• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم / المكتبة .
              • الكتاب : التبيان في تفسير القرآن ( الجزء الاول) ، تأليف : شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي .
                    • الموضوع : سورة البقرة ( من آية 127 ـ 141) .

سورة البقرة ( من آية 127 ـ 141)

[460]

 قوله تعالى: واذ يرفع ابراهيم القواعد من البيت واسماعيل ربنا تقبل منا انك انت السميع العليم(127)

آية.

تقديره واذ يرفع ابراهيم القواعد.

اللغة: والرفع والاعلاء، والاصعاد نظائر. ونقيض الرفع الوضع. ونقيض العلو: السفل. ونقيض الاصعاد الانزال تقول: رفع يرفع رفعا.

وارتفع الشئ بنفسه. وبرق رافع: ساطع. والمرفوع: من سير الفرس. والبرذون دون الحضر، وفوق الموضوع. ويقال: إنه لحسن الموضوع. ويقال ارفع من دابتك. وقد رفع الرجل يرفع رفاعة، فهو رفيع والمرأة رفيعة. والحمار يرفع في عدوه ترفيعا: اذا كان عدو بعضه ارفع من بعض. وكذلك لو احدث شيئا فرفعته: الاول فالاول، قلت رفعة ترفيعا. فالرفع نقيض الخفض في كل شئ. والرفعة نقفض الذلة، ورفعته إلى السلطان رفعا اي قربته اليه.

وفي التنزيل " وفرش مرفوعة(1) اي مقربة. والمرفع كل شئ رفعت به شيئا، فجعلته عليه. واصل الباب الرفع: نقيض الخفض. تقول رفع رفعا وارتفع ارتفاعا، ورفع ترفيعا، وترافعوا ترافعا، وترفع ترفعا، ورافعه مرافعة. والقواعد: واحدها قاعدة.

قال الزجاج: اصله في اللغة الثبوت والاستقرار، فمن ذلك القاعدة من الجبل، وهي اصله. وقواعد البناء أساسه الذي بني عليه. واحدتها قاعدة. وامراة قاعدة اذا اتت عليها سنون لا تزوج.

ومنه قوله: " والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا "(2) واذا لم تحمل المرأة، ولا النخلة.

يقال: قد قعدت وهي قاعدة، وجمعها قواعد ايضا. وتأويلها انها قد ثبتت على ترك الحمل. واذا

___________________________________

(1) سورة الواقعة: آية 24.

(2) سورة سبأ: آية 60.

[461]

قعدت المرأة عن الحيض، فهي قاعد ايضا بغير هاء - لانه لافعل لها في قعودها عن الحيض وقد قعدت المرأة اذا كانت باولاد لئام فهي قاعدة.

والاقعاد ان يقعد الرجل عن الشئ البتة يقال: اقعد فهو مقعد اي اقعدته الزمانة.

وللجارية ثدي مقعد اذا كان متمكنا لا ينكس.

وشهر ذي العقدة كانت العرب تقعد فيه عن القتال.

والقعود ما يقتعد الراعي ويحمل عليه متاعه، وجمعه قعدان.

وقعيد الانسان جليسه.

ومنه قوله: " عن اليمين وعن الشمالى قعيد "(1) يعني الملكين.

والقعيد كلما اتي من طائر أو ظبي.

ويقال للئيم: قعد، والجبان: قاعد، لانه قعد عن الحرب.

وقعد الئيم عن الكرم قال الحطيئة:

دع المكارم لا ترحل لبغيتها *** واقعد فانك انت الطاعم الكاسي(2)

والقعدة في النسب أقرب القرابة إلى الاب أو الجد.

والمقاعد مواضع العقود في الحرب، وغيرها.

ومنه قوله: " مقاعد للقتال "(3) وقعيدة الرجل امرأته القاعدة في بيته.

وأصل الباب القعود. نقيض القيام. والقواعد والاساس والاركان نظائر.

وقيل: انما قيل في واحدة القواعد من النساء قاعد لشيئين: أحدهما - أن ذلك كالطالق والحائض وما اشبه ذلك من الصفافات التي تختص بالمؤنث دون المذكر فلم يحتج إلى علامة التأنيث.

وإن أردت الجلوس قلت: قاعدة لا غير لانها تشارك في ذلك الرجال.

الوجه الاخر - إن ذلك على وجه التشبيه اي ذات قعود كما يقال نابل ودارع أي ذو نبل ودرع. لا تريد به تثبيت الفعل.

الاعراب: وموضع الجملة من قوله: " ربنا تقبل منا " نصب بقول محذوف، فكأنه قال: يقولان ربنا تقبل منا.

واتصل بما قبله، لانه من تمام الحال لان (يقولان) في موضع الحال.

___________________________________

(1) سورة ق: آية 17.

(2) اللسان (طعم)، وكسا. طاعم: حسن المطعم.

(3) سورة آل عمران: آية 121.

[462]

المعنى: قال ابن عباس معناه يقولان(1): ربنا، ومثله " والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم "(2) أي يقولون(3) ومثله " والملائكة باسطو أيديهم اخرجوا أنفسكم "(4) أي يقولون.

وقال بعضهم: هو شاذ تقديره يقول: ربنا. يرده إلى اسماعيل وحده. ولا يعمل على ذلك لشذوذه.

وقال أكثر المفسرين كالسدي وعبد بن عمير الليثي، واختاره الجبائي، وغيرهم: إن ابراهيم واسماعيل معا رفعا القواعد.

وقال ابن عباس: كان ابراهيم يبني وإسماعيل يناوله.

وقال بعض الشذاذ(5) أن ابراهيم وحده رفعها وكان اسماعيل صغيرا - وهو ضعيف لانه خلاف ظاهر اللفظ وخلاف اقوال المفسرين.

وقال أكثر أهل العلم أنهما رفعا البيت للعبادة لا للسكنى، وبدلالة قوله: " ربنا تقبل منا ". وهل كانت للبيت قواعد قبل ابراهيم؟ فيه خلاف.

فقال ابن عباس وعطا: قد كان آدم عليه السلام بناه ثم عفي أثره، فجدده ابراهيم.

وهو المروي عن ابي جعفر وابي عبدالله (ع).

وقال مجاهد، وعمرو بن دينار: بل انشأه ابراهيم بامر الله عزوجل إياه.

وكان الحسن يقول: أول من حج البيت ابراهيم (ع).

وقد روي في اخبارنا ان أول من حج البيت آدم وذلك يدل على انه قد كان قبل ابراهيم.

وانما قال: " انك أنت السميع العليم " لانه لما ذكر الدعاء، اقتضى حينئذ ذكر ذلك، كأنه قال: انك أنت السميع العليم بنا، وبما يصلحنا.

ومعنى قوله " تقبل منا " اي اثبنا على عمله، وهو مشبه بتقبل الهدية في أصل اللغة.

وروي عن محمد بن علي الباقر (ع) انه قال: ان الله تعالى وضع تحت

___________________________________

(1) في مجمع البيان: وفي حرف عبدالله بن مسعود ويقولان ربنا تقبل منا ". وفي - حاشية - وفي حرف عبدالله يقولان ربنا.

(2) سورة الرعد: آية 25.

(3) يقولان سلام عليكم.

(4) سورة الانعام: آية 93.

(5) في المطبوعة والمخطوطة (السداد).

[463]

العرش اربع اساطين وسماه الصراح وهو البيت المعمور وقال للملائكة طوفوا به ثم بعث ملائكة، فقال ابنو في الارض بيتا بمثاله، وقدره وامر من في الارض ان يطوفوا بالبيت.

وقال ابوجعفر: اسماعيل أول من شق لسانه بالعربية، وكان ابوه يقول: وهما يبنيا البيت: - يا اسماعيل هابي ابن(1).

اي اعطني حجرا، فيقول له اسماعيل بالعربية: يا أبي هاك حجرا - وابراهيم يبني واسماعيل يناوله الحجارة.

وروى فلا عن عبدالله بن عمر قال: لما أهبط الله آدم من الجنه قال: اني منزل معك او مهبط معك بيتا تطوف حوله كما يطاف حول عرشي، وتصلي عنده كما يصلي عند عرشي، ولما كان زمن الطوفان رفع وكانت الانبياء يحجونه ولا يعملون مكانه حتى بوأه الله لابراهيم فاعلمه(2) مكانه فبناه من خمسة اجبل: من حرا، وثبير، ولبنان، وجبل الطور، وجبل الخمر(3).

قال الطبري وهو جبل بدمشق.

قوله تعالى: ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا انك أنت التواب الرحيم(128)

آية بلا خلاف.

