصرهن اليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزء ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم(260)

آية واحدة بلا خلاف.

القراء‌ة: قرأ حمزة وحده " فصرهن " بكسر الصاد. الباقون بضمها.

الاعراب: العامل في قوله " وإذ " يحتمل أن يكون أحد شيئين: أحدهما - ما قال الزجاج: واذكر إذ قال.

والثاني - ألم تر إذ قال عطفا على " ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه ".

المعنى: وقيل في سبب سؤال إبراهيم أن يريه كيف يحيي الموتى ثلاثة أقوال: أحدها - قال الحسن، وقتادة، والضحاك، وأبوعبدالله الصادق (ع): أنه رأى جيفة قد مزقها السباع تأكل منها سباع البر وسباع الهواء ودواب البحر فسأل الله (تعالى) أن يريه كيف يحييها وقال ابن اسحاق كان سبب ذلك منازعة نمرود له في الاحياء، وتوعده إياه بالقتل إن لم يحيي الله الميت يشاهده، ولذلك قال

[327]

ليطمئن قلبي إلى أنه لا يقتلني الجبار، وقال قوم إنما سأل ذلك لقومه، كما سأل موسى الرؤية، لقومه.

وقال قوم: إنما سأله، لانه أحب أن يعلم ذلك علم عيان بعد أن كان عالما به من جهة الاستدلال. وهو أقوى الوجوه.

وقال قوم: إنما سأل ذلك، لانه كان شاكا فيه.

وروي فيه رواية، فهذا باطل، لان الشك في أن الله قادر على احياء الموتى كفر لا يجوز على الانبياء، لانه تعالى لا يجوز أن يبعث إلى خلقه من هو جاهل بما يجوز عليه وما لا يجوز. والذي يبين ذلك أن الله تعالى لما قال له " أولم تؤمن " فقرر أنه قال إبراهيم " بلى ولكن ليطمئن قلبي " فبين أنه عارف بذلك مصدق به، وإنما سأل تخفيف المحنة بمقاساة الشبهات، ودفعها عن النفس.

والالف في قوله " أولم تؤمن " ألف إيجاب قال الشاعر:

ألستم خير من ركب المطايا *** وأندى العالمين بطون راح(1)

أي قد آمنت لامحالة، فلم تسأل ذا، فقال: " ليطمئن قلبي " وقوله: (ليطمئن قلبي) معناه ليزداد يقينا إلى يقينه، وهو قول الحسن، وقتادة، وسعيد بن جبير، والربيع، ومجاهد، ولايجوز " ليطمئن قلبي " بالعلم بعد الشك الذي قد اضطرب به لما بيناه، ولكن يجوز أن يطلب علم البيان بعد علم الاستدلال. وقيل معناه " ليطمئن قلبي " بأن لا يقتلنى الحبار.

اللغة والمعنى: ويقال: اطمأن يطمئن اطمئنانا: إذا تواطأ والمطمئن من الارض ما انخفض وتطامن، واطمأن إليه إذا وثق به، لسكون نفسه إليه، ولتوطي حاله بالامانة عنده، وأصل الباب التوطئة.

وقوله: (قال فخذو أربعة من الطير) قيل أنها الديك، والطاووس، والغراب، والحمام. أمر أن يقطعها ويخلط ريشها بدمها، ويجعل على كل جبل منهن جزء‌ا،

___________________________________

(1) مر تخريجه 1: 132 - 400.

[328]

هذا قول مجاهد، وابن جريح، وابن زيد، وابن اسحاق، والطير معروف يقال: طار يطير طيرانا وأطاره اطارة وطيره تطييرا، وتطار تطايرا وطايره مطايرة، واستطار استطارة، فأما تطير تطيرا فمن الطيرة لانه زجر الطير بما يكره، وتطاير الشئ إذا تفرق في الهواء، وطائر الانسان: عمله الذي قلده من خير أو شر، لانه كطائر الزجر في البركة أو الشؤم قال الله (تعالى) (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه)(1) والمطير ضرب من الوشي لان عليه تماثيل الطيور. وفجر مستطير أي منتشر في الافق كانتشار الطيران. وغبار مستطار، كذا كلام العرب للفرق وفرس مطار وهو الحديد الفؤاد لانه طيار في جريه وأصل الباب الطيران.

وقوله (فصرهن) فمن قرأ بضم الصاد احتمل معنيين: أحدهما - يقطعهن على قول ابن عباس، وسعيد بن جبير، والحسن، ومجاهد.

قال توبة بن الحمير:

فأدنت لي الاسباب حتى بلغتها *** بنهضي وقد كان ارتقائي يصورها(2)

أي يقطعها.

والثاني - أن معناه أضممهن إليك على قول عطا وابن زيد من صاره يصوره صورا: إذا أماله.

قال المعلى(3) العبدي:

وجاء‌ت خلعة دهس صفايا *** يصور عنوقها أحوى زنيم(4)

معناه أن هذه الغنم يعطف عنوقها هذا التيس الاحوى، ومن قال بالكسر احتمل ذلك أيضا الوجهين اللذين ذكرناهما في الضم وقال بعض بني سليم:

___________________________________

(1) سورة الاسرى آية: 13.

(2) بنهضي أي بنهوضي.

(3) هو المعلى بن جمال العبدي. في المطبوعة (المعلم) بدل (المعلى).

(4) اللسان: (ظأب) (ظاب) (صور) (دهس) (خلع) (صوع) (عشق) (زنم) وفي بعض الروايات (يصوع) بدل (يصور).

الخامة - بكسر الخاء وضمها -: خيار المال.

والدهس جمع دهساء وهي من المعزى السوداء المشربة حمرة لا تغلو.

والاحوى من المعزى: والتيس الذي تضرب حمرته إلى السواد.

والزنيم الذي له زنمتان في حلقه.

[329]

وفرع يصير الجيدوحف كأنه *** على الليت قنوان الكروم الدوالح(1)

معناه يميل الجيد.

وإذا كان بمعنى قطعهن فاليك من صلة خذ(2).

وإذا كان بمعنى أملهن يجوز أن يكون إلى متعلقا به(3).

ويجوز أن يكون متعلقا بصرهن، وهو الاقوى على قول سيبويه لانه أقوى كذا قال أبوعلي الفارسي وإذا كان بمعنى أملهن إليك وقطعهن (ثم اجعل على كل جبل منهن جزأ).

والصور العطف يقال صاره يصوره صورا إذا عطفه.

وقال الشاعر:

وما يقبل الاحياء من حب خندف *** ولكن أطراف الرياح يصورها

والصور التقطيع. وصاره يصوره.

والصور: ميل لانه انقطاع إلى الشئ بالميل إليه ومنه الصورة لتقطيعها بالتأليف على بعض الامثلة صور يصور تصويرا وتصور تصورا والصوار: القطيع من بقر الوحش، لانقطاعه بالانفراد عن غيره.

والصور: النخل الصغار، والصور: قرن ينفخ فيه لاجتماع الصورة به.

ويجوز للانقطاع إليه بالدعاء إليه والصور: جمع صورة. والصوار.

والنفحة من المسك وأصل الباب القطع.

وقال الفراء: صاره يصيره بمعنى قطعة من المقلوب من صراه يصرية وأنشد:

يقولون ان الشام يقتل أهله *** فمن لي إذا لم آته بخلود

تعرب آبائي فهلا صراهم *** من الموت أن لم يذهبوا وجدودي(4)

قال المبرد لا يجوز ذلك، لان سيبويه قال: إن كل واحد من اللفظين إذا تصرف في بابه لم يكن أحدهما أصلا للاخر: نحو جذب يجذب جذبا، فهو جاذب،

___________________________________

(1) اللسان: (صير) ومعاني القرآن للفراء 1: 174. الفرع: الشعر التام.

والوحف: الاسود الحسن الكثير. الليت: العنق.

قنوان جمع قنو - بكسر وسكون - عذق النخل بما فيه من الرطب واستعاره هنا لعنا قيد العنب.

والدوالح جمع دالح وهو المنقل بالحمل - هنا - وأصله في ما يمشي. يقال بعير دالح.

(2) في المطبوعة (خذ) غير منقطة.

(3) في المطبوعة (عليه) بدل (به).

(4) في المطبوعة (فمن ان انه بخلود) و (يعرب) بدل (تعرب) اللسان: (عأم) - ذكر البيت الاول فقط -.

ومعاني القرآن للفراء 4: 174 تعرب القوم: سكنوا البادية.

[330]

وجبذ يجبذ جبذا فهو جابذ فلذلك لما تصرف صاره يصيره صيرا كما ينصرف صراه يصريه صريا، لم يكن أحدهما أصلا للاخر، ولكن المقلوب نحو قسى لان بابه على تأخير السين نحو قوس، واقواس وقويس.

المعنى: وقوله (ثم اجعل على كل جبل منهن جزأ) قال ابن عباس، والحسن وقتادة: إنها كانت أربعة.

وقال ابن جريح، والسدي: كانت سبعة.

وقال مجاهد، والضحاك كل جبل على العموم بحسب الامكان، كأنه قيل كل فرقة على جبل يمكنك التفرقة عليه.

وروي عن أبي جعفر، وأبي عبدالله (عليهما السلام)(1) أنها كانت عشرة.

وفي رواية أخرى أنها كانت سبعة، والفرق بين الجزء والسهم أن السهم من الجملة ما انقسمت عليه، وليس كذلك الجزء نحو الاثنين وهو سهم من العشرة لانها تنقسم عليه، وليس كذلك الثلاثة وهو جزء منها لانه بعض لها فان قيل: كيف أحيب ابراهيم إلى آيات الاخرة دون موسى في قوله (رب أرني أنظر إليك).(2)

قيل عنه جوابان: أحدهما أنه سأل أية لا يصح معها بقاء التكليف من وقوع الضرورة التي لا يعترضها الشكوك بوجه من الوجوه، وابراهيم إنما سأل في شئ خاص يصح معه التكليف.

والقول الاخر - أن الاحوال قد تختلف فيكون الاصلح الاصوب في بعض الاوقات الاجابة، وفي وقت آخر المنع فيما لم يتقدم فيه إذن.

وفان قيل: كيف قال: (ثم ادعهن) ودعاء الجماد قبيح؟ قلنا إنما أراد بذلك الاشارة إليها والايماء لتقبل عليه إذا أحياها الله.

فأما من قال أنه جعل على كل جبل طيرا ثم دعاها فبعيد، لان ذلك لايفيد ما طلب، لانه إنما طلب ما يعلم به كونه قادرا على إحياء الموتى، وليس في مجئ طير حي بالايماء إليه ما يدل عليه.

وفي الكلام حذف، فكأنه قال: فقطعهن

___________________________________

(1) في المطبوعة زياده عنها في هذا الموضع.

(2) سورة الاعراف آية: 142.

[331]

واجعل على كل جبل منهن جزأ فان الله يحييهن، فاذا أحياهن فادعهن يأتينك سعيا، فيكون الايماء إليها بعد أن صارت أحياء، لان الايماء إلى الجماد لايحسن، فان قيل: إذا أحياها الله كفى ذلك في باب الدلالة، فلا معنى لدعائها، لان دعاء البهائم قبيح؟ قلنا: وجه الحسن في ذلك أنه يشير إليها، فسمي ذلك دعاء لتأتي إليه فيتحقق كونها أحياء ويكون ذلك أبهر في باب الاعجاز.

وقال الطبري معنى الدعاء ههنا الاخبار عن تكوينها أحياء كما قال (كونوا قردة خاسئين)(1) قوله: (أتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين).

اللغة: والجبل وتد من أوتاد الارض معروف. وجبل فلان على كذا أي طبع عليه وأجبل القوم أجبالا: إذا صاروا في الجبال وتجبلوا إذا دخلوها، ورجل ذو جبلة إذا كان غليظ الجسم، لانه كالجبل في الغظ.

والجبلة الامة من الناس وأجبل الحافر: إذا أفضى إلى صلابة لايمكنه الحفر فيه، ومنه أجبل الشاعر إذا صعب عليه القول، والجزء: بعض.

الجزأ جزأته تجزئة إذا بعضته، والجزء الاجتزاء بالرطب عن الماء جزأت الوحشية جزوء لا كتفائها بالجزء الذي في الرطب منه والجزاء نصاب السكين وأصل الباب الجزء البعض.

قوله تعالى: مثل الذين ينفقون اموالهم في سبيل الله كمثل حبة انبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم(261)

آية واحدة بلا خلاف.

هذه الاية متصلة بقوله: (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا) وما بينهما الاعتراض بالاستدعاء إلى الحق مما أمر الله بالحجج والعبر التي ذكرها من احياء

___________________________________

(1) سورة البقرة آية: 65.

[332]

الموتى لابراهيم ومن حجاجة للذي ادعى أنه رب العباد إلى غير ذلك مما تقدم ذكره مع البيان عنه وقال الربيع والسدي الاية تدل على أن النفقة في سبيل الله بسبعمائة مائة ضعف لقوله " سبع سنابل " فأما غيرها فبالحسنة عشرة. وقد بينا في ما تقدم أبواب البر كلها من سبيل الله فيمكن أن يقال ذلك عام في جميع ذلك.

والذي ذكرناه مروي عن أبي عبدالله (ع) واختاره الجبائي: فان قيل هل رئي في سنبلة مائة حبة حتى يضرب المثل بها؟ قيل عنه ثلاثة أجوبة: أولها - أن ذلك متصور فشبه لذاك وإن لم ير كما قال امرؤ القيس: ومسنونة زرق كانياب أغوال وقال تعالى (طلعها كأنه رؤس الشياطين)(1) الثاني - أنه قد رئي ذلك في سنبل الدخن.

والثالث - أن السنبلة تنبت مائة حبة فقيل فيها على ذلك المعنى - كما يقال - في هذه الحبة حب كثير والاول هو الوجه.

والوعد بامضاعفة لمن أنفق في سبيل الله - في قول ابن عباس - وقال الضحاك ولغيرهم من المطيعين.

وقوله: " انبتت " فالنبت الحشيش وكلما ينبت من الارض يقال فيه نبت نبتا. ونباتا.

وأنبته الله إنباتا: ونبته تنبيتا قال (تعالى): (والله أنبتكم من الارض نباتا)(2) على تقدير فنبتم نباتا وانه لحسن النبت. والمنبت الاصل. فلان في منبت صدق أي في أصل كريم، لانه يخرج منه كما يخرج النبات.

والنبوت: شجر الخشخاش.

وأنبت الغلام: إذا راهق واستبان شعر عانته.

والسنبلة على وزن فنعله لقولهم أسبل الزرع بمعنى سنبل إذا صار فيه السنبل.

والاصل فيه الاسبال، وهو ارسال الستر ونحوه.

فمنه أسبل الزرع، لانه استرسل بالسنبل كما يسترسل الستر في الاسبال فيطول، لانه صار فيه حب مستور كما يستر بالاسبال.

فأما السبيل الطريق، فلانه يرسل فيه المار به.

والمائة: عدد معروف يجمع على مئات ومئين(3).

ويقال أمأت الغنم إذا بلغت مائة.

وأمأيتها أنا أي وفيتها مائة.

والمأي(4) النميمة بين القوم

___________________________________

(1) سورة الصافات آية: 65.

(2) سورة نوح آية: 17.

(3) في المطبوعة (مبين وميون).

(4) في المطبوعة (والثاني).

[333]

مأيت بينهم أمأي إذا دببت بينهم بالشر.

وقوله (واسع عليم) معناه واسع المقدرة لايضيق عنه ما شاء من الزيادة " عليم " بمن يستحق الزيادة - على قول ابن زيد - ويحتمل أن يكون المراد " واسع " الرحمة لا يضيق عن مضاعفة " عليم " بما كان من النفقة.

وقوله تعالى: الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما انفقوا منا ولا اذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولاهم يحزنون(262)

آية بلا خلاف.

الاعراب: " الذين " رفع بالابتداء. و " ينفقون " خبره و " أموالهم " نصب لانه مفعول به.

اللغة، والمعنى: والانفاق إخراج الشئ عن الملك.

وقوله " في سبيل الله " قال ابن زيد: هو الجهاد.

وقال الجبائي: أبواب البر كلها، وهو الصحيح عندنا.

والمروي عن أبي عبدالله (ع).

