00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة الزخرف من أول السورة ـ 25 من ( ص 5 ـ 36 )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء السادس عشر   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

الأَمْثَلُ في تفسير كتابِ اللهِ المُنزَل

طبعة جديدة منقّحة مع إضافات

تَأليف

العلاّمة الفقيه المفسّر آية الله العظمى

الشَيخ نَاصِر مَكارم الشِيرازي

المجَلّد السادس عَشَر

 

[5]

سُورَة الزّخرف

مكيّة

وَعَدَدُ آياتِها تسعٌ وثمانونَ آية

  

[7]

 «سورة الزّخرف»

 محتوى سورة الزّخرف:

سورة الزخرف من السور المكّية،إلاّ الآية (45) منها، فإنّ جمعاً من المفسّرين اعتبرها مدنيّة، وربّما كان السبب هو أنّ ما تبحثه الآية يتعلق على الأغلب بأهل الكتاب، أو بقصّة المعراج، وكلا البحثين يتناسب مع المدينة أكثر. وسنوضّح المطلب في تفسير هذه الآية إن شاء الله تعالى.

وعلى أيّة حال، فإنّ طبيعة السور المكّية ـ والتي تدور غالباً حول محور العقائد الإِسلاميّة من المبدأ والمعاد والنبوّة والقرآن والإِنذار والتبشير ـ منعكسة ومتجلّية فيها.

ويمكن تلخيص مباحث هذه السورة بصورة موجزة، في سبعة فصول:

الفصل الأوّل: وهو بداية السورة، ويتحدّث عن أهمّية القرآن المجيد، ونبوّة نبيّ الإسلام(صلى الله عليه وآله وسلم)، ومواجهة المشركين لهذا الكتاب السماوي.

الفصل الثّاني: يذكر قسماً من أدلّة التوحيد في الآفاق، ونعم الله المختلفة على البشر.

الفصل الثّالث: ويكمّل هذه الحقيقة عن طريق محاربة الشرك، ونفي ما ينسب إلى الله عزّوجلّ من الأقاويل الباطلة، ومحاربة التقاليد العمياء، والخرافات والأساطير، كالتشاؤم من البنات، أو الإعتقاد بأنّ الملائكة بنات الله عزّوجلّ.

الفصل الرّابع: ينقل جانباً من قصص الأنبياء الماضين وأُممهم، وتاريخهم لتجسيد هذه الحقائق. ويؤكّد على حياة إبراهيم وموسى وعيسى(عليهم السلام)بصورة

[8]

خاصّة.

الفصل الخامس: يتعرض إلى مسألة المعاد، وجزاء المؤمنين، ومصير الكفّار المشؤوم، ويحذّر المجرمين ويهدّدهم بتهديدات وتحذيرات وإنذارات قويّة.

الفصل السّادس: وهو من أهمّ فصول هذه السورة، ويتناول القيم الباطلة التي كانت ولا تزال حاكمة على أفكار الأشخاص المادّيين، ووقوعهم في مختلف الإشتباهات حينما يقيّمون مسائل الحياة ويزنونها بالميزان الدنيويّ حتّى أنّهم كانوا يتوقّعون أن ينزل القرآن الكريم على رجل غني عظيم الثراء، لأنّهم كانوا يعتبرون قيمة الإنسان في ثرائه! لهذا نرى القرآن في آيات عديدة من هذه السورة يهاجم هذا النمط من التفكير الساذج والجاهل ويحاربه، ويوضح المثل الإِسلاميّة والإِنسانيّة السامية.

الفصل السّابع: وهو فصل المواعظ والنصائح العميقة المؤثّرة حيث يكمل الفصول الأُخرى، ليجعل من مجموع آيات السورة دواءً شافياً تماماً يترك أقوى الأثر في نفس السامع.

وقد أخذ اسم هذه السورة (الزخرف) من الآية (35) منها، والتي تتحدث في القيم المادّية.

 

فضل تلاوة السّورة

لقد ذكر فضل عظيم لتلاوة هذه السورة في الرّوايات الإِسلاميّة في مختلف كتب التّفسير والحديث، ومن جملتها ما ورد في حديث عن الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم): «من قرأ سورة الزخرف، كان ممن يقال له يوم القيامة: يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون، اُدخلوا الجنّة»(1).

لا شكّ أنّ الخطاب بـ (يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون)هو عين

____________________________________

1 ـ مجمع البيان، بداية سورة الزخرف.

[9]

ما ورد في الآية (68)، وجملة (ادخلوا الجنّة)أُخذت من الآية (70)، وجملة (بغير حساب)من لوازم الكلام، وقد وردت في عدّة من آيات القرآن الأُخرى.

وعلى أيّة حال، فإنّ هذه البشارة العظمى، والفضيلة التي لا تقدّر، لا تحصل بمجرّد التلاوة الخالية من التدبر والإيمان والعمل الصالح، لأنّ التلاوة مقدّمة للفكر، والإِيمان والعمل الصالح ثمرة له.

 * * *

[10]

الآيات

حم( 1 ) وَالكِتَـبِ المُبِينِ( 2 ) إِنَّا جَعَلْنَـهُ قُرْءناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ( 3 ) وَإنَّهُ فِى أُمِّ الْكِتَـبِ لَدَيْنَا لَعَلِىٌّ حَكِيمٌ( 4 ) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحَاً أَن كُنْتُمْ قَوْماً مُّسْرِفِينَ( 5 ) وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِىٍّ فِى الأَوَّلِينَ( 6 ) وَمَا يَأْتِيهِم مِّن نَّبِىٍّ إِلاَّ كَانُوْا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ( 7 ) فَأَهْلَكْنَآ أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الأَوَّلِينَ( 8 )

 

التّفسير

ذنوبكم لا تمنع رحمتنا!

مرّة أُخرى نواجه الحروف المقطّعة في بداية هذه السورة، وهي حروف (حم)، وهذه رابع سورة تبدأ بـ (حم) وتتلوها ثلاث سور أُخرى أيضاً، فتشكّل هذه السور السبعة بمجموعها (أسرة حم) وهي بالترتيب: المؤمن، فصلت، الشورى، الزخرف، الدخان، الجاثية، والأحقاف.

وقد بحثنا الحروف المقطّعة بصورة مفصّلة فيما سبق (راجع بداية سورة البقرة،

[11]

بداية آل عمران، أوّل الأعراف، بداية سورة «فصلت» في خصوص حم).

ويقسم تعالى بالقرآن الكريم في الآية الثّانية، فيقول: (والكتاب المبين). قسماً بهذا الكتاب الواضحة حقائقه، والبيّنة معانيه ومفاهيمه، والظاهرة دلائل صدقه، والمبيّنة طرق هدايته ورشاده.

ثمّ يضيف:(إنّا جعلناه قرآناً عربيّاً لعلكم تعقلون)(1).

إنّ كون القرآن عربيّاً، إمّا بمعنى أنّه نزل بلغة العرب التي هي أوسع لغات العالم في بيان الحقائق، وقادرة على تبيان دقائق المطالب بكل جمال ودقّة في التعبير. أو بمعنى فصاحته ـ لأنّ أحد معاني كلمة (عربي) هو «الفصيح» وهي إشارة إلى أنا قد جعلناه في منتهى الفصاحة وغايتها، لتظهر الحقائق جيّداً من خلال كلماته وجمله، ويدركها الجميع جيداً.