روي في الشواذ عن عوف بن الاعرابي انه قرأ (مسلمين) على الجمع. وانما سألا الله تعالى أن يجعلهما مسلمين بمعنى: ان يفعل لهما من الالطاف ما يتمسكان معه بالاسلام في مستقبل عمرهما لان الاسلام كان حاصلا في وقت دعائهما ويجري ذلك مجرى احدنا، اذا أدب ولده وعرضه لذلك حتى صار أديبا جاز أن يقال: جعل ولده أديبا وعكس ذلك اذا عرضه للبلاء، والفساد، وجاز ان يقال: جعله ظالما محتالا فاسدا ويجوز ان يكونا قالا ذلك تعبدا كما قال تعالى: " رب احكم بالحق ".

___________________________________

(1) وفي العبرانية معنى اعطني حجرا: هاتلي ابن.

(2) في المطبوعة (كابراهيم اعلمه) وهو تحريف.

(3) الخمر جبل بيت المقدس سمي بذلك لكثرة كرومه (ياقوت).

[464]

اللغة: والاسلام: هو الانقياد لامر الله تعالى بالخضوع، والاقرار بجميع ما أوجب عليه. وهو والايمان واحد عندنا، وعند اكثر المرجئة والمعتزلة. وفي الناس من قال: بينهما فرق، وليس ذلك بصحيح، لقوله " ان الدين عندالله الاسلام ".

وقوله: " ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه "(1) وانما خصا بالدعوة بعض الذرية في قوله: " ومن ذريتنا "، لان (من) للتبعيض من حيث أن الله تعالى: كان أعلمه أن في ذريتهما من لا ينال العهد، لكونه ظالما.

وقال السدي: إنما عنيا(2) بذلك العرب. والاول هو الصحيح. وهو قول اكثر المفسرين.

وقوله: " وأرنا مناسكنا " فالمناسك هاهنا المتعبدات قال الزجاج: كل متعبد منسك(3).

وقال الجبائي: المناسك هي ما يتقرب به إلى الله من الهدى، والذبح، وغير ذلك من اعمال الحج والعمرة.

وقال قتادة: أراهما الله مناسكهما الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، والافاضة عن عرفات والافاضة من جمع ورمي الجمار حتى أكمل الله الدين.

فهذا القول أقوى لانه العرف في معنى المناسك وقال عطا: مناسكنا مذابحنا.

اللغة: والنسك في اللغة: العبادة. ورجل ناسك عابد، وقد نسك نسكا.

والنسك: الذبيحة يقال: من فعل كذا فعلية نسك، اي دم يهريقه، ومنه قوله: " او نسك " اي دم واسم تلك الذبيحة: النسيكة والموضع الذي يذبح فيه المناسك والمنسك هو النسك نفسه.

قال الله تعالى: " ولكل امة جعلنا منسكا " ويقال: نسك ثوبه اي غسله وقال ابن دريد: النسك اصله ذبائح كانت تذبح في الجاهلية.

والنسيكة: شاة كانوا

___________________________________

(1) سورة آل عمران: آية 85.

(2) في المطبوعة (صينا).

(3) في المطبوعة والمخطوطة (منك).

[465]

يذبحونها في الحرم في الاسلام، ثم نسخ ذلك بالاضاحي قال الشاعر(1):

وذا النصب المنصوب لا تنسكنه *** ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا(2)

واصل الباب العبادة وقيل ان النسك الغسل.

قال الشاعر:

فلا ينبت المرعى سباخ عراعر *** ولو نسكت بالماء ستة اشهر(3)

اي غسلت ذكره الحسين بن علي المغربي.

قال: وليس بمعروف.

وقوله: " وارنا "(4) يحتمل امرين: احدهما - ان يكون من رؤية البصر.

والآخر - أن يكون من رؤية القلب بمعنى اعلمنا.

قال حطائط بن جعفر(5)

اريني جوادا مات هزلا لعلني *** ارى ما ترين او بخيلا مخلدا(6)

اي عرفني ومعنى قوله: " وتب علينا " اي ارجع علينا بالرحمة والمغفرة وليس فيه دلالة على جواز الصغيرة، او فعل القبيح عليهم. ومن ادعى ذلك، فقد ابطل.

وقال قوم: معناه تب على ظلمة ذريتنا.

وقيل: بل قالا: ذلك انقطاعا اليه " تعالى " تعبدا ليقتدى بهما فيه. وهو الذي نعتمده.

" والتواب " القابل للتوبة هاهنا واذا وصف به العبد، فمعناه أنه فاعل التوبة دفعة بعد اخرى، فيفيد المبالغة.

فعلى مذهبنا اذا قلنا: قبل الله توبته اي تاب عليه معناه انه يستحق الثواب.

واذا قلنا: تاب العبد من كبيرة مع الاقامة على

___________________________________

(1) قائله الاعشى الكبير ميمون بن قيس من قصيدة يمدح بها رسول الله صلى الله عليه وآله.

(2) ديوانه 137 رقم القصيدة 17. وروايته (الاوثان) بدل (الشيطان). واللسان (نصب) ورواية العجز: لعافية والله ربك فاعبدا. وفي اللسان - حاشية - قوله: " العافية " كذا بنسخة من الصحاح الخط وفي نسخ الطبع كنسخ شارح القاموس " العاقبة ". وفي اللسان ايضا.

ويروي عجز بيت الاعشى: ولا تعبد.. اي كما اثبتنا. ذا النصب يعني اياك وذا النصب. اي لا تذبح القرابين للاصنام. فاعبدا أراد فاعبدن.

(3) اللسان - (نسك). ولم ينسبه.

(4) في المطبوعة (وانها)

(5) و رجل من بني نهشل بن دارم.

(6) اللسان " أنن " و " علل ". قال ابن بري فيه: قال حطائط بن جعفر، ويقال هو لدريد. وروايته " لانني " بدل " لعلني " وهما بمعنى واحد. والشاعر يخاطب امه عند مالامته على انفاقه ماله.

[466]

كبيرة اخرى معناه عند من أجاز ذلك انه رفع العقاب بها على تلك الكبيرة التي تاب منها. وعندنا أنه يستحق بها الثواب ايضا. وفي الآية دلالة على انه يحسن الدعاء بما يعلم الداعي أنه يكون لامحالة، لانهما كانا عالمين بأنهما لا يفارقان الاسلام. ولاياتيان الكبيرة.

القراء‌ة: والاختيار في " ارنا " كسر الراء وهي قراء‌ة الجمهور، لانها كسرة الهمزة حولت إلى الراء، لان اصله كان ارئنا، فنقلت الكسرة إلى الراء وسقطت الهمزة، فلا ينبغي أن تسكن، لئلا تجحف بالكلمة وتبطل الدلالة على الهمزة. وقد سكنه ابن كثير. وفي بعض الروايات عن ابي عمر وعلى وجه التشبيه بما يسكن في مثل كبد وفخذ وقال الشاعر: لو عصر منه المسك والبان انعصر وقال آخر:

قالت سليمى اشتر لنا دقيقا *** واشتر وعجل خادما لبيقا

قوله تعالى: ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم انك أنت العزيز الحكيم(129)

آية واحدة بلا خلاف.

الضمير في قوله فيهم راجع إلى الامة المسلمة التي سأل الله ابراهيم من ذريته.

والمعنى بقوله " رسولا منهم " هو النبي صلى الله عليه وآله لما روي عن النبي صلى الله عليه وآله انه قال: انا دعوة ابي ابراهيم وبشارة عيسى (ع) يعني قوله " ومبشرا برسول يأتي من بعده اسمه أحمد "(1) وهول قول الحسن وقتادة والسدي وغيرهم من اهل العلم.

___________________________________

(1) سورة الصف: آية 6.

[467]

ويدل على ذلك ايضا، وان المراد به نبينا صلى الله عليه وآله دون الانبياء الذين بعثهم الله من بني اسرائيل انه دعى بذلك لذريته الذين يكونون بمكة وما حولها على ما تضمنته الآية.

وفي قوله: ربنا وابعث فيهم رسولا منهم " ولم يبعث الله من هذه صورته إلا محمدا " ص ".

والمراد بالكتاب القرآن - على قول ابن زيد واكثر المفسرين - ومعنى " الحكمة " هاهنا السنة.

وقيل المعرفة بالدين والفقه في التأويل.

وقيل العلم بالاحكام التي لا يدرك علمها إلا من قبل الرسل " ع " فالاول قول قتادة، والثاني قول انس بن مالك والثالث قول ابن زيد.

وقال قوم هو كلام مثنى كأنه وصف التنزيل بانه كتاب، وبانه حكمة، وبانه آيات.

وقال بعضهم: الحكمة شئ يجعله الله في القلب ينوره به كما ينور البصر فيدرك المبصر، وكل حسن.

ومعنى قوله: " ويزكيهم " قال ابن عباس: هو طاعة الله والاخلاص له.

وقال ابن جريج يطهرهم من الشرك ويخلصهم منه.

وقال الجبائي: " ويزكيهم " معناه يستدعيهم إلى فعل ما يزكون به، من الايمان والصلاح. ويحتمل ان يراد به انه يشهد لهم بالزكاء آمنوا واصلحوا.

