00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة الشورى من آية 24 ـ آخر السورة من ( ص 523 ـ آخر الجزء الخامس عشر )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء الخامس عشر   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

[523]

الآيات

أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً فَإِن يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللهُ الْبَـطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَـتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ( 24 ) وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُواْ عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ( 25 ) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّـلِحَـتِ وَيَزِيدُهُم مِّنْ فَضْلِهِ وَالْكَـفِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ( 26 )

 

التّفسير

يقبل التوبة عن عباده:

هذه الآيات تعتبر استمراراً للآيات السابقة في موضوع الرسالة وأجرها، ومودّة ذوي القربى وأهل البيت(عليهم السلام).

فأوّل آية تقول: إن هؤلاء القوم لا يقبلون الوحي الإلهي، بل: (أم يقولون افترى على الله كذباً) وهذا الإعتقاد وليد أفكارهم حيث ينسبونه إلى الخالق.

في حين: (فإن يشأ الله يختم على قلبك) ويجردك من قابلية إظهار هذه الآيات.

[524]

وفي الحقيقة، فإن هذا الأمر إشارة إلى الإستدلال المنطقي المعروف، وهو أنّه إذا ادعى شخص النبوة، وجاء بالآيات البينات والمعاجز، وشمله النصر الإلهي، فلو كذب على الخالق فإن الحكمة الإلهية تقتضي سحب المعاجز منه وفضحه وعدم حمايته، كما ورد في الآيات (44) إلى (46) من سورة الحاقة: (ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنامنه باليمين ثمّ لقطعنا منه الوتين).

وقد ذكر بعض المفسّرين احتمالات اُخرى في تفسير هذه الجملة، إلاّ أن ما قلناه أعلاه هو أفضل وأوضح التفاسير كما يظهر.

ونلاحظ أيضاً أن إحدى التهم التي نسبها الكفار والمشركون إلى الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)هي أنّه يعتبر أجر الرسالة في مودّة أهل بيته وأنّه يكذب على الخالق في هذا الأمر: (جاء ذلك وفقاً للبحث في الآيات السابقة) إلاّ أن الآية أعلاه نفت هذه التهمة عنه(صلى الله عليه وآله وسلم).

ولكن بالرغم من هذا، فإن مفهوم الآية لا يختص بهذا المعنى، فأعداء الرّسول كانوا يتهمونه بهذه التهمة في كلّ القرآن والوحي كما تقول الآيات القرآنية الأُخرى، حيث نقرأ في الآية (38) من سورة يونس: (أم يقولون افتراه قل فأتوات بسورة مثله).

وورد نفس هذا المعنى باختلاف بسيط في الآيات (13) و (35) من سورة هود، وقسم آخر من الآيات القرآنية، حيث أنّ هذه الآيات دليل لما انتخبناه من تفسير للآية أعلاه.

ثم تقول الآية لتأكيد هذا الموضوع: (ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته)(1).

فهذه هي مسؤولية الخالق في توضيح الحق وفضح الباطل وفقاً لحكمته، وإلاّ

____________________________________

1 ـ لا حظوا أنّ «يمح» هي في الأصل كانت (يمحو) حيث سقطت الواو لأن الرسم القرآني ـ عادة ـ هكذا، مثل (ويدع الإنسان بالشر) (الإسراء ـ 11) (وسندع الزبانية) (العلق ـ 18)، إلاّ أنّه وفقاً للرسم الحديث فإن الواو تذكر في جميع هذه الكلمات، إلاّ أنّها تحذف في القرآن غالباً.

[525]

فكيف يسمح لشخص بالكذب عليه وفي نفس الوقت ينصره ويظهر على يديه المعاجز؟

كما أن من الاخطاء الكبيرة أن يتصور البعض قيام الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بهذا العمل مُخفياً ذلك عن علم الخالق: (إنّه عليم بذات الصدور).

وكا قلنا في تفسير الآية 38 من سورة فاطر،فإنّ (ذات) لا تعني في اللغة العربية عين الأشياء وحقيقتها، بل هو مصطلح من قبل الفلاسفة(1)، حيث أن ذات تعني ـ (الصاحب)، عندها سيكون مفهوم جملة: (إنه عليم بذات الصدور) إن الخالق عليم بالأفكار والعقائد المسيطرة على القلوب، وكأنما هي صاحبة هذا القلب ومالكته.

وهذه إشارة لطيفة إلى استقرار الأفكار وحاكميتها على قلوب وأرواح الناس (فدقق في ذلك).

وبما أن الخالق يبقي طريق الرجعة مفتوحاً أمام العباد، لذا فإن الآيات القرآنية بعد ذم أعمال المشركين والمذنبين القبيحة تشير الى أن الابواب التوبة مفتوحة دائماً: ولذا تقول الآية محل البحث: (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات).

إلاّ أنكم إذا تظاهرتم بالتوبة وأخفيتم أعمالا اُخرى، فلا تتصوروا أن ذلك يخفى عن علم الخالق، لأنّه: (ويعلم ما تفعلون).

وقلنا في سبب النّزول الذي ذكرناه في بداية الآيات السابقة، أنّه بعد نزول آية المودّة، قال بعض المنافقين وضعفاء الإيمان: إنّ هذا الكلام افتراه محمّد على الخالق، ويريد به أن يذلنا بعده لأقرباءه، عندها نزلت آية: (أم يقولون افترى على الله كذباً) ردّاً عليهم، وعندما علموا بنزول هذه الآية تندم بعضهم وبكى وبات قلق البال، في ذلك الوقت نزلت الآية: (وهو الذي يقبل التوبة...) وبشرتهم بغفران

____________________________________

1 ـ راجع مفردات الراغب.

[526]

الذنب إذا تابوا إلى الله توبةً نصوحاً.

أمّا آخر آية فتوضح الجزاء العظيم للمؤمنين، والعذاب الأليم للكافرين في جمل قصيرة فتقول: إنّ الله تعالى يستجيب لدعاء المؤمنين وطلباتهم: (ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات). بل: (ويزيدهم من فضله) وسوف يعطيهم ما لم يطلبوا. (والكافرون لهم عذاب شديد).

وقد تمّ ذكر تفاسير مختلفة للأمر الذي سيستجيبه من المؤمنين، حيث أن بعض المفسّرين حدد ذلك في طلبات معينة، منها:

أنّه سيستجيب دعاء المؤمنين أحدهم للآخر.

ومنها أنّه سيقبل عباداتهم وطاعاتهم.

ومنها أن ذلك مختص بشفاعتهم لاخوانهم.

ولكن لا يوجد أي دليل على هذا التحديد، حيث أن الخالق سيستجيب أي طلب للمؤمنين الذين يعملون الصالحات والأكثر من ذلك فإنّه سيهبهم من فضله أُموراً قد لا تخطر على بالهم ولم يطلبوها، وهذا غاية اللطف والرحمة الإلهية بخصوص المؤمنين.

وورد في حديث عن الإمام الصادق(عليه السلام) عن الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) في تفسير: (ويزيدهم من فضله): «الشفاعة لمن وجبت له النّار ممن أحسن إليهم في الدنيا»(1).

ولا يعني هذا الحديث العظيم في معناه اقتصار الفضل الإلهي بهذا الأمر فحسب، بل يعتبر أحد مصاديقه الواضحة.

 

* * *

 

____________________________________

1 ـ تفسير«مجمع البيان» نهاية الآيات التي نبحثها.

[527]

الآيات

وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِى الاَْرْضِ وَلَـكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَر مَّا يَشَآءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ( 27 ) وَهُوَ الَّذِى يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِىُّ الْحَمِيدُ ( 28 )وَمِنْ ءَايَـتِهِ خَلْقُ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّة وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ( 29 ) وَمَآ أَصَـبَكُم مِّن مُّصِيبِة فَبَِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَنْ كَثِير( 30 ) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِى الاَْرْضِ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللهِ مِن وِلِىٍّ وَلاَ نَصِير( 31 )

 

سبب النّزول

نقل عن الصحابي المعروف (خباب بن الأرث) أن الآية الأولى: (ولو بسط...)نزلت فينا، وذلك بسبب أنّنا كنّا ننظر إلى الأموال الكثيرة لبني قريظة وبني النظير وبني القينقاع من اليهود، وكنّا نرغب بامتلاكنا لمثل هذه الأموال، إلاّ أن هذه الآية نزلت وحذرتنا من أن الخالق لو بسط لنا في الرزق فسوف نطغى(1).

____________________________________

1 ـ تفسير الفخر الرازي، تفسير أبو الفتوح الرازي، وتفسير القرطبي (نهاية الآية التي نبحثها).

[528]

وفي تفسير (الدر المنثور) ورد حديث آخر، وهو أن هذه الآية نزلت في أهل الصُفّة، لأنّهم كانو يأملون بتحسن وضع دنياهم(1).

وهناك تفصيل في نهاية الآيات بخصوص أصحاب الصفة ومن هم؟

 

التّفسير

المترفون الباغون:

قد يكون ارتباط هذه الآيات بالآيات السابقة بلحاظ ما ورد في آخر آية من الآيات السابقة من أن الخالق يستجيب دعوة المؤمنين، وفي أعقاب ذلك يطرح هذا السؤال: لماذا نرى البعض منهم فقراء، ولا ينالون ما يرغبونه مهما يدعون؟ تقول الآية: (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء).

وبهذا الترتيب فإنّ تقسيم الأرزاق يقوم على حساب دقيق من قبل الخالق تجاه عباده، وهذا يحدث بسبب: (إنّه بعباده خبير بصير).

فهو يعلم بمقدار استيعاب أي شخص فيعطيه الرزق وفقاً لمصلحته، فلا يعطيه كثيراً لئلا يطغى، ولا قليلا لئلا يستغيث من الفقر.

وجاء ما يشبه هذا المعنى في الآية (6) و(7) من سورة العلق: (إنّ الإنسان ليطغى أن رآه استغنى).

وهو حقّاً كذلك، فالبحث في أحوال الناس يدل على هذه الحقيقة الصادقة، وأنّه عندما تقبل الدنيا عليهم ويعيشون في رفاهية وسعة، ينسون الخالق ويبتعدون عنه ويغرقون في بحر الشهوات، ويفعلون ما لا ينبغي فعله، ويشيعون الظلم والجور والفساد في الأرض.

وفي تفسير آخر عن (ابن عباس) في هذه الآية ورد أن المقصود من (البغي)

____________________________________

1 ـ ينقل الدر المنثور هذا الحديث عن الحاكم والبيهقي وأبي نعيم (ج6 ص8).

[529]

ليس الظلم والجور، وإنّما (بغى) تعني(طلب) أي يكون معنى الآية أنّهم يطلبون أكثر ولا يشبعون.

إلاّ أنّ التّفسير الأوّل مقبول من قبل عدّة مفسّرين وهو الأفضل كما يظهر، لأن عبارة: (يبغون في الأرض) وردت عدة مرات في الآيات القرآنية بمعنى الفساد والظلم في الأرض، مثل: (فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق)(1) و(إنّما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق)(2).

صحيح أن (بغى) وردت بمعنى (طلب) أيضاً، إلاّ أنّها متى ما تذكر مع كلمة (في الأرض) فإنها تعني الفساد والظلم في الأرض.

 

وهنا يطرح سؤالان:

الأوّل: لو كان تقسيم الأرزاق وفق هذا البرنامج، فلماذا إذن نرى أشخاصاً لهم رزق وفير وقد أفسدوا وطغوا كثيراً في الدنيا ولم يمنعهم الخالق، سواء على مستوى الأفراد، أو الدول الناهبة والظالمة؟

وفي الجواب على هذا السؤال يجب الإنتباه إلى هذه الملاحظة، وهي أن بسط الرزق أحياناً قد يكون أسلوباً للإمتحان والإختبار، لأن جميع الناس يجب أن يُختبروا في هذا العالم، فقسم منهم يختبرون بواسطة المال.

وأحياناً قد يكون بسط الرزق لبعض الافراد لكي يعلموا بأن الثروة لا تجلب السعادة، فعسى أن يعثروا على الطريق ويرجعوا إلى خالقهم، و نحن الان نرى بعض المجتمعات غرقى بأنواع النعم والثروات، وفي نفس الوقت شملتهم مختلف المصائب والمشاكل، كالخوف، والقتل، والتلوث الخلقي، والقلق بأنواعه المختلفة.

فأحياناً تكون الثروة غير المحدودة نوعاً من العقاب الإلهي الذي يشمل

____________________________________

1 ـ يونس، الآية 23.

2 ـ آية 42 من نفس هذه السورة.

[530]

بعض الناس، فإذا نظرنا إلى حياتهم من بعيد نراها جميلة، أمّا إذا تفحصناها عن قرب فسوف نشاهد التعاسة بأدنى حالاتها!، وفي هذا المجال هناك قصص عديدة لسلاطين الثروة في الدنيا، حيث يطول بنا المقام لو أردنا سردها.

السؤال الآخر هو: ألا يعني هذا الكلام أنّه متى ما كان الإنسان فقيراً فلا ينبغي له السعي للتوسع في الرزق، لأن الخالق جعل مصلحته في هذا الفقر؟

وللجواب على هذا السؤال نقول: إنه قد تكون قلة الرزق بسبب كسل الإنسان وتهاونه أحياناً، فهذا النقص والحرمان ليس ما يريده الله حتماً، بل بسبب أعماله، والإسلام يدعو الجميع إلى الجهد والجهاد والمثابرة وفقاً لتأكيده على أصل السعي وبذل الجهد الذي يشير إليه القرآن في آيات عديدة، وسنة الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) والائمة الأطهار(عليهم السلام).

ولكن عندما يبذل الإنسان منتهى جهده، ورغم ذلك تغلق الأبواب في وجهه، عليه أن يعلم بأن هناك مصلحة معينة في هذا الأمر، فلا يجزع، ولا ييأس، ولا ينطق بالكفر، ويستمر في محاولاته ويستسلم لرضا الخالق أيضاً.

وتجدر الإشارة إلى هذه الملاحظة وهي أن كلمة (عباده) لا تتعارض أبداً مع الطغيان عند بسط الرزق، لأن هذه العبارة تستخدم في الأفراد الصالحين والسيئين والمتوسطي الحال، مثل: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله).

صحيح أن الخالق ينزل الرزق بقدر حتى لا يطغي العباد، إلاّ أنّه لا يمنعهم أو يحرمهم، لذا فإن الآية التي بعدها تقول: (وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته).

ولماذا لا يكون هذا: (وهو الولي الحميد

هذه الآية تتحدث عن آيات وعلائم التوحيد في نفس الوقت الذي تبيّن فيه نعمة ولطف الخالق، لأن نزول المطر يشتمل على نظام دقيق للغاية ومحسوب،

[531]

فعندما تشرق الشمس على المحيطات تفصل ذرات الماء الدقيقة عن الأملاح وترسلها على شكل سحب إلى السماء، ثمّ تقوم طبقات الجو العليا الباردة بتكثيفها، ثمّ تحملها الرياح إلى الأراضي اليابسة، ثمّ تتحول أخيراً إلى قطرات مطر بسبب برودة الهواء وضغطه الخاص وتهطل على الأرض، وتنفذ فيها دون تخريب.