والطّريف أنّ القسم وجوابه ـ هنا ـ شيء واحد ، فهو تعالى يقسم بالقرآن أنّه جعل القرآن عربيّاً ليستفيد الجميع منه ويعقلوا آياته، وربّما كان هذا إشارة إلى أنّه لم يكن هناك شيء أجلّ من القرآن ليقسم به، فإنّ ما هو أسمى من القرآن نفس القرآن، لأنّه كلام الله سبحانه، وكلام الله مبيّن لذاته المقدّسة.

ولا يدلّ التعبير بـ (لعل) على أنّ الله سبحانه يشك في تأثير القرآن، أو أنّ الكلام هنا عن الرجاء والأمل الذي يصعب الوصول إليه وتحقّقه، بل إنّه يشير إلى تفاوت الأرضيّات الفكرية والأخلاقيّة لسامعي آيات القرآن الكريم، ويشير أيضاً إلى أنّ تأثير القرآن يستلزم توفر شروطاً معيّنة أُشير إليها إجمالاً بكلمة (لعل). وقد أوردنا تفصيلاً أكثر لهذا المعنى في ذيل الآية (200) من آل عمران.

ثمّ يتطرق القرآن إلى بيان ثلاث صفات أُخرى لهذا الكتاب السماوي، فيقول: (وإنّه في أُم الكتاب لدينا لعلي حكيم)ويشير في الصفة الأُولى إلى أن القرآن الكريم قد حُفظ وأُثبت في أُمّ الكتاب لدى الله سبحانه، كما نقرأ ذلك أيضاً في

____________________________________

1 ـ الواو في ( والكتاب المبين ) للقسم ، وجواب هذا القسم جملة ( إنّا جعلناه قرآناً عربيّاً ).

[12]

الآية (22) من سورة البروج: (بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ).

والآن، لنر ما هو المراد من «أم الكتاب»، أو «اللوح المحفوظ»؟

«الأُم » في اللغة تعني أصل كل شيء وأساسه، وإنّما يقول العرب للأم أمّاً لأنّها أساس العائلة ومأوى الأولاد، وعلى هذا فإنّ (أم الكتاب) يعني الكتاب الذي يكون أساساً لكل الكتب السماويّة، وهو ذلك اللوح المحفوظ لدى الله سبحانه، والمصون من كل تغيير وتبديل وتحريف.. إنّه كتاب علم الله المحفوظ لديه، والذي أُدرجت فيه كل حقائق العالم، وكل حوادث الماضي والمستقبل، وكل الكتب السماويّة، ولا يستطيع أي أحد أن يصل إليه ويعلم ما فيه، إلاّ إذا أراد الله سبحانه أن يُعلم أحداً بالمقدار الذي يريده عزَّوجلّ.

وهذا وصف عظيم للقرآن الذي ينبع من علم الله اللامتناهي، وأصله وأساسه لديه سبحانه، ولهذا يقول في الصفة الثّانية: (لَعَلِيّ) وفي الثالثة (حكيم).

إنّ الشيء الذي ينبعث من علم الله اللامتناهي يجب أن يكون بهذه الصفات.

واعتقد البعض أنّ سموّ القرآن وعلوَّ مقامه نابع من أنّه فاق كلّ الكتب السماويّة، ونسخها جميعاً، وهو في أرفع مراتب الإعجاز.

واعتبر البعض الآخر علوّ القرآن لاحتوائه على حقائق لا تدركها أفكار البشر، وهي بعيدة عن مدى ما تستوعبه عقولهم ـ إضافة إلى الحقائق التي يفهمها الجميع من ظاهر القرآن.

ولا تتضارب هذه المعاني فيما بينها حيث تجتمع كلّها في مفهوم (عَلِيّ).

وهنا مسألة تستحق الإِنتباه، وهي أنّ (الحكيم) صفة للشخص عادة، لا الكتاب، لكن لمّا كان هذا الكتاب السماوي بنفسه معلماً عظيماً وناطقاً بالحكمة ناشراً لها، فإنّ هذا التعبير في محله تماماً.

وقد وردت كلمة «الحكيم» بمعنى المستحكم الحصين أيضاً، وكلّ هذه المعاني جمعت في اللفظة المذكورة، وهي صادقة في شأن القرآن الكريم، لأنّه حكيم بكل

[13]

هذه المعاني.

وفي الآية التّالية يخاطب المنكرين للقرآن والمعرضين عنه، فيقول: (أفنضرب عنكم الذكر صفحاً إن كنتم قوماً مسرفين

صحيح أنّكم لم تألوا جهداً في مخالفتكم للحق وعدائه، ووصلتم في المخالفة إلى حدّ الإِفراط والإِسراف، إلاّ أنّ رحمة الله سبحانه واسعة بحدٍّ لا تشكل هذه الأعمال المناوئة حاجزاً في طريقها، ونظل نُنزل باستمرار هذا الكتاب السماوي الذي يوقظكم، وآياته التي تبعث الحياة فيكم، حتّى تهتزّ القلوب التي لها أدنى حظ من الإِستعداد وتثوب إلى طريق الحقّ، وهذا هو مقام رحمة الله العامّة، أي: رحمانيته التي تشمل العدوّ والصديق، والمؤمن والكافر.

جملة (أفنضرب عنكم) جاءت هنا بمعنى: أفنصرب عنكم، لأنّ الراكب إذا أراد أن يحوّل دابّته إلى طريق آخر، فإنّه يحوّله بضربه بالسوط أو بشيء آخر، ولذلك فإنّ كلمة الضرب تستعمل في مثل هذه الموارد بدلاً من الصرف(1).

«الصفح» في الأصل بمعنى جانب الشيء وطرفه، ويأتي أيضاً بمعنى العرض والسعة، وهو في الآية بالمعنى الأوّل، أي: أنحول عنكم هذا القرآن الذي هو أساس التذكرة إلى جانب وطرف آخر؟

«المسرف» من الإِسراف، وهو تجاوز الحدّ، إشارة إلى أنّ المشركين وأعداء النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يقفوا عند حدّ في خلافهم وعدائهم مطلقاً.

ثمّ يقول في عبارة قصيرة كشاهد على ما قيل، وتسليةً لخاطر النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وتهديداً للمنكرين المعاندين: (وكم أرسلنا من نبيّ في الأوّلين * وما يأتيهم من نبيّ إلاّ كانوا به يستهزئون).

إنّ هذه المخالفات وأنواع السخرية لم تكن لتمنع لطف الله ورحمته أبداً، فإنّها فيض متواصل من الأزل إلى الأبد، ووجود يعمُّ عطاؤه كلّ العباد، بل إنّه سبحانه قد

____________________________________

1 ـ مجمع البيان ، ذيل الآية مورد البحث .

[14]

خلقهم للرحمة (ولذلك خلقهم)(1)، ولهذا فإنّ إعراضكم وعنادكم سوف لا يمنع لطفه مطلقاً، وينبغي أن لا يفتر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنون الحقيقيّون، فإنّ لهذا الإِعراض عن الحق واتباع الشهوات والهوى والميول تاريخاً طويلاً.

لكن، ومن أجل أن لا يتصور هؤلاء بأنّ لطف الله اللامتناهي سيحول دون عقابهم في النهاية، لأنّ العقاب بنفسه من مقتضى حكمته، ولذلك يضيف في الآية التالية: (فأهلكنا أشدّ منهم بطشاً ومضى مثل الأوّلين).