اللغة: و " العزيز " القادر الذي لا يعجزه شئ.

وقيل: القادر الذي لايمتنع عليه شئ اراد فعله.

وقيل: القدير وهو مبالغة الوصف بالقدرة. ونقيض العز الذل.

ويقال: عزه يعز عزة وعزازا. واعتز به اعتزازا. وتعزز تعززا. وعازه معازة.

تقول: عز يعز عزة وعزا: اذا صار عزيزا. وعز يعز عزا: اذا قهر.

ومنه قولهم: من عزيز اي من غلب سلب.

وكل شئ صلب، فقد اعتز.

وسمي العزاز من الارض: وهو الطين الصلب الذي لايبلغ ان يكون حجارة. وعن الشئ اذا قل لا يكاد يوجد. وفلان اعتز بفلان اذا تشرف اذا تشرف به " وعزني في الخطاب "(1) اي غلبني في محاوراة الكلام.

___________________________________

(1) سورة ص: آية 23.

[468]

والعزاء: السنة الشديدة، والمطر يعزز الارض تعريزا اذا لبدها.

واصل الباب: القوة.

المعنى: وقوله: " الحكيم " يحتمل امرين: احدهما - المدبر الذي يحكم الصنع، يحسن التدبير.

والثاني بمعنى عليم، والاول بمعنى حكيم في فعله بمعنى محكم، فعدل إلى حكيم، للمبالغة.

وانما ذكر الحكيم هاهنا، لانه يتصل بالدعاء، كأنه قال: فزعنا إليك، لانك القادر على إجابتنا العالم بما في ضمائرنا وبما هو أصلح لنا مما لا يبلغه علمنا.

الآية: 130 - 141

قوله تعالى: ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين(130)

آية بلا خلاف.

اللغة: قوله: " ومن يرغب " فالرغبة: المحبة لما فيه للنفس منفعة. ورغب فيه ضد رغب عنه. والرغبة: المحبة(1). والرغبة والمحبة والارادة نظائر. وبينهما فرق.

نقيض الرغبة الرهبة ونقيض المحبة: البغضة. ونقيض الارادة الكراهية.

تقول: رغب رغبة وأرغبه إرغابا. ورغبة ترغيبا.

وتقول: رغب رغبة، ورغبا، ورغبى ورغبا إذا ملت لمحبك(2)، ورغبت عنه إذا صددت عنه، وأنا راغب به فيهما جميعا، والشئ مرغوب فيه، ومرغوب عنه. ولي عن فلان مرغب.

___________________________________

(1) والرغبة: المحبة " ساقطة من المطبوعة.

(2) في المطبوعة " اذا املت لمحبتك ".

[469]

وهو رجل رغيب: نهم شديد الاكل(1) وفرس رغيب الشحوة(2) كثير الاخذ بقوائمه من الارض. وموضع رغيب واسع والرغبة العطاء الكثير الذي يرغب في مثله.

وقال صاحب العين: اللهم اليك الرغباء ومن لدنك النعماء، ورغبت عن الشئ إذا تركته.

الاعراب: ومعنى " ومن يرغب عن ملة إبراهيم " لفظه الاستفهام، ومعناه الجحد(3)، كأنه قال: ما يرغب عن ملة ابراهيم ولا يزهد فيها إلا من سفه نفسه وكأنه قال: واي الناس يزهد فيها " إلا من سفه نفسه " والاولى على الاستفهام، ومعناه الجحد(4).

والثانية - بمعنى الذي كأنه قال: إلا الذي سفه نفسه. وفي نصب (نفسه) خلاف.

قال الاخفش: معناه سفه نفسه.

وقال يونس: اراها لغة.

قال الزجاج: اراد أن فعل(5) لغة في المبالغة. كما أن فعل كذلك. فعلى هذا يجوز سفهت زيدا: بمعنى سفهت.

وقال ابوعبيدة: معناه اهلك نفسه، وأوبق نفسه.

وقال ابن زيد: إلا من اخطأ حظه.

وقال ابن تغلب والمبرد: سفه - بكسر الفاء - يتعدى، وسفه - بضم الفاء - لا يعتدى.

فهذا كله وجه واحد.

والثاني - أن يكون على التفسير، كقوله " فان طبن لكم عن شئ منه نفسا "(6) وهو قول الفراء: قال: العرب توقع سفه على نفسه. وهي معرفة، وكذلك " بطرت معيشتها "(7).

وانكر الزجاج هذا الوجه. وقال: معنى التمييز لا يحتمل التعريف، لان التمييز انما هو واحد يدل على جنس(8)، فاذا عرفته صار مقصودا بعينه.

والوجه الثالث - ان يكون على التمييز، والمضاف على الانفصال، كما تقول:

___________________________________

(1) في المخطوطة " بهم بتسديد الاصل " وفى المطبوعة " بهم شديد الاكل ".

(2) في المطبوعة " الشجرة وفي المخطوطة غير منقطة.

(3 و 4) في المطبوعة " الحجة " وهو تحريف.

(5) في المخطوطة والمطبوعة " ان سفه " وهو غلط لان الجملة الثانية تدل على ما اثبتناه.

(6) سورة النساء: آية 4.

(7) سورة القصص: آية 58.

(8) في المطبوعة (حسن).

[470]

مررت برجل مثله أي مثل له.

والوجه الرابع - على حذف الجار، كما قال: " أن تسترضعوا اولادكم فلا جناح عليكم "(1) اي لاولادكم.

ومثله " ولا تعزموا عقدة النكاح "(2) اي على عقدة النكاح.

قال الشاعر:

نغالي اللحم للاضياف نيئا *** ونرخصه إذا نضج القدير(3)

والمعنى نغالي(4) باللحم.

وقال الزجاج: وهذا مذهب صحيح. واختار هو أن سفه بمعنى جهل. وهو موافق لمعنى ما قال ابن السراج في " بطرت معيشتها " لان البطر مستقل النعمة غير راض بها.

وقال ابومسلم: معناه جهل نفسه، وما فيها من الآيات الدالة على ان لها صانعا ليس كمثله شئ فيعلم به توحيد الله وصفاته.

اللغة: ومعنى قوله: " ولقد اصطفيناه في الدنيا " اخترناه للرسالة والصفو: التميز من سائر الكدر. واصطفيناه على وزن افتعلناه من الصفوة. وانما قلبت التاء طاء، لانها اشبه بالصاد بالاستعلاء والاطباق، وهي من مخرج التاء فاتى بحرف وسط بين الحرفين. والاصطفاء والاختيار والاجتباء نظائر. والصفاء والنقاء والخالص(5) نظائر والصفاء نقيض الكدر.

وصفوة كل شئ خالصه من صفوة الدنيا، وصفوة الماء وصفوة الاخاء تقول: صفا صفاء، واصفاه اصفاء، واصطفاه، اصطفاء. وتصفى تصفيا وتصافوا تصافيا. وصفاه تصفية وصافاه مصافاة. وأستصفاه استصفاء. والصفا مصافاة المودة والاخاء. والصفاء مصدر الشئ الصافي وإذا اخذت صفوة ماء من غدير، قلت استصفيت صفوة.

___________________________________

(1) سورة البقرة: آية 233.

(2) سورة البقرة: آية 235.

(3) اللسان (غلا) قال ابومالك: نغالي اللحم نشتريه غاليا ثم نذله ونطعمه اذا نضج في قدورنا وفي المطبوعة (تعالى) بدل نغالي. وفي المطبوعة والمخطوطة (نبذله) بدل (نرخصه) و " القدور " بدل " القدير ".

(4) في المطبوعة " تعالى يستعمونها " بدل " نغالي باللحم ".

(5) في المطبوعة " الخاص ".

[471]

وصفي الانسان: الذي يصافيه المودة. وناقة صفي كثيرة اللبن.

ونخلة صفية: كثيرة الحمل. والجمع الصفايا والصفا: الحجر الضخم الاملس الصلب.

فاذا انثوا(1) الصخرة قالوا صفاة صفواء. واذا ذكروا قالوا صفا صفوان والصفوان واحدته صفوانة. ومن الحجارة: الملس لاتنبت شيئا.

قال تعالى: " كمثل صفوان عليه تراب "(2).

واصل الباب: الصفا: الخلوص.

قوله: " وانه في الآخرة لمن الصالحين " انما خص الآخرة بالذكر وان كان في الدنيا كذلك لان المعنى من الذين يستوجبون على الله الكرامة وحسن الثواب، فلما كان خلوص الثواب في الآخرة دون الدنيا، وصفه بما ينبئ عن ذلك.

ففي قوله: " ومن يرغب عن ملة ابراهيم الا من سفه نفسه " دلالة على ان ملة ابراهيم هي ملة نبينا محمد " ص "، لان ملة ابراهيم داخلة في ملة محمد " ص " مع زيادات في ملة محمد " ص " فبين أن الذين يرغبون من الكفار عن ملة محمد التي هي ملة ابراهيم، قد سفهوا أنفسهم وهو معنى قول قتادة والربيع.