نعم، فلو دققنا النظر في هذا النظام، فسنجد علائم قدرة الخالق وعلمه متجلية فيه، فهو الولي الحميد الذي يقوم بتأمين كلّ حاجات العباد وتشملهم ألطافه العديدة.

ولابدّ القول أن كلمة (غيث) تعني المطر النافع، كما يقول العديد من المفسّرين وبعض علماء اللغة، في حين أن (المطر) يطلق على جميع الأنواع الأُخرى النافعة والضارة.

لذا، فبعد تلك الجملة وردت عبارة: (وينشر رحمته).

ياله من تعبير لطيف وشامل! فهو ينشر رحمته لإحياء الأراضي الميتة، ونمو النباتات وتنظيف الهواء، وتأمين ماء الشرب للإنسان وباقي الكائنات الحية، والخلاصة في جميع المجالات.

فلو أراد الإنسان أن يدرك مفهوم هذه الجملة القرآنية، فإنّ عليه أن يتوجه نحو الجبال والسهول بعد نزول المطر وعندما تشرق الشمس، كي يشاهد الجمال واللطافة ورحمة الخالق الواسعة وهي تعمر كلّ مكان.

وقد تكوه الإستفادة من كلمة (غيث) بسبب أن لها جذوراً مشتركة مع (غوث) المأخوذه من الإغاثة، ولهذا السبب فإن بعض المفسّرين اعتبر الكلمة أعلاه إشارة إلى أي إغاثة من قبل الخالق بعد اليأس ونشر رحمته(1).

ولهذه المناسبة ـ أيضاًـ فإن الآية التي بعدهاتتحدث عن أهم آيات علم

____________________________________

1 ـ يقول الراغب في مفرداته: الغوث يقال في النصرة، والغيث في المطر.

[532]

وقدرة الخالق، حيث تقول: (ومن آياته خلق السموات والأرض وما بث فيهما من دابة).

فالسموات بعظمتها، بمجراتها وكواكبها، بملايين الملايين من النجوم العظيمة اللامعة، بنظامها الدقيق الذي يبهت الإنسان عند مطالعته لها. والأرض بمنابعها الحياتية ونباتاتها المتنوعة ولورود والفواكه بمختلف البركات والمواهب والجمال! كلها تعتبر آيات وعلائم تدل عليه... هذا من جانب.

ومن جانب آخر فالأحياء في الأرض والسماء، كأنواع الطيور، ومئات الآلاف من الحشرات، وأنواع الحيوانات الأليفة والمتوحشة، والزواحف، والأسماك بأنواعها وأحجامها، والعجائب المختلفة الموجودة في كلّ نوع من هذه الأنواع، والأهم من ذلك حقيقة (الحياة) وأسرارها التي لم يستطع أحد التوصل إلى كنهها بعد آلآف السنين من البحوث لملايين العلماء، كلّ ذلك هو من آيات الخالق.

والملفت للنظر أن (دابة) تشمل الكائنات الحية المجهرية التي لها حركات لطيفة وعجيبة، وتشمل الحيوانات الكبيرة العملاقة التي يصل طولها إلى عشرات الأمتار ووزنها إلى عشرات الأطنان، فكل صنف يسبّح على طريقته الخاصة ويحمد الخالق، ويبيّن عظمته تعالى وقدرته وعلمه اللامحدود، بلسان حاله.

وتقول الآية في نهايتها: (وهو على جمعهم إذا يشاء قدير)(1).

أمّا ما هو المقصود من جمع الأحياء الذي تذكره هذه الآية؟ فقد ذكر العديد من المفسّرين أنّه الجمع للحساب وجزاء الأعمال في القيامة، ويمكن اعتبار الآيات التي تذكر القيامة بعنوان (يوم الجمع) دليلا على هذا المعنى (مثل الآية 7 من نفس هذه السورة والآية 9 من سورة التغابن).

____________________________________

1 ـ (إذا) وكما يقول صاحب الكشاف، تدخل على الفعل المضارع كما تدخل على الفعل الماضي، مثل (والليل إذا يغشى) ولكن الفعل أكثر ما يكون بعد (إذا) على شكل الماضي وقليل جداً على شكله المضارع.

[533]

وهنا قد يطرح هذا السؤال وهو: هل أن جميع الأحياء سيحشرون يوم القيامة، حتى غير الإنسان؟ حيث يقال أحياناً أن كلمة (دابة) تطلق على غير الإنسان. وهنا ستُطرح هذه المشكلة وهي كيف ستحشر الأحياء من غير الإنسان للحساب. في حين أنّها لا تتمتع بعقل ولا اختيار ولا تكليف؟

وقد ورد جواب هذا السؤال في نهاية الآية (38) من سورة الأنعام: (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثمّ إلى ربهم يحشرون).

وقلنا أن حياة العديد من الحيوانات مقترنة مع نظام بديع وعجيب، فما المانع من أن تكون أعمالها نتاج نوع من العقل والشعور فيها؟ وهل هناك ضرورة لأرجاع جميع هذه الأُمور إلى الغريزة؟ وفي هذه الحالة يمكن تصور نوع من الحشر والحساب لها (اقرأ شرحاً أكثر لهذا الموضوع في ذيل تفسير الآية 38 من سورة الأنعام).

ويحتمل في تفسير الآية أعلاه أن المقصود من (الجمع) الجانب المقابل  لـ (بث)، أي أن (بت) تشير إلى خلق أنواع الكائنات الحية باختلافها، ثمّ إذا شاء الخالق (جمعها) وأفناها. فكما أن العديد من الأحياء ـ (على مدى التاريخ) ـ انتشرت بشكل عجيب، ثمّ انقرضت واختفت فيما بعد. كذلك جمعها وإبادتها يكون بيد الخالق، فهي في الحقيقة تشبه الآيات التي تقول: يحيي ويميت (أي الخالق).

وبهذا فإنّ قضية حساب الحيوانات سوف تكون أجنبية عن هذه الآية.

 

النجوم السماوية الآهلة:

من الإستنتاجات المهمّة التي نستنتجها من خلال هذه الآية، أنّها تدل على وجود مختلف الأحياء في السماوات، وبالرغم من عدم صدور الرأي النهائي

[534]

للعلماء بهذا الخصوص، إلاّ أنّهم يقولون وعلى نحو الإيجاز: هناك احتمال قوي بوجود عدد كبير من النجوم من بين الكواكب السماوية تحتوي على كائنات حية، إلاّ أن القرآن يصرح بهذه الحقيقة من خلال: (وما بث فيهما من دابة).

وما يقوله بعض المفسّرين من احتمال تخصص (فيهما) بالكرة الأرضية غير سديد، لوجود ضمير المثنى والذي يعود إلى السماء والأرض معاً، وكذلك لا يصح ما قيل في تفسير (دابة) بالملائكة، لأن دابة تطلق عادة على الكائنات المادية.

ويمكن استفادة هذا المعنى أيضاً من خلال الآيات القرآنية المتعددة الأُخرى.

وفي حديث ورد عن الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) أنّه قال: «هذه النجوم التي في السماء مدائن مثل المدائن التي في الأرض مربوطة كلّ مدينة إلى عمود من نور»(1).

وهناك روايات اُخرى متعددة في هذا المجال (يمكن مراجعة كتاب «الهيئة والإسلام» لمزيد من المعلومات).

وبما أن الآيات السابقة كانت تتحدث عن الرحمة الإلهية، لذا يُطرح سؤال في هذا المجال، وهو كيف تجتمع الرحمة وكل هذه المصائب التى تصيبنا؟

الآية الأُخرى تجيب على هذا السؤال وتقول: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم).

ثم إن هذا الجزاء ليس جزاءً على جميع أعمالكم القبيحة، لأنّه (ويعفو عن كثير).

* * *

 

 

____________________________________

1 ـ سفينة البحارـ كلمة نجم ـ المجلد الثّاني ـ ص574، نقلا عن تفسير علي بن إبراهيم القمي.

[535]

ملاحظات

علّة المصائب:

ومن الضروري الإنتباه إلى بعض الملاحظات الواردة في هذه الآية:

1 ـ تبيّن هذه الآية وبوضوح أن المصائب التي تصيب الإنسان هي نوع من التحذير والعقاب الإلهي (بالرغم من وجود بعض الإستثناءات التي سنشير إليها فيما بعد).

وبهذا الترتيب سيتوضح لنا جانب من فلسفة الحوادث المؤلمة والمشاكل الحياتية.

والطريف في الأمر أنّنا نقرأ في حديث عن الإمام علي(عليه السلام) أنّه نقل عن الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)قوله: «خير آية في كتاب الله هذه الآية، يا علي ما من خدش عود، ولا نكبة قدم إلا بذنب، وما عفى الله عنه في الدنيا فهو أكرم من أن يعود فيه، وما عاقب عليه في الدنيا فهو أعدل من أن يثني على عبده»(1).

وهكذا فإنّ هذه المصائب إضافة إلى أنّها تقلل من حمل الإنسان، فإنها تجعله يتزن في المستقبل.

2 ـ بالرغم من عمومية الآية وشمولها كلّ المصائب، لكن توجد استثناءات لكلم عامّ، مثل المصائب والمشاكل التي أصابت الأنبياء والأئمة المعصومين(عليهم السلام)بهدف الإختبار أو رفع مقامهم.

وأيضاً المصائب بهدف الاختبار التي تشمل غير المعصومين. أو المصائب التي تحدث بسبب الجهل أو عدم الدقة في الأمور وعدم الإستشارة والتساهل والتي هي آثار تكوينية لأعمال الإنسان نفسه.

وبعبارة اُخرى فإن الجمع بين الآيات القرآنية المختلفة ـ والأحاديث ـ

____________________________________

1 ـ مجمع البيان، المجلد 9، ص31 (نهاية الآيات التي نبحثها) وقد ورد ما يشبه هذا الحديث في (الدر المنثور) وتفسير (روح المعاني) مع بعض الإختلاف وذلك في نهاية الآيات التي نبحثها، والأحاديث في هذا المجال كثيرة.

[536]

يقتضي التخصيص في بعض الموارد بالنسبة لهذه الآية العامة، وليس هذا موضوعاً جديداً ليكون محل نقاش بعض المفسّرين.

وخلاصة القول فإنّ هناك غايات مختلفة للمصائب والمشاكل التي تصيب الإنسان، حيث تمّت الإشارة إليها في المواضيع التوحيدية وبحوث العدل الإلهي.

فالملكات تنمو وتتكامل تحت ضغط المصائب، ويكون هناك حذر بالنسبة للمستقبل، ويقظة من الغرور والغفلة وكفارة للذنب و...

وبما أن أغلب أعمال الأفراد لها طبيعة جزائية وتكفيرية، لذا فإنّ الآية تطرح ذلك بشكل عام.

ولذا فقد ورد في الحديث أنّه وعندما دخل علي بن الحسين(عليه السلام) على يزيد بن معاوية، نظر إليه يزيد وقال: يا على، ما أصابكم من مصيبة فبماكسبت أيديكم (إشارة إلى أنّ مأساة كربلاء هي نتيجة أعمالكم).

إلاّ أنّ الإمام(عليه السلام) أجابه مباشرة: «كلا ما نزلت هذه فينا، إنّما نزل فينا:(ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلاّ في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما أتاكم) فنحن الذين لا نأسى على مافاتنا من أمر الدنيا، ولا نفرح بما أوتينا»(1).

وننهي هذا الكلام بحديث آخر عن الإمام الصادق(عليه السلام) فعندما سئل عن تفسير الآية أعلاه قال: تعلمون أن علياً وأهل بيته قد أصيبوا بالمصائب من بعده، فهل كان ذلك بسبب أعمالهم؟ في حين أنّهم أهل بيت الطهر، والعصمة من الذنب، ثمّ أضاف: نص إنّ رسول الله كان يتوب إلى الله ويستغفر في كلّ يوم وليلة مائة مرة من غير ذنب، إنّ الله يخص أولياءه بالمصائب ليأجرهم عليها من غير ذنب(2).

3 ـ البعض يشكك في أن يكون المقصود من المصائب في هذه الآية مصائب

____________________________________

1 ـ تفسير على بن بن إبراهيم طبقاً لنور الثقلين، المجلد الرابع، ص580.

2 ـ أصول الكافي طبقاً لنور الثقلين، المجلد الرابع، ص581.

[537]

الدنيا، لأن الدنيا هي دار العمل وليس دار الثواب والجزاء.

وهذا خطأ كبير، لوجود آيات وروايات متعددة تؤّكد أن الإنسان يرى ـ أحياناً ـ جانباً من نتيجة أعماله في هذه الدنيا، وما يقال من أن الدنيا ليست داراً للجزاء ولا تتم فيها تصفية جميع الحسابات، لا يعني عدم الجزاء بشكل مطلق، حيث أن إنكار هذه الحقيقة يشبه إنكار البديهيات، كما يقول المطّلعون على المفاهيم الاسلامية.

4 ـ أحياناً قد تكون المصائب جماعية، وبسب ذنوب الجماعة، كما نقرأ في الآية (41) من سورة الروم: (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون).

وواضح أن هذا يختص بالمجتمعات الإنسانية التي أصيبت بالمصائب بسبب أعمالها.

وورد في الآية 11 من سورة الرعد: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).

وهذه الآيات تدل على وجود إرتباط وعلاقة قريبة بين أعمال الإنسان والنظام التكويني للحياة، فإذا سار الناس وفقاً لأصول الفطرة وقوانين الخلق فستشملهم البركات الإلهية، وعند فسادهم يفسدون حياتهم.

وأحياناً قد يصدق هذا الأمر بخصوص آحاد الناس، فكل إنسان سيصاب في جسمه وروحه أو أمواله ومتعلقاته الأُخرى بسبب الذنب الذي يرتكبه، كما جاء في الآية أعلاه(1).

على أية حال، فقد يتصور البعض أنّهم يستطيعون الهروب من هذا القانون الإلهي الحتمي. لذا فإن آخر آية في هذا البحث تقول: (وما أنتم بمعجزين في

____________________________________

1 ـ الميزان، المجلد 18، ص61.

[538]

الأرض)(1). وفي السماء بطريق اولى وكيف تستطيعون الهروب من قدرته وحاكميته في حين أن كلّ عالم الوجود هو في قبضته ولا منازع له؟

وإذا كنتم تعتقدون بوجود من سيساعدكم وينصركم، فاعلموا: (ومالكم من دون الله من ولي ولا نصير).

قد يكون الفرق بين (الولي) و (النصير) هو أن الولي هو الذي يقوم بجلب المنفعة، والنصير هو الذي يقوم بدفع الضرر، أو أن الولي يقال لمن يدافع بشكل مستقل، والنصير يقال لمن يقف إلى جانب الإنسان ويقوم بنصرته.

وفي الحقيقة فإن آخر آية تجسد ضعف وعجز الإنسان، والآية التي قبلها عدالة الخالق ورحمته(2).

* * *

 

مسائل مهمّة

الاولى: مصائبكم بما كسبت أيديكم:

يتصور العديد من الناس أن علاقة أعمال الإنسان بالجزاء الإلهي مثل العقود الدنيوية وما تحتويه من الأجر والعقاب، في حين قلنا ـ مراراً ـ إن هذه العلاقة أقرب ما تكون إلى الإرتباط التكويني منه إلى الإرتباط التشريعي.

