00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة الزخرف من آية 26 ـ آخر السورة من ( ص 37 ـ 112 )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء السادس عشر   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

[37]

الآيات

وَإِذْ قَالَ إِبْرهِيمُ لأَبِيهِ وَقَومِهِ إِنَّنِى بَرآءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ( 26 ) إِلاَّ الذَّي فَطَرنِى فَإنَّهُ سَيَهْدِينِ( 27 ) وَجَعَلَهَا كَلِمَة بَاقِيَةً فِى عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ( 28 ) بَلْ مَتَّعْتُ هَـؤُلآءِ وَءَابَآءَهُمْ حَتَّى جَآءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُّبِينٌ( 29 ) وَلَمَّا جَآءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوْا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَـفِرُونَ( 30 )

 

التّفسير

التوحيد كلمة الأنبياء الخالدة:

أشارت هذه الآيات إشارة موجزة إلى قصّة إبراهيم، وما جرى له مع قوم بابل عبدة الأوثان، لتكمل بذلك بحث ذم التقليد، الذي ورد في الآيات السابقة، وذلك لأنّه:

أوّلاً: إنّ إبراهيم(عليه السلام) كان الجد الأكبر للعرب، وكانوا يعدونه محترماً ويقدّسونه، ويفتخرون بتأريخه، فإذا كان اعتقادهم وقولهم هذا حقّاً فيجب عليهم أن يتبعوه عندما مزّق حجب التقليد. وإذا كان سبيلهم تقليد الآباء، فلماذا يقلّدون عبدة

[38]

الأوثان ولا يتّبعون إبراهيم(عليه السلام).

ثانياً: إنّ عبدة الأصنام استندوا إلى هذا الإِستدلال الواهي ـ وهو اتباع الآباء ـ فلم يقبله إبراهيم منهم أبداً، كما يقول القرآن الكريم في سورة الأنبياء ـ53، 54: (قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين).

ثالثاً: إنّ هذه الآية نوع من التطييب لخاطر الرّسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم)والمسلمين الأوائل ليعلموا أنّ مثل هذه المخالفات والتوسّلات بالمعاذير والحجج الواهية كانت موجودة دائماً، فلا ينبغي أن يضعفوا أو ييأسوا.

تقول الآية الأولى: (وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء ممّا تعبدون)(1)، ولما كان كثير من عبدة الأصنام يعبدون الله أيضاً ، فقد استثناه إبراهيم مباشرة فقال: (إلاّالذي فطرني فإنّه سيهدين).

إنّه(عليه السلام) يذكر في هذه العبارة الوجيزة دليلاً على انحصار العبوديّة بالله تعالى، لأنّ المعبود هو الخالق والمدبر، وكان الجميع مقتنعين بأنّ الخالق هو الله سبحانه، وكذلك أشار(عليه السلام) في هذه العبارة إلى مسألة هداية الله التكوينيّة والتشريعيّة التي يوجبها قانون اللطف(2).

وقد ورد هذا المعنى في سورة الشعراء، الآيات 77 ـ 82 أيضاً.

ولم يكن إبراهيم(عليه السلام) من أنصار أصل التوحيد، ومحاربة كل اشكال الشرك طوال حياته وحسب، بل إنّه بذل قصارى جهده من أجل ابقاء كلمة التوحيد في هذا العالم إلى الأبد، كما تبيّن ذلك الآية التالية إذ تقول: (وجعلها كلمة باقية في

____________________________________

1 ـ «براء» مصدر، وهي تعني التبرؤ، ولها في مثل هذه الموارد معنى الوصف بشكل مؤكّد والمبالغة، كـ (زيد عدل) ولما كانت مصدراً فقد تساوى فيها المفرد والجمع، والمذكر والمؤنث.

2 ـ طبقاً لهذا التّفسير، فإن الإستثناء في جملة «إلاّالذي فطرنيّ» متصل، لأنّ كثيراً من عبدة الأوثان لم يكونوا منكرين للّه، بل كانوا يشركون معه غيره، إلاّ أنّه إحتمل أيضاً أن يكون الإِستثناء منقطعاً، و(إلاّ) بمعنى (لكن) لأنّ التعبير بـ(ماتعبدون) يشير إلى الأصنام، فإنّ هذا التعبير غير متعارف في شأن الله تعالى. (تأمّل).

[39]

عقبه لعلهم يرجعون)(1).

والطريف أنّ كل الأديان التي تتحدّث عن التوحيد اليوم تستلهم دعوتها وأفكارها من تعليمات إبراهيم(عليه السلام) التوحيديّة، وأنّ ثلاثة من أنبياء الله العظام ـ وهم موسى(عليه السلام) وعيسى(عليه السلام) ومحمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ من ذرّيته، وهذا دليل على صدق تنبؤ القرآن في هذا الباب.

صحيح أنّ أنبياء آخرين قبل إبراهيم(عليه السلام) ـ كنوح(عليه السلام) ـ قد حاربوا الشرك والوثنيّة، ودعوا البشر إلى التوحيد، إلاّ أنّ الذي منح هذه الكلمة الإستقرار والثبات، ورفع رايتها في كلّ مكان، كان إبراهيم(عليه السلام) محطّم الأصنام. فهو(عليه السلام) لم يسعَ لإستمرار خطّ التوحيد في زمانه وحسب، بل إنّه طلب استمرار هذا الأمر من الله سبحانه في أدعيته إذ قال: (واجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام)(2).

ثمّة تفسير آخر، وهو: إنّ الضمير في (جعل) يعود إلى الله سبحانه، فيكون معنى الجملة: إنّ الله سبحانه قد جعل كلمة التوحيد في أسرة إبراهيم.

غير أنّ رجوع الضمير إلى إبراهيم(عليه السلام) ـ وهو التّفسير الأوّل يبدو أنسب، لأنّ الجمل السابقة تتحدّث عن إبراهيم، ومن المناسب أن يكون هذا الجزء من جملة أعمال إبراهيم، خاصّة وأنّه قد أكّد على هذا المعنى في آيات عديدة من القرآن الكريم، وإنّ إبراهيم كان مصرّاً على أن يبقى بنوه وعقبه على دين الله، كما نقرأ في الآيتين (131)، (132) من سورة البقرة: (إذ قال له ربّه أسلم قال أسلمت لربّ العالمين * ووصّى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بنيّ إنّ الله اصطفى لكم الدين  فلا تموتنّ إلاّ وأنتم مسلمون).

والتصوّر بأنّ (جعل) يعني الخلق، وأنّه مختصّ بالله سبحانه، تصوّر خاطىء، لأنّ (الجعل) يطلق على أعمال البشر وغيرهم أيضاً، وفي القرآن نماذج كثيرة

____________________________________

1 ـ «العقب» في الأصل بمعنى كعب القدم، إلاّ أن هذه الجملة استعملت فيما بعد في الأولاد وأولاد الأولاد بصورة واسعة.

2 ـ إبراهيم، الآية 35.

[40]

لذلك، فمثلاً عبّر القرآن عن إلقاء يوسف في البئر من قبل إخوته، بالجعل: (فلمّا ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابت الجب)(1)

اتّضح ممّا قلناه أنّ ضمير المفعول في (جعلها) يعود إلى كلمة التوحيد وشهادة (لا إله إلاّ الله) ويستفاد هذا من جملة: (إنّني براء ممّا تعبدون) التي تخبر عن مساعي إبراهيم من أجل استمرار خط التوحيد في الأجيال القادمة.

وورد في روايات عديدة من طرق أهل البيت(عليهم السلام) اعتبار مرجع الضمير إلى مسألة الإِمامة، وضمير الفاعل يرجع إلى الله طبعاً، أي إنّ الله سبحانه قد جعل مسألة الإِمامة مستمرّة في ذريّة إبراهيم(عليه السلام)، كما يستفاد من الآية (124) من سورة البقرة، إذ لما قال الله سبحانه لإبراهيم: (إنّي جاعلك للناس إماماً) طلب إبراهيم (عليه السلام)أن يكون أبناؤه أئمّة أيضاً، فاستجاب الله دعاءه، إلاّ في الذين ظلموا وتلوّثوا بالمعصية والجور: (قال إنّي جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي قال  لا ينال عهدي الظالمين).

إلاّ أنّ الإِشكال الذي يتبادر لأوّل وهلة هو أنّه لا كلام عن الإِمامة في الآية مورد البحث، اللهمّ إلاّ أن تكون جملة (سيهدين) إشارة إلى هذا المعنى، لأنّ هداية النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمّة (عليهم السلام) شعاع من هداية الله المطلقة، وحقيقة الهداية والإِمامة واحدة.

والأفضل من ذلك أن يقال: إنّ مسألة الإِمامة مندرجة في كلمة التوحيد، لأنّ للتوحيد فروعاً أحدها التوحيد في الحاكميّة والولاية والقيادة، ونحن نعلم أنّ الأئمّة يأخذون ولايتهم وزعامتهم من الله سبحانه، لا أنّهم مستقلّون بأنفسهم، وبهذا فإنّ هذه الرّوايات تعتبر من قبيل بيان مصداق وفرع من المعنى العام لـ(جعلها كلمة باقية) ولهذا فإنّه لا منافاة مع التّفسير الذي ذكرناه في البداية.

____________________________________

1 ـ يوسف، الآية 15.

[41]

(فتأمّل!)(1).

والجدير بالملاحظة هنا: هو أنّ المفسّرين قد احتملوا عدّة احتمالات في تفسير (في عقبه) ففسّرها البعض بكلّ ذريّة إبراهيم وأسرته، واعتبرها آخرون خاصّة بقوم إبراهيم وأمّته، وفسّرها جماعة بآل محمّد(عليهم السلام) إلاّ أنّ الظاهر هو أنّ لها معنى واسعاً يشمل كل ذريته إلى انتهاء الدنيا، والتّفسير بآل محمّد(عليهم السلام) من قبيل بيان المصداق الواضح لها.

والآية التالية جواب عن سؤال في الحقيقة، وهو: في مثل هذه الحال لِمَ لا يعذّب الله مشركي مكّة؟ ألم نقرأ في الآيات السابقة: (فانتقمنا منهم

فتقول الآية مجيبة: (بل متعت هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم الحقّ ورسول مبين)فنحن لم نكتف بحكم العقل ببطلان الشرك والوثنيّة، ولا بحكم وجدانهم بالتوحيد، بل أمهلناهم لإتمام الحجّة عليهم حتّى يقوم هذا الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهذا النّبي العظيم محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) بهدايتهم.

وبتعبير آخر، فإنّ جملة (لعلهم يرجعون) في الآية السابقة توحي بأنّ الهدف من مساعي إبراهيم(عليه السلام) الحثيثة كان رجوع كل ذرّيته إلى خط التوحيد، في حين أن العرب كانت تدعي أنّها من ذرية إبراهيم(عليه السلام) ورغم ذلك لم ترجع، إلاّ أنّ الله سبحانه أمهلهم مع ذلك حتى يأتي النّبي العظيم بالكتاب الجديد ليوقظ هؤلاء من نومهم، وبالفعل فقد استيقظت جماعة عظيمة منهم.

إلاّ أنّ العجيب أنّه: (ولما جاءهم الحقّ قالوا هذا سحر وإنّا به كافرون)!

نعم .. لقد عدّوا القرآن المجيد سحراً، والنّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) ساحراً، وإذا لم يرجعوا عمّا قالوا فإنّ عذاب الله سيحيط بهم ويأخذهم من حيث لا يشعرون.

* * *

____________________________________

1 ـ نقل صاحب نور الثقلين هذه الأحاديث في المجلّد 4، صفحة 596 ـ 597، ووردت أيضاً في تفسير البرهان، المجلد 4، صفحة 138 ـ 139.

[42]

الآيتان

وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـذا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُل مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيم( 31 )أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْض دَرَجَـت لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيَّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ( 32 )

 

التّفسير

لمَ لم ينزل القرآن على أحد الأغنياء؟

كان الكلام في الآيات السابقة في ذرائع المشركين في مواجهة دعوة الأنبياء، فكانوا يتّهمونهم بالسحر تارة، ويتوسلون تارة أخرى بتقليد الآباء وينبذون كلام الله وراء ظهورهم، وتشير الآيات ـ مورد البحث ـ إلى حجّة واهية أُخرى من حجج أُولئك المشركين، فتقول: (وقالوا لولا نزّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) أي مكّة والطائف.

لقد كانوا معذورين بتشبثهم بمثل هذه الذريعة من جهة، إذ كان المعيار في

[43]

تقييمهم للبشر هو المال والثروة والمقام الظاهري والشهرة.

إنّ صغار العقول هؤلاء كانوا يتصوّرون أنّ الأثرياء، وزعماء قبائلهم الظلمة هم أقرب الناس إلى الله سبحانه، ولذلك فإنّهم كانوا يتعجبون لماذا لم تنزل موهبة النبوّة والرحمة الإِلهيّة العظيمة هذه على رجل من قبيل هؤلاء الأفراد ونزلت على يتيم فقير خالي اليد اسمه محمّد! إن هذا لشيء عجاب لا يكاد يصدق!

نعم، إنّ نظام القيم الخاطيء يستتبع مثل هذا الإِستنباط، وهذا هو السبب في بلاء المجتمعات البشرية العظيم، والعامل الأساس في انحرافها الفكري، حيث تقلب الحقائق تماماً في بعض الأحيان.

إنّ حامل هذه الدعوة الإِلهيّة يجب أن يكون إنساناً تغمر وجوده روح التقوى .. أن يكون إنساناً واعياً، ذا إرادة وتصميم، شجاعاً عادلاً، عارفاً بآلام المحرومين والمظلومين، ذائقاً لمرارتها..

هذه هي القيم التي يلزم توفّرها من أجل حمل هذه الرسالة السماويّة،  لا الألبسة الفاخرة الجميلة، والقصور الفخمة الفارهة المزيّنة بأنواع الزينة والزخارف، خاصّة وإن أيّاً من أنبياء الله لم يكن متمتعاً بهذه الصفات والمزايا المادية، لئلاّ تشتبه القيم الأصيلة بالقيم المزيّفة.

وللمفسّرين أقوال في مراد المشركين من الرجل في مكّة والطائف؟ إلاّ أنّ أغلبهم اعتبروا «الوليد بن المغيرة» رجل مكّة، و«عروة بن مسعود الثقفي» رجل الطائف، وإن كان البعض قد ذكر أن عتبة بن ربيعة من مكّة، وحبيب بن عمر الثقفي من الطائف.

إلاّ أنّ الظاهر أن قول أُولئك المشركين لم يكن يدور حول شخص معين، بل كان هدفهم الإِشارة إلى أحد الأثرياء المعروفين، وله عشيرة مشهورة.

ويردّ القرآن الكريم بأجوبة قاطعة على هذا النمط من التفكير المتسافل الخرافي، ويجسد النظرة الإِلهيّة الإِسلاميّة تماماً، فيقول أوّلاً: (أهم يقسمون رحمة

[44]

ربك)فيمنحوا النبوّة من يشاؤون، وينزلوا عليه الكتاب السماوي، وإذا لم يعجبهم إنسان أهملوه؟

هؤلاء على خطأ كبير، فإنّ ربّك هو الذي يقسم رحمته، وهو يعلم ـ أفضل من سواه ـ من يستحق هذا المقام العظيم، ومن هو أهل له، كما ورد ذلك في الآية (124) من سورة الأنعام أيضاً: (الله أعلم حيث يجعل رسالته).

فضلاً عن ذلك، فإنّ وجود التفاوت والإِختلاف بين البشر من ناحية مستوى المعيشة، لا يدلّ على تفاوتهم في المقامات والمنازل المعنويّة مطلقاً، بل: (نحن قسّمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليّتخذ بعضهم بعضاً سخرياً).

لقد نسي هؤلاء أنّ حياة البشر حياة جماعيّة، ولا يمكن أن تدار هذه الحياة إلاّ عن طريق التعاون والخدمة المتبادلة، فإذا ما تساوى كلّ الناس في مستوى معيشتهم وقابليّاتهم ومكانتهم الإِجتماعية، فإنّ أصل التعاون والخدمة المتبادلة سيتزلزل.

بناء على هذا فينبغي أن لا يخدعهم هذا التفاوت، ويظنّوا أنّه معيار القيم الإِنسانية، إذ: (ورحمة ربّك خير ممّا يجمعون) بل إن كل المقامات والثروات  لا تعدل جناح بعوضة في مقابل رحمة الله والقرب منه.

إنّ التعبير بـ «ربّك» الذي تكرّر مرّتين في هذه الآية، إشارة لطيفة إلى لطف الله الخاص بنبي الإِسلام الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)، ومنحه مقام النبوّة والخاتميّة.

* * *

 

سؤالين مهمّين:

عند مطالعة الآية أعلاه يتبادر إلى الذهن سؤالان يستخدمهما أعداء الإِسلام كحربة للطعن في الفلسفة الإِسلاميّة:

[45]

الأوّل: كيف أقرّ القرآن استخدام الإِنسان وتسخيره من قبل الإِنسان؟ ألا يماثل هذا نظام الطبقات الإِقتصاديّة، أي نظام المستثمِرين والمستثمرين؟

الثّاني: أنّ الأرزاق والمعايش إذا كانت مقسّمة من قبل الله تعالى، فأي ثمرة يمكن أن تنتج عن جهودنا ومساعينا؟ ألاّ يعني هذا إطفاء مشاعل السعي ومصابيح الجهاد من أجل الحياة؟

إنّ الإِجابة على هذه الأسئلة تتّضح بالتدقيق في متن الآية، لأنّ هؤلاء يتصورون أنّ معنى الآية هو أنّ جماعة معيّنة من البشر تسخر جماعة أُخرى لأنفسها تسخيراً ظالماً يمتصّ الدماء والجهود، في حين أن الأمر ليس كذلك، بل هو استخدام الناس بعضهم بعضاً، أي أنّ كل جماعة من الناس لهم إمكانيّات واستعدادات خاصّة يستطيعون العمل بواسطتها في مجال ما من شؤون الحياة، وهم بطبيعة الحال يقدمون خدماتهم في ذلك الحقل إلى الآخرين، كما أنّ خدمات الآخرين في الحقول الأُخرى تقدم إليهم.

والخلاصة: هو استخدام متبادل، وخدمة ذات طرفين، وبتعبير آخر: فإنّ الهدف من التسخير هو التعاون في أمر الحياة، ولا شيء آخر.

