00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة الطور من أول السورة إلى آخر السورة من ( ص 149 ـ 200)  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء السابع عشر   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

[149]

سُورَة الطُّور

مكّية

وعَدَدُ آيَاتِها تسع وأربعُون آية

 

[151]

«سورة الطور»

محتوى السورة:

تتركز بحوث هذه السورة ـ أيضاً ـ على مسألة المعاد وعاقبة الصالحين والمتّقين من جهة، والمجرمين والمفسدين في ذلك اليوم العظيم من جهة اُخرى رغم أنّ فيها مواضيع اُخر في مجالات مختلفة من الاُمور العقائدية أيضاً ـ .

ويمكن على الإجمال ـ أن يقسّم محتوى هذه السورة إلى ستّة أقسام.

1 ـ الآيات الاُولى من السورة التي تبدأ بالقَسَم تلو القَسَم، وهي تبحث في عذاب الله. ودلائل القيامة وعلاماتها ـ وعن النار وعقاب الكافرين [من الآية 1 إلى 16].

2 ـ القسم الآخر من هذه السورة يذكر بتفصيل نعم الجنّة ومواهب الله في القيامة وما اُعدّ للمتّقين، وينبّه على ذلك على نحو متتابع! .. وفي الحقيقة أنّ في هذه السورة إشارةً إلى أغلب نعم الجنّة من الآية 17 ـ 28.

3 ـ وفي القسم الثّالث من هذه السورة يقع الكلام عن نبوّة محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) وما وجّه إليه الأعداء من التّهم، ويردّ عليها بنحو موجز من الآية 29 إلى 34.

4 ـ وفي القسم الرّابع بحث عن التوحيد بإستدلالات واضحة من الآية 35 ـ 43.

5 ـ وفي القسم الخامس من هذه السورة عود على مسألة المعاد وبعض أوصاف يوم القيامة من الآية 44 ـ 47.

[152]

6 ـ وأخيراً فإنّ القسم الأخير من هذه السورة الذي لا يتجاوز الآيتين يختتم الاُمور المذكورة آنفاً بأمر نبي الإسلام بالصبر والإستقامة والتسبيح والحمد لله .. ووعده بأنّ الله حاميه وناصره.

وهكذا تتشكّل السورة من مجموعة منسجمة منطقية وعاطفية تنشدّ إليها قلوب السامعين.

وتسمية هذه السورة بـ «الطو» تناسباً لما ورد في الآية الاُولى من ذكر كلمة الطور فيها.

 

فضيلة تلاوة هذه السورة:

ورد عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «من قرأ سورة الطور كان حقّاً على الله أن يؤمنه من عذابه وأن ينعّمه في جنّته»(1).

وورد في حديث آخر عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّه قال: «من قرأ سورة الطور جمع الله له خير الدنيا والآخرة»(2)!

وواضح أنّ كلّ هذا الأجر والثواب العظيم في الدنيا والآخرة هو لاُولئك الذين يجعلون هذه التلاوة وسيلة للتفكّر والتفكّر بدوره وسيلة للعمل.

 

* * *

______________________________________

1 ـ مجمع البيان، ج9، ص162 ـ تفسير البرهان، ص240.

2 ـ المصدر السابق.

[153]

الآيات

 

وَالطُّورِ ( 1 ) وَكِتَب مَّسْطُور ( 2 ) فِى رَقٍّ مَّنشُور ( 3 ) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ( 4 ) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ ( 5 ) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ ( 6 ) إِنَّ عَذَابَ رِبِّكَ لَوَقِعٌ ( 7 ) مَّا لَهُ مِن دَافِع ( 8 )

 

التّفسير

هذه السورة ـ هي الاُخرى ـ من السور التي تبدأ بالقسم .. القسم الذي يهدف لبيان حقيقة مهمّة، وهي مسألة القيامة والمعاد ومحاسبة أعمال الناس.

وأهميّة هذه المسألة إلى درجة بحيث أنّ الله أقسم في آيات مختلفة من القرآن بأنواع كثيرة من المقدّسات لتتجلّى عظمة ذلك اليوم ووقوعه حتماً.

وتلوح في بداية السورة خمسة آيات تبدأ بالقَسم، وفيها معاني مغلقة تدعو إلى التفكير ممّا جعلت المفسّرين يبحثون فيها من جميع الوجوه.

يقول سبحانه وتعالى:

(والطور).

«الطور» ـ في اللغة معناه الجبل ـ ولكن مع ملاحظة أنّ هذه الكلمة تكرّرت

[154]

في عشر آيات من القرآن الكريم، تسع منها كانت في الكلام على «طور سيناء» وهو الطور أو الجبل الذي نزل الوحي عنده على موسى، فيُعلم أنّ المراد منه هنا في الآية محلّ البحث (الطور ذاته) خاصّة لو أنّنا لاحظنا أنّ الألف واللام في هذه الكلمة هي للعهد.

فبناءً على ذلك، فإنّ الله يقسم في أوّل مرحلة بواحد من الأمكنة المقدّسة في الأرض حيث نزل عليها الوحي.

وفي تفسير قوله تعالى: (وكتاب مسطور) إحتمالات متعدّدة أيضاً، إذ قال بعضهم: المراد به اللوح المحفوظ. وقال آخرون: بل هو القرآن الكريم، ومضى بعض إلى أنّه «صحيفة الأعمال»، وذهب آخر إلى أنّه «كتاب التوراة» النازل على موسى (عليه السلام).

ولكن بتناسب القسَم المذكور آنفاً فإنّ الآية تشير هنا إلى «كتاب موسى» أو كلّ كتاب سماوي.

(في رقٍّ منشور).

كلمة «الرقّ» مشتقّة من الرقّة، وهي في الأصل الدقّة واللطافة، كما تطلق هذه الكلمة على الورق أو الجلد الخفيف الذي يكتب عليه و «المنشور»: معناه الواسع، ويعتقد بعضهم أنّ هذه الكلمة تحمل في مفهومها معنى اللمعان أيضاً.

فبناءً على ذلك .. وقع القسم على كتاب نُشر على صفحاته أحسن ما يُكتب وهو في الوقت ذاته مفتوح وواسع غير ملتو.

(والبيت المعمور).

هناك تفاسير مختلفة في «البيت المعمور» كذلك .. إذ قال بعضهم المراد منه البيت الذي في السماء محاذياً للكعبة، وهو معمور بطواف الملائكة وزيارتهم إيّاه، ويلاحظ هذا المعنى في روايات إسلامية مختلفة وردت في مصادر

[155]

متعدّدة(1). وطبقاً لبعض الرّوايات فإنّ سبعين ألف ملك يزورون ذلك البيت كلّ يوم ولا يعودون إليه أبداً.

وذهب البعض أنّ المراد منه «الكعبة» وهي بيت الله في الأرض المعمور بالحجّاج والزوّار، وهو أوّل بيت وضع للعبادة على الأرض.

وقال بعضهم المراد من البيت المعمور هو «قلب المؤمن» الذي يعمره الإيمان وذكر الله.

إلاّ أنّ ظاهر الآية هو واحد من المعنيين الأوّلين المذكورين آنفاً، وبملاحظة التعابير المختلفة في القرآن عن الكعبة بالبيت يكون المعنى الثاني أكثر إنسجاماً.

أمّا المقصود بـ (السقف المرفوع) فهو «السماء» لأنّنا نقرأ في الآية (32) من سورة الأنبياء: (وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً).

كما نقرأ في الآيتين (27) و28) من سورة النازعات (أأنتم أشدّ خلقاً أم السماء بناها رفع سمكها فسوّاها) فالله هو الذي أعلى سقفها وجعلها متّسقة ومنتظمة.

ولعلّ الوجه ـ في التعبير ـ بالسقف هو أنّ النجوم والكرات السماوية إلى درجة من الكثرة بحيث غطّت السماء فصارت كأنّها السقف، ويمكن أن يكون إشارة إلى الجوّ الذي يحيط بالأرض أو ما يسمّى بالغلاف الجوّي، وهو بمثابة السقف الذي يمنع النيازك والشهب أن تهوي إلى الأرض وتصدّ الأشعّة الضارّة من الوصول إلى الأرض.

(والبحر المسجور).

«للمسجور»: في اللغة معنيان: الأوّل الملتهب، والثّاني المملوء. ويقول الراغب في مفرداته: سجر على وزن فجر معناه إشعال النار، ويعتقد أنّ الآية تعطي

______________________________________

1 ـ ورد في بحار الأنوار أكثر من عشر روايات في هذا المجال، ج58، ص55 وما بعدها.

[156]

هذا المعنى .. ولم يتحدّث عن المعنى الثاني، إلاّ أنّ العلاّمة الطبرسي يذكر أنّ المعنى الأوّل هو ما تقدّم، وكذلك تشير بعض كتب اللغة إلى ذلك.

والآيات الاُخر في القرآن تؤيّد المعنى الأوّل أيضاً كما هي الحال في الآيتين (71) و72) إذ قال سبحانه: (يسحبون في الحميم، ثمّ في النار يسجرون).

ونقرأ في نهج البلاغة عن «أمير المؤمنين» في شأن «الحديدة المحماة» إذ يقول لأخيه «عقيل»: «أتئنّ من حديدة أحماها إنسانها للعبه وتجرّني إلى نار سجّرها جبّارها لغضبه ..»(1).

ولكن أين هو هذا «البحر المسجور»؟ قال بعضهم هو البحر المحيط بالأرض «أو البحار المحيطة بها» وسيلتهب قبل يوم القيامة، ثمّ ينفجر كما نقرأ ذلك في الآية (6) من سورة التكوير (وإذا البحار سُجّرت) ونقرأ في الآية (3) من سورة الإنفطار (وإذا البحار فجّرت).

إلاّ أنّ بعضهم فسّر ذلك بالبحر الذي في باطن الأرض وهو مؤلّف من مواد منصهرة مذابة، وما ورد في حديث عن الإمام الباقر الذي نقله «العياشي» شاهد على هذا المعنى، وقد ورد في هذا الحديث أنّ قارون يعذّب في البحر المسجور(2)مع أنّ القرآن يقول في شأنه: (فخسفنا به وبداره الأرض).(3)

وهذان التّفسيران لا يتنافيان، ويمكن أن تكون الآية قَسَماً بهما معاً، إذ كلاهما من آيات الله ومن عجائب هذا العالم الكبرى.

وممّا يلفت النظر أنّ المفسّرين لم يتناولوا بالبحث علاقة هذه الأقسام الخمسة فيما بينها، إلاّ أنّ الظاهر أنّ الأقسام الثلاثة الاُوَل بينها إرتباط وعلاقة، لأنّها جميعاً تتحدّث عن الوحي وخصوصياته، فالطور محلّ نزول الوحي،

______________________________________

1 ـ نهج البلاغة، الخطبة 224.

2 ـ نور الثقلين، ج5، ص138.

3 ـ سورة القصص، الآية 81.

[157]

والكتاب المسطور إشارة إلى الكتاب السماوي أيضاً، سواءً كان التوراة أو القرآن، والبيت المعمور هو محلّ ذهاب وإيّاب الملائكة ورُسِل وحي الله.

أمّا القَسَمان الآخران فيتحدّثان عن الآيات التكوينية «في مقابل الأقسام الثلاثة التي كانت تتحدّث عن الآيات التشريعيّة».

وهذان القَسَمان واحد منهما يشير إلى أهمّ دلائل التوحيد وعلائمه وهو «السماء» بعظمتها، والآخر يشير واحد من علائم المعاد المهمّة ودلائله، وهو الواقع بين يدي القيامة!.

فبناءً على هذا فإنّ التوحيد والنبوّة والمعاد جمعت في هذه الأقسام [أو الأيمان] الخمسة.