فالآية تخاطب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّنا سبق وأن ذكرنا لك نماذج كثيرة من هذه الأقوام العاصية الطاغية، وأوحينا إليك تفصيل حالهم بدون زيادة أو نقصان، وكان من بينهم أقوام أقوى وأشدّ من مشركي العرب كثيراً، ولهم إمكانيّات وثروات وأفراد وجيوش وإمكانات واسعة .. كفرعون وآل فرعون، والتاريخ، وأوضح من ذلك أن تتدبّروا ما نزل في القرآن في شأنهم لتعلموا أيّها الطغاة المعاندون أنّكم لستم في مأمن من عذاب الله الأليم أبداً.

«البطش» ـ كما يقول الراغب في المفردات ـ بمعنى أخذ الشيء بالقوّة، وهنا اقترن بكلمة «أشدّ» وتعطي مفهوم شدّة القوّة والقدرة أكثر.

والضمير في (منهم) يعود على مشركي العرب الذين خوطبوا في الآيات السابقة، إلاّ أنّهم ذكروا هنا بصيغة الغائب، لأنّهم ليسوا أهلاً للإستمرار في مخاطبتهم من قبل الله تعالى.

واعتبر بعض كبار المفسّرين جملة (ومضى مثل الأوّلين) إشارة إلى المطالب التي جاءت في السورة السابقة ـ سورة الشورى ـ حول جماعة من هؤلاء. إلاّ أنّه لا دليل لدينا على هذا التحديد، خاصّة وأنّه قلّما أشير إلى حوادث الأُمم الماضية في سورة الشورى، في حين وردت بحوث مفصّلة حولهم في سور أُخرى من القرآن.

____________________________________

1 ـ هود، الآية 119.

[15]

وعلى أيّة حال، فإنّ هذه الآية تشبه ما مرّ في الآية (78) من سورة القصص، حيث تقول: (أو لم يعلم أنّ الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشدّ منه قوّة وأكثر جمعاً)؟!

أو ما مرّ في الآية (21) من سورة المؤمن حيث حذّرت مشركي العرب إذ تقول: (أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشدّ منهم قوّة وآثاراً في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق)؟!

* * *

[16]

الآيات

وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن خَلَقَ السَّمَـوتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العَزِيزُ الْعَلِيمُ( 9 ) الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَّعلَّكُمْ تَهْتَدُونَ( 10 ) وَالَّذِى نَزَّلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً بِقَدَر فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتَاً كَذَلِكَ تُخْرَجُون( 11 ) وَالَّذِى خَلَقَ الأَزْوجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالأنْعَـمِ مَا تَرْكَبُونَ ( 12 )لِتَسْتَوُاْ عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَـن الَّذِى سَخَّرَ لَنَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِيِنَ( 13 ) وَإِنَّآ إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ( 14 )

 

التّفسير

بعض أدلّة التوحيد:

من هنا يبدأ البحث حول التوحيد والشرك، فتستعين الآيات بفطرة هؤلاء وطينتهم لإثبات التوحيد، وبعد أن تبيّن الأدلّة الموجودة في عالم الوجود، وتذكر

[17]

خمسة نماذج من مواهب الله العظيمة وتثير فيهم حسّ الشكر، تتطرّق إلى إبطال اعتقادهم الخرافي فيما يتعلق بالأصنام ومختلف أنواع الشرك.

يقول سبحانه في القسم الأوّل: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولنّ خلقهنّ العزيز العليم).

إنّ هذا التعبير الذي ورد بتفاوت يسير في أربع آيات من القرآن الكريم ـ العنكبوت 61، لقمان 25، الزمر/38 والزخرف في الآية التي نبحثها(1) ـ دليل على كون معرفة الله سبحانه أمر فطري مغروس في طينة البشر وطبيعتهم من جانب. ومن جانب آخر يدلّ على أنّ المشركين كانوا مقرّين بأن خالق السماوات والأرض هو الله سبحانه، ولم يكونوا يعترفون بأنّ معبوداتهم خالقة إلاّ في موارد نادرة.

ومن جانب ثالث فإنّ هذا الإِعتراف أساس ودعامة لإبطال عبوديّة الأصنام، لأنّ الذي يكون أهلاً للعبادة هو خالق الكون ومدبّره، لا الموجودات التي لا حظّ لها في هذا المجال، وبناء على هذا، فإنّ اعترافهم بكون الله سبحانه خالقاً كان دليلاً قاطعاً على بطلان مذهبهم ودينهم الفاسد.

والتعبير بـ(العزيز الحكيم) والذي يبيّن قدرة الله المطلقة، وعلمه وحكمته، وإن كان تعبيراً قرآنيّاً، إلاّ أنّه لم يكن أمراً ينكره المشركون، لأنّ لازم الإِعتراف بكون الله سبحانه خالقاً للسماء والأرض وجود هاتين الصفتين فيه. وهؤلاء المشركين كانوا يعتقدون بعلم أصنامهم وقدرتها، فكيف بالله الذي يعتقدون أنّ أصنامهم وسيلة إليه، وتقربّهم إليه زلفى؟!

ثمّ يشير سبحانه إلى خمس نعم من نعم الله العظيمة، والتي تعتبر كلّ منها نموذجاً من نظام الخلقة، وآية من آيات الله سبحانه، فيقول أولاً: (الذي جعل لكم

____________________________________

1 ـ جاء في موضعين آخرين من القرآن اعتراف هؤلاء بكون الله خالقاً ، غايته أن أحدهما في شأن نزول المطر من السماء ( العنكبوت ـ 63 ) والآخر في كون الله سبحانه خالقهم ( الزخرف ـ 87 ).

[18]

الأرض مهداً).

إنّ لفظتي «المهد» و«المهاد» تعني المحلّ الذي أُعدّ للجلوس والنوم والإستراحة، ويقال في الأصل للمكان الذي يضعون فيه الطفل لينام «مهد».

أجل .. إنّ الله سبحانه جعل الأرض مهداً للإنسان، ومع أنّ لها عدّة حركات بفعل قانون الجاذبيّة، ورغم الطبقة الغازيّة العظيمة التي أحاطت بها من كلّ جانب، فإنّها هادئة ومستقرّة بحيث لا يشعر ساكنوها بأيّ إزعاج ونعلم أنّ الهدوء النفسي هو الدعامة الأساسيّة للإستفادة من النعم الأُخرى والتنعّم بها، ولا شكّ أنّ هذه العوامل المختلفة ما لم تنسجم مع بعضها، ويكمل بعضها بعضاً، فليس بالإِمكان تحقّق هذا الهدوء والإِطمئنان مطلقاً.

ثمّ يضيف سبحانه لتبيان النعمة الثانية: (وجعل لكم فيها سبلاً لعلّكم تهتدون).

لقد أشير إلى هذه النعمة عدّة مرات في القرآن المجيد (سورة طه ـ 53، الأنبياء ـ 31، النحل ـ 15 وغيرهنّ)، وهي من النعم التي غفل عنها الكثيرون، لأنّا نعلم أنّ التظاريس تعمّ كلّ اليابسة تقريباً، وفيها الجبال العظيمة والصغيرة والتلال والهضاب، والبديع أن توجد بين أعظم سلال جبال العالم فواصل يستطيع الإِنسان أن يشقّ طريقه من خلالها، وقلما اتفق أن تكون هذه الجبال سبباً لإنفصال أقسام الكرة الأرضية عن بعضها تماماً، وهذا واحد من أسرار نظام الخلقة، ومن مواهب الله سبحانه وعطاياه للعباد.

وإضافة إلى ما مرَّ ، فإنّ كثيراً من أجزاء الكرة الأرضية ترتبط مع بعضها بواسطة طرق المواصلات البحريّة، وهذا يدخل أيضاً في عموم معنى الآية(1).