قوله تعالى: اذ قال له ربه اسلم قال اسلمت لرب العالمين (131)

آية بلا خلاف.

قوله: " اذ قال له ربه " متعلق بقوله: " ولقد اصطفيناه " وموضعه نصب وتقديره: ولقد اصطفيناه حين قال له ربه اسلم.

وقال الحسن: انما قال ذلك، حين أفلت الشمس، " فقال يا قوم إني برئ مما تشركون. اني وجهت وجهي "(3) وانه اسلم حينئذ. وهذا يدل على أنه كان ذلك قبل النبوة. وأنه قال له ذلك: إلها ما استدعاه به إلى الاسلام، فاسلم حينئذ. لما وضح له طريق الاستدلال بما رأى من الآيات، والعبر الدالة على توحيده. ولا يصح أن يوحي الله تعالى اليه قبل اسلامه بانه نبي الله، لان النبوة حال اعظام واجلال. ولا يكون ذلك قبل الاسلام. وانما

___________________________________

(1) في المخطوطة (نعتوا).

(2) سورة البقرة: آية 264.

(3) سورة الانعام: آية 78.

[472]

قال: " اصطفيناه " على لفظ المتكلم مع قوله: " اذ قال له ربه " على لفظ الغائب للتصرف في الكلام كما قال الشاعر:

باتت تشكي الي النفس مجهشة *** وقد حملتك سبعا بعد سبعينا(1)

والاسلام واجب على كل مكلف، وان اختلفت شرائع الانبياء فيما يتعبدون: من الحلال، والحرام. لقوله " تعالى ": ان " ان الدين عند الله الاسلام "(2) وان الاسلام انما هو الاخلاص لله بالعمل بطاعته، واجتناب معصيته وذلك واجب على كل متعبد. وكله اسلام.

وقوله تعالى: ووصى بها ابراهيم بنيه ويعقوب يا بني ان الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن الا وانتم مسلمون(132)

آية بلا خلاف.

القراء‌ة: قرأ أهل المدينة، وابن عامر " واوصى " بهمزة مفتوحة بين الواوين، وتخفيف الصاد. الباقون ووصى مشددة الصاد. ومن قرأ وصى ذهب إلى قوله: " فلا يستطيعون توصية(3) ومصدر وصى مثل قطع تقطعة ولم يجيئوا به على تفعيل كراهية اجتماع الياء‌ات مع الكسرة.

ومن قرأ أوصى فلقوله: " من بعد وصية يوصي بها "(4) وكلاهما جيدان.

اللغة: والوصية مأخوذة من قولهم: اوصى النبت: اذا اتصل بعضه ببعض فلما

___________________________________

(1) اللسان (جهش) قائله لبيد. اجهش اذا تهيأ للبكاء.

(2) سورة آل عمران: 19.

(3) سورة يس آية: 50.

(4) سورة النساء: آية 10.

[473]

أوصل الموصي جل أمره إلى الموصى إليه، قيل: وصية. ووصى وأوصى وأمر وعهد نظائر في اللغة. وضد أوصى أهمل. والوصاة كالوصية، والوصاية مصدر التوصي.

والفعل أوصيت إيصاء ووصيت توصية، في المبالغة، والكثرة وتقول: قد قبل الوصاية.

وإذا انطاع المرعى للسائمة فاصابته رواعد، قبل وصى لها الرعي يصي وصيا. ووصيا.

وأصل الباب: الوصية وهي الدعاء إلى الطاعة.

المعنى: والهاء في قوله: " ووصى بها " يحتمل ان تعود إلى احد شيئين: احدهما إلى الملة.

وقد تقدم ذكرها في قوله: " ومن يرغب عن ملة ابراهيم ".

والثاني - ان يعود إلى الكلمة في قوله: " اسلمت لرب العالمين ".

والاول أقوى، لانه مذكور في اللفظ. وهو قول الزجاج. واكثر المفسرين.

والثاني حكاه البلخي وبعض اهل اللغة. وارتفع يعقوب، لانه معطوف على ابراهيم. والمعنى ووصى بها يعقوب.

وبه قال ابن عباس وقتادة.

وقال بعضهم: إنه على الاستئناف كأنه قال: ووصى يعقوب أن " يا بني إن الله اصطفى لكم الدين " والاول اظهر لان عليه اكثر المفسرين. " والالف واللام ". في الدين للعهد دون الاستغراق، لانه إنما اراد بذلك دين الاسلام دون غيره من الاديان. وانما أسقطت (أن) في " وصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب " أن " يا بني " واثبت في " إنا ارسلنا نوحا إلى قومه أن انذر "(1)، لان اوصى في الآية بمعنى القول، فجعل بمنزلة قولك الا تقديره تقدير القول، فيجوز حينئذ إلحاق أن.

كما قال: " إنا ارسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر " ومثله " وآخر دعواهم أن الحمد لله "(2) وقوله: " فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله "(3) وكل هذا الباب يجوز فيه الوجهان: بان تقدره تقدير القول، ليكمل به تقدير الفعل الذي ليس بقول.

___________________________________

(1) سورة نوح: آية 1.

(2) سورة يونس: آية 10.

(3) سورة الاعراف: آية 43.

[474]

واما قوله: " ان كان ذا مال وبنين "(1) فلا يجوز إسقاطها في مثله من الكلام، لانه ليس فيه معنى الحكاية، والقول كما في الدعوى، والارسال.

واما قوله: " والملائكة باسطوا ايديهم اخرجوا انفسكم(2) فلا يجوز في مثله إثبات، لانه يضمر معه القول، ولا يجوز معه التصريح بالقول، ولامع اضمار أن لانه حكاية كما تقول: قلت له: زيد في الدار، ولا يجوز قلت له: أن زيدا في الدار وانشد الكسائي:

إني سأبدى لك فيما ابدي *** لي شجنان: شجن بنجد

وشجن لي بباد الهند(3) لان الابداء قول.

ومنه قوله: " وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة "(4)، لان العدة قول.

فان قيل: كيف قال: " لا تموتن " على وجه النهي لهم عن الموت، والموت ليس في مقدورهم، فيصح أن ينهوا عنه؟ قلنا: اللفظ وإن كان على لفظ النهي. فما نهوا عن الموت، وانما نهوا في الحقيقة عن ترك الاسلام: لئلا يصاد فهم الموت عليه، وتقديره لا تتعرضوا للموت على ترك الاسلام بفعل الكفر، ومثله من كلام العرب لا رأيتك(5) هاهنا، فالنهي في اللفظ للمتكلم، وإنما هو في الحقيقة للمخاطب، فكأنه قال: لاتتعرض لان اراك بكونك هاهنا. ومثله لا يصادفنك الامام على ما يكره، وتقديره: لا تتعرض لان يصادفك على ما يكره.

ومثله لا يكونن زيد إلا عندك تقديره: لاتتعرض لان يكون زيد ليس عندك: بالتفريط في ذلك، والاهمال له والاصل في هذا أن التعريض لوقوع الشئ بمنزلة ايقاع الشئ.

وقوله: " وانتم مسلمون " جملة في موضع الحال. وتقديره: لا تموتن إلا مسلمين.

___________________________________

(1) سورة القلم: آية 14.

(2) سورة الاعراف: آية 93.

(3) اللسان (شجن).

الشجن: هوى النفس وهو مجاز من الحزن والهم. وكنوا به المرأة المحبوبة التي تشغل القلب.

(4) سورة المائدة: آية 10.

(5) في المخطوطة والمطبوعة (لاريتك).

[475]

قوله تعالى: أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون(133)

آية واحدة بلا خلاف.

(أم) هاهنا منقطعة وليست بمتصلة كقوله " الم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه "(1) ومثله قول الشاعر(2):

كذبتك عينك أم رأيت بواسط *** غلس الظلام من الرباب خيالا(3)

ولا تجئ منقطعة الالف وقد تقدمها كلام، لانها بمعنى بل، وألف الاستفهام.

كأنه قيل: بل كنتم شهداء، ومعناها - هنا - الجحد: اي ما كنتم شهداء. واللفظ لفظ الاستفهام.

والمعنى على خلافه، لان إخراجه مخرج الاستفهام أبلغ في الكلام، وأشد مظاهرة في الحجاج: أن يخرج الكلام مخرج التقرير بالحق فتلزم الحجة، والانكار له فتظهر الفضيحة، فلذلك اخرج الجحد(4) في الاخبار مخرج الاستفهام.

والمخاطب ب‍ " أم كنتم شهداء " أهل الكتاب في قول الربيع.