ولا يخفى أنّ البشر لو كانوا متساوين جميعاً من ناحية الذكاء والإِستعداد الروحي والجسمي، فسوف لن تتهيّأ مستلزمات الحياة الإِجتماعيّة، والنظم الحياتيّة مطلقاً، كما أن خلايا جسم الإِنسان لو كانت متشابهة من ناحية البنية والرقة والمقاومة لاختل نظام الجسم، فأين خلايا عظم كعب القدم القويّة جدّاً من خلايا العين الرقيقة؟ إن لكل من هاتين مهمّة خاصّة بنيت على أساسها.

والمثال الحي الذي يمكن أن يضرب لهذا الموضوع هو الخدمات المتبادلة في جهاز التنفّس، ودوران الدم، والتغذية، وسائر أجهزة بدن الإِنسان، التي هي مصداق واضح لـ (ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً) في إطار نشاطات البدن الداخليّة، فهل يمكن الإِشكال على مثل هذا التسخير؟ وهل فيه خلل أو نقص؟

[46]

فإن قيل: إنّ جملة: (رفعنا بعضهم فوق بعض درجات) دليل على عدم العدالة الإِجتماعية.

قلنا: هذا يصحّ في حالة تفسير العدالة بالمساواة، في حين أنّ العدالة تعني وضع كلّ شيء في محلّه ضمن منظومته، فهل أنّ وجود سلسلة المراجع والرتب في فرقة عسكريّة، أو تنظيم إداري، أو في الدولة، دليل على وجود الظلم في تلك الأجهزة؟

من الممكن أن يستعمل بعض الناس كلمة «المساواة» في مجال الشعارات من دون الإِلتفات إلى معناها الواقعي، أمّا في الواقع العملي فلا يمكن أن يتمّ أو يقوم أي نظام بدون الإِختلاف والتفاوت، غير أنّ هذا التفاوت يجب أن لا يكون ذريعة لأنّ يستغل الإِنسان أخاه الإِنسان أبداً، بل يجب أن يكون الجميع أحراراً في استعمال قواهم الخلاقة، وتنمية نبوغهم وإبداعهم، والإِستفادة من نتائج نشاطاتهم بدون زيادة أو نقصان، وأمّا في حال عجزهم فيجب على القادرين أن يجدوا ويجتهدوا في رفع النواقص وسد ما يحتاجونه.

وأمّا فيما يتعلق بالسؤال الثّاني، وهو: كيف يمكن المحافظة على شعلة الجهاد والسعي والإِجتهاد وهاجة مع كون الرزق معيناً؟ فإنّ الإشتباه ناشيء من تصورهم أن الله سبحانه لم يجعل لسعي الإِنسان واجتهاده أي أثر أو دور.

صحيح أنّ الله سبحانه خلق القابليات متفاوتة لمختلف النشاطات، وصحيح أنّ العوامل الخارجة عن إرادة الإِنسان مؤثّرة في مسير حياته، لكن مع ذلك فإنّه سبحانه قد جعل سعيه واجتهاده أيضاً أحد العوامل الأساسيّة، وأوضح سبحانه ببيان أصل: (أنّ ليس للإنسان إلاّ ما سعى)(1)، أنّ سعادة الإِنسان وما يجنيه ويحصل عليه يرتبط بسعيه واجتهاده.

وعلى أيّة حال، فإنّ النكتة الغامضة والدقيقة تكمن في أنّ البشر ليسوا

____________________________________

1 ـ النجم، الآية 39.

[47]

كالأواني المتساوية الصفات الي صنعت في معمل واحد، في شكل واحد، وعلى وتيرة واحدة، وبحجم واحد، ولغاية واحدة في الإِستعمال، ولو كانوا كذلك لما أمكنهم التعايش بعضهم مع البعض الآخر يوماً واحداً.

وأيضاً ليس الناس من قبيل أجهزة وأدوات سيارة نظمها مهندسها على هيئة ما، فهي تقوم بعملها بصورة إجبارية، بل لديهم حرية الإِرادة، وعليهم مسؤولية وواجب في نفس الوقت الذي تختلف فيه قابلياتهم ولياقاتهم، وهذا هو المركب الخاص الذي يسمونه الإِنسان، والإِعتراضات والإِيرادات التي تطرح غالباً تنبع من عدم معرفة هذا الإنسان.

وخلاصة القول: إنّ الله سبحانه لم يفضل أي إنسان على الآخرين من كل الجهات، بل إنّ جملة: (رفع بعضهم فوق بعض درجات) إشارة إلى الإِمتيازات التي تمتاز بها كل جماعة على الجماعة الأُخرى، وتسخير كل فئة لأُخرى واستخدامها لها نابع من هذه الإِمتيازات تماماً، وهذا عين العدالة والتدبير والحكمة(1).

 

* * *

 

 

____________________________________

1 ـ كان لنا بحث مفصّل في هذا الباب في ذيل الآية (32) من سورة النساء، وبحث آخر في ذيل الآية (165) من سورة الأنعام.

[48]

الآيات

وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَـنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّة وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ( 33 ) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَباً وَسُرُراً عَلَيْهَ يَتَّكِئُونَ( 34 ) وَزُخْرُفاً وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَـعُ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَالأخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ( 35 )

 

التّفسير

قصور فخمة سُقُفها من فضة؟ (قيم كاذبة)

تستمر هذه الآيات في البحث حول «نظام القيم في الإِسلام»، وعدم اعتبار كون المال والثروة والمناصب المادية هي المعيار في التقييم، فتقول الآية الأولى: (ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة)(1).

ولجعلنا لهم بيوتاً لها عدّة طوابق ولها سلالم جميلة (ومعارج عليها

____________________________________

1 ـ «لبيوتهم» بدل اشتمال لـ (لمن يكفر بالرحمن) وتكرار (اللام) لهذا المعنى، أو بمعنى (على) أي: على بيوتهم، لكن الإحتمال الأوّل أصح.

[49]

يظهرون)(1).

وقال بعض المفسّرين: إنّ المراد أن السلالم مصنوعة من الفضة، وعدم تكرار كلمة الفضة لوضوح المراد. وكأنّهم لم يعتبروا وجود السلالم لوحدها دليلاً على أهمية البيوت، والأمر ليس كذلك، إذ أن وجود السلالم الكثيرة دليل على عظمة البناء وتكونه من عدّة طوابق.

«السُقُف» جمع سَقْف، ويعتقد البعض أنها جمع سقيفة، أي المكان المسقف، إلاّ أنّ القول الأوّل أشهر.

ثمّ تضيف الآية الأُخرى: (ولبيوتهم أبواباً وسرراً عليها يتكئون).

وربّما كانت هذه الجملة إشارة إلى الأبواب والأسرّة الفضية، لأنّ الآية السابقة لما تحدثت عن السُّقُف الفضية امتنع التكرار. ويمكن أيضاً أن يكون وجود الأبواب والأسرّة المتعددة ـ خاصّة وأن (أبواباً) و(سرراً) نكرة، وقد وردت هنا لبيان الأهمية ـ دليلاً بنفسه على عظمة تلك القصور، لأنّهم يجعلون لبيت حقير عدّة أبواب أبداً، بل هي مختصة بالقصور والبيوت الفخمة، وكذلك الحال بالنسبة لوجود الأسرّة.

ولم تكتف الآية بهذا، بل استطردت أنّه إضافة إلى كل ذلك فقد جعلنا لهم مباهج وانواع الزينة (وزخرفاً)(2) لتكمل الحياة المادية وزخارفها وزبارجها من كل الجهات، القصور الفخمة المتعددة الطبقات، الأبواب والأسرّة المتعددة، وكل وسائل الزينة والنقوش والرسوم وسائر الجواذب التي يتحقق فيها مراد عبيد الدنيا وأمانيهم.

ثمّ تضيف الآية: (وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربّك

____________________________________

1 ـ «المعارجّ» جمع معراج، وهو الوسيلة التي يستخدمها الإنسان للصعود إلى الطبقات العليا.

2 ـ اعتبر البعض (زخرفاً) عطفاً على (سقفاً)، ويعتقدون أنها إشارة إلى وسائل الزينة المستقلة التي توضع تحت تصرف أمثال هؤلاء الأفراد. والبعض اعتبرها عطفاً على (من فضة) وكانت في الأصل (من زخرف) ثمّ نصبت بنزع الخافض، وعلى هذا يصبح معنى الجملة: إنّا جعلنا بعض سقوف وأسرّة بيوت هؤلاء من ذهب وبعضها من فضة. (تأمل!).

[50]

للمتقين).

«الزخرف» في الأصل بمعنى كل زينة مقترنة بالرسم والتصوير، ولما كان الذهب أحد أهم وسائل الزينة، فقد قيل له: زخرف، وإنّما قيل للكلام الأجوف الذي لا فائدة فيه: كلام مزخرف، لأنهم يحيطونه ويلبسونه المزوقات ليصبح مقبولاً.

وخلاصة القول: إنّ هذه الأُسس المادية ووسائل الزينة الدنيوية، حقيرة لا قيمة لها عند الله تعالى فلا ينبغي أن تكون إلاّ من نصيب الأفراد الذين لا قيمة لهم كالكافرين ومنكري الحق، ولو لم يتأثر الناس من طلاب الدنيا ويميلوا إلى الكفر لجعل الله تعالى هذه الأُمور من نصيب هذه الفئة فقط، ليعلم الجميع أن هذه الأُمور ليست هي المعيار والمقياس لشخصية الإِنسان وقيمته ومقامه.

* * *

 

ملاحظتان

1 ـ الإِسلام يحطم القيم الخاطئة

حقّاً لا يمكن العثور على تعبير أبلغ مما ورد في الآيات أعلاه لتحطيم المقاييس والقيم الكاذبة والقضاء عليها، وتغيير بناء ذلك المجتمع الذي يدور محور تقييم شخصية الأفراد فيه حول مقدار ما يملكون من الإِبل، ومقدار الدراهم والدنانير، وعدد الغلمان والجواري والبيوت وأدوات الزينة، حتى أنّهم يتعجبون لماذا اختير محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) للنبوة وهو اليتيم الفقير مادياً؟!

إن أهم عمل لرسالة السماء هو تحطيم أطر القيم الخاطئة هذه، وبناء القيم الإِنسانية الأصيلة كالتقوى، والعلم، الإِيثار والتضحية، الشهامة والحلم على أنقاضها، وإلاّ فإنّ كل الإِصلاحات ستكون فوقية وسطحية وغير ثابتة.

وهذا هو الذي قام به الإِسلام والقرآن والرّسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) على أحسن

[51]

وجه، ولهذا فإنّ المجتمع الذي كان أكثر المجتمعات البشرية تخلفاً وخرافة، قد تسلق سلّم الرشد والرقي حتى أصبح في المرتبة الأولى في مدّة قصيرة.

والطريف أنّنا نقرأ في حديث عن النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) في تكملة هذا البحث: «لو وزنت الدنيا عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء»(1).

ويُبلغ أمير المؤمنين علي(عليه السلام) الكلام في هذا الباب غايته حيث يقول: «ولقد دخل موسى بن عمران وأخوه هارون عليهما السلام على فرعون وعليهما مدارع الصوف وبأيديهما العصي، فشرطا له إن أسلم بقاء ملكه ودوام عزّه، فقال: ألا تعجبون من هذين يشرطان لي دوام العزّ وبقاء الملك وهما بما ترون من حال الفقر والذل، فهلاّ ألقي عليهما أساورة من ذهب، إعظاماً للذهب وجمعه، واحتقاراً للصوف ولبسه، ولو أراد الله سبحانه بأنبيائه حيث بعثهم أن يفتح لهم كنوز الذهبان، ومعادن العقيان، ومغارس الجنان، وأن يحشر معهم طيور السماء ووحوش الأرض لفعل، ولو فعل لسقط البلاء، وبطل الجزاء».

ويقول في موضع آخر من هذه الخطبة: «ألا ترون ان الله سبحانه اختبر الأولين من لدن آدم صلوات الله عليه إلى الآخرين من هذا العالم بأحجار لا تضر ولا تنفع، ولا تبصر ولا تسمع، فجعلها بيته الحرام الذي جعله للناس قياماً. ثمّ وضعه بأوعر بقاع الأرض حجراً، وأقل نتائق الأرض مدراً، وأضيق بطون الأودية قطراً، بين جبال خشنة، ورمال دمثة، وعيون وشلة، وقرى منقطعة، لا يزكو بها خف، ولا حافر ولا ظلف. ثمّ أمر آدم وولده أن يثنوا أعطافهم نحوه، فصار مثابة لمنتجع أسفارهم...».

«ولو أراد الله سبحانه أن يضع بيته الحرام ومشاعره العظام بين جنات وأنهار، وسهل وقرار، جم الأشجار، داني الثمار، ملتف البُنا، متصل القرى، بين برة سمراء، وروضة خضراء، وأرياف محدقة، وعراص مغدقة، وطرق عامرة، لكان قد صغر

____________________________________

1 ـ تفسير الكشّاف، المجلد 4، صفحة 250.

[52]

قدر الجزاء على حسب ضعف البلاء»(1).

وعند ذلك كان الناس سينشغلون بالقيم الظاهرية الخداعة، ويغفلون عن القيم الإِلهيّة الواقعية.

على أية حال، فإنّ أساس الثورة الإِسلامية هو تغيير القيم، وإذا ما أصبح مسلمو اليوم يعانون من ظروف صعبة خانقة، وتحت ضغط الأعداء الجلادين القساة، فإنّ ذلك ناتج عن تركهم للقيم الأصيلة، وانتشار القيم والأعراف الجاهلية بينهم مرّة أُخرى، فأصبح المال والمنصب الدنيوي مقياس التقييم، ونسوا العلم والفضيلة والتقوى، وغرقوا في بحر المغريات والزخارف المادية، وأضحوا غرباء عن الإِسلام، وما دام الوضع كذلك فيجب أن يدفعوا كفارة هذا الذنب العظيم، وما داموا لم يشرعوا بالتغيير ابتداءاً من القيم الحاكمة على وجودهم، فسوف لن تشملهم رحمة الله ولطفه، وذلك: (إنّ الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)(2).

 

2 ـ جواب عن سؤال

بمطالعة الآيات المذكورة حول التحقير الشديد للزينة الظاهرية، والثروة والمقام المادي، يطرح هذا السؤال نفسه، وهو: إذا كان الحق كذلك، فلماذا يقول القرآن في موضع آخر: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون).(3)

أو يقول في موضع آخر: (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد)،(4) فكيف

____________________________________

1 ـ نهج البلاغة، الخطبة 192. الخطبة القاصعة.

2 ـ الرعد، الآية 11.

3 ـ الأعراف، الآية 32.

4 ـ الأعراف، الآية 31.

[53]

تتوافق هاتان الفئتان مع الآيات؟

ينبغي الإِلتفات في الجواب إلى أن الهدف في الآيات ـ مورد البحث ـ هو القضاء على القيم الكاذبة الخاطئة، الهدف هو أن لا يعد الناس شخصية الإِنسان متقومة بثروته وزينته، ولا يعني هذا أنّ الإمكانيات المادية شيء سيّء، بل المهم أن تكون مجرّد أدوات ومظاهر للنظر، وليس كهدف سام وغاية تبلغ.

ثمّ إنّ هذه الإِمكانيات تكون ذات قيمة عندما تكون في حد المعقول واللائق بالحال، وخالية من كلّ أنواع الإِسراف والتبذير، لا أن تبنى القصور من الذهب والفضة، وتدّخر الثروات الطائلة منهما.

ومن هنا يتّضح أن وجود جماعة من الكفّار والظالمين بهذه القدرة المادية ليس دليلاً على رفعة شخصيتهم، ولا أن حرمان المؤمنين منها، أو من التمتع بها في حد المعقول كأدوات للزينة، يضر بإيمانهم وتقواهم، وهذا هو التفكير الإِسلامي والقرآني الصحيح.

 

* * *

 

 

[54]

الآيات

وَمَنْ يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمـنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَـناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ( 36 ) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ( 37 ) حَتَّى إِذا جَآءَنَا قَالَ يَـلَيْتَ بَيْنِى وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ( 38 ) وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِى العَذَابِ مُشْتَرِكُونَ( 39 ) أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِى الْعُمْىَ وَمَن كَانَ فِى ضَلـل مُّبِين( 40 )

 

التّفسير

أقران الشياطين!

لما كان الكلام في الآيات السابقة عن عبدة الدنيا الذين يقيّمون كل شيء على أساس المعايير المادية، فإن الآيات ـ مورد البحث ـ تتحدث عن أحد الآثار المميتة الناشئة عن الإِرتباط بالدنيا والتعلق بها، ألا وهو الإِبتعاد عن الله سبحانه.

تقول الآية الأولى: (ومن يعش عن ذكر الرحمـن نقيض له شيطاناً فهو له

[55]

قرين)(1)(2).

نعم، إنّ الغفلة عن ذكر الله، والغرق في لذات الدنيا، والإِنبهار بزخارفها ومغرياتها يؤدي إلى تسلط شيطان على الإِنسان يكون قرينه دائماً، ويلقي لجاماً حول رقبته يشدّه به، ويجرّه إليه ليذهب به حيث يشاء!

من البديهي أنّه لا مجال لأن يتصور أحد معنى الجبر في هذه الآية لأنّ هذه نتيجة الأعمال التي قام بها هؤلاء أنفسهم، وقد قلنا مراراً: إنّ أولى نتائج أعمال الإِنسان ـ وخاصة الإِنغماس في ملاذ الدنيا، والتلوث بأنواع المعاصي ـ هو تكوّن حجاب على القلب والسمع والبصر يبعده عن الله سبحانه، ويسلط الشياطين عليه، وقد يستمرّ هذا الحال بالنسبة إليه حتى يغلق بوجهه باب الرجوع، لأنّ الشياطين والأفكار الشيطانية تكون حينئذ قد أحاطت به من كل جانب، وهذه نتيجة عمل الإِنسان نفسه، وإن كانت نسبتها إلى الله سبحانه بلحاظ كونه سبب الأسباب صحيحة أيضاً، وهذا هو نفس الشيء الذي عبّر عنه في آيات القرآن الأُخرى بعنوان تزيين الشياطين (فزين لهم الشيطان أعمالهم)(3)، أو بعنوان ولاية الشيطان (فهو وليهم اليوم).(4)

وممّا يستحق الإِنتباه أن جملة (نُقَيِّض) وبالإِلتفات إلى معناها اللغوي، تدل على إستيلاء الشياطين، كما تدل على كونهم أقراناً، وفي الوقت نفسه فقد جاءت جملة: (فهو له قرين) بعدها لتؤكّد هذا المعنى، وهو أنّ الشياطين لا يفارقون مثل هؤلاء الأفراد، ولا يبتعدون عنهم مطلقاً!

