00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة الواقعة من آية 75 ـ آخر السورة من ( ص 494 ـ آخر الجزء السابع عشر )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء السابع عشر   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

[494]

الآيات

فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَقِعِ النُّجُومِ ( 75 ) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ( 76 )إِنَّهُ لَقُرْءَانٌ كَرِيمٌ ( 77 ) فِى كِتَـب مَّكْنُون ( 78 ) لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ( 79 ) تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَـلَمِينَ ( 80 ) أَفَبِهَـذَا الْحَدِيثِ أَنتُم مُّدْهِنُونَ ( 81 ) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ( 82 )

 

التّفسير

المطهّرون ومعرفة أسرار القرآن:

إستمراراً للأبحاث التي جاءت في الآيات السابقة، والتي تركّز الحديث فيها حول الأدلّة السبعة الخاصّة بالمعاد، ينتقل الحديث الآن عن أهميّة القرآن الكريم بإعتباره يشكّل مع موضوع النبوّة ركنين أساسيين بعد مسألة المبدأ والمعاد والتي بمجموعها تمثّل أهمّ الأركان العقائدية، فبالإضافة إلى أنّ للقرآن الكريم أبحاثاً عميقة حول أصلي التوحيد والمعاد، فإنّه يعتبر تحكيماً لهذين الأصلين.

يبدأ الحديث بقسم عظيم، حيث يقول سبحانه: (فلا اُقسم بمواقع النجوم).

يعتقد الكثير من المفسّرين أن (لا) التي جاءت هنا ليست بمعنى النفي حيث إنّها زائدة وللتأكيد، كما جاء نفس هذا التعبير في الآيات القرآنية الاُخرى حول

[495]

القسم بيوم القيامة والنفس اللوامة وربّ المشارق والمغارب والشفق، وما إلى ذلك.

في الوقت الذي اعتبر البعض الآخر أنّ (لا) هنا جاءت للنفي، حيث قالوا: إنّ المطلب (مورد القسم) أهمّ من أن يقسم به، كما نقول في تعبيراتنا اليوميّة: نحن لا نقسم بالموضوع الفلاني، أي نفي القسم وأنّ (لا) هنا جاءت إشارة لذلك.

إلاّ أنّ التّفسير الأوّل هو الأنسب حسب الظاهر، لأنّه قد ورد في القرآن الكريم القسم بالله صراحة، فهل أنّ النجوم أفضل من الذات الإلهيّة حتّى لا يقسم بها؟

وحول (مواقع النجوم) فقد ذكر المفسّرون تفسيرات عديدة لها:

الأوّل: هو المعنى المتعارف عليه من حيث مداراتها وأبراجها ومسيرها.

والآخر: هو أنّ المقصود بذلك مواقع طلوعها وغروبها.

والثّالث: هو سقوط النجوم في الحشر والقيامة.

وفسّرها آخرون: بأنّ معناه هو غروب النجوم فقط.

وإعتبرها آخرون إشارة وإنسجاماً مع قسم من الرّوايات حول نزول آيات وسور القرآن الكريم في فواصل زمنية مختلفة، وذلك لأنّ «النجوم» جمع نجمة تستعمل للأعمال التي تنجز بصورة تدريجيّة.

وبالرغم من أنّ المعاني لا تتنافى حيث يمكن جمعها في الآية أعلاه، إلاّ أنّ التّفسير الأوّل هو الأنسب حسب الظاهر، وذلك لأنّ أكثر الناس كانوا لا يعلمون أهميّة هذا القسم عند نزول الآيات، بعكس الحالة اليوم، والتي توضّح لنا أنّ لكلّ نجمة من النجوم مكانها المخصّص ومدارها ومسارها المحدّد لها بدقّة وحساب، وذلك طبقاً لقانون الجاذبية، وإنّ سرعة السير لكلّ منها محدّدة أيضاً وفق قانون معيّن وثابت.

وهذه المسألة بالرغم من أنّها غير قابلة للحساب بصورة دقيقة في الأجرام

[496]

السماوية البعيدة، إلاّ أنّ المجاميع الموجودة في المنظومة الشمسية التي تشكّل النجوم القريبة لنا، قد درست بدقّة وتبيّن أنّ نظام مداراتها دقيق إلى حدّ مدهش.

وعندما يلاحظ الإنسان ـ طبقاً لتصريحات العلماء ـ أنّ في (مجرّتنا) فقط ألف مليون نجمة، وتوجد في الكون مجرّات كثيرة، وكلّ واحدة منها لها مسار خاصّ، عندئذ ستتوضّح لنا أهميّة هذا القسم القرآني.

ونقرأ في كتاب (الله والعلم الحديث) ما يلي:

«يعتقد العلماء الفلكيون أنّ هذه النجوم التي تتجاوز الملياردات، والتي نرى قسماً منها بالعين المجرّدة، والقسم الكثير منها لا يمكن رؤيته إلاّ بالتلسكوبات بل إنّ قسماً منها لا نستطيع مشاهدته حتّى بالتلسكوبات، اللهمّ إلاّ بوسائل خاصّة نستطيع أن نصوّرها بها.

كلّ من هذه النجوم تدور في مدارها الخاصّ، ولا يوجد أي إحتمال أنّ واحدة منها تكون في حقل الجاذبية لنجمة اُخرى. أو أنّ بعضها يصطدم بالبعض الآخر، وفي الواقع أنّ حالة التصادم المفترضة مثل ما لو إفترضنا أنّ سفينة في المحيط الهاديء تصطدم مع سفينة اُخرى تجري في البحر الأبيض المتوسّط وكلّ منها سائرة بموازاة الاُخرى وبسرعة واحدة ... إنّ هذا الأمر لو لم يكن محالا فهو بعيد جدّاً. كذلك الأمر بالنسبة للنجوم حيث أنّ كلا منها لها مدارها الخاصّ بها ولن تصطدم بالاُخرى رغم السرعة الهائلة لكلّ منها»(1).