والمعنى: انكم لم تحضروا ذلك، فلا تدعوا على انبيائي ورسلي الاباطيل بنحلكم اياهم خلاف الاسلام من اليهودية والنصرانية، فايى ما بعثهم إلا بالحنفية. والشهداء جمع شهيد.

و (إذ) هاهنا بدل من (إذ) الاولى، والعامل فيها معنى الشهادة. وقيل بل العامل فيها حضر، وكلاهما حسن.

اللغة: والحاضر والشاهد من النظائر. ونقيض الحاضر الغائب.

___________________________________

(1) سورة السجدة: آية 1 و 2 و 3.

(2) هو الاخطل.

(3) انظرا: 3. 4 تجد التفصيل.

(4) في المطبوعة (الحجة).

[476]

ويقال: حضر حضورا، واحضره إحضارا، واستحضره استحضارا، واحتضره احتضارا، وحاضره محاضرة.

والحضر خلاف البدو. وحضرت القوم أحضرهم حضورا: اذا شهدتم. والحاضر خلاف الغائب.

واحضر الفرس إحضارا: اذا عدا عدوا شديدا واستحضرته استحضارا.

والحضرة الجماعة من الناس ما بين الخمسة إلى العشرة. وحاضرت الرجل محاضرة وحضارا: اذا عدوت معه. وحاضرته: اذا جانيته عند السلطان، أو في خصومة، ومحضر القوم مرجعهم إلى المياه بعد النجعة، وفرس محضر. ولا يقال: محضارا.

وألقت الشاة حضيرتها يعني المشيمة وغيرها والابل الحضار البيض. لا واحد لها من لفظها مثل الهجان سواء. وحضرة الرجل فناؤه وأصل الباب الحضور: خلاف الغيبة.

الاعراب: وقوله " إلها واحدا " يحتمل انتصابه أحد أمرين: احدهما - أن يكون حالا من قوله: " إلهك ": والآخر - أن يكون بدلا من إلهك. وتكون الفائدة فيه التوحيد، وانما قدم اسماعيل على اسحاق، لانه كان اكبرهم.

وبه قال ابن زيد.

وقوله: " ونحن له مسلمون " الجملة في موضع نصب على الحال. وقيل لا موضع لها، لانها على الاستئناف و " ابراهيم واسماعيل واسحاق " في موضع خفض. والعامل فيها ما عمل في ابائك، لانه مبين له. كما تقول: مررت بالقوم: اخيك، وغلامك وصاحبك. وانما قال: " آبائك " واسماعيل عم يعقوب، لما قاله الفراء وابوعبيدة: من أن العرب تسمي العم أبا فالآية دالة على ان العمومة يسمون آباء.

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله انه قال: ردوا علي ابي يعني العباس عمه فسمي العم أبا كما سمي الجد أبا من حيث يجب له التعظيم، نحو ما يجب للاب، وقد قرئ في الشواذ واله أبيك، فعلى هذا ينجر اسماعيل واسحاق على العطف، وهو غير المعنى الاول، لانه مترجم عن الآباء وفي الثاني عطف غير ترجمة كما تقول رأيت غلام زيد وعمر، أي غلامهما فكانه قال: لهم ولم يذكر بالابوة إلا ابراهيم وحده والقراء‌ة الاولى هي المشهورة وعليها القراء.

[477]

قوله تعالى: تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون (134)

آية بلا خلاف.

اللغة: قوله: تلك امة قد خلت لهاما كسبت ولكم ما كسبتم " فالامة المراد بها هنا الجماعة والامة على ستة اقسام الجماعة والامة: الحين لقوله: " واذكر بعد امة "(1) أي بعد حين، والامة القدوة والامام.

لقوله: " ان ابراهيم كان امة قانتا "(2) والامة العامة وجمعها امم.

قال الاعشى:

وان معاوية الاكرمين *** حسان الوجوه طوال الامم(3)

والامة: الاستقامة في الدين والدنيا.

قال النابغة: وهل يأثمن ذوامة وهو طائع(4) والامة: أهل الملة الواحدة.

كقولهم: أمة موسى، وامة عيسى، وامة محمد صلى الله عليه وآله واصل الباب: القصد من أمه يؤمه. واذا قصده. ومعنى خلت. مضت كما تقول: لثلاث خلون من الشهر، أي مضين.

وأصله: الانفراد ومنه خلا الرجل بنفسه: اذا انفرد.

وخلا المكان من أهله أي انفرد منهم. وحد الخلو: حصول الشئ وحده. والفرق بين الخلو والفراغ، أن الخلو اذا لم يكن مع الشئ غيره، وقد يفرغ منه وهو معه. فاذا قلت خلا منه فليس معه.

والكسب: العمل الذي يجلب به نفع، او يدفع به ضرر عن النفس.

___________________________________

(1) سورة يوسف: آية 45.

(2) سورة النحل: آية 120.

(3) ديوانه. رقم القصيدة 4. وروايته (عظام القباب) بدل (حسان الوجوه). وفي اللسان (امم) (بيض الوجوه).

(4) اللسان (امم).

وصدر البيت: حلفت فلم اترك لنفسك ريبة في المخطوطة والمطبوعة (وهو طالع).

[478]

وكسب لاهله: اذا اجتلب، ذلك لهم بعلاج ومراس. ولذلك لا يجوز في صفة الله.

وقوله " ولا تسألون عما كانوا يعملون " معناه انه لا يقال لكم اعملوا كذا وكذا. وعلى جهة المطالبة بما يلزمهم من أجل عملهم. كما لا يقال لهم لم عملتم انتم كذا وكذا. وانما يطالب كل انسان بعمله دون عمل غيره كما قال: " ولا تزر وازرة وزر اخرى "(1) وفي الآية دلالة على بطلان قول المجبرة: إن الابناء يؤخذون بذنوب الآباء. ويؤخذ الطفل بذنب ابيه، لان الله تعالى نفى ذلك ومثله قوله: " ولاتزر وازرة وزر اخرى " وقوله: " اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم "(2).

والاشارة بقوله: " تلك امة " إلى ابراهيم واسماعيل واسحاق ويعقوب ولدهم.

يقول الله تعالى لليهود والنصارى: يامعشر اليهود والنصارى دعوا ذكر ابراهيم واسماعيل واسحاق ويعقوب والمسلمين من اولادهم بغير ماهم اهله، ولا تنسبوا اليهم الكفر، واليهودية والنصرانية، ولا تضيفوها اليهم وإنها امة قد خلت ولا تسألون انتم عما كانوا يعملون.

الاعراب: وقوله " لها ما كسبت " يحتمل ان يكون موضعه نصب بأنه حال كأنه قال: قد يلزمها ما تستحقه بعملها. ويجوز أن لا يكون لها موضع لانها مستأنفة. ولا يكون جزء من الجزء الاول، لكن تكون متصلة به في المعنى وان لم تكن جزء منه، لانهما خبران في المعنى عن شئ واحد. كأنه قيل للجماعة. قد خلت. والجماعة لها ما كسبت.

___________________________________

(1) سورة الانعام: آية 164.

(2) سورة المؤمن: آية 17.

[479]

قوله تعالى: وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة ابراهيم حنيفا وما كان من المشركين (135)

آية بلا خلاف.

الضمير في قوله: " وقالوا كونوا " يرجع إلى اليهود، والنصارى، لان كل فريق منهم دعي إلى ماهو عليه ومعنى " تهتدوا " أي تصيبوا طريق الحق. كانهم قالوا: تهتدوا إلى الحق.

وروي عن عبدالله بن عباس، انه قال: قال عبدالله بن صوريا الاعور لرسول الله صلى الله عليه وآله: ما الهدى إلا ما نحن عليه، فاتبعنا يا محمد تهتد.

وقالت النصارى: مثل ذلك فانزل الله (تعالى) " وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا الآية " وفى قوله: " بل ملة ابراهيم حنيفا " حجة على وجوب اتباع ملة ابراهيم إذ كانت سليمة من التناقض. وكان في اليهودية والنصرانية تناقض، وذلك لا يكون من عند الله فصارت ملة ابراهيم احق بالاتباع من غيرها. والتناقض في اليهودية مثل منعهم من جواز النسخ مما في التوراة مما يدل على جواز ذلك وامتناعهم من العمل بما تقدمت به البشارة في التوراة من اتباع النبي الامي مع اظهارهم التمسك بها، وامتناعهم من الاذعان لما(1) دلت عليه المعجزة: من نبوة عيسى، ونبوة محمد صلى الله عليه وآله مع اقرارهم بنبوة موسى من أجل المعجزة إلى غير ذلك من انواع التناقض. وأما النصارى أب وابن وروح قدوس إله واحد مع زعمهم ان الاب ليس هو الابن وان الاب إله والابن إله وروح القدوس إله. فاذا قيل لهم قولوا ثلاثة آلهة امتنعوا من ذلك. إلى ما يصفون به الباري تعالى مما(2) يوجب الحاجة والحدث.