وبعض المفسّرين يرون أنّ هذه الآيات جميعها تشير إلى موسى وسيرة تأريخه وحياته، وذكروا إرتباط الآيات على النحو التالي:

الطور .. هو الجبل الذي نزل الوحي على موسى عنده.

والكتاب المسطور: هو التوراة.

والبيت المعمور: مركز مجيء وإيّاب الملائكة ويحتمل أن يكون بيت المقدس.

والسقف المرفوع هو ما ذكر في قصّة بني إسرائيل (وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنّه ظلّة).(1)

والبحر المسجور هو البحر الملتهب الذي عوقب قارون به لأنّه خالف موسى فهوى فيه.

إلاّ أنّ هذا التّفسير يبدو بعيداً، ولا ينسجم مع الرّوايات المنقولة في المصادر الإسلامية، وكما قلنا فإنّ السقف المرفوع بشهادة آيات القرآن الاُخر والرّوايات

______________________________________

1 ـ الأعراف، الآية 171.

[158]

المذكورة فيه هو السماء.

تبقى لطيفة دقيقة هنا وهي ما العلاقة بين هذه الأقسام والمُقسَم به.

ويتّضح الجواب على هذا السؤال ـ مع ملاحظة ما بيّناه آنفاً ـ وهو أنّ هذه الأقسام والتي تدور حول محور قدرة الله في عالم التكوين والتشريع تدلّ على أنّ الله قادر على إعادة الحياة وبعث الموتى من قبورهم مرّة اُخرى. وهذا هو غاية الأقَسَام المذكورة كما قرأنا في الآيات الأخيرة من ـ الآيات محلّ البحث ـ (إنّ عذاب ربّك لواقع ما له من دافع).

 

* * *

[159]

الآيات

يَوْمَ تَمُورُ السَّمَآءُ مَوْراً ( 9 ) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً ( 10 ) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذ لِّلْمُكَذِّبِينَ ( 11 ) الَّذِينَ هُمْ فِى خَوْض يَلْعَبُونَ ( 12 ) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً ( 13 ) هَـذِهِ النَّارُ الَّتِى كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ( 14 ) أَفَسِحْرٌ هَـذَآ أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ ( 15 ) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لاَ تَصْبِرُوا سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( 16 )

 

التّفسير

كانت في الآيات السابقة إشارة وتلميح عن عذاب الله في يوم القيامة ـ بصورة مغلقة ـ أمّا الآيات ـ محلّ البحث ـ ففيها توضيح وتفسير لما مرّ، فتتحدّث أوّلا عن بعض حالات يوم القيامة وخصائصه، ثمّ عن كيفية تعذيب المكذّبين فتقول: (يوم تمور السماء موراً)(1).

«المَوْر»: على وزن قَوْل ـ له معان عديدة في اللغة. يقول الراغب في مفرداته:

______________________________________

1 ـ كلمة «يوم» منصوبة على أنّها ظرف وهي متعلّقة باسم الفاعل «واقع» الواردة في الآيات المتقدّمة ..

[160]

المور معناه الجريان السريع. كما قال إنّ المور يطلق على الغبار الذي تجري به الريح لكلّ جهة أيضاً.

وقد ورد في «لسان العرب» أنّ «المور» معناه الحركة والذهاب والإيّاب، كما يطلق على «الموج» ومنهم من قال: المور هو الحركة الدائرة. ومن مجموع هذه التفاسير يستفاد أنّ «المور» هو الحركة السريعة والدوران المقترن بالذهاب والإيّاب والإضطراب والتموّج. وعلى هذا فإنّ النظام الحاكم على الكرات يضطرب بين يدي يوم القيامة وتنحرف عن مداراتها وتتّجه إلى كلّ جهة ذهاباً وإيّاباً، ثمّ تتبدّل وتولّد سماء جديدة بأمر الله كما تقول الآية (104) من سورة الأنبياء: (يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب).

ونقرأ في الآية (48) من سورة إبراهيم: (يوم تبدّل الأرض غير الأرض والسماوات).

ثمّ يضيف القرآن في آية اُخرى: (وتسير الجبال سيراً).

أجل، الجبال تنقلع من أمكنتها وتتحرّك وتسير ثمّ تندكّ وتتلاشى كما تشهد بذلك آيات القرآن الاُخر فتغدو (كالعهن المنفوش)،(1)ثمّ تكون قاعاً خالية من كلّ شيء كما يقول القرآن: (فيذرها قاعاً صفصفاً)(2).

كلّ ذلك هو إشارة إلى أنّ هذه الدنيا وما فيها وما عليها تندكّ ويحدث مكانها عالم جديد بأنظمة جديدة ويكون الإنسان أمام نتائج أعماله وجهاً لوجه.

لذا فإنّ القرآن يضيف في الآية التالية قائلا: (فويل يومئذ للمكذّبين)(3).

أجل، حين تعمّ الوحشة والإضطراب جميع الخلق لتغيّر العالم، تهيمن على المكذّبين وحشة عظيمة وهي العذاب الإلهي .. لأنّ «الويل»: إظهار التأسّف

______________________________________

1 ـ سورة القارعة، الآية 5.

2 ـ لمزيد التوضيح يراجع التّفسير الأمثل ذيل الآية (105) من سورة طه.

3 ـ الفاء هنا للتفريع، أي حيث تكون الأرض قاعاً صفصفاً ولا ملجأً من الله فويل يومئذ للمكذّبين.

[161]

والحزن لوقوع حادثة غير مطلوبة!.

ثمّ تبيّن الآيات من هم «المكذّبون» فتقول: (الذين هم في خوض يلعبون).

فيزعمون أنّ آيات القرآن ضرب من الكذب والإفتراء وأنّ معجزات النّبي سحر وأنّه مجنون، ويتلقّون جميع الحقائق باللعب ويسخرون منها ويستهزئون بها ويحاربون الحقّ بالكلام الباطل غير المنطقي، ولا يأبون من أيّة تهمة أو كذب في سبيل الوصول إلى مآربهم.

«خوض» على وزن حوض ـ معناه الدخول في الكلام الباطل، وهو في الأصل ورود الماء والعبور منه.

ثمّ تبيّن الآيات ذلك اليوم وعاقبة هؤلاء المكذّبين في توضيح آخر: فتقول: (يوم يدعّون إلى نار جهنّم دعّا)(1) أي يساقون نحو جهنّم بعنف وشدّة.

ويقال لهم حينئذ: (هذه النار التي كنتم بها تكذّبون).

كما يقال لهم أيضا: (أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون)؟!

لقد كنتم تزعمون في الدنيا إنّ ما جاء به محمّد سحر، وقد أخذ السحر عن ساحر آخر، فغطّى على أعيننا ليصرفها عن الحقائق وليختطف عقولنا! ويرينا اُموراً على أنّها معاجز، ويذكر لنا كلاماً على أنّه وحي منزل من الله، إلاّ أنّ جميع ذلك لا أساس له وما هو إلاّ السحر!!

لذلك فحين يردون نار جهنّم يقال لهم بنحو التوبيخ والملامة والإحتقار وهم يلمسون حرارة النار: أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون؟!

كما يقال لهم هناك أيضاً: (اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم إنّما تجزون ما كنتم تعملون).

أجل هذه هي أعمالكم وقد عادت إليكم، فلا ينفع الجزع والفزع والآه

______________________________________

1 ـ دعّ على وزن جدّ معناه الدفع الشديد والسوق بخشونة وعنف و «اليوم» في الآية منصوب على الظرفية أو البدلية من يومئذ في الآية السابقة.

[162]

والصراخ ولا أثر لكلّ ذلك أبداً.

وهذه الآية تأكيد على «تجسّم الأعمال» وعودتها نحو الإنسان، وهي تأكيد جديد أيضاً على عدالة الله .. لأنّ نار جهنّم مهما كانت شديدة ومحرقة فهي ليست سوى نتيجة أعمال الناس أنفسهم، وأشكالها المتبدّلة هناك!.

* * *

 

تعقيب

1 ـ كيف يُساق المجرمون إلى جهنّم؟

لا شكّ أنّ المجرمين يُساقون ويُدعّون إلى جهنّم بالتحقير والمهانة والزجر والعذاب، إلاّ أنّه تشاهد آيات متعدّدة في هذا الصدد ذات تعابير مختلفة.

إذ نقرأ في الآيتين (30) و31) من سورة الحاقة مثلا (خذوه فغلوه ثمّ الجحيم صلّوه).

ونقرأ في الآية (47) من سورة الدخان (خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم).

كما جاء التعبير بالسوق في بعض الآيات كالآية (86) من سورة مريم (ونسوق المجرمين إلى جهنّم ورداً).

وعلى العكس منهم المتّقون والصالحون إذ يتلقّون بكلّ إكرام وإحترام عند باب الجنّة: (حتّى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين).(1)

وعلى هذا فليست الجنّة والنار ـ كلّ منهما ـ مركزاً لرحمة الله أو عذابه فحسب، بل تشريفات الورود لكلّ منهما كاشفة عن هذا المعنى أيضاً.

 

______________________________________

1 ـ سورة الزمر، الآية 73.

[163]

2 ـ الخائضون في الأباطيل!.

بالرغم من أنّ كلام القرآن في الآيات الآنفة كان يدور حول المشركين في عصر النّبي محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، إلاّ أنّ هذه الآيات دون شكّ عامّة، فهي تشمل جميع المكذّبين حتّى الفلاسفة الماديين الخائضين في حفنة من الخيالات والأفكار الناقصة، ويتّخذون حقائق عالم الوجود لعباً وهزواً، ولا يعتدون إلاّ بما يقرّ به عقلهم القاصر، فهم ينتظرون أن يروا كلّ شيء في مختبراتهم وتحت المجهر حتّى ذات الله المقدّسة ـ تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً ـ وإلاّ فلا يؤمنون بوجوده أبداً.

هؤلاء أيضاً مصداق للذين هم (في خوض يلعبون) وهم غارقون في أمواج من الخيالات والتصوّرات الباطلة.

إنّ عقل الإنسان مهما بلغ فهو قبال نور الوحي كالشمعة أمام نور الشمس المضيئة في العالم، فهذه الشمعة تساعد الإنسان أن يخرج من محيط المادّة المظلم وأن يفتح الأبواب نحو ما وراء الطبيعة، وأن يحلق في كلّ جهة بنور الوحي ليرى العالم الواسع ويتعرّف على مجهولاته وخفاياه.

* * *

[164]

الآيات

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّـت وَنَعِيم ( 17 ) فَـكِهِينَ بِمَآ ءَاتَـهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَـهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ( 18 ) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ( 19 ) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُر مَّصْفُوفَة وَزَوَّجْنَـهُم بِحُور عِين( 20 ) وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَـن أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَـهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَىْء كُلُّ امْرِىء بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ( 21 )

 

التّفسير

مواهب الله للمتّقين:

تعقيباً على المباحث الواردة في الآيات المتقدّمة حول عقاب المجرمين وعذابهم الأليم تذكر الآيات محلّ البحث ما يقابل ذلك من المواهب الكثيرة والثواب العظيم للمؤمنين والمتّقين لتتجلّى بمقايسة واضحة مكانة كلّ من الفريقين.

تقول الآية الاُولى من الآيات محلّ البحث: (إنّ المتّقين في جنّات ونعيم).

[165]

والتعبير بـ «المتّقين» بدلا من المؤمنين، لأنّ هذا العنوان يحمل مفهوم الإيمان، كما يحمل مفهوم العمل الصالح أيضاً، خاصّة أنّ «التقوى» تقع مقدّمةً وأساساً للإيمان في بعض المراحل، كما تقول الآية 2 من سورة البقرة (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدىً للمتّقين) لأنّ الإنسان إذا لم يكن ذا تعهّد وإحساس بالمسؤولية وروح تطلب الحقّ وتبحث عنه ـ وكلّ ذلك مرحلة من مراحل التقوى ـ فإنّه لا يمضي في التحقيق عن دينه وعقيدته ولا يقبل هداية القرآن أبداً.

