00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة الجاثية من أول السورة ـ آخر السورة من ( 181 ـ 236 )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء السادس عشر   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

سُورَة الجَاثِية

مكيّة

وَعَدَدُ آياتِها سبعٌ وثلاثونَ آية

[181] 

«سورة الجاثية»

 محتوى السورة:

هذه السورة ـ وهي سادس الحواميم ـ من السورة المكية، وقد نزلت في وقت كانت المواجهة بين المسلمين ومشركي مكّة قد اشتدت وسادت الأجواء الإجتماعية في مكّة، ولذلك فإنّها أكّدت على المسائل المتعلقة بالتوحيد، ومحاربة الشرك، وتهديد الظالمين بمحكمة القيامة، والتنبيه إلى كتابة الأعمال وتسجيلها، وكذلك التنبيه إلى عاقبة الأقوام المتمردين الماضين.

ويمكن تلخيص محتوى هذه السورة في سبعة فصول:

1 ـ عظمة القرآن المجيد وأهميته.

2 ـ بيان جانب من دلائل التوحيد أمام المشركين.

3 ـ ذكر بعض ادعاءات الدهريين، والردّ عليها بجواب قاطع.

4 ـ إشارة وجيزة إلى عاقبة بعض الأقوام الماضين ـ كبني إسرائيل ـ كشاهد على مباحث هذه السورة.

5 ـ تهديد الضالين المصرين على عقائدهم المنحرفة والمتعصبين لها تهديداً شديداً.

6 ـ الدعوة إلى العفو والصفح، لكن مع الحزم وعدم الإنحراف عن طريق الحق.

7 ـ الإشارات البليغة المعبرة إلى مشاهد القيامة المهولة، وخاصة صحيفة الأعمال التي تشتمل على كلّ أعمال الإنسان دون زيادة أو نقصان.

[182]

وتبدأ هذه السورة بصفات وأسماء الله عزّوجلّ العظيمة كالعزيز والحكيم، وتنتهي بها أيضاً.

واسمها مقتبس من الآية 28 منها، و«الجاثية» تعني الجثو على الركب، وهي إشارة الى وضع كثير من الناس في ساحة القيامة، في محكمة العدل الإلهية تلك.

وقد ذكر المرحوم الطبرسي في مجمع البيان اسماً آخر لهذه السورة غير مشهور، وهو (الشريعة) مستلهم من الآية (18) من هذه السورة.

 

فضل تلاوة السورة:

نقرأ في حديث عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): «من قرأ حاميم الجاثية ستر الله عورته، وسكن روعته عند الحساب»(1).

وورد في حديث آخر عن الإمام الصادق(عليه السلام): «من قرأ سورة الجاثية كان ثوابها أنّ لا يرى النّار أبداً، ولا يسمع زفير جهنم ولا شهيقها، وهو مع محمّد»(2).

 

* * *

 

____________________________________

1 ـ تفسير مجمع البيان، بداية سورة الجاثية.

2 ـ تفسير البرهان، بداية سورة الجاثية، المجلد 4، ص167.

[183]

الآيات

حم( 1 ) تَنزِيلُ الْكِتَـبِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ( 2 ) إِنَّ فِى السَّمـوَاتِ وَالاَْرْضِ لاَيَـت لِلْمُؤْمِنِينَ( 3 ) وَفِى خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّة آيَـتٌ لِقَوْم يُوقِنُونَ( 4 ) وَاخْتِلَـَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِن رِزْق فَأَحْيَا بِهِ الاَْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَـحِ آيَـتٌ لِقٌوْم يَعْقِلُونَ( 5 ) تِلْكَ آيَـتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَىِّ حَدِيث بَعْدَ اللهِ وَآيَـتِهِ يُؤْمِنُونَ( 6 )

 

التّفسير

آيات الله في كلّ مكان:

قلنا: إنّ هذه هي السورة هي سادس السور التي تبدأ بالحروف المتقطعة (حم) وهي تشكل مع السورة الآتية ـ أي سورة الأحقاف ـ سور الحواميم السبعة.

وقد بحثنا مراراً في تفسير الحروف المتقطعة في بدايات سور البقرة وآل

[184]

عمران، وكذلك في الحواميم.

يقول المرحوم الطبرسي في بداية هذه السورة: إنّ أحسن ما يقال هو أنّ (حم) اسم هذه السورة. ثمّ ينقل عن بعض المفسّرين، أنّ تسمية هذه السورة بـ(حم) للإشارة إلى أن هذا القرآن المعجز بتمامه يتكون من حروف الألف باء.

نعم، إنّ كتاب النور والهداية والإرشاد وحل المعضلات ومعجزة  نبيّ الإسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) الخالدة هذا، يتركب من هذه الحروف البسيطة، وغاية العظمة أن يتكون أمر بهذه الأهمية من هذه الحروف السهلة البسيطة.

وربّما كان هذا هو السبب في أن تتحدث الآية التالية عن عظمة القرآن مباشرة فتقول: (تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم)(1).

«العزيز» هو القوي الذي لا يقهر، و«الحكيم» هو العارف بأسرار كلّ شيء، وتقوم كل أفعاله على أساس الحكمة والدقة، ومن الواضح أنّ الحكمة التامة والقوّة اللامحدودة من لوازم تنزيل مثل هذا الكتاب العظيم، وهما غير موجودتين إلاّ في الله العزيز المتعال.

والطريف أنّ هذه الآية قد وردت على هذه الهيئة في بداية أربع سور من القرآن الكريم، ثلاث منها من الحواميم ـ وهي المؤمن والجاثية والأحقاف ـ والأُخرى من غير الحواميم، وهي سورة الزمر. وهذا التكرار والتأكيد يهدف إلى جلب انتباه الجميع إلى عمق أسرار القرآن وعظمة محتواه، لئلا ينظروا ببساطة وعدم تدبر إلى أية عبارة أو تعبير من تعابيره، ولئلا يظنوا أنّ هذه الكلمة أو تلك لا محل لها ولا فائدة من ذكرها، لكي لا يقنعوا بحدّ معين من فهمه وإدراكه، بل ينبغي أن يكونوا في سعي دؤوب للتوصل إلى أعمق ممّا أدركوه.

____________________________________

1 ـ (تنزيل الكتاب) خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير: (هذا تنزيل الكتاب)، ثمّ إنّ (تنزيل) مصدر جاء هنا بمعنى اسم المفعول، وهو من قبيل إضافة الموصوف إلى الصفة، وتقدير الكلام: هذا كتاب منزل...

[185]

وهنا نكتة تستحق الإلتفات، وهي أنّ صفة (العزيز) قد وردت أحياناً لوصف نفس القرآن، مثل: (وإنه لكتاب عزيز)(1)، فإنّه عزيز لا تصل إليه أيدي الذين يقولون بعدم فائدته، ولا ينقص مر الزمان من أهميته، ولا تبلى حقائقه ولا تفقد قيمتها، ويفضح المحرفين أو من يحاول تحريفه، ويشق طريقه إلى الأمام دائماً رغم كل ما يوضع أمامه من عراقيل.

وقد تأتي هذه الصفة في حق منزله جل وعلا، كما في هذه الآية، وكلاهما صحيح.

ثمّ تناولت الآية التي بعدها بيان آيات الله سبحانه ودلائل عظمته في الآفاق والأنفس، فقالت: (إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين).

إن عظمة السماوات من جانب، ونظامها العجيب الذي مرّت عليه ملايين السنين الذي لم ينحرف عما سار عليه قيد أنملة، من جانب آخر، ونظام خلقة الأرض وعجائبها، من جانب ثالث، يكون كلّ منها آية من آيات الله سبحانه.

إنّ للأرض ـ على قول بعض العلماء ـ أربع عشرة حركة، وتدور حول نفسها بسرعة مذهلة، وكذلك تدور حول الشمس بحركة سريعة، وأُخرى مع المنظومة الشمسية ضمن مجرّة «درب التبانة»، وهي تسير في طريق لا نهاية له، وسفر لا حدّ له، ومع ذلك فهي من الهدوء والإستقرار بمكان، بحيث يستقر عليها الإنسان وكل الموجودات الحية فلا يشعرون بأي اضطراب وتزلزل، حتى ولا بقدر رأس الإبرة.

وهي ليست بتلك الصلابة التي لا يمكن معها أن تزرع، وتبني عليها الدور والبنايات، ولا هي رخوة ولا يمكن الثبات عليها، والإستقرار فيها.

وقد هيئت فيها أنواع المعادن ووسائل الحياة لمليارات البشر، سواء الماضون منهم والحاضرون والآتون، وهي جميلة تسحر الإنسان، وتفتنه.

والجبال والبحار وجو الأرض ـ أيضاً ـ كلّ منها آية وسرّ من الأسرار.

____________________________________

1 ـ سورة فصلت، 41.

[186]

غير أنّ علامات التوحيد هذه، وعظمة الله تعالى إنّما يلتفت إليها وينتفع بها المؤمنون، أي طلاب الحق والسائرون في طريق الله، أمّا عمي القلوب المغرورون المغفلون، فهم محرومون من إدراكها والإحساس بها.

ثمّ انتقلت السورة من آيات الآفاق إلى آيات الأنفس، فقالت: (وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون).

كما ورد في العبارة المعروفة والمنسوبة إلى أمير المؤمنين علي (عليه السلام): «أتحسب انّك جرم صغير، وفيك انطوى العالم الأكبر»، وكلّ ما هو موجود في ذلك العالم الكبير يوجد منه نموذج مصغر في داخل جسم الإنسان وروحه.

إنّ خصاله وصفاته مركبة من خصال الكائنات الحية وصفاتها، وتنوع خلقته عصارة مجموعة من حوادث هذا العالم الكبير.

إنّ بناء خلية من خلاياه كبناء مدينة صناعية عظيمة مليئة بالأسرار، وخلق شعرة منه ـ بخصائصها وأسرارها المختلفة التي اكتشفت بقدرة العلم وتطوره ـ آية عظيمة من آيات الله العظيم.

إنّ وجود آلاف الكيلومترات من العروق والشرايين والأوردة الكبيرة والصغيرة، والأوعية الدموية الصغيرة جدّاً والشعيرات المتناهية في الصغر في بدن الإنسان، وآلاف الكيلومترات من طرق المواصلات وأسلاك الإتصالات في سلسلة الأعصاب، وكيفية ارتباطها واتصالها بمركز القيادة في المخ، والذي هو مزيج فذٌّ من العقد والأسرار، وقوي في الوقت نفسه، وكذلك طريقة عمل كلّ جهاز من أجهزة البدن الداخلية وانسجامها العجيب في مواجهة الأحداث المفاجئة، والدفاع المستميت للقوى المحافظة على البدن ضد هجوم العوامل الخارجية.. كلّ واحد من هذه الأُمور يشكل ـ بحد ذاته ـ آية عظمى من آيات الله سبحانه.

وإذا تجاوزنا الإنسان، فإنّ مئات الآلاف من أنواع الكائنات الحية، ابتداءً من الحيوانات المجهرية وحتى الحيوانات العملاقة، بخصائصها وبناء أجهزتها

[187]

المختلفة تماماً، والتي قد يصرف جمع من العلماء كلّ أعمارهم أحياناً لمطالعة حياة وسلوك نوع واحد منها، ومع أنّ آلاف الكتب قد كتبت حول أسرار هذه المخلوقات، فإنّ ما نعلمه عنها قليل بالنسبة إلى ما نجهله منها.. كلّ واحد من هذه المخلوقات آية بنفسه، ودليل على علم مبدئ الخلقة وحكمته وقدرته اللامتناهية.

لكن، لماذا يعيش جماعة عشرات السنين في ظل هذه الآيات، ويمرون عليها، دون أن يطلعوا حتى على واحدة منها!؟

إنّ سبب ذلك هو ما يقرره القرآن الكريم من أنّ هذه الآيات خاصّة للمؤمنين وطلاب اليقين وأصحاب الفكر والعقل، ولأُولئك الذين فتحوا أبواب قلوبهم لمعرفة الحقيقة، بكلّ وجودهم الظاميء للعلم واليقين ليرتووا من صافي نبعه وفيضه، فلا تعزب عن نظرهم أدنى حركة ولا أصغر موجود، ويفكرون فيه الساعات الطوال، ليجعلوا منه سلماً للإرتقاء إلى الله سبحانه، وسجلاً لمعرفته جلّوعلا، وليذوبوا في مناجاته، وليملؤوا أقداح قلوبهم من خمرة عشقه فينتشوا منها.

وتذكر الآية التالية ثلاث مواهب أُخرى لكلّ منها أثره الهام في حياة الإنسان والكائنات الحية الأُخرى، وكل منها آية من آيات الله تعالى، وهي مواهب «النور» و«الماء» و«الهواء»، فتقول: (واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون).

إنّ نظام «النور والظلمة»، وحدوث الليل والنهار حيث يخلف كلّ منهما الآخر نظام موزون دقيق جدّاً، وهو عجيب في وضعه وسنته وقانونه، فإذا كان النهار دائمياً، أو أطول من اللازم، فسترتفع الحرارة حتى تحترق الكائنات الحية، ولو كان الليل سرمداً، أو طويلاً جدّاً لانجمدت الموجودات من شدّة البرد.