ويقولون: مع ذلك انه قديم لم يزل إلى غير ذلك من مناقضاتهم التي لا تحصى كثيرة، وهي موجودة في الكتب عليهم نبهنا على جملها. وأما الحنيفية فهي الاستقامة. وانما قيل للذي يقبل باحدى قدميه على الاخرى أحنف تفاؤلا بالسلامة كما قيل للهلكة: مفازة تفاؤلا بالفوز، والنجاة، وهو قول الرياشي وابن قتيبة، واهل اللغة.

وقال الزجاج: أصله الميل، وابراهيم حنيف إلى دين الاسلام، وقال: العادل إلى دين ربه عن اليهودية، والنصرانية.

___________________________________

(1) في المطبوعة " ما."

(2) في المطبوعة " متا ".

[480]

وقال ابوحاتم: قلت للاصمعي: من أين عرف في الجاهلية الحنيف؟ فقال: لانه من عدل عن دين اليهود والنصارى فهو حنيف عندهم، ولان كل من حج البيت كانوا يسمونه حنيفا وكانوا اذا أرادوا الحج قالوا: هلم نتحنف.

وقال صاحب العين: الحنف ميل في صدر القدم. يقال رجل حنف، وسمي الاحنف لحنف كان به.

وقالت حاضنته وهي ترقصه:

والله لولا حنف برجله *** ما كان في صبيانكم كمثله(1)

والحنيف: المسلم الذي يستقبل قبلة البيت الحرام على ملة ابراهيم " وكان حنيفا مسلما "

وقال بعضهم: الحنيف كل من أسلم في أمر الله، ولم يلتو في شئ والجمع الحنفاء.

قال بعضهم: قيل حنيف، لانه تحنف عن الاديان كلها: أي مال إلى الحق.

وفي الحديث أحب الاديان إلى الله الحنفية السمحة، وهي ملة ابراهيم لا حرج فيها، ولا ضيق.

وأصل الباب الحنف، وهو الميل.

ونصب " ملة ابراهيم " يحتمل اربعة اوجه، احدها - ان كونوا هودا أو نصارى.

قد تضمن معنى اتبعوا اليهودية والنصرانية، فعطف به على المعنى.

والثاني - على الحال كأنه(2) قال بل نتبع ملة ابراهيم.

فالاول عطف والثاني (حذف).

والثالث - على معنى بل أهل ملة ابراهيم، فحذف المضاف واقيم المضاف اليه مقامه كقوله تعالى " واسأل القرية ".

والرابع - على الاغراء.

___________________________________

(1) اللسان (حنف) وروايته (في فتيانكم من مثله).

(2) في المخطوطة بياض. وفى المطبوعة هكذا: (الحال قال.).

[481]

قوله تعالى: قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والاسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون(136)

آية واحدة بلا خلاف.

قوله تعالى: " قولوا آمنا بالله " يحتمل ان يكون جوابا - على ما روي عن ابن عباس: أن نفرا من اليهود أتوا رسول الله صلى الله عليه وآله فسألوه عمن يؤمن به من الرسل، فقال أؤمن بالله وما أنزل الينا وما انزل إلى ابراهيم واسماعيل واسحاق ويعقوب والاسباط. إلى آخرها -، فلما ذكر عيسى جحدوا بنبوته، وقالوا: لا نؤمن بعيسى ولا نؤمن بمن آمن به، فأنزل الله فيهم " قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما انزل الينا وما انزل من قبل وان اكثركم فاسقون "(1).

والثاني - قال الحسن وقتادة: أمر الله المؤمنين أن يقولوا: " آمنا بالله وما أنزل الينا " الآية، وجعل ذلك محنة فيما بينهم وبين اليهود والنصارى.

اللغة: والاسباط جمع سبط.

قال تغلب: يقال: سبط عليه العطاء والضرب: اذا تابع عليه حتى يصل بعضه ببعض وانشد الثوري في قطيع بقر: كأنه سبط من الاسباط(2) شبهه بالجماعة من الناس يتتابعون في أمر.

والسبط: جماعة. ومن ثم قيل لولد يعقوب أسباط. وشعر سبط: سلس منبسط.

ومنه سمي الساباط لانبساطه بين الدارين حتى يجمعهما.

والسباطة: الكناسة بعضها إلى بعض.

وقال ابن دريد: السبط واحد الاسباط، وهو أولاد اسرائيل.

وقالوا: الحسن والحسين سبطا رسول الله صلى الله عليه وآله أي ولداه. والسباطة ما سقط الشعر اذا سرحته. واخذت

___________________________________

(1) سورة المائدة: آية 62.

(2) اللسان " سبط ".

[482]

فلانا سباط: اذا اخذته الحمى. والسبط من اليهود بمنزلة القبيلة من قبائل العرب.

ويقال هو سبط الكفين: اذا كان طويل الاصابع.

والسبط: قناة جوفاء مضروبة بالقصب يرمى فيها سهام صغار ينفخ نفخا لا يكاد يخطئ وأصل الباب: السبط وهو التتابع.

وقال الزجاج: السبط الجماعة الذين يرجعون إلى أب واحد.

والسبط: الشجر. والسبط: الذين من شجرة واحدة.

وقال قتادة: الاسباط يوسف واخوته ولد يعقوب اثني عشر رجلا فولد كل واحد منهم أمة من الناس.

فسموا الاسباط وبه قال السدي والربيع وابن إسحاق.

واسماء الاثني عشر ذكروهم: يوسف ويامين، وروبيل، ويهوذا، وشمعون، ولاوي، ودان، وقهاب،(1) ويشجر، وتفنالى، وجاذ، واشر. ولا خلاف بين المفسرين انهم ولد يعقوب.

وقال كثير من المفسرين: انهم كانوا انبياء.

والذي يقتضيه مذهبنا انهم لم يكونوا أنبياء باجمعهم، لانه وقع منهم من المعصية ما فعلوه مع يوسف (ع) مالا خفاء به، والنبي عندنا، لايجوز عليه فعل القبائح: لا صغيرها، ولا كبيرها، فلا يصح مع ذلك القول بنبوتهم.

وليس في ظاهر القرآن أنهم كانوا انبياء وقوله تعالى: " وما انزل إلى ابراهيم واسماعيل واسحاق ويعقوب والاسباط " لايدل على انهم كانوا أنبياء لان الانزال يجوز أن يكون على بعضهم ممن كان نبيا، ولم يقع منه ما ذكرناه من الافعال القبيحة. ويحتمل أن يكون المراد انهم امروا باتباعه. كما يقال: انزل الله إلى امة النبي صلى الله عليه وآله القرآن. كما قال: " وما أنزل الينا " وان كان المنزل على النبي صلى الله عليه وآله، لكن لما كانوا مأمورين بما فيه اضيف بانه انزل اليهم.

ومعنى قوله: " لا نفرق بين أحد منهم " انا لا نؤمن ببعض الانبياء ونكفر ببعض، كما فعلت اليهود والنصارى، فكفرت اليهود بعيسى ومحمد صلى الله عليه وآله وكفرت النصارى بسليمان ونبينا محمد صلى الله عليهما.

وقوله تعالى: " ونحن له مسلمون " خاضعون بالطاعة.

___________________________________

(1) في المخطوطة والمطبوعة كما هو مثبت وكذلك في مجمع البيان . وفي تفسير الطبري 3: 112 - دار المعارف المصرية قهاث -.

[483]

وقيل: مذعنون له بالعبودية وقيل مستسلمون لامره، ونهيه اعتقادا وفعلا قيل داخلون في حكم الاسلام الذي هو دينه، كما قال: " إن الدين عند الله الاسلام " والفرق بين التفريق والفرق ان التفريق جعل الشئ مفارقا لغيره، والفرق نقيض الجمع، والجمع جعل الشئ مع غيره، والفرق جعل الشئ لا مع غيره والفرق بالحجة هو البيان الذي يشهد ان الحكم لاحد الشيئين دون الآخر، وفائدة الآية الامر بالايمان بالله والاقرار بالنبيين، وما انزل اليهم من الكتب ليتعبدوا به من الاحكام، والرد على من فرق بينهم فيما جمعهم الله عليه من النبوة.

قوله تعالى: فان آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فانما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم (137)

آية بلا خلاف.

المعنى: اخبر الله تعالى ان هؤلاء الكفار متى آمنوا على حد ما آمن المؤمنون به، فقد اهتدوا إلى طريق الجنة.

والباء في قوله " بمثل ما امنتم " يحتمل ثلاثة اشياء:

اولها - ان تكون زائدة والتقدير، فان آمنوا مثل الذي امنتم أي مثل ايمانكم كما قال: " كفى بالله " والمعنى كفى الله.