والتعبير بـ (في جنّات ونعيم) بصيغة الجمع والتنكير لكلٍّ منهما، إشارة إلى تنوّع الجنّات والنعيم وعظمتهما.

ثمّ يتحدّث القرآن عن تأثير هذه النِعَم الكبرى على روحية أهل الجنّة فيقول في الآية التالية: (فاكهين بما آتاهم ربّهم)(1).

خاصّةً أنّ الله قد طمأنهم وآمنهم من العقاب (ووقاهم ربّهم عذاب الجحيم).

وهذه الجملة قد تكون ذات معنين .. الأوّل بيان النعمة المستقلّة قبال نعم الله الاُخر .. والثاني أن يكون تعقيباً على الكلام السابق، أي أنّ أهل الجنّة مسرورون من شيئين «بما آتاهم الله من النعم في الجنّة»، و «بما وقاهم من عذاب الجحيم».

والتعبير بـ «ربّهم» في الجملتين يشير ضمناً إلى نهاية لطف الله ودوام ربوبيته عليهم في تلك الدار.

ثمّ تشير الآية الاُخرى إشارةً إجمالية إلى نعم المتّقين في الجنّة فتقول: (كلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون).

والتعبير بـ «هنيئاً» هو إشارة إلى أنّ أطعمة الجنّة وشرابها السائغة غير المنغّصة، فهي ليست كأطعمة الدنيا وشرابها التي تجرّ الإنسان إلى الوبال عند

______________________________________

1 ـ كلمة «فاكهين» مشتقّة من فكه على وزن نظر ـ وفكاهة على وزن شباهة، ومعناها كون الإنسان مسروراً، وجعل الآخرين مسرورين بالكلام العذب. ويقول الراغب في مفرداته: الفاكهة معناها كلّ نوع من الثمار. والفكاهة أحاديث أهل الاُنس .. وقد إحتمل بعضهم أنّ الآية: فاكهين بما آتاهم ربّهم إشارة إلى تناول أنواع الفواكه وهذا المعنى يبدو بعيداً ..

[166]

الإفراط أو التفريط بها .. إضافةً إلى كلّ ذلك لا يحصل عليها بمشقّة، ولا يخاف من إنتهائها، ولذلك فهي هنيئة!(1).

ومن المعلوم أنّ أطعمة الجنّة هنيئة بذاتها، ولكنّ قول الملائكة لأهل الجنّة «هنيئاً» هذا القول له لطفه وعذوبته الخاصّة.

والنعمة الاُخرى التي يتمتّع بها أهل الجنّة هي كونهم: (متكّئين على سرر مصفوفة).

فهم يلتذّون بالإستئناس إلى أصحابهم والمؤمنين الآخرين، وهذه لذّة معنوية فوق أيّة لذّة اُخرى!.

و «سرر» جمع سرير، وأصل المادّة هو «السرور» وتطلق السرر على الكراسي المهيأة لمجالس السرور ليُتكّأ عليها.

و «مصفوفة» من مادّة صف، ومعناها أنّ هذه السرر مرتبة واحداً إلى جنب الآخر ويتشكّل منه مجلس عظيم للاُنس.

ونقرأ في آيات متعدّدة من القرآن أنّ أهل الجنّه يجلسون على سرر متقابلين. [الحجر الآية 47 والصافات الآية 44].

وهذا التعبير لا ينافي ما ورد في هذه الآية محلّ البحث، لأنّ مجالس الاُنس والسرور ترتّب الأسّرة فيها على شكل مستدير ومصفوفة جنباً إلى جنب، فجلاّسها على سرر مصفوفة متقابلون!.

والتعبير بـ «متكئين» إشارة إلى منتهى الهدوء، لأنّ الإنسان عند الهدوء يتكىء عادةً، والذين هم في قلق وحزن لا يرون كذلك!.

ثمّ يضيف القرآن بأنّا زوجناهم من نساء بيض جميلات ذوات أعين واسعة (وزوّجناهم بحور عين)(2).

______________________________________

1 ـ يقول الراغب في مفرداته: الهنيىء كلّ ما لا يلحق فيه المشقّة ولا يعقبه وخامة ..

2 ـ «الحور»: جمع (حوراء) وأحور، فهو جمع للمذكّر والمؤنث سواء، ويطلق على من حدقة عينه سوداء وبياضها شفّاف أو هو كناية عن الجمال، لأنّ الجمال يتجلّى في العينين قبل كلّ شيء، والعين جمع لأعين و عيناء معناه العين الواسعة، وهكذا فإنّ الحور العين مفهوماً واسع يشمل الأزواج جميعاً الذكور والإناث من أهل الجنّة فالذكور للإناث وبالعكس.

[167]

هذه بعض من نعم أهل الجنّة المادية والمعنوية، إلاّ أنّهم لا يكتفون بهذه النعم فحسب، وإنّما تضاف إليها نعم ومواهب معنوية ومادية اُخر! (والذين آمنوا واتّبعتهم ذريّتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريّتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء)!.

وهذه نعمة بنفسها أيضاً أن يرى الإنسان ذريّته في الجنّة ويلتذّ برؤيتهم دون أن ينقص من عمله شيء أبداً.

ويفهم من تعبير الآية أنّ المراد من الذرية هم الأبناء البالغون الذين يسيرون في خطّ الآباء المؤمنين ويتّبعون منهجهم.

فمثل هؤلاء الأبناء وهذه الذريّة إذا كان في عملهم نقص وتقصير فإنّ الله سبحانه يتجاوز عنهم لأجل آبائهم الصالحين، ويرتفع مقامهم عندئذ فيبلغون درجة آبائهم، وهذه المثوبة موهبة للآباء والأبناء(1)!.

إلاّ أنّ جماعة من المفسّرين يعتقدون أنّ «الذريّة» هنا تشمل الأبناء الكبار والصغار جميعاً .. غير أنّ هذا التّفسير لا ينسجم مع ظاهر الآية، لأنّ الاتّباع بإيمان دليل على وصولهم مرحلة البلوغ أو مقاربتهم لها.

إلاّ أن يقال أنّ الأطفال يصلون في يوم القيامة مرحلة البلوغ ويمتحنون فمتى نجحوا في الإمتحان التحقوا بالآباء، كما جاء هذا المعنى في الكافي إذ ورد فيه أنّه سئل الإمام عن أطفال المؤمنين فقال (عليه السلام): «إذا كان يوم القيامة جمعهم الله ويشعل ناراً فيأمرهم أن يلقوا أنفسهم في النار فمن ألقى نفسه سلم وكان سعيداً وجعل الله النار عليه برداً وسلاماً ومن إمتنع حرم من لطف الله»(2).

______________________________________

1 ـ الظاهر أنّ جملة والذين آمنوا جملة مستقلّة والواو للإستئناف، وقد إختار جماعة من المفسّرين هذا المعنى «كالعلاّمة الطباطبائي والمراغي وسيّد قطب» إلاّ أنّ العجب أن يعدّ الزمخشري هذه الجملة معطوفة على وزوّجناهم بحور عين مع أنّه لا يتناسب هذا المعنى ومفهوم النصّ ولا ينسجم مع فصاحة القرآن وبلاغته.

2 ـ نور الثقلين، ج5، ص139 بتصرّف وتلخيص.

[168]

إلاّ أنّ هذا الحديث إضافةً إلى ضعف سنده يواجه إشكالات ومؤخذات في المتن أيضاً .. وليس هنا مجال لبيانها وشرحها.

وبالطبع فإنّه لا مانع أن يُلحق الأطفال بالآباء ويكونوا معهم في الجنّة .. إلاّ أنّ الكلام هو هل الآية الآنفة ناظرة إلى هذا المطلب أم لا؟ وقد قلنا إنّ التعبير بـ (اتّبعتهم ذريّتهم بإيمان) ظاهره أنّ المقصود هو الكبار.

وعلى كلّ حال ـ وحيث أنّ إرتقاء الأبناء إلى درجة الآباء يمكن أن يوجد هذا التوهّم أنّه ينقص من أعمال الآباء ويُعطى للأبناء فإنّ الآية تعقّب بالقول: (وما ألتناهم(1) من عملهم من شيء).

وينقل ابن عبّاس عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «إذا دخل الرجل الجنّة سأل عن أبويه وزوجته وولده فيقال له إنّهم لم يبلغوا درجتَكَ وعملك. فيقول: ربّ قد عملت لي ولهم فيؤمر بالحاقهم به»(2).

ممّا ينبغي الإلتفات إليه أنّ القرآن يضيف في نهاية الآية: (كلّ امرىء بما كسب رهين).

فلا ينبغي التعجّب من عدم إنقاص أعمال المتّقين، لأنّ هذه الأعمال مع الإنسان حيثما كان، وإذا أراد الله أن يُلحق أبناء المتّقين بهم تفضّلا منه ورحمة، فلا يعني ذلك أنّه سينقص من ثواب أعمالهم أي شيء!

وقال بعض المفسّرين: إنّ كلمة «رهين» هنا معناها مطلق، فكلّ إنسان مرهون بأعماله، سواءً أكانت صالحةً أم طالحة، ولا ينقص من جزاء أعماله شيء.

ولكن مع ملاحظة أنّ هذا التعبير لا يتناسب والأعمال الصالحة، فإنّ بعض المفسّرين قالوا: إنّ «كلّ امرىء» هنا إشارة إلى أصحاب الأعمال السيّئة! وإنّ كلّ إنسان مرهون بأعماله السيّئة فهو حبيسها وأسيرها.

______________________________________

1 ـ الفعل ألتناهم مشتق من مادّة ألَتَ على وزن ثَبَتَ: ومعناه الإنقاص.

2 ـ تفسير المراغي، ج27، ص26.

[169]

ويستدلّون أحياناً بالآيتين (38) و39) من سورة المدثر .. (كلّ نفس بما كسبت رهينة إلاّ أصحاب اليمين).

غير أنّ هذا التّفسير مع الإلتفات إلى سياق الآيات السابقة واللاحقة ـ التي تتكلّم في شأن المتّقين وليس فيها كلام على المشركين والمجرمين ـ يبدو غير مناسب!

وقبال هذين التّفسيرين الذين يبدو كلّ منهما غير مناسب ـ من بعض الوجوه ـ هناك تفسير ثالث ينسجم مع صدر الآية والآيات السابقة والآيات اللاحقة، وهو أنّ من معاني «الرهن» في اللغة «الملازمة»، وإن كان معروفاً أنّه الوثيقة في مقابل الدين، إلاّ أنّه يستفاد من كلمات أهل اللغة أنّ الرهن من معاينة الدوام والملازمة(1).

بل هناك من يصرّح بأنّ المعنى الأصلي للرهن هو الدوام والثبوت، ويعدّ الرهن بمعنى الوثيقة من إصطلاحات الفقهاء، لذلك فإنّه حين يقال «نعمة راهنة» فمعناها أنّها ثابتة ومستقرّة(2).

ويقول أمير المؤمنين في شأن الاُمم السالفة: «هاهم رهائن القبور ومضامين اللحود»(3).

فيكون معنى (كلّ امرىء بما كسب رهين) أنّ أعمال كلّ إنسان ملازمة له ولا تنفصل عنه أبداً، سواءً كانت صالحة أو طالحة، ولذلك فإنّ المتّقين في الجنّة رهينو أعمالهم، وإذا كان أبناؤهم وذريّاتهم معهم، فلا يعني ذلك أنّ أعمالهم ينقص منها شيء أبداً.