وقوله: " ثم لايتبعون ما أنفقوا منا " فالمن هو ذكر ما ينغص المعروف كقول القائل: أحسنت إلى فلان ونعشته وأغنيته وما أشبه ذلك مما ينغص النعمة وأصل المن: القطع ومنه قولهم: حبل منين أي ضعيف، لانه مقطع ومنيته أي قطعته ومنه قوله: " فلهم أجر غير ممنون "(1) أي غير مقطوع وسمي ما يكدر النعمة والمعروف بانه منة لانه قطع الحق الذي يجب به.

والمنة: النعمة العظيمة سميت بذلك لانها تجل عن قطع الحق بها لعظمها. ومنه قوله: " يمنون

___________________________________

(1) سورة التين آية: 6.

[334]

ومثله " فجزاء ما قتل من النعم "(1). وإنما جعل اختصاص الايلاء بحال الغضب، لان مدة التربص جعل فسحة للمرأة في التخلص من المضارة، فاذا لم يكن ضرار لم يصح إيلاء. ومن لمن يخص بحال الغضب، حمله على عموم الايلاء، وهو الاقوى. ومتى حلف بغير الله في الايلاء، فلا تنعقد يمينه، ولايكون مؤليا.

وقال الجبائي: إذا حلف بما يلزمه فيه عزم، نحو الصدقة، أو الطلاق، أو العتاق، فهو إيلاء، وإلا، فهو لغو، نحو قوله: وحياتك، وما أشبه.

وقال الشافعي: لاإيلاء إلا بالله، كما قلناه. ومتى حلف ألا يجامع أقل من أربعة أشهر، لايكون مؤليا، لان الايلاء على أربعة أشهر، أو أكثر. ومتى حلف ألا يقر بها، وهي مرضعة خوفا من أن تحبل، فيضر ذلك بولدها، لايلزمه حكم الايلاء، وهو المروي عن علي (ع)، وبه قال الحسن، وابن شهاب.

ويجوز أن يكون في الاية تقديم، وتأخير، ويكون تقديره " للذين يؤلون " " تربص أربعة أشهر " " من نسائهم ".

ويجوز أن يكون معناه: " للذين يؤلون من " أجل " نسائهم تربص أربعة أشهر " كما تقول: غضبت لفلان: أي من أجل فلان. وإذا مضت أربعة أشهر لم تبن منه إلا بطلاق، ويلزمه الحاكم، إما الرجوع والكفارة، وإماالطلاق، فان امتنع حبسه حتى يفئ، أو يطلق. وفيه خلاف.

قوله تعالى: وإن عزموا الطلاق فان الله سميع عليم(263)

آية واحدة.

المعنى: عزيمة الطلاق في الحكم - عندنا - أن يعزم، ثم يتلفظ بالطلاق، ومتى لم يتلفظ بالطلاق بعد مضي أربعة أشهر، فان المرأة لا تبين منه إلا أن تستدعي، فان استدعت، ضرب الحاكم مدة أربعة أشهر ثم توقف بعد أربعة أشهر، فيقال له: فئ

___________________________________

(1) سورة المائدة آية: 98.

[335]

القول المعروف معناه ما كان حسنا جميلا لاوجه فيه من وجوه القبح، وهو أن تقول للسائل قولا معروفا عليه حسنا من غير صدقة تعطيها إياه.

وقال الحسن: وهو قول حسن لاعتراف العقل به. وتقبله إياه دون إنكاره له.

والمغفرة ههنا قيل في معناها ثلاثة أقوال.

أولها - ستر الحلة على السائل.

الثاني - قال الحسن: المغفرة له بالعفو عن ظلمه.

الثالث - قال الجبائي: معناه أي سلامته في المعصية لان حالها كحال المغفرة في الامان من العقوبة.

اللغة: وقوله " الله غني حليم " فالغني هو الحي الذي ليس بمحتاج، ومعناه ههنا غني عن كل شئ من صدقد وغيرها. وإنما دعاكم إليها لينفعكم بها.

وقال الرماني: الغني الواسع الملك فالله غني لانه مالك لجميع الاشياء لانه قادر عليها لايتعذر عليه شئ منها. والغنى ضد الحاجة.

تقول: غني يغنى غنى وأغناه اغتناء واستغنى استغناء وغنى غناء وتغنى تغنيا.

والغناء ممدود: الصوت الحسن.

ويقال فيه أغنية وأغاني والغنى: الكفاية للغنى به عن غيره.

والمغنى المنزل غني بالدار: إذا أقام بها ومنه قوله " كان لم تغن بالامس "(1) والغانية: الشابة المتزوجة لغناها بزوجها عن غيره. وهي أيضا العفيفة لغناها بعفتها. والغنية الاستغناء.

والحلم: الامهال بتأخير العقوبة للانابة، ولو وقع موقع حليم حميد أو عليم، لما حسن لانه تعالى لما نهاهم أن يتبعوا الصدقة بالمن، بين أنهم إن خالفوا ذلك فهو غني عن طاعتهم حليم.

في أن لايعاجلهم بالعقوبة.

___________________________________

(1) سورة يونس آية 24.

[336]

قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والاذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولايؤمن بالله واليوم الاخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فاصابه وابل فتركه صلدا لايقدرون على شئ مما كسبوا والله لايهدي القوم الكافرين(264)

آية بلا خلاف.

المعنى: ضرب الله (تعالى) هذه الاية مثلا لعمل المنافق والمنان جميعا، فانهما إذا فعلا فعلا لغير وجه الله أو قرنا الانفاق بالمن والاذى، فانهما لا يستحقان عليه ثوابا. وشبه ذلك بالصفا الذي أزال المطر ما عليه من التراب، فانه لا يقدر أحد على رد ذلك التراب عليه فكذلك إذا رفع المنان صدقته وقرن بها المن فقد أوقعها على وجه لاطريق له إلى استداركه، وتلافيه لوقوعة على الوجه الذي لا يستحق عليه الثواب فان وجوه الافعال تابعة للحدوث، فاذا فاتت فلا طريق إلى تلافيها وليس فيها ما يدل على أن الثواب الثابت المستقر يزول بالمن فيما بعد ولا بالرياء الذي يحصل فميا يتجدد فليس في الاية ما يدل على ما قالوه.

وقوله: " رئاء الناس " إنما جمع بين همزتين ولم يجمع في ذوائب جمع ذؤابة، لوقوع الالف في الجمع بين الهمزتين، فلم يجز ذؤائب(1)، فأما الواحد فاجتمع لخفته وهما أيضا مفتوحان فهو أخف لها.

وقوله: (كالذي ينفق ما له رئاء الناس) يدخل فيه المؤمن والكافر إذا أخرجا الانفاق للرياء.

وقوله: " ولايؤمن بالله واليوم الاخر " صفة للكافر خاصة " مثله كمثل صفوان " يعني الحجارة الصلبة " عليه تراب ".

اللغة: فالتراب والترب واحد يقال ترب الرجل إذا افتقر، لانه لصق بالتراب للفقر ومنه قوله: " مسكينا ذا متربة "(2) لانه قعد على التراب للفقر وأترب الرجل إذا استغنى لانه كثر ماله حتى صار كالتراب. والترب الذي ينشأ معك. وقيل فيه.

___________________________________

(1) في المطبوعة (فلم بحر ذوائب) والصحيح ما ذكرنا.

(2) سورة البلد آية: 16.

[337]

أقوال: منها للعبهم بالتراب إذ هم صبيان أقران.

ومنها - لانهم خرجوا إلى عفر الترب في وقت من الزمان.

ومنها - لانهم على الاشتباه كالتراب.

وقوله: " عربا أترابا "(1) أي أشباه أمثال. الترائب(2) عظام الصدر واحدها تريبة. قيل لانها متشابهة كالانراب أو كنشابه التراب. ومنه قوله: " من بين الصلب والترائب "(3).

وقوله: (فأصابه وابل) فالوابل: المطر الشديد الوقع، يقال وبلت السماء تبل وبلا: إذا اشتد وقع المطر.

وقوله: (فأخذناه أخذا وبيلا)(4) أي شديدا. ولو بيل: المرعى الوخيم. والوابال: سوء العاقة.

والموبل: المغلظ القلب والوبيلة: الحزمة من الحطب لانها مشدودة.

والوبيل: العصا الغليظة. والوابلة: طرد العضد في الكتف. وأصل الباب الشدة.

والصفوان واحده صفوانة مثل مرجان ومرجانة وسعدان وسعدانه وقال الكسائي: جمع صفوان صفى.

وأنكر ذلك المبرد وقال: إنما هو صفاء وصفى مثل عصا وعصي وقفا وقفي وكذلك ذكران وصفوان - بكسر الصاد - وإنما هو جمع صفا نحو خرب وخربان، وورل * وورلان.

وقال معنى صفا وصفوان واحد.

وقوله: (فتركه صلدا) فالصلد: الحجر الاملس الصلب قال الشاعر:

ولست بجلب جلب ريح وقرة *** ولابصفا صلد عن الخير معزل(5)

وقال رؤبة.

___________________________________

(1) سورة الواقعة آية: 37.

(2) في المطبوعة (التربية) * ورل: دابة على خلفة الضب الا أنه أعطم منه. والجمع اورال وورلان وارئل.

(3) سورة الطارق آية: 7.

(4) سورة المزمل آية: 16.

(5) البيت لتأبط شرا. اللسان (جلب) وروايته (جلب ليل) بدل (جلب ريح) وفي اللسان (عزل) كما هنا. الجلب بكسر الجيم أوضمها مع سكون اللام -: السحاب المعترض تراه كانه جبل. ويقال هو السحاب الرقيق.

والقرة - بكسر القاف - والقر - بضم القاف - البرد الشديد.

[338]

لما رأتني خلق المموه *** براق أصلاد الجبين الاجله(1)

والصلد الذي لا ينبت شيئا من الارض لانه كالحجر الصلد، والصلد: البخيل وصلد الزند صلودا إذا لم يور نارا وفرس صلود: إذا أبطأ عرقه. وقدر صلود إذا أبطأ غليها.

وأصل الباب ملاسة في صلابة ويقال صلد يصلد صلدا فهو صلد.

وقوله: (والله لا يهدي القوم الكافرين) معناه أنه لايهديهم إلى طريق الجنة على وجه الانابة لهم ويحتمل لا يهديهم بمعنى لا يقبل أعمالهم كما يقبل أعمال المهتدين من المؤمنين، لان أعمالهم لايقع على وجه بها المدح.

قوله تعالى: ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فأتت أكلها ضعفين فان لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير(265)

آية.

القراء‌ة: قرأ عاصم وابن عامر بربوة - بفتح الراء - الباقون بضمها.

قرأ ابن كثير وأبوعمرو ونافع (أكلها) باسكان الكاف الباقون بالتثقيل.

المعنى: وهذا مثل ضربه الله لمن أنفق ماله ابتغاء مرضاة الله أي طلبا لرضاه.

وقوله: " وتثبيتا من أنفسهم " بقوة اليقين والبصيرة في الدين في قول ابن زيد، والسدي، وأبي صالح والشعبي.

الثاني - قال الحسن ومجاهد: معناه أنهم يتثبتون أين يضعون صدقاتهم.

والثالث - قال أبوعلي: معناه توطينا لنفوسهم على الثبوت على طاعة الله واعترض على قول مجاهد بأنه لم يقل تثبيتا. وهذاليس بشئ لانه لايجوز أن يقول القائل يثبتوا أنفسهم تثبيتا إذا كانوا كذلك فهم لا يتثبتون أين يضعون الصدقات.

___________________________________

(1) ديوانه: 165 من قصيدة مرا الاستشهاد ببعض أبياتها في 1: 28 - 304

[339]

وقوله: " كمثل جنة بربوة " إنما خصت بالربوة لانها إذا كانت بربوة فتثبتها أحسن وربيعها أكثر كما قال الاعشى:

ما روضة من رياض الحزن معشبة *** خضراء جاد عليها مسبل هطل(1)

فخص بها الحزن لها بيناه.

اللغة: والربو: الزيادة يقال ربا الشئ يربو إذا زاد.

وأصابه ربو: إذا أصابه نفس في جوفه، لزيادة النفس على عادته.

والربوة: العلو من الارض لزيادته على غيره بارتفاعه.

والربا في المال: المعاملة على أن يأخذ أكثر مما يعطي للزيادة على ما يفرض يقال ربا المال يربوا ربا وأربى صاحبه فهو مرب.

وأصل الباب الزيادة: وفي الربوة ثلاث لغات - فتح الراء وضمها وكسرها -.

وفيها أربع لغات أخر رباوة ورباوة ورباوة وربا. فتلك سبع لغات.

المعنى واللغة: وقال ابن عباس، والضحاك، والحسن، ومجاهد، والسدي، والربيع: الربوة ولرابية المرتفع من الارض " فأتت أكلها " فالفرق بين الاكل والاكل ان الاكل بالفتح المصدر والاكل بالضم الطعام الذي يؤكل " ضعفين " يعني مثلين في قول الزجاج لان ضعف الشئ مثله زائدا عليه وضعفاه مثلاه زائدين عليه.

وقال قوم: ضعف الشئ مثلاه.

وقوله " فطل " قال الحسن والضحاك والربيع وقتادة هو اللين من المطر. وإنما ذكر الطل ههنا لتشبيه أضعاف النفقة به كثرت أو قلت: إذ كان خيرها لا يختلف على حال في قول الحسن وقتادة. وإنما قيل لما مضى (فان لم يصبها وابل فطل) لان فيه إضمار (كان) كأنه قيل: فان يكن لم يصبها وابل، فطل. ومثله قد أعتقت عبدين فان لم أعتق اثنين فواحدا بقيمتهما.

___________________________________

(1) ديوانه 57 رقم القصيدة 6. الرياض جمع روض وهي البستان. والحزن ضد المنخفض من الارض ورياض الحزن أطيب من رياض المنخفضات لان الريح تهب عليها فتهيج رائحتها. مسبل أي منزل؟.

[340]

والمعنى ان أكن لم أعتق قال الشاعر:

إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة *** ولم تجدي من أن تقري بها بدا(1)

كأنه قال: أكن لم تلدني لئيمة.

والطل المطر الصغار القطر يقال: أطلت السماء فهي مطلة. وروضة طلة ندية. والطل: إبطال الذم بأن لا يثار بصاحبه. طل دمه فهو مطلول لانه بمنزلة ما جاء عليه الطل، وأذهبه كأنه قيل غسله.

والطل والطلل ما شخص من الدار، لانه كموضع الندى بالطل لغمارة الناس له خلاف المستوى، والقفر، لان الخصب حيث تكون الابنية. وصار الطلل اسما لكل شخص.

والاطلال: الاشراف على الشئ والطل: الشحم، ما بالناقة طل أي ما بها طرق.

وطلة الرجل امرأته. وأصل الباب الطل المطر.

وقوله: (والله بما تعملون بصير) معناه عالم بأفعالكم، فيجازيكم بحسنها وفي ذلك ترغيب وترهيب.

قوله تعالى: أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الانهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فاصابها إعصار فيه نار فاحترقت كذلك يبين الله لكم الايات لعلكم تتفكرون(266)

آية واحدة بلا خلاف.

المعنى: معنى قوله: (أيود أحدكم أن تكون له جنة) التقدير (على) مثل ضربه الله في الحسرة بسلب النعمة فقيل هو مثل للمرائي في النفقة، لانه ينتفع بها عاجلا وتنقطع عنه آجلا في أحوج ما يكون إليه. هذا قول السدي وقال مجاهد: هو مثل للمفرط في طاعة الله يملاذ الدنيا يحصل في الاخرة على الحسرة العظمى.

وقال ابن عباس: هو مثل للذي يختم عمله بفساد.

___________________________________

(1) قائله زائدة بن صعصعة الفقعسي وقد مر في 1: 289 - 352.

[341]

اللغة: وقوله (أيود أحدكم أن تكون له جنة) فأتى بمستقبل ثم عطف عليه بماض في قوله " وأصابه الكبر " قال الفراء يجوز ذلك في يود لانها تلتقي مرة ب‍ (أن) ومرة ب‍ (لو) فجاز أن يقدر أحداهما مكان الاخرى، لاتفاق المعنى، فكأنه قال أيود أحدكم لو كانت له جنة من نخيل وأعناب وأصابه الكبر.

وقال الرماني وعندي أنه قد دل بأن على الاستقبال، وبتضمين الكلام معنى لو على التمني، كأنه قيل أيجب ذلك متمنيا له. والتمني يقع على الماضي والمستقبل ألا ترى أنه يصح أن يتمنى أن كان له ولد. ويصح أن يتمنى أن يكون له ولد.