ويحتمل في تفسير الآية أنّ لا يكون المراد من اختلاف الليل والنهار تعاقبهما، بل هو إشارة إلى اختلاف المدة وتفاوت الليل والنهار، في فصول السنة، فيعود

[188]

نفعه على الإنسان من خلال ما ينتج عن هذا الإختلاف من المحاصيل الزراعية المختلفة والنباتات والفواكه، ونزول الثلوج وهطول الأمطار والبركات الأُخرى.

والطريف أنّ العلماء يقولون: بالرغم من التفاوت الشديد بين مناطق الأرض المختلفة من ناحية طول الليل والنهار وقصرهما، فإنّنا إذا حسبنا مجموع أيّام السنة فسنرى أنّ كلّ المناطق تستقبل نفس النسبة من أشعة الشمس تماماً(1).

ثمّ تتناول الحديث في الفقرة الثانية عن الرزق السماوي، أي «المطر» والذي لا كلام في لطافة طبعه ورقته، ولا بحث في قدرته على الإحياء، وبعثه الحياة في كلّ الأرجاء ومنحها الجمال والروعة.

ولم لا يكون كذلك، والماء يشكل الجانب الأكبر والقسم الأساسي من بدن الإنسان، وكثير من الحيوانات الأُخرى، والنباتات؟

ثمّ تتحدث في الفقرة الثالثة عن هبوب الرياح.. تلك الرياح التي تنقل الهواء المليء بالأوكسجين من مكان إلى آخر، وتضعه تحت تصرف الكائنات الحية، وتبعد الهواء الملوث بالكاربون إلى الصحارى والغابات لتصفيته، ثمّ إعادته إلى المدن.

والعجيب أنّ هاتين المجموعتين من الكائنات الحية ـ أي الحيوانات والنباتات ـ متعاكسة في العمل تماماً، فالأولى تأخذ الأوكسجين وتعطي غاز ثاني أوكسيد الكاربون، والثانية على العكس تتنفس ثاني أوكسيد الكاربون وتزفر الأوكسجين، ليقوم التوازن في نظام الحياة، ولكي لا ينفذ مخزون الهواء النقي المفيد من جو الأرض بمرور الزمان.

إنّ هبوب الرياح، إضافة إلى ذلك فانّه يلقح النباتات فيجعلها حاملة للأثمار والمحاصيل، وينقل أنواع البذور إلى الأراضي المختلفة لبذرها هناك، وينمي

____________________________________

1 ـ وردت بحوث مفصلة حول اختلاف الليل والنهار، في سورة البقرة ـ ذيل الآية 164 وفي سورة آل عمران ذيل الآية 190، وفي سورة يونس ذيل الآية 6، وفي ذيل الآية 71 من سورة القصص.

[189]

المراتع الطبيعية والغابات، ويهيج الأمواج المتلاطمة في قلوب المحيطات، ويبعث الحركة والحياة في البحار ويثير أمواجها العظيمة، ويحفظ الماء من التعفن والفساد، وهذه الرياح نفسها هي التي تحرك السفن على وجه المحيطات والبحار وتجريها(1).

والطريف أنّ هذه الآيات تتحدث أوّلاً عن آيات السماء والأرض وتقول في نهاية الآية الأولى: إنّها آيات «للمؤمنين»، ثمّ تتناول الحديث في خلق الكائنات الحية فتقول في نهاية الآية الثانية: إنّها آيات «للموقنين»، وبعد ذلك تتكلم في أنظمة النور والظلمة، والرياح والأمطار، ثمّ تقول: إنّها آيات للذين «يعقلون».

إنّ هذا التفاوت في التعبير لعله بسبب أنّ الإنسان يطوي ثلاث مراحل في سيره الى معرفة الله سبحانه ليصل إلى هدفه، فالأولى مرحلة «التفكر»، والثانية مرحلة «اليقين» والعلم، وبعدها مرحلة «الإيمان» أو ما يسمى بعقد القلب، ولما كان الإيمان أشرف هذه المراحل، ثمّ يأتي بعده اليقين، وفي المرحلة الثالثة يأتي التفكير، فقد وردت هذه المراحل حسب هذا الترتيب في الآيات المذكورة، وإن كانت المراحل من ناحية الوجود الخارجي تبدأ بمرحلة التفكر، ثمّ اليقين، ثمّ الإيمان.

وبتعبير آخر فإنّ أهل الإيمان يرتقون إلى هذه المرحلة من خلال مشاهدة آيات الله سبحانه، أمّا الذين ليسوا منهم فليصلوا إلى مرحلة اليقين أو إلى مرحلة التفكر على أقل التقادير.

وقد ذكر المفسّرون في هذا الباب وجوهاً أُخرى أيضاً، وما قلناه هو الأنسب.

وتقول الآية الأخيرة، إجمالاً للبحوث الماضية، وتبياناً لعظمة آيات القرآن وأهميتها: (تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق).

هل أنّ كلمة «تلك» إشارة إلى آيات القرآن، أم إلى آيات الله والعلامات الدالة

____________________________________

1 ـ لقد وردت بحوث مفصلة حول آثار الرياح والأمطار في ذيل الآيات 46 ـ 50 من سورة الروم.

[190]

عليه في الآفاق والأنفس، والتي مرّت الإشارة إليها في الآيات السابقة؟

كلٌّ محتمل، إلاّ أنّ الظاهر هو أنّ المراد الآيات القرآنية بقرينة التعبير بالتلاوة، غاية مافي الأمر أنّ هذه الآيات القرآنية آيات الله سبحانه في كلّ عالم الوجود، وعلى هذا فيمكن الجمع بين التّفسيرين (فتأمل!).

وعلى أية حال، فإنّ (التلاوة) من مادة (تلو) أي الإتيان بالكلام بعد الكلام متعاقباً، وبناء على هذا فإنّ تلاوة آيات القرآن تعني قراءتها بصورة متوالية متعاقبة.

والتعبير بالحق إشارة إلى محتوى هذه الآيات، وهو أيضاً إشارة إلى كون نبوّة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والوحي الإلهي حقّاً. وبعبارة أُخرى، فإنّ هذه الآيات بليغة معبرة تضمنت في طياتها الإستدلال على حقانيتها وحقانية من جاءها.

وحقّاً إذا لم يؤمن هؤلاء بهذه الآيات فبأي شيء سوف يؤمنون؟ ولذلك تعقب الآية: (فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون)(1).

وعلى قول «الطبرسي» في مجمع البيان، فإنّ الحديث إشارة إلى قصص الأقوام الماضين، وأحداثهم التي تبعث على الإعتبار بهم، في حين أنّ الآيات تقال للدلائل التي تميز الحق من الباطل والصحيح من السقيم، وآيات القرآن المجيد تتحدث عن الإثنين معاً.

حقاً إنّ للقرآن الكريم محتوى عميقاً من ناحية الإستدلال والبراهين على التوحيد، وكذلك فهو يحتوي على مواعظ وإرشادات تجذب العباد إلى الله سبحانه حتى القلوب التي لها أدنى استعداد ـ أو أرضية صالحة ـ، وتدعو كلّ مرتبط بالحق الى الطهارة والتقوى، فإذا لم تؤثر هذه الآيات البينات في أحد فلا أمل في هدايته بعد ذلك.

* * *

____________________________________

1 ـ للتعبير بـ(بعد الله) محذوف، والتقدير: فبأي حديث بعد حديث الله.

[191]

الآيات

وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاك أَثِيم( 7 ) يَسْمَعُ آيَـتِ اللهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَن لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَاب أَلِيم( 8 ) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَـتِنَا شَيْئاً اتَّخَذَهَا هُزُواً أُولَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ( 9 ) مِن وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يُغْنِى عَنْهُم مَا كَسَبُواْ شَيْئاً وَلاَ مَا اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ( 10 )

 

التّفسير

ويل لكلّ أفاك أثيم:

رسمت الآيات السابقة صورة عن فريق يسمعون كلام الله مدعماً بمختلف أدلة التوحيد والمواعظ والإرشاد، فلا يترك أثراً في قلوبهم القاسية.

أمّا هذه الآيات فتتناول بالتفصيل عواقب أعمال هذا الفريق، فتقول: أوّلاً: (ويل لكل أفاك أثيم).

«الأفاك» صيغة مبالغة، وهي تعني الشخص الذي يكثر الكذب جدّاً، وتقال أحياناً لمن يكذب كذبة عظيمة حتى وإن لم يكثر من الكذب.

[192]

و«الأثيم» من مادة إثم، أي المجرم والعاصي، وتعطي أيضاً صفة المبالغة.

ويتّضح من هذه الآية جيداً أنّ الذين يقفون موقف الخصم العنيد المتعصب أمام آيات الله سبحانه هم الذين غمرت المعصية كيانهم، فانغمسوا في الذنوب والآثام والكذب، لا أُولئك الصادقون الطاهرون، فإنّهم يذعنون لها لطهارتهم ونقاء سريرتهم.

ثمّ تشير الآية التالية إلى كيفية اتخاذهم لموضع الخصام هذا، فتقول: (يسمع آيات الله تتلى عليه ثمّ يصر مستكبراً كأن لم يسمعها)(1) ولهذا فإنّه بحكم تلوثه بالذنب والكذب، والغرور والكبر والعجب، يمر كأن لم يسمع كلّ هذه الآيات، وكأنه أصم أو أنّه يعتبر نفسه كذلك، كما ورد لك في الآية (7) من سورة لقمان: (وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبراً كأن لم يسمعها كأنّ في أذنيه وقراً).

وتهدده الآية في نهايتها بالعذاب الشديد، فتقول: (فبشره بعذاب أليم)فكما أنّه آذى قلب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين وآلمهم، فإنّنا سنبتليه بعذاب أليم أيضاً، لأنّ عذاب القيامة تجسم لأعمال البشر في الحياة الدنيا.

وبالرغم من أنّ بعض المفسّرين ذكر سبب نزول لهذه الآية والآية التي تليها، واعتبروهما إشارة إلى أبي جهل أو النظر بن الحارث، ذلك أنّهم كانوا قد جمعوا قصصاً وأساطير من العجم ليلهوا بها الناس ويصرفوهم عن دين الحق.

لكن من الواضح أنّ هذه الآية لا تختص بهم، بل ولا بمشركي العرب أيضاً، فهي تشمل كلّ المجرمين الكاذبين المستكبرين في كلّ عصر وزمان، وكلّ الذين يصرون كأن لم يسمعوا آيات الله سبحانه ونداءات الأنبياء وكلمات الأئمّة والعظماء، لأنّها لا تنسجم مع شهواتهم وميولهم ورغباتهم المنحرفة، ولا تؤيد أفكارهم الشيطانية، ولا توافق عاداتهم الخاطئة وأعرافهم البالية وتقاليدهم العمياء.

____________________________________

1 ـ يمكن أن تكون عبادة (يسمع آيات الله) جملة مستأنفة، أو هي وصف آخر لـ (كل).

[193]

نعم، بشّر كلّ أولئك بالعذاب الأليم.

ولما كان العذاب لا ينسجم مع البشارة، فإنّ هذا التعبير ورد من باب السخرية والإستهزاء.

ثمّ تضيف الآية التي بعدها: (وإذا علم من آياتنا شيئاً اتخذها هزواً)(1).

في الحقيقة، توجد لدى هؤلاء الجاهلين الأنانيين حالتان:

الأولى: أنّهم غالباً ما يسمعون آيات الله فلا يعبؤون بها، ويمرون عليها دون اهتمام وتعظيم، فكأنّهم لم يسمعوها أيضاً.

والأُخرى: أنّهم إذا سمعوها وأرادوا أن يهتموا بها، فليس لهم من رد فعل إزاءها إلاّ الاستهزاء والسخرية. وكلهم مشتركون في هاتين الحالتين، فمرّة هذه، وأُخرى تلك، وبناء على هذا فلا تعارض بين هذه الآية والتي قبلها.

والطريف أنّها تقول أوّلاً: (وإذا علم من آياتنا شيئاً) ثمّ لا تقول: إنّه يستهزيء فيما بعد بما علم، بل تقول: إنّه يتخذ كلّ آياتنا هزواً، سواء التي علمها والتي لم يعلمها، وغاية الجهل أن ينكر الإنسان شيئاً أو يستهزيء به وهو لم يفهمه أصلاً، وهذا خير دليل على عناد أُولئك وتعصبهم.

ثمّ تصف الآية عقاب هؤلاء في النهاية فتقول: (أُولئك لهم عذاب مهين) ولم لا يكون الأمر كذلك، فإنّ هؤلاء كانوا يريدون أن يضفوا على أنفسهم الهيبة والعزة والمكانة الإجتماعية من خلال الإستهزاء بآيات الله سبحانه، إلاّ أنّ الله تعالى سيجعل عقابهم تحقيرهم ومذلتهم وهوانهم، ويبتليهم بعذاب القيامة المهين المذل، فيسحبون على وجوههم مصفَّدين مكبَّلين ثمّ يرمون على تلك الحال في جهنم، ويلاحقهم مع ذلك تقريع ملائكة العذاب وسخريتهم.