وأمّا في شأن الآية (39) من سورة المدثر التي تستثني أصحاب اليمين ممّا

______________________________________

1 ـ لسان العرب، مادّة رهن ..

2 ـ مجمع البحرين، مادّة رهن.

3 ـ نهج البلاغة، من كتاب له 45.

[170]

سبق، فيمكن أن تكون إشارةً إلى أنّهم مشمولون بألطاف لا حدّ لها حتّى كأنّ أعمالهم لا أثر لها بالقياس إلى ألطاف الله(1).

وعلى كلّ حال، فإنّ هذه الجملة تؤكّد هذه الحقيقة وهي أنّ أعمال الإنسان لا تنفصل عنه أبداً، وهي معه في جميع المراحل.

 

 

* * *

______________________________________

1 ـ هناك تفاسير اُخر في أصحاب اليمين سنتناولها ذيل الآية من سورة المدثر إن شاء الله.

[171]

الآيات

وَأَمْدَدْنَـهُم بِفَـكِهَة وَلَحْم مِّمَّا يَشْتَهُونَ ( 22 ) يَتَنَـزَعُونَ فِيهَا كَأْساً لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ ( 23 ) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ ( 24 ) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْض يَتَسَآءَلُونَ( 4 ) قَالُوآ إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِى أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ ( 25 ) فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنَا وَوَقَـنَا عَذَابَ السَّمُومِ( 26 ) إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ( 27 )

 

التّفسير

مواهب اُخرى لأهل الجنّة:

أشارت الآيات المتقدّمة إلى تسعة أقسام من مواهب أهل الجنّة، وتشير الآيات محلّ البحث إلى خمسة اُخر منها بحيث يستفاد من المجموع أنّ ما هو لازم للهدوء والطمأنينة والفرح والسرور واللذّة مهيّأ لهم في الجنّة!

فتشير الآية الاُولى من الآيات محلّ البحث إلى نوعين من طعام أهل الجنّة فتقول: (وأمددناهم بفاكهة ولحم ممّا يشتهون).

[172]

«أمددناهم» مشتق من الإمداد ومعناه العطاء والزيادة والإدامة .. أي أنّ طعام الجنّة وفواكهها لا ينقص منهما شيء بتناولهما، وهما ليسا كطعام الدنيا وفواكهها بحيث يتغيّران أو ينقصان.

والتعبير بـ (ممّا يشتهون) يدلّ على أنّ أهل الجنّة أحرار تماماً في إنتخاب الأطعمة ونوعها وكميّتها وكيفيتها، فمهما طلبوا فهو مهيء لهم .. وبالطبع فإنّ طعام الجنّة غير منحصر بهذين النوعين اللحم والفاكهة، إلاّ أنّهما يمثّلان الطعام المهمّ، وتقديم الفاكهة على اللحم إشارة إلى أفضليّتها عليه.

ثمّ تشير الآية التالية إلى ما يشربه أهل الجنّة من شراب سائغ فتقول: (يتنازعون فيها كأساً لا لغو فيها ولا تأثيم)!

حيث يناول أحدهم الآخر كؤوس الشراب الطاهر من الإثم والإفساد، ويشربون شراباً سائغاً عذباً لذيذاً يهب النشاط خالياً من أي نوع من أنواع التخدير وفساد العقل! ولا يعقبه لغو ولا إثم، بل كلّه لذّة وإنتباه ونشاط «جسمي وروحاني».

وكلمة «يتنازعون» من مادّة التنازع ومعناه أخذ بعضهم من بعض، وقد يأتي للمخاصمة والتجاذب، لذلك قال بعض المفسّرين بأنّ أهل الجنّة يتجاذبون الشراب الطهور بعضهم من بعض على سبيل المزاح والسرور.

لكن كما يستفاد من كلمات أهل اللغة أنّ «التنازع» متى أطلق معه لفظ الكأس أو ما أشبه فمعناه أخذ الكأس من يد الآخر! ولا يعني التخاصم أو التجاذب! وينبغي الإلتفات إلى هذه اللطيفة اللغوية وهي أنّ «الكأس» هي الإناء المملوء فإذا كان خالياً لا يطلق عليه كأس(1).

وعلى كلّ حال، فحيث أنّ التعبير بالكأس يُتداعى منه إلى الشراب المخدّر

______________________________________

1 ـ قال الراغب في مفرداته: الكأس: الإناء بما فيه من الشراب وقال في مجمع البحرين كذلك فإذا خلا الإناء سمّي «قدحاً».

[173]

في الدنيا فإنّ الآية تضيف قائلة (لا لغو فيها ولا تأثيم) ولا يصدر على أثرها عمل قبيح كما يعقب الشراب المخدّر! فشراب هذه الكأس طهور نقي يجعلهم أكثر طهارةً وخلوصاً.

أمّا النعمة الرابعة المذكورة لأهل الجنّة فوجود الخدم والغلمان إذ تقول الآية: (ويطوف عليهم غلمان لهم كأنّهم لؤلؤ مكنون).

و «اللؤلؤ المكنون» هو اللؤلؤ داخل صدفه، وهو في هذه الحالة شفّاف وجميل إلى درجة لا توصف وإن كان خارج الصدف شفّافاً وجميلا أيضاً، غير أنّ الهواء الملوّث والأيدي التي تتناوله كلّ ذلك يؤثّر فيه، فلا يبقى على حالته الاُولى من الشفّافية! فالغلمان وخدمة الجنّة هم إلى درجة من الصفاء حتّى كأنّهم اللؤلؤ المكنون كما يعبّر القرآن الكريم.

وبالرغم من أنّه لا حاجة في الجنّة إلى الخدمة، وما يطلبه الإنسان يجده أمامه، إلاّ أنّ هذا بنفسه إكرام أو إحترام آخر لأهل الجنّة!

وقد ورد في حديث عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حين سئل عن أهل الجنّة فقيل له: يارسول الله إنّ الغلمان هم كاللؤلؤ المكنون فكيف حالة المؤمنين؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم): والذي نفسي بيده فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب(1).

والتعبير بـ (لهم) يدلّ على أنّ كلّ مؤمن له خدمة خاصّون به، وحيث أنّ الجنّة ليست مكاناً للهم والحزن فإنّ الغلمان يلتذّون بخدمتهم المؤمنين!.

وآخر نعمة في هذه السلسلة من النعم هي نعمة الطمأنينة وراحة البال من كلّ عذاب أو عقاب إذ تقول الآية التالية: (وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون قالوا إنّا كنّا في أهلنا مشفقين).

______________________________________

1 ـ مجمع البيان، الكشّاف، روح البيان، أبو الفتوح الرازي.

[174]

فمع أنّنا كنّا نعيش بين ظهراني أهلنا وكان ينبغي أن نحسّ بالأمان والطمأنينة، إلاّ أنّنا كنّا مشفقين .. مشفقين أن تحدق بنا الحوادث المزعجة والمكدّرة لحياتنا وأن يصيبنا عذاب الله على حين غرّة في أيّة لحظة.

مشفقين أن يسلك أبناؤنا طريق الضلال، فيتيهوا في مفازة جرداء ويتحيّروا!

مشفقين أن يفجؤنا أعداؤنا القساة ويضيّقوا علينا الميدان! ولكن الله منّ علينا برحمته الواسعة: (فمنّ الله علينا ووقانا عذاب السموم):

أجل: منّ الله الرحيم علينا فنجّانا من سجن الدنيا ووحشتها، وأنعم علينا في دار القرار وجنّات النعيم.

وحين يتذكّرون ماضيهم وجزئياته ويقيسونه بما هم عليه من حالة منعّمة! يعرفون قدر نعم الله ومواهبه الكبرى أكثر، وستكون تلك النعم ألذّ وأدعى للقلب، لأنّ القيم تتجلّى أكثر في القياس بين نعم الدنيا ونعم الآخرة.

والكلام الذي ينقله القرآن على لسان أهل الجنّة هنا يشير إلى إعترافهم بهذه الحقيقة وهي أنّ كون الله برّاً رحيماً يعرفه أهل الجنّة في ذلك الزمان أكثر من أي وقت مضى فيقولون: (إنّا كنّا من قبل ندعوه إنّه هو البرّ الرحيم).

إلاّ أنّنا نعرف هذه الصفات الآن بشكل واقعي أكثر ممّا كنّا نعرفها، إذ شملنا برحمته العظيمة قبال هذه الأعمال التي لا تعدّ شيئاً وأحسن إلينا مع كلّ تلك الذنوب الكثيرة!.

أجل إنّ عرصة القيامة ونعم الجنّة مدعاة لتجلّي صفات الله وأسمائه، والمؤمنون يتعرّفون في عرصة القيامة على حقيقة أسماء الله تعالى وصفاته أكثر من أي زمن آخر.

حتّى الجحيم أيضاً تبيّن صفاته وحكمته وعدله وقدرته!

* * *

 

[175]

ملاحظات

1 ـ كلمة «يتساءلون» مشتقّة من السؤال، ومعناه الإستفهام، أي يسأل بعضهم بعضاً، وهذا الفعل هنا يشير إلى أنّ أهل الجنّة يسأل بعضهم بعضاً عن ماضيه، لأنّ تذكّر هذه المسائل والنجاة من تلك الآلام والهموم والوصول إلى مثل هذه المواهب كلّ ذلك بنفسه تلذّذ أيضاً ... وهذا يشبه تماماً «الإنسان» المسافر العائد من سفر محفوف بالمخاطر إلى محيط آمن. فهو يتحدّث مع من سافر معه عن ما كان في سفره ويعرب عن سروره لسلامته.

2 ـ كلمة «مشفقين» مشتقّة من الإشفاق، وكما يقول الراغب في مفرداته معناه التوجّه المقرون بالخوف .. فحين يتعدّى هذا اللفظ «الإشفاق» بـ «من» يكون مفهوم الخوف فيها أظهر، وإذا تعدّت بـ «في» يكون مفهوم التوجّه والعناية فيها أكثر!

والأصل أنّ هذه الكلمة مشتقّة من «الشفق» وهو النور المقرون أو الممزوج بشيء من الظلمة.

والآن ينبغي أن يُعرف ممَّ كانوا مشفقين في الدنيا وخائفين؟ ولأي شيء كانوا يتوجّهون؟!

وهنا إحتمالات ثلاثة وقد جمعناها في تفسير الآية إذ لا منافاة بينها جميعاً .. «الخوف من الله والتوجّه إليه لنجاتهم ـ والإشفاق من إنحراف أهليهم والإلتفات إلى أمر التربية ـ والخوف من الأعداء والتوجّه لحفظ أنفسهم في قبالهم» وإن كان المعنى الأوّل ـ مع ملاحظة الآيات التالية وخاصّة (فمنّ الله علينا ووقانا عذاب السموم) ـ أقرب للنظر!

3 ـ التعبير «في أهلنا» بإطلاقه يحمل مفهوماً واسعاً حيث يصدق على جميع الأبناء والأزواج والأحباب، ويشير هذا التعبير إلى أنّ الإنسان في مثل هذا الجمع يحسّ بالأمن أكثر من أي مكان آخر، فإذا كان فيهم مشفقاً، فمن المعلوم حاله إذا

[176]

كان في غيرهم!!

ويحتمل أيضاً أنّ هذا التعبير يشير إلى أُولئك المبتلين باُسرة غير مؤمنة، وكانوا خائفين حتّى منهم، إلاّ أنّهم في الوقت ذاته قاوموا وحافظوا على إستقلالهم بالإتّكال على الله ولطفه ولم يتلوّنوا بلون الاُسرة.