والمحبة لاتقع إلا على المستقبل، لانه لايجوز أن يقال أحب أن كان لي ولد ويجوز أحب أن يكون لي ولد. والفرق بين المودة والمحبة أن المودة قد تكون بمعنى التمني نحو قولك: أود لو قدم زيد بمعنى أتمنى لو قدم، ولا يجوز أحب لو قدم.

وقوله أن تكون له جنة، فالجنة: البستان الكثيرة الشجر لان الشجر يجنه بكثرته فيه. والنخل معروف.

وقيل: إنه مأخوذ من نخل المنخل، لاستخلاصه كاستخلاص اللباب بالنخل.

والنخل والنخيل جمع نخلة. وهي شجرة التمر.

وقوله: (كأنهم أعجاز نخل خاوية(1) وقوله (كأنهم أعجاز نخل منقعر)(2) فذكر على اللفظ وأنث على المعنى. والنخل نخل الدقيق نخلته نخلا. ومنه المنخل، لانه آلة النخل والنخالة معروفة والنخل نخل السماء بالثلج أو ما صغر من القطر والانتخال الاختيار والتنخل(3): التخير وأصل الباب النخل: الدقيق.

والعنب: ثمر الكرم معروف ورجل عانب وعنب.

والعناب معروف. والعناب ما تقطعه الخائنه مشبه بالعنب في التعلق.

ورجل عناب: عظيم الانف مشبه بعنقود العنب في التعلق والعظم.

وأصل الباب العنب.

وقوله: " من تحتها الانهار " وتحت نقيض فوق وفي الحديث

___________________________________

(1) سورة الحاقة آية: 7.

(2) سورة القمر آية 20.

(3) في المطبوعة: (التنخر).

[342]

" لاتقوم الساعة حتى يظهر التحوت " أي الذين كانوا تحت أقدام الناس لايشعر بهم ذلا. والانهار جمع نهر وهو المجرى الواسع من مجاري الماء قال الشاعر:

ملكت بها كفي فأنهرت فتقها *** يرى قائم من دونها ماوراء‌ها(1)

معناه وسعت فتقها كالنهر.

وقوله: (فيها من كل الثمرات) فالثمرة: طعام الناس من الشجر.

وقوله: (وأصابه الكبر) فالاصابة الوقوع على المقصود.

والمراد ههنا: لحقه الكبر، والكبر حال زائدة على مقدار آخر. والمراد ههنا: الشيخوخة.

والفرق بين الكبير والكثير أن الكثير مضمن بعدد وليس كذلك الكبير نحو دار واحدة كبيرة. ولا يجوز كثيرة.

والذرية: الولد من الناس.

والضعفاء: جمع ضعيف، والضعف نقصان القوة.

وقوله: (فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت) فالعصر عصر الثوب ونحوه من كل شئ رطب عصرته أعصره عصرا فهو معصور، وعصير. واعتصرته اعتصارا، وتعصر تعصرا، وعتصره تعصيرا.

وانعصر انعصارا. والعصر الدهر.

وفي التنزيل " والعصر إن الانسان لفي خسر "(2) والعصر العشي.

ومنه صلاة العصر لانها تعصر أي تؤخر كما يؤخر الشئ بالتعصر فيه.

والعصر النجاة من الحدب ومنه قوله تعالى: (فيه يغاث الناس وفيه يعصرون)(3) لانه كعصر الثوب في الخروج من حال إلى حال.

والعصر: العطية.

والاعتصار: الالتجاء.

والمعتصر: الملجأ.

والاعصار: غبار يلتف بين السماء والارض كالتفاف الثوب في العصير. والمعصر فوق الكاعب.

ولمعصرات السحاب. ومنه قوله (وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا)(4) والعصرة: الدينة يقال هو لاموالنا عصرة: أي دينة.

وأصل الباب: عصر الثوب.

والاحراق إحراق النار أحرقته بالنار فاحترق احتراقا وحرقته تحريقا وتحرق تحرقا والحرق حك البعير أحد نابيه بالاخر يكون وعيدا وتهديدا

___________________________________

(1) انظر 1: 26، 2: 57.

(2) سورة العصر آية: 1 - 2.

(3) سورة يوسف آية: 49.

(4) سورة النبأ آية: 14.

[343]

من فحول الابل، لالتهابه غضبا كالتهب الاحراق.

والحرق: حك الحديدة بالمبرد حرقت الحديدة أحرقها حرقا: إذا بردتها للتفريق بالاحراق.

والحرق: قطع عصبة في الورك لاتلتئم كما لا يرجع ما أحرق، يقال حرق الورك فهو محروق والحرق: الثوب يقع فيه الحرق من دق القصار لانه كالاحراق بالنار في أنه لايرجع إلى الحال. ومنه ريش حرق لانه كالمنقطع بالاحراق. والحراق: ما اقتبست به النار للاحراق.

والحرقة ما يجده من حدة لانه كالاحراق بالنار.

والحراقات: سفن يتخذ منها مرامي نيران يرمى بها العدو في البحر وأصل الباب الاحراق.

والفكر: جولان القلب بالخواطر يقال: أفكر إفكارا وفكر تفكيرا وتفكر تفكرا ورجل فكير كثير الفكر.

وقوله: (فاحترقت) فالاحتراق: افتراق الاجزاء بالنار والبيان: هو الدلالة على ما بيناه - في ما مضى - وقال الرماني: البيان اظهار المعنى بما يتميز به من غيره على جهة الصواب.

ولايقال للحن من الكلام بيان وإن فهم به المراد، لان البيان على الاطلاق ممدوح. واللحن عيب لكن يقال قد أبان عن مراده مجازا.

قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الارض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه واعلموا أن الله غني حميد(267)

آية.

المعنى: هذا خطاب للمؤمنين دون سائر الناس وقال الحسن، وعلقمة: كل شئ في القرآن " يا أيها الذين آمنوا " فانما أنزل بالمدينة وكلما فيه " يا أيها الناس " أنزل بمكة وقوله: (أنفقوا من طيبات ما كسبتم) يدخل فيه الزكاة المفروضة وغيرها من أنواع النفقة.

وقال عبيدة السلماني، والحسن: هي مختصة بالزكاة.

وقال الجبائي: هي في المتطوع، لان الفرض من الصدقة له مقدار من القيمة إن قصر كان دينا عليه إلى أن يؤديه على التمام.

[344]

فأما إذا كان مال المزكي كله رديا فجاز له أن يعطي منه ولا يدخل في ما نهي عنه، لان تقدير ما جعله الله للفقير في مال الغني تقدير حصة الشربك، فليس لاحد الشريكين أن يأخذ الجيد ويعطي صاحبه الردي لما فيه من الوكس فاذا استوى في الرداوة جاز له إعطاء الردي، لانه حينئذ لم يبخسه تحقا هو له كما يبخسه في الاول وقوله: (ولاتيمموا الخبيث منه تنفقون) روي عن علي (ع)، والبراء بن عازب، والحسن، وقتادة: أنها نزلت لان بعضهم كان يأتي بالحشف فيدخله في تمر الصدقة فنزلت فيه الاية. قال ابن زيد: الخبيث الحرام.

والاول أقوى، لانه قال: (أنفقوا من طيبات ما كسبتم وما أخرجنا لكم من الارض) ثم قال: " ولا تيمموا الخبيث " يعني من الذي كسبتم إذ أخرجه الله من الارض.

والحرام وإن كان خبيثا فليس من ذلك غير أنه يمكن أن يراد به ذلك لانه لاينافي السبب.

وروي عن أبي عبدالله (ع) أنها نزلت في أقوام لهم أموال من ربا الجاهلية كانوا يتصدقون منها، فنهى الله عن ذلك وأمر بالصدقة من الحلال.

ويقوي الوجه الاول قوله: (ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه) والاغماض لا يكون في شئ ردي متسامح في أخذه دون ما هو حرام. وفي الفقهاء من استدل بهذه الاية على أن الرقبة الكافرة لاتجزي في الكفارة وضعفه قوم وقالوا: العتق ليس بانفاق. والاولى أن يكون ذلك صحيحا لان الانفاق يقع على كل ما يخرج لوجه الله عتقا كان أو غيره.

اللغة والتيمم: التعمد تيممت الشئ تيمما. ومنه قوله: (فتيمموا صعيدا طيبا)(1) أى تعمدوا، وقال خفاف: فعمدا على عين تيممت مالكا(2) وقال آخر:

يممته الرمح شزرا ثم قلت له *** هذي المروء‌ة لالعب الزحاليق(3)

___________________________________

(1) سورة النساء آية: 42، وسورة المائدة آية: 7.

(2) اللسان (عمد) وصدره: ان تك خيلي قد أصيب صميمها.

(3) قائله: عامر بن مالك. والزحاليف لغة في الزحاليق واحدها زحلوقة وهي أثر تزج الصبيان من فوق طين أورمل.

[345]

واليم: لجة البحر، لانه يتعمد به البعيد من الارض، ويم الرجل: إذا غرق في البحر، ويم الساحل إذا طما عليه يم البحر فغلب عليه.

واليمامة، واليمام: الحمام الطورانية تتعمد إلى أو كارها بحسن هدايتها.

وقال الخليل: أممته قصدت أمامه ويممته: تعمدته من أي جهة كان.

وقال غيره: هما سواء.

والخبيث: الردئ من كل شئ، خبث خبثا وتخبث تخبثا وتخابث تخابثا وخبثه تخبيثا.

والخبثة: الريبة، وخبث الفضة ما نقاه الكير لانه ينفي الردئ وأصله الرادء‌ة.

الاعراب واللغة: وقوله: (ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه) إنما فتحت (أن) في قول الفراء من أجل (إلا) إذ وقعت عليها. وهي في موضع خفض في الاصل عنده إن) لان الكلام في معنى الجزاء وهو إن أغمضتم بعض الاغماض أخذتموه، ومثله (إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله)(1) وأنكر ذلك أبوالعباس وقال: (أن) هذه التي بمعنى المصدر مفتوحة على كل حال وذلك نحو أن تأتيني خير لك. وإنما المعنى ولستم بآخذيه إلا لاغماضكم فيه.

والاغماض في البيع الحط من الثمن لعيب فيه، أغمض إغماضا وذلك لاخفاض بعض الثمن بالحط له.

والغموض: الخفاء.

غمض يغمض غموضا فهو غمامض.

والتغميض إطباق الجفن وغمض العين.

والغمض المطمئن من الارض حتى يغيب من فيه وأصل الباب: الخفاء.

المعنى: وقيل في معنى (إلا أن تغمضوا فيه) قولان قال البراء بن عازب إلا أن تتساهلوا فيه.

وقال بان عباس، والحسن وقتادة إلا أن تحطوا من الثمن فيه.

وقال الزجاج: ولستم بآخذيه إلا بوكس فكيف تعطونه في الصدقة قال الطرماح ابن حكيم:

___________________________________

(1) سورة البقرة آية: 229.

[346]

لم يفتنا بالوتر قوم وللضيم *** رجال يرضون بالاغماض(1)

أي بالوكس قوله: (واعلموا ان الله غني حميد) ههنا معناه أنه غني عن صدقاتكم وإنما دعاكم إليها لنفعكم، فأما " حميد " ففيه ثلاثة أقوال: أحدها - أنه مستحق للحمد على نعمه. الثاني - موجب للحمد على طاعته. والثالث - قال الحسن: معناه مستحمدا إلى خلقه بما يعطون من النعم لعباده أي مبتدع لهم إلى ما يوجب لهم الحمد. وحميد في هذا الموضع أليق من حليم كما أن حليما أليق بالاية المتقدمة من حميد، لما بيناه وإنما قلنا ذلك لانه لما أمرهم بالانفاق من طيب ماكسبوه بين أنه غني عن ذلك وأنه يحمدهم على ما يفعلونه إذا فعلوه على ما أمرهم به ومعناه أنه يجازيهم عليه.

قوله تعالى: الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم(268)

آية واحدة بلا خلاف.

المعنى: معنى الاية الوعد من الشيطان أنكم من أخرجتم من أموالكم الصدقة وأديتم الزكاة الواجبة عليكم في أموالكم افتقرتم ويأمركم أيضا بالفشحاء من المعاصي وترك طاعته. والله (تعالى) يعد بالمغفرة منه والستر عليكم، والصفح عن العقوبة " وفضلا " يعني ويعدكم أن يخلف عليكم خيرا من صدقتكم ويتفضل عليكم ويسبغ عليكم في أرزاقكم قال ابن عباس: اثنان من الله، واثنان من الشيطان. فاللذان من الشيطان الوعد بالفقر والامر بالفحشاء. واللذان من الله المغفرة على المعاصي والفضل في الرزق.

___________________________________

(1) ديوانه: 86 من قصيدة مجد بها قومه، وقبله: اننا معشر شمائلنا الصبر اذا الخوف مال بالاخفض نصر للذليل في؟ الحي مرائيب للتأى المنهاض. من برم جمعهم يجدهم مراجيح حماة للعزل الاحرض

[347]

اللغة والمعنى: والفقر: الحاجة وهوضد الغنى يقال: أفقره الله إفقارا وافتقر افتقارا وتفاقر تفاقرا، لان الفقر بمنزلة كسر الفقار في تعذر المراد.

والفقار: عظام منتظمة في النخاع تسمى خرز الظهر واحدها فقرة.

والافقار: إعارة الدابة لتركب ثم ترد.

والافقار: دنو الصيد.

والفاقرة الداهية، لانها تكسر الفقار.

ومنه قوله: " تظن أن يفعل بها فاقرة "(1) وأصل الباب الفقار: خرز الظهر. تقول وعدته الخير، ووعدته بالخير والاصل فيه تعديته بغير حرف الاضافة إلا أنه كثر استعماله في التعدي بحرف الاضافة حتى صار أصلا فيه لكثرته. وأمرته بالخير أكثر في الكلام وإنما يجوز أمرته الخير في الشعر وقوله: (والله واسع عليم) حكى البلخي أنه بغير واو في مصاحف أهل الشام ولم يقرأ به أحد فان صح فهو دلالة على نقصان الحروف من كثير من القرآن على ما اختلفوا فيه.

والفرق بين الوعد والوعيد أن الوعيد في الشر خاصة، والوعد بالتقييد للخير والشر معا غير أنه إذا أطلق لم يكن إلا في الخير، وكذلك إذا أبهم التقييد كقولك وعدته باشياء لانه بمنزلة المطلق. وحد الوعد: هو الخبر بفعل الخير في المطلق. والوعيد: هو الخبر بفعل الشر. والامر هو قول القائل لمن هو دونه: افعل، مع إرادة المأمور به، فان الضم إليه الزجر عن الاخلال به كان مقتضيا للايجاب.

وقال ابن مسعود للشيطان لمة وللملك لمة.

ومثله روي عن أبي عبدالله (ع) فلمة الشيطان وعده بالفقر وأمره بالفاحشة ولمة الملك أمره بالانفاق ونهيه عن المعاصي.

وقال أبومسلم والازهري الفحشاء البخل والفاحش البخيل قال طرفة: عقيلة مال الفاحش المتشدد(2)

___________________________________

(1) سورة القيامة آية: 25.

(2) هو طرفة بن العبد الكري معلقته، واللسان: (فحش) وصدره: أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي

[348]

وقال الحسين بن علي المغربي والذي يقوي قوله ما أنشده أبوحيرة الراحل من طي:

قد أخذ المجد كما أراد *** ليس بفحاش يضن الزادا

وقال الرماني: والله ما قالاه بعيد.

والفحشاء المعاصي في أغلب الاستعمال ومعنى البيت الذي أنشداه أن الفاحش هو سئ الرد بسؤاله وضيفانه وذلك من البخل لامحالة قال كعب:

أخي ما أخي لافاحش عند بيته *** ولا برم عند اللقاء هبوب(1)

فتلخيص معنى الاية أن الشيطان يحملكم على أن تؤدوا في الصدقة ردئ المال يخوفكم الفقر باعطاء الجيد - والفقر والفقر لغتان - ويعدكم الفقر: معناه بالفقر فحذف الباء وعدى الفعل فنصب قال:

أمرتك الخير فافعل ما أمرت به *** فقد تركتك ذا مال وذا نشب

وقوله: (والله واسع عليم) معناه واسع يعطي من سعة مقدوراته " عليم " حيث يضع ذلك ويعلم الغيب والشهادة.