قال الشاعر: كفى الشيب والاسلام للمرء ناهيا(1)

والثاني ان يكون المعنى بمثل هذا ولا تكون زائدة. كأنه قال: فان آمنوا على مثل ايمانكم، كما تقول: كتبت على مثل ما كتبت، وبمثل ما كتبت كأنك تجعل المثال آلة يتوصل به إلى العمل، وهذا أجود من الاول.

والثالث - أن تلغى مثل، كما ألغيت الكاف في قوله: " فجعلهم كعصف

___________________________________

(1) اللسان (نهي) وصدره: سمية ودع ان تجهزت غاديا.

[484]

مأكول "(1) وهذا أضعف الوجوه لانه اذا أمكن حمل كلام الله على فائدة، فلا يجوز حمله على الزيادة، وزيادة الاسم أضعف من زيادة الحرف، كزيادة ما ولا وما أشبه ذلك.

وروي عن ابن عباس انه قال: لاتقولوا " فان آمنوا بمثل ما امنتم به " فانه ليس الله مثل ولكن قولوا " فان آمنوا بالذي آمنتم به " وهذه رواية شاذة مخالفة لما أجمع عليه القراء، ومتى صحت فالوجه فيها أن يكون أراد أن يفسر المعنى فكانه قال: لا تتأولوه على الجعل لله عزوجل مثلا فانه شرك، لكن تأولوه على ما يصح تأويله من غير تمثيل للمعبود تعالى.

وقال ابن عباس: ان الايمان هو العروة الوثقى وانه لا يقبل عملا إلا به، ولا تحرم الجنة إلا على تركه.

وقوله تعالى: " وان تولوا " معناه ان اعرضوا عن الايمان وجحدوه ولم يعترفوا به " فانما هم في شقاق " معناه انهم في مفارقة.

في قول قتادة والربيع، وقال ابن زيد الشقاق هو المنازعة والمجادلة.

قال الحسن: معناه التعادي وأصل الشقاق يحتمل ان يكون مأخوذا من الشق، لانه صار في شق غير شق صاحبه، للعداوة المباينة، ويحتمل أن يكون مأخوذا من المشقة لانه يحرص على ما يشق على صاحبه، ويؤذيه.

وفي الآية دلالة على نبوة النبي صلى الله عليه وآله، لان الله تعالى وعده ان يكفيه من يعاديه من اليهود والنصارى الذين شاقوه بقوله: " فسيكفيكهم الله " فكان الامر على ما وعد به.

اللغة: والكفاية والوقاية والسلامة نظائر تقول كفى يكفي كفاية: اذا قام بالامر واكتفى اكتفاء، واستكفى استكفاء، وتكفى تكفيا، وكفاك هذا الامر أي حسبك ورأيت رجلا كافيك من رجل أي كفاك به رجلا.

وأصل الباب الكفاية، وهو بلوغ الغاية يقال يكفي ويجزي ويغني بمعنى واحد.

___________________________________

(1) سورة الفيل: آية 5.

[485]

قوله تعالى: صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون (138)

آية بلا خلاف.

قوله تعالى: " صبغة الله " معناه فطرة الله.

في قول الحسن وقتادة وابي العالية، ومجاهد وعطية وابن زيد والسدي.

وقال الفراء والبلخي: انه شريعة الله في الختان الذي هو التطهير وقوله: " صبغة الله " مأخوذ من الصبغ، لان بعض النصارى كانوا اذا ولد لهم مولود جعلوه في ماء طهور يجعلون ذلك تطهيرا له، ويسمونه العمودية: فقيل: صبغة الله أي تطهير الله، لاتطهيركم بتلك الصبغة.

وهو قول الفراء: وقال قتادة: اليهود تصبغ ابناء‌ها يهودا والنصارى تصبغ ابناء‌ها نصارى، فهذا غير المعنى الاول، وانما معناه: انهم يلقنون اولادهم اليهودية والنصرانية، فيصبغونهم بذلك لما يشربون قلوبهم منه، فقيل صبغة الله التي امر بها ورضيها يعني الشريعة، لاصبغتكم.

وقال الجبائي سمى الدين صبغة لانه هيئة تظهر بالمشاهدة من أثر الطهارة والصلاة وغير ذلك من الآثار الجميلة التي هي كالصبغة وقال امية:

في صبغة الله كان اذ نسي ال‍ *** عهد وخلى الصواب اذ عزما

اللغة: قال صاحب العين: الصبغ ما يلون به الثياب، والصبغ مصدر صبغت والصباغة حرفة الصباغ، والصبغ، والصباغ: ما يصطبغ به في الاطعمة. والاصبغ من الطير ما ابيض ذنبه أو بعضه.

وأصل الباب الصبغ: وهو المزج للتلوين.

الاعراب: ونصب " صبغة الله " في الآية يحتمل امرين: احدهما - أن يكون مردودا على " بل ملة ابراهيم " بدلا منه وتفسيرا له.

[486]

والثاني - اتبعوا صبغة الله. والاجود الاول.

وكان يجوز الرفع بتقدير هي صبغة الله.

المعنى: ومعنى قوله: " ومن أحسن من الله صبغة " واللفظ لفظ الاستفهام. وبه قال الحسن وغيره.

وقوله " ونحن له عابدون " يجب أن نتبع صبغته لا ما صبغنا عليه الآباء والاجداد.

وقيل معناه " ونحن له عابدون " في اتباعنا ملة ابراهيم صبغة الله للاعتراف بالوجه الذي اتبعوه.

قوله تعالى: قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون(139)

آية.

المعنى: أمر الله تعالى نبيه في هذه الآية أن يقول لهؤلاء الكفار " اتحاجوننا في الله " ومعناه: تخاصموننا وتجادلوننا فيه وهو تعالى الذي خلقنا وانعم علينا، وخلقكم وانعم عليكم.

وكانت محاجتهم له صلى الله عليه وآله انهم زعموا انهم أولى بالحق، لانهم راسخون في العلم، وفي الدين، لتقدم النبوة فيهم، والكتاب، فهم أولى بأن يكون الرسول منهم.

وقال قوم: بل قالوا: نحن أحق بالايمان، لانا لسنا من العرب الذين عبدوا الاوثان، فبين الله تعالى وجه الحجة عليهم انه ربنا وربهم، فهو أعلم بتدبيرنا وتدبيرهم، ومصلحتنا ومصلحتهم، وانه لا حجة علينا في اجرام(1) غيرنا ومعاصيهم.

وقال الحسن: كانت محاجتهم أن قالوا: نحن اولى بالله منكم،

___________________________________

(1) في المطبوعة (من) زائدة في هذا الموضع.

[487]

وقالوا: " نحن ابناء الله واحباؤه "(1) وقالوا: " لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أونصارى " وقالوا " كونوا هودا أونصارى تهتدوا " وغرضهم بذلك الاحتجاج بان الدين ينبغي ان يلتمس من جهتهم، وأن النبوة اولى أن تكون فيهم وليس الامر على ما ظنوا، لان " الله اعلم حيث يجعل رسالته "(2) ومن الذي يقوم باعبائها، ويتحملها على وجه يكون اصلح للخلق واولى بتدبيرهم.

وقوله: " لنا اعمالنا " معناه الانكار لاحتجاجهم باعمالهم، لانهم مشركون، ونحن له مخلصون.

وقيل معناه الانكار للاحتجاج بعبادة العرب للاوثان، فقيل: لاحجة في ذلك إذ لكل احد عمله، لا يؤخذ بجرم غيره.

اللغة: والاعمال والافعال والاحداث نظائر.

والاخلاص والافراد والاختصاص نظائر وضد الخالص المشوب.

وقوله: " ونحن له مخلصون " فيه احتجاج بأن المخلص لله اولى بالحق من المشرك به.

وقيل معناه: الرد عليهم بما احتجوا به من عبادة العرب للاوثان، بانه لا عيب علينا في ذلك اذا كنا مخلصين، كما لا عيب عليكم بفعل من عبد العجل من الاسلاف اذا اعتقدتم الانكار عليهم، بانهم على الاشراك بالله بالتشبيه له، والكفر بآياته.

وقال ابن عباس: معنى " اتحاجوننا " أتجادلوننا.

وقال مجاهد: معناه أتخاصموننا.

وبه قال ابن زيد.

ومعنى " في الله " في دين الله، والالف صورتها الاستفهام. ومعناه الانكار ويجوز في " اتحاجوننا " ثلاثة اوجه من العربية: الاظهار، والادغام، والحذف. فالادغام تشديد النون، والحذف تخفيف النون الواحدة.

___________________________________

(1) سورة المائدة: آية 20.

(2) سورة الانعام: آية 124.

[488]

قوله تعالى: أم تقولون ان إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والاسباط كانوا هودا أو نصارى قل أأنتم أعلم أم الله ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله وما الله بغافل عما تعملون(140)

آية بلا خلاف.

القراء‌ة: قرأ أهل الكوفة إلا أبابكر " أم تقولون " بالتاء. ووافقهم ابن عامر ورويس. الباقون بالياء.