4 ـ «السموم» يعني الحرارة التي تدخل في مسام البدن فتؤذي الإنسان، ويطلق على الريح التي تتسم بهذه السمة بريح السموم كما يطلق عذاب السموم على مثل هذا العذاب الذي تدخل حرارته مسام البدن فتؤذيه.

وأمّا إطلاق كلمة «السم» على المواد القاتلة فهو لأنّها تنفذ في جميع أجزاء البدن!

5 ـ كلمة «البرّ» في الأصل تطلق على اليابسة في قبال البحر، ثمّ إستعملت هذه الكلمة في من يعمل عملا صالحاً وواسعاً حسناً، وأجدر بهذه الكلمة الذات المقدّسة، لأنّ لطفه وإحسانه عمّ العوالم كلّها.

 

6 ـ إرتباط الآيات ومضامينها

قلنا أنّ هذه الآيات والآيات المتقدّمة تذكر أربعة عشر قسماً من نعم أهل الجنّة.

1 ـ الجنّات 2 ـ النعيم 3 ـ السرور 4 ـ الأمان من عذاب جهنّم 5 ـ تناول الطعام والشراب السائغ في الجنّة 6 ـ الإتّكاء على السرر المصفوفة 7ـ الأزواج من الحور العين 8 ـ الحاق الذرية التي تبعت آباءها بإيمان 9 ـ أنواع الفواكه اللذيذة  10ـ أنواع اللحم، 11 ـ ما تشتهي الأنفس 12 ـ كؤوس الشراب الطهور 13 ـ ويطوف عليهم غلمان لهم كأنّهم لؤلؤ مكنون 14 ـ التساؤل عن أيّام الدنيا في مجالس يغمرها الاُنس!.

[177]

وهذه النعم بعضها مادّي وبعضها معنوي، ومع كلّ ذلك فإنّ نعم الجنّة الماديّة والمعنوية غير منحصرة بهذه النعم، بل ما هو مذكور هنا يعدّ جانب من جوانب نعم الجنّة!

* * *

[178]

الآيات

فَذَكِّرْ فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِن وَلاَ مَجْنُون ( 29 ) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ( 30 ) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّى مَعَكُم مِّنَ الْمُتَرَبِّصِينَ ( 31 ) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَـمُهُم بِهَـذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ( 32 ) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ ( 33 ) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيث مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَـدِقِينَ ( 34 )

 

سبب النّزول

جاء في رواية أنّ قريشاً إجتمعت في دار الندوة(1) ليفكّروا في مواجهة دعوة النّبي الإسلامية التي كانت تعدّ خطراً كبيراً على منافعهم غير المشروعة.

فقال رجل من قبيلة «عبدالدار» ينبغي أن ننتظر حتّى يموت، لأنّه شاعر على كلّ حال، وسيمضي عنّا كما مات زهير والنابغة والأعشى «ثلاثة شعراء جاهليون» وطوي بساطهم .. وسيطوى بساط محمّد أيضاً بموته. قالوا ذلك

______________________________________

1 ـ دار الندوة هي دار «قصي بن كلاب» جدّ العرب المعروف، وكانوا يجتمعون فيها للمشاورة في الاُمور المهمّة، وكانت هذه الدار إلى جوار بيت الله وتفتح بابه نحو جهة الكعبة، وكانت هذه الدار ذات مركزية في زمن قصي بن كلاب نفسه (راجع سيرة ابن هشام، ج2، ص124 وج ص132).

[179]

وتفرّقوا فنزلت الآيات آنفة الذكر وردّت عليهم(1).

 

التّفسير

اُمنيات المشركين وتحدّي القرآن

كان الكلام في الآيات المتقدّمة على قسم مهمّ من نعم الجنّة وثواب المتّقين وكان الكلام في الآيات التي سبقتها عن بعض عذاب أهل النار.

لذلك فإنّ الآية الاُولى من الآيات محلّ البحث تخاطب النّبي فتقول: «فذكّر»!

لأنّ قلوب عشّاق الحقّ تكون أكثر إستعداداً بسماعها مثل هذا الكلام، وقد آن الأوان أن تبيّن الكلام الحقّ لها!

وهذا التعبير يدلّ بوضوح أنّ الهدف الأصلي من ذكر جميع تلك النعم ومجازاة الفريقين هو تهيئة الأرضية الروحية لقبول حقائق جديدة! وفي الحقيقة فإنّه ينبغي على كلّ خطيب أن يستفيد من هذه الطريقة لنفوذ كلامه وتأثيره في قلوب السامعين.

ثمّ يذكر القرآن الإتّهامات التي أطلقها أعداء النّبي الألدّاء المعاندون فيقول: (فما أنت بنعمة ربّك بكاهن ولا مجنون).

«الكاهن» يطلق على من يخبر عن الأسرار الغيبية، وغالباً ما كان الكاهن يدّعي بأنّه له علاقة بالجنّ ويستمدّ الأخبار الغيبية منهم، وكان الكهنة في الجاهلية ـ خاصّةً ـ كثيرين .. ومن ضمنهم الكاهنان «سطيح» و «شق»، والكهنة أفراد أذكياء، إلاّ أنّهم يستغلّون ذكاءهم فيخدعون الناس بإدّعاءاتهم الفارغة.

والكهانة محرّمة في الإسلام وممنوعة ولا يعتدّ بأقوال الكهنة! لأنّ أسرار

______________________________________

1 ـ راجع تفسير المراغي، ج27، ص31.

[180]

الغيب خاصّة بعلم الله ولا يطلع غيبه إلاّ من إرتضى من رسول وإمام وحسب ما تقتضيه المصلحة.

وعلى كلّ حال فإنّ قريشاً ومن أجل أن تشتّت الناس وتصرّفهم عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت تتّهمه ببعض التّهم، فتارةً تتّهمه بأنّه كاهن، وتارةً تتّهمه بأنّه مجنون، والعجب أنّها لم تقف على تضاد الوصفين، لأنّ الكهنة اُناس أذكياء والمجانين على خلافهم!! ولعلّ الجمع بين الإفترائين في الآية إشارة إلى هذا التناقض في الكلام من قبل القائلين.

ثمّ يذكر القرآن الإتّهام الثالث الذي يخالف الوصفين السابقين أيضاً فيقول: (أم يقولون شاعر نتربّص به ريب المنون).

فطالما هو شاعر فعلينا أن نصبر، إذ أنّ لأشعاره رونقها وجاذبيتها، فإذا حلّ به الموت وإنطوت أشعاره كما ينطوي سجل عمره وأودعت في ضمير النسيان فسنكون حينئذ في راحة من أمره!!.

وكما يُفهم من كتب اللغة فإنّ «المنون» مشتقّ من المنّ، وهو على معنيين: النقصان و القطع، وهذان المعنيان أيضاً بينهما مفهوم جامع!

ثمّ استعملت كلمة «المنون» في الموت أيضاً، لأنّه ينقص العدد ويقطع المدد.

وقد يطلق «المنون» على مرور الزمان، وذلك لأنّه يوجب الموت ويقطع العلائق وينقص النفر، كما يطلق «المنون» على الليل والنهار أحياناً، ولعلّ ذلك للمناسبة ذاتها(1).

وأمّا كلمة (ريب) فأصلها الشكّ والتردّد والوهم في الشيء الذي تنكشف أستاره بعدئذ فتتضح حقيقته!

وهذا التعبير يستعمل في شأن الموت، فيقال «ريب المنون» لأنّ وقت

______________________________________

1 ـ راجع «لسان العرب» و «المفردات للراغب» و «المنجد» و «تفسير القرطبي».

[181]

حصوله غير معلوم لا أصل تحقّقه(1)!

إلاّ أنّ جماعة من المفسّرين قالوا إنّ المراد من «ريب المنون» في الآية محلّ البحث هو حوادث الدهر، حتّى انّه نقل عن ابن عبّاس أنّه قال حيث ما وردت كلمة «ريب» في القرآن فهي بمعنى الشكّ والتردّد، إلاّ في هذه الآية من سورة الطور فمعناها الحوادث(2).

وقال جماعة منهم أنّ المراد منه هو حالة الإضطراب، فيكون معنى «ريب المنون» على هذا القول هو حالة الإضطراب التي تنتاب أغلب الأفراد قبل الموت!

ويمكن أن يعود هذا التّفسير (الأخير) على المعنى السابق، لأنّ حالة الشكّ والتردّد أساس الإضطراب، وكذلك الحوادث التي لم ينبّأ بها من قبل، فهي تقترن بنوع من الإضطراب والشكّ والتردّد، وهكذا فإنّ جميع هذه المفاهيم تنتهي إلى أصل «الشكّ والتردّد».

وبتعبير آخر، فإنّ للريب ثلاثة معان مذكورة: الشكّ، والإضطراب، والحوادث، وهذه جميعاً من باب اللازم والملزوم!.

وعلى كلّ حال، فاُولئك كانوا يطمئنون أنفسهم ويرضون خاطرهم بأنّ حوادث الزمان كفيلة بالقضاء على النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وكانوا يتصوّرون أنّهم سيتخلّصون من هذه المشكلة العظمى التي أحدثتها دعوة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في سائر المجتمع .. لذلك فإنّ القرآن يردّ عليهم بجملة موجزة مقتضبة ذات معنى غزير ويهدّد هؤلاء ـ عمي القلوب ـ مخاطباً نبيّه فيقول: (قل تربّصوا فانّي معكم من المتربصين).

فأنتم تنتظرون تحقّق تصوّراتكم الساذجة التافهة!! وأنا أنتظر أن يصيبكم عذاب الله!.

______________________________________

1 ـ راجع المفردات للراغب.

2 ـ القرطبي، ج9، ص6242.

[182]

وعليكم أن تنتظروا أن ينطوي بموتي بساط الإسلام!! وأنا بعون الله أنتظر أن أجعل الإسلام يستوعب العالم كلّه في حياتي وأن يبقى بعد حياتي أيضاً مواصلا طريقه دائماً!

أجل .. إنّما تعوّلون على تصوراتكم وخيالاتكم، وأنا أعتمد على لطف الله الخاصّ سبحانه.

ثمّ يوبّخهم القرآن توبيخاً شديداً فيقول في شأنهم: (أم تأمرهم أحلامهم بهذا أم هم قوم طاغون)(1).

كان سَراةُ قريش يعرفون بين قومهم بعنوان «ذوي الأحلام»، أي أصحاب العقول، فالقرآن يقول: أي عقل هذا الذي يدّعي بأنّ وحي السماء ـ الذي تكمن فيه دلائل الحقّ والصدق ـ شعر أو كهانة؟! وأن يزعم بأنّ حامله «النبي» الذي عرف بالصدق والأمانة منذ عهد بعيد، بأنّه شاعر أو مجنون!؟

فبناءً على ذلك ينبغي أن يستنتج أنّ هذه التّهم والإفتراءات ليست ممّا تقول به عقولهم وتأمرهم به، بل أساسها طغيانهم وتعصّبهم وروح العصيان والتمرّد .. فما أن وجدوا منافعهم غير المشروعة في خطر حتّى ودّعوا العقل!! ولوّوا رؤوسهم نحو الطغيان عناداً عن اتّباع الحقّ!.

«الأحلام» جمع حُلُم ومعناه العقل، ولكن كما يقول الراغب في مفرداته أنّ الحلم في الحقيقة بمعنى ضبط النفس والتجلّد عند الغضب، وهو واحد من دلائل العقل والدراية، ويشترك مع الحِلم على زنة العلم ـ في الجذر اللغوي!.