قوله تعالى: يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا اولو الالباب(269)

آية.

القراء‌ة والمعنى: قرأ يعقوب " ومن يؤت " - بكسر التاء - الباقون بالفتح قيل في معنى الحكمة في الاية وجوه قال ابن عباس وابن مسعود: هو علم القرآن ناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه ومقدمه ومؤخره وحلاله وحرامه وأمثاله.

___________________________________

(1) هكذا في المطبوعة. وفي أمالي القالي 2: 142: ولا ورع عند اللقاء هبوب وفي مجمع البيان: عند اللقاب هبوب.

[349]

وقال ابن زيد: هو علم الدين. وقال السدي: هو النبوة. وقال مجاهد الاصابة. وقال ابراهيم النخعي: الفهم. قال الربيع: الخشية.

وقال قوم: هو العلم الذي تعظم منفعته وتحل فائدته وهو جميع ما قالوه.

وقال قتادة: والضحاك، وفي رواية عن مجاهد: هو القرآن، والفقة.

وهو المروي عن أبي عبدالله (ع) وإنما قيل للعلم: حكمة لانه يمتنع به من القبيح لما فيه من الدعاء إلى الحسن، والزجر عن القبيح.

وقال الجبائي: هو ما آتاه الله أنبياء وأممهم من كتبه وآياته ودلالالة التي يدلهم بها على معرفتهم به وبدينه وذلك تفضل منه يؤتيه من يشاء.

وقوله: (وما يذكر إلا أولوا الالباب) وكل مكلف ذو لب لانه إنما يطلق عليهم هذه الصفة لما فيها من المدحة فلذلك عقد التذكر بهم وهم الذين يستعملون ما توجبه عقولهم من طاعة الله في كل ما أمر به ودعا إليه و " يؤت " جزم ب‍ (من) والجواب " فقد أوتي خيرا كثيرا " ومن قرأ يؤت بكسر التاء على ما روي عن يعقوب ذهب إلى أن معناه ومن يؤته الحكمة، وإنما حذف الهاء في الصلة ويكون (من) على هذا المعنى " الذي " لامعنى الجزاء.

الآية: 270 - 279

قوله تعالى: وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فان الله يعلمه وما للظالمين من أنصار(270)

آية بلا خلاف.

(ما) في قوله وما أنفقتم بمعنى الذي وما بعده صلتها والعائد إليها الهاء في قوله: " فان الله يعلمه " لانها لايجوز أن تعود على النفقة، لانها مؤنثة، ولا على النفقة والنذر، لان ذلك يوجب التثنية. والمراد بالانفاق ههنا ما يخرجه في طاعة الله: واجباتها ومندوباتها.

وقوله: (أو نذرتم من نذر) فالنذر هو عقد الشي ء على النفس فعل شئ من البر بشرط، ولاينعقد ذلك ألا بقوله لله علي كذا، ولا يثبت بغير هذا اللفظ. وأصل النذر الخوف لانه يعقد على نفسه خوف التقصير في الامر ومنه

[350]

نذر الدم: العقد على سفكه للخوف من مضرة صاحبه قال الشاعر:

هم ينذرون دمي وأنذر إن لقيت بأن أشدا

ومنه الانذار الاعلام بموقع العدو، للخوف منه ليتقى يقال نذرت النذر أنذره نذرا وجمعه نذور.

وقوله: (فان الله يعلمه) معناه يجازي عليه لانه عالم به، فدل بذكر العلم على تحقيق الجزاء إيجازا للكلام.

وقوله (وما للظالمين من أنصار) وعيد للظالمين وهم الفاعلون لضرر يستحق عليه الذم. والمراد بالظالمين ههنا الذين كانوا انفاقهم على غير الوجه المأذون لهم فيه من ربا أو ضرار أو شقاق أو من مال مغصوب أو مأخوذ من غير. وجهه. وسمي ذلك ظلما، لانه وضع فيه في غير موضعه، والانصار جمع نصير مثل شريف وأشرف، وباب فعيل يجمع على فعلاء مثل عليم وعلماء وكريم وكرماء، وقد ورد فيه فعال مثل نصير ونصار.

والنصير: هو المعين على العدو، فعلى هذا لاتدل الاية على أنه لاشفاعة لمرتكبي الكبائر لان أحدا لايقول أن لهم معينا على عدوهم بل إنما نقول لهم من يسأل في بابهم على وجه التضرع ولا يسمى ذلك نصر على حال.

قوله تعالى: إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم والله بما تعلمونه خبير(171)

آية واحدة بلا خلاف.

القراء‌ة: قرأ ابن عامر وحمزة الكسائي وخلف فنعما - بفتح النون وكسر العين - وقرأ ابن كثير، وورش، ويعقوب، وحفص، والاعشى والبرجمي - بكسر النون والعين - وقرأ أهل المدينة - إلا ورشا - وأبوعمر، وأبو بكر - إلا الاعشى - والبرجمي - بكسر النون وسكون العين - وكذلك في النساء في قوله: " نعما يعظكم

[351]

به " وقرأ ابن عامر وحفص " ويكفر " بالياء والرفع.

وقرأ أهل المدينة، وحمزة والكسائي وخلف عن أبي بكر بالنون والجزم.

الباقون بالنون والرفع.

المعنى الاعراب: قال أبوعلي الفارسي: المعنى في قوله (إن تبدوا الصدقات فنعما هي) إن في نعم ضمير الفاعل و " ما " في موضع نصب وهي تفسير الفاعل المضمر قبل الذكر والتقدير نعم شيئا ابدؤاها. فالابداء هو المخصوص بالمدح إلا أن المضاف حذف واقيم المضاف إليه الذي هو ضمير الصدقات مقامه، فالخصوص بالمدح هو الابداء بالصدقات لان الصدقات تدل على ذلك قوله: (وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم) أي الاخفاء خير لكم. فكما أن هو ضمير الاخفاء وليس بالصدقات كذلك ينبغي أن يكون ضمير الابداء مرادا وإنما كان الاخفاء - والله أعلم - خيرا لانه أبعد من أن يشوب الصدقة مراء‌اة للناس وتصنع لهم فيخلص لله (تعالى) ولم يكن المسلمون إذ ذاك ممن يسبق إليهم ظنه في منع واجب.

والفرق بين الصدقة والزكاة أن الزكاة لاتكون إلا فرضا والصدقات قد تكون فرضا، وقد تكون نفلا. واختلفوا في الصدقة التي إخفاؤها أفضل. وفقال ابن عباس، وسفيان، واختاره الجبائي: انها صدقة التطوع، لانها أبعد من الرياء فأما الصدقة الواجبة فاظهارها عندهم أفضل لانه أبعد من التهمة.

وقال يزيد بن أبي حبيب: الصدقات على أهل الكتاب إظهارها أولى، وهي على المسلمين إخفاؤها أفضل.

وقال الحسن، وقتادة: الاخفاء في كل صدقة من زكاة وغيرها أفضل، وهو الاقوى لانه عموم الاية وعليه تدل اخبارنا وقد روي عن أبي عبدالله (ع) أن الاخفاء في النوافل أفضل.

وقال أبوالقاسم الابداء خير. والمفسرون على خلافه.

[352]

اللغة: والاخفاء: هو الستر تقول أخفيت الشئ أخفيه إخفاء: إذاسترته: والخفى الاظهار خفيته أخفيه خفيا إذا أظهرته لانه إظهار يخفى قال الشاعر:

فان تدفنوا الداء لاتخفه *** وأن تبعثوا الحرب لانقعد(1)

والخفاء: الغطاء والخوافي من ريش الطائر ما دون القوادم لانها يخفى بها والخفية عريش الاسد لانه يختفي فيها تقول: اختفى اختفاء وخفى تخفية وتخفى تخفيا واستخفى استخفاء وأصل الباب الستر. والابداء والاظهار والاعلان نظائر والاخفاء والاسرار والاغماض نظائر.

تقول بدا الشئ يبدو: إذا ظهر، وابديته: إذا أظهرته.

الاعراب والقراء‌ة: وضعف النحويون بأجمعهم قراء‌ة أبي عمرو قرأء‌ة أبي عمرو، وقالوا لايجوز إسكان العين مع الادغام وإنما هو إخفاء يظن السامع أنه إسكان. وإنما لم يجز الاسكان مع الادغام لانه جمع بين ساكنين في غير حروف المد واللين في نحو دابة وغير ذلك. وقد أنشد سيبويه في الجمع بين ساكنين مثل اجتماعهما في نعما قول الشاعر:

كأنها بعد كلال الزاجر *** ومسحه مر عقاب كاسر(2)

وأنكره أصحابه.

ومن رفع يكفر عطفه على موضع (ما) بعد الفاء ومن جزم فعلى موضع الفاء.

ومثل الاول قوله: (ومن يضلل الله فلا هادي له ويذرهم) ونظير الثاني " فأصدق وأكن " فمن اختار الجزم فلانه أبين في الاتصال بالجزاء ومن رفع فلانه أشكل بما دخلت له الفاء إذ كانت إنما دخلت لاستقبال الكلام بعدها وإن كان في معنى الجواب.

ومن قرأ بالياء فمعناه " ويكفر الله " وقوله: " من

___________________________________

(1) قاله امرؤ القيس بن عابس الكندي. ديوان امر القيس: 343، واللسان (خفا) وروايته (فان تكتموا السر لاتخفه).

(2) اللسان (كسر) في المطبوعة (كانه) بدل (كأنها) و (مر) ساقطة. وأنشده سيبويه: ومسح مرعقاب كاسر.

[353]

سيئاتكم " دخلت من للتبعيض لانه إنما يكفر بالطاعة - غير التوبة - الصغائر. هذا على مذهب من يقول بالصغائر والاحباط. فأما على مذهبنا فانما كان كذلك لان اسقاط العقاب كله تفضل، فله أن يتفضل باسقاط بعضه دون بعض فلو لم يدخل من لا فاداته يسقط جميع العقاب.

وقال قوم من زائده والذي ذكرناه أولى لانه لاحاجة بنا إلى الحكم بزيادتها مع امكان حملها على فائدة (والله بما تعملون خبير) معناه أنه تعالى بما تعملونه في صدقاتكم من إخفائها وإعلانها عالم خبير به لا يخفى عليه شئ من ذلك فيجازي على جميعه بحبسه.

وروي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال لابن العاص " تعما بالمال الصالح للرجل الصالح " فاختار أبوعبيد لاجل هذه الرواية قراء‌ة أبي عمرو وقال الزجاج هذه الرواية غير مضبوطة ولا يجوز عند البصريين ذلك لانه فيه جمعا بين ساكنين من غير حرف مد ولين وفي نعم ثلاث لغات نعم ونعم ونعما.

قوله تعالى: ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وما تنفقوا من خير فلا نفسكم وماتنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يوف اليكم وانتم لا تظلمون(272)

آية واحدة.

المعنى: قيل في وجه اتصال هذه الاية بما قبلها قولان: أحدهما - ما قاله ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة ليس عليك هداهم بمنع المشركين الاقرباء من الصدقة ليدخلوا في الاسلام فعلى هذا معناه الاباحة. الثاني - قال الحسن، أبوعلي الجبائي، والزجاج: " ليس عليك هداهم " بالحمل على النفقة في وجوه البر فعلى هذا معناه التسلية والتقدير ليس عليك أن تعدي الناس إلى نيل الثواب، والجنة وإنما عليك أن تهديم إلى الايمان بأن تدلهم عليه لانه (عليه السلام) كان يغتم إذا لم يؤمنوا

[354]

ولم يقبلوا منه لعلمه بما يصيرون إليه من العقاب فسلاه الله بهذا القول. وإنه لا ينبغي ترك مواساة ذوي القربى من أهل الشرك ليدخلوا في الاسلام فيكون ذلك مبيحا للصدقة المندوبة عليهم.

وقال ابن عباس، وابن الحنفية، وسعيد بن جبير: نزلت هذه الاية لانهم كانوا يتقون الصدقة على المشركين حتى نزلت " ليس عليك هداهم " وقوله: " ولكن الله يهدي من يشاء " إنما علق الهداية بالمشيئة لمن كان في المعلوم أنه يصلح باللطف وليس كل أحد يصلح به فلذلك جاء الاختصاص بالمشيئة.

وقال أبوعلي الجبائي: الهداية في الاية هو إلى طريق الجنة وذلك يختص بالمؤمنين المستحقين للثواب والاول اختيار البلخي وابن الاخشاد والزجاج وأكثر أهل العلم.

وقوله: (وما تنفقوا من خير فلانفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله) معناه فلهذا يجب ألا تمنوا بالصدقة والانفاق: إذ كان لانفسكم من حيث هو ذخر لكم ولابتغاء وجه الله الذي هو يوفر به الجزاء لم فهو من كل وجه عائد عليكم وليس كتمليك الله لعباده إذ نفعه راجع عليهم كيف تصرفت الحال بهم، فلذلك افترق ذكر العطية منه (تعالى)، والعطية من غيره.

ومعنى قوله " إلا ابتغاء وجه الله " إلا ابتغاء رضوان الله. واستدل بذلك على حسن باطن المعنيين بالاية. وانهم كانوا ينفقونه لوجه الله خالصا. وقيل معناه وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله، فكيف يضيع سعيكم وإنفاقكم.

وقيل في ذكر الوجه قولان: أحدهما - لتحقيق الاضا؟ إليه، لان ذكره يزيل الابهام انه له أو لغيره، لانك إذا اختصصت ذكر الوجه ومعناه التبيين، دل على أنك أردت الاختصاص وإزالة الابهام، ورفع الاشتراك وحققت الاضافة. والثاني - لاشرف الذكرين في الصفة لانه إذا قلت: فعلته لوجه زيد فهو أشرف في الذكر من فعلته (لزيد). لان وجه الشئ في الاصل أشرف ما فيه ثم كثر حتى صار يدل على شرف الذكر في الصفة فقط من غير تحقيق وجه ألا ترى أنك تقول: وجه هذا الامر كذا وهذا أوجه الرأي وهذا أوجه الدليل فلا تريد تحقيق الوجه وإنما يريد أشرف ما فيه من أجل شدة ظهوره وشدة بيانه.

[355]

قوله تعالى: للفقراء الذين احصروا في سبيل الله لايستطيعون ضربا في الارض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس الحافا وما تنفقوا من خير فان الله به عليم(273)

آية واحدة.

قرأ حمزة وعاصم وابن عامر " يحسبهم " - بفتح السين - الباقون بكسرها.

قال مجاهد، والسدي: الفقراء مذكورون في الاية هم فقراء المهاجرين.

وقال أبو جعفر (ع) نزلت في أصحاب الصفة. والعامل في الفقراء محذوف وتقديره النفقة للفقراء وقد تقدم ما يدل عليه.

وقال بعضهم هو مردود على اللام الاولى في قوله: (وما تنفقوا من خير فلا نفسكم) قال الرماني هذا لايجوز لان بدل الشئ من غيره لا يكون إلا والمعنى يشتمل عليه. وليس كذلك ذكر النفس ههنا، لان الانفاق لها من حيث هو عائد عليها، وللفقراء من حيث هو. واصل إليهم وليس من باب " ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا " لان الامر لازم للمستطيع خاصة ولا يجوز أن يكون العامل فيه " تنفقوا " لانه لا يفصل بين العامل والمعمول فيه بما ليس منه كما لا يجوز كانت الحمى تأخذ.

اللغة: وقوله: (الذين احصروا) فالاحصار منع النفس عن التصرف لمرض أو حاجة أو مخافة والحصر هو منع الغير وليس كالاول، لانه منع النفس.

وقال قتادة وابن زيد: منعوا أنفسهم من التصريف في التجارة للمعاش خوف العدو من الكفار.

وقال السدي: منعهم الكفار والخوف منهم، ولو كان الامر على ما ذكر لكان

[356]

حصروا لان الذي يمنعه العدو محصور والذي يمنع نفسه محصر، ويحسبهم - بفتح السين وكسرها - لغتان ومعناه يظنهم ولايعرف حالهم " أغنياء من التعفف "

وقوله: (لا يستطيعون ضربا في الارض) ليس معناه أنهم لايقدرون وإنما معناه أنهم ألزموا أنفسهم أمر الجهاد فمنعهم ذلك من التصرف كقولك: أمرني الوالي أن أقيم، فما أقدر أن أبرح معناه ألزمت نفسي طاعته لا أني لا أقدر عليه. وتقول ضربت في الارض ضربا ومضربا إذا سرت فيها وضرب الجرح إذا آلم ضربانا وضربا، وضرب الفحل الناقة: إذا طرقها ضربا والضريب.