ومن هنا يتّضح لماذا وصف العذاب بالأليم في الآية السابقة، وبالمهين هنا،

____________________________________

1 ـ ينبغي الإلتفات إلى أنّ ضمير (اتخذها) لا يعود على (شيئاً)، بل على (آياتنا).

[194]

وبالعظيم في الآية التالية، فكلّ منها يناسب نوعية جرم هؤلاء وكيفيته.

وتوضح الآية التالية العذاب المهين، فتقول: (من ورائهم جهنّم).

إن التعبير بالوراء مع أنّ جهنّم أمامهم وسيصلونها في المستقبل، يمكن أن يكون ناظراً إلى أنّ هؤلاء قد أقبلوا على الدنيا ونبذوا الآخرة والعذاب وراء ظهورهم، وهو تعبير مألوف، إذ يقال للإنسان إذا لم يهتم بأمر، تركه وراء ظهره، والقرآن الكريم يقول: (إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوماً ثقيلاً)(1).

وقال جمع من المفسّرين أيضاً: إنّ كلمة (وراء) من مادة المواراة، وتقال لكلّ شيء خفي على الإنسان وحجب عنه، سواء كان خلفه ولا يراه، أم أمامه لكنّه بعيد لا يراه، وعلى هذا فإنّ لكلمة (وراء) معنى جامعاً يطلق على مصداقين متضادين(2).

وليس ببعيد إذا قلنا: إنّ التعبير بالوراء إشارة إلى مسألة العلة والمعلول، فمثلاً نقول: إذا تناولت الغذاء الفلاني غير الجيد فستمرض بعد ذلك، أي إنّ تناول الغذاء يكون علة لذلك المرض، وهنا أيضاً تكون أعمال هؤلاء علة لعذاب الجحيم المهين.

وعلى أية حال، فإنّ الآية تضيف مواصلةً الحديث أنّ هؤلاء إن كانوا يظنون أنّ أموالهم الطائلة وآلهتهم التي ابتدعوها ستحل شيئاً من أثقالهم، وأنّها ستغني عنهم من الله شيئاً، فإنّهم قد وقعوا في اشتباه عظيم، حيث: (ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئاً ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء).

ولما لم يكن هناك سبيل نجاة وفرار من هذا المصير، فإنّ هؤلاء يجب أن يبقوا في عذاب الله ونار غضبه: (ولهم عذاب عظيم).

____________________________________

1 ـ سورة الدهر، الآية 27.

2 ـ قال البعض أيضاً: إنّ كلمة (وراء) إنّ أضيفت إلى الفاعل أعطت معنى الوراء، وإن أضيفت إلى المفعول أعطت معنى الأمام. روح البيان، المجلد 8، صفحة 439. لكن لا دليل على هذا المدعى.

[195]

ولقد استصغر هؤلاء آيات الله سبحانه، ولذلك سيعظم الله عذابهم، وقد اغتر هؤلاء وتفاخروا فألقاهم الله في العذاب الأليم!

إن هذا العذاب عظيم من كلّ الجهات، فهو عظيم في خلوده، وشدته، وباقترانه بالتحقير والإهانة، وعظيم في نفوذه إلى نخاع وقلوب المجرمين..

نعم.. إنّ الذنب العظيم، أمام الله العظيم، لا يكون جزاؤه إلاّ العذاب العظيم.

 

* * *

 

[196]

الآيات

هذَا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَـتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِن رِجْز أَلِيمٌ( 11 ) اللهُ الَّذِى سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِىَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ( 12 ) وَسَخَّرَ لَكُم مَا فِى السَّمـوَاتِ وَمَا فِى الاَْرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِى ذلِكَ لاَيَـت لِقَوْم يَتَفَكَّرُونَ( 13 ) قُل لِلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ لِيَجْزِىَ قَوْمَاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ( 14 ) مَنْ عَمِلَ صَـلِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ( 15 )

 

التّفسير

كل شيء مسخر للإنسان:

مواصلة للبحوث التي وردت في الآيات السابقة حول عظمة آيات الله، تتناول هذه الآيات نفس الموضوع، فتقول: (هذا هدى) فهو يميز بين الحق والباطل، ويضيء حياة الإنسان، ويأخذ بيد سالكي طريق الحق ليوصلهم إلى هدفهم

[197]

ومنزلهم المقصود، لكن: (والذين كفروا بآيات ربهم لهم عذاب من رجز أليم).

«الرجز» يعني الإضطراب والإهتزاز وعدم الإنتظار، كما يقول الراغب في مفرداته، وتقول العرب: رجز البعير إذا تقاربت خطواته واضطرب لضعف فيه.

وتطلق هذه الكلمة أيضاً على مرض الطاعون والإبتلاءات الصعبة، أو العواصف الثلجية الشديدة، والوساوس الشيطانية وأمثال ذلك، لأنّ كلّ هذه الأُمور تبعث على الإضطراب والتزلزل وعدم الإنتظام والإنضباط، وإنّما يقال لأشعار الحرب (رجز) لأنّها مقاطع قصيرة متقاربة، أو لأنّها تلقي الرعب والإضطراب بين صفوف الأعداء.

ثمّ تحول زمام الحديث إلى بحث التوحيد الذي مرّ ذكره في الآيات الأولى لهذه السورة، فتعطي المشركين دروساً بليغة مؤثرة في توحيد الله سبحانه ومعرفته.

فتارة تدغدغ عواطفهم، وتقول: (الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون).

من الذي أودع في مادة السفن الأصلية خاصية الطفو على الماء وعدم الغطس؟ ومن الذي جعل الماء فراشاً ناعماً حركتها حتى استطاعت أن تسير فيه بكلّ سهولة ويسر؟ ومن الذي أمر الرياح أن تمرّ على سطح المحيطات بصورة منتظمة لتحرك السفن وتسيرها؟ أو يحل قوّة البخار محل الهواء ليزيد من سرعة هذه السفن العظيمة؟

نحن نعلم أنّ أكبر وسائط نقل الإنسان وأهمها في الماضي والحاضر هي السفن الصغيرة والكبيرة، والتي تنقل على مدار السنة ملايين البشر، وأكثر من ذلك البضائع التجارية من أقصى نقاط العالم إلى المناطق المختلفة، وقد تكون السفن أحياناً بسعة مدينة صغيرة، وسكانها بعدد سكانها، وهي مجهزة بمختلف الوسائل والأموال.

[198]

حقاً لو لم تكن هذه القوى الثلاث، أفيكون بمقدور الإنسان أن يحل مشاكل حمله ونقله بواسطة المراكب العادية البسيطة؟ حتى هذه المراكب والوسائط البسيطة هي بحدّ ذاتها من نعمه سبحانه، وهي فعالة في مجالها.

والطريف أنّ الآية (32) من سورة إبراهيم تقول: (وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره) أمّا هنا فإنّ الآية تقول: (سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه) لأنّ التأكيد هناك كان على تسخير البحار، ولذلك اتبعتها بقولها: (وسخر لكم الأنهار)أمّا هنا فإن الآية ناظرة إلى تسخير الفلك، وعلى أية حال، فإنّهما معاً مسخران للإنسان بأمر الله سبحانه، وهما في خدمته.

إنّ الهدف من هذا التسخير هو أن تبتغوا من فضل الله، وهذا التعبير يأتي عادة في مورد التجارة والنشاطات الإقتصادية، ومن الطبيعي أنّ نقل المسافرين من مكان الى آخر في ضمن هذا التسخير.

والهدف من الإستفادة من فضل الله هو إثارة حس الشكر لدى البشر، لتعبئة عواطفهم لأداء شكر المنعم، وبعد ذلك يسيرون في طريق معرفة الله سبحانه.

كلمة «الفلك» ـ وكما قلنا سابقاً ـ تستعمل للمفرد والجمع.

ولمزيد من التفصيل حول تسخير البحار والفلك، ومنافعها وبركاتها، راجعوا ذيل الآية (14) سورة النحل.

بعد بيان السفن التي لها تماس مباشر بحياة البشر اليومية، تطرقت الآية التي بعدها إلى مسألة تسخير سائر الموجودات بصورة عامة، فتقول: (وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه).

فقد كرّمكم إلى درجة أنّ سخر لكم كلّ موجودات العالم، وجعلها في خدمتكم ولتأمين مصالحكم ومنافعكم، فالشمس والقمر، والرياح والمطر، والجبال والوديان، والغابات والصحاري، والنباتات والحيوانات، والمعادن والمنابع الغنية التي تحت الأرض، وبالجملة فإنّه أمر كلّ هذه الموجودات أن تكون في خدمتكم،

[199]

ومطيعة لأمركم، ومنفذة لإرادتكم، لتتمتعوا بنعمه ومواهبه سبحانه، ولا تذهلوا في سكرة الغفلة عنه.

ومما يستحق الإنتباه أنّه يقول: (جميعاً منه)(1) فإذا كانت كلّ النعم منه، وهو خالقها وربها ومدبرها جميعاً، فلماذا يعرض الإنسان عنه ويلجأ إلى غيره، ويتسكع على أعتاب المخلوقات الضعيفة، ويبقى في غفلة وذهول عن المنعم الحقيقي عليه؟ ولذلك تضيف الآية في النهاية: (إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون).

لقد كانت الآية السابقة تلامس عاطفة الإنسان وتحاول إثارتها، وهنا تحاول هذه الآية تحريك عقل الإنسان وفكره، فما أعظم رحمة ربّنا سبحانه!! إنّه يتحدث مع عباده بكلّ لسان وأسلوب يمكن أن يطبع أثره، فمرّة بحديث القلب، وأُخرى بلسان الفكر، والهدف واحد من كلّ ذلك، ألا وهو إيقاظ الغافلين ودفعهم إلى سلوك السبيل القويم.

وقد أوردنا بحثاً مفصلاً حول تسخير مختلف موجودات العالم في ذيل الآيات 31 ـ 33 من سورة إبراهيم.

ثمّ تطرقت الآية التالية إلى ذكر قانون أخلاقي يحدد كيفية التعامل مع الكفار لتكمل أبحاثها المنطقية السابقة عن هذا الطريق، فحولت الخطاب إلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وقالت: (قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيّام الله).

فمن الممكن أن تكون معاملة هؤلاء قاسية، وتعبيراتهم خشنة غير مؤدبة، وألفاظهم بذيئة، وذلك لبعدهم عن مبادئ الإيمان وأسس التربية الإلهية، غير أنّ عليكم أن تقابلوهم بكلّ رحابة صدر لئلا يصروا على كفرهم ويزيدوا في تعصبهم،

____________________________________

1 ـ ثمّة احتمالات عديدة في إعراب (جميعاً منه) وتركيبها، فقد احتمل الزمخشري في الكشاف احتمالين: الأول: إنّ (جميعاً منه) حال لـ(ما في السموات وما في الأرض) أي إنّها جميعاً مسخرة لكم لكنّها منه سبحانه. والآخر: إنّه خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير: هي منه جميعاً.

واحتمل البعض أيضاً أن تكون تأكيداً لـ (ما في السموات وما في الأرض).

[200]

فتبعد المسافة بينهم وبين الحق.

إنّ حسن الخلق والصفح ورحابة الصدر يقلل من ضغوط هؤلاء وعدائهم من جهة، كما أنّه يمكن أن يكون عاملاً لجذبهم إلى الإيمان وإقبالهم عليه.

وقد ورد نظير هذا الأمر الأخلاقي كثيراً في القرآن الكريم كقوله تعالى: (فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون)(1)

إنّ التصلب في التعامل مع الجاهلين والإصرار على عقوبتهم لا يثمر في العادة، بل إن تجاهلهم والإعتزاز بالنفس أمامهم هو الأُسلوب الناجح في إيقاظهم، وهو عامل مؤثر في هدايتهم.

وليس هذا قانوناً عاماً بالطبع، إذ لا يمكن إنكار وجود حالات لا يمكن معالجتها ومواجهتها إلاّ بالغلظة والشدّة، غير أنّها قليلة.

والنكتة الأُخرى هنا أنّ كلّ الأيّام هي أيّام الله، إلاّ أنّ (أيّام الله) قد أُطلقت على أيّام خاصّة، للدلالة على عظمتها وأهميتها.

لقد ورد هذا التعبير في موضعين من القرآن المجيد: أحدهما في هذه الآية، والآخر في سورة إبراهيم، وله هناك معنىً أوسع وأشمل.

وقد فسّرت «أيّام» في الرّوايات الإسلامية بتفاسير مختلفة، ومن جملتها ما ورد في تفسير علي بن إبراهيم بأنّ أيّام الله ثلاثة: يوم قيام المهدي، ويوم الموت، ويوم القيامة(2).

ونقرأ في حديث آخر عن النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلّم): «أيام الله نعماؤه وبلاؤه ببلائه»(3).

وعلى أية حال، فإنّ هذا التعبير يبين أهمية يوم القيامة، يوم تجلي حاكمية الله

____________________________________

1 ـ سورة الزخرف، الآية 89.

2 ـ تفسير نور الثقلين، المجلد 2، صفحة 526.

3 ـ المصدر السابق.

[201]

تعالى على كلّ فرد، وعلى كلّ شيء، وهو يوم العدل والقانون والمحكمة الكبرى.

لكن، ومن أجل أنّ لا يستغل مثل هؤلاء الأفراد هذا الصفح الجميل والعفو والتسامي، فقد أضافت الآية: (ليجزي قوماً بما كانوا يكسبون).