وبالنظر إلى هذه الإكتشافات العلمية عن وضع النجوم، تتوضّح أهميّة القسم أعلاه، ولهذا السبب فإنّه تعالى يضيف في الآية اللاحقة: (وإنّه لقسم لو تعلمون عظيم).

التعبير بـ (لو تعلمون) يوضّح وبشكل جليّ أنّ معرفة البشر في ذلك الزمان

______________________________________

1 ـ الله والعلم الحديث، ص33.

[497]

لم تدرك هذه الحقيقة بصورة كاملة، وهذه بحدّ ذاتها تعتبر إعجازاً علميّاً للقرآن الكريم، حيث في الوقت الذي كانت تعتبر النجوم عبارة عن مسامير فضائية رصّعت السماء بها فانّ مثل هذا البيان القرآني الرائع في ظلّ ظروف وأوضاع يخيّم عليها الجهل، محال أن يصدر من بشر عادي.

وتوضّح الآية اللاحقة ما هو المقصود من ذكر هذا القسم؟ حيث يقول سبحانه: (إنّه لقرآن كريم).

وبهذه الصورة فإنّه يردّ على المشركين المعاندين الذين يصرّون بإستمرار على أنّ هذه الآيات المباركة هي نوع من التكهّن ـ والعياذ بالله ـ أو أنّه حديث جنوني أو شعر، أو أنّه من قبل الشيطان .. فيردّ عليهم سبحانه بأنّه وحي سماوي وحديث بيّن وعظمته وأصالته لا غبار عليها، ومحتواه يعبّر عن مبدأ نزوله، وأنّ هذا الموضوع واضح بحيث لا يحتاج لبيان المزيد.

إنّ وصف القرآن بـ «الكريم» (بما أنّ الكرم بالنسبة لله هو: الإحسان والإنعام، ويستعمل للبشر بمعنى اتّصاف الشخص بالالاخلاق والإحسان، وبصورة عامّة فهو إشارة إلى المحاسن العظيمة)(1) إشارة للجمال الظاهري للقرآن من حيث الفصاحة وبلاغة الألفاظ والجمل، وكذلك فإنّها إشارة لمحتواه الرائع، لأنّه نزل من قبل مبدأ ومنشأ كلّه كمال وجمال ولطف.

نعم، إنّ القرآن كريم وقائله كريم ومن جاء به كذلك، وأهدافه كريمة أيضاً.

ثمّ يستعرض الوصف الثاني لهذا الكتاب السماوي العظيم حيث يقول تعالى: (في كتاب مكنون).

إنّه في «لوح محفوظ» في علم الله، محفوظ من كلّ خطأ وتغيير وتبديل، وطبيعي أنّ الكتاب الذي يستلهم مفاهيمه وأفكاره من المبدأ الأعلى وأصله عند

______________________________________

1 ـ الراغب في المفردات مادّة (كريم).

[498]

الله، فإنّه مصون من كلّ تحريف وخطأ وإشتباه.

وفي ثالث وصف له يقول سبحانه: (لا يمسّه إلاّ المطهّرون)(1).

ذكر الكثير من المفسّرين ـ تماشياً مع بعض الرّوايات الواردة عن الأئمّة المعصومين ـ بعدم جواز مسّ (كتابة) القرآن الكريم بدون غسل أو وضوء.

في الوقت الذي إعتبر بعض آخر أنّها إشارة إلى الملائكة المطهّرين الذين لهم علم بالقرآن، ونزلت بالوحي على قلب الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في مقابل قول المشركين الذين كانوا يقولون: إنّ هذه الكلمات قد نزلت بها الشياطين على محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم).

كما إعتبر بعضهم أنّها إشارة إلى أنّ الحقائق والمفاهيم العالية في القرآن الكريم لا يدركها إلاّ المطهّرون، كما في قوله تعالى: (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدىً للمتّقين).(2)

وبتعبير آخر فإنّ طهارة الروح في طلب الحقيقة تمثّل حدّاً أدنى من مستلزمات إدراك الإنسان لحقائق القرآن، وكلّما كانت الطهارة والقداسة أكثر كان الإدراك لمفاهيم القرآن ومحتوياته بصورة أفضل.

إنّ التفاسير الثلاثة المارّة الذكر لا تتنافى مع بعضها البعض أبداً ويمكن جمعها في مفهوم الآية مورد البحث.

وفي رابع وآخر وصف للقرآن الكريم يقول تعالى: (تنزيل من ربّ العالمين)(3) إنّ الله المالك والباريء لجميع الخلق، قد نزّل هذا القرآن لهداية البشر، وقد أنزله سبحانه على قلب النّبي الطاهر، وكما أنّ العالم التكويني صادر منه وهو تعالى ربّ العالمين فكذلك الحال في المجال التشريعي، فكلّ نعمة وهداية فمن ناحيته ومن عطائه.

______________________________________

1 ـ «لا يمسّه» جملة خبرية يمكن أن تكون بمعنى النهي أو النفي.

2 ـ البقرة، 2.

3 ـ تنزيل هنا مصدر بمعنى اسم مفعول أي (منزل) وهو خبر لمبتدأ محذوف، أو أنّه خبر بعد خبر.