واتضح ممّا قلناه أنّ المراد من جملة (لعلكم تهتدون) هو الهداية إلى الهدف، واكتشاف مناطق الأرض المختلفة، بالرغم من أنّ البعض اعتبرها إشارة إلى

____________________________________

1 ـ كلمة « السبل » ـ جمع سبيل ـ تطلق على الطرق البرّية والبحريّة ، كما نقرأ في الفقرة (42) من دعاء الجوشن « يامن في البرّ والبحر سبيله» .

[19]

الهداية لأمر التوحيد ومعرفة الله. ولا مانع من جمع هذين المعنيين.

وذكرت الموهبة الثالثة ـ وهي موهبة نزول المطر، وإحياء الأراضي الميّتة ـ في الآية التالية: (والذي نزّل من السماء ماءً بقدر فأنشرنا به بلدة ميتاً كذلك تخرجون)من قبوركم يوم البعث.

إنّ التعبير بكلمة «قدر» إشارة لطيفة إلى النظام الخاص الذي يحكم نزول الأمطار، حيث أنّها تنزّل بمقدار كاف يكون مفيداً ومثمراً، ولا يؤدّي إلى الخسارة والإِتلاف.

صحيح أنّه قد يؤدّي بعض الأحيان إلى حدوث فيضانات، وجريان سيول، وتدمير الأراضي، إلاّ أنّ هذه الحالات استثنائيّة، ولها صبغة التحذير، فالأعمّ الأغلب من الأمطار مفيدة ومربحة، فنموّ كلّ الأشجار والنباتات والأزهار والمزارع المثمرة، من بركة نزول المطر الموزون هذا، ولو لم يكن لنزول المطر نظام، لما حصلت كلّ هذه البركات.

الآية الثانية تستخدم جملة «أنشرنا» ـ من مادّة النشور ـ لتجسيد انبعاث عالم النباتات، فإنّ الأراضي اليابسة التي تضمّ بذور النباتات كما تضمّ القبور أجساد الموتى، تتحرك وتحيا بنفخة صور نزول المطر، وتهتزّ فتخرج أموات النبات رؤوسها من التراب، ويقوم محشرها وتقع قيامتها التي تمثل صورة لقيامة البشر، والتي أشير إليها في نهاية هذه الآية وفي آيات عديدة أُخرى من القرآن المجيد.

وبعد ذكر نزول المطر وحياة النباتات، يشير في المرحلة الرّابعة إلى خلق أنواع الحيوانات، فيقول سبحانه: (والذي خلق الأزواج كلها).

إنّ التعبير بـ «الأزواج» كناية عن أنواع الحيوانات بقرينة ذكر النباتات في الآية السابقة، بالرغم من أنّ البعض اعتبرها إشارة إلى كلّ أنواع الموجودات، سواء الحيوان والنبات والجماد، لأنّ قانون الزوجيّة يحكمها جميعاً، فلكلّ جنس ما يخالفه: السماء والأرض، الليل والنهار، النور والظلام، المرّ والحلو، اليابس

[20]

والرطب، الشمس والقمر، الجنّة والنّار، إلاّ ذات الله المقدّسة فإنّها أحديّة،  ولا سبيل للزوجيّة إليها أبداً.

لكن كما قلنا، فإنّ القرائن الموجودة توحي بأنّ المراد هو «أزواج الحيوانات»، ونعلم أنّ قانون الزوجيّة سنّة حياتيّة في كلّ الكائنات الحيّة، والعيّنات النادرة الإِستثنائية لا تقدح بعموميّة هذا القانون.

واعتبر البعض «الأزواج» بمعنى أصناف الحيوانات، كالطيور والدواب والمائيّات والحشرات وغيرها.

وفي المرحلة الخامسة تبيّن الآيات آخر نعمة من هذه السلسلة، وهي المراكب التي سخّرها الله سبحانه للبشر لطيّ الطرق البريّة والبحريّة، فيقول سبحانه: (وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون).

إنّ هذه النعمة هي إحدى مواهب الله سبحانه للبشر، وكراماته التي منّ بها عليهم، وهي لا تلاحظ في الأنواع الأُخرى من الموجودات، وذلك أنّ الله سبحانه قد حمل الإِنسان على المراكب التي تعينه في رحلاته البحريّة والصحراويّة، كما جاء ذلك في الآية (70) من سورة الإِسراء: (ولقد كرّمنا بني آدم وحملناهم في البرّ والبحر ورزقناهم من الطيّبات وفضّلناهم على كثير ممّن خلقنا تفضيلاً).

والحقّ أنّ وجود هذه المراكب يضاعف أنشطة الإِنسان ويوسّع حياته عدّة أضعاف، وحتّى الوسائل السريعة السير التي نراها اليوم، والتي صنعت بالإِستفادة من مختلف خواصّ الموجودات، ووضعت تحت تصرّف الإِنسان، فإنّها من ألطاف الله الظاهرة، تلك الوسائل التي غيّرت وجه حياته، ومنحت كلّ شيء السرعة، وأهدت له كلّ أنواع الراحة.

وتذكر الآية التالية الهدف النهائي لخلق هذه المراكب فتقول: (لتستووا على ظهوره ثمّ تذكروا نعمة ربّكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحانه الذي سخّر لنا هذا وما كنّا له مقرنين).

[21]

إنّ جملة: (لتستووا على ظهوره) إشارة إلى أنّ الله سبحانه قد خلق هذه المراكب على هيئة تستطيعون معها ركوبها بصورة جيّدة، وتصلون إلى مقاصدكم براحة ويسر(1).

لقد أوضحت هذه الآية هدفين لخلق هذه المراكب البحريّة والبريّة، من الفلك والأنعام، أحدهما: ذكر نعم الله سبحانه حين الإِستواء على ظهورها، والآخر: تنزيه الله سبحانه الذي سخّرها للإنسان، فقد جعل الفلك على هيئة تقدر أن تشقّ صدر الأمواج وتسير نحو المقصد، وجعل الدواب والأنعام خاضعة لأمر الإِنسان ومنقادة لإرادته.

«مقرنين» من مادة «إقران»، أي امتلاك القدرة على شيء، وقال بعض أرباب اللغة: إنّه يعني مسك الشيء وحفظه، وفي الأصل بمعنى وقوع الشيء قريناً لشيء آخر، ولازم ذلك القدرة على حفظه(2).

بناء على هذا، فإنّ معنى جملة (وما كنّا له مقرنين) هو أنّه لو لم يكن لطف الله وعنايته لما كان بإمكاننا السيطرة على هذه المراكب وحفظها، ولتحطمت بفعل الرياح المخالفة لحركة السفن، وكذلك الحيوانات القويّة التي تفوق قوّتها قوّة الإِنسان أضعافاً، ما كان الإِنسان ليستطيع أن يقترب منها مطلقاً لولا روح التسليم التي تحكمها، ولذلك حين يغضب أحد هذه الحيوانات ويفقد روح التسليم، فإنّه سيتحوّل إلى موجود خطر لا يقوى عدّة أشخاص على مقابلته، في حين أن من الممكن في حالة سكونها ودعتها ـ أن تربط عشرات، بل مئات منها بحبل وزمام، ويسلّم بيد صبي ليذهب بها حيث يشاء، وكأنّ الله سبحانه يريد أن يبيّن للإنسان نعمة الحالة الطبيعيّة للحيوانات من خلال بيان الحالة الإِستثنائيّة.