____________________________________

1 ـ «يَعْشُ» من مادة العشو، فإن عديت بـ(إلى): (عشوت إليه) فهي تعني الهداية بواسطة شيء ما بعين ضعيفة، وإن عديت بـ(عن): (عشا عنه)، أعطت معنى الإعراض عن الشيء، وهو المراد في الآية المذكورة. لسان العرب (عشو).

2 ـ «نُقَيِّض» من مادة قيض، وهي في الأصل بمعنى الغشاء الذي يغطي البيضة، ثمّ جاءت بمعنى جعل شيء مستولياً على شيء آخر.

3 ـ النحل، الآية 63.

4 ـ النحل، الآية 63.

[56]

والتعبير بـ«الرحمـن» إشارة لطيفة إلى أنّه كيف يعرض هؤلاء عن الله الذي عمّت رحمته العامّة الجميع وشملتهم، ويغفلون عن ذكره؟ فهل يستحق أمثال هؤلاء غير هذا المصير ويكونون أقراناً للشياطين، يتبعون أوامرهم، وينفذون ما يملون عليهم؟

واحتمل بعض المفسّرين أن يكون للشياطين هنا معنى واسع بحيث يشمل حتى شياطين الإِنس، واعتبروا الكلمة إشارة إلى رؤوس الضلالة وزعمائها الذين يتسلطون على الغافلين عن ذكر الله سبحانه فيكونون أقراناً لهم، وهذا التوسع في المعنى ليس ببعيد.

ثمّ أشارت الآية التالية إلى أمر مهم كانت الشياطين تقوم به في شأن هؤلاء الغافلين، فقالت: (وإنّهم ليصدونهم عن السبيل)(1).

فكلما صمّموا على التوبة والرجوع إلى طريق الصواب والرشاد كانت الشياطين تلقي في طريقهم الأحجار والعقبات، وتنصب الموانع في طريق عودتهم حتى لا يعودوا إلى الصراط المستقيم أبداً. وتزين الشياطين طريق الضلال لهم إلى الحد الذي يظنون: (ويحسبون أنهم مهتدون) كما نقرأ ذلك في الآية (38) من سورة العنكبوت حول عاد وثمود: (وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين).

وهكذا تستمر هذه الحالة على هذا المنوال، فيبقى الإِنسان الغافل الجاهل على ضلاله، وتستمر الشياطين في إضلاله، حتى ترفع الحجب، وتنفتح عين رؤيته على الحقيقة: (حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين).

إنّ كل أنواع العذاب من جهة، ومجالسة قرين السوء هذا من جهة اُخرى والنظر إلى وجهه المشؤوم يجسد أمام عينيه كل ذكريات ضياعه وتعاسته، فويل له إذ

____________________________________

1 ـ ضمير الجمع في «أنّهم» والجملة التالية يعود إلى الشياطين، ومع أنه قد جاء بصيغة المفرد من قبل، إلاّ أنّه كان بمعنى الجمع.

[57]

أصبح قرين من كان يزين له كل القبائح ويسلكه طريق الضلال على أنّه سبيل الخير والفلاح، وطريق الإِنحراف على أنّه طريق الهدى والصلاح، وويل له إذا أصبح مقيّداً معه بنفس الأصفاد في نفس السجن!

نعم، إن عرصة القيامة تجسيد واسع لمشاهد هذه الدنيا، والقرين والرفيق والقائد والدليل هنا وهناك واحد، بل إنّهما ـ برأي بعض المفسّرين ـ يقرنان بسلسلة واحدة!

من المعلوم أنّ المراد من المشرقين: المشرق والمغرب، لأنّ العرب عندما يريدون أن يثنوا جنسين مختلفين بلفظ واحد، فإنّهم يختارون أحد اللفظين، كما يقولون: الشمسان، إشارة إلى الشمس والقمر، والظهران، إشارة إلى صلاتي الظهر والعصر، والعشاءان، إشارة إلى صلاتي المغرب والعشاء.

وقد ذكروا تفاسير أُخرى لا تبدو مناسبة للآية من أي وجه، كقولهم: إنّ المراد هو مشرق بداية الشتاء، ومشرق بداية الصيف، وإن كان هذا التّفسير مناسباً في موارد أُخرى.

وعلى أية حال، فإنّ هذا التعبير كناية عن أبعد مسافة يمكن تصورها، حيث يضرب المثل ببعد المشرق عن المغرب في هذا الباب.

إلاّ أن هذا الأمل لا يتحقق مطلقاً، ولا يمكن أن يقع الإِفتراق أو البون بين هؤلاء وبين الشياطين، ولذلك فإنّ الآية التالية تضيف: (ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون) فيجب أن تذوقوا عذاب قرين السوء هذا مع أنواع العذاب الأُخرى إلى الأبد(1).

وبهذا فإنَّ القرآن الكريم يبدل أمل هؤلاء في الإِفتراق عن الشياطين إلى يأس دائم، وكم هو مضن تحمل هذا الجوار؟

____________________________________

1 ـ على هذا فإن فاعل «ينفع» هو القول السابق حيث كانوا يأملون أن يكون البعد بينهم وبين الشياطين كما بين المشرق والمغرب، وجملة (إذ ظلمتم) بيان لعلة عدم النفع، وجملة (إنّكم في العذاب مشتركون)نتيجة هذا الظلم والجور.

[58]

وهناك احتمالات اُخرى في تفسير هذه الآية، منها أن الإِنسان قد يشعر بخفة آلامه عند رؤية متألمين آخرين، لأنّ المعروف (أن البلية إذا عمّت طابت) غير أنّه يقال لهؤلاء: لا يوجد هناك مثل تسلية الخاطر هذه، بل ستغوصون في العذاب، وعذاب الشياطين المشتركين معهم لا يبعث على تسلية الخاطر(1).

واحتملوا أيضاً أن المصيبة عندما تقع، تخف وطأتها عندما يجد الإِنسان ثقلها موزعاً بينه وبين أصدقائه، ولكن هذه المسألة لا توجد هناك أيضاً، لأنّ لكل فرد سهماً وافراً من العذاب، من دون أن ينقص من عذاب الآخرين شيء!

لكن بملاحظة أن هذه الآية تكملة للآية السابقة، فإنّ التّفسير الأوّل الذي اخترناه هو الأنسب.

ويترك القرآن هنا هذه الفئة وشأنها، ويوجه الخطاب إلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)ويتحدث عن الغافلين عمي القلوب الذى كذبوا ارتباطه بالله، وهم من جنس من تقدم الكلام عنهم في الآيات السابقة، فيقول: (أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين).

وقد ورد نظير هذا المعنى في آيات أخرى من القرآن الكريم، حيث شبه المعاندين الذين لا أمل في هدايتهم، والغارقين في الذنوب بالعمي والصم، بل وبالأموات أحياناً.

فقد جاء في الآية (42) من سورة يونس: (أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون).

وجاء في الآية (80) من سورة النمل: (إنّك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين). وآيات أُخرى.

إن كل هذه التعابير توضح أن القرآن يقول بنوعين من السمع والبصر والحياة للإِنسان: السمع والبصر والحياة الظاهريّة، والسمع والبصر والحياة الباطنية،

____________________________________

1 ـ بناء على هذا التّفسير، فإن جملة: (إنكم في العذاب مشتركون) ستكون فاعل (ينفع) لا نتيجته.

[59]

والمهم هو القسم الثّاني من الإِدراك والنظر والحياة، فإنّها إذا تعطلت فلا ينفع حينئذ موعظة وإرشاد، ولا إنذار وتحذير!

ومما يستحق الإِنتباه أنّ الآيات السابقة قد شبهت هذه الفئة بالأفراد العمش العيون، والمحدودي البصر، وتشبههم الآية الأخيرة هنا بالصم والعمي، وذلك لأنّ الإِنسان إذا اشتغل بالدنيا فحاله كمن يشكو ألماً بسيطاً في عينه، فكلما زاد تعلقه بالدنيا واشتغاله بها، ومال إلى الماديات أكثر، وأهمل المسائل الروحية والمعنوية، فسيضعف بصره نتيجة ذلك الألم في عينه، حتى يصل بعدها إلى مرحلة العمى، وهذا هو الشيء الذي أثبتته الأدلّة القطعية في مجال التشديد على المعنويات السلبية والإِيجابية في الإِنسان، ورسوخ الملكات فيه نتيجة تكرار العمل والإِصرار عليه، وقد راعى القرآن الكريم هذا التسلسل أيضاً(1).

 

* * *

 

 

____________________________________

1 ـ التّفسير الكبير للفخر الرازي، المجلد 27، صفحة 214 ـ 215.

[60]

الآيات

فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ( 41 ) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِى وَعَدْنـهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ( 42 ) فاسْتَمْسِكْ بِالَّذِى أُوحِىَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرط مُّسْتَقِيم( 43 ) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ( 44 ) وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَـنِ ءَالِهَةً يُعْبَدُونَ( 45 )

 

التّفسير

استمسك بالذي أوحي إليك:

متابعة للآيات السابقة التي كانت تتحدث عن الكفّار المعاندين الظالمين الذين لا أمل في هدايتهم، تخاطب هذه الآيات نبيّ الإِسلام الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) مهدّدة الكفار أشدّ تهديد من جانب، ومسليّة خاطر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، فتقول: (فإمّا نذهبن بك فإنّا منهم منتقمون).

وسواء كان المراد من الذهاب بالنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) من بين أُولئك القوم وفاته أم هجرته من مكّة إلى المدينة، فإنّه إشارة إلى أنّك حتى وإن لم تكن شاهداً وناظراً لأمرهم،

[61]

فإنّا سنعاقبهم أشدّ عقاب إن استمروا في طريق ضلالتهم وغيهم، لأنّ «الإنتقام» في الأصل يعني الجزاء والعقوبة، وإن كان المستفاد من آيات قرآنية عديدة أُخرى ـ نزلت في هذا المعنى ـ إن المراد من الذهاب بالنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وفاته، كما جاء في الآية (46) من سورة يونس: (وإمّا نرينّك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثمّ الله شهيد على ما يفعلون).

وجاء هذا المعنى أيضاً في سورة الرعد ـ الآية 40، وسورة غافر ـ الآية 77، وعلى هذا فإنّ تفسير الآية بالهجرة لا يبدو مناسباً.

ثمّ تضيف الآية: (أو نرينك الذي وعدناهم فإنّا عليهم مقتدرون) فهم في قبضتنا على أية حال، سواء كنت بينهم أم لم تكن، والعقاب والإِنتقام الإِلهي حتمي في حقّهم إذا ما استمروا في أعمالهم، سواء كان ذلك في حياتك أم بعد مماتك، فقد يتقدم أو يتأخر، إلاّ أنّه لابدّ من وقوعه.

إنّ هذه التأكيدات القرآنية قد تكون إشارة إلى قلّة صبر الكفّار الذي كانوا يقولون: «إن كنت محقاً وصادقاً فيما تقول، فلماذا لا ينزل علينا العذاب»؟ هذا من جهة. ومن جهة أُخرى كانوا في انتظار موت النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ظنّاً منهم أن النّبي إن أغمض عينه وغاب شخصه فسينتهي كل شيء!

بعد هذه التحذيرات تأمر الآية النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن: (فاستمسك بالذي أوحي إليك إنّك على صراط مستقيم) فليس في دينك وكتابك أدنى اعوجاج أو زيغ، وعدم قبول جماعة من هؤلاء به لا يدل على عدم حقانيتك، فاستمر في طريقك بكل ما أوتيت من قوّة، والباقي علينا.

ثمّ تضيف الآية الأُخرى: (وإنّه لذكر لك ولقومك) فإنّ الهدف من نزوله إيقاظ البشر، وتعريفهم بتكاليفهم: (وسوف تسألون).

وبناء على هذا التّفسير فإنّ الذكر في هذه الآية يعني ذكر الله سبحانه، ومعرفة الواجبات الدينيّة، والإِطلاع على تكاليف البشر، كما ورد هذا المعنى في الآيتين

[62]

5 و 36 من هذه السورة، وككثير من آيات القرآن الأُخرى.

ومن المعروف أنّ الذكر أحد أسماء القرآن الكريم، والذكر بمعنى ذكر الله سبحانه، ونقرأ هذه الجملة عدّة مرات في سورة القمر: (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر) الآيات 17 ـ 22 ـ 32 ـ 40.

إضافة إلى أن جملة: (وسوف تسألون)تشهد بأنّ المراد هو السؤال عن العمل بهذا البرنامج الإِلهي.

لكن ـ مع كل ذلك ـ فالعجيب أنّ كثيراً من المفسّرين اختاروا تفسيراً آخر لهذه الآية لا يتناسب مع ما قلناه، فمن جملة ما قالوا: إن معنى الآية هو: إنّ هذا القرآن هو أساس الشرف والعزة، أو الذكر الحسن والسمعة الطيبة لك ولقومك، وهو يمنح العرب وقريشاً أو أُمتك الشرف، لأنّه نزل بلغتهم، وسيسألون قريباً عن هذه النعمة(1).

صحيح أن القرآن رفع نداء نبيّ الإِسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) والعرب، بل وكل المسلمين عالياً في أرجاء العالم، وأن اسم النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يذكر بإعظام بكرة وعشياً على المآذن منذ أكثر من أربعة عشر قرناً، وأن عرب الجاهلية الخاملي الذكر قد عُرفوا في ظل اسمه(صلى الله عليه وآله وسلم) وعلا صوت الأُمّة الإِسلامية في ربوع العالم بفضله.

وصحيح أن الذكر قد ورد بهذا المعنى في القرآن المجيد أحياناً، إلاّ أنّ ممّا  لا شك فيه أنّ المعنى الأوّل أكثر وروداً في آيات القرآن، وأكثر ملاءمة مع هدف نزول القرآن والآيات مورد البحث.

واعتبر بعض المفسّرين الآية (10) من سورة الأنبياء شاهداً على التّفسير الثاني، وهي: (لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم أفلا تعقلون)(2). في حين أن الآية

____________________________________

1 ـ مجمع البيان، التّفسير الكبير للفخر الرازي، تفسير القرطبي، تفسير المراغي، وتفسير أبي الفتوح الرازي، ذيل الآية مورد البحث.

2 ـ تفسير القرطبي، ذيل الآية مورد البحث.

[63]

تناسب التّفسير الأوّل أيضاً، كما فصلنا ذلك في التّفسير الأمثل، في ذيل هذه الآية(1).

وقد وردت روايات في هذه الآية في المصادر الحديثية، وستأتي فيما بعد إن شاء الله تعالى.

ثمّ تطرّقت الآية الأخيرة إلى نفي عبادة الأصنام وإبطال عقائد المشركين بدليل آخر، فقالت: (واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون

إشارة إلى أنّ كل أنبياء الله قد دعوا إلى التوحيد، ووقفوا جميعاً ضد الوثنية بحزم، وعلى هذا فإن نبيّ الإِسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) في مخالفته الأصنام لم يقم بعمل لم يسبقه به أحد، بل أحيا بفعله سنة الأنبياء الأبدية، وإنّما كان عبدة الأصنام والمشركون هم الذين يسيرون على خلاف مذهب الأنبياء.

وطبقاً لهذا التّفسير فإنّ السائل وإن كان نبيّ الإِسلام(صلى الله عليه وآله وسلم)، إلاّ أنّ المراد كل الأُمّة، بل وحتى مخالفيه.

والمسؤولون هم أتباع الأنبياء السابقين، أتباعهم المخلصون، بل ومطلق أتباعهم، إذ يحصل الخبر المتواتر من مجموع كلامهم، وهو يبيّن دين الأنبياء التوحيدي.

وينبغي التذكير بأنّه حتى المنحرفين عن أصل التوحيد ـ كالمسيحيين الذين يؤمنون بالتثليث اليوم ـ يتحدثون عن التوحيد أيضاً، ويقولون: إنّ تثليثنا لا ينافي التوحيد الذي هو دين جميع الأنبياء! وبهذا فإنّ الرجوع إلى هذه الأُمم كاف في إبطال دعوى المشركين.

____________________________________

1 ـ الأمر الآخر الذي يمكن أن يكون دليلاً على التّفسير المشهور، هي كلمة (القوم) التي وردت في الآية المذكورة، لأنّ القرآن منهاج لتذكير كل البشر، لا قوم النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وحسب، أو خصوص أُمة الإسلام.

   إلاّ أن هذا الكلام يمكن الإجابة عليه بأن هؤلاء القوم قد استفادوا من تذكير القرآن قبل الآخرين، ولذلك كان التأكيد عليهم.

[64]

إلاّ أنّ بعض المفسّرين احتملوا احتمالاً آخر في تفسير هذه الآية مستوحى من بعض الروايات(1)، وهو أن السائل هو النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه وأن المسؤولين هم الأنبياء السابقون. ثمّ أضافوا: إنّ هذا الأمر قد تمّ في ليلة المعراج، لأنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)قد التقى بأرواح الأنبياء الماضين، ومن أجل تأكيد أمر التوحيد طرح هذا السؤال وسمع الجواب.

وأضاف البعض: إنّ مثل هذا اللقاء كان ممكناً بالنسبة إلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) حتى في غير ليلة المعراج، لأنّ المسافات الزمانية والمكانية ليست مانعاً ولا عائقاً في مسألة اتصال النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بأرواح الأنبياء، وكان بإمكان ذلك العظيم أن يتصل بهم في أية لحظة، وفي أي مكان.

طبعاً، ليس على هذه التفاسير أي إشكال عقلي، لكن لما كان الهدف من الآية نفي مذهب المشركين، لاطمأنة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ إذ أنه(صلى الله عليه وآله وسلم) كان مستغرقاً في مسألة التوحيد، ومشمئزاً من الشرك إلى الحدّ الذي لا يحتاج معه إلى سؤال، ولم يكن التقاء النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) الروحي بأرواح الأنبياء الماضين استدلالاً مقنعاً أمام المشركين ـ اذن فالتّفسير الأوّل يبدوا أكثر ملاءمة، والتّفسير الثّاني قد يكون إشارة إلى باطن الآية لا ظاهرها، لأنّ لآيات القرآن ظهراً وبطناً.