[499]

ثمّ يضيف سبحانه: (أفبهذا الحديث أنتم مدهنون) هل أنتم بهذا القرآن وبتلك الأوصاف المتقدّمة تتساهلون، بل تنكرونه وتستصغرونه في حين تشاهدون الأدلّة الصادقة والحقّة بوضوح، وينبغي لكم التسليم والقبول بكلام الله سبحانه بكلّ جديّة، والتعامل مع هذا الأمر كحقيقة لا مجال للشكّ فيها.

عبارة «هذا الحديث» في الآية الكريمة إشارة للقرآن الكريم، و «مدهنون» في الأصل من مادّة (دهن) بالمعنى المتعارف عليه، ولأنّ الدهن يستعمل للبشرة واُمور اُخرى، فإنّ كلمة (أدهان) جاءت بمعنى المداراة والمرونة، وفي بعض الأحيان بمعنى الضعف وعدم التعامل بجدية ... ولأنّ المنافقين والكاذبين غالباً ما يتّصفون بالمداراة والمصانعة، لذا إستعمل هذا المصطلح أحياناً بمعنى التكذيب والإنكار، ويحتمل أن يكون المعنيان مقصودان في الآية.

والأصل في الإنسان أن يتعامل بجديّة مع الشيء الذي يؤمن به، وإذا لم يتعامل معه بجديّة فهذا دليل على ضعف إيمانه به أو عدم تصديقه.

وفي آخر آية ـ مورد البحث ـ يقول سبحانه إنّكم بدلا من أن تشكروا الله تعالى على نعمه ورزقه وخاصّة نعمة القرآن الكبيرة، فانّكم تكذّبون به: (وتجعلون رزقكم أنّكم تكذّبون)(1).

قال البعض: إنّ المقصود أنّ إستفادتكم من القرآن هي تكذيبكم فقط، أو أن التكذيب تجعلونه وسيلة لرزقكم ومعاشكم(2).

إلاّ أنّ التّفسير الأوّل مناسب للآيات السابقة ولسبب النّزول أكثر من التّفسيرين الأخيرين.

وإنسجاماً مع هذا الرأي فقد نقل كثير من المفسّرين عن ابن عبّاس قوله:

______________________________________

1 ـ طبقاً لهذا التّفسير فإنّ كلمة (شكر) هنا محذوفة وتقديرها كالتالي: «وتجعلون شكر رزقكم أنّكم تكذّبون»، أو أنّ الرزق كناية عن (شكر الرزق).

2 ـ طبقاً لهذين التّفسيرين فلا يوجد شيء مقدّر.

[500]

أصاب الناس عطش في بعض أسفاره (صلى الله عليه وآله وسلم) فسقوا، فسمع رجلا يقول: مطرنا بنوء كذا، فنزلت الآية (لأنّ العرب كانوا يعتقدون في الجاهلية بالأنواء وأنّ لها الأثر في نزول المطر، ويقصد بها النجوم التي تظهر بين آونة واُخرى في السماء، وأنّ ظهورها يصاحبه نزول المطر، كما يعتقدون، ولهذا يقولون: مطرنا بنوء كذا، أي ببركة طلوع النجم الفلاني، وهذا بذاته أحد مظاهر الشرك الجاهلي وعبادة النجوم)(1).

والنقطة الجديرة بالملاحظة هنا أنّه جاء في بعض الرّوايات عن  رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قلّما كان يفسّر الآيات، وإجمالا كان يتصدّى للتفسير عندما تستلزم الضرورة، كما في هذا المورد حيث أخبر (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّ المقصود من (وتجعلون رزقكم أنّكم تكذّبون) «وتجعلون شكركم أنّكم تكذّبون»(2).

* * *

 

تعقيب

أوّلا: خصوصية القرآن الكريم

يستنتج من الأوصاف الأربعة ـ التي ذكرت في الآيات أعلاه ـ حول القرآن، أنّ عظمة القرآن هي في عظمة محتواه من جهة، وعمق معناه من جهة اُخرى، ومن جهة ثالثة فإنّ القداسة القرآنية لا يستوعبها إلاّ الطاهرون والمؤمنون، ومن جهة رابعة: في الجانب التربوي المتميّز فيه، لأنّه نزل من ربّ العالمين، وكلّ واحدة من هذه الصفات تحتاج إلى بحث مفصّل أوضحناه في نهاية الآيات المناسبة لكلّ موضوع.

______________________________________

1 ـ نقل هذا الحديث الطبرسي في مجمع البيان ونقل أيضاً في الدرّ المنثور، ج6، ص163; والقرطبي، ج9، ص6398; والمراغي، ج27، ص152; وروح المعاني، ج27، ص153 في نهاية الآيات مورد البحث بإختلاف يسير.

2 ـ تفسير الدرّ المنثور، ج6، ص163; ونور الثقلين، ج5، ص227.

[501]

ثانياً: القرآن والطهارة

نقرأ في القرآن الكريم قوله تعالى: (لا يمسّه إلاّ المطهّرون) وقلنا: إنّ المسّ يفسّر بالمسّ الظاهري وبالمعنوي كذلك، ولا تضادّ بينهما، وهما مجموعان في المفهوم الكلّي للآية.

وفي القسم الأوّل نقلت روايات لأهل البيت (عليهم السلام) عن أبي الحسن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) أنّه قال: (المصحف لا تمسّه على غير طهر، ولا جنب، ولا تمسّ خطّه ولا تعلّقه، إنّ الله تعالى يقول: (لا يمسّه إلاّ المطهّرون)(1).

ونقل نفس المعنى في حديث آخر عن الإمام الباقر (عليه السلام) مع إختلاف مختصر(2).