الجليد تقول: ضربت الارض وجلدت. رواه الكسائي.

وقوله: " تعرفهم بسيماهم " فالسيما العلامة.

المعنى: وقال مجاهد: معناه ههنا التخشع.

وقال السدي، والربيع: علامة الفقر وأصل سيما الارتفاع لانها علامة رفعت للظهور. ومنه السؤم في البيع: وهو الزيادة في مقدار الثمن، للارتفاع فيه عن الحد. ومنه سوم الخسف للتوقع فيه بتحميل ما يشق. ومنه سوم الماشية إرسالها في المرعى.

وقوله: " لا يسألون الناس إلحافا " لا يدل على أنهم كانوا يسألون غير إلحاف - في قول الفراء، والزجاج، والبلخي، والجبائي - وإنما هو كقولك ما رأيت مثله. وأنت لم ترد أن له مثلا ما رأيته وإنما تريد أنه ليس له مثل فيرى.

وقال الزجاج معناه لم يكن سؤال، فيكون إلحاح كما قال امرؤ القيس:

على لاحب لا يهتدى بمناره *** إذا سافه العود النباطي جرجرا(1)

والمعنى لامنار به فيهتدى بها، وإنما وجهوه على ذلك، لان في الكلام

___________________________________

(1) ديوانه: 89. اللاحب: الطريق الواضح. والنار: العلامة توضع لارشاد المسافرين.

سافة: شمه. العود: الجمل المسن الضخم. جرجر: رغا وضج.

وقد مرصدره في 1: 189 - 289 - 444.

في المطبوعة وآمالي المرتضى 1: 228 الدبافي بدل (النباطي)

[357]

دليلا عليه، لانه (تعالى) وصفهم بالتعفف والمعرفة بسيماهم دون الافصاح بسؤالهم لانهم لو أفصحوا به لم يحسبهم الجاهل أغنياء، لانه إنما يجهل ما ينال بالاستدلال وإنما جاز هذا الاختصاص بالذكر لان المعنى نفي صفة الذم عنهم.

وقوله " إلحافا " قال الزجاج هو مأخوذ من اللحاف لاشتماله على وجوه الطلب في المسألة كاشتمال اللحاف في التغطية وقال غيره: لانه يلزم لزوم اللحاف في غير وقته. وفي الاية دلالة على فساد قول المجبرة في الاستطاعة، لانه تعالى إذا عذر من لايستطيع للمخافة كان من لا يستطيع لعدم القدرة أعذر.

وقوله (وما تنفقوا من خير فان الله به عليم) معناه يجازيكم عليه كما قال (وما تنفقوا من خير يعلمه الله).

قوله تعالى: الذين ينفقون اموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم اجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون(274)

آية.

ذكر ابن عباس أن هذه الاية نزلت في علي بن أبي طالب (ع) كانت معه أربعة دراهم فانفقها على هذه الصفة بالليل والنهار. وفي السر والعلانية. وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبدالله (ع) وروي عن أبي ذر (ره) والاوزاعي إنها نزلت في النفقة على الخيل في سبيل انه. قيل هي في كل من أنفق ماله في طاعة الله على هذه الصفة وإذا قلنا أنها نزلت في علي (ع) فحكمها سار في كل من فعل مثله فعله. وله فضل الاختصاص بالسبق إلى ذلك.

ونزول الاية من جهته. وقيل في قسمة الاموال في الانفاق على الليل والنهار والاسرار والاعلان أفضل من الانفاق على غير ذلك الوجه قولان: قال ابن عباس: إن هذا كان يعمل به حتى نزل فرض الزكاة في براء‌ة. والثاني - ان الافضل موافقة هذه الصفة التي وصفها الله. وهو الاقوى لانه الظاهر، وقال الرماني، ومن تابعه من المعتزلة لا يجب هذا الوعد

[358]

إذا رتكب صاحبها الكبيرة من الجرم كما لايجب إن اوتد عن الايمان إلى الكفر وإنما يجب لمن أخلصها مما يفسق بهاوهذا وعندنا ليس بصحيح، لان القول بالاحباط باطل ومفارقة الكبيرة بعد فعل الطاعة لا تحبط ثواب الطاعة بحال.

وإنما يستحق بمعصية العقاب ولله فيه المشيئة، فأما الارتداد فعندنا أن المؤمن على الحقيقة لايجوز أن يقع منه كفر، ومتى وقع ممن كان على ظاهر الايمان ارتداد علمنا أن ماكان يظهره لم يكن إيمانا على الحقيقة، وإنما قلنا ذلك لانه لو كان إيمانا لكان مستحقا به الثواب الدائم فاذا ارتد فيما بعد استحق بارتداه عقابا دائما فيجتمع له استحقاق الثواب الدائم والعقاب الدائم وذلك خلاف الاجماع وقوله: " الذين رفع بالابتداء " وما بعده صلة له وخبره " فلهم أجرهم عند ربهم " وإنما دخل الفاء في خبر الذين لان فيها معنى الجزاء، لانه يدل على أن الاجر من أجل الانفاق في طاعة الله.

ولا يجوز أن يقال زيد فله درهم لانه ليس فيه معنى الجزاء وإنما رفع (فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) ونصب " لا ريب فيه " لاجل تكرير (لا) في جواب إذا قال الشاعر:

وما صرمتك حتى قلت معلنة *** لاناقة لي في هذا ولا جمل

فأما " لا ريب فيه "، فجواب (هل) من ريب فيه، فقيل لا ريب فيه على عموم النفي كما أن السؤال على استغراق الجنس بمن فالاعتماد في أحدهما على عموم النفي وفي الاخر على اشتمال النفي على شيئين قد توهم: إثبات أحدهما.

والانفاق إخراج ما كان من المال عن الملك ولهذا لايصح في صفة الله (تعالى) الانفاق: وهوموصوف بالاعطاء لعباده ماشاء من نعمة لان الاعطاء إيصال الشئ إلى الاخذ له والسر: إخفاء الشئ في النفس فأما اخفاؤه في خباء، فليس بسر في الحقيقة، ومنه السرار والمسارة لان كل واحد منهما يخفي الشئ عن غيره إلا عن صاحبه، والعلانية، نقيض السر وهو إظهار الشئ وإبرازه من النفس.

[359]

قوله تعالى: الذين ياكلون الربا لايقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بانهم قالوا إنما البيع مثل الربا واحل الله البيع وحرم الربا فمن جاء‌ه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وامره إلى الله ومن عاد فاولئك اصحاب النار هم فيها خالدون(275)

آية.

المعنى: أصل الربا: الزيادة من قولهم ربا الشئ يربواربوا إذا زاد.

والربا: هو الزيادة على رأس المال. في نسيئة أو ممائلة وذلك كالزيادة على مقدار الدين للزيادة في الاجل أو كاعطاء درهم بدر همين أو دينار بدينارين، والمنصوص عن النبي صلى الله عليه وآله تحريم التفاضل في ستة أشياء.

الذهب، والفضة، والحنطة، والشعير، والتمر، والملح.

وقيل: الزبيب: فقال النبي صلى الله عليه وآله فيها مثلا بمثل يدا بيد من زاد أو ؟، فقد أربى. هذا الستة أشياء لاخلاف في حصول الربا فيها، وباقي الاشياء عند الفقهاء مقيس عليها. وفيها خلاف بينهم، وعندنا أن الربا في كل ما يكال، أو يوزن إذا كان الجنس واحدا، منصوص عليه. والربا محرم متوعد عليه كبيرة بلا خلاف، بهذه الاية، بقوله (يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فان لم تفعلوا ولن تفعلوا فاذنوا بحرب من الله رسوله)(1)

وقوله: (لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس) قال ابن عباس، وسعيد بن جبير، والحسن، ومجاهد، وقتادة: إن قيامهم هذه الصفة يكون

___________________________________

(1) سورة البقرة آية: 78 - 79.

[360]

يوم القيامة: إذا قاموا من قبورهم، ويكون ذلك إمارة لاهل الموقف على أنهم أكلة الربا.

وقوله: " يتخبطه الشيطان " مثل عند أبي علي الجبائي لاحقيقة على وجه التشبيه بحال من تغلب عليه المرة السوداء، فتضعف نفسه ويلج الشيطان بأغوائه عليه فيقع عند تلك الحال ويحصل به الصراع من فعل الله. ونسب إلى الشيطان مجازا لما كان عند وسوسته. وكان أبوالهذيل وابن الاخشاد يجيزان أن يكون الصراع من فعل الشيطان في بعض الناس دون بعض قالا. لان الظاهر من القران يشهد به، وليس في العقل ما يمنع منه وقال الجبائي: لايجوز ذلك، لان الشيطان خلق ضعيف لم يقدره الله على كيد البشر بالقتل والتخبيط ولو قوي على ذلك لقتل المؤمنين الصالحين والداعين إلى الخير، لانهم أعداؤه، ومن أشد الاشياء عليه.

وفي ذلك نظر وأصل الخبط: الضرب على غير استواء، خبطته أخبطه خبطا. والخبط ضرب البعير الارض بيديه والتخبظ المس بالجنون أو التخبل، لانه كالضرب على غير استواء في الادهاش.

والخبطة البقية من طعام أو ماء أو غيره لانه كالصبة من الدلووهي الخبطة به، والخبط: ورق تعلفه الابل.

والاخباط: داء كالجنون، لانه اضطراب في العقل كالاضطراب في الضرب.

والخبطة كالزكمة، لانها تضرب بالانحدار على اضطراب.

والخباط سمة في الفخذ لانها تضرب فيه على اضطراب.

ومعنى قوله: (ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا) إن المشركين قالوا: الزيادة على رأس المال بعد مصيره على جهة الدين كالزيادة عليه في ابتداء البيع وذلك خطأ، لانه أحدهما محرم والاخر مباح، وهو أيضا منفصل منه في العقد، لان الزيادة في أحدهما لتأخير الدين وفي الاخر لاجل البيع.

والفرق بين البيع والربا: أن البيع ببدل لان الثمن فيه بدل الثمن. والربا ليس كذلك وإنما هو زيادة من غير بدل للتأخير في الاجل أو زيادة في الجنس (وقد أحل الله البيع وحرم الربا).

وقوله: (فمن جاء‌ه موعظة من ربه فانتهى فله ماسلف) قال أبوجعفر من أدرك الاسلام وتاب مما كان عمله في الجاهلية، وضع الله عنه ما سلف.

[361]

وقال السدي: له ما أكل، وليس عليه رد ماسلف، فأما مالم يقبض بعد، فلا يجوز له أخذه. وله رأس المال.

وقال الطبري: الموعظة التذكير والتخويف الذي ذكره الله وخوفهم به من آي القرآن وأوعدهم عليه إذا أكلوا الربا من أنواع العقاب.

وقوله: " وما أمره إلى الله " معناه بعد مجئ الموعظة والتحريم، وبعد انتهاء أكله إلى الله (تعالى) عصمته، وتوفيقه إن شاء عصمه عن أكله وثبته في انتهائه عنه، وإن شاء خذله. ويحتمل أن يكون أراد، فله ما سلف يعني من الربا المأخوذ دون العقاب الذي استحقه.

اللغة: وقوله: (وأمره إلى الله) معناه في جواز العفو عنه إن لم يتب وكل شئ قدمته امامك فهو سلف. والسلوف التقدم يقال: سلف يسلف سلوفا ومنه الامم السالفة أي الماضية. والسالفة أعلى العنق.

والاسلاف الاعطاء قبل الاستحقاق تقول أسلفت المال إسلافا، وسلافة الخمر: صفوها لانه أول ما يخرج من عصيرها والسلفة: جلد رقيق يجعل بطانة للخفاف.

وسلف الرجل: المتزوج باخت امرأته والسلفة ما تدخره المرأة لتتحف به زائرا، وأصل الباب التقدم.

وقوله: " ومن عاد " فالعود هو الرجوع تقول عاد يعود عودا إذا رجع.

وعيادة المريض: المصير إليه لتعرف خبره.

والعود: من عيدان الشجر، لانه يعود إذا قطع ومنه العود الذي يتبخر به.

والعود: المسن من الابل.

والمعاد كل شئ إليه المصير.

فالاخرة معاد الناس أي مرجع.

وقوله: " لرادك إلى معاد "(1) يعني مكة بأن يفتحها عليه.

والاعادة: فعل الشئ ثانية وهو المبدئ المعيد. والعادة تكرر الشئ مرة بعد مرة. وتعود الخير عادة.

والعيد كل يوم مجمع عظيم، لانه يعود في السنة أو في الاسبوع.

والعائدة الصله لانها تعود بنفع على صاحبها وأصل الباب الرجوع.

___________________________________

(1) سورة القصص آية: 85.

[362]

تقول: عاد عودا واعتاد اعتيادا واستعاد استعادة وعود تعويدا، وتعود تعودا، وعاود معاودة.

المعنى: ومعنى الاية ومن عاد الاكل الربا بعد التحريم. وقال ما كان يقوله قبل مجئ الموعظة من أن البيع مثل الربا (فأنك أصحاب النار هم فيها خالدون) لان ذلك لايصدر إلا من كافر، لان مستحل الربا كافر بالاجماع فلذلك توعده بعذاب الابد. والخلود والوعيد في الاية يتوجه إلى من أربى، وإن لم يأكله وإنما ذكر الله الذين يأكلون الربا لانها نزلت في قوم كانوا يأكلونه، فوصفهم بصفتهم وحكمها سائر في جميع من أربى.

والاية الاخرى التي ذكرناها وتبين معناها فيما بعد تبين ما قلناه وعليه أيضا الاجماع وقيل في علة تحريم الربا أن فيه تعطيل المعايش والاجلاب والمتاجر إذا وجد المربي من يعطيه دراهم وفضلا بدراهم.

وقال أبوعبدالله (ع) إنما شدد في تحريم الربا لئلا يمتنع الناس من اصطناع المعروف فرضا أو رفدا وأما ذكر الموعظة ههنا وأنها في قوله: (قد جاء‌تكم موعظة من ربكم) لامرين: أحدهما - أن كل تأنيب ليس بحقيقي جاز فيه التذكير والتأنيث فجاء القرآن بالوجهين معا.

والثاني - أنه ذكر ههنا لوقوع الفصل بين الفعل والفاعل بالضمير وأنت في الموضع الذي لم يفصل.

والربا محرم في النقد والنسيئة بلا خلاف وكان بعض من تقدم يقول لا ربا إلا في النسيئة والذي كان يربيه أهل الجاهلية أن يؤخروا الدين عن محله إلى محل آخر بزيادة فيه وهذا حرام بلا خلاف.

ومسائل البيع الصحيح منها والفاسد وفروعها بيناها في النهاية والمبسوط وكذلك مسائل الصرف فلانطول بذكرها في هذا الكتاب.

[363]

قوله تعالى: يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم(276)

آية واحدة

اللغة: المحق: نقصان الشئ حالا بعد حال. محقه الله يمحقه محقا، فانمحق وامتحق أي هلك وتلف بذها به حالا بعد حال. والمحاق آخر الشهر لامحاق الهلال فيه. والشئ محيق بمعنى ممحوق وأصل الباب المحق فان قيل بأي شئ " يمحق الله الربا ويربي الصدقات؟ " قلنا: يمحقه بأن ينقصه حالا بعد حال.

وقال البلخي محقه في الدنيا بسقوط عدالته والحكم بفسقه وتسميته بالفسق.

المعنى: وقوله (ويربي الصدقات) معناه يزيدها بما يثمر المال في نفسه وبالاجر عليه وذلك بحسب الانتفاع بها وحسن النية فيها ووجه زيادته على المستحق بالعمل تفصل بالوعد به وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله أن الله يقبل الصدقة، ولا يقبل منها إلا الطيب ويربيها لصاحبه كما يربي أحدكم مهره أو فصيله حتى أن اللقمة لتصير مثل أحد، وذلك قوله: (يمحق الله الربا ويربي الصدقات).