وهناك أمر يستحق الإِنتباه، وهو أنّ اسم (الرحمن) قد اختير في هذه الآية من بين أسماء الله سبحانه، وهو إشارة إلى أنّه كيف يمكن أن يترك هؤلاء الله الذي وسعت رحمته العامّة كل شيء، ويتوجهون إلى أصنام لا تضر ولا تنفع؟!

 

* * *

 

____________________________________

1 ـ رويت هذه الرواية عن ابن عباس في تفسير القرطبي وتفسير الفخر الرازي ومجمع البيان، ورويت في تفسير نور الثقلين روايتان مفصلتان في هذا الباب عن كتاب الإحتجاج وتفسير علي بن إبراهيم. يراجع المجلد 4، ص605 ـ 607.

[65]

ملاحظة

من هم قوم النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ؟

توجد ثلاثة احتمالات في المراد من «القوم» في آية: (وإنّه لذكر لك ولقومك).

الأوّل: أنّهم كل الأُمة الإِسلامية.

والثّاني: أنّهم العرب.

والثّالث: أنّهم قبيلة قريش.

ولما كان القوم في منطق القرآن الكريم قد أطلقت في موارد كثيرة على أُمم الأنبياء، أو الأقوام المعاصرين لهم، فالظاهر أنّه هو المعنى المراد في الآية أيضاً.

وبناءً على هذا، فإنّ القرآن أساس الذكر والوعي واليقظة لكل الأُمة الإِسلامية حسب التّفسير الأوّل، وأساس الإِفتخار والشرف لهم جميعاً حسب التّفسير الثّاني.

إلاّ أننا نطالع في الروايات العديدة الواردة عن طرق أهل البيت(عليهم السلام) أنّ المراد من القوم في الآية هم أهل بيت النّبي وعترته(1).

لكن لا يبعد أن تكون هذه الروايات من قبيل بيان المصاديق الواضحة، سواء كان معنى القوم كل الأُمة الإِسلامية، أو أمة العرب، أو أهل بيت نبيّ الإِسلام (صلى الله عليه وآله وسلم)، ففي كل الأحوال يعتبر أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) من أوضح مصاديقها.

 

* * *

 

 

____________________________________

1 ـ جمع هذه الأحاديث مؤلف تفسير نور الثقلين، في المجلد 4، صفحة 64 ـ 65.

[66]

الآيات

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِئَايَـتِنَآ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلاَِيْهِ فَقَالَ إِنِّى رَسُولُ رَبِّ الْعَـلَمِينَ( 46 ) فَلَمَّا جَآءَهُم بِئايَـتِنَآ إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ( 47 ) وَمَا نُرِيهِم مِّنْ ءَايَة إِلاَّ هِى أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَـهُم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ( 48 ) وَقَالُواْ يَـأَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ( 49 ) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ( 50 )

 

التّفسير

الفراعنة المغرورون ونقض العهد:

في هذه الآيات إشارة إلى جانب ممّا جرى بين نبيّ الله موسى بن عمران(عليه السلام)وبين فرعون، ليكون جواباً لمقالة المشركين الواهية بأن الله إن كان يريد أن يرسل رسولاً، فلماذا لم يختر رجلاً من أثرياء مكّة والطائف لهذه المهمّة العظمى؟

وذلك لأنّ فرعون كان قد أشكل على موسى نفس هذا الإِشكال، وكان منطقه عين هذا المنطق، إذ جعل موسى في معرض التقريع والتوبيخ والسخرية للباسه

[67]

الصوفي، وعدم امتلاكه لأدوات الزينة، فقالت الآية الأولى: (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون ومَلائه فقال إنّي رسول ربّ العالمين).

المراد من «الآيات»: المعجزات التي كانت لدى موسى، والتي كان يثبت حقانيته بواسطتها، وكان أهمها العصا واليد البيضاء.

«الملاء» ـ كما قلنا سابقاً ـ من مادة الملأ، أي القوم أو الجماعة الذين يتبعون هدفاً واحداً، وظاهرهم يملأ العيون لكثرتهم، وقرآنياً فإنّ هذه الكلمة تعني الأشراف والأثرياء أو رجال البلاط عادة.

والتأكيد على صفة: (ربّ العالمين) هو في الحقيقة من قبيل بيان مدعى مقترن بالدليل، لأنّ ربّ العالمين ومالكهم ومعلمهم هو الوحيد الذي يستحق العبوديّة،  لا المخلوقات الضعيفة المحتاجة كالفراعنة والأصنام!

ولنرَ الآن ماذا كان تعامل فرعون وآل فرعون مع الأدلة المنطقية والمعجزات البينة لموسى(عليه السلام)؟

يقول القرآن الكريم في الآية التالية: (فلمّا جاءهم بآياتنا اذا هم منها يضحكون)وهذا الموقف هو الموقف الأوّل لكل الطواغيت والجهال المستكبرين أما القادة الحقيقيين، إذ لا يأخذون دعوتهم وأدلتهم بجدية ليبحثوا فيها ويصلوا إلى الحقيقة، ثمّ يجيبونهم بسخرية واستهزاء ليُفهموا الآخرين أن دعوة هؤلاء  لا تستحق البحث والتحقيق والإِجابة أصلاً، وليست أهلاً للتلقي الجاد.

إلاّ أننا أرسلنا بآياتنا الواحدة تلو الأُخرى لإِتمام الحجة: (وما نريهم من آية إلاّ هي أكبر من أختها)(1).

والخلاصة: أنّنا أريناهم آياتنا كل واحدة أعظم من أختها وأبلغ وأشد، لئلا يبقى لهم أي عذر وحجّة، ولينزلوا عن دابة الغرور والعجب والأنانية، وقد أريناهم بعد معجزتي العصا واليد البيضاء معاجز الطوفان والجراد والقمل والضفادع

____________________________________

1 ـ التعبير بـ «الأخت» في لغة العرب يعني ما يوازي الشيء في الجنس والمرتبة كالأختين.

[68]

وغيرها(1).

ثمّ تضيف الآية: (وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون) فمرّة أتاهم الجفاف والقحط ونقص الثمرات كما جاء في الآية (130) من سورة الأعراف: (ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات).

وكان العذاب أحياناً بتبدل لون ماء النيل إلى لون الدم، فلم يعد صالحاً للشرب، ولا للزراعة، وأحياناً كانت الآفات النباتية تقضي على مزارعهم.

إنّ هذه الحوادث المرّة الأليمة وإن كانت تنبه هؤلاء بصورة مؤقتة، فيلجؤون إلى موسى، غير أنّهم بمجرّد أن تهدأ العاصفة ينسون كل شيء، ويجعلون موسى غرضاً لسهام أنواع التهم، كما نقرأ ذلك في الآية التالية: (وقالوا يا أيّها الساحر ادع لنا ربّك بما عهد عندك إنّنا لمهتدون).

أي تعبير عجيب هذا؟! فهم من جانب يسمونه ساحراً، ومن جانب آخر يلجؤون إليه لرفع البلاء عنهم، ومن جانب ثالث يعدونه بتقبل الهداية!

إن عدم الإِنسجام بين هذه الأُمور الثلاثة في الظاهر أصبح سبباً في اختلاف التفاسير:

فذهب البعض: إنّ الساحر هنا يعني العالم، لأنّهم كانوا يعظمون السحرة في ذلك الزمان، وخاصّة في مصر، وكانوا ينظرون إليهم نظرتهم إلى العلماء.

واحتمل البعض أن يكون السحر هنا بمعنى القيام بأمر مهم، كما نقول في محادثاتنا اليومية: إنّ فلاناً ماهر في عمله جدّاً حتى كأنه يقوم بأعمال سحرية!

وقالوا تارة: إنّ المراد أنّه ساحر بنظر جماعة من الناس.

وأمثال هذه التفاسير.

إلاّ أنّ العارفين بطريقة تفكير وتحدث الجاهلين المعجبين بأنفسهم والمستكبرين المغرورين والطواغيت يعلمون أنّ لهؤلاء الكثير من هذه التعابير

____________________________________

1 ـ جاء تفصيل المعجزات التسع لموسى بن عمران (عليه السلام) في ذيل الآية (101) من سورة الإسراء.

[69]

المتناقضة، فلا عجب من أن يسمّوه ساحراً أوّلاً، ثمّ يلجؤون إليه لرفع البلاء، وأخيراً يعدونه بالإِهتداء.

بناء على هذا فيجب الحفاظ على ظاهر تعبيرات الآية والوقوف عندها، إذ  لا تبدو هناك حاجة إلى توجيهات وتفاسير أُخرى.

وعلى أية حال، فيظهر من أسلوب الآية أنّهم كانوا يعدون موسى(عليه السلام) وعوداً كاذبة في نفس الوقت الذي هم بأمس الحاجة إليه، وحتى في حال المسكنة وعرض الحاجة لم يتخلوا عن غرورهم، ولذلك عبروا في طلبهم من موسى بـ(ربك)و(بما عهد عندك) ولم يقولوا: ربّنا، وما وعدنا، أبداً. مع أن موسى قال لهم بصراحة: إنّي رسول ربّ العالمين، لا رسول ربّي.

أجل، إن ضعاف العقول والمغرورين إذا ما تربعوا على عرش الحكم، فسيكون هذا منطقهم وعرفهم وأسلوبهم.

إلاّ أن موسى رغم كل هذه التعبيرات اللاذعة والمحقرة لم يكفّ عن السعي لهدايتهم مطلقاً، ولم ييأس بسبب عنادهم وتعصبهم، بل استمرّ في طريقه، ودعا ربّه مرات كي تهدأ عواصف البلاء، وهدأت، لكنّهم كما تقول الآية التالية: (فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون).

كل هذه دروس حيّة وبليغة للمسلمين، وتسلية للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لكي لا ينثنوا مطلقاً أمام عناد المخالفين وتصلبهم، ولا يدعوا اليأس يخيم على أرواحهم وأنفسهم، بل ينبغي أن يشقوا طريقهم بكل ثبات ورجولة وحزم، كما ثبت موسى(عليه السلام) وبنو إسرائيل على مواقفهم، واستمرّوا في طريقهم حتى انتصروا على الفراعنة.

وهي أيضاً تحذير للأعداء اللجوجين المعاندين، بأنهم ليسوا أقوى من فرعون وآل فرعون ولا أشد، فلينظروا عاقبة أمر أُولئك، وليتفكروا في عاقبتهم.

 

* * *

[70]

الآيات

وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِى قَوْمِهِ قَالَ يَـقَوْمِ أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ وَهَـذِهِ الأَنْهَـرُ تَجْرِى مِن تَحْتِى أَفَلاَ تُبْصِرُونَ( 51 ) أَمْ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْ هَـذَا الَّذِى هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ( 52 ) فَلَوْلآ أُلْقِىَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَب أَوْ جَآءَ مَعَهُ الْمَلَـئِكَةُ مُقْتَرِنِينَ( 53 ) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوْا قَوْماً فَـسِقِينَ( 54 ) فَلَمَّآ ءَاسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَـهُمْ أَجْمَعِينَ( 55 ) فَجَعلْنَـهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِّلآخَرِينَ( 56 )

 

التّفسير

إذا كان نبياً فلم لا يملك أسورة من ذهب؟

لقد ترك منطق موسى(عليه السلام) من جهة، ومعجزاته المختلفة من جهة أُخرى، والإِبتلاءات والمصائب التي نزلت على رؤوس أهل مصر والتي رفعت ببركة دعاء موسى(عليه السلام) من جهة ثالثة، أثراً عميقاً في ذلك المحيط، وزعزعت أفكار الناس

[71]

واعتقادهم بفرعون، ووضعت كل نظامهم الإِجتماعي والديني موضع سؤال واستفسار.

هنا أراد فرعون بسفسطته ومغالطته أن يمنع نفوذ موسى(عليه السلام) عن التأثير في أفكار شعب مصر، فالتجأ إلى القيم الواهية المنحطة التي كانت حاكمة في ذلك المحيط، وقارن بينه وبين موسى(عليه السلام) من خلال هذه القيم ليبدو متفوقاً على موسى، كما يذكر ذلك القرآن الكريم حيث يقول: (ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون)(1).

أمّا موسى فماذا يملك؟ لا شيء سوى عصا ولباس صوف! فلمن الشأن الرفيع والمكانة السامية، له أم لي؟ أهو يقول الحق أم أنا؟ افتحوا عيونكم جيداً وتأمّلوا دقيقاً في المسألة..

وبهذا فقد عظم فرعون القيم المبتدعة السيئة، وجعل المال والمقام والجاه هي معايير الإنسانية، كما هو الحال بالنسبة إلى عبدة الأصنام في عصر الجاهلية في موقفهم أمام نبيّ الإِسلام (صلى الله عليه وآله وسلم).

التعبير بـ «نادى» يوحي بأن فرعون عقد مجلساً عظيماً لخبراء البلد ومستشاريه، وخاطبهم جميعاً بصوت عال فقال ما قال، أو أنّه أمر أن يوزع نداؤه كرسالة في جميع أنحاء البلاد.

والتعبير بالأنهار، المراد منه نهر النيل، بسبب أن هذا النهر العظيم كالبحر المترامي الأطراف، وكان يتشعب إلى فروع كثيرة تروي كل المناطق العامرة في مصر.

وقال بعض المفسّرين: كان لنهر النيل (360) فرعاً، وكان أهمها: نهر الملك، ونهر طولون، ونهر دمياط، ونهر تنيس.

____________________________________

1 ـ الواو في جملة (وهذه الأنهار تجري من تحتي) يمكن أن تكون عاطفة على (ملك مصر) ويمكن أن تكون حالية (تفسير الكشاف). إلاّ أن الإحتمال الأوّل يبدو هو الأنسب.

[72]

أمّا لماذا يؤكّد فرعون على نهر النيل خاصّة؟ فذلك لأنّ كل عمران مصر وثروتها وقوتها وتطورها كان يستمد طاقته من النيل، من هنا فإنّ فرعون كان يُدِلّ به، ويفتخر به على موسى.

والتعبير بـ(تجري من تحتي) لا يعني أن نهر النيل يمر من تحت قصري، كما قال ذلك جمع من المفسّرين، لأنّ نهر النيل كان أعظم من أن يمرّ من تحت قصر فرعون ولو كان المراد أنّه يمرّ بمحاذاة قصره، فإنّ كثيراً من قصور مصر كانت على هذه الحال، وكان أغلب العمران على حافتي هذا الشط العظيم، بل المراد أنّ هذا النهر تحت أمري، ونظام تقسيمه على المزارع والمساكن حسب التعليمات التي أريدها.

ثمّ يضيف: (أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين)(1) وبهذا يكون قد خص نفسه بافتخارين عظيمين ـ حكومة مصر، وملك النيل ـ، وذكر لموسى نقطتي ضعف: الفقر ولكنة اللسان.

هذا في الوقت الذي لم يكن بموسى أية لكنة في اللسان، لأنّ الله تعالى قد استجاب دعاءه، ورفع عنه عقدة لسانه، لأنّه سأل ربّه عند البعثة أن: (واحلل عقدة من لساني)(2)، ومن المسلّم أن دعاءه قد استجيب، والقرآن شاهد على ذلك أيضاً.

ليس عيباً عدم امتلاك الثروة الكثيرة، والألبسة الفاخرة، والقصور المزينة، والتي تحصل عادة عن طريق ظلم المحرومين والجور عليهم، بل هو فخر وكرامة وسمو.

إنّ التعبير بـ «مهين» لعله إشارة إلى الطبقات الإِجتماعيّة في ذلك الزمان، حيث كانوا يظنون أن الأشراف الأقوياء والأثرياء طبقة متعالية، والكادحين الفقراء

____________________________________

1 ـ اعتبر جماعة (أم) في الجملة أعلاه منقطعة، وأنها بمعنى (بل)، وذهب البعض أنها متصلة ومتعلقة بجملة (أفلا تبصرون)، وتقدير الجملة: أفلا تبصرون أم تبصرون أنا خير من هذا...

2 ـ طه، الآية 27.

[73]

طبقة واطئة، أو أنّه إشارة إلى أصل موسى حيث كان من بني إسرائيل، وكان الأقباط يرون أنهم ساداتهم وكبراؤهم.

ثمّ تشبث فرعون بذريعتين أخريين، فقال: (فلولا أُلقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين)(1) فلو أنّ الله قد جعله رسوله فلماذا لم يعطه أساور من ذهب، ومعاونين له كباقي الرسل؟

يقولون: إنّ الفراعنة كانوا يعتقدون أنّ الرؤساء يجب أن يزينوا أنفسهم بالأساور والقلائد الذهبية، ولذلك فإنّهم يتعجبون من موسى إذ لم يكن معه مثل آلات الزينة هذه، بل كان قد لبس بدل ذلك ملابس الرعي الصوفية، وهذا هو حال المجتمع الذي يكون معيار تقييم الشخصية في نظره الذهب والفضة وأدوات الزينة.

أمّا أنبياء الله فإنّهم باطراحهم هذه المسائل ـ بالذات ـ جانباً كانوا يريدون أن يبطلوا هذه المقاييس الكاذبة، وأن يزرعوا محلها القيم الإِنسانية الأصيلة ـ أي العلم والتقوى والطهارة ـ لأنّ نظام القيم إذا لم يُصلح في مجتمع فسوف لن يرى ذلك المجتمع وجه السعادة أبداً.

على أية حال، فإنّ ذريعة فرعون هذه تشبه الذريعة التي نقلت عن مشركي مكّة قبل عدّة آيات حيث كانوا يقولون: لِمَ لَم ينزل القرآن على عظيم من مكّة والطائف؟!

والحجّة الثانية هي تلك الحجّة المعروفة التي كانت تطرحها كثير من الأُمم الضالة العاصية في مواجهة الأنبياء، فكانوا يقولون أحياناً: لماذا أرسل الله بشراً وليس ملكاً؟ وأحياناً أُخرى: إذا كان إنساناً فلماذا لم يأت معه ملك؟

في حين أنّ الرسل المبعوثين إلى البشر يجب أن يكونوا من جنسهم ليلمسوا حاجاتهم، ويحسوا بمشاكلهم ومسائلهم ويجيبوهم، وليقدروا على أن يكونوا من

____________________________________

1 ـ جاءت كلمة «مقترنين» هنا بمعنى المتتابعين أو المتعاضدين، وقال البعض: إن الإقتران هنا بمعنى التقارن.

[74]

الناحية العملية قدوة وأسوة لهم(1).