وجاء في مصادر أهل البيت (عليهم السلام) من طرق مختلفة أنّ الرّسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)قال: «لا يمسّ القرآن إلاّ الطاهر»(3).

وحول اللمس المعنوي نقل عن ابن عبّاس عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «إنّه لقرآن كريم في كتاب مكنون» قال: «عند الله في صحف مطهّرة» (لا يمسّه إلاّ المطهّرون)قال: «المقرّبون»(4).

وهذا المعنى يمكن الإستدلال عليه بواسطة العقل أيضاً، لأنّه رغم أنّ القرآن الكريم هو كتاب هداية لعموم الناس، ولكنّنا نعلم أنّ الكثير ممّن سمعوا القرآن من فم النّبي الأكرم، ورأوا هذا الماء الزلال في عين الوحي الصافية، إلاّ أنّهم بسبب تلوّثهم بالعصبية والعناد والغرور لم يؤثّر فيهم أي تأثير ولم ينتفعوا به أقلّ إنتفاع، وهناك أشخاص اهتدوا به لمجرّد أنّهم سعوا ولو قليلا لتطهير أنفسهم وتهذيبها

______________________________________

1 ـ وسائل الشيعة، ج1، ص269، الحديث (3) وطبقاً لهذا الحديث فإنّ النفي في الآية أعلاه كناية عن النهي.

2 ـ وسائل الشيعة، ج1، ص270، الحديث 5.

3 ـ نقل هذا الحديث في الدرّ المنثور عن عبدالله بن عمر ومعاذ بن جبل وابن حزم الأنصاري عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ج9; ص162.

4 ـ الدرّ المنثور، ج6، ص162.

[502]

وجاءوا إلى القرآن بروح باحثة عن الحقّ والحقيقة، فعلى هذا كلّما إزدادت طهارة وتقوى الإنسان فإنّه مرشّح لإستيعاب المفاهيم القرآنية بصورة أعمق، ومن هنا فإنّ الآية تصدق في البعدين (المادّي والمعنوي) و (الجسمي والروحي).

وممّا لا شكّ فيه أنّ شخص الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمّة المعصومين (عليهم السلام) والملائكة المقرّبين هم أوضح مصداق للمقرّبين الذين أدركوا حقائق القرآن الكريم بصورة متميّزة عن الجميع.

* * *

[503]

الآيات

فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ ( 83 ) وَأَنتُمْ حِينَئِذ تَنظُرُونَ ( 84 ) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَـكِن لاَّ تُبْصِرُونَ ( 85 ) فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ ( 86 ) تَرْجِعُونَهَآ إِن كُنتُمْ صَـدِقِينَ ( 87 )

 

التّفسير

عندما تصل الروح إلى الحلقوم:

من اللحظات الحسّاسة التي تقلق الإنسان دائماً هي لحظة الإحتضار ونهاية العمر، في تلك اللحظة يكون كلّ شيء قد إنتهى، وقد جلس أهله وأحبّاؤه ينظرون إليه بيأس كشمعة قد إنتهى أمدها وستنطفىء رويداً رويداً، حيث يودّع الحياة دون أن يستطيع أحد أن يمدّ إليه يد العون.

نعم، إنّ الضعف التامّ للإنسان يتجسّد في تلك اللحظات الحسّاسة ليس في العصور القديمة فحسب بل حتّى في عالمنا المعاصر، فمع توفّر جميع الإمكانات الطبيّة والفنيّة والوسائل العلاجية فإنّ الضعف يتجلّى في ساعة الإحتضار.

وتكملة لأبحاث المعاد والردّ على المنكرين والمكذّبين فإنّ القرآن الكريم يرسم لنا صورة معبّرة ومجسّدة لهذه اللحظات حيث يقول سبحانه: (فلولا إذا

[504]

بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون) ولا تستطيعون عمل شيء من أجله(1).

والمخاطبون هنا هم أقارب المحتضر الذين ينظرون إلى حالته في ساعة الإحتضار من جهة، ويلاحظون ضعفه وعجزه من جهة ثانية، وتتجلّى لهم قدرة الله تعالى على كلّ شيء، حيث أنّ الموت والحياة بيده، وأنّهم ـ أي أقاربه ـ سيلاقون نفس المصير(2).

ثمّ يضيف سبحانه (ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون).

نعم، نحن الذين نعلم بصورة جيّدة ما الذي يجول في خواطر المحتضر؟ وما هي الإزعاجات التي تعتريه؟ نحن الذين أصدرنا أمرنا بقبض روحه في وقت معيّن، إنّكم تلاحظون ظاهر حاله فقط، ولا تعلمون كيفية إنتقال روحه من هذه الدار إلى الدار الآخرة، وطبيعة المخاضات الصعبة التي يعيشها في هذه اللحظة.

وبناءً على هذا فالمقصود من الآية هو: قرب الله عزّوجلّ من الشخص المحتضر، بالرغم من أنّ البعض إحتمل المقصود بالقرب (ملائكة قبض الروح) إلاّ أنّ التّفسير الأوّل منسجم مع ظاهر الآية أكثر.

وعلى كلّ حال فإنّ الله سبحانه ليس في هذه اللحظات أقرب إلينا من كلّ أحد، بل هو في كلّ وقت كذلك، بل هو أقرب إلينا حتّى من أنفسنا، بالرغم من أنّنا بعيدون عنه نتيجة غفلتنا وعدم وعينا، ولكن هذا المعنى في لحظة الإحتضار يتجلّى أكثر من أي وقت آخر.

ثمّ للتأكيد الأشدّ في توضيح هذه الحقيقة يضيف تعالى: (فلولا إن كنتم غير مدينين ترجعونها إن كنتم صادقين).