وكلمة «الحُلُم» قد تأتي بمعنى الرؤيا والمنام ولا يبعد مثل هذا التّفسير في

______________________________________

1 ـ هناك إحتمالات وأقوال بين المفسّرين في معنى «أم» هنا أهي إستفهامية أم منقطعة وبمعنى بل كلّ له رأيه فيها وإن كان الرأي الثاني أكثر ترجيحاً عندهم. إلاّ أنّ سياق الآيات يتناسب والمعنى الأوّل غير أنّه ينبغي أن يُعرف بأنّ أم في مثل هذه المواطن ينبغي أن تكون مسبوقة بهمزة الإستفهام ولذلك فإنّ الفخر الرازي قدر لها ما يلي: «أأُنزل عليهم ذكر أم تأمرهم أحلامهم بهذا» وهو يشير إلى أنّ الإسلام ينبغي أن يتّبع دليل النقل أو العقل!..

[183]

الآية محلّ البحث .. فكأنّ كلماتهم ناتجة عن أحلامهم الباطلة!!

ومرّة اُخرى يشير القرآن إلى اتّهام آخر ـ من اتّهاماتهم ـ الذي يعدّ الرابع في سلسلة اتّهاماتهم فيقول: (أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون).

«تقوّله»: مشتقّ من مادّة تقوّل ـ على وزن تكلّف ـ ومعناه الكلام الذي يفتعله الإنسان بينه وبين نفسه دون أن يكون له واقع(1).

وهذه ذريعة اُخرى من ذرائع المشركين والكفّار المعاندين لئلاّ يستسلموا أمام القرآن المجيد ودعوة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد تكرّرت الإشارة إليها مراراً عديدة في آيات القرآن!.

غير أنّ القرآن يردّ عليهم ردّاً يدحرهم ويتحدّاهم متهكماً فيقول: (فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين).

فأنتم اُناس مثله ولديكم العقل والقدرة على البيان والإطلاع والخبرة على أنواع الكلام فلِمَ لا يأتي مفكّروكم وخطباءكم وفصحاءكم بمثل هذا الكلام!.

وجملة «فليأتوا» أمر تعجيزي، والهدف منه بيان عجزهم وعدم قدرتهم على مجاراة القرآن.

وهذا ما يعبّر عنه في علم الكلام والعقائد بالتحدّي أي دعوة المخالفين إلى المعارضة والإتيان بالمثل «في مواجهة المعجزات!».

وعلى كلّ حال، فهذه آية من الآيات التي تبيّن إعجاز القرآن بجلاء،  ولا يختصّ مفهومها بمن عاصروا النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بل يشمل جميع الذين يزعمون ـ بأنّ القرآن كلام بشر، وأنّه مفترى على الله ـ على إمتداد القرون والأعصار، فهم مخاطبون بهذه الآية أيضاً .. أي هاتوا حديثاً مثله إن كنتم تزعمون بأنّه ليس من الله وأنّه كلام بشر.

______________________________________

1 ـ يقول صاحب مجمع البيان: التقوّل: تكلّف ولا يقال ذلك إلاّ في الكذب.

[184]

وكما نعلم بأنّ نداء القرآن في هذه الآية والآيات المشابهة كان عالياً أبداً، ولم يستطع أي إنسان خلال أربعة عشر قرناً ـ منذ بعثة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حتّى يومنا هذا ـ أن يرد بجواب إيجابي.

ومن المعلوم أنّ أعداء الإسلام وخاصّة أصحاب الكنيسة واليهود ينفقون ما لا يحصى من الأموال الطائلة للتبليغ ضدّ الإسلام، فما كان يمنعهم أن يدعوا قسماً منها تحت تصرّف أصحاب الفكر والقلم المخالفين لينهضوا بوجه معارضة القرآن ويكونوا مصداقاً لقوله تعالى: (فليأتوا بحديث مثله) وهذا العجز «العمومي» شاهد حي على أصالة هذا الوحي السماوي!

يقول بعض المفسّرين في هذا الصدد شيئاً جديراً بالملاحظة فلا بأس بالإلتفات والإصغاء إليه ...

«إنّ في هذا القرآن سرّاً خاصاً يشعر به كلّ من يواجه نصوصه إبتداءً قبل أن يبحث عن مواضع الإعجاز فيها .. إنّه يشعر بسلطان خاصّ في عبارات هذا القرآن يشعر أنّ هنالك شيئاً ما وراء المعاني التي يدركها العقل من التعبير وأنّ هنالك عنصراً ما ينسكب في الحسّ بمجرّد الإستماع لهذا القرآن، يدركه بعض الناس واضحاً ويدركه بعض الناس غامضاً، ولكنّه على كلّ حال موجود .. هذا العنصر الذي ينسكب في الحسّ، يصعب تحديد مصدره، أهو العبارة ذاتها؟! أهو المعنى الكامن فيها، أهو الصور والظلال التي تشعّها؟ أهو الإيقاع القرآني الخاصّ المتميّز من إيقاع سائر القول المصوغ من اللغة؟. أهي هذه العناصر كلّها مجتمعة؟. أم أنّها هي وشيء آخر وراءها غير محدود!

ذلك سرّ مستودع في كلّ نصٍّ قرآني، يشعر به كلّ من يواجه نصوص هذا القرآن إبتداءً .. ثمّ تأتي وراءه الأسرار المدركة بالتدبير والنظر والتفكير في بناء

[185]

القرآن كلّه»(1).

ولمزيد الإيضاح حول إعجاز القرآن من أبوابه المختلفة يراجع ذيل الآية (23) من سورة البقرة إذ ذكرنا هناك بحثاً مفصّلا في هذا الصدد وكذلك ذيل الآية (88) من سورة الإسراء.

 

* * *

______________________________________

1 ـ في ظلال القرآن، ج7، ص605.

[186]

الآيات

أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَىْء أَمْ هُمُ الْخَـلِقُونَ ( 35 ) أَمْ خَلَقُوا السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضَ بَل لاَّ يُوقِنُونَ ( 36 ) أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ ( 37 ) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَـن مُّبِين ( 38 ) أَمْ لَهُ الْبَنَـتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ ( 39 )أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِّن مَّغْرَم مُّثْقَلُونَ ( 40 ) أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ ( 41 ) أَمْ يُرِيُدونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ ( 42 ) أَمْ لَهُمْ إِلَـهٌ غَيْرُ اللهِ سُبْحَـنَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ( 43 )

 

التّفسير

ما هو كلامكم الحقّ؟

هذه الآيات تواصل البحث الإستدلالي السابق ـ كذلك ـ وهي تناقش المنكرين للقرآن ونبوّة محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) وقدرة الله سبحانه.

وهي آيات تبدأ جميعها بـ«أم» التي تفيد الإستفهام وتشكّل سلسلة من

[187]

الإستدلال في أحد عشر سؤالا متتابعاً (بصورة الإستفهام الإنكاري)، وبتعبير أجلى: إنّ هذه الآيات تسدّ جميع الطرق بوجه المخالفين فلا تدع لهم مهرباً في عبارات موجزة ومؤثّرة جدّاً بحيث ينحني الإنسان لها من دون إختياره إعظاماً ويعترف ويقرّ بإنسجامها وعظمتها. فأوّل ما تبدأ به هو موضوع الخلق فتقول: (أم خُلقوا من غير شيء أم هم الخالقون)(1).

وهذه العبارة الموجزة والمقتضبة في الحقيقة هي إشارة إلى «برهان العليّة» المعروف الوارد في الفلسفة وعلم الكلام لإثبات وجود الله، وهو أنّ العالم الذي نعيش فيه ممّا لا شكّ ـ فيه ـ حادث (لأنّه في تغيير دائم، وكلّ ما هو متغيّر فهو في معرض الحوادث، وكلّ ما هو في معرض الحوادث محال أن يكون قديماً وأزليّاً).

والآن ينقدح هذا السؤال، وهو إذا كان العالم حادثاً فلا يخرج عن الحالات الخمس التالية:

1 ـ وُجد من دون علّة!

2 ـ هو نفسه علّة لنفسه.

3 ـ معلولات العالم علّة لوجوده.

4 ـ إنّ هذا العالم معلول لعلّة اُخرى وهي معلولة لعلّة اُخرى إلى ما لا نهاية.

5 ـ إنّ هذا العالم مخلوق لواجب الوجود الذي يكون وجوده ذاتياً له.

وبطلان الإحتمالات الأربع المتقدّمة واضح، لأنّ وجود المعلول من دون علّة محال، وإلاّ فينبغي أن يكون كلّ شيء موجوداً في أي ظرف كان، والأمر ليس كذلك!

والإحتمال الثاني وهو أن يوجد الشيء من نفسه محال أيضاً، لأنّ مفهومه أن

______________________________________

1 ـ هناك تفسيرات اُخر وإحتمالات متعدّدة في وجوه هذه الآية، منها أنّ مفادها: هل خلقوا بلا هدف ولم يك عليهم أيّة مسؤولية؟! .. وبالرغم أنّ جماعة من المفسّرين إختاروا هذا الوجه إلاّ أنّه مع الإلتفات لبقيّة الآية: (أم هم الخالقون)يتّضح أنّ المراد هو ما ذكر في المتن، أي خُلقوا من دون علّة. أم هم علّة أنفسهم؟!.

[188]

يكون موجوداً قبل وجوده، ويلزم منه إجتماع النقيضين [فلاحظوا بدقّة].

وكذلك الإحتمال الثالث وهو أنّ مخلوقات الإنسان خلقته، وهو واضح البطلان إذ يلزم منه الدور!.

وكذلك الإحتمال الرابع وهو تسلسل العلل وترتّب العلل والمعلول إلى ما لا نهاية أيضاً محال، لأنّ سلسلة المعلولات اللاّ محدودة مخلوقة، والمخلوق مخلوق ويحتاج إلى خالق أوجده، ترى هل تتحوّل الأصفار التي لا نهاية لها إلى عدد؟! أو ينفلق النور من ما لا نهاية الظلمة؟! وهل يولد الغنى من ما لا نهاية له في الفقر والفاقة؟

فبناءً على ذلك لا طريق إلاّ القبول بالإحتمال الخامس، أي خالقية واجب الوجود [فلاحظوا بدقّة أيضاً].

وحيث أنّ الركن الأصلي لهذا البرهان هو نفي الإحتمالين الأوّل والثاني فإنّ القرآن إقتنع به فحسب.

والآن ندرك جيّداً وجه الإستدلال في هذه العبارات الموجزة!

الآية التالية تثير سؤالا آخر على الإدّعاء في المرحلة الأدنى من المرحلة السابقة فتقول: (أم خلقوا السماوات والأرض).

فإذا لم يوجدوا من دون علّة ولم يكونوا علّة أنفسهم أيضاً، فهل هم واجبو الوجود فخلقوا السماوات والأرض؟! وإذا لم يكونوا قد خلقوا الوجود، فهل أوكل الله إليهم أمر خلق السماء والأرض؟ فعلى هذا هم مخلوقون وبيدهم أمر الخلق أيضاً!!.

من الواضح أنّهم لا يستطيعون أن يدّعوا هذا الإدّعاء الباطل، لذلك فإنّ الآية تختتم بالقول: (بل لا يوقنون)!

أجل، فهم يتذرّعون بالحجج الواهية فراراً من الإيمان!

ثمّ يتساءل القرآن قائلا: فإذا لم يدّعوا هذه الاُمور ولم يكن لهم نصيب في

[189]

الخلق، فهل عندهم خزائن الله (أم عندهم خزائن ربّك)(1) ليهبوا من شاؤوا نعمة النبوّة والعلم أو الأرزاق الاُخر ويمنعوا من شاؤوا ذلك: (أم هم المصيطرون) على جميع العوالم وفي أيديهم اُمور الخلائق؟!