لقد اعتبر بعض المفسّرين هذه الجملة تهديداً للكفار والمجرمين، في حين أنّ البعض الآخر اعتبرها بشارة للمؤمنين لهذا العفو والصفح. لكن لا مانع من أن تكون تهديداً لتلك الفئة من جانب، وبشارة لهذه الجماعة من جانب آخر، كما أشير إلى هذا المعنى في الآية التالية أيضاً.

تقول الآية: (من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها ثمّ إلى ربّكم ترجعون).

إن هذا التعبير الذي ورد في القرآن الكريم مراراً، وبعبارات مختلفة، يشكل جواباً لمن يقول: ماذا يضر عصياننا الله تعالى، وما تنفعه طاعتنا؟ ولماذا هذا الإصرار على طاعة أوامره والإنتهاء عن معاصيه؟

فتقول هذه الآيات: إنّ كلّ ضرر ذلك وكلّ نفعه يعود عليكم، فأنتم الذين تسلكون مراقي الكمال في ظل الأعمال الصالحة، وتحلقون إلى سماء قرب الله عزَّ وجلّ، كما أنّكم أنتم الذين تهوون إلى الحضيض نتيجة ارتكابكم الآثام والمعاصي، فتبتعدون عن الله عزَّ وجلَّ وتستحقون بذلك اللعنة الأبدية.

إن كلّ أمور التكليف، وإرسال الرسل، وإنزال الكتب تهدف إلى هذا المراد السامي، ولذلك يقرر القرآن الحكيم (ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإنّ الله غني حميد)(1)

ويقول في موضع آخر: (فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها)(2)

ونقرأ في موضع ثالث: (ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه والى الله المصير)(3)

____________________________________

1 ـ لقمان، الآية 12.

2 ـ الزمر، الآية 41.

3 ـ فاطر، الآية 18.

[202]

وخلاصة القول: إنّ أمثال هذه التعابير تبين حقيقة أنّ دعوة الداعين إلى الله سبحانه خدمة للبشر في جميع أبعادها، وليست خدمة لله الغني عن كلّ شيء، ولا لأنبيائه الذين أجرهم على الله فقط.

إنّ الإنتباه إلى هذه الحقيقة يعدّ عاملاً مهماً في السير نحو طاعة الله سبحانه، والإبتعاد عن معصيته.

 

* * *

 

[203]

الآيات

وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ الْكِتَـبَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَـهُم مِنَ الطَّيِّبَـتِ وَفَضَّلْنَـهُمْ عَلَى الْعَـلَمِينَ( 16 ) وَآتَيْنَـهُمُ بَيِّنَـت مِنَ الاَْمْرِ فَمَا اخْتَلَفُواْ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَـمَةِ فِيَما كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ( 17 ) ثُمَّ جَعَلْنَـكَ عَلَى شَرِيعَة مِنَ الاَْمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ( 18 ) إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّـلِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْض وَاللهُ وَلِىُّ الْمُتَّقِينَ( 19 ) هـذَا بَصَـئِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْم يُوقِنُونَ( 20 )

 

التّفسير

آتينا بني إسرائيل كلّ ذلك، ولكن...

متابعة للبحوث التي وردت في الآيات السابقة حول نعم الله المختلفة وشكرها والعمل الصالح، تتناول هذه الآيات نموذجاً من حياة بعض الأقوام الماضين

[204]

الذين غمرتهم نعم الله سبحانه، إلاّ أنّهم كفروا بها ولم يرعوها حق رعايتها.

تقول الآية الأولى: (ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوّة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين).

تبيّن هذه الآية في مجموعها خمس نعم أنعم الله بها على بني إسرائيل، وبالإضافة إلى النعمة الأُخرى التي سيأتي ذكرها في الآية التالية تشكل ست نعم عظيمة.

النعمة الأولى هي الكتاب السماوي، أي التوراة التي كانت مبينة للمعارف الدينية والحلال والحرام، وطريق الهداية والسعادة.

والثانية مقام الحكومة والقضاء، لأنا نعلم أنّهم كانوا يمتلكون حكومة قوية مترامية الأطراف، فلم يكن داود وسليمان وحدهما حاكمين وحسب، بل إنّ كثيراً من بني إسرائيل قد تسلموا زمام الأُمور في زمانهم وعصورهم.

«الحكم» في التعبيرات القرآنية يعني عادة القضاء والحكومة، لكن لما كان مقام القضاء يشكل جزءً من برنامج الحكومة دائماً، ولايمكن للقاضي أن يؤدي واجبه من دون حماية الدولة وقوّتها، فإنّه يدل دلالة إلتزامية على مسألة التصدي وتسلم زمام الأُمور.

ونقرأ في الآية (44) من سورة المائدة في شأن التوراة: (يحكم بها النبيّون الذين أسلموا).

أمّا النعمة الثالثة فقد كانت نعمة مقام النبوّة، حيث اصطفى الله سبحانه أنبياء كثيرين من بني إسرائيل.

وقد ورد في رواية أنّ عدد أنبياء بني إسرائيل بلغ ألف نبي(1)، وفي رواية أخرى: إن عدد أنبياء بني إسرائيل أربعة آلاف نبي(2).

____________________________________

1 ـ مجمع البيان، المجلد 9، صفحة 75.

2 ـ بحار الأنوار، الطبعة الجديدة، المجلد 11، صفحة 31.

[205]

وكل هذه كانت مواهب ونعماً من الله سبحانه.

وتتحدث الآية في الفقرة الرابعة حديثاً جامعاً شاملاً عن المواهب المادية، فتقول: (ورزقناهم من الطيبات).

النعمة الخامسة، هي تفوقهم وقوّتهم التي لا ينازعهم فيها أحد، كما توضح الآية ذلك في ختامها فتضيف: (وفضلناهم على العالمين).

لاشك أنّ المراد من «العالمين» هنا هم سكان ذلك العصر، لأنّ الآية (110) من سورة آل عمران تقول بصراحة: (كنتم خير أُمّة أُخرجت للناس).

وكذلك نعلم أنّ الرّسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) هو أشرف الأنبياء وسيدهم، وبناء على هذا فإنّ أمته أيضاً تكون خير الأمم، كما ورد ذلك في الآية (89) من سورة النحل: (ويوم نبعث في كلّ أمة شهيداً عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيداً على هؤلاء).

وتشير الآية التالية إلى الموهبة السادسة التي منحها الله سبحانه لهؤلاء المنكرين للجميل، فتقول: (وآتيناهم بينات من الأمر).

«البينات» يمكن أن تكون إشارة إلى المعجزات الواضحة التي أعطاها الله سبحانه موسى بن عمران(عليه السلام) وسائر أنبياء بني إسرائيل، أو أنّها إشارة إلى الدلائل والبراهين المنطقية الواضحة، والقوانين والأحكام المتقنة الدقيقة.

وقد احتمل بعض المفسّرين أن يكون هذا التعبير إشارة إلى العلامات الواضحة التي تتعلق بنبي الإسلام(صلى الله عليه وآله وسلم)، والتي علمها هؤلاء، وكان باستطاعتهم أن يعرفوا نبي الإسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) من خلالها كمعرفتهم بأبنائهم: (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم)(1).

لكن لا مانع من أن تكون كلّ هذه المعاني مجتمعة في الآية.

وعلى أية حال، فمع وجود هذه المواهب والنعم العظيمة، والدلائل البينة الواضحة لا يبقى مجال للإختلاف، إلاّ أنّ الكافرين بالنعم هؤلاء ما لبثوا أنّ

____________________________________

1 ـ البقرة، الآية 146.

[206]

اختلفوا، كما يصور القرآن الكريم ذلك في تتمة هذه الآية إذ يقول: (فما اختلفوا إلاّ من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم).

نعم، لقد رفع هؤلاء راية الطغيان، وأنشبت كلّ جماعة أظفارها في جسد جماعة أخرى، واتخذوا حتى عوامل الوحدة والأُلفة والإنسجام سبباً للاختلاف والتباغض والشحناء، وتنازعوا أمرهم بينهم فذهبت ريحهم وضعفت قوتهم، وأفل نجم عظمتهم، فزالت دولتهم، وأصبحوا مشردين في بقاع الأرض ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا.

وقال البعض: إنّ المراد هو الإختلاف الذي وقع بينهم بعد علمهم واطلاعهم الكافي على صفات نبيّ الإسلام(صلى الله عليه وآله وسلم).

ويهددهم القرآن الكريم في نهاية الآية بقوله: (إن ربّك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) وبهذا فقد فقدوا قوتهم وعظمتهم في هذه الدنيا بكفرانهم النعمة، واختلافهم فيما بينهم، واشتروا لأنفسهم عذاب الآخرة.

بعد بيان المواهب التي منّ الله تعالى بها على بني إسرائيل، وكفرانها من قبلهم، ورد الحديث عن موهبة عظيمة أهداها الله سبحانه لنبيّ الإسلام(صلى الله عليه وآله وسلم)والمسلمين، فقالت الآية: (ثمّ جعلناك على شريعة من الأمر).

«الشريعة» تعني الطريق التي تستحدث للوصول إلى الماء الموجود عند ضفاف الأنهر التي يكون مستوى الماء فيها أخفض من الساحل، ثمّ أطلقت على كلّ طريق يوصل الإنسان إلى هدفه ومقصوده.

إن استعمال هذا التعبير في مورد دين الحق، بسبب أنّه يوصل الإنسان إلى مصدر الوحي ورضى الله سبحانه، والسعادة الخالدة التي هي بمثابة الماء للحياة المعنوية.

لقد استعملت هذه الكلمة مرّة واحدة في القرآن الكريم، وفي شأن الإسلام فقط.

[207]

والمراد من «الأمر» هنا هو دين الحق الذي مرّت الإشارة إليه في الآية السابقة أيضاً، حيث قالت: (بينات من الأمر).

ولما كان هذا المسير مسير النجاة والنصر، فإنّ الله سبحانه يأمر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)بعد ذلك أنّ (فاتبعها).

وكذلك لما كانت النقطة المقابلة ليس إلاّ اتباع أهواء الجاهلين ورغباتهم، فإنّ الآية تضيف في النهاية: (ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون).

في الحقيقة، لا يوجد إلاّ طريقان: طريق الأنبياء والوحي، وطريق أهواء الجاهلين وميولهم، فإذا ولّى الإنسان دبره للأوّل فسيقع في الثّاني، وإذا توجه الإنسان إلى ذلك السبيل فسينفصل عن خط الأنبياء ويبتعد عنهم، وبذلك فإنّ القرآن أبطل كلّ البرامج الإصلاحية التي لا تستمد تعليماتها من مصدر الوحي الإلهي.

والجدير بالإنتباه أنّ بعض المفسّرين قالوا: إنّ رؤساء قريش أتوا النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وقالوا: ارجع إلى دين آبائك، فإنّهم كانوا أفضل منك وأسلم. وكان النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لا يزال في مكّة، فنزلت الآية أعلاه(1) وأجابتهم بأن طريق الوصول إلى الحق هو الوحي السماوي الذي نزل عليك، لا ما يمليه هوى هؤلاء الجاهلين ورغبتهم.

لقد كان القادة المخلصون يواجهون دائماً وساوس الجاهلين هذه عندما يأتون بدين جديد ويطرحون أفكاراً بناءة طاهرة، فقد كان الجهال يطرحون عليهم: أأنتم أعلم أم الآباء السابقون والعظماء الذين جاؤوا قبلكم؟ وكانوا يصرون على الإستمرار في ذلك الطريق، وإذا كان مثل هذا الإقتراح يمكن أن ينزل إلى حيز التطبيق والواقع العملي، فليس بوسع الإنسان أن يخطو خطوة في طريق التكامل.

وتعتبر الآية التالية تبياناً لعلة النهي عن الإستسلام أمام مقترحات المشركين وقبول طلباتهم، فتقول: ( إنّهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً) فإذا ما اتبعت دينهم

____________________________________

1 ـ التفسير الكبير للفخر الرازي، المجلد 27، صفحة 265.

[208]

الباطل فأحاط بك عذاب الله تعالى فإنّهم عاجزون عن أن يهبوا لنجدتك وإنقاذك، ولو أنّ الله سبحانه سلب منك نعمة فإنّهم غير قادرين على إرجاعها إليك.

ومع أنّ الخطاب في هذه الآيات موجه إلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)إلاّ أنّ المراد منه جميع المؤمنين.

ثمّ تضيف الآية: (وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض) فكلهم من جنس واحد، ويسلكون نفس المسير، ونسجهم واحد، وكلهم ضعفاء عاجزون.

لكن لا تذهب بك الظنون بأنك وحيد، ومن معك قليل ولا ناصر لكم ولا معين، بل: (والله ولي المتقين).

صحيح أنّ جمع هؤلاء عظيم في الظاهر، وفي أيديهم الأموال الطائلة والإمكانيات الهائلة، لكن كلّ ذلك لا يعتبر إلاّ ذرة عديمة القيمة إزاء قدرة الله التي لا تقهر، وخزائنه التي لا تفنى.

وكتأكيد لما مرّ، ودعوة إلى اتباع دين الله القويم، تقول آخر آية من هذه الآيات: (هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون).