______________________________________

1 ـ للآية محذوف تقديره (فلولا إذا بلغت الحلقوم لا ترجعونها ولا تملكون شيئاً) وهذا ما يستفاد من الآيات اللاحقة وقد لحقت تاء التأنيث بالفعل لأنّها متعلّقة بالنفس.

2 ـ إحتمل البعض أنّ المخاطب هنا هو الشخص المحتضر، وهذا بعيد جدّاً حسب الظاهر، لأنّ الآية اللاحقة توضّح بصورة جيّدة أنّ المخاطب هم متعلّقو المحتضر.

[505]

إنّ ضعفكم هذا دليل أيضاً على أنّ مالك الموت والحياة واحد، وأنّ الجزاء بيده، وهو الذي يحي ويميت.

«مدينين»: جمع (مدين) من مادّة (دَين) بمعنى الجزاء، وفسّرها البعض بمعنى المربوبين. والمعنى هو: ياأيّها العباد، إن كنتم تحت ربوبية موجود آخر، ومالكي نواصي اُموركم، فارجعوا أرواحكم التي قبضناها، وهيهات تقدرون! وهذا دليل آخر على أنّكم في قبضة الحكومة الإلهية.

* * *

 

تعقيب

1 ـ لحظة ضعف الجبّارين

إنّ الهدف من هذه الآيات ـ في الحقيقة ـ هو بيان قدرة الله عزّوجلّ على مسألة الموت والحياة، كي ينتقل منها إلى مسألة المعاد وإختيار لحظات الإحتضار والموت هنا لظهور غاية الضعف الإنساني بالرغم من كلّ القوّة التي يتصوّرها لنفسه.

ومن المفيد أن نستعرض بعض حالات الجبّارين لحظة إحتضارهم بالرغم من أنّهم كانوا في أوج القدرة حتّى يتّضح المعنى العميق لهذه الآية بصورة أفضل.

حكى المسعودي في مروج الذهب في أخبار المأمون وغزاته أرض الروم ما هذا ملخّصه: وإنصرف من غزاته إلى منزل على (عين البديدون) المعروفة بالقشيرة فأقام هنالك، فوقف على العين فأعجبه برد مائها وصفاؤه وبياضه وطيب حسن الموضع، وكثرة الخضرة فأمر بقطع خشب طويل منبسط على العين كالجسر، وجعل فوقه كالأزج من الخشب وورق الشجر، وجلس تحت الكنسية التي عقدت له، والماء تحته، وطرح في الماء درهم صحيح، فقرأ كتابته وهو في قرار الماء لصفاء الماء، ولم يقدر أحد أن يدخل يده من شدّة برده.

[506]

فبينما هو كذلك إذ لاحت سمكة نحو الذراع كأنّها سبيكة فضّة، فجعل لمن يخرجها سيفاً فبدر بعض الفراشين فأخذها وصعد فلمّا صارت على حرف العين أو على الخشب الذي عليه المأمون إضطربت وإنفلتت من يد الفراش فوقعت في الماء كالحجر، فنضح من الماء على صدر المأمون ونحره وترقوته فبلّت ثوبه، ثمّ إنحدر الفرّاش ثانية فأخذها ووضعها بين يدي المأمون في منديل تضطرب، فقال المأمون: تقلى الساعة ثمّ أخذته رعدة من ساعته، فلم يقدر يتحرّك من مكانه، فغطّي باللحف والدواويج وهو يرتعد كالسعفة ويصيح: البرد البرد، ثمّ حوّل إلى المغرب ودثّر واُوقدت النيران حوله وهو يصيح: البرد البرد، ثمّ اُتي بالسمكة وقد فرغ من قليها فلم يقدر على الذوق منها وشغله ما هو فيه عن تناول شيء منها.

ولمّا اشتدّ به الأمر سأل المعتصم بختيشوع وابن ماسوية في ذلك الوقت عن المأمون وهو في سكرات الموت، وما الذي يدلّ عليه علم الطبّ من أمره، وهل يمكن برؤه وشفاؤه، فتقدّم ابن ماسوية وأخذ إحدى يديه وبختيشوع الاُخرى، وأخذا يجسّان كلتا يديه فوجدا نبضه خارجاً عن الإعتدال منذراً بالفناء والإنحلال، والتزقت أيديهما ببشرته لعرق كان يظهر منه من سائر جسده كالزيت أو كلعاب بعض الأفاعي، فأخبر المعتصم بذلك، فسألهما عن ذلك فأنكرا معرفته، وأنّهما لم يجداه في شيء من الكتب وأنّه دالّ على إنحلال الجسد، فأحضر المعتصم الأطباء حوله وهو يأمل خلاصه ممّا هو فيه، فلمّا ثقل قال: أخرجوني أشرف على عسكري وأنظر إلى رحالي وأتبيّن ملكي، وذلك في الليل، فاُخرج فأشرف على الخيم والجيش وإنتشاره وكثرته وما قد وقد من النيران، فقال: يامن لا يزول ملكه، إرحم من زال ملكه، ثمّ ردّ إلى مرقده وأجلس المعتصم رجلا يشهده.

ولمّا ثقل رفع الرجل صوته ليقولها (أي الشهادة) فقال له ابن ماسوية: لا تصحّ فوالله ما يفرّق بين ربّه وبين ماني في هذا الوقت، ففتح عينيه من ساعته

[507]

وبهما من العظمة والكبر والإحمرار ما لم ير مثله قطّ. وأقبل يحاول البطش بيديه بابن ماسويه، ورام مخاطبته فعجز عن ذلك، وقضى عن ساعته وذلك لثلاث عشرة ليلة بقيت من رجب سنة ثمان عشرة ومائتين وحمل إلى طرطوس فدفن بها(1).