وقوله: (والله لايحب كل كفار أثيم) إنما لم يقل كل كافر مع دخول الكفار في الكافر لان كل كفار كافر وليس كل كافر كفار للدلالة على أن مستحل الربا في قوله " إنما البيع مثل الربا " مع أنه كافر كفار، ويجوز للدلالة على صفات الذم إذ قد يتوهم أن الكفار من استكثر من كفر نعمة إنسان لا يبلغ به استحقاق العقاب ويجوز أن يكون من باب الاختصاص لعظم المنزلة في الامر الذي تعلق به الذكر " والاثيم " هو المتمادي في الاثم.

والاثم: الفاعل للاثم وإنما قال لا يحبه ولم يقل يبغضه لانه إذا لم يحب المكلف فهو يبغضه فقولك لا يحبه الله من صفات الذم كما أن قولك لم ينصف في المعاملة من صفات الذم كما أن قولك لم ينصف في المعاملة من صفات الذم.

[364]

قوله تعالى: أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون(277)

آية واحدة.

المعنى: إن قيل: إذا كان الثواب يستحق بخلوص الايمان فلم يشرط غيره من الخصال؟ قلنا: لم يذكر ذلك ليكون شرطا في استحقاق الثواب على الايمان وإنما بين أن كل خصلة من هذه الخصال يستحق به الثواب ونظير ذلك ما ذكره في آية الوعيد في قوله: (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق اثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا)(1) فانما بين أن كل خصلة من هذه الخصال يستحق بها العقاب لان من المعلوم أن من دعا مع الله إلها آخر لايحتاج إلى شرط عمل آخر استحق العقاب وإن كان الوعيد إنما يتوجه عليه بمجموع تلك الخصال لكان فيه تسهيل لكل واحد منهما وليس التقييد في آيتي الوعيد يجري مجرى قوله: (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا باربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة)(2) من قبل أن هذا معلق بحكم يجب بوجوبه ويرتفع بارتفاعه باجماع وليس كذلك ذكر هذه الخصال.

وهذه الاية تدل على أن أفعال الجوارح ليست من الايمان وإن الايمان هو التصديق بما وجب لانها لو كانت من الايمان، لكان قوله " إن الذين آمنوا " قد اشتمل عليها فلا معنى لذكرها بواو العطف إذ لا يعطف الشئ على نفسه.

فان قيل ذلك يجري مجرى قوله: (الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله)(3) وقوله:

___________________________________

(1) سورة الفرقان آية: 68.

(2) سورة النور آية: 4.

(3) سورة محمد آية: 1، وسورة النحل آية: 88.

[365]

(الذين كفروا وكذبوا بآياتنا)(1) قلنا والخلاف في هاتين كالخلاف في تلك لانا لا نقول إن التكذيب بالايات هو الكفر نفسه وإنما نقول هو دلالة على الكفر وكذلك الصد عن سبيل الله كما نقول: إن قول النبي صلى الله عليه وآله فلان كافر يدل على كفره.

وإن يكن ذلك كفرا وقال قوم: من المرجئة إن الوعد بهذه الخصال يدل على بطلان التحابط، لانه تعالى ضمن الثواب بنفس فعل هذه الخصال، ولم يشرط ألا يأتي بما يحبطها فان قيل لابد أن يكون ذلك مشروطا كما أن الوعيد على الكفر لابد أن يكون مشروطا بارتفاع التوبة منه، لان كل واحد من الامرين إنما يستحق بخلوه مما ينافيه وإذا اتبع بكبيرة لم يخلص كما لم يخلص ما اتبع بتوبة.

قلنا: إنما شرطنا الوعيد على الكفر بعدم التوبة لمكان الاجماع، لا لان التوبة تسقط العقاب على الكفر، وإنما وعد الله (تعالى) تفضلا باسقاط العقاب على المعاصي بالتوبة منها، وليس مثل ذلك موجودا في آية الوعد لانه ليس على شرط انتفاء الكبيرة إجماع، والعمل هو التغيير للشئ بالاحداث له أو فيه فاذا قيل: عمل فلان الصالحات كان معناه أحدثها وإذا قيل: عمل الموازين والخوض والسروج والصفر وغير ذلك، كان المراد أنه أحدث فيها ما تتغير به صورتها.

قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين(278)

آية واحدة.

النزول: ذكر السدي وابن جريج وعكرمة أن هذه الاية نزلت في بقية من الربا كانت للعباس ومسعود وعبد يأليل وحبيب وربيعة.

وبني عمرو بن عمير وروي عن أبي جعفر (ع) أن الوليد بن المغيره كان يربي في الجاهلية وكان بقي له بقايا على

___________________________________

(1) سورة البقرة آية: 39، وسورة المائدة آية: 11، 89 وسورة الحج آية: 57 وسورة الحديد آية: 19، وسورة التغابن آية: 10.

[366]

ثقيف فأراد خالد بن الوليد المطالبة بها بعد أن أسلم فنزلت هذه الاية في المنع من ذلك.

المعنى: ومعنى " ذروا ما بقي من الربا " ظاهره تحريم ما بقي دينا من الربا وإيجاب أخذ رأس المال دون الزيادة على جهة الربا.

وقوله: " إن كنتم مؤمنين " قيل فيه قولان: أحدهما - من كان مؤمنا فهذا حكمه. والثاني - إذ كنتم مؤمنين. والاول هو الاقوى.

اللغة: ومعنى " ذروا " اتركوا. ولم يستعمل منه وذر، ولا واذر لكراهتة الواو مبتدأة لانها لم تزد أولا في كلامهم كزيادة اختيها الياء والهمزة.

قال الخليل: إذا التقت واوان في أول الكلمة أشبه بنباح الكلب فرفضوا ذلك إلا فيما هو عارض لايعتد به فاستعملوا يذر، لانه لا تظهر فيه الواو، ومثله يدع. فأما وعد فجاء على الاصل.

فان قيل: لم جاز وصف المبهم بالوصول، ولم يحسن بالمضاف فجاز أن يقول: " يا أيها الذين آمنوا " ولم يحسن (يا أيها غلام زيد) قلنا: لان المبهم حقه أن يوصف بالجنس المعرف بالالف واللام، لانه إذا عرض فيه تنكير بطلت دلالته على الجنس، فاحتيج إلى وصفه بالجنس لذلك.

فان قيل: هلا جاز (يا أيها غلام الرجل) كما جاز (نعم غلام الرجل) إذ المضاف إلى الجنس يقوم مقام الجنس: قيل: لانه لايجوز في الاسماء التامة أن تكون ثلاثة أسماء بمنزلة إسم واحد منها.

وقد جعل (يا أيها الرجل) بمنزلة اسمين ضم أحدهما إلى الاخر نحو (حضرموت) ليكون بذلك أشد اتصالا بالموصوف من سائر الصفات، فلم يجز في المضاف لما يجب له من شدة الاتصال وجاز في نعم، لانه على الانفصال.

[367]

قوله تعالى: فان لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وان تبتم فلكم رؤس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون(279)

آية.

القراء‌ة: قرأ " فآذنوا " من الرباعي ممدودة حمزة وعاصم: من آذنت أي أعلمت. الباقون (فأذنوا).

المعنى: والتقدير في قوله: " فان لم تفعلوا " يعني ترك ما بقي من الربا أو تجنب ما بقي من الربا، لان ما تقدم دل عليه.

وقال ابن عباس، وقتادة، والربيع: من عامل بالربا استتا به الامام فان تاب، وإلا قتله.

وقال البلخي: لو اجتمع أهل قرية على اظهار المعاملة بالربا، لكان على الامام محاربتهم، وإن كان محرمين له، ولو فعل الواحد بعد الواحد، والاكثر منكر لفعله لم يقتل الواحد، لكن يقام عليه من الحكم ما يستحقه. وعندنا أنه يؤدبه الامام ثلاث مرات بما يرتدع معه عن فعل مثله فان عاد رابعا قتله.

اللغة: ومعنى قوله: " فاذنوا " ممدودا: علموا غيركم. ومن قرأ بالقصر فهو من أذنت به آذن اذنا إذا علمت به.

وقوله: " بحرب من الله " فالحرب: القتال. والحرب: الشدة.

والحربة: التي يطعن بها من آلة الحرب.

والتحريب: التحريش. لانه حمل على ما هو كالحرب من الاذى.

والمحراب: مقام الامام، لانه كموضع الحرب في شدة التحفظ.

والحربا: المسمار الذي يجمع حلقتي الدرع.

والحربا: دويبة

[368]

أكبر من العطاء‌ة، لانه ينتصب على الشجرة كمصلوب أخذ من الحرب لشدة طلبه للشمس تذور معها كيفما دارت.

وأصل الباب الشدة.

ومعنى قوله: (وإن تبتم) يعني من الربا لان الكلام يدل عليه، فلكم رؤس أموالكم لا تظلمون بأخذ الزيادة على رأس المال ولا تظلمون بالنقصان.

وروي في الشواذ " لا تظلمون ولا تظلمون " والمعنى واحد وأنما فيه تقدم وتأخير وموضع (لا تظلمون) نصب على الحال. وتقديره فلكم رؤس أموالكم غير ظالمين ولا مظلمومين.

الآية: 280 - 286

قوله تعالى: وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وإن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون(280)

امعنى قوله: " وإن كان دو عسرة أي من غرمائكم إن كان معسرا.

وارتفع ذو عسرة لاحد وجهين: أحدهما - حذف الخبر، وتقديره وإن كان ذو عسرة غريما لكم. الثاني - أن تكون كان التامة المكتفية باسمها وتقديره وإن وقع ذو عسرة أو وجد ذو عسرة وكان يجوز وإن كان ذا عسرة على تقدير وإن كان الذي عليه الدين ذا عسرة.

وروي ذلك في قراء‌ة أبي.

وقوله: (فنظرة) معناه فعليكم نظرة، وهل الانظار واجب في كل دين أو في دين الربا فقط.

قيل فيه ثلاثة أقوال: أولها - قال شريح، وإبراهيم في دين الربا خاصة.

والثاني - قال ابن عباس، والضحاك، والحسن: في كل دين. وهو قول أبي جعفر، وأبي عبدالله (ع).

الثالث - بالاية يجب في دين الربا وبالقياس في كل دين، واستدل على أنه يجب في كل دين بأنه لايخلو أن يجب في ذمته أو في رقبته أو عين ماله، فلو كان في رقبته لكان إذا مات بطل وجوبه، ولو كان في عين ماله كان إذا هلك بطل وجوبه فصح أنه في ذمته، ولا سبيل له عليه في غير ذلك من حبس أو نحوه وقرأ نافع (ميسرة) - بضم السين - الباقون بفتحها، وهما لغتان:

[369]

ومعناه إلى أن يوسع عليه.

وقال أبوجعفر (ع) إلى أن يبلغ خبره الامام فيقضي عنه من سهم الغارمين إذا كان أنفقه في معروف.

وقوله: (وإن تصدقوا خير لكم) معناه على المعسر بما عليه من الدين خير لكم. وقيل إن معناه وإن تصدقوا بجميع المال على الفقراء. والاول أليق بما تقدم.

وروي عن ابن عباس. وعمر أن آخر ما نزل من القرآن آي الربا.

وروي عن مجاهد (ميسره) بالهاء في الوصل مضافا إلى الهاء. ولم يجز ذلك البصريون لانه ليس في الكلام مفعله.

والاعسار الذي يجب فيه الانظار قال الجبائي: التعذر بالاعدام أو بكساد المتاع ونحوه.

وروي عن أبي عبدالله (ع) هو إذا لم يقدر على ما يفضل عن قوته وقوة عياله على الاقتصاد.

وروي عن عطا (فناظرة) وهو شاذ، وهو مصدر نحو قوله: " ليس لوقعتها كاذبة "(1) " وتظن أن يفعل بها فاقرة(2) وكذلك العاقبة والعافية.

قوله تعالى: واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون(281)

آية واحدة.

القراء‌ة والنزول: قرأ أبوعمرو. وحده (ترجعون) بفتح التاء الباقون بضمها.

قال ابن عباس وعطية والسدي: هذه الاية آخر ما نزلت من القرآن.

وقال جبريل (ع) ضعها في رأس الثمانين والمائتين من البقرة.

المعنى: وقيل في معنى ترجعون فيه إلى الله قولان: أحدهما - ترجعون فيه إلى جزاء الله. الثاني - ترجعون فيه إلى ملك الله

___________________________________

(1) سورة الواقعة آية: 2.

(2) سورة القيامة آية: 25.

[370]

لنفعكم وضركم دون غيره ممن كان ملكه إياه في دار الدنيا.

وقوله (ثم توفى كل نفس ما كسبت) قيل فيه وجهان: أحدهما - توفى جزاء ما كسبت من الاعمال. الثاني - توفى بما كسبت من الثواب أو العقاب، لان الكسب على وجهين: كسب العبد لفعله وكسبه لما ليس من فعله ككسبه المال.

وقوله: (وهم لا يظلمون) معناه لا ينقصون ما يستحقونه من الثواب ولا يزداد عليهم فيما يستحقونه من العقاب والاية تدل على أن الجزاء لايكون إلا على الكسب لانه لو كان خاصا لجرى مجرى توفى كل نفس ما قالت وليس مفهومه كذلك لانه عام فيما يجازي به العبد وموضع " ثم توفى كل نفس ما كسبت " نصب بانه عطف على صفة يوما إلا أنه حذف منه فيه لدلالة الاول عليه.

[371]

قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا فان كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل واستشهدوا شهيدين من رجالكم فان لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تفضل احداهما فتذكر احداهما الاخرى ولا يأب الشهداء إذا ما دعرا ولاتساموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى اجله ذلكم أقسط عند الله واقوم للشهادة وادنى الا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح الا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضار كاتب ولا شهيد وان تفعلوا فانه فسوق بكم واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شئ عليم(282)

آية واحدة

القراء‌ة: قرأ حمزة وحده " ان تضل احداهما " بكسرالالف. الباقون بفتحها.

وقرأ ابن كثير، وأبوعمرو " فتذكر " بالتخفيف والنصب.

وقرأ حمزة بالتشديد، والرفع.

وقرأ (تجارة حاضرة) بالنصب عاصم. الباقون بالرفع.

المعنى: قوله: " إذا تداينتم " معناه تعاملتم بدين.

وإنما قال: " بدين " وإن كان تداينتم أفاده لامرين: أحداهما - أنه على وجه التأكيد كما تقول ضربته ضربا. والثاني - أن تداينتم يكون بمعنى تجازيتم من الدين الذي هو الجزاء فاذا قال: بدين اختص بالدين خاصة " إلى أجل مسمى " معناه معلوم وقوله: " فاكتبوه " ظاهره الامر بالكتابة. واختلفوا في مقتضاه، فقال أبوسعيد الخدري، والشعبي، والحسن: هو مندوب إليه.

وقال الربيع، وكعب: هو على الفرض. والاول أصح، لاجماع أهل عصرنا على ذلك.

ولقوله تعالى " فان أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي أو تمن أمانته " ومفهومه فان أمنه فيما له أن يأمنه.

وقال ابن عباس: هذه الاية في السلم خاصة.

وقال غيره: حكمها في كل دين من سلم أو تأخير ثمن في بيع. وهو الاقوى لاية العموم. فأما القرض فلا مدخل له فيه لانه لايجوز مؤجلا وقوله: (ولايأب كاتب) ظاهره النهي عن الامتناع من الكتابة، والنهي يقتضي تحريم الامتناع.

[372]

وقال عامر الشعبي هو فرض على الكفاية كالجهاد، وهواختيار الرماني، والجبائي وجوز الجبائي أن يأخذ الكاتب والشاهد الاجرة على ذلك. وعندنا لايجوز ذلك. والورق الذي يكتب فيه على صاحب الدين دون من عليه الدين. ويكون الكتاب في يده لانه له.

وقال السدي واجب على الكاتب في حال فراغه.

وقال مجاهد وعطا هو واجب إذا أمر.

وقال الضحاك نسختها قوله: " ولايضار كاتب ولاشهيد ".

وقوله: (أن يكتب كما علمه الله فليكتب) يعني الكاتب (وليملل الذي عليه الحق) أمر لمن عليه الحق بالاملال وهو الاملاء بمعنى تقول أمليت عليه وأمللت عليه بمعنى واحد.

وقوله: (وليتق الله ربه) معناه لايملل إلا الحق الذي عليه والاملال المراد به الندب لانه لو أملا غيره وأشهد هو كان جائزا بلا خلاف.