انّهم لا يستطيعون ـ أن يدّعوا أبداً أنّ عندهم خزائن الله تعالى، ولا يملكون تسلّطاً على تدبير العالم، لأنّ ضعفهم وعجزهم إزاء أقل مرض بل حتّى على بعوضة تافهة وكذلك إحتياجهم إلى الوسائل الإبتدائية للحياة خير دليل على عدم قدرتهم وفقدان هيمنتهم! وإنّما يجرّهم إلى إنكار الحقائق هوى النفس والعناد وحبّ الجاه والتعصّب والأنانية!.

وكلمة: «مصيطرون» إشارة إلى أرباب الأنواع التي هي من خرافات القدماء، إذ كانوا يعتقدون أنّ كلّ نوع من أنواع العالم إنساناً كان أمّ حيواناً آخر أم جماداً أم نباتاً له مدبّر وربّ خاصّ يدعى بربّ النوع ويدعون الله «ربّ الأرباب» وهذه العقيدة تعدّ في نظر الإسلام «شركاً» والقرآن في آياته يصرّح بأنّ التدبير لجميع الأشياء هو لله وحده ويصفه بربّ العالمين.

وأصل هذه الكلمة من «سَطْر» ومعناه صفّ الكلمات عند الكتابة، و «المسيطر» كلمة تطلق على من له تسلّط على شيء ما ويقوم بتوجيهه، كما أنّ الكاتب يكون مسيطراً على كلماته (وينبغي الإلتفات إلى أنّ هذه الكلمة تكتب بالسين وبالصاد على السواء ـ مسيطر ومصيطر ـ فهما بمعنى واحد وإن كان الرسم القرآني المشهور بالصاد «مصيطر»).

ومن المعلوم أنّه لا منكرو النبوّة ولا المشركون في العصر الجاهلي ولا سواهما يدّعي أيّاً من الاُمور الخمسة التي ذكرها القرآن، ولذلك فإنّه يشير إلى موضوع آخر في الآية التالية فيقول: إنّ هؤلاء هل يدعون أنّ الوحي ينزل عليهم

______________________________________

1 ـ الخزائن جمع الخزينة ومعناها مكان كلّ شيء محفوظ لا تصل إليه اليد ويدّخر فيه ما يريد الإنسان يقول القرآن في هذا الصدد (وإنّ من شيء إلاّ عندنا خزائنه وما ننزّله إلاّ بقدر معلوم) [الحجر الآية 21].

[190]

أو يدعون أنّ لهم سُلّماً يرتقون عليه إلى السماء فيستمعون إلى أسرار الوحي: (أم لهم سُلّم يستمعون فيه).

وحيث إنّه كان من الممكن أن يدّعوا بأنّهم على معرفة بأسرار السماء فإنّ القرآن يطالبهم مباشرةً بعد هذا الكلام بالدليل فيقول: (فليأت مستمعهم بسلطان مبين).

ومن الواضح أنّه لو كانوا يدّعون مثل هذا الإدّعاء فإنّه لا يتجاوز حدود الكلام فحسب، إذ لم يكن لهم دليل على ذلك أبداً(1).

ثمّ يضيف القرآن قائلا: هل صحيح ما يزعمون أنّ الملائكة اُناث وهم بنات الله؟! (أم له البنات ولكم البنون)؟!

وفي هذه الآية إشارة إلى واحد من إعتقاداتهم الباطلة، وهو استياؤهم من البنات بشدّة، وإذا علموا أنّهم رزقوا من أزواجهم «بنتاً» اسودّت وجوههم من الحياء والخجل! ومع هذا فإنّهم كانوا يزعمون أنّ الملائكة بنات الله، فإذا كانوا مرتبطين بالملأ الأعلى ويعرفون أسرار الوحي، فهل لديهم سوى هذه الخرافات المضحكة .. وهذه العقائد المخجلة؟!

وبديهي أنّ الذكر والاُنثى لا يختلفان في نظر القيمة الإنسانية .. والتعبير في الآية المتقدّمة هو في الحقيقة من قبيل الإستدلال بعقيدتهم الباطلة ومحاججتهم بها.

والقرآن يعوّل ـ في آيات متعدّدة ـ على نفي هذه العقيدة الباطلة ويحاكمهم في هذا المجال ويفضحهم(2)!!

______________________________________

1 ـ سُلّم يعني «المصعد» كما يأتي بمعنى أيّة وسيلة كانت وقد إختلف المفسّرون في المراد من الآية فأيّ شيء كانوا يدعونه؟! فقال بعضهم: ادّعوا الوحي وقال آخرون هو ما كانوا يدّعونه في النّبي بأنّه شاعر أو مجنون أو ما كانوا يدّعون من الأنداد والشركاء لله .. وفسّر بعضهم ذلك بنفي نبوّة محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) «ولا مانع من الجمع بين هذه المعاني وإن كان المعنى الأوّل أجلى».

2 ـ كانت لنا بحوث مفصّلة في سبب جعل العرب الملائكة بنات الله في الوقت الذي كانوا يستاءون من البنات. وذكرنا الدلائل الحيّة التي أقامها القرآن ضدّهم فليراجع ذيل الآية (57) سورة النحل وذيل الآية (149) من سورة الصافات ..

[191]

ثمّ يتنازل القرآن إلى مرحلة اُخرى، فيذكر واحداً من الاُمور التي يمكن أن تكون ذريعة لرفضهم فيقول: (أم تسألهم أجراً فهم من مغرم مثقلون).

«المغرم» ـ على وزن مغْنَم وهو ضدّ معناه ـ أي ما يصيب الإنسان من خسارة أو ضرر دون جهة، أمّا الغريم فيطلق على الدائن والمدين أيضاً.

و «المُثقَل» مشتقّ من الأثقال، ومعناه تحميل العبء والمشقّة، فبناءً على هذا المعنى يكون المراد من الآية: تُرى هل تطلب منهم غرامة لتبليغ الرسالة فهم  لا يقدرون على أدائها ولذلك يرفضون الإيمان؟!

وقد تكرّرت الإشارة في عدد من الآيات القرآنية لا في النّبي فحسب، بل في شأن كثير من الأنبياء، إذ كان من أوائل كلمات النبيين قولهم لاُممهم: لا نريد على إبلاغنا الرسالة إليكم أجراً .. ليثبت عدم قصدهم شيئاً من وراء دعوتهم ولئلاّ تبقى ذريعة للمتذرّعين أيضاً.

ومرّة اُخرى يخاطبهم القرآن متسائلا (أم عندهم الغيب فهم يكتبون)فهؤلاء يدّعون أنّ النّبي شاعر وينتظرون موته لينطوي بساطه وينتهي كلّ شيء بموته وتلقى دعوته في سلّة الإهمال، كما تقدّم في الآية السابقة ذلك على لسان المشركين إذ كانوا يقولون .. (نتربّص به ريب المنون)».

فمن أين لهم أنّهم سيبقون أحياء بعد وفاة النبي؟! ومن أخبرهم بالغيب؟!

ويحتمل أيضاً أنّ القرآن يقول إذا كنتم تدّعون معرفة الأسرار الغيبية وأحكام الله ولستم بحاجة إلى القرآن ودين محمّد فهذا كذب عظيم(1).

ثمّ يتناول القرآن إحتمالا آخر فيقول: لو لم يكن كلّ هذه الاُمور المتقدّمة، فلابدّ أنّهم يتآمرون لقتل النّبي وإجهاض دعوته ولكن ليعلموا أنّ كيد الله أعلى

______________________________________

1 ـ قال بعض المفسّرين أنّ المراد بالغيب هو اللوح المحفوظ، وقال بعضهم: بل هو إشارة إلى إدّعاءات المشركين وقولهم إذ كانت القيامة فسيكون لنا عند الله مقام كريم. إلاّ أنّ هذه التفاسير لا تتناسب والآية محلّ البحث ولا يرتبط بعضها ببعض.

[192]

وأقوى من كيدهم: (أم يريدون كيداً فالذين كفروا هم المكيدون)(1).

والآية الآنفة يطابق تفسيرها تفسير الآية (54) من سورة آل عمران التي تقول: (ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين).

وإحتمل جماعة من المفسّرين أنّ المراد من الآية محلّ البحث هو: «انّ مؤامراتهم ستعود عليهم أخيراً وتكون وبالا عليهم ..» وهذا المعنى يُشبه ما ورد في الآية (43) من سورة فاطر: (ولا يحيق المكر السيء إلاّ بأهله).

والجمع بين التّفسيرين الآنفين ممكن ولا مانع منه.

ويمكن أن يكون لهذه الآية إرتباط آخر بالآيه المتقدّمة، وهو أنّ أعداء الإسلام كانوا يقولون: ننتظر موت محمّد. فالقرآن يردّهم بالقول بأنّهم ليسوا خارجين عن واحد من الأمرين التاليين .. أمّا أنّهم يدّعون بأنّ محمّداً يموت قبل موتهم حتف أنفه. فلازم هذا الإدّعاء أنّهم يعلمون الغيب، وأمّا أنّ مرادهم أنّه سيمضي بمؤامراتهم فالله أشدّ مكراً ويردّ كيدهم إليهم، فهم المكيدون!

وإذا كانوا يتصوّرون أنّ في إجتماعهم في دار الندوة ورشق النّبي بالتّهم كالكهانة والجنون والشعر أنّهم سينتصرون على النّبي فهم في منتهى العمى والحمق، لأنّ قدرة الله فوق كلّ قدرة، وقد ضمن لنبيّه السلامة والنجاة حتّى يبلغ دعوته العالمية.

وأخيراً فإنّ آخر ما يثيره القرآن من أسئلة في هذا الصدد قوله: (أم لهم إله غير الله)؟! ويضيف ـ منزّهاً ـ (سبحان الله عمّا يشركون).

فعلى هذا لا أحد يستطيع أن يمنعهم من الله ويحميهم، وهكذا فإنّ القرآن يستدرجهم ويضعهم أمام إستجواب عجيب وأسئلة متّصلة تؤلّف سلسلة متكاملة مؤلّفة من أحد عشر سؤالا! ويقهقرهم مرحلة بعد مرحلة إلى الوراء!! ويضطرهم

______________________________________

1 ـ الكيد على وزن صيد نوع من الحيلة وقد يستعمل في التحيّل إلى سبيل الخير، إلاّ أنّه غالباً ما يستعمل في الشرّ، وتعني هذه الكلمة المكر و السعي أو الجدّ كما تعني الحرب أحياناً ..

[193]

إلى التنزّل من الإدّعاءات ثمّ يوصد عليهم سُبُلَ الفرار كلّها ويحاصرهم في طريق مغلق!.

كم هي رائعة إستدلالات القرآن وكم هي متينة أسئلته وإستجوابه! .. فلو أنّ في أحد منهم روحاً تبحث عن الحقّ وتطلبه لأذعنت أمام هذه الأسئلة وإستسلمت لها.

الطريف أنّ الآية الأخيرة من الآيات محلّ البحث لا تذكر دليلا لنفي المعبودات ممّا سوى الله، وتكتفي بتنزيه الله (سبحان الله عمّا يشركون).

وذلك لأنّ بطلان اُلوهية الأصنام والأوثان المصنوعة من الأحجار والخشب وغيرهما مع ما فيها من ضعف وإحتياج أجلى وأوضح من أي بيان وتفصيل آخر، أضف إلى كلّ ذلك فإنّ القرآن استدلّ على إبطال هذا الموضوع بآيات متعدّدة غير هذه الآية.

 

* * *

[194]

الآيات

وَإِن يَرَوْا كِسْفاً مِّنَ السَّمَاءِ سَاقِطاً يَقُولُوا سَحَابٌ مَّرْكُومٌ ( 44 )فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَـقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِى فِيهِ يُصْعَقُونَ ( 45 ) يَوْمَ لا يُغْنِى عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ( 46 ) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ( 47 )وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ ( 48 ) وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَـرَ النُّجُومِ ( 49 )

 

التّفسير

إنّك بأعيننا!