ويحتمل أن يكون لمرضه سابقة، ويقول بعض المؤرخّين: إنّ كلّ شخص شرب من ماء تلك العين مرض، أو أنّ السمكة كانت تحتوي على رشح سامّ، وكيفما كان فإنّ الحكومة بتلك العظمة قد إنهارت في بضع لحظات، وإنحنى بطل ميادين الحرب أمام شراع الموت، ولم تكن القدرة لأي شخص أن يصنع شيئاً للمأمون، أو على الأقل ليوصله إلى مقرّه ومسكنه.

وللتاريخ خواطر وقصص كثيرة فيها دروس وعبر من هذا القبيل.

 

ثانياً: هل أنّ قبض الروح يكون تدريجيّاً؟

إنّ التعبير بوصول الروح إلى الحلقوم كما في قوله تعالى: (فلولا إذا بلغت الحلقوم) كناية عن آخر لحظات الحياة، كما أنّه من المحتمل أن يكون منشؤها هو أنّ غالبية أعضاء جسم الإنسان كالأيدي والأرجل تتعطّل عند الموت قبل بعض الأعضاء الاُخرى، والحلقوم هو العضو الأخير الذي يتوقّف عن العمل. قال تعالى: (كلاّ إذا بلغت التراقي)،(2) (والترقوة) هي العظام التي تحيط بأطراف الحلق.

 

* * *

______________________________________

1 ـ مروج الذهب، طبق لنقل سفينة البحار، ج1، ص44.

2 ـ القيامة، 26.

[508]

الآيات

فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ ( 88 ) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيم ( 89 )وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنْ أَصْحَـبِ الَْيمِينِ ( 90 ) فَسَلَـمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَـبِ الَْيمِينِ( 91 ) وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ ( 92 ) فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيم ( 93 ) وَتَصْلِيَةُ جَحِيم ( 94 ) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ ( 95 )فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ( 96 )

 

التّفسير

مصير الصالحين والطالحين:

هذه الآيات في الحقيقة نوع من الخلاصة للآيات الاُولى والأخيرة من هذه السورة، كما أنّها تجسّد حالة التفاوت بين البشر في حالة الإحتضار، وكيف أنّ قسماً منهم يلفظون أنفاسهم بهدوء وراحة في تلك اللحظات الصعبة، وآخرين تلوح لهم من بعيد النار الحامية، ويسيطر عليهم الخوف والإضطراب والهلع فيلفظون أنفاسهم بصعوبة بالغة.

يقول سبحانه في البداية: (فأمّا إن كان من المقرّبين فروح وريحان وجنّة نعيم).

[509]

«روح»: على وزن (قول) ـ كما ذكر ذلك أئمّة اللغة ـ في الأصل بمعنى التنفّس.

«الريحان»: بمعنى النبات أو الشيء ذي العطر، ثمّ إصطلح على كلّ شيء باعث للحياة والراحة، كما أنّ الريحان يطلق على كلّ نعمة ورزق كريم.

وبناءً على هذا فإنّ الروح والريحان الإلهيين يشملان كلّ وسائل الراحة والطمأنينة للإنسان، وكلّ نعمة وبركة إلهيّة.

وبتعبير آخر: يمكن القول أنّ الروح إشارة إلى كلّ الاُمور التي تخلّص الإنسان من الصعوبات ليتنفّس براحة، وأمّا الريحان فإنّه إشارة إلى الهبات والنعم التي تعود إلى الإنسان بعد إزالة العوائق.

وقد ذكر المفسّرون الإسلاميون تفاسير متعدّدة لهذين المصطلحين قد تصل إلى عشرة تفاسير:

فقالوا: «الروح» بمعنى الرحمة، و «الريحان» يشمل كلّ فضيلة وشرف.

وقالوا: إنّ الروح هي النجاة من نار جهنّم، والريحان دخول الجنّة.

وذكروا أيضاً أنّ الروح بمعنى الهدوء في القبر، والريحان دخول الجنّة.

وفسّر آخرون الروح بمعنى كشف الكروب، والريحان بمعنى غفران الذنوب.

وقال آخرون: الروح بمعنى النظر إلى وجه الله سبحانه، والريحان الإستماع إلى كلام الله. وما إلى ذلك.

ويمكن القول أنّ جميع هذه التفاسير مصاديق لهذا المفهوم الكلّي والجامع، والذي ذكر في تفسير الآية أعلاه.

والجدير بالملاحظة أنّ الحديث عن «جنّة النعيم» جاء بعد ذكر الروح والريحان وقد يستفاد من هذا أنّ الروح والريحان يكون من نصيب المؤمنين في الإحتضار والقبر والبرزخ، وأمّا الجنّة ففي الآخرة، كما نقرأ في حديث للإمام الصادق (عليه السلام) في تفسيره لهذه الآية حيث قال: (فأمّا إن كان من المقرّبين فروح

[510]

وريحان) يعني في قبره (وجنّة نعيم) يعني في الآخرة(1)(2).

ثمّ يضيف سبحانه: (وأمّا إن كان من أصحاب اليمين) وهم تلك الثلّة الصالحة من الرجال والنساء الذين يستلمون صحيفة أعمالهم بيدهم اليمنى كعلامة للفوز والنصر والنجاح (فسلام لك من أصحاب اليمين).