ويلزم أن نذكر هنا أن «الأسورة» جمع سوار، سواء كان من الذهب أم من الفضة.

وتشير الآية التالية إلى نكتة لطيفة، وهي: إنّ فرعون لم يكن غافلاً عن واقع الأمر تماماً، وكان ملتفتاً إلى أن لا قيمة لهذه القيم والمعايير، إلاّ أنّه: (فاستخف قومه فأطاعوه).

إنّ طريقة كل الحكومات الجبارة الفاسدة من أجل الإِستمرار في تحقيق أهدافها وأنانياتها، هي الإِبقاء على الناس في مستوى مترد من الفكر والثقافة والوعي، وتسعى إلى تركهم حمقى لا يعون ما حولهم باستخدام أنواع الوسائل، فتجعلهم غرقى في حالة من الغفلة عن الوقائع والأحداث والحقائق، وتنصب لهم قيماً وموازين كاذبة منحطة بدلاً من الموازين الحقيقية، كما تمارس عملية غسل دماغ تام متواصل لهذه الشعوب، وذلك لأن يقظتها ووعيها، وتنامي رشدها الفكري يشكل أعظم خطر على الحكومات، ويعتبر أكبر عدو للحكومات المستبدة، فهذا الوعي بمثابة مارد يجب أن تحاربه بكل ما أوتيت من قوّة.

إنّ هذا الأسلوب الفرعوني ـ أي استخفاف العقول ـ حاكم على كل المجتمعات الفاسدة في عصرنا الحاضر، بكل قوّة واستحكام، وإذا كان تحت تصرف فرعون وسائل محدودة توصله إلى نيل هدفه، فإن طواغيت اليوم يستخفون عقول الشعوب بواسطة وسائل الإِتصال الجماعية، الصحف والمطبوعات، شبكات الراديو والتلفزيون، أنواع الأفلام، بل وحتى الرياضة في قالب الإِنحراف، وابتداع أنواع الأساليب المضحكة المستهجنة، لتغرق هذه الشعوب في بحر الغفلة، فيطيعوهم ويستسلموا لهم، ولهذا كانت المسؤولية الملقاة على عاتق علماء الدين والملتزمين به ـ والذين يحيون خط الأنبياء الفكري والعقائدي ـ ثقيلة في محاربة

____________________________________

1 ـ ورد في التّفسير الأمثل، ذيل الآية (9) من سورة الأنعام بحث مفصل في هذا الباب.

[75]

برامج استخفاف العقول، فهي من أهم واجباتهم.

والطريف أنّ الآية المذكورة تنتهي بجملة: (إنّهم كانوا قوماً فاسقين)، إشارة إلى أنّ هؤلاء القوم الضالين لو لم يكونوا فاسقين ومتمردين على طاعة الله عزَّوجلّ وحكم العقل، لما كانوا يستسلمون لمثل هذه الدعايات والخزعبلات ويصغون إليها، فهم قد هيؤوا أسباب ضلالهم بأيديهم، ولذلك فإنّهم ليسوا معذورين في هذا الضلال أبداً.

صحيح أنّ فرعون قد سرق عقول هؤلاء وحملهم على طاعته، إلاّ أنّهم قد أعانوه على هذه السرقة باتباعهم الأعمى له.

نعم، كان هؤلاء قوماً فاسقين يتبعون فاسقاً.

كانت هذه جنايات فرعون وآل فرعون ومغالطاتهم في مواجهة رسول الله موسى(عليه السلام)، لكننا نرى الآن إلى أين وصلت عاقبة أمرهم بعد كل هذا الوعظ والإِرشاد وإتمام الحجج من طرق مختلفة، إذ لم يسملوا للحق:

تقول الآية: (فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين) فقد اختار الله سبحانه لهؤلاء عقوبة الإِغراق بالخصوص من بين كل العقوبات، وذلك لأنّ كلّ عزّتهم وشوكتهم وافتخارهم وقوّتهم كانت بنهر النيل العظيم وفروعه الكثيرة الكبيرة، والذي كان فرعون يؤكّد عليه من بين كل مصادر قوته، إذ قال: (أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي

نعم، يجب أن يكون مصدر حياتهم وقوّتهم، سبب هلاكهم وفنائهم، ويكون قبراً لهم ليعتبر الآخرون!

«آسفونا» من مادة الأسف، وهو الحزن والغم، ويأتي بمعنى الغضب، بل إنّه يقال للحزن المقترن بالغضب أحياناً ـ على قول الراغب في مفرداته(1) ـ وقد يقال لكل منهما على الإِنفراد. وحقيقته ثوران دم القلب، شهوة الإِنتقام، فمتى كان ذلك

____________________________________

1 ـ مفردات الراغب، مادة (أسف).

[76]

على من دونه انتشر فصار غضباً، ومتى كان على من فوقه انقبض فصار حزناً، ولذلك سئل ابن عباس عن الحزن والغضب فقال: «مخرجهما واحد واللفظ مختلف».

وفسر بعضهم «آسفونا» بـ (آسفوا رسلنا)، إلاّ أن هذا التّفسير يبدو بعيداً، ولا ضرورة لمثل هذا الخلاف الظاهري.

وهنا نكتة تستحق الإِنتباه، وهي أنه لا معنى للحزن والغم بالنسبة إلى الله سبحانه، ولا الغضب بالمعنى المتعارف بيننا، بل إن غضب الله يعني «إرادة العقاب»، ورضاه يعني «إرادة الثواب».

وتقول الآية الأخيرة كاستخلاص لنتيجة مجموع ما مر من كلام: (فجعلناهم سلفاً ومثلاً للآخرين).

«السلف» في اللغة يعني كل شيء متقدم، ولذلك يقال للأجيال السابقة: سلف، وللأجيال الآتية: خلف، ويسمّون المعاملات التي تتمّ قبل الشراء «سلفاً»، لأنّ ثمن المشتري يدفع من قبل.

والمثل يقال للكلام الدائر بين الناس كعبرة، ولما كانت قصة فرعون والفراعنة ومصيرهم المؤلم عبرة عظمى، فقد ذكرت في هذه القصة كعبرة للأقوام الآخرين.

 

* * *

 

 

[77]

الآيات

وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ( 57 )وَقَالُواْ ءَأَلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ( 58 ) إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَـهُ مَثَلاً لِّبَنِى إِسْرءِيلَ( 59 ) وَلَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُم مَّلَـئِكَةً فِى الأَرْضِ يَخْلُفُونَ( 60 ) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَـذَا صِرَطٌ مُّسْتَقِيمٌ( 61 ) وَلاَيَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَـنُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ( 62 )

 

سبب النّزول

جاء في سيرة ابن هشام: «وجلس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوماً ـ فيما بلغني ـ مع الوليد بن المغيرة في المسجد، فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم في المجلس، وفي المجلس غير واحد من رجال قريش، فتكلم رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)فعرض له النضر بن الحارث، فكلمه رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) حتى أفحمه ثمّ تلا عليه

[78]

وعليهم: (إنّكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون * لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون...).

ثمّ قام رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، وأقبل عبدالله بن الزبعري السهمي حتى جلس، فقال الوليد بن المغيرة له: والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب آنفاً وما قعد، وقد زعم محمّد أنا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم، فقال عبدالله: أما والله لو وجدته لخصمته، فسلوا محمّداً: أكلُّ ما يعبد من دون الله في جهنم مع من عبده؟ فنحن نعبد الملائكة، واليهود تعبد عزيراً، والنصارى تعبد عيسى بن مريم (عليهما السلام)، فعجب الوليد ومن كان معه في المجلس من قول عبدالله بن الزّبعري، ورأوا أنّه قد احتجّ وخاصم، فذكر ذلك لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) من قول ابن الزبعري، فقال  رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): «إن كل من أحبّ أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده، إنّهم إنّما يعبدون الشياطين ومن أمرتهم بعبادته»(1).

فنزلت الآية الشريفة (101) من سورة الأنبياء: (إن الذين سبقت لهم منّا الحسنى أُولئك عنها مبعدون) وكذلك نزلت الآية: (ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدون).

* * *

 

التّفسير

أي الآلهة في جهنم؟

تتحدث هذه الآيات حول مقام عبودية المسيح(عليه السلام)، ونفي مقولة المشركين بألوهيته وألوهية الأصنام، وهي تكملة للبحوث التي مرت في الآيات السابقة حول دعوة موسى ومحاربته للوثنية الفرعونية، وتحذير لمشركي عصر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وكل مشركي العالم.

____________________________________

1 ـ سيرة ابن هشام، المجلد الأوّل، صفحة 385، بتلخيص قليل.

[79]

وبالرغم من أنّ الآيات تتحدث بإبهام، إلاّ أنّ محتواها ليس معقّداً ولا غامضاً للقرائن الموجودة في نفس الآيات، وآيات القرآن الأُخرى، رغم التفاسير المختلفة التي ذكرها المفسّرون.

تقول الآية الأولى: (ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدون)(1).

أىّ مثل كان هذا؟ ومن الذي قاله في حقّ عيسى بن مريم؟

هذا هو السؤال الذي اختلف المفسّرون في جوابه على اقوال، إلاّ أنّ الدقّة في الآيات التالية توضح أنّ المثل كان من جانب المشركين، وضرب فيما يتعلق بالأصنام، لأنّا نقرأ في الآيات التالية: (ما ضربوه إلاّ جدلاً).

بملاحظة هذه الحقيقة، وما جاء في سبب النّزول، يتّضح أن المراد من المثل هو ما قاله المشركون استهزاء لدى سماعهم الآية الكريمة: (إنّكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم)(2)، وكان ما قالوه هو أن عيسى بن مريم قد كان معبوداً، فينبغي أن يكون في جهنم بحكم هذه الآية، وأي شيء أفضل من أن نكون نحن وأصنامنا مع عيسى؟! قالوا ذلك وضحكوا واستهزؤوا وسخروا!

ثمّ استمرّوا: (وقالوا أآلهتنا خير أم هو)؟ فإذا كان من أصحاب الجحيم، فإنّ آلهتنا ليست بأفضل منه ولا أسمى.

ولكن، اعلم أنّ هؤلاء يعلمون الحقيقة، و(ماضربوه لك إلاّ جدلاً بل هم قوم خصمون)(3).

إنّ هؤلاء يعلمون جيداً أنّ الآلهة الذين يردون جهنم هم الذين كانوا راضين بعبادة عابديهم، كفرعون الذي كان يدعوهم إلى عبادته، لا كالمسيح(عليه السلام) الذي كان ولا يزال رافضاً لعملهم هذا، ومتبرءاً منه.

____________________________________

1 ـ «يصدون» من مادة صد، ويكسر مضارعها، وهي تعني الضحك والصراخ، وإحداث الضجيج والغوغاء، حيث يضعون يداً بيد عند السخرية والإستهزاء عادة. يراجع لسان العرب، مادة: صدد.

2 ـ الأنبياء، الآية 98.

3 ـ «خصمون» جمع خصم، وهو الشخص الذي يجادل ويخاصم كثيراً.

[80]

بل: (إن هو إلاّ عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل) فقد كانت ولادته من غير أب آية من آيات الله، وتكلمه في المهد آية أُخرى، وكانت كل معجزة من معجزاته علامة بينة على عظمة الله سبحانه، وعلى مقام النبوّة.

لقد كان عيسى مقِراً طوال حياته بالعبودية لله، ودعا الجميع إلى عبوديته سبحانه، ولما كان موجوداً في أُمته لم يسمح لأحد بالإِنحراف عن مسير التوحيد، ولكن المسيحيين أوجدوا خرافة ألوهية المسيح، أو التثليث، بعده(1).

والطريف أن نقرأ في روايات عديدة وردت عن طريق الشيعة والسنة، أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لعلي(عليه السلام): «إن فيك مثلاً من عيسى، أحبّه قوم فهلكوا فيه، وأبغضه قوم فهلكوا فيه» فقال المنافقون: أما رضي له مثلاً إلاّ عيسى، فنزل قوله تعالى: (ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدون).

وما قلناه متن رواية أوردها الحافظ أبو بكر بن مردويه ـ من علماء أهل السنة المعروفين ـ في كتاب المناقب. طبقاً لنقل كشف الغمة صفحة 95.

____________________________________

1 ـ احتملوا في تفسير الآيات أعلاه احتمالات أُخرى، وكل منها لا يتناسب مع محتوى الآيات:

1 ـ فقال البعض: إنّ المراد من المثل الذي ضربه المشركون هو أنّهم قالوا بعد ذكر المسيح وقصته في آيات القرآن: إنّ محمّداً يهيء الأرضية ليدعونا إلى عبادته، والقرآن في مقام الدفاع عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: لم يكن المسيح مدعياً للألوهية، وسوف لن يدعيها هو أيضاً.
2 ـ وقال البعض الآخر: إنّ المراد من المثل في الآيات المذكورة هو التشبيه الذي ذكره الله سبحانه في شأن المسيح في الآية (59) من سورة آل عمران، حيث يقول: (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثمّ قال له كن فيكون)فإذا كان عيسى قد ولد من غير أب فإن ذلك لا يثير العجب، لأنّ آدم قد ولد من غير أب وأم، بل من التراب بأمر الله تعالى.
3 ـ واحتمل بعض آخر أنّ المراد من المثل هو قول المشركين حيث كانوا يقولون: إذا كان النصارى يعبدون المسيح، فلماذا لا تكون آلهتنا التي هي أسمى منه، لائقة للعبادة وأهلاً لها؟
غير أنّ الإلتفات إلى الخصوصيات التي ذكرت في هذه الآيات يوضح أن أيّاً من هذه التّفسيرات الثلاثة لا يصح، لأنّ الآيات تبيّن جيداً:
أوّلاً: أنّ المثل كان من ناحية المشركين.
ثانياً: كان الموضوع قد أثار ضجة وصخباً، وكان مضحكاً بنظرهم.
ثالثاً: كان شيئاً على خلاف مقام عبودية المسيح (عليه السلام).
رابعاً: أنّه كان يحقق هدف هؤلاء، وهو الجدال في أمر كان كاذباً.
وهذه الخصائص لا تتناسب إلاّ مع ما قلناه في المتن فقط.

[81]

وقد نقل جمع آخر من علماء السنة، وكبار علماء الشيعة هذه الحادثة في كتب عديدة، تارة بدون ذكر الآية أعلاه، وأُخرى مع ذكرها(1).

إنّ القرائن الموجودة في الآيات توحي بأن هذا الحديث المعروف من قبيل تطبيق المصداق، لا أنه سبب النّزول، وبتعبير آخر: فإنّ سبب نزول الآية هو قصة عيسى وقول المشركين وأصنامهم، لكن لما وقع لعلي(عليه السلام) حادث شبيه لذاك بعد ذلك القول التاريخي للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإنه (صلى الله عليه وآله وسلم) تلا هذه الآية هنا ليبين أنّ هذا الحادث كان مصداقاً لذاك من جهات مختلفة.

ولئلا يتوهموا أنّ الله سبحانه محتاج لعبوديتهم، وأنّه يصر عليها، فإنّه تعالى يقول في الآية التالية: (ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون) ملائكة تخضع لأوامر الله، ولا تعرف عملاً إلاّ طاعته وعبادته.

واختار جمع من المفسّرين تفسيراً آخر للآية، يصبح معنى الآية على أساسه: ولو نشاء لجعلنا أبناءكم ملائكة يخلفونكم في الأرض. بناء على هذا فلا تعجبوا من أن يولد المسيح من دون أب، فإنّ الله عزَّوجلّ قادر على أن يخلق ملكاً من الإِنسان، وهو نوع يختلف عنه(2).

ولما كان تولد الملك من الإِنسان لا يبدوا مناسباً، فقد فسّره بعض كبار المفسّرين بولادة الأبناء الذين يتمتعون بصفات الملائكة، وقالوا: إن المراد: لا تعجبوا من أن تكون لعبد كالمسيح القدرة على إحياء الموتى، وإبراء المرضى بإذن الله، وهو في الوقت نفسه عبد مخلص مطيع لأمر الله، فإنّ الله قادر على أن يخلق

____________________________________

1 ـ لمزيد الإطلاع راجعوا: كتاب إحقاق الحق، المجلد 3، صفحة 398 وما بعدها، تفسير نور الثقلين، المجلد 4، صفحة 609 وما بعدها، وتفسير مجمع البيان ذيل الآيات مورد البحث.

2 ـ اختار التّفسير الأوّل، الطبرسي في مجمع البيان، والشيخ الطوسي في التبيان، وأبو الفتوح الرازي وآخرون.

أما التّفسير الثّاني فقد نقله القرطبي والآلوسي في روح المعاني، والزمخشري في الكشاف، والمراغي، على أنه المعنى الوحيد للآية، أو أنّه أحد معنيين لها.

[82]

من ابنائكم من تكون فيه كل صفات الملائكة وطبائعهم(1).

إلاّ أن التّفسير الأوّل ينسجم مع ظاهر الآية أكثر من الجميع، وهذه التفاسير بعيدة(2).

والآية التالية إشارة إلى خصيصة أُخرى من خصائص المسيح (عليه السلام) فتقول: إن عيسى سبب العلم بالساعة (وإنه لعلم للساعة)إمّا أن ولادته من غير أب دليل على قدرة الله اللامتناهية، فتحُل على ضوئها مسألة الحياة بعد الموت، أو من جهة نزول المسيح (عليه السلام) من السماء في آخر الزمان طبقاً لروايات عديدة، ونزوله هذا دليل على اقتراب قيام الساعة.

يقول جابر بن عبدالله: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: «ينزل عيسى بن مريم، فيقول أميرهم: تعال صلّ بنا، فيقول: لا، إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة من الله لهذه الأُمّة»(3).

ونقرأ في حديث آخر عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «كيف أنتم إذا نزل فيكم ابن مريم وإمامكم منكم»(4).

وعلى أية حال، فإنّ إطلاق (العلم) على المسيح نوع من التأكيد والمبالغة، وهو إشارة إلى أن نزوله من علامات القيامة حتماً.

واحتمل أيضاً أن يعود الضمير في (أنه) على القرآن، وعلى هذا يكون معنى الآية: إنّ نزول القرآن الذي هو آخر الكتب السماوية، دليل على اقتراب الساعة، ويخبر عن قيام القيامة.

غير أنّ الآيات السابقة واللاحقة حول عيسى تقوي التّفسير الأوّل.