وقوله: (ولايبخس منه شيئا) أي لا ينقص منه شيئا والبخس النقص ظلما. وقد بخسه حقه يبخسه بخسا إذا نقصه ظلما ومنه قوله تعالى " ولا تبخسوا الناس أشياء‌هم " أي لا تنقصوهم ظالمين لهم ومنه قوله (وشروره بثمن بخس) أي ناقص عن حقه والبخس فقأ العين لانه إدخال نقص على صاحبها وتباخس القوم في البيع إذا تعانبوا.

وقوله: (فان كان الذي عليه الحق سفيها) قال مجاهد السفيه: الجاهل.

وقال السدي الصغير وأصل السفه الخفة ومن ذلك قوله الشاعر:

مشين كما اهتزت رماح تسفهت *** أعاليها مر الرياح النواسم(1)

أي استخفتها الرياح وقال الشاعر:

نخاف أن يسفه أحلامنا *** فنحمل الدهر مع الخامل

أي تخف أحلامنا فالسفيه الجاهل، لانه خفيف العقل بنقصه.

وقوله: " وأو ضعيفا " قال مجاهد والشعبي: هو الاحمق.

وقال الطبري: هو العاجز عن الاملاء بالعي أو بالخرس " أو لا يستطيع أن يمل " قال ابن عباس: هو العي الاخرس. وقيل المجنون. والهاء في قوله " وليه " عائدة إلى السفيه - في قول الضحاك، وابن زيد - الذي يقوم مقامه.

___________________________________

(1) اللسان (سفه).

[373]

وقال الربيع: ترجع إلى ولي الحق. والاول أقوى. وإذا أشهد الولي على نفسه فلا يلزمه المال في ذمته بل يلزم ذلك في مال المولى عليه.

وقوله: " واستشهدوا شهيدين من رجالكم " يعني من رجال الاحرار المسلمين دون الكفار والعبيد - في قول مجاهد - والحرية ليست عندنا شرطا في قبول الشهادة وإنما الاسلام شرط من العدالة.

وبه قال شريح والبتى، وأبو ثور، ومثله قوله: (وانكحوا الايامى منكم والصالحين من عبادكم وامائكم)(1)

وقوله: " فان لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان " يحتمل رفعه أربعة أوجه: أحدها - فليكن رجل وامرأتان.

الثاني - فليشهد رجل وامرأتان.

الثالث - فالشاهد رجل وامرأتان.

الرابع - فرجل وامرأتان يشهدون وكل ذلك حسن.

وكان يجوز أن ينصب رجلا وامرأتين بمعنى واستشهدوا رجلا وامرأتين.

وقوله: " أن تضل احداهما فتذكر احداهما الاخرى " يحتمل وجهين: أحدهما - قال الربيع والسدي والضحاك وأكثر المفسرين إنه من الذكر الذي هو ضد النسيان.

وقال سفيان بن عيينة: هو من الذكر.

ومعناه أن تجعلها كذكر من الرجال.

ومعنى أن تضل لان تضل أو من أجل أن.

فان قيل لم قال " إن تضل " وإنما الاشهاد، للاذكار لا للضلال قيل عنه جوابان: أحدهما - قال سيبويه أنه لما كان الضلال سبب الاذكار قدم لذلك وجاز لتعلق كل واحد منهما بالاخر في حكم واحد فصار بمنزلة ما وقع الاشهاد للمرأتين من أجل الضلال، كما وقع من أجل الاذكار وكثيرا في السبب والمسبب أن يحمل كل واحد منهما على الاخر، ومثله أعددت الخشبة أن تميل الحائط فأدعمه وإنما أعددته في الحقيقة للدعم ولكن حمل عليه الميل لانه سببه. الثاني - قال الفراء إنه بمعنى الجزاء على أن تذكر احداهما الاخرى إن ضلت إلا أنه لما قدمت (أن) اتصلت بما قبلها من العامل فانفتحت.

ومثله يعجبنى أن سأل السائل فيعطى. وإنما يعجبك الاعطاء دون المسألة. ومثله قوله: " ولولا أن

___________________________________

(1) سورة النور آية: 32.

[374]

تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا "(1) ومعناه ولولا أن يقولوا أن اصابهم مصيبة، وإنما قدم وأخر.

قال الرماني قول سيبويه في هذا أقوى لما في الثاني من الدعوى لاخراج الجزاء إلى المصدر لغير فائدة. وأنكر بعضهم قراء‌ة حمزة " إن تضل " - بكسر الهمزة - وقال الرماني: لامعنى لهذا الانكار، لان عليها إجماع الامة وتسليم القراء‌ة بها ولها وجه صحيح في العربية.

وقال أبوعلي الفارسي إن حمزة جعل إن للجزاء، والفاء في قوله " فتذكر " جواب الجزاء، ويكون موضع جوابه رفعا بكونها وصفا للمنكرين وهما المرأتان في الاي.

وقوله: (فرجل وامرأتان) خبر ابتداء محذوف، وتقديره فمن يشهد رجل وامرأتان، وانفتحت اللام في هذه القراء‌ة لالتقاء الساكنين، وموضعهما الجزم ولو كسرت، لكان جائزا وقال قوم: غلط سفيان بن عيينة في تأويله، لان احداهما إذا نسيت لم تجعلها الاخرى ذكرا وهذا ليس بشئ، لان المعنى تذكرها تصير معها بمنزلة الذكر لان بعدهما من النسيان إذا اجتمعا بمنزلة بعد الذكر، فان قيل: فلم قال " فتذكر إحداهما الاخرى " فكرر لفظ إحداهما، ولو قال فتذكرها الاخرى لقام مقامه مع اختصاره.

قيل قال الحسين بن علي المغربي: إن تضل إحداهما يعني إحدى الشهادتين أي تضيع بالنسيان فتذكر أحدى المرأتين الاخرى، لئلا يتكرر لفظ إحداهما بلا معنى ويؤيد ذلك أنه يسمى ناسي الشهادة ضالا.

ويجوز أن يقال: ضلت الشهادة إذا ضاعت كما قال تعالى: " قالوا ضلوا عنا "(2) أي ضاعوا منا ويحتمل أن يكون إنما كرر لئلا يفصل بين الفعل والفاعل بالمفعول فان ذلك مكروه غير جيد، فعلى هذا يكون احداهما الفاعلة والاخرى مفعولا بها.

وقوله: (ولايأب الشهداء إذا ما دعوا) قيل في معنى ما دعوا إليه ثلاثة أقوال: أحدها - لاثبات الشهادة في الكتاب وتحملها ذهب إليه ابن عباس، وقتادة، والربيع.

___________________________________

(1) سورة القصص آية: 47.

(2) سورة الاعراف آية 36، وسورة المؤمن آية: 73.

[375]

الثاني - قال مجاهد، وعامر، وعطا ذلك إذا دعوا لاقامتها.

الثالث - في رواية عن ابن عباس، والحسن، وأبي عبدالله (ع) لاقامتها وإثباتها. وهو أعم فائدة.

وقال الطبري: لايجوز إلا إذا دعوا لاقامتها، لان قيل أن يشهدوا لايوصفون بأنهم شهداء. وهذا باطل لانه تعالى قال: " واستشهدوا شهيدين من رجالكم " فسماهما شاهدين قبل إقامة الشهادة.

اللغة: وقوله: (ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله) فالسأم: الملل، سئم يسأم سأما إذا مل من الشئ وضجر منه قال زهير:

سئمت تكاليف الحياة ومن يعش *** ثمانين حولا لاأبالك ويسأم(1)

والصغير: خلاف الكبير صغر الشئ يصغر صغرا، وصغره تصغيرا واستصغره إستصغارا وتصاغر تصاغرا. وصغر يصغر صغرا وصغارا: إذا رضي بالضيم، لانه رضي باستصغاره.

تصاغرت إليه نفسه ذلا ومهانة. والاصغار حنين الناقة الحفيض والاكبار حنينها الكبير.

والهاء في قوله: " أجله " يحتمل أن تكون عائدة إلى أجل الدين. وهو الاقوى.

والثاني إلى أجل الشاهد. أي الوقت الذي تجوز فيه الشهادة.

وقوله: " ذلكم أقسط عند الله " معناه أعدل والقسط: العدل تقول: أقسط إقساطا، فهو مقسط إذا عدل ومنه قوله: " إن الله يحب المقسطين " والقسط: الحصة تقول أخذ فلان قسطه أي حصته.

وقد تقسطوا الشئ بينهم أي اقتسموه على القسط أي على العدل.

وكل مقدار قسط لانه عدل غيره بالمساواة له.

والقسوط: الجور لانه عدول عن الحق قسط يقسط قسطا، فهو قاسط إذا جاز عن الحق.

وقوله تعالى: " وأما القاسطون فكانوا " لجهنم حطبا "(2) والرجل القسطاء: التي في ساقها أعوجاج لعدوله عن الاستقامة.

___________________________________

(1) من معلقته الشهيرة: ديوانه 9.

(2) سورة الجن آية: 15.

[376]

المعنى: وقوله: " وأقوم للشهادة " معناه أصح لها مأخوذ من الاستقامة.

وقوله: " وأدنى ألا ترتابوا " أي أقرب ألا تشكوا بأن ينكر من عليه الحق.

وقيل: بالا ترتابوا بالشاهد أن يضل، وقوله: " إلا أن تكون تجارة حاضرة " فمن رفع احتمل رفعه أمرين: أحدهما - أن تكون (كان) تامة بمعنى وقع، فيكون اسم كان، ويحتمل أن تكون ناقصة ويكون اسمها والخبر تديرونها. ومن نصب معناه أن تكون التبايع تجارة أو التجارة تجارة.

وقوله: (واشهدوا إذا تبايعتم) قال الضحاك: الاشهاد: فرض في التبايع وبه قال أصحاب الطاهر واختاره الطبري.

وقال الحسن، والشعبي ذو ندب. وهو الصحيح وبه قال جميع الفقهاء.

وقوله " ولايضار " أصله يضار - بكسر الراء - عند الحسن، وقتادة، وعطا، وابن زيد، وقيل: المضارة وهو أن يشهد الشاهد بما لم يستشهد فيه، ويكتب الكاتب بما لم يمل عليه. ذهب إليه الحسن، وطاووس، وهو الاقوى.

بدلالة قوله " وإن تفعلوا " يعني المضارة " فانه فسوق بكم " أي معصية في قول ابن عباس، ومجاهد، والضحاك. ومن دعا الشاهد وهو مشغول، فتأخر لايكون فاسقا بلا خلاف.

وقال ابن مسعود، ومجاهد - بفتح الراء - ومعناه لا يدعى الكاتب، والشاهد، وهو مشغول على وجه الاضرار به.

ومعنى قوله: " صغيرا أو كبيرا " معناه هو في العادة صغير جرت العادة بكتب مثله. ولايريد بذلك ما قدره حبة أو قيراط، لان ذلك لم تجر العادة بكتب مثله، والاشهاد عليه وليس في الاية ما يدل على أنه لايجوز الحكم بالشاهد واليمين، لان الحكم بالشاهد والمرأتين أو بالشاهدين لايمنع من قيام الدلالة على جواب الحكم بالشاهد مع اليمين. ولا يكون ذلك نسخا لذلك، لانه ليس بمناف للمذكور في الاية والحكم بالشاهد والمرأتين يختص بما يكون مالا أن المقصد به المال فأما الحدود التي هي حق الله وحقوق الادميين وما يوجب القصاص. وفلا يحكم

[377]

فيها بشهادة رجل وامرأتين، وكذلك عندنا في الشاهد، واليمين حكم الشاهد والمرأتين سواء. وقد بسطنا مسائل الشهادات، وفروعها، وما يقبل منها وما لا يقبل وأحكام شهادة النساء والعبيد وغير ذلك في كتابينا النهاية، والمبسوط، فلا معنى للتطويل بذكرها ههنا.

وقوله: (واتقو الله) معناه انقوا معاصية وعقابه.

وقوله: " ويعلمكم الله " معناه يعلمكم ما فيه صلاح دينكم ودنياكم وما ينبغي لكم فعله، ومايحرم عليكم. والله عليم بذلك وبما سواه من المعلومات فلذلك، قال " بكل شئ عليم ".

الاعراب: وقال أبوعلي الفارسي " ان تضل احداهما فتذكر إحداهما الاخرى " لايكون متعلقا بقوله: " واستشهدوا شهيدين من رجالكم " " ان تضل احداهما " ولكن يتعلق بأن يفعل مضمر دل عليه هذا الكلام، لان قوله: " فان لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان " يدل على قولك واستشهدوا رجلا وامرأتين، فتعلق (ان) إنما هو بهذا الفعل المدلول عليه.

قال ويجوز أن تتعلق (ان) باحد ثلاثة أشياء.

أحدها - المضمر الذي دل عليه قوله: " واسشهدوا شهيدين ".

الثاني - الفعل الذي هو فليشهد رجل وأمرأتان.

الثالث - الفعل الذي هو خبر المبتدأ، وتقديره فرجل وامرأتان يشهدون، فيكون يشهدون خبر المبتدأ.

قال وقوله: " ممن ترضون من الشهداء " فيه ذكر يعود إلى الموصوفين الذين هم " فرجل وامرأتان "، ولا يجوز أن يكون فيه ذكر لشهيدين المتقدم ذكرهما لاختلاف إعراب الموصوفين ألا ترى أن شهيدين منصوبان، ورجل وامرأتان اعرابهم الرفع، فاذا كان كذلك علمت أن الوصف الذي هو ظرف إنما هو وصف لقوله: " فرجل وامرأتان " دون من تقدم ذكرهما من الشاهدين. والشرط وجزاؤه وصف للمرأتين، لان الشرط، والجزاء جملة يوصف بها كما يوصل بها في قوله: " الذين إن مكناهم... الاية "(1).

___________________________________

(1) سورة الحج آية 41

[378]

اللغة: وأما إحدى فهو مؤنث الواحد والواحد الذي مؤنثه إحدى إنما هو اسم وليس. وبوصف ولذلك جاء احدى على بناء لايكون للصفات أبدا كما كان الذي هو مذكره كذلك وقال أحمد بن يحيى قالوا: هو إحدى الاحد، وواحد الاحدين وواحد الاحاد وأنشد:

عدونى الثعلب فيما عدوا *** حتى استثار واني أحدى الاحد

ليثا هزبرا ذا سلاح معتدى(1) المعنى: وقوله: (الا أن تكون تجارة حاضرة (استثناء من جملة ما أمر الله بكتابته والاشهاد عليه عند التبايع فاستثنى منه يدا بيد فانه لايحتاج إلى الكتابة ولا الاشهاد عليه، والاول يحتاج اليه على خلاف، في كونه ندبا أو وجوبا كما ذكرناه.

وقيل في البقرة خمسمائة حكم وفي هذه الاية أربعة عشر حكما أولها قوله: " يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه " والثاني - " وليكتب بينكم كاتب بالعدل " الثالث - " ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله والرابع - " وليملل الذي عليه الحق " وهو أقداره إذا أملاه. الخامس - " وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا ". أي لا يخون، ولا ينقصه. السادس - " فان كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو " أي لا يحسن " فليملل وليه بالعدل " السابع - " واستشهدوا شهيدين من رجالكم " والثامن - " فان لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء ان تضل احداهما فتذكر احداهما الاخرى " التاسع - " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " والعاشر - " ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله " أي لا تضجروا. والحادي عشر - " ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة

___________________________________

(1) هكذا في المطبوعة. ولم نجدها من مصادرنا - وهي كما ترى.

[379]

تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها " الثاني عشر - " واشهدوا إذا تبايعتم " الثالث عشر - " ولا يضار كاتب ولا شهيد " الرابع عشر - " وإن تفعلوا فانه فسوق بكم " وقال قوم: فيها إحدى وعشرون حكما: " إذا تداينتم " حكم " فاكتبوه " حكم " ولا يبخس " حكم " فان كان الذي عليه الحق سفيها " حكم " أو ضعيفا " حكم " أو لا يستطيع " حكم " فليملل وليه " حكم " بالعدل " حكم " واستشهدوا شهيدين " حكم " فرجل وامرأتان " حكم " ممن ترضون من الشهداء " حكم " ولا يأب الشهداء " حكم " ولا تسأموا " حكم " إلا أن تكون تجارة حاضرة " حكم " واشهدوا إذا تبايعتم " حكم " ولا يضار كاتب " حكم " ولا شهيد " حكم.