وبهذا الترتيب فإنّ ملائكة الله المختصّين بقبض الروح في لحظات الإنتقال من هذه الدنيا يوصلون سلام أصحاب اليمين إلى المحتضر. كما قال تعالى في وصف أهل الجنّة وكلامهم: (إلاّ قيلا سلاماً سلاماً).(3)

ويوجد إحتمال آخر أيضاً في تفسير هذه الآية وهو أنّ السلام يكون من قبل الملائكة حين يقولون له: سلام عليك أيّها العبد الصالح، يامن هو من أصحاب اليمين، أي يكفيك من الإفتخار والوصف أن تكون في صفّ هؤلاء(4).

وتبيّن بعض الآيات القرآنية الاُخرى أيضاً أنّ المؤمنين وهم في حالة الإحتضار يتلقّون سلاماً من الملائكة كما في قوله تعالى: (الذين تتوفّاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنّة بما كنتم تعملون).(5)

وعلى كلّ حال فإنّ تعبير (سلام) تعبير ذو معنى، سواء كان من الملائكة أو من أصحاب اليمين، فالسلام يعبّر عن الروح والريحان وكلّ أنواع الهدوء والنعمة

______________________________________

1 ـ تفسير نور الثقلين، ج5، ص228، حديث 103، 104.

2 ـ «روح»: من الممكن أن تكون خبراً لمبتدأ محذوف تقديره (فجزاؤه روح)، أو مبتدأ لخبر محذوف تقديره (فله روح)، وجملة (فروح وريحان وجنّة نعيم) تكون جزاء (أمّا) وانّ الشرطية مع وجود هذا الجزاء مستغنية من الجزاء الآخر (يرجى الإنتباه).

3 ـ الواقعة، 26.

4 ـ وبناءً على هذا فللآية تقديران: الأوّل بلحاظ أنّ (من) بيانية، وعندئذ تكون الصورة كما يلي: يقال له: سلام لك من أصحاب اليمين. أمّا الصورة الثانية فبلحاظ أنّ (من) إبتدائية فتكون بالشكل التالي: سلام لك انّك كنت من أصحاب اليمين. إلاّ أنّه بملاحظة التّفسير الأوّل فإنّ له تقديراً واحداً وهو: (يقال له ..).

5 ـ النمل، 32.

[511]

والسلامة(1).

وينبغي الإنتباه إلى أنّ التعبير بـ «أصحاب اليمين» سببه أنّ الإنسان في الغالب يتصدّى لإنجاز أعماله الأساسية والمهمّة بيده اليمنى، لذلك فإنّ اليد اليمنى دلالة القدرة، والمهارة والقابلية والنجاح.

ونقرأ في حديث للإمام الباقر (عليه السلام) في تعقيبه على نهاية هذه الآية أنّه قال: «هم شيعتنا ومحبّونا»(2).

ثمّ تستعرض الآيات الكريمة القسم الثالث الذين مرّ ذكرهم في أوائل هذه السورة عبر التصنيف الذي ذكر وإصطلح عليهم بـ (أصحاب الشمال) حيث يقول تعالى: (وأمّا إن كان من المكذّبين الضالّين فنزل من حميم وتصلية جحيم)(3).

نعم، إنّهمن على مشارف الموت حيث يذوقون أوّل عذاب إلهي، ويتجرّعون مرارة عقاب يوم القيامة في القبر والبرزخ، ولأنّ الحديث عن حال المحتضر فإنّ جملة (فنزل من حميم) من الأنسب أن يكون المراد منها هو عذاب البرزخ، (وتصلية جحيم) إشارة إلى عذاب يوم القيامة.

ونقل في هذا المعنى روايات عديدة لأئمّة أهل البيت (عليهم السلام)(4).

والنقطة الجديرة بالذكر هنا أنّ كلمتي (المكذّبين الضالّين) ذكرت الواحدة تلو الاُخرى، حيث أنّ الاُولى تشير إلى تكذيب القيامة ووحدانية الله سبحانه ونبوّة الرّسول، والثانية تشير إلى الأشخاص الذين إنحرفوا عن طريق الحقّ.

وهذا التعبير بالإضافة إلى أنّه يؤدّي معنى التأكيد، فإنّه يمكن أن يكون إشارة إلى أنّ قسماً من الأشخاص الضالّين من فصيلة الأفراد المستضعفين أو الجهلة

______________________________________

1 ـ حول التحيّات التي تقدّم لأصحاب الجنّة، جاء بحث مفصّل عنها في نهاية الآية (58) من سورة يونس.

2 ـ تفسير البرهان، ج4، ص285.

3 ـ نُزل خبر لمبتدأ محذوف تقديره فجزاؤه نزل من حميم، أو مبتدأ لخبر محذوف تقديره: فله نزل من حميم.

4 ـ نور الثقلين، ج5، ص229.

[512]

القاصرين الذين ليس لديهم إصرار وعناد على الباطل، يمكن أن تشملهم الألطاف الإلهيّة. أمّا المكذّبون المعاندون فإنّهم سيبتلون بالمصير البائس والعاقبة السيّئة التي تقدّم ذكرها.

«حميم»: بمعنى الماء الحارق أو الرياح الحارة والسموم. و (تصلية) مأخوذة من مادّة (صلى) على وزن (سعى) بمعنى الإحتراق والدخول في النار.

أمّا (تصلية) المتعدية فتأتي بمعنى الإحراق فقط.

وفي نهاية هذا الحديث يضيف سبحانه: (إنّ هذا لهو حقّ اليقين فسبّح باسم ربّك العظيم).

والمعروف بين المفسّرين أنّ «حقّ اليقين» من قبيل الإضافة البيانية، يعني أنّ الذي تقدّم ذكره حول الأقسام الثلاثة وهم (المقرّبون وأصحاب اليمين والمكذّبون) فهو عين الحقيقة والحقّ واليقين.