ثمّ تقول الآية بعد ذلك: إن قيام الساعة حتم، ووقوعها قريب: (فلا تمترنَّ بها)

____________________________________

1 ـ الميزان، ذيل الآية مورد البحث.

2 ـ طبقاً للتفسير الأوّل، فإن (من) للبدلية، وبناء على التّفسيرين الثّاني والثّالث فإن (من) للإنشاء والإبتداء.

3 ـ نقل هذا الحديث صاحب مجمع البيان عن صحيح مسلم في ذيل الآيات مورد البحث.

4 ـ مجمع البيان ذيل الآية مورد البحث، وتفسير روح المعاني، المجلد 5، صفحة 88.

[83]

لا من حيث الإِعتقاد بها ولا من حيث الغفلة عنها.

(واتبعون هذا صراط مستقيم) وأي صراط أكثر استقامة من الذي يخبركم بالمستقبل الخطير الذي ينتظركم، ويحذركم منه، ويدلكم على طريق النجاة من أخطار يوم البعث؟!

إلاّ أن الشيطان يريد أن يبقيكم في عالم الغفلة والإِرتباط بها، فاحذروا: (ولا يصدنكم الشيطان إنّه لكم عدو مبين).

لقد أظهر عداءه لكم منذ اليوم الأوّل، مرّة عند وسوسته لأبيكم وأمكم ـ آدم وحواء ـ وإخراجهما من الجنّة، وأُخرى عندما أقسم على إضلال بني آدم وإغوائهم، إلاّ المخلَصين منهم، فكيف تخضعون أمام هكذا عدو لدود أقسم على أذاكم ودفعكم إلى الهاوية السحيقة؟ وكيف تسمحون له أن يتسلط على قلوبكم وأرواحكم، وأن يمنعكم عن طريق الحق بوساوسه المستمرة؟!

 

* * *

 

 

[84]

الآيات

وَلَمَّا جَآءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَـتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِى تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُواْ اللهَ وَأَطِيعُونِ( 63 ) إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّى وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَـذَا صِرَطٌ مُّسْتَقِيمٌ( 64 ) فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ عَذَابِ يَوْم أَلِيم( 65 )

 

التّفسير

الذين غالوا في المسيح:

مرت الإِشارة إلى جانب من خصائص حياة المسيح (عليه السلام) في الآيات السابقة، وتكمل هذه الآيات ذلك البحث، وتؤكّد بالخصوص على دعوة المسيح إلى التوحيد الخالص، ونفي كل شكل من أشكال الشرك.

تقول الآية أوّلاً: (ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه) وبهذا فقد كانت «البينات» ـ أي آيات الله والمعجزات ـ رأسمال عيسى، إذ كانت تبين حقانيته من جانب، وتبين من جانب آخر الحقائق

[85]

المرتبطة بالمبدأ والمعاد واحتياجات حياة البشر.

ويصف عيسى(عليه السلام) محتوى دعوته بـ «الحكمة» في عبارته، ونحن نعلم أن أساس الحكمة هو المنع من شيء بقصد إصلاحه، ثمّ أُطلقت على كل العقائد الحقّة، وبرامج الحياة الصحيحة التي تصون الإِنسان من أنواع الإِنحراف في العقيدة والعمل، وتتناول تهذيب نفسه وأخلاقه، وعلى هذا فإن للحكمة هنا معنى واسعاً يشمل «الحكمة العلمية» و«الحكمة العملية».

ولهذه الحكمة ـ إضافة إلى ما مرّ ـ هدف آخر، وهو رفع الإِختلافات التي تخلّ بنظام المجتمع، وتجعل الناس حيارى مضطربين، ولهذا السبب نرى المسيح(عليه السلام)يؤكّد على هذه المسألة.

وهنا يطرح سؤال التفت إليه أغلب المفسّرين، وهو: لماذا يقول: (قد جئتكم بالحكمة ولأُبين لكم بعض الذي تختلفون فيه) ولم لا يبيّن الجميع؟

وقد ذكرت أجوبة عديدة لهذا السؤال، وأنسبها هو:

إنّ الإِختلافات التي بين الناس نوعان: منها ما يكون مؤثراً في مصيرهم من الناحية العقائدية والعملية، ومنها ما يكون في الأُمور غير المصيرية، كالنظريات المختلفة حول نشأة المنظومة الشمسية والسماوات، وكيفية الأفلاك والنجوم، وماهية روح الإِنسان، وحقيقة الحياة، وأمثال ذلك.

ومن الواضح أنّ الأنبياء مكلّفون أن ينهوا الإِختلافات من النوع الأوّل ويقتلعوها بواسطة تبيان الحقائق، ولكنّهم غير مكلّفين برفع أي اختلاف كان حتى وإن لم يكن له تأثير في مصير الإِنسان مطلقاً.

ويحتمل أيضاً أن تبيان بعض الإِختلافات نتيجة وغاية لدعوة الأنبياء، أي إنّهم سيوفقون أخيراً في حل بعض هذه الإِختلافات، أمّا حلّ جميع الإِختلافات في الدنيا فإنّه أمر غير ممكن، ولذلك تبيّن آيات متعددة من القرآن المجيد أن أحد خصائص القيامة هو ارتفاع كل الإِختلافات وانتهاؤها، فنقرأ في الآية (92) من

[86]

سورة النحل: (وليبيّنن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون).

وقد جاء هذا المعنى في الآيات، 55 ـ آل عمران، 48 ـ المائدة، 164 ـ الأنعام، 69 ـ الحج، وغيرها(1).

وتضيف الآية في النهاية: (فاتقوا الله وأطيعون).

بعد ذلك، ومن أجل أن ترفع كل نوع من الإِبهام في مسألة عبوديته، تقول الآية: (إنّ الله هو ربّي وربّكم).

الملفت للإِنتباه تكرار كلمة «الرب» مرّتين في هذه الآية، مرّة في حقّه، وأُخرى في حق الناس، ليويضح للناس أنّي وإيّاكم متساوون، وربّي وربّكم واحد. وأنا مثلكم محتاج في كل وجودي إلى الخالق المدبر، فهو مالكي ودليلي.

وللتأكيد أكثر يضيف: (فاعبدوه) إذ لا يستحق العبادة غيره، ولا تليق إلاّ به، فهو الرب والكل مربوبون، وهو المالك والكل مملوكون.

ثمّ يؤكّد كلامه بجملة أُخرى حتى لا تبقى لمتذرع ذريعة، فيقول: (هذا صرط مستقيم)(2).

نعم، إنّ الصراط المستقيم هو طريق العبودية لله سبحانه ... ذلك الطريق الذي  لا إنحراف فيه ولا اعوجاج، كما جاء في الآية (61) من سورة يس: (وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم).

لكن العجب أن يختلف أقوام من بعده مع كل هذه التأكيدات: (فاختلف الأحزاب من بينهم)(3):

____________________________________

1 ـ قال بعض آخر من المفسّرين: إن (بعض) هنا بمعنى الكل، أو أن التعبير بـ (بعض الذي تختلفون فيه) إضافة موصوف إلى الصفة، أو أن هذا التعبير إشارة إلى أنّي أبيّن لكم أُمور الدين وحسب، لا اختلافاتكم في أمر الدنيا. إلاّ أن أيّاً من هذه التفاسير لا يستحق الإِهتمام.

2 ـ ورد نظير هذه الآية بتفاوت يسير في سورة مريم ـ 36، وسورة الأنعام ـ 51، وتكرار هذا المعنى تأكيد على أن عيسى (عليه السلام) قد أتمّ الحجة على جميع هؤلاء في مورد عبوديته وكونه عبداً لله سبحانه.

3 ـ الضمير في (بينهم) يعود إلى الذين خاطبهم المسيح (عليه السلام) في الآية السابقة، ودعاهم إلى عبودية الله سبحانه.

[87]

فالبعض ذهب إلى أنّه الرب الذي نزل إلى الأرض!

وبعض آخر اعتبره ابن ربّه.

وآخرون بأنّه أحد الأقانيم الثلاثة (الذوات المقدسة الثلاثة: الأب، والابن، وروح القدس).

وهناك فئة قليلة فقط هم الذين اعتبروه عبدالله ورسوله، غير أن عقيدة الأغلبية هي التي هيمنت، وعمت مسألة التثليث والآلهة الثلاثة عالم المسيحية.

وقد نقل في هذا الباب حديث تاريخي جميل أوردناه في ذيل الآية (36) من سورة مريم.

ويحتمل أيضاً في تفسير الآية، أنّ هذا الإِختلاف لم يكن بين المسيحيين وحسب، بل حدث بين اليهود والنصارى في المسيح، فغالى أتباعه فيه، وأوصلوه إلى مقام الألوهية، في حين اتهمه وأُمَّه الطاهرة أعداؤه بأشنع الإِتهامات، وهكذا سلوك الجاهلين وعرفهم، بعضهم صوب الإِفراط، وآخرون نحو التفريط، أو هم ـ على حد تعبير أمير المؤمنين علي(عليه السلام) ـ بين محب غال وبين مبغض قال، حيث يقول(عليه السلام): «هلك فيّ رجلان: محب غال، ومبغض قال»(1)!

وكم هي متشابهة أحوال هذين العظيمين!

وهددهم الله سبحانه في نهاية الآية بعذاب يوم القيامة الأليم، فقال: (فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم)(2).

نعم، إنّ يوم القيامة يوم أليم، فطول حسابه أليم، وعقوباته أليمة، وحسرته وغمه أليمان، وخزيه وفضيحته أليمان أيضاً.

 

* * *

____________________________________

1 ـ نهج البلاغة. الكلمات القصار: 117.

2 ـ ينبغي الإنتباه إلى أن (أليم) صفة لليوم لا للعذاب.

[88]

الآيات

هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَيَشْعُرُونَ ( 66 )الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذ بَعْضُهُمْ لِبَعْض عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ( 67 ) يَـعِبَادِ  لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلآ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ( 68 ) الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِئَايَـتِنَا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ( 69 )

 

التّفسير

ماذا تنتظرون غير عذاب الآخرة؟

كان الكلام في الآيات السابقة يدور حول عبدة الأوثان العنودين، وكذلك حول المنحرفين والمشركين في أُمّة عيسى (عليه السلام)، والآيات مورد البحث تجسد عاقبة أمرهم، يقول تعالى: (هل ينظرون إلاّ الساعة أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون

لقد طرح هذا السؤال بصورة الإِستفهام الإِنكاري، وهو في الحقيقة بيان لواقع حال أمثال هؤلاء الأفراد، كما نقول في مقام ذم شخص لا يصغي إلى نصيحة ناصح، ويهيء عوامل فنائه بيده: إنّه بانتظار حتفه فقط!

[89]

والمراد من «الساعة» في هذه الآية ـ ككثير من آيات القرآن الأُخرى ـ هو يوم القيامة، لأنّ الحوادث تقع سريعة حتى كأنّها تحدث في ساعة واحدة.

وجاءت هذه الكلمة ـ أيضاً ـ بمعنى لحظة انتهاء الدنيا، ولما لم يكن بين هذين المعنيين كبير فرق، فمن الممكن أن يكون هذا التعبير شاملاً لكلا المعنيين.

وعلى أية حال، فقد وصف قيام الساعة، الذي يبدأ بانتهاء الدنيا المفاجىء، بوصفين في الآية أعلاه: الأوّل: كونه بغتة، والآخر: عدم علم عامة الناس بتأريخ وقوعها وحدوثها.

من الممكن أن يحدث حدث فجأة، ولكنّا نتوقع حدوثه من قبل، ونكون على استعداد لمواجهة المشاكل التي تنجم عنه، إلاّ أن سوء الحظ والتعاسة في أن تقع فاجعة قاسية وصعبة جدّاً، بصورة مفاجئة ونحن غافلون عنها تماماً.

هكذا بالضبط حال المجرمين، فهم يؤخذون وهم في غفلة تامة، بحيث تصور الروايات الواردة عن نبيّ الإِسلام الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك فتقول: «تقوم الساعة والرجلان يحلبان النعجة، والرجلان يطويان الثوب، ثمّ قرأ (صلى الله عليه وآله وسلم): (هل ينظرون إلاّ الساعة أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون)»(1).

وأي شيء آلم من أن يكون الإِنسان غافلاً أمام مثل هذه الحادثة التي ليس فيها أي طريق أو منفذ للرجوع والخلاص، ويغرق في أمواجها من دون أن يكون مُعِدّاً لمستلزمات النجاة؟

ثمّ رفعت الآية الغطاء عن حالة الأخلاء الذين يودّ بعضهم بعضاً، ويسيرون معاً في طريق المعصية والفساد، والإِغترار بزخارف الدنيا، فتقول: (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلاّ المتقين)(2).

____________________________________

1 ـ تفسير روح البيان، المجلد 25، صفحة 89.

2 ـ «الأخلاء» جمع (خليل) ـ من مادة خلة ـ بمعنى المودّة والمحبّة، وأصلها من الخلل ـ على وزن شرف ـ أي الفاصلة بين جسمين، ولما كانت المحبة والصداقة كأنّها تنفذ في أعماق القلب وثناياه، فقد استعملت فيها هذه الكلمة.

[90]

إن هذه الآية التي تصف مشهداً من مشاهد القيامة، تبيّن بوضوح أنّ المراد من الساعة في الآية السابقة هو يوم القيامة أيضاً، اليوم الذي تنفصم فيه عرى العلاقات الأخوية والصداقة والرفقة، إلاّ العلاقات التي قامت لله وفي الله وباسمه.

إن تبدل مثل هذه المودة إلى عداوة في ذلك اليوم أمر طبيعي، لأنّ كلاً منهم يرى صاحبه أساس تعاسته وسوء عاقبته، فأنت الذي دللتني على هذا الطريق ودعوتني إليه، وأنت الذي زينت الدنيا في نظري ورغبتني فيها وأطمعتني.

نعم، أنت الذي أغرقتني في بحر الغفلة والغرور، وجعلتني جاهلاً بمصيري، غافلاً عنه.

وهكذا يقول كل واحد منهم لصاحبه مثل هذه المطالب، إلاّ المتقين الذين تبقى روابط أخوتهم، وأواصر مودّتهم خالدة، لأنّها تدور حول محور القيم والمعايير الخالدة، وتتّضح نتائجها المثمرة في عرصة القيامة أكثر، فتمنحها قوّة إلى قوّتها.

من الطبيعي أنّ الأخلاء يعين بعضهم بعضاً في أُمور الحياة، فإن كانت خلتهم على أساس الشرّ والفساد، فهم شركاء في الذنب والجريمة، وإن كانت على أساس الخير والصلاح فهم شركاء في الثواب والعطية، وعلى هذا فلا مجال للعجب من أن يتبدل الخليل من القسم الأوّل إلى عدوّ، ومن القسم الثّاني إلى خليل يشتد حبّه ومودّته أكثر من ذي قبل.

يقول الإِمام الصادق (عليه السلام): «ألا كل خُلّة كانت في الدنيا في غير الله عزَّ وجلّ فإنّها تصير عداوة يوم القيامة»(1).

والآية التالية ـ في الحقيقة ـ تبيان لأوصاف المتقين وأحوالهم، وبيان لعاقبتهم التي تبعث على الفخر والإِعتزاز.

في ذلك اليوم العصيب يقول لهم الله تعالى: (يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون).

____________________________________

1 ـ تفسير علي بن إبراهيم، طبق نقل نور الثقلين، ج 4، صفحة 612.

[91]

كم هو جميل هذا النداء؟! نداء مباشر من الله سبحانه من دون واسطة توصله ... نداء يبدأ بأحسن الصفات: يا عباد الله! نداء يزيل قلق الإِنسان في يوم ليس فيه إلاّ القلق والإِضطراب ... نداء يطهر القلب من غم الماضي وحزنه، وينقيه...

نعم، لهذا النداء هذه المزايا الأربعة المذكورة.

وتبيّن آخر آية ـ من هذه الآيات ـ هؤلاء المتقين والعباد المكرمين بصورة أكثر وضوحاً، بذكر جملتين أُخريين، فتقول: (الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين).

أجل، هؤلاء هم الذين يخاطبون بمثل هذا الخطاب العظيم، ويسبحون في تلك النعم.

إن هاتين الجملتين تعريف بليغ باعتقادات هؤلاء وأعمالهم، فهما تبينان إيمانهم الذي هو أساس عقيدتهم الثابت، وتبينان إسلامهم في تسليمهم لأمر الله سبحانه وتنفيذ أوامره.

 

* * *

 

 

[92]

الآيات

ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَجُكُمْ تُحْبَرُونَ( 70 ) يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَاف مِّن ذَهَب وَأَكْوَاب وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَـلِدُونَ( 71 ) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِى أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ( 72 ) لَكُمْ فِيهَا فَـكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِّنْهَا تَأْكُلُونَ( 73 )

 

التّفسير

فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين:

تبيّن هذه الآيات جزاء عباد الله المخلصين، والمؤمنين الصالحين الذين مرّ وصفهم في الآيات السابقة، وتبشرهم بالجنّة الخالدة مع ذكر سبع نعم من نعمها النفيسة الغالية.

تقول أوّلاً: (ادخلوا الجنّة) وبذلك فإنّ مضيفهم الحقيقي هو الله تعالى الذي يدعو ضيوفه ويقول لهم: أدخلوا الجنّة.

ثمّ أشارت إلى أول نعمة من تلك النعم، فقالت: (أنتم وأزواجكم) ومن الواضح أنّ كون المؤمنين الرحماء إلى جانب زوجاتهم المؤمنات يمنحهما معاً

[93]

اللذة والسرور، فإذا كانا شريكين في همّ الدنيا، فإنّهما سيكونان شريكين في سرور الآخرة ونشوتها.

وقد فسّر بعضهم «الأزواج» هنا بالمتساوين في الدرجة والأصدقاء والأقارب، فلو صحَّ فوجودهم نعمة عظيمة، إلاّ أنّ ظاهر الآية هو المعنى الأوّل.

ثمّ تضيف: (تحبرون).

«تحبرون» من مادة حِبْر ـ وزن فكر ـ أي الأثر المطلوب، وتطلق أحياناً على الزينة وآثار الفرح التي تظهر على الوجه، وإذا قيل للعلماء أحبار، فلآثارهم التي تبقى بين المجتمعات البشرية، كما يقول أمير المؤمنين علي(عليه السلام): «العلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة»(1).

وتقول في بيان النعمة الثالثة: (يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب) فهم يُضافون ويخدمون بأفضل الأواني، وألذّ الأطعمة، في منتهى الهدوء والإِطمئنان والصفاء.