____________________________________

1 ـ الضمير في « على ظهوره » يعود على « ما » الموصولة والتي وردت في جملة «ما تركبون » وهي تشمل السفن والدواب ، وكونه مفرداً لظاهر اللفظ .

2 ـ جاء في لسان العرب : « أقرن له وعليه »: أطاق وقوي عليه واعتلى ، وفي التنزيل العزيز : ( وما كنّا له مقرنين ) .

[22]

وتذكر آخر آية ـ من هذه الآيات ـ قول المؤمنين لدى ركوبهم المركب، إذ يقولون: (وإنّا إلى ربّنا لمنقلبون).

هذه الجملة إشارة إلى مسألة المعاد بعد الحديث حول التوحيد، لأنّ الإِنتباه إلى الخالق والمبدأ، يلفت نظر الإِنسان نحو المعاد دائماً.

وهي أيضاً إشارة إلى أن لا تغترّوا عندما تركبون هذه المراكب وتتسلّطون عليها، ولا تغرقوا في مغريات الدنيا وزخارفها، بل يجب أن تكونوا دائماً ذاكرين للآخرة غير ناسين لها، لأنّ حالات الغرور تشتد وتتعمّق في مثل هذه الموارد خاصّة، والأشخاص الذين يتّخذون مراكبهم ووسائط نقلهم وسيلة للتعالي والتكبّر على الآخرين ليسوا بالقليلين.

ومن جهة ثالثة، فإنّ الإِستواء على المركب والإِنتقال من مكان إلى آخر يذكّرنا بانتقالنا الكبير من هذا العالم إلى العالم الآخر.

نعم .. فنحن أخيراً ننقلب إلى الله سبحانه.

* * *

ملاحظة

ذكر الله عند الإِنتفاع بالنعم:

من النكات الجميلة التي تلاحظ في آيات القرآن الكريم، أنّ المؤمنين قد عُلّموا أدعية يقرؤونها عند التنعّم بمواهب الله سبحانه ونعمه .. تلك الأدعية التي تصقل روح الإِنسان وتهذّبها بمحتوياتها البنّاءة، وتبعد عنها آثار الغرور والغفلة.

فيأمر الله سبحانه نوحاً(عليه السلام)أن: (فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجّانا من القوم الظالمين)(1).

ويأمره أيضاً أن يقول عند طلب المنزل المبارك: (ربّ أنزلني منزلاً مباركاً

____________________________________

1 ـ المؤمنون، الآية 28.

[23]

وأنت خير المنزلين)(1).

وهو سبحانه يأمرنا في هذه الآيات أن نشكر نعم الله تعالى، وأن نُسبّح الله عزَّوجلّ عند الإِستواء على ظهورها.

فإذا تحوّل ذكر المنعم الحقيقي عند كلّ نعمة ينعم بها إلى طبع وملكة في الإنسان، فسوف لا يغرق في ظلمة الغفلة، ولا يسقط في هاوية الغرور، بل إنّ المواهب والنعم الماديّة ستكون له سلّماً إلى الله سبحانه!

وقد ورد في سيرة الرّسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه ما وضع رجله في الركاب إلاّ وقال: «الحمد لله»، وإذا ما استوى على ظهر الدابّة فإنّه يقول: «الحمد لله على كلّ حال، سبحان الذي سخّر لنا هذا وما كنّا له مقرنين وإنّا إلى ربّنا لمنقلبون»(2).

وجاء في حديث آخر عن الإِمام الحسن المجتبى(عليه السلام)أنّه رأى رجلاً ركب دابّة فقال: سبحان الذي سخّر لنا هذا، فقال له: «ما بهذا أُمرت، أُمرت أن تقول: «الحمد لله الذي هدانا للإِسلام، الحمد لله الذي منّ علينا بمحمّد، والحمد لله الذي جعلنا من خير أمّة أخرجت للناس، ثمّ تقول: سبحان الذي سخّر لنا هذا»(3)، إشارة إلى أنّ الآية لم تأمر بأن يقال: سبحان الذي سخّر لنا هذا، بل أُمرت أوّلاً بذكر نعم الله العظيمة: نعمة الهداية إلى الإِسلام، نعمة نبوّة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، نعمة جعلنا في زمرة خير أُمّة، ثمّ تسبيح الله على تسخيره لما نركب!

وممّا يستحقّ الإِنتباه أنّه يستفاد من الرّوايات أنّ من قال عند ركوبه: (سبحان الذي سخّر لنا هذا وما كنّا له مقرنين وإنّا إلى ربّنا لمنقلبون) فسوف لن يصاب بأذى بأمر الله! وقد روي هذا المطلب في حديث في الكافي عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)(4).

ونكتشف من خلال ذلك البون الشاسع بين تعليمات الإِسلام البنّاءة هذه، وبين

____________________________________

1 ـ المؤمنون، الآية 29.

2 ـ تفسير الفخر الرازي ، المجلد 27، صفحة 199 .

3 ـ المصدر السابق .

4 ـ نور الثقلين ، المجلد 4، صفحة 593 .

[24]

ما يلاحظ من جماعة من المغرورين ومتّبعي الأهواء والميول الذين يتّخذون وسائط نقلهم وسيلة للفخر ولإِظهار أنفسهم بمظهر العزيز الوجيه، وقد يجعلونها سبباً لإِرتكاب أنواع المعاصي كما ينقل «الزمخشري» في الكشّاف عن بعض السلاطين أنّه يركب مركبه الخاص يريد الذهاب من مدينة إلى أُخرى التي تبعد عنها مسافة شهر فكان يكثر من شرب الخمر لئلاّ يحسّ بطول الطريق وتعبه،  ولا يفيق من سكره إلاّ حين يصل تلك المدينة!

 

* * *

 

[25]

الآيات

وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإِنْسـنَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ( 15 ) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَات وأصْفَـكُم بِالْبَنِينَ( 16 ) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمـنِ مَثَلاً ظَلَّ وجْهُهُ مُسْوَدَّاً وَهُوَ كَظِيمٌ( 17 ) أَوَ مَن يُنَشَّؤُاْ فِى الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِى الخِصَامِ غَيْرُ مُبِين( 18 ) وَجَعَلُواْ المَلَـئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَـدُ الرَّحْمَـنِ إِنَـثاً أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهدَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ( 19 )

 

التّفسير

كيف تزعمون أنّ الملائكة بنات الله ؟

بعد تثبيت دعائم التوحيد بوسيلة ذكر آيات الله سبحانه في نظام الوجود، وذكر نعمه ومواهبه، تتناول هذه الآيات ما يقابل ذلك، أيّ محاربة الشرك وعبادة غير الله تعالى، فتطرّقت أوّلاً إلى أحد فروعها، أيّ عبادة الملائكة فقالت: (وجعلوا له من عباده جزءاً) فظنّوا أنّ الملائكة بنات الله سبحانه، وأنّها آلهتهم، وكانت هذه الخرافة القبيحة رائجة بين الكثيرين من عبدة الأوثان.

[26]

إنّ التعبير بـ «الجزء» يبيّن من جانب أنّ هؤلاء كانوا يعتبرون الملائكة أولاد الله تعالى، لأنّ الولد جزء من وجود الأب والأمّ، وينفصل عنهما كنطفة تتكوّن وتتلقّح، وإذا ما تلقّحت تَكَوّن الولد من تلك اللحظة. ويبيّن من جانب آخر قبولهم عبادتها، لأنّهم كانوا يظنّون الملائكة جزءاً من الآلهة في مقابل الله سبحانه.