وبعبارة اُخرى فإنّ الأجر والعقاب أكثر ما يكون بسبب النتيجة الطبيعية والتكوينية لأعمال الإنسان حيث يشملهم ذلك. والآيات أعلاه خير شاهد على هذه الحقيقة.

وبهذا الخصوص هناك روايات كثيرة في المصادر الإسلامية نشير إلى بعضها

____________________________________

1 ـ «معجزين» من كلمة (إعجاز) إلاّ أنّها وردت في العديد من الآيات القرآنية بمعنى الهروب من محيط القدرة الإلهية ومن عذابه، حيث يقتضي معناها ذلك.

2 ـ في ظلال القرآن ـ المجلد السابع ص290.

[539]

لتكميل الموضوع:

1 ـ ورد في إحدى خطب نهج البلاغة: «ماكان قوم قط في غض نعمة من عيش، فزال عنهم إلاّ بذنوب اجترحوها، لأن الله ليس بظلام للعبيد، ولو أنّ الناس حين تنزل بهم النقم، وتزول عنهم النعم، فزعوا إلى ربّهم بصدق من نياتهم، ووله من قلوبهم، لردّ عليهم كلّ شارد، وأصلح لهم كلّ فاسد»(1).

2 ـ وهناك حديث آخر عن أمير المؤمنين الإمام علي(عليه السلام) في (جامع الأخبار) حيث يقول: «إنّ البلاء للظالم أدب، وللمؤمن امتحان، وللأنبياء درجة، وللأولياء كرامة»(2).

وهذا الحديث خير شاهد للإستثناءات التي ذكرناها لهذه الآية.

وورد في حديث آخر عن الإمام الصادق(عليه السلام) في الكافي أنّه قال: «إن العبد إذا كثرت ذنوبه، ولم يكن عنده من العمل ما يكفرها، ابتلاه بالحزن ليكفرها»(3).

4 ـ وهناك باب خاص لهذا الموضوع في كتاب أصول الكافي يشمل 12 حديثاً(4).

وكل هذه هي غير الذنوب التي صرحت الآية أعلاه بأن الخالق سيشملها بعفوه ورحمته، حيث أنّها ـ بحد ذاتها ـ كثيرة.

 

الثانية: اشتباه كبير

قد يستنتج البعض بشكل خاطىء من هذه الحقيقة القرآنية ويقول بوجوب الإستسلام لأي حادثة مؤسفة، إلاّ أن هذا الأمر خطير للغاية، لأنّه يستفيد من هذا الأصل القرآني التربوي بشكل معكوس ويستنتج نتيجة تخديرية.

____________________________________

1 ـ نهج البلاغة ـ الخطبة 178.

2 ـ بحار الأنوار، المجلد 81، ص198.

3 ـ الكافي،ـ المجلد الثّاني، كتاب الإيمان والكفر ـ باب تعجيل عقوبة الذنب ـ الحديث 2.

4 ـ المصدر السابق.

[540]

فالقرآن لا يقول أبداً بالإستسلام حيال المصائب وعدم السعي لحل المشاكل، والركون للظلم والجور والمرض، بل يقول: إذا شملتك المصائب بالرغم من سعيك ومحاولاتك لدفعها، فاعلم أن ذلك هو كفارة الذنوب التي قمت بها وارتكبتها، عليك أن تفكر بأعمالك السابقة، وتستغفر لذنوبك، وتصلح نفسك وتكتشف نقاط ضعفك.

وإذا ورد في الروايات أن هذه الآية من أفضل آيات القرآن، فذلك بسبب تأثيرها التربوي المهم، ومن جانب آخر تقوم بتخفيف هموم الإنسان، وتعيد الأمل وعشق الخالق إلى قلبه وروحه.

 

الثّالثة: من هم أصحاب الصفة؟

الذين يذهبون إلى زيارة قبر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في المدينة، يشاهدون مكاناً مرتفعاً قليلا عن الأرض في زاوية المسجد وقرب القبر الشريف حيث عزلت أطرافه بشكل جميل عن باقي المسجد، كما أن الكثير ينتخب هذا المكان لتلاوة القرآن والصلاة.

هذا المكان يذكرنا بمكان (الصفّة) وهو المحل الذي هيأه النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)لمجموعة من الغرباء الذين اعتنقوا الإسلام ولم يكن لديهم مأوى سوى المسجد(1).

 

توضيح:

أوّل شخص غريب اعتنق الإسلام ولم يكن يملك مكاناً في المدينة هو شاب من أهل اليمامة يسمى (جويبر) حيث أن قصة زواجه الشهيرة مع (الذلفاء) تعتبر من أجمل حوادث محاربة الفواصل الطبقية في التأريخ الإسلامي.

____________________________________

1 ـ «صفة» على وزن (غصّة) وتعني في اللغة الصيفية المغطاة بسعف النحل.

[541]

وقد سمح له الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بالمبيت ليلا في المسجد، لأنّه لا يملك مكاناً للإستراحة والسكن، وعندما كثر عدد الغرباء ـ وكلهم سكن المسجد ـ أدى ذلك إلى وضع سلبي للمسجد، أمر الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بإخراجهم من المسجد وتطهيره، واغلقت أبواب بيوت الصحابة التي كانت شارعة إلى المسجد بأمر الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)ما عدا بيت علي وفاطمة(عليهما السلام).

عندها أمر الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بتسقيف مكان معين بسعف النخل ليكون محلا لسكن الغرباء والفقراء، وكان بنفسه يزورهم ويعطيهم الماء والتمر والخبز والمواد الغذائية الأُخرى، وقام باقي المسلمين بالإهتمام بهم ومساعدتهم عن طريق الزكاة وأنواع الإنفاق الأُخرى.

وقد اشترك هؤلاء في المعارك الإسلامية وجاهدوا بإخلاص، وقد وردت بعض الآيات القرآنية لتذكر فضلهم وصفاءهم وطهرهم، وقد سمّوا (بأصحاب الصُفّة) لأنّهم سكنوا تلك (الصفّة).

 

* * *

 

[542]

الآيات

وَمِنْ ءَايَـتِهِ الْجَوَارِ فِى الْبَحْرِ كَالاَْعْلَـمِ( 32 ) إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيْحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهـرِهِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاََيَـتِ لِّكُلِّ صَبَّار شَكُور( 33 ) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُواْ وَيَعْفُ عَنْ كَثِير ( 34 )وَيَعْلَمُ الَّذِينَ يُجَـدِلُونَ فِى ءَايَـتِنَا مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيص( 35 ) فَمَا أُوْتِيتُم مِّن شَىْء فَمَتَـعُ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ( 36 )

 

التّفسير

هبوب الرياح المنتظمة وحركة السفن (عليهم السلام)

مرّة اُخرى نشاهد أنّ هذه الآيات تقوم بتبيان علائم الخالق وأدلة التوحيد، وتستمر في البحث الذي أشارت إليه الآيات السابقة بهذا الخصوص.

وهنا تذكر موضوعاً يتعامل معه الإنسان كثيراً في حياته المادية، خصوصاً المسافرين عبر البحار وسكان السواحل، حيث تقول الآية: (ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام).

«جوار» جمع (جارية) وهي صفة للسفن حيث لم تذكر للإختصار، وعادةً فإن

[543]

الآية تقصد حركة السفن، ولذا فقد استخدمت هذه الصفة.

ويقال للبنت الشابة «جارية» لأن الشباب والنشاط يجري في عروقها ووجودها.

«أعلام» جمع (علم) على وزن (قلم) وتعني الجبل، إلاّ أنّها في الأصل بمعنى العلامة والأثر الباقي الذي يخبر عن شيء معين، مثل (علم الطريق) و(علم الجيش) وما شابه.

أمّا لماذا سمّي الجبل بالعلم؟ فذلك لأنّه ظاهر من بعيد، وأحياناً كانوا يشعلون النّار فوق قمته حتى تكون مناراً للسائرين، إلاّ أن وجود النّار وعدمها لا يؤثر في التسمية.

وعلى هذا الأساس فإنّ القرآن يعتبر حركة السفن العملاقة في هذه الآية ـ كما في الآيات المتعددة الأُخرى ـ بسبب هبوب الرياح المنتظمة، من آيات الخالق.

فليس مهمّاً حركة السفينة الصغيرة أو الزوارق على سطح الماء بسبب هبوب الرياح، المهم حركة السفن والبواخر العملاقة بحمولتها الكبيرة ومسافريها المتعددين عند هبوب الرياح، فتقطع آلاف الأميال وتصل إلى مرساها.

فمن الذي خلق هذه المحيطات بخصوصياتها ومياهها و عمقها؟ من أعطى للخشب الذي تصنع منه السفن خاصية الطفو على سطح الماء؟

ومن يأمر الرياح بالهبوب بشكل منظم على سطح البحار والمحيطات كي يستطيع الانسان أن يصل من نقطة إلى اُخرى بالإستفادة من هذه الرياح؟

نعم، فلو أخذنا بعين الإعتبار الخرائط التي يملكها البّحارة بخصوص حركة الرياح، والمعلومات التي يملكها البشر حول هبوب الرياح من القطبين نحو خط الإستواء ومن خط الإستواء إلى القطبين، وأيضاً هبوب الرياح المتناوبة من السواحل واليابسة نحو البحار وبالعكس، عندها سندرك أن هذا الأمر مخطط وله

[544]

نظام.

في زماننا، تقوم المحركات الضخمة بتحريك السفن ودفعها إلى الأمام، إلاّ أنّ الرياح تبقى مؤثرة أيضاً في حركة هذه السفن.

وللتأكيد أكثر تقول الآية: (إنّ يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره). وكإستنتاح تضيف الآية في نهايتها: (إنّ في ذلك لآيات لكل صبار شكور).

نعم، فهبوب الرياح، وحركة السفن، وخلق البحار، والنظام الخاص المتناسق الذي يتحكم بهذه الأُمور... كلّها آيات مختلفة للذات المقدسة.

ونعلم أن هبوب الرياح يتمّ بسبب الإختلاف في درجة الحرارة بين منطقتين على الكرة الأرضية، لأنّ الهواء يتمدد بسبب الحرارة ويتحرك نحو الأعلى، ويضغط على الهواء المحيط به ويقوم بتحريكه، ومن جانب آخر يترك مكانه للهواء المجاور له عند تحركه نحو الطبقات العليا، فلو سحب الخالق هذه الخاصية (خاصية التمدد) من الهواء، عندها سيطغى السكون والهدوء القاتل وستقف السفن الشراعية في عرض البحار دون أية حركة.

«صبار» و(شكور) صيغتا مبالغة حيث تعطي الأولى معنى كثرة الصبر، والثانية كثرة الشكر. وهذان الوصفان الواردان في هذه الآية ـ وفي موارد اُخرى(1) ـ يشيران إلى ملاحظات لطيفة.

فهاتان الصفتان توضحان حقيقة الإيمان، لأن المؤمن صبور في المشاكل والإبتلاءات وشكور في النعم، وقد ورد في حديث عن الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم): «الإيمان نصفان: نصف صبر ونصف شكر»(2).

إضافةً إلى ذلك، فإنّ البحث في أسرار نظام الخلق يحتاج إلى الصبر والإستمرار وتخصيص الوقت الكافي، ومن جانب ثان يستحق شكر لمنعم.

____________________________________

1 ـ إبراهيم ـ 5، لقمان ـ31، سبأ ـ19، والآية التي نبحثها.

2 ـ تفسير الصافي، مجمع البيان، الفخر الرازي والقرطبي نهاية الآية (31) من سورة لقمان.

[545]

فمتى ما توفر هذان العاملان عندها يكون الإنسان مؤهلا للبحث في هذه الآيات، وعادةً فإنّ البحث في أسرار الخلق يعتبر بحد ذاته نوعاً من الشكر.

ومن جانب ثالث، فإنّ هاتين الصفتين تتجسدان في الإنسان أكثر من أي وقت مضى متى ما ركب في السفينة، حيث الصبر حيال حوادث ومشاكل البحار، والشكر عند الوصول إلى الساحل.

مرّة اُخرى، لتجسيد عظمة هذه النعمة الإلهية، تقول الآية الأُخرى: (أو يوبقهن بما كسبوا) أيّ لو شاء لأباد هذه السفن بسبب الأعمال التي ارتكبها المسافرون.

وكما قرأنا في الآيات الماضية، فإنّ المصائب التي تصيب الإنسان غالباً ما ما تكون بسبب أعماله.

إلاّ أنّه بالرغم من ذلك فإن اللطف الإلهي يشمل الإنسان: (ويعف عن كثير). فلولا عفو الخالق لم يكن لينجو أحد من عذاب الخالق سوى المعصومين والخواص والطاهرين، كما نقرأ ذلك في الآية (45) من سورة فاطر: (ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخر هم إلى أجل مسمى).

نعم، فهو يستطيع أن يمنع الرياح من الهبوب حتى تقف السفن في وسط البحار والمحيطات، أو يحوّل هذه الرياح إلى عواصف هوجاء تدمر هذه السفن والبواخر، إلاّ أن لطفه العام يمنع هذا العمل.

(ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص)(1) وما لهم من ملجأ سوى ذاته المنزهة.

فهؤلاء سوف لا يشملهم العفو الإلهي، لأنّهم عارضوه بعلم ووعي، واستمروا

____________________________________

1 ـ جملة (ويعلم الذين يجادلون...) كما يقول الزمخشري في كشافه: وردت منصوبة بسبب عطفها على تعليل محذوف وتقديره: لينتقم منهم ويعلم الذين يجادلون... فالهدف أن ينتقم الخالق من هذه المجموعة، والهدف أن يعلم المجادلون بعدم وجود طريق للنجاة.

[546]

في محاربته عن عداوة وعناد، فهؤلاء سوف لا يشملهم عفوه ورحمته،  ولا خلاص لهم من عذابه.

«محيص» مأخوذة من كلمة (حيص) على وزن (حيف) وتعني الرجوع والعدول عن أمر ما، وبما أن (محيص) اسم مكان، لذا وردت هذه الكلمة، بمعنى محل الهروب أو الملجأ.

والكلام في آخر آية موجّه إلى الجميع حيث تقول: (فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا).

فلا تتصوروا أنّه سيبقى لكم، لأنّه كالوميض الذي يبرق ثمّ يخبو، وكالشمعة في مهبّ الريح والفقاعة على سطح الماء، ولكن (وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون).

فلو استطعتم أن تستبدلوا هذا المتاع الدنيوي الزائل المحدود التافه بمتاع أبدي خالد، فتلك هي التجارة المربحة العديمة النظير.

فالمواهب في هذه الدنيا لا تخلو من المشاكل، حيث توجد الأشواك دائماً إلى جانب الورود، والمحبطات إلى جانب الآمال، في حين أن الأجر الإلهي  لا يحتوي على أي إزعاجات، بل هو خير خالص ومتكامل.

ومن جانب آخر فإن هذه المواهب مهما كانت فستزول حتماً، إلاّ أن الجزاء الأُخروي أبدي خالد، عندها هل يقبل العقل أن يستغني الإنسان عن هذه التجارة المربحة، أو يصاب بالغرور والغفلة وتبهره زخارف الدنيا؟

لذا فإننا نقرأ في الآية 38 من سورة التوبة: (ارضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلاّ قليل).

واساساً، فإنّ «الحياة الدنيا» (بالمعنى المتقدم) تشير إلى الحياة الدنية والحقيرة، وطبيعي أن أي متاع أو وسائل للإستفادة من مثل هذه الحياة ستكون ـ أيضاًـ مثلها في القيمة.