«البصائر» جمع بصيرة، وهي النظر، ومع أنّ هذه اللفظة أكثر ما تستعمل في وجهات النظر الفكرية والنظريات العقلية، إلاّ أنّها تطلق على كلّ الأُمور التي هي أساس فهم المعاني وإدراكها.

والطريف أنّها تقول: إنّ هذا القرآن والشريعة بصائر، أي عين البصيرة، ثمّ أنّها ليست، بصيرة، بل بصائر، ولا تقتصر على بعد واحد، بل تعطي الإنسان الأفكار والنظريات الصحيحة في كافة مجالات حياته.

وقد ورد نظير هذا التعبير في آيات أُخرى من القرآن الكريم، كالآية (104) من سورة الأنعام، حيث تقول: (قد جاءكم بصائر من ربكم).

وقد طرحت هنا في هذه الآية ثلاثة مواضيع: البصائر والهدى والرحمة، وهي حسب التسلسل علة ومعلول لبعضها البعض، فإنّ الآيات الواضحة والشريعة

[209]

المبصّرة تدفع الإنسان نحو الهداية، والهداية بدورها أساس رحمة الله.

والجميل في الأمر أنّ الآية تذكر أنّ البصائر لعامة الناس، أمّا الهدى والرحمة فخصت الموقنين بهما، ويجب أن يكون الأمر كذلك، لأنّ آيات القرآن ليست مقصورة على قوم بالخصوص، بل يشترك فيها كلّ البشر الذين دخلوا في كلمة (الناس) في كلّ زمان ومكان، غير أنّ من الطبيعي أن يكون الهدى فرع اليقين، وأن تكون الرحمة وليدته، فلا تشمل الجميع حينئذ.

وعلى أية حال، فإنّ ما تقوله الآية من أنّ القرآن عين البصيرة، وعين الهداية والرحمة، تعبير جميل يعبر عن عظمة هذا الكتاب السماوي وتأثيره وعمقه بالنسبة لأُولئك السالكين طريقه، والباحثين عن الحقيقة.

 

* * *

 

[210]

الآيات

أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُواْ السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّـلِحَـتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ( 21 ) وَخَلَقَ الله السَّمـوَاتِ وَالاَْرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْس بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ( 22 ) أَفَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلـهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْم وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَـوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ( 23 )

 

التّفسير

ليسوا سواءً محياهم ومماتهم:

متابعة للآيات السابقة التي كان الكلام فيها يدور حول فئتين هما: المؤمنون والكافرون، أو المتقون والمجرمون، فإنّ أولى هذه الآيات قد جمعتهما في مقارنة أصولية بينهما، فقالت: (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أنّ نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون).

هل يمكن أن يتساوى النور والظلمة، والعلم والجهل، والحسن والقبيح،

[211]

والإيمان والكفر؟

هل يمكن أن تكون نتيجة هذه الأُمور غير المتساوية متساوية؟

كلا، فإنّ الأمر ليس كذلك، إذ المؤمنون ذوو الأعمال الصالحات يختلفون عن المجرمين الكافرين، ويفترقون عنهم في كلّ شيء، إذ أنّ كلا من الإيمان والكفر، والعمل الصالح والطالح، يصبغ كلَّ الحياة بلونه.

وهذه الآية نظير الآية (28) من سورة ص، حيث تقول: (أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار

أو كالآيتين 35، 36، من سورة القلم حيث: (أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون

«اجترحوا» في الأصل من الجرح الذي يصيب بدن الإنسان أثر مرض ضرر، ولما كان ارتكاب الذنب والمعصية كأنّما يجرح روح المذنب، فقد استعملت كلمة الإجتراح بمعنى ارتكاب الذنب، وتستعمل أحياناً بمعنى أوسع يدخل فيه كلّ اكتساب. وإنّما يقال لأعضاء البدن: جوارح، لأنّ الإنسان يحقق مقاصده ورغباته بواسطتها، ويحصل على ما يريد، ويكتسب ما يشاء بواسطتها.

وعلى أية حال، فإنّ الآية تقول: إنّه لظن خاطئ أن يتصوروا أنّ الإيمان والعمل الصالح، أو الكفر والمعصية، لا يترك أثره في حياة الإنسان، فإنّ حياة هذين الفريقين ومماتهم يتفاوتان تماماً:

فالمؤمنون يتمتعون باطمئنان خاص في ظل الإيمان والعمل الصالح، بحيث لا تؤثر في نفوسهم أصعب الحوادث وأقساها، في حين أنّ الكافرين والملوثين بالمعصية والذنوب مضطربون دائماً، فإنّ كانوا في نعمة فهم معذبون دائماً من خوف زوالها وفقدانها، وإن كانوا في مصيبة وشدَّة فلا طاقة لهم على تحملها ومواجهتها.

وتصور الآية (82) من سورة الأنعام حال المؤمنين، فتقول: (الذين آمنوا ولم

[212]

يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون).

إنّ المؤمنين مطمئنون بمواعيد الله سبحانه، وهم يرتعون في رحمته ولطفه: (إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد).

فنور الهداية يضيء قلوب الفريق الأوّل لتشرق بنور ربّها، فيسيرون بخطى ثابتة نحو هدفهم المقدس: (الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور)(1).

أمّا الفريق الثّاني، فليس لديهم هدف واضح يطمحون إلى بلوغه، ولا هدى بيّن يسيرون في ظله، بل هم سكارى تتقاذفهم أمواج الحيرة في بحر الضلالة والكفر: (والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات).

هذا في الحياة الدنيا، أما عند الموت الذي هو نافذة تطل على عالم البقاء، وباب للآخرة، فإنّ الحال كما تصوره الآية (32) من سورة النحل حيث تقول: (الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنّة بما كنتم تعملون).

أمّا المجرمون الكافرون، فإنّ الآيتين (28) ـ (29) من سورة النحل تتحدثان معهم بأسلوب آخر، فتقولان: (الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء بلى إنّ الله عليم بما كنتم تعملون. فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين).

وخلاصة القول، فإنّ التفاوت والإختلاف موجود بين هاتين الفئتين في كافة شؤون الحياة والموت، وفي عالم البرزخ والقيامة(2).

____________________________________

1 ـ البقرة، الآية 257.

2 ـ ثمّة احتمالات أُخرى في تفسير الآية المذكورة ومن جملتها ما ذكر من أنّ المراد من جملة (سواء محياهم ومماتهم) أنّ موت المجرمين الكافرين وحياتهم واحد لا فرق فيه، فلا خير فيهم ولا طاعة لهم حال حياتهم، ولا في موتهم، فهم أحياء لكنّهم أموات، وعلى هذا التّفسير فإنّ كلا الضميرين يعودان على المجرمين.

والإحتمال الآخر: أنّ المراد من الحياة يوم القيامة، أي أنّ المؤمنين والكافرين لا يتساوون عند الموت وعند بعثهم يوم القيامة. إلاّ أن ظاهر الآية هو ما ذكرناه أعلاه.

[213]

أمّا الآية التالية فإنّه في الحقيقة تفسير لسابقتها وتعليل لها، إذ تقول: (وخلق الله السموات والأرض بالحق ولتجزى كلّ نفس بما كسبت وهم لا يظلمون)، فكل العالم يوحي بأنّ خالقه قد خلقه وجعله يقوم على محور الحق، وأن يحكم العدل والحق كلّ مكان، وإذا كان الأمر كذلك فكيف يمكن أن يجعل الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمجرمين الكافرين، فيكون هذا الأمر استثناء من قانون الخلقة؟

من الطبيعي أنّه يجب أن يتمتع أُولئك الذين يتحركون حركة تنسجم مع قانون الحق والعدالة هذا، ولا يحيدون عنه ببركات عالم الوجود وينعمون بألطاف الله سبحانه، كما يجب أن يكون أولئك الذين يسيرون عكس هذا الطريق ويخالفون القانون طعمة للنّار المحرقة، ومحطاً لغضب الله عزَّ وجلّ، وهذا ما تقتضيه العدالة.

ومن هنا يتّضح أنّ العدالة لا تعني المساواة، بل العدالة أن يحصل كلّ فرد على ما يناسبه من المواهب والنعم حسب مؤهلاته وقابلياته.

وكذلك فإنّ الآية الأخيرة من هذه الآيات توضيح وتعليل آخر لعدم المساواة بين الكافرين والمؤمنين، إذ تقول: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون).

وهنا سؤال يطرح نفسه، وهو: كيف يمكن أن يتخذ الإنسان إلهه هواه؟

غير أنّ من الواضح الجلي أنّ الإنسان عندما يضرب صفحاً عن أوامر الله سبحانه، ويتبع ما تمليه عليه شهواته، ويقدم طاعتها على طاعة الله سبحانه ويعتبر ذلك حقّاً، فقد عبد هواه، وهذا عين معنى العبادة، إذ أنّ أحد المعاني المعروفة للعبادة هو الطاعة.

[214]

وقد ورد في القرآن الكريم الكثير ممّا يبيّن هذا المعنى كعبادة الشيطان أو عبادة أحبار اليهود، فيقول القرآن ـ مثلاً ـ في الآية (60) من سورة يس: (ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان).

ويقول في الآية (31) من سورة التوبة: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله).

وجاء في حديث عن الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام أنهما قالا: «أما والله ما صاموا لهم، ولا صلوا، ولكنّهم أحلوا لهم حراماً وحرموا عليهم حلالاً، فاتبعوهم، وعبدوهم من حيث لا يشعرون»(1).

غير أنّ بعض المفسّرين يعتبر هذا التعبير إشارة إلى الوثنيين من قريش، الذين إذا ما عشقوا شيئاً وأحبوه صنعوا على صورته صنماً ثمّ عبدوه وعظموه، وكلما رأوا شيئاً آخر أعجبهم أكثر من صنمهم أعرضوا عن الأوّل وتوجهوا إلى عبادة الثّاني، وعلى هذا فإنّ إلههم كان الشيء الذي ترتضيه أنفسهم وتهواه(2).

إلاّ أنّ تعبير: (من اتخذ إلهه هواه) أكثر انسجاماً مع التّفسير الأوّل.

أما في مورد جملة:(أضله الله على علم) فالتّفسير المعروف هو أنّ الله سبحانه قد أضلهم لعلمه بأنّهم لا يستحقون الهداية، وهو إشارة إلى أنّ هؤلاء قد أطفأوا بأيديهم كلّ مصابيح الهداية وحطموها، وأغلقوا في وجوههم كلّ سبل النجاة، ودمروا وراءهم جسور العودة إلى طريق الحق، فعند ذلك سلبهم الله تعالى رحمته ولطفه، وأفقدهم القدرة على تشخيص الصالح من الطالح، وتركهم في ظلمات  لا يبصرون، وكأنّما ختم على قلبهم وسمعهم، وجعل على أبصارهم غشاوة.

وما كلّ ذلك في الحقيقة إلاّ آثار لما اختط هؤلاء لأنفسهم من مسير، ونتيجة مشؤومة لعبادة الآلهة التي اتخذوها.

____________________________________

1 ـ نور الثقلين، المجلد 2، صفحة 209.

2 ـ تفسير الدر المنثور، المجلد 6، صفحة 35.

[215]

ولا صنم في الحقيقة أخطر من إتباع هوى النفس الذي يوصد كلّ أبواب الرحمة وطرق النجاة بوجه الإنسان؟ وكم هو بليغ وعميق الحديث المروي عن الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم): «ما عبد تحت السماء إله أبغض إلى الله من الهوى»(1).

إلاّ أنّ بعض المفسّرين يعتبر هذه الجملة إشارة إلى أنّ متبعي الهوى هؤلاء قد اختاروا طريق الضلالة طريقاً لهم عن علم ودراية، لأنّ العلم لا يقارن الهداية دائماً، كما لا تكون الضلالة دائماً قرينة الجهل.

إنّ العلم الذي يتمسك الإنسان بلوازمه أساس الهداية، فعليه كي يصل إلى مراده وهدفه أن يتحرك على هدي هذا العلم، وألا يكون كأُولئك الكفار العنودين الذين قال بحقهم القرآن: (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم)(2)(3).

إلاّ أنّ التّفسير الأوّل هو الأنسب بملاحظة أنّ مرجع الضمائر في الآية إلى الله سبحانه، لأنّها تقول: (أضله الله وختم على سمعه وقلبه).

ممّا قلناه يتّضح جيداً أنّ الآية تدل ـ من قريب أو بعيد ـ على مذهب الجبرية، بل هي تأكيد على أصل الإختيار وتعيين الإنسان مصيره بنفسه.

لقد أوردنا بحوثاً أكثر تفصيلاً وإيضاحاً حول ختم الله على قلب الإنسان وسمعه، وإلقاء الغشاوة على قلبه في ذيل الآية (7) من سورة البقرة(4).

* * *

 

ملاحظات

1 ـ أخطر الأصنام صنم هوى النفس

قرأنا في حديث أنّ أبغض الآلهة إلى الله هوى النفس، ولا مبالغة في هذا

____________________________________

1 ـ تفسير القرطبي، المجلد 9، صفحة 5987، وتفسير روح البيان، وتفسير المراغي ذيل الآيات مورد البحث.