ثمّ إنّ هذا التعبير استدلال واضح على بطلان اعتقاد المشركين الخرافي، لأنّ الملائكة إن كانت أولاداً لله سبحانه، فإنّ ذلك يستلزم أن يكون لله جزء، ونتيجة ذلك أنّ ذات الله مركبة سبحانه، في حين أنّ الأدلّة العقليّة والنقليّة شاهدة على بساطة وجوده وأحديّته، لأنّ الجزء مختصّ بالموجودات الممكنة.

ثمّ تضيف: (إنّ الإِنسان لكفور مبين) فمع كل هذه النعم الإِلهيّة التي أحاطت بوجوده، والتي مرّ ذكر خمس منها في الآيات السابقة، فإنّه بدل أن يطأطيء رأسه إعظاماً لخالقه، وإجلالاً لولي نعمته، سلك سبيل الكفر واتّجه إلى مخلوقات الله ليعبدها!

في الآية التي بعدها يستثمر القرآن الثوابت الفكريّة لدى هؤلاء من أجل إدانة هذا التفكير الخرافي، لأنّهم كانوا يرجّحون جنس الرجل على المرأة، وكانوا يعدّون البنت عاراً ـ عادةً ـ يقول تعالى: (أم اتخذ ممّايخلق بنات وأصفاكم بالبنين)؟ فإذا كان مقام البنت أدنى في اعتقادكم، فكيف ترجّحون أنفسكم وتعلونها على الله، فتجعلون نصيبه بنتاً، ونصيبكم ولداً؟

صحيح أنّ المرأة والرجل متساويان في القيم الإِنسانيّة السامية عند الله سبحانه، إلاّ أنّ الإِستدلال باعتقادات المخاطب يترك أحياناً في فكره أثراً يدفعه إلى إعادة النظر فيما يعتقد.

وتتابع الآية التالية هذا البحث ببيان آخر، فتقول: (وإذا بشّر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلاً ظلّ وجهه مسودّاً وهو كظيم).

والمراد من (بما ضرب للرحمن مثلاً) هم الملائكة الذين كانوا يعتبرونهم بنات

[27]

الله، وكانوا يعتقدون في الوقت نفسه أنّها آلهتهم، وأنّها شبيهة به ـ سبحانه ـ ومثله.

إنّ لفظة (كظيم) من مادّة «كظْم»، وتعني الحلقوم، وجاءت أيضاً بمعنى غلق فم قربة الماء بعد امتلائها، ولذلك فإنّ هذه الكلمة استعملت للتعبير عمّن امتلأ قلبه غضباً أو غمّاً وحزناً. وهذا التعبير يحكي جيّداً عن خرافة تفكير المشركين البله في عصر الجاهليّة فيما يتعلق بولادة البنت، وكيف أنّهم كانوا يحزنون ويغتمّون عند سماعهم بولادة بنت لهم، إلاّ أنّهم في الوقت نفسه كانوا يعتقدون بأنّ الملائكة بنات الله سبحانه!

وتضيف في الآية الكريمة: (أو من ينشؤ في الحلية وهو في الخصام غير مبين)(1).

لقد ذكر القرآن هنا صفتين من صفات النساء غالباً، تنبعثان من ينبوع عاطفتهنّ، إحداهما: تعلّق النساء الشديد بأدوات الزينة، والأُخرى: عدم امتلاكهنّ القدرة الكافية على إثبات مرادهنّ أثناء المخاصمة والجدال لحيائهنّ وخجلهنّ.

لا شكّ أنّ بعض النسوة ليس لديهنّ هذا التعلّق الشديد بالزينة، ولا شكّ أيضاً أنّ التعلّق بالزينة ومحبّتها في حدود الإِعتدال لا يعد عيباً في النساء، بل أكّد عليها الإِسلام، إلاّ أنّ المراد هو أكثريّة النساء اللاتي تعوّدن على الاِفراط في الزينة في أغلب المجتمعات البشريّة، وكأنّهن يولدن بين أحضان الزينة ويتربّين في حجرها.

وكذلك لا يوجد أدنى شكّ في أنّ بعض النسوة ارتقين أعلى الدرجات في قوّة المنطق والبيان، لكن لا يمكن إنكار ضعف النساء عند المخاصمة والبحث والجدال، إذا ما قورنت بقدرة الرجال، وذلك بسبب خجلهنّ وحيائهنّ.

والهدف بيان هذه الحقيقة، وهي: كيف تظنّون وتعتقدون بأنّ البنات أولاد الله سبحانه، وأنّكم مصطفون بالبنين؟

____________________________________

1 ـ «ينشؤّ» من مادة «الإنشاء»، أي إيجاد الشيء، وهنا بمعنى تربية الشيء وتنميته، و«الحلية» تعني الزينة، و«الخصام» هو المجادلة والنزاع على شيء ما.

[28]

وتذكر الآية الأخيرة ـ من هذه الآيات ـ هذا المطلب بصراحة أكثر، فتقول: (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً).

أجل.. إنّهم عباد الله، مطيعون لأمره، ومسلمون لإرادته، كما ورد ذلك في الآيتين (26)، (27) من سورة الأنبياء: (بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون).

إنّ التعبير بكلمة (عباد) في الواقع ردّ على ظنّ هؤلاء، لأنّ الملائكة لو كانت مؤنّثاً لوجب أن يقول: (عبدات)، لكن ينبغي الإِنتباه إلى أنّ العباد تطلق على جمع المذكّر وعلى الموجودات التي تخرج عن إطار المذكر والمؤنث كالملائكة، ويشبه ذلك استعمال ضمائر المفرد المذكّر في حقّ الله سبحانه، في حين أنّه تعالى فوق كلّ هذه التقسيمات.

وجدير بالذكر أنّ كلمة (عباد) قد أضيفت إلى (الرحمن) في هذه الجملة، ويمكن أن يكون هذا التعبير إشارة إلى أن أغلب الملائكة منفذون لرحمة الله، ومدبرون لقوانين عالم الوجود وأنظمته، وكل ذلك رحمة.

لكن لماذا وجدت هذه الخرافة بين عرب الجاهليّة؟ ولماذا بقيت ترسباتها إلى الآن في أذهان جماعة من الناس؟ حتى أنّهم يرسمون الملائكة ويصورونها على هيئة المرأة والبنت، بل حتى إذا أرادوا أن يرسموا ما يسمى بملك الحرية فإنّهم يرسمونه على هيئة امرأة جميلة طويلة الشعر!

يمكن أن يكون هذا الوهم نابعاً من أنّ الملائكة مستورون عن الأنظار، والنساء مستورات كذلك، ويلاحظ هذا المعنى في بعض موارد المؤنث المجازي في لغة العرب، حيث يعتبرون الشمس مؤنثاً مجازيّاً والقمر مذكراً، لأنّ قرص الشمس مغطى عادة بأمواج نورها فلا سبيل للنظر إليه، بخلاف قرص القمر.

أو أن لطافة الملائكة ورقتها قد سببت أن يعتبروها كالنساء، حيث أن النساء اكثر رقّة ولطافة إذا قيست بالرجال.

[29]

والعجيب أنّه بعد كل هذه المحاربة الإِسلامية لهذا التفكير الخرافي وإبطاله، فإنّهم إذا ما أرادوا أن يصفوا امرأة فإنّهم يقولون: إنّها ملك، أمّا في شأن الرجال فقلما يستعمل هذا التعبير. وكذلك قد يختارون كلمة الملك والملاك اسماً للنساء!