[547]

لذا فقد ورد في حديث عن الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «والله ما الدنيا في الآخرة إلاّ مثل أن يجعل أحدكم إصبعه هذه في اليم، فلينظر بم ترجع؟!»(1).

والملفت للنظر أنّه ورد في هذه الآية التأكيد على الإيمان والتوكل، وهذا بسبب أن نيل الأجر الإلهي هو للذين يفوضون أُمورهم في جميع الأعمال ويستسلمون له تعالى إضافة إلى الإيمان، لأن التوكل يعني تفويض الأمور. وتقابل هذه المجموعة أشخاص يجادلون في آيات الله بسبب حب الدنيا والإرتباط بالمتاع الزائل، ويقلبون الحقائق، وبهذا الترتيب فإن آخر آية هي بمثابة تعليل للآية التي قبلها، والتي كانت تتحدث عن الذين يجادلون في آيات الله.

* * *

____________________________________

1 ـ روح البيان، المجلد الثّالث، ص429 (نهاية الآية 38 من سورة التوبة)

[548]

الآيات

وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَـئِرَ الاِْثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ( 37 ) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلَوةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَـهُمْ يُنْفِقُونَ( 38 ) وَالَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ الْبَغْىُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ( 39 ) وَجَزَؤُاْ سَيِّئَة سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّـلِمِينَ( 40 )

 

التّفسير

المؤمنون لا يستسلمون للظلم:

هذه الآيات استمرار للبحث الوارد في الآيات السابقة بخصوص الأجر الإلهي للمؤمنين المتوكلين.

فبعد ذكر الإيمان والتوكل اللذين لهما طبيعة قلبية، تشير هذه الآيات إلى سبعة أنواع من البرامج العملية للصفتين السابقتين سواء كانت إيجابية أو سلبية، فردية أو إجتماعية، مادية أو معنوية، وهذه البرامج توضح أسس المجتمع الصالح والحكومة الصالحة القوية.

والملفت للنظر أنّ هذه الآيات نزلت في مكّة ـ كما يظهر ـ وفي ذلك اليوم لم

[549]

يكن قد تأسس المجتمع الإسلامي بعد، ولم يكن هناك وجود للحكومة الإسلامية، إلاّ أن هذه الآيات أعطت التفكير الإسلامي الصحيح في هذا الخصوص منذ ذلك اليوم، حيث كان الرّسول الكريم(صلى الله عليه وآله وسلم) يعلّمهم ويربّيهم لغرض الإستعداد لبناء المجتمع الإسلامي في المستقبل.

فأوّل صفة تبدأ من التطهير حيث تقول الآية أن الثواب الإلهي العظيم سوف يكون من نصيب المؤمنين المتوكلين: (والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش)(1).

«كبائر» جمع «كبيرة» وتعني الذنوب الكبيرة، أمّا ما هو المعيار في الكبائر؟ البعض فسّرها بالذنوب التي توعد القرآن في آياته بعذاب النّار لها، وأحياناً الذنوب التي تستوجب الحدّ الشرعي.

وقد احتمل البعض أنّها إشارة للبدع وإيجاد الشبهات الإعتقادية في أذهان الناس.

ولكننا لو رجعنا إلى المعنى اللغوي كلمة «كبيرة» فإنّها تعني الذنب الذي يكون كبيراً ومهماً من وجهة نظر الإسلام، وأحد علائم أهميته أنّه ورد في القرآن المجيد وتوعد بالعذاب عليه، وقد ورد تفسير للكبائر في روايات أهل البيت(عليهم السلام)بأنّها: «التي أوجب الله عزّوجلّ عليها النّار»(2).

وعلى هذا الأساس فلو توضحت أهمية وعظمة الذنب بطرق اُخرى، عندها سيشمله عنوان (الكبائر).

«فواحش» جمع «فاحشة» وتعني الأعمال القبيحة للغاية والممقوتة، وذكر هذه العبارة بعد كلمة (الكبائر) من قبيل ذكر الخاص بعد العام، وفي الحقيقة فإنّ

____________________________________

1 ـ يعتقد غالب المفسّرين أن (الذين يجتنبون) عطف لـ(الذين آمنوا) في الآية السابقة، بالرغم من احتمال البعض أنّها مبتدأ خبره محذوف (وفي التقدير والذين يجتنبون... لهم مثل ذلك من الثواب) إلاّ أن المعنى الأوّل أفضل ظاهراً.

2 ـ نور الثقلين، المجلد الأوّل، ص473.

[550]

التأكيد على الذنوب القبيحة للغاية بعد ذكر اجتناب المؤمنين الحقيقيين عن جميع الذنوب الكبائر، للتأكيد على أهمية ذلك.

وعلى هذا الأساس فإنّ أوّل علائم الإيمان والتوكل هو الإجتناب عن (الكبائر)، فكيف يمكن للإنسان أن يدعي الإيمان والتوكل على الخالق، في حين أنّه مصاب بأنواع الذنوب وقلبه وكر من أوكار الشيطان؟!

أمّا ثاني صفة، والتي لها طبيعة تطهيرية أيضاً، فهي السيطرة على النفس عند الغضب الذي يعتبر من أشدّ حالات الإنسان حيث تقول الآية: (وإذا ما غضبوا هم يغفرون).

فهؤلاء لا يفقدون السيطرة على أنفسهم عند الغضب ولا يرتكبون الجرائم عنده، والأكثر من ذلك غسل قلوبهم وقلوب الآخرين من الحقد بواسطة مياه العفو والغفران.

وهذه الصفة لا تتوفر إلاّ في ظل الإيمان الحقيقي والتوكل على الحق.

والطريف في الأمر أن الآية لا تقول: إنّهم لا يغضبون، لأنّ الغضب من طبيعة الإنسان، وهناك ضرورة له في بعض الأحيان خاصةً عندما يكون لله وفي طريق إحقاق الحق، بل تقول: إنّهم لا يلوثون أنفسهم بالذنب عند الغضب، وبكل بساطة يعفون ويغفرون، ويجب أن يكونوا هكذا، فكيف يمكن للإنسان أن ينتظر العفو الإلهي في حين أن أعماقه مليئة بالحقد وحب الإنتقام، ولا يعترف بأي قانون عند الغضب؟ وإذا شاهدنا التأكيد على الغضب هنا، فذلك لأنّ هذه الحالة كالنار الحارقة التي تلتهب في داخل أعماق الإنسان، وهناك الكثيرون الذين لا يستطيعون ضبط أنفسهم في تلك الحالة، إلاّ أن المؤمنين الحقيقيين لا يستسلمون أبداً للغضب.

وورد في حديث عن الإمام الباقر(عليه السلام): «من ملك نفسه إذا رغب، وإذا رهب،

[551]

وإذا غضب، حرم الله جسده على النّار»(1).

الآية الأُخرى تشير إلى الصفة الثّالثة والرّابعة والخامسة والسادسة، حيث تقول: (والذين استجابوا لربهم).

(وأقاموا الصلاة).

(أمرهم شورى بينهم)(2).

(وممّا رزقناهم ينفقون).

فالآية السابقة كانت تتحدث عن تطهير النفس من الذنوب والتغلب على الغضب، إلاّ أن الآية التي نبحثهاتتحدث عن بناء النفس في المجالات المختلفة، ومن أهمها إجابة دعوة الخالق، والتسليم حيال أوامره، حيث أن الخير كلّ الخير تجسد في هذا الأمر. فهم مستسلمون بكل وجودهم لأوامره، وليست لهم إرادة إزاء إرادته، ويجب أن يكونوا هكذا، لأنّ الإستسلام والإستجابة أمران حتميان بعد تطهير القلب والروح من آثار الذنب الذي يعيق السير نحو الحق.

ونظراً لوجود بعض القضايا المهمّة في التعليمات الإلهية يجب الإشارة إليها بالخصوص، لذا نرى أن الآية أشارت إلى بعض المواضيع المهمّة وخاصة (الصلاة) التي هي عمود الدين وحلقة الوصول بين المخلوق والخالق ومربية النفوس، وتعتبر معراج المؤمن وتنهى عن الفحشاء والمنكر.

بعد ذلك تشير الآية إلى أهم قضية اجتماعية وهي «الشورى» فبدونها تعتبر جميع الأعمال ناقصة، فالإنسان الواحد مهما كان قوياً في فكره وبعيداً في نظره، إلاّ أنّه ينظر للقضايا المختلفة من زاوية واحدة أو عدّة زوايا، وعندها ستختفي عنه الزوايا والأبعاد الأُخرى، إلاّ أنّه وعند التشاور حول القضايا المختلفة تقوم

____________________________________

1 ـ تفسير علي بن إبراهيم ـ طبقاً لنقل نور الثقلين، المجلد الرابع، ص 583.

2 ـ يقول بعض المفسّرين أنّه متى ماكانت (شورى) مصدراً وتعني المشاورة يجب أن تضاف لها كلمة (ذو) ويصبح تقدير الجملة (أمرهم ذو شورى بينهم) ... أو للمبالغة والتأكيد، لأن ذكر (المصدر) بدلا من (الصفة) يوصل هذا المعنى عادة، لكن إذا كانت شورى كما يقول الراغب في مفرداته بمعنى (الأمر الذي يتشاور فيه) عندها لا حاجة للتقدير (لاحظ ذلك).

[552]

العقول والتجارب المختلفة بمساعدة بعضها البعض، عند ذلك ستتوضح الأُمور وتقل العيوب النواقص ويقل الإنحراف.

لذا فقد ورد في حديث عن الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «ما من رجل يشاور أحداً إلاّ هدي إلى الرشد».

والملفت للنظر أن العبارة وردت هنا على شكل برنامج مستمر للمؤمنين، ليس في عمل واحد ومؤقت، بل يجب أن يكون التشاور في جميع الأعمال. والطريف في الأمر أن الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) كان أيضاً يتشاور مع أتباعه وأنصاره في القضايا الإجتماعية المهمّة والتنفيذية والصلح والحرب والأمور المهمّة الأُخرى بالرغم من تكامل عقله وارتباطه بمصدر الوحي، وكان يشاور أصحابه أحياناً بالرغم من المشكل التي تحصل من جراء ذلك، لكي يكون أسوة وقدوة للناس، لأن بركات الإستشارة أكثر بكثير من احتمالات ضررها.

وهناك تفصيلات في نهاية الآية (159) من سورة آل عمران بخصوص (الإستشارة) و (شروط الشورى) و(أوصاف الذين يجب استشارتهم) و(مسؤولية المستشار) حيث لا نرى ضرورة إلى إعادة ذلك، إلاّ أنّه يجب أن نضيف بعض الملاحظات الأُخرى:

أ ـ الشورى تختص بالأعمال التنفيذية ومعرفة الموضوع وليست لمعرفة الأحكام، لأنّها يجب أن تؤخذ من مصدر الوحي ومن الكتاب والسنة، وعبارة (أمرهم) تشير إلى هذا المعنى أيضاً، لأن الأحكام ليست من شأن الناس، بل هي من أمر الخالق.

ولذا فلا أساس لما يقوله بعض المفسّرين كالآلوسي من أن الشورى تشمل الأحكام أيضاً، حيث لا يوجد نص خاص بذلك، خاصة وأنّنا نعتقد بعدم وجود أي أمر في الإسلام ليس له نص عام أو خاص صادر بشأنّه، وإلاّ فما فائدة (اليوم

[553]

أكملت لكم دينكم)(1) [ يجب قراءة تفصيلات عن هذا المعنى في كتب أصول الفقه بخصوص بطلان الإجتهاد بمعنى التقنين في الإسلام].

ب ـ قال بعض المفسّرين إن شأن نزول عبارة: (أمرهم شورى بينهم)خاص بالأنصار بخصوص الأنصار، إما لأن أعمالهم قبل الإسلام كانت وفقاً للشورى، أو هي إشارة إلى تلك المجموعة من الأنصار الذين آمنوا قبل هجرة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وبايعوه في (العقبة)، ودعوه إلى المدينة (لأن هذه السورة مكية، والآيات أعلاه نزلت في مكّة كما يظهر أيضاً).

وعلى أية حال، فإن الآية لا تختص بسبب نزولها، بل توضح برنامجاً عاماً وجماعياً.

وننهي هذا الكلام بحديث عن أمير المؤمنين الإمام علي(عليه السلام) حيث يقول:  «لا ظهير كالمشاورة، والإستشارة عين الهداية»(2).

ومن الضروري الإشارة إلى أن آخر صفة وردت في هذه الآية لا تشير إلى الإنفاق المالي فحسب، وإنّما إنفاق كلّ ما أعطاه الخالق من الرزق كالمال والعقل والذكاء والتجربة، والتأثير الإجتماعي، والخلاصة: الإنفاق من كلّ شيء.

وتقول الآية بخصوص سابع صفة للمؤمنين الحقيقيين: (والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون) أيّ أنّهم إذا تعرضوا للظلم لا يستسلمون له، بل يطلبون النصر من الآخرين.

وواضح أنّ الآخرين مكلفون بالإنتصار ضد الظلم، لأن طلب النصر دون النصرة يعتبر لغو ولا فائدة فيه، وفي الحقيقة فإن المظلوم مكلف بمقاومة الظالم وطلب النصرة، وأيضاً فإن المؤمنين مكلفون بإجابته، كما ورد في الآية (72) من سورة الأنفال حيث نقرأ: (وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر).

____________________________________

1 ـ المائدة، الآية 3.

2 ـ وسائل الشيعة، المجلد الثامن، ص425 (باب 21 من أبواب الأحكام العشرة).

[554]

هذا البرنامج الإيجابي البناء يحذر الظالمين من مغبة ظلم المؤمنين، حيث أنّهم لا يسكتون على ذلك ويقفون بوجوههم. وهو أيضاً يؤمّل المظلومين بأن الآخرين سوف ينصرونكم عند استغاثتكم.

«ينتصرون» من كلمة «انتصار» وتعني طلب النصر، إلاّ أن البعض فسرها بمعنى «التناصر» والنتيجة واحدة للتوضيح الذي ذكرناه.

على أية حال، فأي مظلوم إذا لم يستطع أن يقف بوجه الظلم بمفرده، فعليه ألا يسكت، بل يستفيد من طاقات الآخرين والنهوض بوجه الظلم، ومسؤولية جميع المسلمين الإستجابة لإستغاثته وندائه.

ولكن بم أنّ التناصر يجب أن لا يخرج عن حد العدل وينتهي إلى الإنتقام والحقد والتجاوز عن الحد، لذا فإن الآية التي بعدها اشترطت ذلك بالقول: (وجزاء سيئة سيئة مثلها).

يجب أن لا تتجاوزوا عن الحد بسبب أن أصدقاءكم هم الذين ظلموا فتنقلبوا إلى أشخاص ظالمين، وخاصة الافراط في الرد على الظلم في مجتمعات كالمجتمع العربي في بداية الإسلام، لذا يجب التمييز بين نصرة المظلوم والإنتقام.