2 ـ النمل، الآية 14.

3 ـ تفسير الميزان، المجلد 18، صفحة 187.

4 ـ، المجلد الأول، التّفسير الأمثل، ذيل الآية (7) من سورة البقرة.

[216]

الحديث قط، لأنّ الأصنام العادية موجودات لا خصائص لها ولا صفات فعالة مهمة، أما صنم الهوى وأتباعه، فإنّه يغوي الإنسان ويسوقه إلى ارتكاب أنواع المعاصي، والإنزلاق في هاوية الإنحراف.

وبصورة عامّة، يمكن القول بأنّ لهذا الصنم من الخصوصيات ما جعله مستحقاً لصفة أبغض الآلهة والأصنام، فهو يزين القبائح والسيئات في نظر الإنسان حتى يصل إلى درجة يفخر عندها بتلك الأعمال الطالحة، ويكون مصداقاً لقوله تعالى: (وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعاً)(1).

2 ـ أفضل طريق لنفوذ الشيطان هو اتباع الهوى: فما دام الشيطان لا يمتلك قاعدة وأساساً يستند إليه في داخل الإنسان، فلا قدرة له على الوسوسة ودفع الإنسان الى الإنحراف والمعصية، وما تلك القاعدة والأساس إلاّ اتباع الهوى، وهو ذات الشيء الذي أسقط الشيطان وأرداه، وطرده من صف الملائكة، وأبعده عن مقام القرب من الله.

3 ـ إنّ اتباع الهوى يسلب الإنسان أهم وسائل الهداية، وهي الإدراك الصحيح للحقائق، ويلقي الحجب على عقل الإنسان وعينه، وقد أشارت هذه الآيات إلى هذا الموضوع بصراحة بعد ذكر مسألة اتباع الهوى واتخاذه إلهاً، وآيات القرآن الأُخرى شاهدة على هذه الحقيقة أيضاً.

4 ـ إنّ اتباع الهوى يوصل الإنسان إلى مرحلة محاربة الله ـ والعياذ بالله ـ كما ابتلي بها إمام عباد الهوى ـ أي الشيطان الرجيم ـ فاعترض على حكمة الله سبحانه لمّا أمره بالسجود لآدم، واعتبره أمراً عارياً عن الحكمة!

5 ـ عواقب اتباع الهوى مشؤومة وأليمة، بحيث أنّ لحظة من لحظات اتباع الهوى قد يصاحبها عمر من الندامة والأسف والحسرة، ولحظة ـ يُتبع فيها الهوى ـ قد تجعل كلّ حسنات الإنسان وأعماله الصالحة التي عملها طوال عمره هباءً

____________________________________

1 ـ الكهف، الآية 104.

[217]

منثوراً، ولذلك ورد التأكيد على الحيطة واليقظة في هذا الأمر والتحذير الشديد منه في آيات القرآن والرّوايات الإسلامية.

فقد ورد في الحديث المعروف عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): «إن أخوف ما أخاف على أمتي الهوى وطول الأمل، أما الهوى فإنّه يصد عن الحق، وأمّا طول الأمل فينسي الآخرة»(1).

وفي حديث آخر عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) أنّه سئل: أي سلطان أغلب وأقوى؟ قال: «الهوى»(2).

وجاء في حديث آخر عن الإمام زين العابدين(عليه السلام): «إن الله تعالى يقول: وعزتي وعظمتي، وجلالي وبهائي، وعلوي وارتفاع مكاني، لا يؤثر عبد هواي على هواه إلاّ جعلت همه في آخرته، وغناه في قلبه، وكففت عنه ضيعته، وضمنت السماوات والأرض رزقه، وأتته الدنيا وهي راغمة»(3).

وورد في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام): «احذروا أهواءكم كما تحذرون أعداءكم، فليس شيء أعدى للرجال من اتباع أهوائهم وحصائد ألسنتهم»(4).

وأخيراً ورد في حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «إني لأرجو النجاة لهذه الأمة لمن عرف حقنا منهم إلاّ لأحد ثلاثة: صاحب سلطان جائر، وصاحب هوى، والفاسق المعلن»(5).

وفي هذا الباب آيات وروايات كثيرة غنية المضمون.

وننهي هذا الحديث بجملة عميقة المعنى ذكرها البعض كسبب نزول، وكشاهد على مرادنا، فيقول أحد المفسّرين: طاف أبو جهل بالبيت ذات ليلة ومعه الوليد بن

____________________________________

1 ـ بحار الأنوار، المجلد 70، صفحة 75، 76، 77.

2 ـ المصدر السابق.

3 ـ المصدر السابق.

4 ـ أصول الكافي، المجلد 2 باب أتباع الهوى الحديث 1.

5 ـ بحار الأنوار، المجلد 70، صفحة 76.

[218]

المغيرة، فتحدثا في شأن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال أبو جهل: والله إني لأعلم أنّه صادق.

فقال له: مه، وما دلك على ذلك؟

قال: يا أبا عبد شمس، كنا نسميه في صباه الصادق الأمين، فلما تم عقله، وكمل رشده نسميه الكذاب الخائن! والله إني لأعلم أنّه صادق.

قال: فما يمنعك من أن تصدقه وتؤمن به؟

قال: تتحدث عني بنات قريش أني اتبعت يتيم أبي طالب من أجل كسرة! واللات والعزى لن أتبعه أبداً.

فنزلت الآية: (وختم على سمعه وقلبه)(1).

 

* * *

 

____________________________________

1 ـ تفسير المراغي، المجلد 25، صفحة 27.

[219]

الآيتان

وَقَالُواْ مَا هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذلِكَ مِنْ عِلْم إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ( 24 ) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَـتُنَا بَيِّنَـت مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ائْتُواْ بِآبَآئِنَآ إِن كُنتُمْ صَـدِقِينَ( 25 )

 

التّفسير

عقائد الدهريين:

في هذه الآيات بحث آخر حول منكري التوحيد، غاية ما هناك أنّه ذكر هنا اسم جماعة خاصّة منهم، وهم «الدهريون» الذين ينكرون وجود صانع حكيم لعالم الوجود مطلقاً، في حين أنّ أكثر المشركين كانوا يؤمنون ظاهراً بالله، وكانوا يعتبرون الأصنام شفعاء عند الله، فتقو الآية أولاً: (وقالوا ما هي إلاّ حياتنا الدنيا نموت ونحيا) فكما يموت من يموت منا، يولد من يولد منّا وبذلك يستمر النسل البشري: (وما يهلكنا إلاّ الدهر)وبهذا فإنّهم ينكرون المعاد كما ينكرون المبدأ، والجملة الأُولى ناظرة إلى إنكارهم المعاد، أمّا الجملة الثّانية فتشير إلى إنكار

[220]

المبدأ.

والجدير بالإنتباه أنّ هذا التعبير قد ورد في آيتين أُخريين من آيات القرآن الأُخرى، فنقرأ في الآية (29) من سورة الأنعام: (وقالوا إنّ هي إلاّ حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين).

وجاء في الآية (37) من سورة المؤمنون: (إن هي إلاّ حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين).

إلاّ أنّ التأكيد في الآيتين على إنكار المعاد وحسب، ولم يرد إنكار المبدأ والمعاد معاً إلاّ في هذه الآية مورد البحث.

ومن الواضح أنّ هؤلاء إنّما كانوا يؤكدون على المعاد أكثر من المبدأ لخوفهم واضطرابهم منه الذي قد يغير مسير حياتهم المليئة بالشهوات والخاضعة لها.

وقد ذكر المفسّرون عدّة تفاسير لجملة (نموت ونحيا):

الأوّل: وهو ما ذكرناه، بأنّ الكبار يغادرون الحياة ليحل محلهم المواليد.

الثّاني: أنّ الجملة من قبيل التأخير والتقديم، ومعناها: إنّنا نحيا ثمّ نموت، ولا شيء غير هذه الحياة والموت.

الثّالث: أنّ البعض يموتون ويبقى البعض الآخر، وإن كان الجميع سوف يموتون في النهاية.

الرّابع: أننا كنا في البداية أموات لا روح فينا، ثمّ مُنحنا الحياة ودبت فينا.

غير أنّ التّفسير الأوّل هو أنسب الجميع وأفضلها.

وعلى أية حال، فإنّ جماعة من الماديين في العصور الخالية كانوا يعتقدون أنّ الدهر هو الفاعل أو الزمان في هذا العالم ـ أو بتعبير جماعة آخرين: إنّ الفاعل هو دوران الأفلاك وأوضاع الكواكب ـ وكانوا يُنهون سلسلة الحوادث إلى الأفلاك، ويعتقدون أنّ كلّ ما يقع في هذا العالم بسببها(1)، حتى أنّ جماعة من فلاسفة

____________________________________

1 ـ احتمل البعض احتمالاً خامساً في تفسير هذه الجملة، وهو أنّها إشارة إلى عقيدة التناسخ التي كان يعتقد بها جمع من الوثنيين، حيث كانوا يقولون: إنّنا نموت دائماً ثمّ نحيا في أبدان أُخرى في هذا العالم. إلاّ أنّ هذا التّفسير لا ينسجم مع جملة (وما يهلكنا إلاّ الدهر) والتي تتحدث عن الهلاك والفناء فقط. (فتأمل!).

[221]

الدهريين وأمثالهم كانوا يقولون بوجود عقل للأفلاك، ويعتقدون أنّ تدبير هذا العالم بيدها.

إن هذه العقائد الخرافية انقرضت بمرور الزمان، خاصّة وقد ثبت بتقدم علم الهيئة عدم وجود شيء باسم الأفلاك ـ الكرات المتداخلة الصافية ـ في الوجود الخارجي أصلاً، وأن لنجوم العالم العلوي بناء كبناء الكرة الأرضية بتفاوت ما، غاية في الأمر أنّ بعضها مظلم ويكتسب نوره من الكرات الأُخرى، وبعضها الآخر مشتعل ومنير.

إنّ الدهريين كانوا يذمون الدهر ويسبونه أحياناً عندما تقع حوادث مرّة مؤلمة. غير أنّه ورد في الأحاديث الإسلامية عن النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)«لا تسبوا الدهر، فإنّ الله هو الدهر»(1)، وهو إشارة إلى أنّ الدهر لفظ ليس إلاّ، فإنّ الله سبحانه هو مدبر هذا العالم ومديره، فإنّكم إنّ أسأتم القول بحق مدبر هذا العالم ومديره، فقد أسأتم بحق الله عزّوجلّ من حيث لا تشعرون.

والشاهد على هذا الكلام حديث آخر روي كحديث قدسي عن الله تعالى أنّه قال: «يؤذيني ابن آدم يسب الدهر، وأنا الدهر! بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار»(2).

لكن قد استعمل الدهر في بعض التعبيرات بمعنى أبناء الأيّام، وأهل الزمان الذين شكا العظماء من عدم وفائهم، كما نقل في الشعر المنقول عن الإمام الحسين(عليه السلام)، حيث أنشد ليلة عاشوراء:

يا دهر أُف لك من خليلِ كم لك بالإشراق والأصيلِ

من صاحب وطالب قتيل والدهر لا يقنع بالقليلِ

وعلى هذا فللدهر معنيان: الدهر بمعنى الأفلاك والأيّام، والذي كان محل

____________________________________

1 ـ تفسير مجمع البيان، المجلد 9، صفحة 78.

2 ـ تفسير القرطبي، المجلد 9، صفحة 5991.

[222]

اهتمام الدهريين، حيث كانوا يظنونه حاكماً على نظام الوجود وحياة البشر. والدهر بمعنى أهل العصر والزمان وأبناء الأيّام.

ومن المسلّم أنّ الدهر بالمعنى الأوّل أمر وهمي، أو نقول أنّه اشتباه في التعبير حيث أطلق اسم «الدهر» بدل اسم الله المتعالي الحاكم على كلّ عالم الوجود. أمّا الدهر بالمعنى الثّاني فهو الشيء الذي ذمه كثير من الأئمة والعظماء، لأنّهم كانوا يرون أهل زمانهم مخادعين مذبذبين لا وفاء لهم.

على أية حال، فإنّ القرآن الكريم أجاب هؤلاء العبثيين بجملة وجيزة عميقة، تلاحظ في موارد أُخرى من القرآن الكريم أيضاً، فقال: (وما لهم بذلك من علم أن هم إلاّ يظنون).

وقد ورد نظير هذا المعنى في الآية (28) من سورة النجم في من يظنون أنّ الملائكة بنات الله سبحانه: (وما لهم به من علم إنّ يتبعون إلاّ الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً).

وقد ورد هذا المعنى أيضاً في القول بقتل المسيح، النساء ـ 157، وعقيدة مشركي العرب في الأصنام، يونس ـ 66.

وهذا أبسط وأوضح دليل يلقى على هؤلاء بأنّكم لا تملكون أي شاهد أو دليل منطقي على مدعاكم، بل تستندون في دعواكم إلى الظن والتخمين فقط.

وأشارت الآية التالية إلى إحدى ذرائع هؤلاء الواهية وحججهم الباطلة فيما يتعلق بالمعاد، فقالت: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ما كان حجتهم إلاّ أنّ قالوا ائتوا بآبائنا إنّ كنتم صادقين)(1).