ثمّ تجيبهم الآية بصيغة الإِستفهام الإِنكاري فتقول: (أشهدوا خلقهم)؟ وتضيف في النهاية: (ستكتب شهادتهم ويسألون).

لقد ورد ما قرأناه في هذه الآيات بصورة أُخرى في سورة النحل الآيات  (56 ـ 60) أيضاً، وقد أوردنا هناك بحثاً مفصّلاً حول عقائد عرب الجاهليّة فيما يتعلق بمسألة الوأد، وعقيدتهم في جنس المرأة، وكذلك حول دور الإِسلام في إحياء شخصيّة المرأة ومقامها السامي.

 

* * *

 

[30]

الآيات

وَقَالُواْ لَوْ شَآءَ الرَّحْمَـنُ مَا عَبَدْنَـهُم مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْم إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ( 20 ) أَمْ ءَاتَيْنَـهُمْ كِتَـباً مِّن قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ( 21 ) بَلْ قَالُواْ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَى أُمَّة وَإِنَّا عَلَى ءَاثَـرِهِم مُّهْتَدُونَ( 22 )

 

التّفسير

لا دليل لهم سوى تقليد الآباء الجاهلين!

أعطت الآيات السابقة أوّل جواب منطقي على عقيدة عبدة الأوثان الخرافيّة، حيث كانوا يظنون أنّ الملائكة بنات الله، والجواب هو: إنّ الرؤية والحضور في موقف ما ضروري قبل كل شيء لإثبات ادعاء ما، في حين لا يقوى أي عابد وثن أن يدّعي أنّه كان حاضراً حين خلق الملائكة، وأنّه رأى كيفيّة ذلك الخلق بعينه.

وتتابع هذه الآيات نفس الموضوع، وتسلك مسالك أُخرى لإبطال هذه الخرافة القبيحة، فتتعرض أوّلاً ـ وبصورة مختصرة ـ لأحد الأدلة الواهية لهؤلاء ثمّ تجيب عليه، فتقول: (وقالوا لو شاء الرحمـن ما عبدناهم).

[31]

إنّ هذا التعبير قد يكون إشارة إلى أنّ هؤلاء كانوا يعتقدون بالجبر، وأن كل ما يصدر منا فهو بإرادة الله، وكل ما نفعله فهو برضاه أو أنّه لو لم يكن راضياً عن أعمالنا وعقائدنا لوجب أن ينهانا عنها، ولما لم ينهنا عنها فإنّ ذلك دليل على رضاه.

الحقيقة، أنّ هؤلاء اختلقوا خرافات جديدة من أجل توجيه عقائدهم الخرافية الفاسدة الأولى، وافتروا أكاذيب جديدة لإثبات أكاذيبهم الأولى، وأيّاً من الإِحتمالين ـ أعلاه ـ كان مرادهم، فهو فاسد من الأساس.

صحيح أنّ كل شيء في عالم الوجود لا يكون إلاّ بإذن الله تعالى، إلاّ أنّ هذا  لا يعني الجبر، إذ يجب أن لا ننسى أنّ الله سبحانه هو الذي أراد لنا أن نكون مختارين وأحراراً في اختيارنا وتصرفنا، ليختبرنا ويربينا.

وصحيح أيضاً أنّه يجب أن ينهى الله سبحانه عباده عن الباطل ، لكن لا يمكن إنكار أنّ جميع الأنبياء قد تصدّوا لردع الناس عن كل نوع من أنواع الشرك والإِزدواجيّة في العبادة.

إضافة إلى ذلك، فإنّ عقل الإِنسان السليم ينكر هذه الخرافات أيضاً أليس العقل ـ هو رسول الله الداخلي ـ في أعماق الإِنسان؟!

وتجيب الآية في النهاية بجملة قصيرة على هذا الإِستدلال الواهي لعبدة الأصنام، فتقول: (مالهم بذلك من علم إن هم إلاّ يخرصون).

إنّ هؤلاء لا علم ولا إيمان لهم حتى بمسألة الجبر أو رضى الله سبحانه عن أعمالهم، بل هم ـ ككثير من متبعي الهوى والمجرمين الآخرين ـ يتخذون مسألة الجبر ذريعة لهم من أجل تبرئة أنفسهم من الذنب والفساد، فيقولون: إنّ يد القضاء والقدر هي التي جرتنا إلى هذا الطريق وحتمته علينا! مع علمهم بأنّهم يكذبون، وأن هذه ذريعة ليس إلاّ، ولذلك فإن أحداً لو اغتصبهم حقّاً فإنّهم غير مستعدين أبداً لغض النظر عن معاقبته مطلقاً، ولا يقولون: إنّه كان مجبراً على عمله هذا!

[32]

«يخرصون» من الخرص، وهو في الأصل بمعنى التخمين، وأطلقت هذه الكلمة أوّلاً على تخمين مقدار الفاكهة، ثمّ أطلقت على الحدس والتخمين، ولما كان الحدس والتخمين يخطيء أحياناً ولا يطابق الواقع، فقد استعملت هذه الكلمة بمعنى الكذب أيضاً، و«يخرصون» في هذه الآية من هذا القبيل.

وعلى أيّة حال، فيظهر من آيات قرآنية عديدة بأن عبدة الأوثان كانوا يستدلون ـ مراراً ـ بمسألة المشيئة الإِلهيّة من أجل توجيه خرافاتهم، ومن جملة ذلك أنّهم كانوا قد حرّموا على أنفسهم أشياء وأحلّوا أُخرى، ونسبوا ذلك إلى الله سبحانه، كما جاء ذلك في الآية (148) من سورة الأنعام: (سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء).

وتكرر هذا المعنى في الآية (35) من سورة النحل أيضاً: (وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء).

وقد كذّبهم القرآن الكريم في ذيل آية سورة الأنعام، حيث يقول: (كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا) ويصرح في ذيل آية سورة النحل: (فهل على الرسل إلاّ البلاغ)؟!

وفي ذيل الآية مورد البحث ينسبهم إلى التخمين والكذب كما رأينا، وكلها ترجع في الحقيقة إلى أساس ومصدر واحد.

وتشير الآية التالية إلى دليل آخر يمكن أن يكونوا قد استدلوا به، فتقول: (أم آتيناهم كتاباً من قبله فهم به مستمسكون)(1)؟ أي يجب على هؤلاء أن يتمسّكوا بدليل العقل لإثبات هذا الإِدّعاء، أو بدليل النقل، في حين لم يكن لهؤلاء دليل  لا من العقل ولا من النقل، فإنّ كل الأدلّة العقلية تدعو إلى التوحيد، وكذلك دعا كل

____________________________________

1 ـ «أم») هنا متصلة، وهي معطوفة على (اشهدوا خلقهم)، والضمير في (من قبله) يعود إلى القرآن. وما احتمله البعض من أن (أم) هنا منقطعة، أو أن الضمير يرجع إلى الرّسول، لا يتناسب كثيراً مع القرائن التي في الآية.

[33]

الأنبياء والكتب السماوية إلى التوحيد.

وأشارت آخر آية ـ من هذه الآيات ـ إلى ذريعتهم الأصلية، وهي في الواقع خرافة لا أكثر، أصبحت أساساً لخرافة أُخرى، فتقول: (بل قالوا إنّا وجدنا آباءنا على أُمّة وإنّا على آثارهم مهتدون).