وهنا يوجد إحتمال أيضاً وهو: بما أنّ لليقين درجات متعدّدة، فإنّ أعلى مرحلة له هي (حقّ اليقين) أي يقين واقعي كامل وخال من كلّ شكّ وشبهة وريب(1).

وممّا قلنا يتّضح أنّ (هذا) في هذه الآية إشارة إلى أحوال الأقسام الثلاثة الآنفة الذكر، كما إحتمل البعض أيضاً أنّها إشارة إلى كلّ محتويات سورة الواقعة أو القرآن أجمع، إلاّ أنّ التّفسير الأوّل هو الأنسب.

وهنا نقطة جديرة بالذكر أيضاً وهي أنّ التعبير بـ (فسبّح) ـ الفاء تفريعيّة ـ هو إشارة إلى أنّ ما قيل حول الأقسام الثلاثة هو عين العدالة، وبناءً على هذا إعتبر (ربّك) منزّهاً من كلّ ظلم، وإذا ما اُريد الإبتعاد عن مصير أصحاب الشمال فعلينا أن نتنزّه من كلّ شرك وظلم المتلازمان مع إنكار القيامة.

______________________________________

1 ـ طبقاً لهذا التّفسير فإنّ إضافة حقّ إلى كلمة (يقين) جاءت للإختصاص والتقييد، وإعتبرها البعض ـ أيضاً ـ من قبيل إضافة الموصوف إلى الصفة وقالوا بمعنى (اليقين) الحقّ.

[513]

ونقل كثير من المفسّرين حول نهاية آخر الآية بعد ما نزلت على الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «اجعلوها في ركوعكم» (أي قولوا: سبحان ربّي العظيم) وعندما نزلت: سبّح (اسم ربّك الأعلى) قال (صلى الله عليه وآله وسلم): «اجعلوها في سجودكم»، أي قولوا: سبحان ربّي الأعلى(1).

وفي تفسير الآية 74 من نفس السورة نقلنا ما هو شبيه بهذه الرّواية عن بعض المفسّرين.

* * *

 

تعقيب

عالم البرزخ:

أشارت الآيات أعلاه إلى عالم البرزخ، وقد بيّنا عند تفسيرها أنّ الإنسان ـ في حالة إحتضاره وهو على مشارف الموت يتهيّأ للإنتقال من دار الدنيا إلى عالم الآخرة ـ سيواجه واحدة من هذه الحالات، أمّا النعم والهبات الإلهيّة والجزاء الربّاني بـ الروح والريحان، أو العقاب والجزاء المؤلم، والعاقبة البائسة.

كما أنّ القرائن الموجودة في الآيات ترينا أنّ قسماً ممّا يثاب به أو يعاقب عليه مرتبط بيوم القيامة، والقسم الآخر مرتبط بالقبر والبرزخ، ويعدّ هذا دليلا على وجود عالم البرزخ.

وفي حديث لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نقرأ ما يلي: «إنّ أوّل ما يبشّر به المؤمن عند الوفاة بروح وريحان وجنّة نعيم، وإنّ أوّل ما يبشّر به المؤمن في قبره أن يقال له: أبشر برضا الله تعالى والجنّة قدمت خير مقدم، وقد غفر الله لمن يشيّعك إلى قبرك،

______________________________________

1 ـ تفسير أبو الفتوح الرازي، وروح المعاني، وروح البيان، القرطبي، والدرّ المنثور، وتفسير المراغي، في نهاية الآيات مصدر البحث.

[514]

وصدّق من شهد لك، واستجاب لمن إستغفر لك»(1).

وفي حديث آخر عن أمير المؤمنين أنّه قال: «إنّ ابن آدم إذا كان في آخر يوم من أيّام الدنيا وأوّل يوم من أيّام الآخرة، مَثُلَ له ماله وولده وعمله فيلتفت إلى عمله فيقول: والله إنّي كنت فيك لزاهد، وإن كنت عليّ لثقيلا، فماذا عندك؟ فيقول: أنا قرينك في قبرك، ويوم نشرك حتّى أعرض أنا وأنت على ربّك، قال: فإن كان لله وليّاً أتاه أطيب الناس ريحاً، وأحسنهم منظراً، وأحسنهم رياشاً، فيقول: أبشر بروح وريحان، وجنّة نعيم، ومقدمك خير مقدم، فيقول له: من أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح، ارتحل من الدنيا إلى الجنّة»(2).

وقد سبق لنا بحث مفصّل حول عالم البرزخ في نهاية الآية (100) من سورة (المؤمنون).

اللهمّ، إجعلنا في صفّ المقرّبين وأصحاب اليمين، وخاصّة أوليائك وأحبّتك، واشملنا بروح وريحان وجنّة نعيم عند مشارف الموت.

اللهمّ، إنّ عذاب الحشر عذاب أليم لا يطيقه أحد، وثوابك الاُخروي عظيم لا يستوجبه أي شخص بأعماله، وإنّ رأسمالنا في ذلك اليوم هو لطفك وكرمك ياكريم.

إلهي، أيقظنا قبل وصول القيامة الكبرى والقيامة الصغرى ـ والذي هو الموت ـ لنعدّ أنفسنا للسفر العظيم الذي يواجهنا ..

آمين ياربّ العالمين.

نهاية سورة الواقعة

* * *

______________________________________

1 ـ الدرّ المنثور، ج6، ص166.

2 ـ نور الثقلين، ج5، ص228، حديث 106. 

 




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21334001

  • التاريخ : 28/03/2024 - 11:59

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net