تعقيباً على البحث الوارد في الآيات المتقدّمة الذي يناقش المشركين والمنكرين المعاندين، هذا البحث الذي يكشف الحقيقة ساطعةً لكلّ إنسان يطلب الحقّ، تميط الآيات محلّ البحث النقاب عن تعصّبهم وعنادهم فتقول: (وان يروا كسفاً من السماء ساقطاً يقولوا سحاب مركوم)(1).

______________________________________

1 ـ «الكِسْفُ»: على وزن فِسْق ـ معناه القطعة من كلّ شيء، ومع ملاحظة بقيّة التعبير. «من السماء»: يظهر المراد منه هنا القطعة من حَجر السماء، وقد دلّت عليه بعض كتب اللغة وهذه الكلمة تجمع على كِسَف على وزن عِنَب، إلاّ أنّ أغلب المفسّرين يرون بأنّ الكلمة هنا مفردة وظاهر الآية أنّها مفردة أيضاً، لأنّها وصفتها بالمفرد ساقطاً ..

[195]

هؤلاء المشركين معاندون إلى درجة إنكارهم الحقائق الحسيّة وتفسيرهم الحجارة الساقطة من السماء بالسحاب، مع أنّ كلّ من رأى السحاب حين ينزل ويقترب من الأرض لم يجده سوى بخار لطيف، فكيف يتراكم هذا البخار اللطيف ويتبدّل حجراً!؟

وهكذا يتّضح حال هؤلاء الأشخاص إزاء الحقائق المعنوية!! أجل انّ ظلمة الإثم وعبادة الهوى والعناد كلّ ذلك يحجب أُفق الفكر السليم فيجعله متجهّماً حتّى تنجرّ عاقبة أمره إلى إنكار المحسوسات وبذلك ينعدم الأمل في هدايته.

و «المركوم» معناه المتراكم، أي ما يكون بعضه فوق بعض!

لذلك فإنّ الآية التالية تضيف بالقول: (فذرهم حتّى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون).

وكلمة «يُصعقون» مأخوذة من صعق، والإصعاق هو الإهلال، وأصله مشتقّ من الصاعقة، وحين أنّ الصاعقة تُهلك من تقع عليه فإنّ هذه الكلمة إستعملت بمعنى الإهلاك أيضاً.

وقال بعض المفسّرين أنّ هذه الجملة تعني الموت العامّ والشامل الذي يقع آخر هذه الدنيا مقدّمة للقيامة.

إلاّ أنّ هذا التّفسير يبدو بعيداً، لأنّهم لا يبقون إلى ذلك الزمان بل الظاهر هو المعنى الأوّل، أي دعهم إلى يوم موتهم الذي يكون بدايةً لمجازاتهم والعقاب الاُخروي!

ويتبيّن ممّا قلنا أنّ جملة «ذرهم» أمر يُفيد التهديد، والمراد منه أنّ الإصرار على تبليغ مثل هؤلاء الأفراد لا يجدي نفعاً إذ لا يهتدون.

فبناءً على ذلك لا ينافي هذا الحكم إدامة التبليغ على المستوى العامّ من قبل

[196]

النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا ينافي الأمر بالجهاد. فما يقوله بعض المفسّرين أنّ هذه الآية نسخت آيات الجهاد غير مقبول!

ثمّ يبيّن القرآن في الآية التالية هذا اليوم فيقول: (يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئاً ولا هم ينصرون).

أجل: من يمت تقم قيامته الصغرى «من مات قامت قيامته» وموته بداية للثواب أو العقاب الذي يكون قسم منه في البرزخ والقسم الآخر في القيامة الكبرى، أي القيامة العامّة، وفي هاتين المرحلتين لا تنفع ذريعة متذرّع ولا يجد الإنسان وليّاً من دون الله ولا نصيراً.

ثمّ تضيف الآية أنّه لا ينبغي لهؤلاء أن يتصوّروا أنّهم سيواجهون العذاب في البرزخ وفي القيامة فحسب، بل لهم عذاب في هذه الدنيا أيضاً: (وانّ للذين ظلموا عذاباً دون ذلك ولكن أكثرهم لا يعلمون).

أجل، إنّ على الظالمين أن ينتظروا في هذه الدنيا عذاباً كعذاب الاُمم السابقة كالصاعقة والزلازل والكسف من السماء والقحط أو القتل على أيدي جيش التوحيد كما كان ذلك في معركة بدر وما اُبتلي به قادة المشركين فيها إلاّ أن يتيقّظوا ويتوبوا ويعودوا إلى الله آيبين منيبين.

وبالطبع فإنّ جماعة منهم اُبتلوا بالقحط والمحل، ومنهم من قتل في معركة بدر كما ذكرنا آنفاً ـ إلاّ أنّ طائفة كبيرة تابوا وأنابوا والتحقوا بصفوف المسلمين الصادقين فشملهم الله بعفوه(1).

وجملة (ولكن أكثرهم لا يعلمون) تشير إلى أنّ أغلب اُولئك الذين ينتظرهم العذاب في الدنيا والآخرة هم جهلة، ومفهومها أنّ القليل منهم يعرف هذا المعنى، إلاّ أنّه في الوقت ذاته يُصرّ على المخالفة لما فيه من اللجاجة والعناد عن الحقّ.

______________________________________

1 ـ من قال بأنّ جملة فيه يصعقون تشير إلى يوم القيامة فسّر العذاب «في الآية» محلّ البحث بعذاب البرزخ في القبر، إلاّ أنّه حيث كان تفسيرها ضعيفاً فهذا الإحتمال ضعيف أيضاً.

[197]

وفي الآية التالية يخاطب القرآن نبيّه ويدعوه إلى الصبر أمام هذه التّهم والمثبّطات وأن يستقيم فيقول: (واصبر لحكم ربّك)(1).

فإذا ما اتّهموك بأنّك شاعر أو كاهن أو مجنون فاصبر، وإذا زعموا بأنّ القرآن مفترى فاصبر، وإذا أصرّوا على عنادهم وواصلوا رفضهم لدعوتك برغم كلّ هذه البراهين المنطقيّة فاصبر، ولا تضعف همّتك ويفتر عزمك: (فإنّك بأعيننا)!.

نحن نرى كلّ شيء ونعلم بكلّ شيء ولن ندعك وحدك.

وجملة (فإنّك بأعيننا) تعبير لطيف جدّاً حاك عن علم الله وكذلك كون النّبي مشمولا بحماية الله الكاملة ولطفه!

أجل، إنّ الإنسان حين يحسّ بأنّ قادراً كبيراً ينظره ويرى جميع سعيه وعمله ويحميه من أعدائه فإنّ إدراك هذا الموضوع يمنحه الطاقة والقوّة أكثر كما يحسّ بالمسؤولية بصورة أوسع.

وحيث أنّ الحاجة لله وعبادته وتسبيحه وتقديسه وتنزيهه والإلتجاء إلى ذاته المقدّسة كلّ هذه الاُمور تمنح الإنسان الدّعة والإطمئنان والقوّة، فإنّ القرآن يعقّب على الأمر بالصبر بالقول: (وسبّح بحمد ربّك حين تقوم).

سبّحه حين تقوم سحراً للعبادة وصلاة الليل.

... وحين تنهض من نومك لأداء الصلاة الواجبة.

... وحين تقوم من أي مجلس ومحفل، فسبّحه واحمده.

وللمفسّرين أقوال مختلفة في تفسير هذه الآية، إلاّ أنّ الجمع بين هذه الأقوال ممكن أيضاً، سواءً كان الحمد التسبيح سحراً، أو عند صلاة الفريضة، أو عند القيام من أي مجلس كان.

______________________________________

1 ـ قد يكون المراد من «حكم ربّك» هو تبليغ حكم الله الذي اُمر النّبي به، فعليه أن يُصبر عند إبلاغه، أو أنّه عذاب الله الذي وُعد أعداؤه به أي: اصبر يارسول الله حتّى يعذّبهم الله، أو المراد منه أوامر أي بما أنّ الله أمرك فاصبر لحكمه، والجمع بين هذه المعاني وإن كان ممكناً إلاّ أنّ التّفسير الأوّل يبدو أقرب خاصّة بملاحظة فإنّك بأعيننا.

[198]

أجل، نوّر روحك وقلبك بتسبيح الله وحمده فإنّهما يمنحان الصفاء .. وعطر لسانك بذكر الله .. واستمدّ منه المدد واستعدّ لمواجهة أعدائك!.

وقد جاء في روايات متعدّدة أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حين كان يقوم من مجلسه كان يسبّح الله ويحمده ويقول: «إنّه كفّارة المجلس»(1).

ومن ضمن ما كان يقول بعد قيامه من مجلس كما جاء في بعض الأحاديث عنه: «سبحانك اللهمّ وبحمدك أشهد أن لا إله إلاّ أنت أستغفرك وأتوب إليك!».

وسأل بعضهم رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) عن هذه الكلمات فقال: «هنّ كلمات علمنيْهنّ جبرئيل كفّارات لما يكون في المجلس»(2).

ثمّ يضيف القرآن في آخر آية من الآيات محلّ البحث قائلا: (ومن الليل فسبّحه وإدبار النجوم).

وقد فسّر كثير من المفسّرين جملة (ومن الليل فسبّحه) بصلاة الليل، وأمّا إدبار النجوم فقالوا هي إشارة إلى «نافلة الصبح» التي تؤدّى عند طلوع الفجر وإختفاء النجوم بنور الصبح.

كما ورد في حديث عن علي (عليه السلام) أنّ المراد من «إدبار النجوم» هو «ركعتان قبل الفجر» نافلة الصبح اللتان تؤدّيان قبل صلاة الصبح وعند غروب النجوم، أمّا «إدبار السجود» الوارد ذكرها في الآية 40 من سورة «ق» فإشارة إلى «ركعتان بعد المغرب» «وبالطبع فإنّ نافلة المغرب أربع ركع إلاّ أنّ هذا الحديث أشار إلى ركعتين منها فحسب»(3).

وعلى كلّ حال، فإنّ العبادة والتسبيح وحمد الله في جوف الليل وعند طلوع الفجر لها صفاؤها ولطفها الخاصّ، وهي في منأى عن الرياء، ويكون الإستعداد

______________________________________

1 ـ تفسير الميزان، ج19، ص24.

2 ـ الدرّ المنثور، ج6، ص120.

3 ـ مجمع البيان ذيل الآية (40)، سورة ق، ج9، ص150.

[199]

الروحي لها أكثر في ذلك الوقت، لأنّ الإنسان يكون فيه بعيداً عن اُمور الدنيا ومشاكلها، والإستراحة في الليل تمنح الإنسان الدّعة، فلا صخب ولا ضجيج، وفي الحقيقة هذه الفترة تقترن بالوقت الذي عُرج بالنّبي إلى السماء، فبلغ قاب قوسين أو أدنى يناجي ربّه ويدعوه في الخلوة!

ولذلك فقد عوّلت الآيات محلّ البحث على هذين الوقتين، ونقرأ حديثاً عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول فيه: ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها(1).

اللهمّ وفّقنا للقيام في السحر ومناجاتك طوال عمرنا.

اللهمّ اجعل قلوبنا بعشقك مطمئنة ونوّرها بمحبّتك وأمّلها بلطفك.

اللهمّ منّ علينا بالصبر والإستقامة بوجه قوى الشياطين ومؤامرات أعدائك وكيدهم لنتأسّى برسولك فنعيش على هديه ونموت على سنّته.

آمين ربّ العالمين.

إنتهاء سورة الطّور

* * *

______________________________________

1 ـ تفسير القرطبي ج9 ص6251 ذيل الآيات محلّ البحث.




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21335596

  • التاريخ : 28/03/2024 - 16:20

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net