لم يكن لهؤلاء دليل إلاّ التقليد الأعمى للآباء والأجداد، والعجيب أنّهم كانوا يظنون أنّهم مهتدون بهذا التقليد، في حين لا يستطيع أي إنسان عاقل حر أن يستند إلى التقليد في المسائل العقائدية والأساسية التي يقوم عليها بناؤه الفكري، خاصة إذا كان التقليد تقليد «جاهل لجاهل»، لأنا نعلم أن آباء أُولئك المشركين لم يكن لهم أدنى حظ من العلم، وكانت أدمغتهم مليئة بالخرافات والأوهام، وكان الجهل حاكماً على أفكارهم ومجتمعاتهم، كما توضح ذلك الآية (170) من سورة البقرة: (أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون

التقليد يصحّ في المسائل الفرعية وغير الأساسية فقط، وأيضاً يجب أن يكون تقليداً لعالم، أي رجوع الجاهل إلى العالم، كما يرجع المريض إلى الطبيب، وغير المتخصصين إلى أصحاب الإِختصاص، وبناء على هذا فإنّ تقليد هؤلاء كان باطلاً بدليلين.

لفظة «الأُمّة» تطلق ـ كما يقول الراغب في المفردات ـ على الجماعة التي تربط بعضها مع البعض الآخر روابط، إمّا من جهة الدين، أو وحدة المكان، أو الزمان، سواء كانت حلقة الإِتصال تلك اختيارية أم إجباريّة. ومن هنا استعملت هذه الكلمة أحياناً بمعنى المذهب، كما هو الحال في الآية مورد البحث، إلاّ أن معناها الأصلي هو الجماعة والقوم، وإطلاق هذه الكلمة على الدين يحتاج إلى قرينة(1).

* * *

____________________________________

1 ـ في جملة (إنّا على آثارهم مهتدون) مهتدون خبر (إن) و«على آثارهم»متعلق به، وأمّا ما احتمله البعض من أن «على آثارهم» خبر أوّل، و(مهتدون) خبر ثان، فيبدو بعيداً عن الصواب.

[34]

الآيات

وَكَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِى قَرْيَة مِّن نَّذِير إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَى أُمَّة وَإِنَّا عَلَى ءَاثَـرِهِم مُّقْتَدُونَ( 23 ) قَـلَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ ءَابَآءَكُمْ قَالُواْ إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَـفِرُونَ( 24 ) فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ( 25 )

 

التّفسير

عاقبة هؤلاء المقلدين:

تواصل هذه الآيات موضوع الآيات السابقة حول الدليل الأصلي للمشركين في عبادتهم للأصنام، وهو تقليد الآباء والأجداد، فتقول: إن هذا مجرّد ادعاء واه من مشركي العرب: (وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلاّ قال مترفوها إنّا وجدنا آباءنا على أُمّة وإنّا على آثارهم مقتدون).

يستفاد من هذه الآية جيداً أنّ المتصدين لمحاربة الأنبياء، والذين كانوا يقولون بمسألة تقليد الآباء ويدافعون عنها بكل قوّة، كانوا من المترفين والأثرياء

[35]

السكارى والمغرورين، لأنّ (المترف) من مادة (التَرَفُّه) أي كثرة النعمة، ولما كان كثير من المنعمين يغرقون في الشهوات والأهواء، فإنّ كلمة «المترف» تعني مَن طغى بالنعمة وغرق في سكرتها وأصبح مغروراً(1)، ومصداق ذلك ـ على الأغلب ـ الملوك والجبابرة والأثرياء المستكبرون والأنانيون.

نعم، هؤلاء هم الذين تتعرض مصالحهم وأنانيّاتهم للفناء بثورة الأنبياء، ويحدق الخطر بمنافعهم وثرواتهم اللامشروعة، ويتحرّر المستضعفون من مخالبهم، ولهذا كانوا يسعون إلى تخدير الناس وإبقائهم جهلاء بمختلف الأساليب والحيل. وأغلب فساد الدنيا ينبع من هؤلاء المترفين الذين يتواجدون في أماكن الظلم والتعدي والمعصية والفساد والرذيلة.

وجدير بالذكر، أنّنا قرأنا في الآية السابقة أن هؤلاء كانوا يقولون: (إنّا على آثارهم مهتدون) وهنا يذكر القرآن أنّهم يقولون: (وإنا على آثارهم مقتدون)وبالرغم من أن التعبيرين يعودان إلى معنى واحد في الحقيقة، إلاّ أنّ التعبير الأوّل إشارة إلى دعوى أحقيّة مذهب الآباء، والتعبير الثّاني إشارة إلى إصرار هؤلاء وثباتهم على اتباع الآباء والإِقتداء بهم.

وعلى أية حال فإنّ هذه الآية نوع من التسلية لخاطر النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)والمؤمنين ليعلموا أن ذرائع المشركين واستدلالاتهم هذه ليست بالشيء الجديد، إذ أنّ هذا الطريق سلكه كل المنحرفين الضالين على مر التأريخ.

وتبيّن الآية التالية جواب الأنبياء السابقين على حجج هؤلاء المشركين والمنحرفين بوضوح تام، فتقول: (قال أو لو جئتكم بأهدى ممّا وجدتم عليه آباءكم)(2)؟

____________________________________

1 ـ نقرأ في لسان العرب: أترفته النعمة، أي: أطغته.

2 ـ لهذه الجملة محذوف تقديره: أتتبعون آباءكم ولو جئتكم بدين أهدى من دين آبائكم.تفسير الكشاف المراغي، القرطبي، وروح المعاني.

[36]

هذا التعبير هو أكثر التعابير المؤدبة الممكن طرحها أمام قوم عنيدين مغرورين، ولا يجرح عواطفهم أو يمسها مطلقاً، فهو لا يقول: إن ما تقولونه كذب وخرافة، بل يقول: إن ما جئت به أهدى من دين آبائكم، فتعالوا وانظروا فيه وطالعوه.

إنّ مثل هذه التعبيرات القرآنية تعلمنا آداب المحاورة والمجادلة وخاصّة أمام الجاهلين المغرورين.

ومع كل ذلك، فإنّ هؤلاء كانوا غرقى الجهل والتعصب والعناد بحيث لم يؤثّر فيهم حتى هذا المقال المؤدب الرقيق، فكانوا يجيبون أنبياءهم بجواب واحد فقط: (قالوا إنّا بما أرسلتم به كافرون) دون أن يأتوا بأيّ دليل على مخالفتهم، ودون أن يتأملوا في الإِقتراح المعقول المتين لأنبياء الله ورسله.

من البديهي أنّ مثل هؤلاء الأقوام الطاغين المعاندين، لا يستحقون البقاء، وليست لهم أهليّة الحياة، ولابدّ أن ينزل عذاب الله ليقتلع هذه الأشواك من الطريق ويطهره منها، ولذلك فإنّ آخر آية ـ من هذه الآيات ـ تقول: (فانتقمنا منهم)فبعضهم بالطوفان، وآخرون بالزلزلة المدمرة، وجماعة بالعاصفة والصاعقة، وخلاصة القول: إنّا دمّرنا كل فئة منهم بأمر صارم فأهلكناهم.

وأخيراً وجهت الآية الخطاب إلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) من أجل أن يعتبر مشركو مكّة أيضاً، فقالت: (فانظر كيف كان عاقبة المكذبين) فعلى مشركي مكّة المعاندين أن يتوقعوا مثل هذا المصير المشؤوم.

 

* * *

 

 




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21335607

  • التاريخ : 28/03/2024 - 16:22

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net