كان هؤلاء يرددون أنّ إذا كانت حياة الأموات وبعثهم حقّاً فأحيوا آباءنا كنموذج لإدعائكم، حتى نعرف مدى صدقكم، ولنسألهم عمّا يجري بعد الموت، وهل يصدّقون ما تقولونه أم يكذبونه؟

____________________________________

1 ـ «حجتهم» في الآية المذكورة خبر كان، و(أن قالوا...) اسمها.

[223]

نعم، هذا هو دليلهم الأجوف لأنّ الله سبحانه قد أبان للبشر قدرته على إحياء الأموات بطرق مختلفة، فإنشاء أوّل إنسان من التراب، وتحولات النطفة العجيبة في الرحم، وخلق السماء الواسعة والأرض، وإحياء الأراضي الميتة بعد هطول الأمطار عليها، ذكرت كلها كأسانيد حية على إمكان القيامة والبعث الجديد، وكأفضل دليل على هذا المعنى، وبعد كلّ هذا لا حاجة إلى دليل آخر.

وبغض النظر عن ذلك، فإنّ هؤلاء كانوا قد أثبتوا أنّهم لا هدف لهم إلاّ التذرع والتوسل بالحجج، للإستمرار في ضلالهم واعتقادهم المنحرف، فإذا كشف لهم عن مشهد إحياء الأموات فرضاً فرأوه بأم أعينهم، فإنّهم سيقولون مباشرة: إنّه سحر، كما قالوا ذلك في الموارد المشابهة.

إنّ التعبير بـ «الحجة» في مورد قول هؤلاء الفارغ هو كناية في الحقيقة عن أنّ هؤلاء لا دليل لهم إلاّ عدم الدليل.

 

* * *

 

[224]

 

 

الآيات

قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَلـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ( 26 ) وَللهِِ مُلْكُ السَّمـوَاتِ وَالاَْرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ ( 27 )وَتَرَى كُلَّ أُمَّة جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّة تُدْعَى إِلَى كِتَـبِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ( 28 ) هذَا كِتَـبُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ( 29 ) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّـلِحَـتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِى رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ( 30 ) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوْا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَتِى تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ( 31 )

 

[225]

التّفسير

الكلُّ جاث في محكمة العدل الإلهي:

هذه الآيات في الحقيقة جواب آخر على كلام الدهريين، الذين كانوا ينكرون المبدأ والمعاد، وقد أشير إلى كلامهم، في الآيات السابقة، فتقول الآية أوّلاً: (قل الله يحييكم ثمّ يميتكم ثمّ يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه).

لم يكن هؤلاء يعتقدون بالله ولا باليوم الآخر، ومحتوى هذه الآية استدلال عليهما معاً، حيث أكّدت على مسألة الحياة الأولى. وبتعبير آخر، فإنّ هؤلاء لا يستطيعون أن ينكروا أصل وجود الحياة الأولى، ونشأة الموجودات الحية من موجودات ميتة، وهذا يشكل من جهة دليلاً على وجود عقل وعلم كلي شامل، إذ هل يمكن أن توجد الحياة على هذه الهيئة المدهشة، والتنظيم الدقيق، والأسرار العجيبة المعقدة، والصور المتعددة، والتي أذهلت عقول كلّ العلماء، من دون أن يكون لها خالق قادر عالم؟

ولهذا نرى آيات القرآن المختلفة تؤكّد على مسألة الحياة كأحد آيات التوحيد وأدلته البينة.

ومن جهة أخرى، تقول لهم: كيف يكون القادر على إنشاء الحياة الأولى عاجزاً عن إعادتها ثانياً؟

أمّا التعبير بـ (لا ريب فيه) حول القيامة، والذي يخبر عن حتمية وقوعها وحدوثها، لا عن إمكانها، فهو إشارة إلى قانون العدل الإلهي، حيث لم يصل كلّ صاحب حق الى حقّه في هذه الحياة الدنيا، ولم يلاق كلّ المعتدين والظالمين جزاءهم، ولولا محكمة القيامة العادلة، فان العدالة الإلهية لا مفهوم لها حينئذ.

ولما كان كثير من الناس لا يتأمل هذه الدلائل ولا يدقق النظر فيها، فإنّ الآية تضيف في النهاية: (ولكن أكثرالناس لا يعلمون).

إن أحد أسماء يوم القيامة المار ذكره في هذه الآية هو: (يوم الجمع) لأنّ جميع

[226]

الخلق من الأولين والآخرين، وعلى اختلاف طبقات البشر وأصنافهم يجمعون في ذلك اليوم في مكان واحد. وقد ورد هذا التعبير في عدّة آيات أُخرى من القرآن الكريم أيضاً، ومن جملتها الشورى ـ 7، والتغابن ـ 9.

أمّا الآية التالية فهي دليل آخر على مسألة المعاد، وقد قرأنا الشبهة المطروحة حوله في آيات القرآن الأُخرى، فتقول: (ولله ملك السماوات والأرض) فلما كان مالكاً لتمام عالم الوجود الواسع وحاكماً عليه، فمن المسلم أن يكون قادراً على إحياء الموتى، ومع وجود تلك القدرة المطلقة لا تكون عملية الإحياء بالأمر العسير.

لقد جعل الله سبحانه هذا العالم مزرعة للآخرة، ومتجراً وافر الربح إلى ذلك العالم، ولذلك يقول سبحانه في نهاية الآية: (ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون)لأنّهم فقدوا رأس مالهم ـ وهو العمر ـ ولم يتجروا فيه، ولم يشتروا متاعاً إلاّ الحسرة والندم.

إنّ الحياة والعقل والذكاء ومواهب الحياة الأُخرى هي رأس مال الإنسان في سوق التجارة هذا، لكن اتباع الباطل يبادلونه بمتاع فان سريع الزوال، ولذلك فإنّهم حين يأتون يوم القيامة، يوم لا ينفع إلاّ القلب السليم والإيمان والعمل الصالح سيرون خسارتهم الباهظة بأُم أعينهم، ولات ساعة مندم.

«يخسر» من الخسران، وهو فقدان رأس المال، وينسب أحياناً إلى نفس الإنسان ـ كما يقول الراغب في المفردات ـ فيقال: خسر فلان، وأحياناً إلى تجارته فيقال: خسرت تجارته.

ومع أنّ أبناء الدنيا لا يستعملون هذا التعبير إلاّ في موارد المال والمقام والمواهب المادية، مع أنّ الأهم من الخسارة المادية هو فقدان رأس مال العقل والإيمان والثواب.

أمّا «المبطل» ـ من مادة «إبطال» ـ فلها في اللغة معان مختلفة، كإبطال الشيء،

[227]

والكذب، والإستهزاء والمزاح، وطرح أمر باطل وذكره، وكلّ هذه المعاني يمكن أن تقبل في مورد الآية.

الأشخاص الذين أبطلوا الحق، والذين نشروا عقيدة الباطل وأهدافه، والذين كذبوا أنبياء الله، وسخروا من كلامهم، سيرون خسرانهم المبين في ذلك اليوم.

وتجسّد الآية التالية مشهد القيامة بتعبير بليغ مؤثر جدّاً، فتقول: (وترى كلّ أمة جاثية).

يستفاد من بعض كلمات المفسّرين أنّ أصحاب الدعوى في الماضي كانوا يجلسون على هذه الهيئة في مجلس القضاء ليميزوا عن الآخرين، وسيجثو الجميع يوم القيامة في تلك المحكمة الكبرى لتتم محاكمتهم.

ويمكن أيضاً أن يكون هذا التعبير علامة على استعدادهم لتقبل أي أمر أو حكم يصدر بحقّهم، لأنّ من كان على أهبة الإستعداد يجثو على الركب.

أو أنّه إشارة إلى ضعف هؤلاء وعجزهم وخوفهم واضطرابهم الذي سيعانونه. وجمع كلّ هذه المعاني في مفهوم الآية ممكن أيضاً.

وللجاثية معان أُخرى، من جملتها الجمع الكثير المتراكم، أو جماعة جماعة، ويمكن أن تكون إشارة إلى تراكم البشر وازدحامهم في محكمة العدل الإلهي، أو جلوس كلّ أمة وفئة على حدة وبمعزل عن الأُمم الأُخرى. إلاّ أنّ المعنى الأوّل هو الأنسب والأشهر.

ثمّ تبيّن الآية ثاني مشاهد القيامة، فتقول: (كل أُمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون) فإنّ هذا الكتاب صحيفة أعمال سجلت فيها كلّ الحسنات والسيئات، والقبائح والأفعال الجميلة، وأقوال الإنسان وأعماله، وعلى حدّ تعبير القرآن الكريم: (لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها)(1).

وتعبير (كل أُمة تدعى إلى كتابها) يوحي بأنّ لكلّ أُمة كتاباً يتعلق بأفرادها

____________________________________

1 ـ الكهف، الآية 49.

[228]

جميعاً، إضافة إلى صحيفة الأعمال الخاصّة بكلّ فرد، ولا يبدو هذا الأمر عجيباً إذا علمنا أنّ للإنسان نوعين من الأعمال: الأعمال الفردية، والأعمال الجماعية، ولذلك فإن وجود نوعين من صحائف الأعمال يبدو طبيعياً جدّاً من هذه الناحية(1).

والتعبير بـ «تدعى» يوحي بأنّ هؤلاء يدعون إلى قراءة ما في كتبهم، وهذا المعنى نظير ما ورد في الآية (14) من سورة الإسراء: (اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً).

ثمّ يأتيهم الخطاب من قبل الله مرّة أُخرى، فيقول مؤكّداً: (هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق) فقد كنتم تفعلون كلّ ما يحلو لكم، ولم تكونوا تصدقون مطلقاً أنّ كلّ أعمالكم هذه تسجل في مكان ما، ولكن (إنّا كنّا نستنسخ ما كنتم تعملون).

«نستنسخ» من مادة «إستنساخ»، وهي في الأصل مأخوذة من النسخ، وهو إزالة الشيء بشيء آخر، فيقال مثلاً: نسخت الشمس الظل. ثمّ استعملت في كتابة كتاب عن كتاب آخر من دون أن يمحى الكتاب الأوّل.

وهنا يبدو سؤال، وهو: إذا كان الله سبحانه قد أمر باستنساخ أعمال ابن آدم،ذلك يستلزم أن يكون هناك كتاب قبل النسخ تكتب فيه تلك الأعمال؟ ولذلك فإنّ البعض يعتقد أنّ صحائف أعمال كلّ البشر قد كتبت في اللوح المحفوظ، والملائكة الموكلون بحفظ أعمال الإنسان يستنسخونها من ذلك اللوح المحفوظ.

إلاّ أنّ هذا المعنى لا يتلاءم كثيراً مع الآية مورد البحث، بل الملائم أحد معنيين هما: إمّا أن يكون الإستنساخ هنا بمعنى أصل الكتابة ـ كما قاله بعض المفسّرين ـ، أو أنّ نفس أعمال الإنسان كالكتاب التكويني تنسخ عنه الملائكة الحفظة وتصوره، ولذلك فقد ورد في آيات أُخر من القرآن الكريم التعبير بالكتابة بدل

____________________________________

1 ـ احتمل بعض المفسّرين أن يكون المراد من الكتاب في الآية أعلاه، هو الكتاب السماوي الذي أنزل على تلك الأُمة. إلاّظاهر الآية يدل على أنّه صحيفة الأعمال، خاصة بملاحظة الآية التالية، وأكثر المفسّرين على ذلك أيضاً.

[229]

الإستنساخ، كما نقرأ ذلك في الآية (12) من سورة يس: (إنّا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم)(1).

وقد ورد تفصيل أوسع حول أنواع الكتب التي تسجل فيها الأعمال ـ صحيفة الأعمال الشخصية، وصحيفة أعمال الأُمم، والكتاب الجامع العام لكلّ أفراد البشر ـ في ذيل الآية (12) من سورة يس.

وتبيّن الآية التالية الجلسة الختامية للمحكمة وإصدار قرار الحكم، حيث تنال كلّ فئة جزاء أعمالها، فتقول: (فأمّا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربّهم في رحمته).

إن ذكر «فاء التفريع» هنا دليل على أنّ نتيجة حفظ الأعمال والمحاسبة وتلك المحكمة الإلهية العادلة، هي دخول المؤمنين في رحمة الله سبحانه.

وطبقاً لهذه الآية، فإنّ الإيمان ـ وحده ـ غير كاف لأنّ يجعل المؤمنين يتنعمون بهذه الموهبة العظيمة والعطية الجزيلة، بل إنّ العمل الصالح شرط لذلك أيضاً.

والتعبير بـ «ربّهم» يحكي عن لطف الله الخاص، يكتمل بتعبير «الرحمة» بدل «الجنّة».

وتبلغ بهم نهاية الآية أوج الكمال حينما تقول: (ذلك هو الفوز المبين).

إنّ لـ «رحمة الله» معنى واسعاً يشمل الدنيا والآخرة، وقد أطلقت في آيات القرآن الكريم على معان كثيرة، فتارة تطلق على مسألة الهداية، وأُخرى على الإنقاذ من قبضة الأعداء، وثالثة على المطر الغزير المبارك، ورابعة على نعم أُخرى كنعمة النور والظلمة، وأطلقت في موارد كثيرة على الجنّة ومواهب الله سبحانه في القيامة.