قوله تعالى: وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة فان امن بعضكم بعضا فليؤد الذي أؤتمن أمانته وليتق الله ربه ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فانه آثم قلبه والله بما تعملون عليم(283)

آية بلا خلاف.

القراء‌ة واللغة: قرأ أبوعمرو وابن كثير " فرهن " على وزن فعل. الباقون " فرهان " على فعال. الرهن مصدر رهنت الشئ أرهنه رهنا وأرهنته إرهانا. والاول أفصح.

قال الشاعر في أرهنت:

فلما خشيت أظافيره *** نجوت وأرهنته مالكا(1)

وقال الازهري: أرهنت في الشئ إذا سلفت فيه.

___________________________________

(1) قيل ان البيت لهمام بن مرة، وفي الصحاح لعبد الله بن همام السلولي. اللسان رهن) وروايته (اظافيرهم) بدل (اظافيره). في المطبوعة (نحرت) بدل نجوت.

[380]

قال الشاعر: عيديه أرهنت فيها الدنانير(1) وأرهنتة إرتهانا وتراهنوا تراهنا.

وراهنه مراهنة واسترهنه استرهانا. والانسان رهين عمله.

وكل شئ يحتبس غيره فهو رهينة ومرتهنة.

وأصل الباب الرهن: حبس الشئ بما عليه وواحد الرهن رهان.

وهو جمع الجمع نحو ثمار وثمر في قول الكسائي، والفراء.

وقال أبوعبيدة: واحده رهن نحو سقف وسقف. وقيل لا يعرف في الاسماء فعل وفعل غير هذين. وزاد بعضهم قلب النخلة وقلب. فأما (رهان) فهو جمع رهن، وهو على القياس نحو حبل وحبال، وفعل وفعال، وكبش وكباش، وإنما اختار أبوعمرو: فرهن لانه موافق لخط المصحف، ولغلبة الاستعمال في الرهان في الخيل، واختاره الزجاج أيضا.

ومن اختار (رهان) فلا طراده في باب الجمع. وكل حسن.

وارتفع (فرهن) بأنه خبر ابتداء محذوف تقديره فالوثيقة رهن ويجوز فعليه ورهن.

ولو قرئ " فرهنا " بالنصب بمعنى فارتهنوا رهنا جاز في العربية، ولكن لم يقرأ به أحد.

وشاهد الرهن قول قعب بن أم صاحب:

بانت سعاد وأمسى دونها عدن *** وغلقت عندها من قبلك الرهن(2)

المعنى: ومن شرط صحة الرهن أن يكون مقبوضا لقوله: " فرهان مقبوصة " فان لم يقبض لم ينعقد الرهن. ومسائل الرهن ذكرناها في النهاية والمبسوط مستوفاة فلا فائدة للتطويل بذكرها ههنا. ويجوز أخذ الرهن في الحضر مع وجود الكاتب، لما روي أن النبي صلى الله عليه وآله اشترى طعاما نساء ورهن فيه درعا. وقوله (ع) لا يغلق الرهن. معناه أن يقول الراهن إن جئتك بفكاكه إلى شهر وإلا فهو لك بالدين. وهذا باطل بلا خلاف.

___________________________________

(1) اللسان (عود) وصدره: ظلت بحوب بها البلدان ناحية.

(2) اللسان (رهن).

[381]

وقوله: " ولا تكتموا الشهادة " يعني بعد تحملها " ومن يكتمها فانه آثم قلبه " إنما أضاف إلى القلب مجازا، لانه محل الكتمان، وإلا فالاثم هو الحي.

وقوله: " فان أمن بعضكم بعضا " معناه ان أتمنه فلم يقبض منه رهنا " فليؤد الذي أو تمن أمانته " يعني الذي عليه الدين " وليتق الله ربه " أن يظلمه أن يخونه " والله بما تعملون عليم " بما تسرونه وتكتمونه.

ودل قوله: " فان أمن بعضكم بعضا) على أن الاشهاد والكتابة في المداينة ليس بواجب، وإنما هو على جهة الاحتياط.

وقد روي عن ابن عباس، ومجاهد، وغيرهما (فان لم تجدوا كتابا) يعني ما تكتبون فيه من طرس أو غيره.

والمشهور هو الاول الذي حكيناه عن قرأ أهل الامصار، وحكي عن بعضهم أنه قرأ " فانه آثم قلبه " بالنصب فان صح فهو من قولهم: سفهت نفسك وأثمت قلبك.

قوله تعالى: لله ما في السماوات وما في الارض وإن تبدوا ما في أنفسكم أن تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شئ قدير(284)

آية واحدة بلا خلاف.

القراء‌ة: قرأ " فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء " بالرفع عاصم، وابن عامر على الاستئناف في قول المبرد. ويجوز أن يكون محمولا على تأويل " يحاسبكم " لانه لو دخلته الفاء كان رفعا، فيكون فيه على هذا معنى الجواب. وقرأ الباقون على الجزم: عطفا على " يحاسبكم " وهو جواب الشرط، وكان يجوز أن يقرأ فيغفر بالنصب على مصدر الفعل الاول وتقديره إن يكن محاسبة، فيغفر لمن يشاء. وروي ذلك عن أبن عباس.

[382]

المعنى: واللام في قوله: " لله " لام الملك ومعناه ان لله تصريف السماوات والارض وتدبيرهما لقدرته على ذلك وليس لاحد منعه ومنه وإنما ذكر قوله: (وان تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه) لان المعنى فيه كتمان الشهادة. ويحتمل أن يريد جميع الاحكام التي تقدمت في السورة. خوفهم الله من العمل بخلافها.

وقال قوم هذه الاية منسوخة بقوله: (لايكلف الله نفسا إلا وسعها)(1) ورووا في ذلك خبرا ضعيفا، وهذا لايجوز لامرين: أحدهما - أن الاخبار التي لا تتضمن معنى الامر والنهي والاباحة لا يجوز نسخها، وهذا خبر محض خال من ذلك الثاني - لايجوز تكليف نفس ما ليس في وسعها على وجه، فينسخ.

ويجوز أن تكون الاية الثانية بينت الاولى وأزالت توهم من صرف ذلك إلى غير وجهه، فلم يضبط الرواية فيه، وظن أن ما يخطر للنفسه أو تحدث نفسه به مما لا يتعلق بتكليفه فان الله يؤاخذه به. والامر بخلاف ذلك، وإنما المراد بالاية ما يتناوله الامر والنهي من الاعتقادات والارادات وغير ذلك مما هو مستور عنا. فأما مالا يدخل في التكليف فخارج عنه لدلالة العقل. ولقوله (ع) تجوز لهذه الامة عن نسيانها وما حدثت به أنفسها.

وقوله: (فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء) معناه ممن يستحق العقاب بأنه إن شاء عاقبة، وإن شاء عفا عنه. وذلك يقوي جواز العفو عقلا، وإنما يقطع على عقاب بعض العصاة لدليل، وهم الكفار - عندنا - فأما من عداهم فلا دليل يقطع به على أنهم معاقبون لا محالة. والايات التي يستدلون بها نبين 0 الوجه فيها إذا انتهينا إليها إن شاء الله.

___________________________________

(1) سورة البقرة آية: 286.

[383]

قوله تعالى: آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير(285)

آية.

القراء‌ة: قرأ حمزة والكسائي وخلف " وكتابه ": الباقون " وكتبه " على الجمع فمن وحد احتمل وجهين: أحدهما - أن يكون أراد به القران لاغير. والثاني - أن يكون أراد جنس الكتاب، فيوافق قراء‌ة من قرأ على الجمع في المعنى. وقرأ يعقوب " لا يفرق " بالياء ردا على الرسول حسب. الباقون بالنون ردا على الرسول والمؤمنين وهذا أليق بسياق الاية.

المعنى والاعراب: وقوله: (لانفرق بين أحد من رسله) معناه يقولون ذلك على الحكاية كما قال " والملائكة باسطوا أيديهم اخرجوا "(1) أي يقولون اخرجوا. والمعنى إنا لانؤمن ببعضهم ونكفر ببعض، كما فعل اليهود، والنصارى.

وقوله: " سمعنا وأطعنا " تقديره سمعنا قوله وأطعنا أمره وقبلنا ما سمعنا، لان من لا يقبل ما يسمع يقال له أصم كما قال تعالى (صم بكم عمي فهم لا يعقلون)(2) وإنما حذف لدلالة الكلام عليه لانهم مدحوا به، وكان اعترافا منهم بما يلزمهم مث ما قبله.

وقوله: " غفرانك " نصب على أنه نزل من الفعل المأخوذ منه كأنه قيل: اللهم اغفر لنا غفرانك فاستغنى بالمصدر عن الفعل في الدعاء فصار بدلا منه معاقبا له. وقال بعضهم معناه نسألك غفرانك والاول أقوى، لانه على الفعل الذي أخذ منه أولى من حيث كان يدل على بالتضمين نحو (حمدا وشكرا) أي أحمد حمدا، وأشكر شكرا.

___________________________________

(1) سورة الانعام آية: 93.

(2) سورة البقرة آية: 171.

[384]

وأجاز الزجاج والفراء غفرانك بالرفع بمعنى غفرانك بغيتنا وأنشد الزجاج:

ومن يغترب عن قومه لايزل يرى *** مصارع مظلوم مجرا ومسحبا

وتدفن منه الصالحات وإن يسئ *** يكن ما أساء النار في رأس كبكبا(1)

وقوله: (وإليك المصير) معناه وإلى جزائك المصير فجعل مصيرهم إلى جزائه مصيرا إليه كقول ابراهيم: " إني ذاهب إلى ربي سيهدين "(2) معناه إلى ثواب ربي أو إلى ما أمرني به ربي.

قوله تعالى: لايكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنالا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولاتحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا مالا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين(286)

آية.

المعنى: في هذه الاية دلالة واضحة على بطلان مذهب المجبرة في تجويزهم تكليف الله العبد مالا يطيقه لانه صريح بأنه لا يكلفهم إلا ما يطيقونه لان الوسع هو ما يتسع به قدرة الانسان وهو فرق المجهود واستفراغ القدرة. ويقول القائل: ليس هذا

___________________________________

(1) البيتين للاعشى ديوانه 113 رقم القصيدة 14.

واللسان (كبب) وفي الديوان هكذا:

متى يغترب عن قومه لا يجد له *** على من له رهط حواليه مغضبا

ويحطم بظلم لا يزال يرى له *** مصارع مظلوم مجرا ومسحبا

وتدفن منه.... مجر ومسحب مصدر ميمي من جر وسحب. كبكب: جبل.

(2) سورة الصافات آية: 99.

[385]

في وسعي. أي لاأقدر عليه وإن قدرتي لا تتسع لذلك.

ومن قال: معناه لا يكلف الله نفسا إلا ما يحل لها من قولهم لا يسعك هذا أي لايحل لك أن تفعله كان ذلك خطأ، لان رجلا لو قال لعبده: أنا لا آمرك إلا بما أطلقت لك أن تفعله كان ذلك خطأ وعيا، لان نفس أمره اطلاق.

وكأنه قال: أنا لا أطلق لك إلا ما أطلق. ولا آمرك إلا بما آمرك.

وقوله: " لها ما كسبت " معناه لها ثواب ما كسبت من الطاعات وعليها جزاء ما كسبت من المعاصي والقبائح. ويجوز أيضا أن يسمى الثواب والعقاب كسبا من حيث حصلا بكسبه.

وقوله: (لاتؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) إنما جاز الرغبة إليه تعالى في ذلك وإن علمنا أنه لا يؤاخذ بذلك، ولم يجز أن يقول: لا تجر علينا لامرين أحدهما - أن قوله: لاتجر علينا يدل على تسخط الداعي، وليس كذلك " لا تؤاخذنا إن نسينا " لان الانسان قد يتعرض للنسيان، فيقع منه الفعل الذي فيه جناية على النفس، ويحسن الاعتذار بالنسيان، فيجري الدعاء مجرى الاعتذار إذا قال العبد لسيده لاتؤاخذني بكذا فاني نسيت، فلحسن الاعتذار حسن الدعاء به.

والثاني - " إن نسينا ". بمعنى تركنا لشبهة دخلت علينا. والنسيان بمعنى الترك معروف. نحو قوله: " نسوا الله فنسيهم "(1) أي تركوا عبادته، فترك ثوابهم. وقال الجبائي معناه ما تركناه لخطأ في التأويل واعتقدنا صحته لشبهة وهو فاسد.

فأما لا تجر علينا، فلا يقال إلا لمن اعتيد منه الجور، ولايجوز أن يؤاخذ أحد أحدا بما نسيه عند أكثر أهل العدل إلا ما يحكى عن جعفر بن ميسر من أن الله تعالى يؤاخذ الانبياء بما يفعلونه من الصغائر على وجه السهو والنسيان لعظم اقدارهم. وقال كان يجوز أن يؤاخذ الله العبد بما يفعله ناسيا أو ساهيا، ولكن تفضل بالعفو في قوله: (لايكلف الله نفسا إلا وسعها) ذكر ذلك البلخي، وهذا غلط، لانه كما لم يجز تكليف فعله ولا تركه لم

___________________________________

(1) سورة التوبة آية: 68.

[386]

يجز أن يؤاخذ به، ولا يشبه ذلك المتولد الذي لايصح تكليفه بعد وجود سببه، لانه يجوز أن يتعمده بأن يتعمد سببه، وليس كذلك مايفعله على جهة السهو والنسيان.

اللغة، والمعنى: وقوله: (ولا تحمل علينا إصرا) قيل فيي معنى الاصر قولان: أحدهما - لاتحمل علينا عهدا فنعجز عن القيام به. ذهب إليه ابن عباس، وقتادة ومجاهد.

الثاني - قال الربيع، ومالك: معناه لا تحمل علينا ثقلا والاصر في اللغة الثقل قال النابغة:

يا مانع الضيم إن يغشى سراتهم *** والحامل الاصر منهم بعد ما غرقوا(1)

وكلما عطفك على شئ، فهو إصر من عهد أو رحم، وجمعه إصار. تقول أصره ياصره إصرا.

والاسم الاصر قال الحطيئة:

عطفوا علي بغيرآ *** صرة فقد عظم الاواصر(2)

وقال النابغة: ايابن الحواضن والحاضنات أينقض أصرك حالا فحالا(3) أي عهدك.

والايصر: حبيل قصير يشد به أسفل الخباء إلى وتد لانه يعطف به.

والاصرة: صلة الرحم للعطف بها والماصر حبل على طريق أونهر تحبس به السفن أو السابلة لتؤخذ منهم العشور وكلا آصر أي يحبس من ينتهي إليه لكثرته.

والاصار: كساء يحتش فيه الحشيش.

وأصل الباب العطف، فالاصر: الثقل لانه يعطف حامله بثقله عليه.

وقوله: (لا تحملنا ما لا طاقة لنا به) قيل

___________________________________

(1) في المطبوعة (فيا مانع) بدل (يامانع) و (والخامل) بدل (والحامل).

(2) اللسان (أصر).

(3) في المطبوعة (انفض) بدل (اينقض).

[387]

فيه قولان: أحدهما - ما يثقل علينا من نحو ما كلف بني إسرائيل من قتل أنفسهم وبتيه أربعين سنة وغير ذلك كما يقول القائل لاأطيق أنظر إلى فلان ولا أسمع كلامه.

الثاني - ما لا طاقة لنا به من العذاب في دار الدنيا.

وقوله (أنت مولانا) معناه أنت ولينا أي أولى بالتصرف فينا، وقال الحسن هذا على وجه التعليم للدعاء، ومعناه قولوا ربنا لا تؤاخذنا.

والثاني - أنه على وجه الحكاية أي يقولون ربنا.

والفرق بين أخطأ وخطئ أن أخطأ قد يكون على وجه الاثم، وغير الاثم فأما خطئ فاثم لا غير قال الشاعر:

والناس يلحون الامير إذا هم *** خطئوا الصواب ولا يلام المرشد(1)

___________________________________

(1) قائله عبيدة بن الابرص الاسدي. ديوانه: 54، وحماسة البحتري: 236، واللسان (أمر) ورواية الديوان:

والناس يلجون الامير اذا غوي *** خطب الصواب ولا؟ المرشد

 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/books/index.php?id=1217
  • تاريخ إضافة الموضوع : 0000 / 00 / 00
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29