وعمل الظالم يجب أن يسمى بـ (سيئة) إلاّ أن جزاءه وعقابه ليس (سيئة) وإذا وجدنا أنّ الآية عبّرت عن ذلك بالسيئة فبسبب التقابل بالألفاظ واستخدام القرائن، أو أنّ الظالم يعتبرها (سيئة) لأنّه يعاقب، أو يحتمل أن يكون استخدام لفظة (السيئة) لأنّ العقاب أليم ومؤذ، والألم والأذى بحدّ ذاته (سيء) بالرغم من أن قصاص الظالم ومعاقبته يعتبر عملا حسناً بحد ذاته.

وهذا يشبه العبارة الواردة في الآية (194) من سورة البقرة: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله).

على أية حاله، فإنّ هذه العبارة يمكن أن تكون مقدمة للعفو الوارد في الجملة التي بعدها، وكأنّما تريد الآية القول: إنّ العقاب مهما كان فهو نوع من

[555]

الأذى، وإذا ندم الشخص عندها يستحق العفو.

لذا ففي مثل هذه الموارد ينبغي عليكم العفو، لأن (فمن عفا وأصلح فأجره على الله).

صحيح أنّه فقد حقه ولم يحصل على شيء في الظاهر، إلاّ أنّه بسبب عفوه، العفو الذي يعتبر أساس انسجام المجتمع والتطهّر من الأحقاد وزيادة أواصر الحب وزوال ظاهرة الإنتقام والإستقرار الإجتماعي، فقد تعهد الخالق بأن يعطيه من فضله الواسع، ويا لها من عبارة لطيفة (على الله) حيث أن الخالق يعتبر نفسه مديناً لمثل هؤلاء الأشخاص ويقول بأن أجرهم علىّ.

وتقول الآية في نهايتها: (إنه لا يحب الظالمين).

وقد تكون هذه الجملة إشارة إلى بعض الملاحظات:

فأوّلا: قد يكون العفو بسبب أن الإنسان لا يستطيع أحياناً السيطرة على نفسه بدقة عند العقاب والقصاص، وقد يتجاوز الحد ويكون في عداد الظالمين.

وثانياً: إن هذا العفو ليس بمعنى الدفاع عن الظالمين، لأن الله لا يحب الظالمين أبداً، بل إن الهدف هو هداية الضالين وتثبيت الأواصر الإجتماعية.

وثالثاً: إنّ الذين يستحقون العفو هم الذين يكفون عن الظلم ويندمون على ما ارتكبوه في الماضي، ويقومون بإصلاح أنفسهم، وليس للظالمين الذين يزدادون جرأة بواسطة هذا العفو.

وبعباة أوضح، فإنّ كلاّ من العفو والعقاب له موقعه الخاص، فالعفو يكون عندما يستطيع الإنسان الإنتقام، وهذا يسمى العفو البناء، لأنّه يمنح المظلوم المنتصر قابلية السيطرة على النفس وصفاء الروح، وأيضاً يفرض على الظالم المغلوب إصلاح نفسه.

والعقاب والإنتقام والردّ بالمثل يكون عندما يبقى الظالم مستمراً في غيه وضلاله، والمظلوم لم يثبّت أركان سيطرته بعد، فالعفو هنا يكون من موقع

[556]

الضعف فيجب الردّ بالمثل.

وقد ورد في حديث عن الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «إذا كان يوم القيامة نادى مناد: من كان أجره على الله فليدخل الجنّة، فيقال: من ذا الذى أجره على الله؟ فيقال: العافون عن الناس، فيدخلون الجنّة بغير حساب»(1).

وهذا الحديث ـ في الحقيقة ـ هو النتيجة المستوحاة من آخر آية في هذا البحث، والإسلام الأصيل هو هذا.

 

* * *

 

____________________________________

1 ـ مجمع البيان ـ نهاية الآية التي نبحثها.

[557]

الآيات

وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَـئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيل( 41 ) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِى الاَْرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ( 42 ) وَلَمَن صَبَرَ وَ غَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الاُْمُورِ( 43 )

 

التّفسير

الظلم والإنتصار:

تعتبر هذه الآيات ـ في الحقيقة ـ تأكيداً وتوضيحاً وتكميلا للآيات السابقة بشأن الإنتصار ومعاقبة الظالم والعفو في المكان المناسب، والهدف من ذلك أن معاقبة الظالم والإنتقام منه من حق المظلوم، ولا يحق لأحد منعه عن حقه، وفي نفس الوقت فإذا صادف أن سيطر المظلوم على الظالم وانتصر عليه، وعند ذلك صبر ولم ينتقم فإن ذلك يعتبر فضيلة كبرى.

فأوّلا تقول الآية: (ولمن انتصر بعد ظلمه فاولئك ما عليهم من سبيل)(1) فلا يحق لأحد أن يمنع هذا العمل، ولا يلوم ذلك الشخص أو يوبخه أو يعاقبه،

____________________________________

1 ـ عبارة (ظلمه) هي من باب إضافة المصدر إلى المفعول.

[558]

 ولا يتوانى في نصر مثل هذا المظلوم، لأن الإنتصار وطلب العون من الحقوق الطبيعية لأي مظلوم، ونصر المظلومين مسؤولية كلّ إنسان حر ومتيقظ الضمير.

(إنّما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق). وإضافة إلى عقابهم الدنيوي (اُولئك لهم عذاب أليم) ينتظرهم في الآخرة.

يقول بعض المفسّرين حول الإختلاف بين جملة (يظلمون الناس) وجملة (يبغون في الأرض بغير الحق) أن الجملة الأولى إشارة إلى موضوع (الظلم) والثانية إلى (التكبر)(1).

البعض الآخر اعتبر الأولى إشارة إلى (الظلم) والثانية إشارة إلى (الوقوف بوجه الحكومة الإسلامية).

«بغى» تعني في الأصل الجد والمثابرة والمحاولة للحصول على شيء ما، ولكن كثيراً ما تطلق على المحاولات لغصب حقوق الأُخرين، والتجاوز عن حدود وحقوق الخالق، لذا فإن للظلم مفهوماً خاصاً وللبغي مفهوماً عاماً يشمل أي تعد أو تجاوز للحقوق الإلهية.

عبارة (بغير الحق) تأكيد لهذا المعنى، وعلى هذا الأساس فإنّ الجملة الثانية من باب ذكر العام بعد ذكر الخاص.

أمّا آخر آية فتشير مرّة اُخرى إلى الصبر والعفو، لكي تؤكّد أن الإنتقام والعقاب والقصاص من الظالم لا يمنع المظلوم من العفو، حيثت تقول: (ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور)(2).

«العزم» في الأصل يعني (التصميم لإنجاز عمل معين)، ويطلق على الإرادة القوية، وقد تكون عبارة (عزم الأمور) إشارة إلى أن هذا العمل من الأعمال التي أمر الله بها ولا يمكن أن تنسخ، أو أنّه من الأعمال التي يجب أن يشد الإنسان

____________________________________

1 ـ تفسير (الكشاف)، (روح المعاني) و(روح البيان) نهاية الآيات التي نبحثها.

2 ـ اللام في (لمن صبر) هي لام القسم وفي (لمن عزم الأمور) للتأكيد، والإثنان يوضحان أهمية هذا الأمر الإلهي أي (العفو).

[559]

العزم لها، وأياً كان من المعنيين فهو يدل على أهمية هذا العمل.

والملفت للنظر ذكر (الصبر) قبل (الغفران)، لأنّه مع عدم وجود الصبر لا يمكن أن يحصل العفو والغفران، حيث يفقد الإنسان السيطرة على نفسه ويحاول الإنتقام مهماكان.

ومرة اُخرى نذكّر بهذه الحقيقة، وهي أن العفو والغفران مطلوبان في حال القوة والإقتدار، وأن يستفيد الطرف المقابل من ذلك بأفضل شكل أيضاً، وقد تكون عبارة «من عزم الأمور» لتأكيد هذا المعنى أيضاً، لأنّ التصميم بخصوص شيء معين يحدث عندما يكون الإنسان قادر على إنجاز ذلك الشيء، على أية حال فإن العفو الذي يكون مفروضاً من قبل الظالم، أو يشجعه في عمله ويجرئه على ذلك، غير مطلوب.

بعض الرّوايات فسّرت الآيات أعلاه بثورة الإمام المهدي(عج) وانتقامه وانتصاره على الظالمين والمفسدين في الآرض. وكما قلنا عدّة مرات سابقاً فإن مثل هذه التفاسير من قبيل بيان المصداق الواضح ولا تمنع من عمومية مفهوم الآية وشموليته(1).

* * *

 

____________________________________

1 ـ تفسير نور الثقلين، المجلد الرابع، ص585.

[560]

الآيات

وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِىٍّ مِّن بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّـلِمِينَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيل( 44 ) وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَـشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِن طَرْف خَفِىٍّ وَقَالَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِنَّ الْخَـسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَـمَةَ أَلاَ إِنَّ الظَّـلِمِينَ فِى عَذَاب مُّقِيم( 45 ) وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّنْ أَوْلِيَآءَ يَنْصُرُونَهُم مِّن دُونِ اللهِ وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِن سَبِيل( 46 )

 

التّفسير

هل من سبيل للرجعة؟

الآيات السابقة كانت تتحدث عن الظالمين، أمّا الآيات التي نبحثها فتشير إلى عاقبة هذه المجموعة وجوانب من عقابها.

فهي تعتبرهم من الضالين الذين لا يملكون أي ولي، فتقول: (ومن يضلل الله فما له من ولي من بعده).

[561]

الملمّون بتعابير القرآن بخصوص الهداية والضلالة، يعرفون بوضوح أنّه  لا  الهداية ولا الضلالة مفروضة وجبرية، إنّما هما نتيجتان مباشرتان لأعمال الناس. فأحياناً يقوم الإنسان بعمل معين وبسببه يسلب الخالق منه التوفيق ويطمس على قلبه ويمنع عنه نور الهداية ويتركه سابحاً في الظلمات.

وهذا هو عين الإختيار والحرية، فلو أن شخصاً أصر على شرب الخمر وأصيب بأنواع الأمراض، فإنه هوالذي جلب هذا الوضع وهذه الأمراض إلى نفسه، فالخالق مسبب الأسباب ويعطي التأثيرات المختلفة للأشياء، ولهذا السبب تربط النتائج به أحياناً(1).

على أية حال، فإن هذا أحد أكثر العقوبات ألماً بالنسبة للظالمين، ثمّ تضيف الآية: (وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون هل إلى مرد من سبيل).

فقد تحدث القرآن المجيد عدة مرات عن طلب الكافرين والظالمين العودة، فأحياناً عند الموت مثل الآية (99) و (100) من سورة المؤمنون: (حتى إذا جاء أحدهم الموت قال ربّ ارجعون لعلي اعمل صالحاً فيما تركت).

وأحياناً عند القيامة عندما يقتربون من الجحيم، كما تقول الآية (27) من سورة الأنعام: (ولوترى إذ وقفوا على النّار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين).

ولكن مهما كانت هذه الطلبات فإنها ستواجه بالرفض، لأن العودة غير ممكنة أبداً، وهذه سنة إلهية لا تقبل التغيير، فكما أن الإنسان لا يمكنه الرجوع من الكهولة إلى الشباب، أو من الشباب إلى الطفولة، أو من الطفولة إلى عالم الأجنة، كذلك يستحيل الرجوع إلى الوراء والعودة إلى الدنيا من عالم البرزخ أو الآخرة.

الآية الأُخرى تذكر ثالث عقاب لهذه المجموعة حيث تقول: (وتراهم

____________________________________

1 ـ هناك شرح مفصل في هذا الخصوص في نهاية الآية (36) من سورة الزمر، حيث أوضحنا جميع جوانب هذا الوضوع.

[562]

يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي)(1).

فالقلق والخوف الشديد يسيطران على وجودهم، والذلة والإستسلام يطغيان عليهم، وانتهى كلّ شيء من التكبر ومحاربة وظلم وإيذاء المظلومين، وينظرون من طرف خفي إلى النّار.

هذه صورة لحالة شخص يخشى من شيء أشد خشية ولا يريد أن ينظر إليه بعينين مفتوحتين، وفي نفس الوقت لا يستطيع أن يتغافل عنه، لذا فهو مجبور على النظر إليه، لكن بطرف خفي.

بعض المفسّرين قالوا: إنّ جملة (طرف خفي) تعني هنا النظر بعين نصف مفتوحة، لأنّهم لا يستطيعون فتح العين كاملةً من شدة الخوف والهول العظيم، أو أنّهم من شدة الأنّهيار والإعياء لا يستطيعون فتح العين بشكل كامل.

فعندما تكون حالة الإنسان هكذا قبل أن يدخل النّار... فماذا سيجري عليه عندما يطؤها ويهوي في أعماقها؟!

أمّا آخر عقاب ذكر هنا، فهو سماع اللوم والتوبيخ الأليم من المؤمنين، كما جاء في آخر الآية: (وقال الذين آمنوا إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة).

فهل هناك خسارة أعظم من أن يخسر الإنسان نفسه، ثمّ زوجه، وأبناءه وأقرباءه؟ ونصيبه نار الفراق وهو في داخل العذاب الإلهي؟!

ثم تضيف: يا أهل المحشر: (ألا إنّ الظالمين في عذاب مقيم).

إنّه العذاب الذي ليس هناك أمل بانتهائه، ولا يتحدد بزمان معين. إنّه العذاب الذي يحرق أعماق الروح وظاهر الجسد على السواء.

وليس من لمستبعد أن يكون القائل لهذا الكلام هم المؤمنون الحقيقيون، وهم

____________________________________

1 ـ «طرف» «بتسكين الراء» مصدر وتعني دوران العين، وطرفة العين تعني حركة واحدة للعين. والضمير في (عليها) يعود إلى العذاب، صحيح أن العذاب مذكر لكنّه يعني هنا النّار وجهنم وضمير المؤنث يعود إليها.

[563]

الأنبياء والأولياء وأتباعهم الخاصين، حيث أنّهم مطهرون من الذنب، والمظلومون الذين أوذوا كثيراً من قبل هؤلاء الظالمين، ومن حقهم التحدث بهذا الكلام في ذلك اليوم (وقد أشارت روايات أهل البيت عليهم السلام إلى هذا المعنى)(1).

ومن الضروري الإشارة إلى هذه الملاحظة، وهي أن (العذاب الخالد) لهؤلاء الظالمين، يدل على أن المقصود هم الكافرون، كما ورد في بعض الآيات القرآنية: (والكافرون هم الظالمون).

الآية التي بعدها تشهد على هذه الحقيقة، حيث تقول: (وما كان لهم من أولياء ينصرونهم من دون الله).

فهؤلاء قطعوا أواصر ارتباطهم بالعباد المخلصين والأنبياء والأولياء، لذلك لا يملكون ناصراً أو معيناً في ذلك اليوم، والقوى المادية سينتهي مفعولها في ذلك اليوم أيضاً، ولهذا السبب سيواجهون العذاب الإلهي بمفردهم.

ولتأكيد هذا المعنى تقول الآية في نهايتها: (ومن يضلل الله فماله من سبيل).

وفي الآيات السابقة قرأنا: (ومن يضلل الله فما له من ولي من بعده).

فهناك تنفي الولي، وهنا تنفي السبيل، حيث أنّه ولأجل الوصول إلى الهدف، يجب أن يكون هناك طريق، ويجب أن يتوفّر الدليل، إلاّ أن هؤلاء الضالين محرومون من هذا وذاك.

 

* * *

 

____________________________________

1 ـ نور الثقلين، المجلد الرابع، ص586.