«الصحاف» جمع صحفة، وهي في الأصل من مادة صحف، أي التوسع، وتعني هنا الأواني الكبيرة الواسعة والأكواب جمع كوب، وهي أقداح الماء التي لا عروة لها.

ومع أنّ الكلام في الآية عن الصحاف الذهبية، دون طعامهم وشرابهم، إلاّ أن من البديهي أنّ الذين يخدمونهم لا يطوفون عليهم بصحاف خالية مطلقاً.

وتشير في الرابعة والخامسة إلى نعمتين أُخريين جمعت فيهما كلّ نعم العالم المادية والمعنوية، فتقول: (وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين)، وعلى قول المرحوم الطبرسي في مجمع البيان: لو أنّ جميع الخلائق قد اجتمعت لوصف أنواع نعم الجنّة، فسوف لا يقدرون أن يضيفوا شيئاً على ما جاء في هذه الجملة أبداً.

وأي تعبير أجمل من هذا التعبير وأجمع منه؟ فهو تعبير بسعة عالم الوجود،

____________________________________

1 ـ نهج البلاغة، الكلمات القصار 147.

[94]

وبسعة ما يخطر في أذهاننا اليوم وما لا يخطر، تعبير ليس فوقه تعبير.

والطريف أن مسألة شهية النفس قد بيّنت منفصلة عن لذة العين، وهذا الفصل عميق المعنى: فهل هو من قبيل ذكر الخاص بعد العام، من جهة أن للذّة النظر أهمية خاصّة تفوق اللذات الأُخرى؟ أم هو من جهة أن جملة: (ما تشتهيه الأنفس)تبيّن لذات الذوق والشم والسمع واللمس، أمّا جملة: (تلذ الأعين) فهي تبيان للذة العين والنظر.

ويعتقد البعض أنّ جملة: (ما تشتهيه الأنفس) إشارة إلى كلّ اللذات الجسمية، في حين أن جملة: (تلذ الأعين) مبينة للذات الروحية، وأي لذة في الجنة أسمى من أن ينظر الإِنسان بعين القلب إلى جمال الله الذي لا يشبهه جمال، فإنّ لحظة من تلك اللحظات تفوق كل نعم الجنة المادية.

ومن البديهي أنّ شوق الحبيب كلما زاد، كانت لذة الالقاء أعظم.

 

سؤال:

وهنا يطرح سؤال، وهو: هل أنّ سعة عمومية مفهوم هذه الآية، دليل على أنّهم يطلبون من الله هناك أن يمنحهم أُموراً كانت حراماً في الدنيا؟

 

والجواب:

إنّ طرح هذا السؤال ناتج عن عدم الإِلتفات إلى نكتة، وهي أنّ المحرمات والقبائح كالغذاء المضر لروح الإِنسان، ومن المسلم أنّ الروح السالمة الصحيحة لا تشتهي مثل هذا الغذاء، وتلك التي تميل أحياناً إلى السموم والأغذية المضرة هي الأرواح المريضة.

إنّنا نرى بعض المرضى يميلون حتى في حالة المرض إلى تناول التراب أو أشياء أُخرى من هذا القبيل، إلاّ أنّهم بمجرّد أن يزول عنهم المرض تزول عنهم

[95]

هذه الشهية الكاذبة.

نعم، إنّ أصحاب الجنّة سوف لا يميلون أبداً إلى مثل هذه الأعمال، لأن ميل الروح وانجذابها إليها من خصائص أرواح أصحاب الجحيم المريضة.

إنّ هذا السؤال يشبه ما ورد في الحديث من أن أعرابياً أتى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وقال: هل في الجنّة إبل؟ فإنّي أحبّها حبّاً جمّاً، فالتفت إليه النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) الذي كان يعلم أن في الجنّة نعماً سينسى معها الأعرابي الابل، وأجابه بعبارة قصيرة فقال: «يا أعرابي، إن أدخلك الله الجنّة أصبت فيها ما اشتهت نفسك ولذت عينك»(1).

وبتعبير آخر: فهناك العالم الذي ينسجم فيه الإِنسان مع الحقائق تماماً.

وعلى كل حال، لما كانت قيمة النعمة في كونها خالدة، فقد طمأنت الآية أصحاب النعيم من هذه الجهة عندما ذكرت الصفة السادسة فقالت: (وأنتم فيها خالدون)لئلاّيكدر التفكير في زوال هذه النعمة صفو عيشهم ولذّتهم، فيقلقوا من المستقبل وما يخبئه.

وهنا، من أجل أن يتّضح أن كل نعم الجنّة هذه تعطى جزاءً لا اعتباطاً وعبثاً، تضيف الآية: (وتلك الجنّة التي أورثتموها بما كنت تعملون).

والطريف في الأمر أنّ الآية تطرح مجازاة الأعمال وكون الجنّة في مقابلها من جهة، ومن جهة أُخرى تجعلها إرثاً، وهو يستعمل عادة في الموارد التي تصل فيها النعمة إلى الإِنسان من دون أن يبذل جهداً أو سعياً في تحصيلها، وهذه إشارة إلى أنّ أعمالكم هي أساس خلاصكم ونجاتكم، إلاّ أن ما تحصلون عليه إذا ما قورن بأعمالكم فهو كالشيء المجاني المعطى من قبل الله تعالى، وكالهبة حصلتم عليها بفضله.

ويعتبر البعض هذا التعبير إشارة إلى ما قلناه سابقاً من أن لكل إنسان منزلاً في الجنّة ومحلاً في الجحيم، فيرث أصحاب الجنّة منازل أصحاب النّار، ويرث

____________________________________

1 ـ روح البيان، المجلد 8، صفحة 391.

[96]

أصحاب النّار أمكنة أصحاب الجنّة!

إلاّ أنّ التّفسير الأوّل يبدو هو الأنسب.

والكلام في النعمة السابعة والأخيرة في ثمار الجنّة التي هي من أفضل نعم الله، فتقول الآية: (لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون).

لقد كانت الصحاف والأكواب بياناً لأنواع الأطعمة والأشربة في الواقع، أمّا الفواكه فلها حسابها الخاص، وقد أُشير إليه في آخر آية من هذه الآيات.

والجميل أنّها تبيّن بتعبير (منها) حقيقة أنّ فاكهة الجنّة كثيرة جدّاً بحيث لا تتناولون إلاّ جزءاً منها، وعلى هذا فإنّها لا تفنى، وأشجارها مثمرة دائماً.

وجاء في الحديث: «لا ينزع رجل في الجنّة ثمرة من ثمرها إلاّ نبت مثلها مكانها»(1).

كانت هذه بعض نعم الجنّة التي تبعث الحياة في النفوس، وهي بانتظار ذوي الإِيمان القوي البيّن، والأعمال الصالحة النبيلة.

 

* * *

 

 

____________________________________

1 ـ تفسير روح البيان، الجزء 8، صفحة 192.

[97]

الآيات

إِنَّ الُْمجْرِمِينَ فِى عَذَابِ جَهَنَّمَ خَـلِدُونَ( 74 ) لاَيُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ( 75 ) وَمَا ظَلَمْنَـهُمْ وَلَـكِن كَانُواْ هُمُ الظَّـلِمِينَ( 76 ) وَنَادَوْا يَـمَـلِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّـكِثُونَ( 77 ) لَقَدْ جِئْنَـكُم بِالْحَقِّ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَـرِهُونَ( 78 ) أَمْ أَبْرَمُواْ أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ( 79 ) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَنَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ( 80 )

 

التّفسير

نتمنى أن نموت لنستريح من العذاب:

لقد فصّلت هذه الآيات القول في مصير المجرمين والكافرين في القيامة، ليتّضح الفرق بينه وبين مصير المؤمنين ـ المطيعين لأمر الله ـ المشرف السعيد من خلال المقارنة بين المصيرين.

تقول الآية الأولى: (إنّ المجرمين في عذاب جهنم خالدون).

«المجرم» من مادة جرم، وهو في الأصل بمعنى القطع الذي يستعمل في قطع

[98]

الثمار من الشجرة ـ أي القطف ـ وكذلك في قطع نفس الشجرة، إلاّ أنّه استعمل فيما بعد في القيام بكل عمل سيء، وربّما كان سبب هذا الإِستعمال هو أنّ هذه الأعمال تفصل الإِنسان عن ربّه وعن القيم الإِنسانية، وتبعده عنهما.

لكن من المسلم هنا أنّه لا يريد كل المجرمين، وإنّما المراد هم المجرمون الذين اتخذوا سبيل الكفر سبيلاً لهم، بقرينة ذكر مسألة الخلود والعذاب الخالد، وبقرينة المقارنة بالمؤمنين الذين مرّ الكلام عنهم في الآيات السابقة. ويبدو بعيداً ما قاله بعض المفسّرين من أنها تشمل كل المجرمين.

ولما كان من الممكن أن يخفف العذاب الدائمي بمرور الزمان، وتقل شدته تدريجياً، فإنّ الآية التالية تضيف: (لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون)، وعلى هذا فإنّ عذاب هؤلاء دائم من ناحيتي الزمان والشدّة، لأنّ الفتور يعني السكون بعد الحدة، واللين بعد الشدة، والضعف بعد القوّة كما يقول الراغب في مفرداته.

«مبلس» من مادة «إبلاس»، وهي في الأصل الحزن الذي يصيب الإِنسان من شدة التأثر والإِنزعاج، ولما كان هذا الهم والحزن يدعو الإِنسان إلى السكوت، فقد استعملت مادة الإِبلاس بمعنى السكوت والإِمتناع عن الجواب أيضاً. ولما كان الإِنسان ييأس من خلاص نفسه ونجاته في الشدائد العصيبة، فقد استعملت هذه المادة في مورد اليأس أيضاً، ولهذا المعنى سمي «إبليسُ» إبليسَ، إذ أنّه آيس من رحمة الله.

على أية حال، فإنّ هاتين الآيتين قد أكدتا على ثلاث مسائل: مسألة الخلود، وعدم تخفيف العذاب، والحزن واليأس المطلق. وما أشد العذاب الذي تمتزج فيه هذه الأُمور الثلاثة وتجتمع.

وتنبه الآية التالية إلى أنّ هؤلاء هم الذين أرادوا هذا العذاب الأليم، واشتروه بأعمالهم وبظلمهم لأنفسهم، فتقول: (وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين).

فكما أن الآيات السابقة قد بينت أن منبع كل تلك النعم اللامتناهية هي أعمال

[99]

المؤمنين المتقين، فإن هذه الآيات تعد أعمال هؤلاء الظالمين سبب هذا العذاب الخالد ومنبعه. وأي ظلم أكبر من أن يكذّب الإِنسان بآيات الله سبحانه، ويضرب جذور سعادته بمعول الكفر والإفتراء: (ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب).(1)

نعم، إن القرآن يرى ارادة الإِنسان وأعماله السبب الأساسي لكل سعادة أو شقاء، لا المسائل الظنية والوهمية التي اصطنعها البعض لأنفسهم.

ثمّ تطرقت الآية إلى بيان جانب من مذلة هؤلاء ومسكنتهم، فقالت، (ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك) فمع أن كل امرىء يهرب من الموت ويريد استمرار الحياة وبقاءها، إلاّ أنّه عندما تتوالى عليه المصائب أحياناً ويضيق عليه الخناق يتمنى على الله الموت، وإذا كانت هذه الأمنية قد تحدث أحياناً لبعض الناس في الدنيا، فانّها تعمّ جميع المجرمين هناك ، فكلهم يتمنى الموت.

ولكن حيث لا فائدة من ذلك، فإنّ مالك النّار وخازنها يجيبهم: (قال إنكم ماكثون)(2).

والعجيب أنّ خازن النّار يجيبهم بعد ألف سنة ـ برأي بعض المفسّرين ـ وبكل احتقار وعدم اهتمام، فما أشد ايلام هذا الإِحتقار(3).

قد يقال: كيف يطلب هؤلاء مثل هذا الطلب مع يقينهم أن لا موت هناك؟ غير أن مثل هذا الطلب طبيعي من إنسان أحاطت به المصائب والآلام، وقطع أمله من كل شيء.

أجل، إن هؤلاء عندما يرون كل سبل النجاة مغلقة في وجوههم، سيطلقون هذه الصرخة من أعماق قلوبهم، ولكن حق القول عليهم بالعذاب، فلا فائدة من

____________________________________

1 ـ الصف، الآية 7.

2 ـ «ماكثون» من مادة (مكث)، وهو في الأصل التوقف المقترن بالإنتظار، وربّما كان هذا التعبير من مالك استهزاءً، كما نقول ـ أحياناً ـ لمن يطلب شيئاً لا يستحقه انتظر!

3 ـ مجمع البيان، ذيل الآيات مورد البحث وقال البعض: إنّ المسافة بين السؤال والجواب مائة سنة، وآخرون: أربعون سنة، ومهما تكن فإنّها دليل على الإحتقار وعدم الإهتمام.

[100]

صراخهم، ولا صريخ لهم.

أمّا لماذا لا يطلب هؤلاء الموت من الله مباشرة، بل يقولون لمالك: (ليقض علينا ربّك)؟ فلأنّهم في ذلك اليوم محجوبون عن ربّهم، كما نقرأ ذلك في الآية (15) من سورة المطففين: (كلا إنّهم عن ربّهم يومئذ لمحجوبون) ولذلك يطلبون طلبتهم هذه من ملك العذاب. أو بسبب أن مالكاً ملك مقرب عند الله سبحانه.

وتقول الآية الأُخرى، والتي هي في الحقيقة علة لخلود هؤلاء في نار جهنم: (لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون).

وللمفسّرين رأيان مختلفان في أن هذا الكلام هل هو من قبل مالك خازن النّار، وأن ضمير الجمع يعود على الملائكة ومنهم مالك، أم أنّه كلام الله تعالى؟

السياق يوجب أن يكون الكلام كلام مالك، لأنّه أتى بعد كلامه السابق، إلاّ أنّ محتوى نفس الآية ينسجم مع كونه كلام الله تعالى، والشاهد الآخر لهذا الكلام الآية (71) من سورة الزمر: (وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم) فهنا يعد الملائكة الرسل هم الذين جاؤوا بالحق، لا هم.

وللتعبير «بالحق» معنى واسع يشمل كل الحقائق المصيرية، وإن كانت مسألة التوحيد والمعاد والقرآن تأتي في الدرجة الأولى.

وهذا التعبير يشير ـ في الحقيقة ـ إلى أنّكم لم تخالفوا الأنبياء فحسب، وإنّما خالفتم الحق في الواقع، وهذه المخالفة هي التي ساقتكم إلى العذاب الخالد الأبدي.

وتعكس الآية التالية جانباً من كراهية هؤلاء للحق واشمئزازهم منه، وكذلك مناصرتهم للباطل والتمسك به، فتقول: (أم أبرموا أمراً فإنّا مبرمون)(1) فقد حاك هؤلاء الأشرار الدسائس ودبروا المؤمرات لإِطفاء نور الإِسلام، وقتل النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)ولم يتورعوا في إنزال الضربات بالإِسلام والمسلمين ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.

____________________________________

1 ـ «أم» في الآية منقطعة، وهي بمعنى (بل) والإبرام بمعنى الإحكام.

[101]

وفي المقابل أردنا أن نجازي هؤلاء في هذه الحياة الدنيا، وفي الآخرة بأشد العذاب.

ويرى بعض المفسّرين أن سبب نزول هذه الآية هو قضية مؤامرة قتل النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)قبل الهجرة، والتي أشير إليها في الآية (30) من سورة الأنفال: (وإذ يمكر بك الذين كفروا...)(1).

والظاهر أن هذا من قبيل التطبيق، لا أنه سبب النّزول...

والآية الأُخرى بيان لإِحدى علل التآمر، فتقول: (أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم)؟ فإن الأمر ليس كذلك، إذ نحن نسمع ورسلنا: (بلى ورسلنا لديهم يكتبون).

«السر» هو ما يضمره الإِنسان في قلبه، أو ما يودعه من أسراره لدى إخوانه وأصدقائه، و«النجوى» هي الهمس في الأذن.

نعم، فإن الله سبحانه لا يسمع نجواهم وهمسهم فيما بينهم فحسب، بل يعلم ما يضمرونه في أنفسهم أيضاً، فإن السر والعلن لديه سواء.

والملائكة المكلفون بتسجيل أعمال البشر وأقوالهم يكتبون هذه الكلمات في صحائف أعمالهم دائماً ، وإن كانت الحقائق بدون ذلك واضحة أيضاً، ليروا جزاء أعمالهم وأقوالهم ومؤامراتهم في الدنيا والآخرة.

 

* * *

 

 

____________________________________

1 ـ الفخر الرازي، ذيل الآيات مورد البحث.

[102]

الآيات

قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَـنِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ الْعَـبِدِينَ( 81 ) سُبْحَـنَ رَبِّ السَّمَـوَاتِ وَالأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ( 82 ) فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ حَتَّى يُلَـقُواْ يَوْمَهُمُ الَّذِى يُوعَدُونَ( 83 ) وَهُوَ الَّذِى فِى السَّمَآءِ إِلَـهٌ وَفِى الأرْضِ إِلَـهٌ وَهُوَ الْحَكيمُ الْعَلِيمُ ( 84 )وَتَبَارَكَ الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَـوتِ والأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ( 85 )

 

التّفسير

ذرهم في خوضهم يلعبون:

لما كان البحث في الآيات السابقة ـ وخاصة في بداية السورة ـ عن مشركي العرب واعتقادهم بأنّ لله ولداً، وأنّهم كانوا يظنون الملائكة بنات الله، ولما مر البحث في عدة آيات مضت عن المسيح(عليه السلام) ودعوته إلى الوحدانية الخالصة والعبودية لله وحده، فقد ورد البحث في هذه الآيات في نفي هذه العقائد الفاسدة عن طريق آخر.

[103]

تقول الآية: (قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين) لأن ايماني بالله أقوى من ايمانكم جميعاً، ومعرفتي به أكبر، وعليه فيجب أن أعظّم ولده وأطيعه قبلكم.