المعنى: من قرأ بالياء جعله متصلا بما قبله من الاستفهام كأنه قال: اتحاجوننا في الله أم تقولون ان الانبياء كانوا على دينكم. والتقدير بأي الحجتين متعلقون في امرنا: أبا لتوحيد، فنحن موحدون، أم باتباع دين الانبياء، فنحن لذلك متبعون. ومن قرأ بالياء، فالوجه فيه انه عدل إلى حجاج آخر عن الحجاج الاول.

كأنه قال: بل أتقولون ان الانبياء من قبل ان تنزل التوراة والانجيل كانوا هودا أو نصارى.

ويكون قد اعرض عن خطابهم استجهالا لهم بما كان منهم، كما يقبل العالم على من بحضرته بعد ارتكاب مخاطبه جهالة شنعة: فيقول: قد قامت عليه الحجة أم يقول بابطال النظر المؤدي إلى المعرفة.

وقد انكر الطبري القراء‌ة بالياء، وقال هي شاذة لا تجوز القراء‌ة بها وليس الامر على ما ظن بل وجهها ما بيناه.

ومعنى الآية: الاحتجاج عليهم في قولهم: " لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى " فقيل لهم: كيف ذلك، والامر بخلافه من وجهين: احدهما - ما اخبر به نبينا عليه السلام مع ظهور المعجز الدال على صدقه.

والآخر ما في التوراة والانجيل من أنهم كانوا على الحنيفية، لان عندهم اسم اليهودية يقع على من تمسك بشريعة التوراة والنصرانية اسم لمن تمسك بشريعة الانجيل.

[489]

وقد قال الله تعالى: وما انزلت التوراة والانجيل إلا من بعده "(1) وقبل ايضا ان معناه التوبيخ لاهل الكتاب بادعائهم عليهم خلاف الاسلام بغير حجة ولابرهان.

وقوله: " أأنتم اعلم أم الله " صورته صورة الاستفهام والمراد به التوبيخ ومثله قوله: " أأنتم أشد خلقا أم السماء "(2).

اللغة: والاعلم والاعرف والادرى بمعنى واحد. والاظلم والاجور والاعتى نظائر، فان قيل لم قال: " أأنتم أعلم أم الله " وقد كانوا يعلمونه وكتموه، وانما ظاهر هذا الخطاب لمن لا يعلم، قلنا من قال: انهم كانوا على ظن وتوهم: فوجه الكلام على قوله واضح.

ومن قال: كانوا يعلمون ذلك وانما كانوا يجحدونه يقول: معناه ان منزلتكم منزلة المعترض على ما يعلم ان الله اخبر به فما ينفعه ذلك مع إقراره بان الله اعلم منه، وانه لا يخفى عليه شئ، لان ما دل على انه اعلم هو الدال على انه لايخفى عليه شئ، وهو انه عالم لنفسه ويعلم جميع المعلومات.

وقوله تعالى: " ومن اظلم ممن كتم " قيل في (من) في قوله: " من الله " ثلاثة اقوال:

احدها - انها بمعنى ابتداء الغاية، لان الله تعالى ابتدأ الشهادة في التوراة والانجيل بصحة النبوة لمحمد صلى الله عليه وآله، ويكون ابتداء الشهادة بأن الانبياء كانوا على الحنيفية، فهذه شهادة من الله عندهم.

والثاني - كتمها من عباد الله.

والثالث - ما حكاه البلخي: انه بمنزلة من أظلم ممن يجور على الفقير الضعيف من السلطان الغني القوي: أي فلا احد أظلم منه.

والمعنى انه يلزمكم ان لا أحد أظلم من الله، تعالى عن ذلك إذ ما يكتم ما فيه الغرور للعباد، ليوقعهم في الضلال وهو

___________________________________

(1) سورة آل عمران: آية 65.

(2) سورة النازعات: آية 27.

[490]

الغني بنفسه الذي لايجوز أن يلحقه المنافع والمضار جل ثناؤه وتقدست اسماؤه، وهذا الذي ذكره يلزم اليهود والجهال.

كما حكى الله تعالى عنهم " وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت ايديهم ولعنوا بما قالوا "(1).

والشهادة التي كتموها قيل فيها قولان:

احدهما - قال مجاهد والربيع وابن ابي نجيح: انهم كتموا الشهادة بانهم كانوا على الاسلام.

والثاني - قال الحسن وقتادة وابن زيد واختاره الجبائي: انهم كتموا الشهادة بالبشارة التي عندهم بالنبي صلى الله عليه وآله.

فان قيل اذا كان الذي كتموه امر محمد صلى الله عليه وآله فكيف يتصل بما قبله: قيل قال الحسن: كتموا محمدا صلى الله عليه وآله ودينه لان في دينه ان ابراهيم كان مسلما ولم يك من المشركين.

والاحتجاج عليهم: " أأنتم أعلم أم الله " على وجه الالزام لهم بالجهالة كانه قيل: اذا زعمتم أن هؤلاء كانوا يهودا أو نصارى، وقد اخبر الله بخلاف ذلك عنهم فقد لزمكم أن تكونوا أعلم من الله تعالى، وهذا غاية الخزي لمن بلغه.

وقوله تعالى: " وما الله بغافل عما تعملون " فالغفلة والسهو والسنة نظائر ومعنى الآية يحتمل امرين: احدهما - ليس ألله بساه عن كتمان الشهادة التي لزمكم القيام بها لله تعالى. الثاني - ان يكون على عمومه والمعنى: أنه لا يخفى عليه شئ من المعلومات لا صغيرها، ولاكبيرها فكونوا على حذر من الجزاء على السيئات بما تستحقونه من العقاب، وكتم واخفى واسر معناها واحد والبينة والحجة واحد.

قوله تعالى: تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون(141)

آية بلا خلاف.

___________________________________

(1) سورة المائدة: آية 67.

[491]

المعنى: قيل في تكرار قوله تلك امة قد خلت قولان: احدهما - انه عنى بالاول: ابراهيم ومن ذكر معه من الانبياء والثاني - عنى به اسلافهم من آبائهم الذين هم على ملتهم.

والقول الثاني ان الجواب اذا اختلفت أوقاته فكان الثاني في غير موطن الاول، وكان بعد مدة من وقوع الاول بحسب ما اقتضاه الحال لم يكن ذلك معيبا عند أهل اللغة ولا عند العقلاء، والاعتراض عليهم بقوله " تلك أمة قد خلت " انه اذا لم تشكوا أن يكون فرضهم غير فرض الامة التي قد خلت قبلكم، ولا تحتجوا بأنه لا يجوز أن يخالفوا عليه، ولو سلم لكم أنهم كانوا على ما تذكرونه ما جازلكم أن تتركوا ما نقل لكم الله عنه على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وآله إذ لله تعالى ان ينسخ من الشريعة ما شاء على ما يعلم في ذلك من وجوه الحكمة، وعموم المصلحة.

وقيل: ان ذلك ورد مورد الوعظ لهم بانه: اذا كان لايؤخذ الانسان إلا بعمله فينبغي ان تحذروا على انفسكم، وتبادروا بما يلزمكم، ولا تتكلوا على فضائل الاباء والاجداد فان ذلك لا ينفعكم اذا خالفتم امر الله فيما اوجب عليكم.

والمعنى بقوله تلك امة قد خلت على قول قتادة والربيع ابراهيم عليه السلام ومن ذكر معه.

وعلى قول الجبائي، وغيره: من سلف من آبائهم الذين كانوا على ملتهم اليهودية والنصرانية.

وقد بينا فيما مضى أن الامة الجماعة التي تؤم جهة واحدة كأمة محمد صلى الله عليه وآله التي تؤم العمل على ما دعا اليه. وكذلك أمم سائر الانبياء صلى الله عليه وآله والخلاء الفراغ يقال: فرغ من عمله، وفرغ من مكانه. وانما قيل لما مضى خلا، لانه خلا منه مكانه. والكسب الفعل الذي يجر لفاعله نفعا او يدفع به ضررا. وانما قيل كسب السيئة، لانه اجلب النفع عاجلا.

وقوله: " ولا تسألون " معناه لا تطالبون. والسؤال الطلب. وهو ايضا الاخبار الذي اقتضاه ما تقدم من الكلام أي لا يقال لكم لم عصي آباء‌كم. وانما يقال لكم لم عصيتم ولم ظلمتم.

[492]

تم المجلد الاول من التبيانه ويليه المجلد الثاني وأوله " سيقول السفهاء من الناس ".(142) اعتمدنا - اكثرما اعتمدنا - في تصحيح هذا المجلد على تفسير ملاحظة: مجمع البيان لان الطبرسي (رحمه الله) كثير النقل عن التبيان والله الملهم للصواب - المصححان -


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/books/index.php?id=1210
  • تاريخ إضافة الموضوع : 0000 / 00 / 00
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28