[564]

الآيات

اسْتَجِيبُواْ لِرَبِّكُم مِّن قَبْلِ أَنْ يَأْتِىَ يَوْمَ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ مَا لَكُمْ مِّن مَّلْجَإ يَوْمَئِذ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّكِير( 47 ) فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَمَآ أَرْسَلْنَـكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلَـغُ وَإِنَّآ إِذَآ أَذَقْنَا الاِْنْسَـنَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أيْدِيهِمْ فَإِنَّ الاِْنْسَـنَ كَفُورٌ( 48 ) للهِ مُلْكُ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَآءُ إِنَـثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَآءُ الذُّكُورَ( 49 ) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً إِنَّهُ قَدِيرٌ عَلِيمٌ( 50 )

 

التّفسير

الأولاد...هبة الرحمن:

بما أنّ الآيات السابقة ذكرت جانباً من العقاب الأليم الموحش للكافرين والظالمين، فإنّ الآيات اعلاه تحذر جميع الناس من هذا المصير المشؤوم، وتدعوهم إلى الإستجابة لدعوة الخالق والعودة إلى طريق الحق.

[565]

فأوّل آية تقول: (استجيبوا لربّكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله)(1).

وإذا كنتم تتصورون وجود ملجأ آخر سوى لطفه، وأحداً يحميكم غير رحمته، فإنّكم على خطاً، لأن: (ما لكم من ملجأ يومئذ ومالكم من نكير).

عبارة (يوم لا مرد له من الله) تشير إلى يوم القيامة، وليس إلى يوم الموت. كما أن عبارة (من الله) تشير إلى أن أحداً لا يستطيع أن يتخذ قراراً بعدم العودة قبال أمر الخالق جلّ وعلا.

وعلى أية حال، فجميع الطرق التي يعتقد أنّها تنقذ الشخص من العذاب الإلهي تكونن مغلقة في ذلك اليوم، وأحدها هوالعودة إلى عالم الدنيا والتكفير عن الذنوب والخطايا.

أمّا الآخر فهو وجود ملجاً يأمن الإنسان عند اللجوء إليه.

وأخيراً وجود من يقوم بالدفاع عن الإنسان.

فكل جملة من الجمل الثلاث ـ للآية أعلاه ـ تنفي واحداً من هذه الطرق.

وقد فسّر بعضهم جملة (ما لكم من نكير) بمعنى أنكم لا تستطيعون أن تنكروا ذنوبكم هناك، لأن الأدلة والشهود كثيرون بحيث لا مجال للإنكار، إلاّ أن المعنى الأوّل أفضل كما يبدو.

الآية التي بعدها تخاطب الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وتواسيه قائلة: (فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً) فلا تحزن عليهم لأنّك لست مسؤولا عن حفظهم من الإنحراف.

(إن عليك إلا البلاغ) سواء قبلوا بذلك أم لم يقبلوا.

يجب عليك أن تقوم بإبلاغ الرسالة الإليهية بأفضل وجه، وتُتِم الحجّة

____________________________________

1 ـ قد تكون عبارة (من الله) في الجملة أعلاه بمعنى (من قبل الله) يعني لا توجد عودة من قبل الخالق، وقد تكون بمعنى (في مقابل الله) يعني لا يوجد من يستطيع أن يعيدكم إلى هذه الدنيا ضد إرادة الخالق.

[566]

عليهم، أمّا القلوب المهيأة فسوف تقبل بذلك بالرغم من أن كثيراً من الجاهلين سوف يعرضون عنها، ولكنك لست مسؤولا عنهم.

وقد ورد ما يشبه هذا المعنى في بداية هذه السورة في قوله تعالى: (وما أنت عليهم بوكيل)(1).

ثمّ ترسم صورة لحال هذه الجماعة غير المؤمنة والمعرضة عن الحق فتقول: (وإنا إذا أذقنا الإنسان منّا رحمة فرح بها) ويغفل عن ذكر الخالق: (وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور).

فلا النعم الإلهية وشكر المنعم توقظ هذا الإنسان وتجرّه نحو الشكر والمعرفة والطاعة، ولا العقوبات التي تصيبه بسبب الذنوب توقظه من نوم الغفلة، ولا تؤثر فيه دعوة الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم).

فعوامل الهداية من حيث «التشريع» هي دعوة رُسُل الخالق، ومن حيث «التكوين» قد تكون النعم وقد تكون المصائب، إلاّ أن هؤلاء الجهلة ذوي القلوب الميتة لا تؤثر فيهم أيّ من هذه العوامل، وهذا بسببهم أنفسهم وليس بسببك، لأنّك قمت بمسؤوليتك في الإبلاغ.

وقد تكون عبارة «إذا أذقنا» في الآية أعلاه (وهي هنا بخصوص رحمة الخالق، وفي آيات قرآنية اُخرى بخصوص العذاب الإلهي) إشارة إلى أن النعم والمصائب في هذه الدنيا تعتبر لا شيء بالنسبة إلى نعم ومصائب الآخرة. أو قد تكون بمعنى أن هؤلاء الأشخاص يصابون بالغرور والطغيان بمجرّد قليل من النعمة، واليأس والكفر بقليل من المصائب.

ومن الضروري الإشارة إلى هذه الملاحظة، وهي أن الخالق يوكل النعم إلى نفسه، لأن رحمته تقتضي ذلك، بينما يوكل المصائب والإبتلاءات إليهم، لأنّها نتيجة أعمالهم.

____________________________________

1 ـ الشورى، الآية 6.

[567]

واستخدام كلمة (الإنسان) في مثل هذه الآيات تشير إلى طبيعة (الإنسان غير المهذّب) حيث أنّه ذو تفكير قصير ونفسية ضعيفة، وتكرار ذلك ـ في الآية أعلاه ـ يؤكّد على هذا المعنى.

ثمّ لبيان حقيقية أن أي نعمة ورحمة في هذا العالم مصدرها الخالق، ولا يملك الأفراد شيئاً من عندهم، أشارت الآية إلى قضية عامة ومصداق واضح لهذه الحقيقة، حيث تقول: (لله ملك السموات والأرض يخلق ما يشاء).

ولهذا السبب فإنّ الكل يأكل من مائدة نعمه، ويحتاج إلى لطفه ورحمته، فليس منطقياً الغرور عند النعمة، ولا اليأس عن المصيبة.

و«نموذج» واضح لهذه الحقيقة وأن كلّ ما موجود هو منه، والأفراد لا يملكون شيئاً من عندهم هو أنّه: (يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكراناً واناثاً ويجعل من يشاء عقيماً).

وبهذا الترتيب فإن الناس يُقسّمون إلى أربع مجاميع: من عنده الأولاد الذكور ويريد البنات، ومن عنده البنات ويريد الذكور، ومن عنده الذكور والإناث، والجموعة التي تفتقد الأبناء ويأملون ويرغبون فيهم.

والعجيب أن أي شخص لا يستطيع الإنتخاب في هذا المجال سواء في الماضي أو في الوقت الحاضر، بالرغم من تقدم وتطور العلوم، ورغم المحاولات العديدة فإن أحداً لم يستطع أن يهب الأبناء للعقيم الحقيقي، أو يعين نوع المولود وفقاً لرغبة الإنسان بالرغم من دور بعض الأطعمة أو الأدوية في زيادة احتمال ولادة الذكر أو الأنثى، إلاّ أن هذا يبقى مجرّد احتمال ولا توجد أية نتيجة حتمية لهذا الأمر.

وهذا نموذج واضح لعجز الإنسان، ودليل على المالكية والحاكمية والخالقية للباريء جلّ وعلا، وهل هناك مثال أوضح من هذا؟

والطريف في الأمر أن هذه الآيات قدّمت الإناث على الذكور، لكي توضح

[568]

الأهمية التي يعطيها الإسلام لمنزلة المرأة، ومن جانب ثان تقول للذين لهم تصورات خاطئة عن ولادة البنت أو الأنثى ـ ويكرهونها ـ أن الخالق يعطي الشيء الذي يريده هو وليس ما تريدونه أنتم، وهذا دليل على أنّه هو الذي ينتخب.

إن استخدام عبارة (يهب) تعتبر دليلا واضحاً على أن الإناث والذكور من هدايا الخالق وهباته، وليس صحيحاً للمسلم الحقيقي التفريق بين الإثنين.

كما أن استخدام عبارة (يزوجهم) لا تعني التزويج هنا، بل تعني جمع الهبتين (الإناث والذكور) لبعض الناس وبعبارة اُخرى فإن مصطلح (التزويج) يأتي أحياناً بمعنى الجمع بين الأشياء المختلفة أو الأنواع المتعددة، لأن (زوج) تعني في الأصل شيئين أو شخصين متقارنين.

واعتبر بعضهم هذه الآية بمعنى ولادة الذكور والإناث على الترتيب، والبعض الآخر اعتبرها بمعنى ولادة التوائم، يعني الذكر والأنثى.

ولكن العبارة أعلاه لا تدل على أي من التفاسير المذكورة.

إضافةٌ إلى ذلك فإنها لا تتناسب مع ظاهر الآية، لأن الآية تريد الكلام عن مجموعة ثالثة رزقها الله البنات والبنين.

وعلى أية حال، فإن المشيئة الإلهية هي التي تتحكم في كلّ شيء وليس في قضية ولادة الأبناء فحسب، فهو القادر والعليم والحكيم، حيث يقترن علمه بقدرته، لذا فإنّ الآية تقول في نهايتها: (إنّه عليم قدير).

ومن الضروري أن نشير إلى أن كلمة (عقيم) المأخوذة من كلمة (عقم) ـ على وزن (بخل) وكذلك على وزن (فهم)ـ وتعني في الأصل الجفاف والتصلب المانع من قبول التأثير، والنساء العقيمات تطلق على اللواتي تكون أرحامهن غير مستعدة لتقبل النطفة ونمو الطفل، كما تسمى بعض الرياح بالرياح العقيمة لعدم قدرتها على ربط الغيوم الممطرة، و «اليوم العقيم» يطلق على اليوم الذي ليس فيه

[569]

سرور وفرح، كما يسمى يوم القيامة باليوم العقيم بسبب عدم وجود يوم بعد ذلك اليوم يمكن فيه التعويض عن الماضي.

وأخيراً فإن الغذاء (المعقم) يطلق على الغذاء الذي تم القضاء على جميع ميكروباته، بحيث لا يمكنها النمو في ذلك المحيط.

 

* * *

[570]

الآية

وَمَا كَانَ لِبَشَر أَن يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآىءِ حِجَاب أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِىَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ إِنَّهُ عَلِىٌّ حَكِيمٌ( 51 )

 

سبب النّزول

فيما يلي خلاصة لما ذكره بعض المفسّرين من سبب النّزول في هذه الآية: جاء عدد من اليهود إلى الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وقالوا له: لماذا لا تتكلم مع الخالق؟ ولماذا لا تنظر إليه؟ فلو كنت نبيّاً حقّاً فافعل مثل موسى حيث نظر إلى الخالق وتحدث معه، وسوف لا نؤمن بك أبداً حتى تفعل ما نطلبه منك، عندها أجابهم النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): إنّ موسى لم يَرَ الخالق أبداً، هنا نزلت الآية أعلاه (حيث وضحت كيفية الإرتباط بين الأنبياء والخالق)(1).

 

التّفسير

طرق ارتباط الانبياء بالخالق:

هذه السورة، كما قلنا في بدايتها، تهتم بشكل خاص بقضية الوحي والنبوّة،

____________________________________

1 ـ تفسير القرطبي، المجلد الثامن، ص5873.

[571]

فهي تبدأ بالوحي وتنتهي به، لأن الآيات الأخيرة تتحدث عن هذا الموضوع (أي الوحي).

وبما أن الآيات السابقة كانت تتحدث عن النعم الإلهية، لذا فإنّ هذه الآيات تتحدث عن أهم نعمة إلهية وأكثرها فائدة لعالم البشرية، ألا وهي قضية الوحي والإرتباط بين الأنبياء والخالق.

في البداية تقول الآية: (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلاّ وحياً) لأنّ الخالق منزه عن الجسم والجسمانية.

(أو من وراء حجاب) كما كان يفعل موسى حيث أنّه كان يتحدث في جبل الطور، وكان يسمع الجواب عن طريق الأمواج الصوتية التي كان يحدثها الخالق في الفضاء، دون أن يرى أحداً، لأنّه لا يمكن مشاهدة الخالق بالعين المجرّدة.

(أو يرسل رسولا) كما كان يقوم به جبرائيل الأمين وينزل على الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)(فيوحي بإذنه ما يشاء).

نعم، فلا يوجد طريق آخر سوى هذه الطرق الثلاثة لتحدث الخالق مع عبادة لـ(إنّه علي حكيم).

فهو أعلى وأجل من أن يرى أو يتكلم عن طريق اللسان، وكل أفعاله حكيمة، ويتمّ ارتباطه بالأنبياء وفق برنامج.

هذه الآية تعتبر ـ في الحقيقة ـ رداً على الذين يتصورون ـ بجهالة ـ أن الوحي يعني مشاهدة الأنبياء للخالق وهم يتكلمون معه، حيث أن الآية تعكس بشكل دقيق ومختصر حقيقة الوحي والروح.

ومن مجمل الآية نستفيد أن الإرتباط بين الأنبياء والخالق يتمّ عبر ثلاثة طرق هي :

1 ـ الإيحاء، حيث كان كذلك بالنسبة للعديد من الأنبياء مثل نوح، حيث

[572]

تقول الآية: (فأوحينا إليه أن اصنع الفلك باعيننا ووحينا)(1).

2 ـ (من وراء حجاب) كما كان الخالق يتكلم مع موسى في جبل طور، (وكلم الله موسى تكليماً)(2).

وقد اعتبر البعض أيضاً أن (من وراء حجاب) تشمل الرؤيا الصادقة والحقيقية.

3 ـ إرسال الرّسول، كما في الوحي الى الرّسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم)، فالآية تقول: (من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك باذن الله)(3).

ولم يقتصر الوحي على هذا الطريق بالنسبة للرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) بل كان يتمّ بطرق اُخرى أيضاً.

ومن الضروري أن نشير إلى أن الوحي قد يتمّ أحياناً في اليقظة، كما أشير إلى ذلك أعلاه، وأحياناً في المنام عن طريق الرؤيا الصادقة، كما جاء بشأن إبراهيم وأمره بذبح ابنه إسماعيل(عليهما السلام) [ بالرغم من اعتبار بعضهم أن ذلك مصداق لـ(من وراء حجاب)].

وبالرغم من أن الطرق الثلاثة التي ذكرتها الآية تعتبر الطرق الرئيسية للوحي، إلاّ أن بعضاً من هذه الطرق لها فروع بحد ذاتها، فالبعض يعتقد أن الملائكة تقوم بإنزال الوحي عبر أربعة طرق:

1 ـ يقوم الملك بالقاء الوحي إلى روح النّبي وقلبه دون أن يتجسد أمامه أيّ النفث في الروع كما نقرأ ذلك في حديث عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) حيث تقول: «إن روح القدس نفث في روعي أنّه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله واجملوا في الطلب».

____________________________________

1 ـ المؤمنون، الآية 27.

2 ـ النساء، الآية 164.

3 ـ البقرة، الآية 97.