وبالرغم من أنّ مضمون هذه الآية بدا معقداً لجماعة من المفسّرين، فذكروا توجيهات مختلفة له كان بعضها عجيباً جدّاً(1)، لكن لا يوجد في الواقع أي تعقيد في محتوى الآية، وهذا الأسلوب الرائع يستعمل مع الأفراد العنودين المتعصبين، كما لو قال شخص: إن فلاناً أعلم من الجميع، في حين أنّه لا يعلم شيئاً، فيقال له: إذا كان هو الأعلم فأنا أوّل من يتبعه، وذلك ليبذل القائل جهده في البحث عن دليل يدعم به مدعاه، وعندما يصطدم بصخرة الواقع يستيقظ من غفلته.

غاية ما في الأمر أنّ هناك نكتتين يجب الإِلتفات إليهما:

الأولى: أنّ العبادة لا تعني العبادة في كل الموارد، فقد تأتي أحياناً بمعنى الطاعة والتعظيم والإِحترام، وهي هنا بهذا المعنى، فعلى فرض أن لله ولداً ـ وهو فرض محال ـ فلا دليل على عبادته، لكنّه لما كان ـ طبقاً لهذا الفرض ـ ابن الله فيجب أن يكون مورد احترام وتقدير وطاعة.

والأُخرى: أنّ (لو) تستعمل بدل (أن) في مثل هذه الموارد عادة في أدب العرب، وهي تدل على كون الشيء مستحيلاً، وإنّما لم تستعمل في الآية ـ مورد البحث ـ مماشاة وانسجاماً في الكلام مع الطرف المقابل.

وعلى هذا، فإنّ النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: لو كان لله ولد لبادرت قبلكم إلى احترامه وتعظيمه، ليطمئن هؤلاء من إستحالة أن يكون لله ولد.

بعد هذا الكلام ذكرت الآية دليلاً واضحاً على نفي هذه الادعاءات، فقالت:

____________________________________

1 ـ فمثلاً: إن بعض المفسّرين قد فسّر (إن) هنا بمعنى النفي، و(أنا أول العابدين) بمعنى أول من عبد الله، وعلى هذا التّفسير فإن معنى الآية يصبح: لا ولد لله أبداً، وأنا أوّل من عبد لله!

وفسر البعض الآخر (العابدين) بالذي يأبى العبادة، وعلى هذا يكون المعنى: إن كان لله ولد فإني سوف لا أعبد مثل هذا الرب أبداً، لأنه بأبوته لا يمكن أن يكون رباً.
وواضح أن مثل هذه التفاسير لا تنسجم مع ظاهر الآية بأي وجه من الوجوه.

[104]

(سبحان ربّ السماوات والأرض ربّ العرش عما يصفون) فإنّ من كان مالكاً للسماوات والأرض ومدبراً لها، وربّاً للعرش العظيم، لا يحتاج إلى الولد، فهو الوجود اللامتناهي، والمحيط بكل عالم الوجود، ومربي كل عالم الخلقة، بل يحتاج الولد من يموت، ولا يستمر وجوده إلاّ عن طريق الولد.

الولد لازم لمن يحتاج العون والأنس في وقت العجز والوحدة.

وأخيراً فإن وجود الولد دليل على الجسمانية والانحصار في حيّز الزمان والمكان.

إنّ ربّ العرش، والسماء والأرض، والمنزّه عن كل هذه الأُمور، غني عن الولد.

والتعبير بـ(رب العرش) بعد (رب السماوات والأرض) من قبيل ذكر العام بعد الخاص، لأنّ العرش ـ وكما قلنا سابقاً ـ يقال لمجموع عالم الوجود، والذي هو عرش حكومة الله عزَّ وجلّ.

ويحتمل أيضاً أن يكون العرش إشارة إلى عالم ما وراء الطبيعة، فيكون في مقابل السماوات والأرض التي تشير إلى عالم المادة.

لمزيد الإِطلاع على معنى العرش، راجع التّفسير الأمثل ذيل الآية (255) من سورة البقرة، وأوسع منه ما جاء في ذيل الآية (7) من سورة المؤمن.

ثمّ تضيف الآية الأُخرى كاحتقار لهؤلاء المعاندين وتهديد لهم، وهو بحد ذاته أسلوب آخر من أساليب البحث مع أمثال هؤلاء الأفراد (فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون) ليجنوا عاقبة أعمالهم، وليذوقوا وبال أمرهم.

من الواضح أن المراد من هذا اليوم الموعود هو يوم القيامة، وما احتمله البعض من أن المراد هو لحظة الموت فيبدوا بعيداً جدّاً، لأنّ الجزاء على الأعمال يكون في يوم القيامة لا في لحظة الموت.

إنّه نفس اليوم الموعود الذي أقسمَ الله تعالى به في الآية (2) من سورة البروج، حيث تقول الآية: (واليوم الموعود).

[105]

وتواصل الآيتان التاليتان البحث حول مسألة التوحيد، وهما تشكلان نتيجة للآيات السابقة من جهة، ومن جهة أُخرى دليلاً لتكملتها وإثباتها. وفيهما سبع من صفات الله سبحانه، ولجميعها أثر في تحكيم وتقوية مباني التوحيد.

فتقف الآية الأولى بوجه المشركين الذين كانوا يعتقدون بانفصال إله السماء عن إله الأرض، بل ابتدعوا للبحر إلهاً، وللصحراء إلهاً وآخر للحرب، ورابعاً للصلح والسلم، وآلهة مختلفة ومتعددة بتعدد الموجودات، فتقول: (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله) لأنّ كونه إلهاً في السماء والأرض يثبت كونه ربّاً ومعبوداً فيهما ـ وقد مرّ ذلك في الآيات السابقة ـ لأنّ المعبود الحقيقي هو ربّ العالم ومدبره، لا الأرباب المختلفة، ولا الملائكة، ولا المسيح ولا الأصنام، فكلها ليست أهلاً لأن تكون أرباباً وآلهة، إذ ليس لها مقام الربوبية، فكلها مخلوقة في أنفسها ومربوبة، وتتمتع بأرزاق الله، وكلها تعبده سبحانه.

وتقول في الصفتين الثّانية والثّالثة (وهو الحكيم العليم) فكل أعماله تقوم على أساس الدقّة والحساب والنظم، وهو عليم بكل شيء ومحيط به، وبذلك فإنّه يعلم أعمال العباد جيداً، ويجازيهم عليها طبقاً لحكمته.

وتتحدث الآية الثانية في الصفتين الرابعة والخامسة، بركات وجوده الدائمة الوفيرة، وعن امتلاكه السماء والأرض وما بينهما، فتقول: (تبارك الذي له ملك السماوات والأرض وما بينهما).

«تبارك» من مادة بركة، وتعني امتلاك النعمة الوفيرة، أو الثبات والبقاء، أو كليهما، وكلاهما يصدقان في شأن الله تعالى، فإنّ وجوده باق وخالد، وهو مصدر النعم الكثيرة.

وليس للخير الكثير كمال المعنى إذا لم يكن ثابتاً وباقياً، فإنّ الخيرات مهما كانت كثيرة، فهي تعد قليلة إذا كانت مؤقتة وسريعة الزوال.

وتضيف في الصفتين السّادسة والسّابعة: (وعنده علم الساعة وإليه ترجعون)

[106]

وعلى هذا فإذا أردتم الخير والبركة فاطلبوها منه لا من الأصنام، فإن مصائركم إليه يوم القيامة، وهو المرجع الوحيد لكم، وبيده كل شيء، وليس للأصنام والآلهة أي دور في هذه الأُمور.

* * *

 

ملاحظات

1 ـ لقد تكررت (السماوات والأرض) في هذه الآيات ثلاث مرات: مرّة لبيان كون الله ربّاً ومدبراً لهما، وأُخرى في كونه إلهاً فيهما، وثالثة في كونه مالكاً وحاكماً، وهذه الأُمور الثلاثة مترابطة ببعضها، وهي في الحقيقة علة ومعلول لبعضها البعض، فهو مالك، ولذلك فهو ربّ، وهو في النتيجة إله. ووصفه بالحكيم والعليم إكمال لهذه المعاني.

2 ـ يستفاد من بعض الرّوايات الإِسلامية أن تعبير الآيات المذكورة بـ(وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله) كان قد أصبح وسيلة لبعض الزنادقة والمشركين لإثبات مدعاهم، وكانوا يفسّرون الآية ـ حسب سفسطتهم ـ بأن في السماء إلهاً، وفي الأرض إلهاً آخر غيره، في حين أنّ الآية تقول بعكس ذلك، فهي تقول: إنّه الإِله الذي يعبد في السماء وفي الأرض، أي إنّه تعالى هو المعبود في كل مكان.

ومع ذلك، فإنّ الزنادقة عندما كانوا يطرحون هذا المطلب كسؤال أمام الأئمّة المعصومين، فإنّهم(عليهم السلام) كانوا يجيبونهم على طريقة النقض والحل:

فمن جملة ذلك ما ورد في الكافي عن هشام بن الحكم، أنّه قال: قال أبو شاكر الديصاني(1): إن في القرآن آية هي قولنا، قلت: ما هي؟ قال: (وهو الذي في السماء

____________________________________

1 ـ كان أبوشاكر الديصاني أحد علماء فرقة الديصانية، الذين كانوا يعتقدون بعبادة إلهين، ويقولون بإله النور وإله الظلمة. (لغت نامه دهخدا مادة ديصان).

[107]

إله وفي الأرض إله) فلم أدر بما أجيبه.

فحججت فخبرت أبا عبدالله (عليه السلام)، فقال: «هذا كلام زنديق خبيث، إذا رجعت إليه فقل له: ما اسمك بالكوفة؟ فإنّه يقول: فلان، فقل له: ما اسمك في البصرة؟ فإنّه يقول: فلان، فقل: كذلك الله ربّنا، في السماء إله، وفي الأرض إله، وفي البحار إله، وفي القفار إله، وفي كل مكان إله».

قال: فقدمت فأتيت أبا شاكر فأخبرته، فقال: هذه نقلت من الحجاز(1).

وذكر المفسّر الكبير العلاّمة الطبرسي لتكرار لفظ الإِله، في هذه الآية علتين:

إحداهما: التأكيد على كون الله تعالى إلهاً في كل مكان.

والأُخرى: أنه إشارة إلى أن ملائكة السماء تعبده، والبشر في الأرض يعبدونه أيضاً، وعلى هذا فإنه إله الملائكة وبني آدم وكل الموجودات في السماوات والأرض.

 

* * *

 

 

____________________________________

1 ـ أصول الكافي، المجلد الأول، كتاب التوحيد، باب الحركة والإنتقال حديث 10.

[108]

الآيات

وَلاَ يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَـعَةَ إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ( 86 ) وَلَئِن سَألْتَهُم مَّن خَلَقهُمْ لَيقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ( 87 ) وَقِيلِهِ يَـرَبِّ إِنَّ هَـؤُلآءِ قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ ( 88 ) فاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَـمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ( 89 )

 

التّفسير

من يملك الشفاعة؟

لا زال الحديث في هذه الآيات ـ وهي آخر آيات سورة الزخرف ـ حول إبطال عقيدة الشرك وتفنيدها، وعاقبة المشركين المُرّة، وهي توضح بطلان عقيدتهم بدلائل أُخرى.

تقول الآية الأولى: (ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة) فلا تقام الشفاعة عند الله إلاّ بإذنه، ولم يأذن الله الحكيم بها لهذه الأحجار والأخشاب التي لا قيمة لها، والفاقدة للعقل والشعور والإِدراك مطلقاً.

لكن لما كانت الملائكة وأمثالها من بين آلهة هؤلاء، فقد استثنوا في ذيل الآية،

[109]

فقالت: (إلاّ من شهد بالحق) وهم الذين أسلموا لوحدانية الله سبحانه في جميع المراحل، وأذعنوا لها. نعم، هؤلاء هم الذين يشفعون بإذن الله تعالى.

لكن ليس الأمر كما تتوهمون أنّهم يشفعون لأي كان، حتى وإن كان وثنياً ومشركاً ومنحرفاً عن طريق التوحيد وضالاً عن الصراط المستقيم، بل (وهم يعلمون)جيداً لمن يشفعون.

وعلى هذا فإنّهم يقطعون الأمل من شفاعة الملائكة لسببين:

الأوّل: أنّها كانت بنفسها تقرّ بوحدانية الله وتشهد بها، ولذلك حصلت على إذن الشفاعة.

والآخر: أنهم يعرفون جيداً من له أهلية الشفاعة ومستحقها(1).

واعتبر البعض جملة (وهم يعلمون) مكملة لجملة (إلاّ من شهد بالحق) وعلى هذا يصبح معنى الآية: إن الذين يشهدون بالتوحيد ويعلمون حقيقته هم الذين يملكون حق الشفاعة فقط. إلاّ أنّ التّفسير الأوّل هو الأنسب.

وعلى أية حال، فإن هذه الآية تبيّن الشرط الأساس الذي ينبغي توفره في الشفعاء عند الله تعالى، وهم الشاهدون بالحق، والعالمون به على الدوام والمحيطون بروح التوحيد جيداً، وهم كذلك عالمون بأحوال المشفوع لهم وأوضاعهم.

ثمّ تدين المشركين من أفواههم، وتجيبهم جواباً قاطعاً، فتول: (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله).

لقد قلنا مراراً إن من النادر أن يوجد من بين مشركي العرب وغيرهم من يعتقد أن الأصنام هي الخالقة لهم، فإنّ الأعم الأغلب منهم يعتبرون الأصنام وسائط

____________________________________

1 ـ طبقاً لهذا التّفسير فإن استثناء (إلاّ من شهد بالحق) استثناء متصل، لكنه يصبح منقطعاً فيما إذا كان المراد من جملة (الذين يدعون من دونه الشفاعة) خصوص الأصنام. لكن يبدو أن المعنى الأوّل هو الأنسب، خاصة بملاحظة (الذين) وهي للعاقل، أو التغليب من العاقل وغير العاقل.

[110]

وشفعاء يقربونهم إلى الله زلفى، أو أنها دلائل وعلامات لأولياء الله المقدسين، ثمّ يضمون إليها ذريعة أن معبودنا يجب أن يكون موجوداً ملموساً ومحسوساً لنأنس به، فيعبدونها، ولذا فإنّهم متى ما سئلوا عن خالقهم فسيقولون: الله.

وقد ذكّر القرآن مراراً بحقيقة أن العبادة لا تليق إلاّ بخالق هذا الكون ومدبره، وإذا كنتم تعلمون أن الله هو الخالق والمدبر، فلم يبق لكم إلاّ أن تقصروا عبادتكم عليه، وتخصوه بها.

ولذلك فإنّ الآية تقول في نهايتها (فأنى تؤفكون) وهو لوم وتوبيخ لهم .. فإنّكم إذا علمتم حقيقة الأمر فلم تعرضون عن الله وتعبدون غيره؟

وتحدثت الآية التالية عن شكوى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الله سبحانه من هؤلاء القوم المتعصبين الذين لا منطق لديهم، فقالت: (وقيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون).

إنّه يقول: لقد تحدثت مع هؤلاء القوم ليلاً ونهاراً، فأتيتهم من طريق التبشير والإِنذار، وذكرت لهم قصص الأقوام الماضين المؤلمة، وحذرتهم من عذابك، ورغبتهم في رحمتك إن هم رجعوا عن طريق الضلال، وخلاصة القول: إنّي أبلغتهم الأمر ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، وقلت كل ما ينبغي أن يقال، إلاّ أن حرارة كلامي لم تؤثر في برودة قلوبهم، فهي كالحجارة أو أشدّ قسوة، فلم يؤمنوا(1).

ويأمر الله سبحانه نبيّه في آخر آية أن (فاصفح عنهم)ولا يكن إعراضك عنهم إعراض افتراق وغضب وأذى وجرح للمشاعر، بل أعرض عنهم (وقل سلام) لا سلام تحية ومحبّة، بل سلام وداع وافتراق.

____________________________________

1 ـ هنا اختلاف كبير بين المفسّرين في أن (قيله) معطوفة على ماذا؟ فالبعض يعتقد أنها معطوفة على الساعة التي مرت قبل ثلاث آيات، وعلى هذا يصبح معنى الجملة: إنّ الله عنده علم الساعة، وشكوى النّبي من الكفار.

والبعض الآخر اعتبرها معطوفة على (علم الساعة) بشرط أن تكون (علم) مقدرة قبل (قيله) كمضاف محذوف. وهو لا يختلف كثيراً عن التّفسير الأول.
واعتبر جماعة الواو واو القسم. وهناك احتمالات أُخرى لو ذكرناها هنا لطال بنا المقام.
وهنا احتمال آخر لعله أفضل من كل ما قيل في هذا الباب، وهو أنّها معطوفة على محذوف جملة: (انى يؤفكون)، وتقدير ذلك: (أنى يؤفكون عن عبادته وعن قيله يارب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون).

[111]

إنّ هذا السلام يشبه ذلك السلام الذي ورد في الآية (63) من سورة الفرقان: (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً) سلام هو علامة اللامبالاة بهم ممتزجةً بالعلوّ والعزة.

ومع ذلك فإنّه تعالى يهددهم ويحذرهم بجملة عميقة المعنى، لئلا يتصوروا أن الله تاركهم بعد هذا الفراق والوداع، فيقول: (فسوف يعلمون).

نعم، سوف يعلمون أي نار محرقة قد أوقدوها لأنفسهم بعنادهم، وأي عذاب أليم قد هيأوا أسبابه ليطالهم فيما بعد؟

وقد ذكر البعض سبب نزول الآية (ولا يملك الذين يدعون ...) وهو : أن «النضر بن الحارث» ونفراً من قريش قالوا: إنّ كان ما يقوله محمّد حقاً، فلا حاجة لنا بشاعته، فإننا نحبّ الملائكة وهم أولياؤنا، وهم أحق بالشفاعة، فنزلت هذه الآية ونبهتهم على أن الملائكة لا تشفع يوم القيامة إلاّ لمن يشهدون بالحق، أي للمؤمنين.

وهنا تنتهي سورة الزخرف.

اللّهم، قربنا منك ومن أوليائك يوماً بعد يوم، وزدنا حباً لك ولهم حتى تنالنا شفاعتهم.

اللّهم، احفظنا من كل شرك خفي وجلي.

إلهنا، قد وصفت يوم القيامة في كتابك بصفات مهولة ومفزعة وتجعل الناس سكارى وما هم بسكارى ..

اللهم فعاملنا بفضلك في ذلك اليوم ولا تعاملنا بعدلك، يا أرحم الراحمين.

آمين ربّ العالمين.

نهاية سورة الزخرف

 

* * *




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21332950

  • التاريخ : 28/03/2024 - 11:12

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net