____________________________________

1 ـ ورد في رواية عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام): «إن لله ملائكة ينزلون كلّ يوم يكتبون فيه أعمال بني آدم». ويقول الشيخ الطوسي في التبيان في ذيل الآية مورد البحث بعد نقل هذه الرواية: ومعنى نستنسخ نستكتب الحفظة ما يستحقونه من ثواب وعقاب، ونلقي ما عداه ممّا أثبته الحفظة، لأنّهم يثبتونه جميعاً.

[230]

جملة (ذلك الفوز المبين) تكررت مرّة أُخرى في الآية (16) من سورة الأنعام، غاية ما هناك أنّ الفوز المبين قيل هناك لأُولئك الذين ينجون من عذاب الله عزَّ وجلّ: (من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه وذلك الفوز المبين) أمّا هنا فقد قيلت فيمن دخل الجنّة وفي رحمة الله، وكلاهما في الواقع فوز عظيم: النجاة من العذاب، والدخول في مستقر رحمة الله سبحانه.

وهنا قد يرد هذا السؤال، وهو: هل أنّ المؤمنين الذين ليس لهم عمل صالح لا  يدخلون الجنّة؟

والجواب: إنّهم يدخلونها لكن بعد أن يروا جزاءهم في جهنم حتى يطهروا، فإنّ الذين يردون مستقر رحمة الله هذا بعد الحساب مباشرة هم أصحاب العمل الصالح مضافاً إلى إيمانهم، وحسب.

كلمة «الفوز» ـ كما يقول الراغب في مفرداته ـ تعني الظفر المقترن بالسلامة، وقد استعملت في (19) مورداً من آيات القرآن المجيد، فوصف الفوز مرّة بالمبين، وأُخرى بالكبير، أمّا في غالب الآيات فقد وصف بالعظيم. وهو مستعمل عادة في شأن الجنّة، إلاّ أنّه استعمل في بعض الموارد في شأن التوفيق لطاعة الله ومغفرة الذنوب وأمثال ذلك.

وتذكر الآية الآتية مصير من يقع في الطرف المقابل لأُولئك السابقين، فتقول: (وأمّا الذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم وكنتم قوماً مجرمين).

وممّا يلفت النظر أنّ الكلام في هذه الآية عن الكفر فقط، وأمّا أعمال السوء التي هي عامل الدخول في عذاب الله وسببه فلم يجر لها ذكر، وذلك لأنّ الكفر وحده كاف لأنّ يدخل صاحبه العذاب، أو لأنّ التعبير بالمجرمين في ذيل الآية كاف لبيان هذا المعنى.

والنكتة الأُخرى هنا أنّه لم يرد كلام عن عقوبات الجحيم، بل الكلام عن التوبيخ الإلهي لهم وتقريعهم، وهو يعتبر أشد العذاب وأكبره، وتهون معه الجحيم

[231]

كلّ عذابها.

وهنا نكتة تستحق الإنتباه، وهي: أنّه يستفاد من هذه الآية أنّ الله سبحانه لن يعذب أحداً من دون أن يبعث الأنبياء ويرسل الرسل وينزل آياته ـ أو كما يصطلح عليه تأكيد أحكام العقل بأحكام الشرع ـ وهذا منتهى لطفه ورحمته سبحانه.

وآخر ملاحظة هي أنّ أكبر مشاكل هؤلاء القوم هو استكبارهم على آيات الله من جهة، وتماديهم في المعصية والإجرام من جهة أُخرى، وهذا يستفاد من جملة (وكنتم قوماً مجرمين).

 

* * *

 

[232]

 

 

الآيات

وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لاَ رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَا نَدْرِى مَا السَّاعَةُ إِن نَظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ( 32 ) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ ( 33 )وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَـكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هـذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِن نَـصِرِينَ( 34 ) ذلِكُم بأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَـتِ اللهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَوةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ( 35 ) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمـوَاتِ وَرَبِّ الاَْرْضِ رَبِّ الْعَـلَمِينَ( 36 ) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِى السَّمـوَاتِ وَالاَْرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ( 37 )

 

[233]

التّفسير

يوم تبدو السيئات:

الآية الأولى من هذه الآيات توضيح لما ذكر في الآيات السابقة بصورة مجملة، توضيح لمسألة استكبار الكافرين على آيات الله ودعوة الأنبياء، فتقول: (وإذا قيل إنّ وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما الساعة إنّ نظن إلاّ ظناً وما نحن بمستيقنين).

التعبير بـ (ما ندري ما الساعة) في حين أنّ معنى القيامة لم يكن غامضاً عليهم أو مبهماً، وإن كان شك كلّ لديهم ففي وجودها، ممّا يوحي بأنّهم كانوا في موضع تكبر وعدم اهتمام، ولو كانت لدى هؤلاء روح تتبع الحق وطلبه لرأوا أنّ ماهية يوم القيامة أمر واضح، كما أنّ الدليل عليها بيّن جلي. ومن هنا يتّضح الجواب عن سؤال طرح هنا، وهو: أنّ هؤلاء إنّ كانوا ـ حقاً ـ في شكّ الأمر، فلا تثريب عليهم ولا إثم؟ لكن الشك لم يكن ناشئاً من عدم وضوح الحق، بل ناتج عن الكبر والغرور والعناد التعصب.

ويحتمل أيضاً أن يكون هدفهم من تهافت كلامهم وتناقضه السخرية والإستهزاء.

وتتحدث الآية التالية عن جزاء هؤلاء وعقابهم، ذلك الجزاء الذي لا يشبه عقوبات المحاكم الدنيوية، فتقول: (وبد لهم سيئات ما عملوا) فستتجسد القبائح والسيئات أمام أعينهم، وتتّضح لهم، وتكون لهم قريناً دائماً يتأذون من وجوده إلى جانبهم ويتعذبون من صحبته: (وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون)(1).

والأشد ألماً من كلّ ذلك هو الخطاب الذي يخاطبهم به الله الرحمن الرحيم، فيقول سبحانه: (وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا).

____________________________________

1 ـ «حاق» من مادة (حوق)، وهي في الأصل بمعنى الورود، والنّزول، والإصابة، والإحاطة. وقال البعض: إنّ أصلها (حق) ـ بمعنى التحقيق ـ فأبدلت القاف الأولى إلى واو، ثمّ إلى ألف.

[234]

لقد ورد هذا التعبير بصيغ مختلفة في القرآن الكريم مراراً، ففي الآية (51) من سورة الأعراف: (فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا).

وجاء هذا المعنى أيضاً بأُسلوب آخر في الآية (14) من سورة ألم السجدة.

لاشك أنّ النسيان لا معنى له بالنسبة إلى الله سبحانه الذي يحيط علمه بكلّ عالم الوجود، لكنّه هنا كناية لطيفة عن احتقار الإنسان المجرم العاصي وعدم الإهتمام به، ويلاحظ هذا التعبير حتى في محادثاتنا اليومية، فنقول: انسَ فلاناً الذي لا وفاء له، أي عامله كإنسان منسي، ولا تمنحه المحبة والعطف والوداد، واترك تفقد أحواله، ولا تذهب إليه أبداً.

ثمّ إنّ هذا التعبير تأكيد آخر ـ بصورة ضمنية ـ على مسألة تجسم الأعمال، وتناسب الجريمة والعقاب، لأنّ نسيانهم يوم القيامة في الدنيا يؤدي إلى أن ينساهم الله يوم القيامة، وما أعظم مصيبة نسيان الله الرحمن الرحيم لفرد من الأفراد، وحرمانه من جميع ألطافه ومننه.

وذكر المفسّرون هنا تفاسير مختلفة للنسيان تتلخص جميعاً في المعنى المذكور أعلاه، ولذلك لا نرى حاجة لتكرارها.

ثمّ إنّ المراد من نسيان لقاء يوم القيامة، نسيان لقاء كلّ المسائل والحوادث التي تقع في ذلك اليوم، سواء الحساب أم غيره، حيث كانوا ينكرونها.

ويحتمل أيضاً أن يكون المراد نسيان لقاء الله سبحانه في ذلك اليوم، لأنّ يوم القيامة قد وصف في القرآن المجيد بيوم لقاء الله، والمراد منه الشهود الباطني.

وتتابع الآية الحديث، فتقول: (ومأواكم النّار) وإذا كنتم تظنون أنّ أحداً سيهب لنصرتكم وغوثكم، فاقطعوا الأمل من ذلك، واعلموا أنّه (وما لكم من ناصرين).

أمّا لماذا ابتليتم بمثل هذا المصير؟ فـ(ذلكم بأنّكم اتخذتم آيات الله هزواً وغرتكم الحياة الدنيا).

وأساساً فإنّ «الغرور» و«الإستهزاء» لا ينفصلان عن بعضهما عادة، فإنّ الأفراد

[235]

المغرورين والمتكبرين الذين ينظرون إلى الآخرين بعين الإحتقار يتخذونهم هزواً ويسخرون منهم، ومصدر الغرور في الواقع هو متاع الدنيا وقدرتها وثروتها الزائلة المؤقتة، والتي تدع الأفراد الضيقي الصدور في غفلة تامة لا يعيرون معها لدعوة رسل الله أدنى اهتمام، ولا يكلفون أنفسهم حتى النظر فيها للوقوف على صوابها من عدمه.

وتكرر الآية ما ورد في الآية السابقة وتؤكّده بأُسلوب آخر، فتقول: (فاليوم لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون)(1)، فقد كان الكلام هناك عن مأواهم ومقرهم الثابت، والكلام هنا عن عدم خروجهم من النّار.. حيث قال هناك: ما لهم من ناصرين، وهنا يقول: لا يقبل منهم عذر، والنتيجة هي أنّ لا سبيل لنجاتهم.

وفي نهاية هذه السورة، ولإكمال بحث التوحيد والمعاد، والذي كان يشكل أكثر مباحث هذه السورة، تبيّن الآيتان الأخيرتان وحدة ربوبية الله وعظمته، وقدرته وحكمته، وتذكر خمس صفات من صفات الله سبحانه في هذا الجانب، فتقول أولاً: (فلله الحمد) لأنّه (ربّ السماوات وربّ الأرض ربّ العالمين).

«الرّب» بمعنى المالك والمدبر، والحاكم والمصلح، وبناء على هذا فكلّ خير وبركة تأتي منه سبحانه ولذلك، ترجع إليه كلّ المحامد والثناء، فحتى الثناء على الورد، وصفاء العيون، وعذوبة النسيم، وجمال النجوم، حمد له وثناء عليه، فإنّها جميعاً تصدر عنه، وتنمو بفضله ورعايته.

والطريف أنّه يقول مرّة: ربّ السماوات، وأُخرى: ربّ الأرض، وثالثة: ربّ عالم الوجود والعالمين، ليفند الإعتقاد بالآلهة المتعددة التي جعلوها للموجودات المختلفة، ويدعو الجميع إلى توحيد الله سبحانه والإعتقاد بأحديته.

وبعد وصف ذاته المقدسة بمقام الحمد والربوبية، تضيف الآية في الصفة الثالثة: (وله الكبرياء في السماوات والأرض) لأنّ آثار عظمته ظاهرة في السماء

____________________________________

1 ـ أعطينا التوضيح اللازم حول معنى (يستعتبون) وأصلها في ذيل الآية (57) من سورة الروم.

[236]

المترامية الأطراف، والأرض الواسعة الفضاء، وفي كلّ زاوية من زوايا العالم.

لقد كان الكلام في الآية السابقة عن مقام الربوبية، أي كونه تعالى مالكاً لأُمور عالم الوجود ومدبراً لها، والكلام هنا عن عظمته، فكلما دققنا النظر في خلق السماء والأرض وتأملناه، سنزداد معرفة بهذه الحقيقة، وتزداد بصيرتنا بها.

وأخيراً تقول الآية في الوصفين الرابع والخامس: (وهو العزيز الحكيم) وبذلك تكمل مجموعة العلم والقدرة والعظمة والربوبية والمحمودية، والتي هي مجموعة من أهم صفات الله، وأسمائه الحسنى.

ولعلها تشير إلى أن: له الحمد فاحمدوه، وهو الرب فاشكروا له، وله الكبرياء فكبروه، وهو العزيز الحكيم فأطيعوه.

وبوصف الله سبحانه بالعزيز والحكيم تنتهي سورة الجاثية كما بدأت بهما، وكل محتواها وما تضمنته شاهد على عزّة الله سبحانه وحكمته السامية.

اللّهمَّ، إنا نقسم عليك بكبريائك وعظمتك، وبمقام ربوبيتك، وعزتك وحكمتك،تثبت أقدامنا في طريق طاعة أوامرك.

اللّهمَّ، إنّ كلّ حمد وثناء نؤديه فبتوفيق منك، وكلّ ما لدينا من بركاتك وألطافك، فأدم اللّهمَّ هذه النعم وزدها علينا.

إلهنا: نحن غارقون في بحر إحسانك وكرمك، فوفقنا لأداء شكرك.

آمين يا ربّ العالمين.

نهاية سورة الجاثية




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21339183

  • التاريخ : 29/03/2024 - 14:24

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net