[573]

2 ـ يتقمص الملك أحياناً شكل الإنسان ويتحدث مع النّبي (حيث تذكر الأحاديث أن جبرئيل ظهر بصورة دحية الكلبي)(1).

3 ـ وأحياناً يكون على شكل رنين الجرس الذي يدوي صوته في الآذان، وكان هذا أصعب أنواع الوحي بالنسبة للرسول حيث كان يتصبب عرقاً حتى في الأيّام الباردة، وإذا كان راكباً على دابة فإنّها كانت تقف وتجثو على الأرض.

4 ـ كما كان يظهر جبرئيل أحياناً بصورته الأصلية التي خلقه الله عليها، وهذا ما حدث مرتين فقط طوال حياة رسول(صلى الله عليه وآله وسلم) [ كما سيأتي تفصيل ذلك في سورة النجم ـ الآية 12](2).

 

* * *

 

بحثان

الأوّل: الوحي في اللغة والقرآن والسنة

يرى الراغب في مفرداته إن أصل الوحي يعني الإشارة السريعة سواء بالكلام الخافت، أو الصوت الخالي من التراكيب الكلامية، أو الإشارة بالأعضاء (بالعين واليد والرأس) أو بالكتابة.

ومن خلال ذلك نستفيد أن الوحي يشتمل على السرعة من جانب والإشارة من جانب آخر، لذا فإن هذه الكلمة تستخدم للإرتباط الخاص والسريع للأنبياء مع عالم الغيب، وذات الخالق المقدسة.

____________________________________

1 ـ «دحية بن خليفة الكلبي» هو أخو الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) في الرضاعة، وكان من أجمل الناس في ذلك الزمان، حيث كان جبرئيل يظهر على صورته عند مجيئه للرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) [ مجمع البحرين ـ كلمة دحى] ، وكان من أشهر صحابة الرّسول ومعروفاً بالوجه الحسن، وقد أرسله النّبي الأكرم إلى قيصر الروم (هرقل) حاملاً رسالة منه في العام السادس أو السابع للهجرة، وبقي حياً إلى أيّام خلافة معاوية.

2 ـ في ظلال القرآن، المجلد السابع، ص306.

[574]

وهناك معان مختلفة (للوحي) في القرآن المجيد وفي لسان الأخبار، فأحياناً تكون بخصوص الأنبياء، وأحياناً للناس الأخرين، وأحياناً تطلق للإرتباط الخاص بين الناس، وأحياناً الإرتباط الخاص بين الشياطين، وأحياناً بخصوص الحيوانات.

وأفضل كلام في هذا المجال هو ما ورد عن علي(عليه السلام) في رده لشخص سأل عن الوحي، حيث قسمه الإمام إلى سبعة أقسام هي:

1 ـ وحي الرسالة والنبوّة: مثل (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنّبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبوراً)(1).

2 ـ الوحي بمعنى الإلهام: مثل (وأوحى ربّك إلى النحل)(2).

3 ـ الوحي بمعنى الإشارة: مثل (فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشياً)(3).

4 ـ الوحي بمعنى التقدير: مثل (وأوحى في كلّ سماء أمرها)(4).

5 ـ الوحي بمعنى الأمر: مثل (وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي)(5).

6 ـ الوحي بمعنى الأكاذيب: مثل (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً)(6).

7 ـ الوحي بمعنى الإخبار: مثل (وجعلناهم أئمّة يهدون بأمرنا وأوحينا

____________________________________

1 ـ النساء، الآية 163.

2 ـ النحل، الآية 68.

3 ـ مريم، الآية 11.

4 ـ فصلت، الآية 12.

5 ـ المائدة، الآية 111.

6 ـ الأنعام، الآية 112.

[575]

إليهم فعل الخيرات)(1).

ويمكن أن تكون لبعض هذه الأقسام السبعة فروعاً اُخرى تزيد عند استعمالها من استخدامات الوحي في الكتاب والسنة، لذا فإن «التفليسي» ذهب في كتابه (وجوه القرآن) الى وجود عشر معاني أو أوجه للوحي، وبعضهم ذكر عدداً أكثر من هذا.

ومن خلال هذه الإستخدامات المختلفة للوحي ومشتقاته نستنتج أن الوحي الإلهي على نوعين: (وحي تشريعي) و (وحي تكويني).

فالوحي التشريعي هو ما كان ينزل على الأنبياء، ويمثل العلاقة الخاصة بينهم وبين الخالق، حيث كانوا يستلمون الأوامر الإلهية والحقائق عن هذا الطريق.

أمّا الوحي التكويني فهو في الحقيقة وجود الغرائز والقابليات والشروط والقوانين التكوينية الخاصة التي أوجدها الخالق في أعماق جميع الكائنات في هذا العالم.

 

الثّاني: حقيقة (الوحي) المجهولة

لقد قيل الكثير حول حقيقة الوحي، ولكن بما أن هذا الإرتباط المجهول خارج حدود إدراكاتنا، لذا فإن هذه الكلمات لا تستطيع أن تعطي صورة الواضحة للموضوع، وأحياناً تؤدي الى الانحراف عن جادة الصواب، وقد ذكرنا آنفاً ما يمكن قوله في هذا المجال، وفي الحقيقة فإن ما يمكن قوله بشكل جميل ومختصر، ولم تصل بحوث المفكرين والعلماء لأكثر من ذلك، وفي نفس الوقت لابدّ هنا من ذكر بعض التفاسير التي طرحها الفلاسفة القدماء والجدد حول الوحي:

____________________________________

1 ـ الأنبياء، الآية 73.

بحار الأنوار ـ المجلد 18 ـ ص254.

[576]

1ـ تفسير بعض الفلاسفة القدماء

يرى هؤلاء ـ وفقاً لمقدمات مفصلة ـ أن الوحي هو عبارة عن الإتصال الخارق (لنفس الرّسول) مع (العقل الفعّال) المسيطر بظله على عالم (الحس المشترك) و(الخيال).

 

وتوضيح ذلك:

أنّ القدماء كانوا يعتقدون أن الروح الإنسانية لها ثلاث قوى: (قوّة الحس المشترك) وبواسطتهايدرك الإنسان صور المحسوسات، و (قوّة الخيال) وبواسطتها يدرك بعض الصور الذهنية، و (القوة العقلية) التي يدرك بواسطتها الصور الكلية.

ومن جانب آخر، فهم يعتقدون بنظرية الأفلاك التسعة لبطليموس، وكانوا يعتقدون بوجود (النفس المجرّدة) لها مثل (الروح لأجسادنا) ويضيفون: إن هذه النفوس الفلكية تستلْهم من كائنات مجرّدة تسمى (العقول)، وعلى هذا الأساس فهم يقولون بوجود (تسعة عقول) تختص (بالأفلاك التسعة).

ومن جانب ثالث كانوا يعتقدون أن النفوس الإنسانية وأرواحها يجب أن تستلهم من الكائن المجرد الذي يسمى بـ (العقل الفعال) وذلك لأجل إظهار القابليات وإدراك الحقائق، حيث كان يسمى بـ (العقل العاشر)، أمّا سبب تسميته بالفعال فلأنّه أساس حدوث القابليات للعقول الجزئية.

ومن جانب رابع كانوا يعتقدون أنّه مهما قويت الروح الإنسانية فإنّه سيزداد ارتباطها واتصالها بالعقل الفعال الذي هو خزانة ومصدر المعلومات، لذا فإنّ الروح القوية والكاملة تستطيع أن تكتسب أوسع المعلومات من (العقل الفعال) بأمر من الخالق، وذلك في أقصر مدة.

وأيضاً فإذا قويت (قوّة الخيال) فانّها تستطيع أن تنقل هذه المفاهيم إلى

[577]

الحس بشكل أفضل، وعندما يقوى الحس المشترك الإنسان أن يدرك القضايا المحسوسة الخارجية بشكل أفضل أيضاً.

ومن خلال هذه المقدمات سيتنتجون أن روح النّبي لها ارتباط واتصال كبير جداً بالعقل الفعال، لأنّها قوية بشكل خارق، ولهذا السبب تستطيع أن تأخذ المعلومات بشكل عام من العقل الفعال في أكثر الأوقات.

وبما أن القوة الخيالية للنبي قوية جداً أيضاً، وفي نفس الوقت تتبع القوة العقلية، لذا فإنها (أي القوة الخيالية) تستطيع أن تعطي صوراً محسوسة مناسبة للصور الكلية المأخوذة من العقل الفعال، وأن ترى نفسها ضمن أطر حسية في أفق الذهن، فمثلا لو كانت تلك الحقائق العامة من باب المعاني والأحكام فسيسمعها من لسان شخص بمنتهى الكمال، وذلك على شكل ألفاظ موزونة بمنتهى الفصاحة والبلاغة.

ولأن قوته الخيالية مسيطرة بشكل كامل على الحس المشترك، لذا فإنّها تستطيع أن تعطي طبيعة حسية لهذه الصور، ويستطيع النّبي أن يرى ذلك الشخص بعينه ويسمع ألفاظه بإذنه.

 

نقد وتحليل

هذه النظرية تعتمد على مقدمات يعتبر القسم الأعظم منها مرفوضاً في الوقت الحاضر، فمثلا أفلاك بطليموس التسع والنفوس والعقول المرتبطة بها تعتبر جزءاً من الأساطير، لعدم وجود أي دليل على إثباتها، بل وتوجد أدلة ضدها.

ومن جانب آخر فإن هذه الفرضية لا تتلاءم مع الآيات القرآنية بخصوص الوحي، لأن الآيات القرآنية تصرّح بأن الوحي نوع من الإرتباط مع الخالق الذي قد يكون عن طريق الإلهام أحياناً، وأحياناً اُخرى عن طريق الملك أو سماع

[578]

الأمواج الصوتية أمّا القول بأنّه وليد القوة الخيالية والحس المشترك وأمثال ذلك فهو في غاية الضعف وعدم الانسجام مع الآيات القرآنية.

ومن الإشكالات الأُخرى على هذا الكلام هو تصنيفه للنبي في قائمة الفلاسفة والنوابغ بعقل وروح أقوى، في حين أنّنا نعلم أن طريق الوحي مغاير تماماً لطريق الإدراكات العقلية.

فهذه المجموعة من الفلاسفة أساءت لأساس الوحي والنبوة دون قصد ولأنّهم لم يلمّوا بالحقيقة سلكوا طريق الخيال والأسطورة.

وهناك تفصيلات أكثر عن هذا الموضوع تأتي ضمن البحوث القادمة.

 

2ـ تفسير بعض الفلاسفة الجدد

هذه المجموعة من الفلاسفة اعتبرت الوحي باختصار نوعاً من (الشعور الباطن) وجاء في (دائرة معارف القرن العشرين) حول الوحي ما يلي:

(كان الغربيون إلى القرن السادس عشر كجميع الأمم المتدنية يقولون بالوحي لأن كتبهم مشحونة بأخبار الأنبياء، فلما جاء العلم الجديد بشكوكه ومادياته ذهبت الفلسفة الغربية إلى أن مسألة الوحي من بقايا الخرافات القديمة وتغالت حتى انكرت الخالق والروح معاً وعللت ما ورد عن الوحي في الكتب القديمة بأنّه إمّا اختلاف من المتنبأة أنفسهم لجذب الناس إليهم وتسخيرهم لمشيئتهم، وإمّا إلى هذيان مرض يعتري بعض العصبيين فيخيل إليهم أنّهم يرون أشباحاً تكلمهم وهم لا يرون في الواقع شيئاً. رواج هذا التعليل في العالم الغربي حتى صار مذهب العلم الرسمي، فلما ظهرت آية الأرواح في امريكا سنة 1846 وسرت منها إلى أوروبا كلها وأثبت للناس بدليل محسوس وجود عالم روحاني آهل بالعقول الكبيرة والأفكار الثاقبة تغير وجه النظر في المسائل الروحانية، وحييت مسألة الوحي بعد أن كانت في عداد الأضاليل القديمة، وأعاد العلماء النحت فيها على قاعدة العلم التجريبي المقرر لا على أسلوب التقليد الديني ولا

[579]

من طريق الغرب في مهامة الخيالات، فتأدوا إلى نتائج وإن كانت غير ما قرره علماء الدين الإسلامي إلا أنّها خطوة كبيرة في سبيل إثبات أمر عظيم كان قد أحيل إلى عالم الأمور الخرافية)(1).

والكلام في هذا المجال كثير، إلاّ أن خلاصته أنّهم اعتبروا الوحي تجلياً للوجدان الخفي وإظهاراً لعالم اللاشعور في الانسان الذي هو أقوى بكثير من عالم الشعور فيه وبما أنّ الانبياء كانوا رجالا متميّزين فقد كانوا يتمتعون بوجدان قوي جدّاً وذي ترشحات مهمّة.

 

نقد وتحليل

واضح أن ما تقوله هذه المجموعة هو افتراض بحت، حيث لم يذكروا أيّ دليل على ذلك، وفي الحقيقة فقد اعتبروا الأنبياء أفراداً لهم نبوغ فكري وشخصية عظيمة، دون أن يقبلوا بارتباطهم بمصدر عالم الوجود (الخالق العظيم) واكتسابهم للعلوم عن طريقه ومن خارج كيانهم.

إنّ مصدر خطئهم هو أنّهم أرادوا قيا س الوحي وفقاً لمعايير العلوم التجريبية، ونفي أي شيء خارج دائرتها، وجميع الموجودات في هذا العالم يجب أن تدرك بهذا المعيار، وإلاّ فهو غير موجود.

هذا الأُسلوب من التفكير ترك آثاره السيئة، ليس في موضوع الوحي فحسب، بل في العديد من البحوث الفلسفية والعقائدية الأُخرى. لذا فإن هذا التفكير مرفوض من أساسه، لأنّهم لم يذكروا أيّ دليل على تقييد جميع الكائنات في العالم بالكائنات المادية وما ينتج عنها.

 

3ـ النبوغ الفكري

البعض الآخر تجاوز هذه الأقوال وأعلن بشكل رسمي أن الوحي نتيجة

____________________________________

1 ـ دائرة المعارف القرن العشرين 10/ مادة(وحى).

[580]

للنبوغ الفكري للأنبياء، ويقول: إنّ الأنبياء كانوا أفراداً ذوي فطرة طاهرة ونبوغ خارق، حيث كانوا يدركون مصالح المجتمع الإنساني، وبواسطته يضعون له المعارف والقوانين.

وهذا الكلام في الواقع ينكر بصراحة نبوّة الأنبياء، ويكذب أقوالهم، ويتهمهم بأنواع الأكاذيب (العياذ بالله).

وبعبارة أوضح فإنّ أيّاً ممّا ذكرناه لا يعتبر تفسيراً للوحي، وإنّما هي افتراضات مطروحة في حدود الأفكار، ولأنّهم أصروا على عدم الإعتراف بوجود قضايا اُخرى خارج إطار معلوماتهم، لذا فإنّهم واجهوا الطريق المسدود.

 

الكلام الحق في الوحي:

لا يمكننا الاحاطة ـ بلا شك ـ بحقيقة الوحي وارتباطاته، لأنّه نوع من الإدراك خارج عن حدود إدراكنا، وهو ارتباط خارج عن حدود ارتباطاتنا المعروفة. فعالم الوحي بالنسبة لناعالم مجهول وفوق إداركاتنا، فكيف يستطيع إنسان ترابي أن يرتبط مع مصدر عالم الوجود؟!

وكيف يرتبط الخالق الأزلي الأبدي مع مخلوق محدود وممكن الوجود! وكيف يتيقن النّبي عند نزول الوحي أن هذا الإرتباط معه؟

هذه أسئلة يَصْعُب الجواب عليها بالنسبة لنا، ولا داعي للإصرار على فهمها.

أمّا الموضوع الذي يعتبر معقولا بالنسبة لنا ويمكن قبوله فهو وجود ـ أو إمكانية وجودـ هذا الإرتباط المجهول.

فنحن نقول: لا يوجد أيّ دليل عقلي ينفي إمكانية مثل هذا الأمر، بل على العكس من ذلك حيث نرى ارتباطات مجهولة في عالمنا نعجز عن تفسيرها، وهذه الإرتباطات تؤّكد وجود مرئيات ومدركات اُخرى خارج حدود حواسنا وارتباطاتنا.

[581]

ولا بأس من ذكر مثال لتوضيح هذا الموضوع...

لنفرض أنّنا كنا في مدينة كلّ أهلها من العميان (عميان منذ الولادة) ونحن الوحيدون ننظر بعينين، فكل أهل المدينة لهم أربعة حواس (على فرض أن الحواس الظاهرية للإنسان خمسة) ونحن الوحيدون نملك خمسة حواس. عندها سنشاهد أحداثاً كثيرة في هذه المدينة، وعندما نخبر أهل هذه المدينة سيتعجبون جميعهم من هذه الحاسة الخامسة التي تستطيع أن تدرك هذه الحوادث المتعددة، ومهما حاولنا شرح حاسة النظر لهم وفوائدها وآثارها فإنّهم لا يستطيعون فهم ذلك. فمن جانب لا يستطيعون نكران ذلك لإدراكهم آثارها، ومن جانب آخر لا يقدرون على درك حقيقة حاسة النظر، لأنّهم غير قادرين على النظر طيلة حياتهم ولو للحظة واحدة.

ولا نريد القول أن الوحي هو (الحاسة السادسة)، بل هو نوع من الإرتباط والإدراك لعالم الغيب والذات الإلهية المقدسة، ولأننا نفقد ذلك لا نستطيع أن ندرك كنهه بالرغم من إيماننا بوجود الوحي لوجود آثاره.

إنّنا نرى رجالا عظماء يدعون الناس الى أُمور هي فوق مستوى أفكار البشر، ويدعوهم إلى الدين الإلهي، وعندهم من المعاجز الخارقة ما يفوق طاقة الإنسان، حيث توضح هذه المعاجز ارتباطهم بعالم الغيب، فالآثار واضحة إلاّ أن الحقيقة مخفية.

هل توصلنا ـ نحن إلى معرفة جميع أسرار هذا العالم، كي ننفي الوحي لصعوبة إداركه بالنسبة لنا؟!

وحتى في عالم الحيوانات، فهناك ظواهر مجهولة نعجز عن تفسيرها، فهل توضحت لنا الحياة المجهولة لبعض الطيور المهاجرة التي قد تقطع ثمانية عشر ألف كيلومتر من القطب الشمالي وحتى الجنوبي أو العكس؟ فكيف تعرف هذه الطيور الطريق بدقة مع أنّها قد تسافر أحياناً في النهار وأحياناً اُخرى في الليالي

[582]

المظلمة، في حين أنّنا لا نستطيع أحياناً أن نسير مقداراً يسيراً من طريقها ما لم يكن لدينا أجهزة ووسائل معينة توضح لنا لمسير؟

وهناك بعض الأسماك التي تعيش في أعماق البحار والمحيطات، وعندما تريد أن تضع بيوضها تعود إلى مسقط رأسها الذي يبعد أحياناً آلاف الكيلومترات، فكيف تستطيع هذه الأسماك أن تهتدي إلى مسقط رأسها بهذه السهولة؟!

وهناك العديد من هذه الأمثلة المجهولة في حياتنا تمنعنا انكار ونفي كل شيء، وتذكرنا بوصية الفيلسوف «ابن سينا» الذي يقول: «كل ما قرع سمعك من الغرائب فضعه في بقعة الإمكان ما لم يزدك عنه قاطع البرهان.»

والآن لنر ادلّة الماديين في إنكار الوحي.

 

منطق منكري الوحي:

يذكر بعض الماديين لدى طرح مسألة الوحي بأن الوحي خلاف العلم!

وإذا سألناهم كيف ذلك؟ يقولون بلهجة المغرورة والواثق من نفسه: إنّه يكفى لانكار شيء أن العلوم الطبيعية لم تثبته. ونحن لا نقبل إلاّ المواضيع التي أثبتتها العلوم التجريبية وفق معاييرها الخاصة.

وإضافة لذلك فنحن لم نواجه في تحقيقاتنا العلمية حول جسم الإنسان وروحه، شيئاً مجهولا يستطيع أن يربطنا بعالم ماوراء الطبيعة.

كيف يمكننا أن نصدق بأن الأنبياء، الذين هم بشر مثلنا، لهم إحساس غير إحساسنا وادراك فوق ادراكنا؟

 الايراد الدائمي والرد الدائمي:

مثل هذا التعامل للماديين مع الوحي لا يرتبط بهذا الخصوص فحسب،

[583]

فهؤلاء لهم مثل هذا التحليل حيال جميع القضايا التي تختص بما وراء الطبيعة، ولأجل التوضيح نقول لهم دائماً: لا تنسوا أن حدود العلم هي عالم المادة، والأجهزة والوسائل المستخدمة في البحوث العلمية ـ كالمختبرات والتلسكوبات والميكروسكوبات وقاعات التشريح ـ كلها محدود بحدود هذا العالم، فهذه العلوم وأجهزتها لا تستطيع أن تتحدث أبداً عما هو موجود خارج حدود عالم المادة، لا بالنفي ولا بالإثبات، والدليل على ذلك واضح، لأن هذه الأجهزة والوسائل لها قدرة محدودة ومحيط خاص بها.

بل إنّ أجهزة كلّ واحد من العلوم الطبيعية لا يستطيع أن يكون فاعلا بالنسبة للعلم الآخر، فمثلا نحن لا نستطيع أن ننكر وجود ميكروب السل إذا لم نشاهده بواسطة التلسكوب العظيم المستخدم في النجوم، أو ننفي وجود كوكب البلوتون لأنّنا لم نشاهده بواسطة الميكروسكوب أو المجهر.

فالوسائل تتناسب مع نوع العلم دائماً، أما الوسائل المستخدمة لمعرفة ما وراء الطبيعة، فهي ليست سوى الإستدلالات العقلية القوية التي تفتح لنا الآفاق نحو ذلك العالم الكبير.

فالذين يخرجون العلم عن محيطه وحدوده ليسوا علماء ولا فلاسفة، إنّما يدعون ذلك، وفي نفس الوقت هم خاطئون وضالون.

المهم إنّنا نرى أشخاصاً عظاماً جاؤوا وذكروا لنا أُموراً هي خارج حدود معرفة البشر، وهذا يؤكّد ارتباطهم بما وراء عالم المادة. أمّا كيف يكون هذا الإرتباط المجهول؟ فهذا مالم يتضح لنا، إنّما المهم هو أنّنا نعلم بوجود مثل هذا الإرتباط.

بعض الأحاديث بخصوص قضية الوحي:

هناك روايات عديدة وردت في المصادر الإسلامية بخصوص الوحي،

[584]

حيث توضح جوانب من هذا الإرتباط المجهول للأنبياء بمصدر الوحي:

1 ـ يمكن الإستفادة من بعض الرّوايات أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كان في حالة عادية عند نزول الوحي عليه عن طريق الملك، إلاّ أنّه كان يشعر بحالة خاصة عند الإرتباط المباشر ـ بدون واسطة ـ وأحياناً يشعر بالغشية، كما ورد في كتاب التوحيد للشيخ الصدوق عن الإمام الصادق(عليه السلام) عندما سألوه عن الغشية التي كانت تصيب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) إذا نزل عليه الوحي قال: «ذلك إذا لم يكن بينه وبين الله أحد، ذاك إذا تجلّى الله له(1)».

2 ـ كان جبرئيل ينزل على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بشكل مؤدب وباحترام كامل، كما ورد في الحديث عن الإمام الصادق(عليه السلام) حيث يقول: «كان جبرئيل إذا أتى النّبي قعد بين يديه قعدة العبيد وكان لا يدخل حتى يستأذنه»(2).

3 ـ يمكن الإستفادة من روايات اُخرى أن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كان يُشخص جبرئيل بشكل جيد، وذلك بتوفيق من الله (والشهود الباطني) كما جاء في حديث عن الإمام الصادق(عليه السلام) حيث يقول: «ماعلم رسول الله أن جبرئيل من قبل اللهـ إلاّ بالتوفيق»(3).

4 ـ هناك تفسير لقضية غشية النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) عند نزوله الوحي ورد في حديث منقول عن ابن عباس حيث يقول: كان النّبي إذا نزل عليه الوحي وجد منه ألماً شديداً ويتصدع رأسه، ويجد ثقلا (وذلك) قوله تعالى: (إنّا سنلقي عليك قولا ثقيلا)وسمعت أنّه نزل جبرئيل على رسول الله ستين ألف مرّة(4).

 

* * *

____________________________________

1 ـ (توحيد الصدوق) نقلا عن بحار الأنوار، المجلد 18، ص256.

2 ـ علل الشرائع نقلا عن بحار الأنوار، المجلد 18، ص256.

3 ـ بحار الأنوار، المجلد 18، ص256.

4 ـ بحار الأنوار، المجلد 18، ص261.

[585]

الآيتان

وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَـبُ وَلاَ الاِْيمَـنُ وَلَـكِنْ جَعَلْنَـهُ نُوراً نَّهْدِى بِهِ مَن نَّشَآءُ مِن عِبَادِناً وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِرَط مُّسْتَقِيم( 52 ) صِرَطِ اللهِ الَّذِى لَهُ مَا فِى السَّمَـوَتِ وَمَا فِى الاَْرْضِ أَلاَ إِلَى اللهِ تَصِيرُ الاُْمُورُ( 53 )

 

التّفسير

القرآن روح من الخالق:

بعد البحث العام الذي ورد في الآية السابقة بخصوص الوحي، تتحدث الآيات التي نبحثها عن نزول الوحي على شخص الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) حيث تقول: (وكذلك أوحينا أليك روحاً من أمرنا).

قد تكون عبارة (كذلك) إشارة إلى الأنواع ثلاثة للوحي الواردة في الآية السابقة، والتي تحققت جميعها بالنسبة للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، فأحياناً كان يرتبط بذات الخالق المنزهة والمطهرة بشكل مباشر، وأحياناً عن طريق ملك الوحي، وأحياناً عن طريق سماع لحن خاص يشبه الأمواج الصوتية، كما أشارت الرّوايات

[586]

الإسلامية إلى جميع ذلك، وبيّنا شرح ذلك في نهاية الآية السابقة.

وهناك قولان للمفسرين بخصوص المقصود من كلمة (روح) في هذه الآية:

الأوّل: إن المقصود هو القرآن الكريم، لأنّه أساس حياة القلوب وحياة جميع الأحياء، وقد اختار هذا القول أكثر المفسّرين(1).

ويقول الراغب في مفرادته: سمي القرآن روحاً في قوله: (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا) وذلك لكون القرآن سبب للحياة الأخروية.

وهذا المعنى يتلاءم بشكل كامل مع القرائن المختلفة الموجودة في الآية مثل عبارة (كذلك) التي تشير إلى قضية الوحي، وعبارة (أوحينا) وعبارات اُخرى بخصوص القرآن وردت في نهاية هذه الآية.

وبالرغم من أن (روح) وردت غالباً بمعاني اُخرى سائر آيات القرآن، إلاّ أنّه ـ وفقاً للقرائن أعلاه ـ يظهر أنّها وردت هنا بمعنى القرآن.

وقد قلنا أيضاً في تفسير الآية 2 من سورة النحل: (ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده) أن كلمة (روح) في هذه الآية ـ وفقاً للقرائن ـ وردت بمعنى (القرآن والوحي والنبوة) وفي الحقيقة فإن هاتين الآيتين تفسر إحداهما الأُخرى.

فكيف يمكن للقرآن أن لا يكون روحاً في حين أنّنا نقرأ في الآية (24) من سورة الأنفال: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم).

التّفسير الثّاني: أنّ المقصود هو (روح القدس) (أو ملك أفضل حتى من جبرائيل وميكائيل وكان يلازم النّبي دائماً).

ووفقاً لهذا التّفسير فإن (أوحينا) تكون بمعنى (أنزلنا) يعني أنزلنا روح

____________________________________

1 ـ الطبرسي في مجمع البيان، الشيخ الطوسي في التبيان، الفخر الرازي في التّفسير الكبير المراغي في تفسير المراغي وجماعة آخرون.

[587]

القدس عليك، أو ذلك الملك العظيم (بالرغم من أنّنا لم نر كلمة (أوحينا) لهذا المعنى في الآيات القرآنية الأُخرى). ويؤيد ذلك بعض الروايات المذكورة في مصادر الحديث المعروفة، ولكن ـ كما قلنا ـ فإن التّفسير الأوّل ملاءمة مع الآية لوجود القرائن المتعددة، لذا يمكن أن تكون مثل هذه الرّوايات التي تفسر الروح بمعنى روح القدس أو الملك المقرب من الخالق، إشارد إلى المعنى الباطني للآية.

على أية حال، فإن الآية تضيف: (ما كنت تدري ما الكتاب و لا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا).

فهذا هو اللطف الإلهي الذي شملك أنزل عليك هذا الوحي السماوي وآمنت بكل ما يحتويه.

فالإرادة الإلهية كانت تقتضي أن يهدي عباده الآخرين في ظل هذا النور السماوي، وأن يشمل الشرق والغرب ـ بل وجميع القرون والأعصار حتى النهاية ـ إضافة إلى هدايتك أنت إلى هذا الكتاب السماوي الكبير وتعليماته.

بعض المنحرفين فكرياً كانوا يتصورون أن هذه الجملة تبيّن أن الرّسول لم يكن يؤمن بالله قبل نبوته، في حين أن معنى الآية واضح، حيث أنّها تقول: إنّك لم تكن تعرف القرآن قبل نزوله ولم تكن تعرف تعليماته وتؤمن به وهذا لا يتعارض أبداً مع اعتقاد الرّسول التوحيدي ومعرفته العالية بأصول العبادة لله وعبوديته له .
والخلاصة، إن عدم معرفة محتوى القرآن يختلف عن موضوع عدم معرفة الله.

فحياة الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) قبل مرحلة النبوة والواردة في كتب التاريخ، تعتبر دليلا حياً على هذا المعنى. والأوضح من ذلك ما ورد عن أمير المؤمنين علي(عليه السلام) في نهج البلاغة: «وقد قرن الله به من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته، يسلك به طريق المكارم، ومحاسن أخلاق العالم، ليله ونهاره»(1).

وتضيف الآية في نهايتها: (وإنّك لتهدي إلى صراط مستقيم).

____________________________________

1 ـ نهج البلاغة ـ الخطبة 192 (الخطبة القاصعة).

[588]

فالقرآن نور للجميع وليس لك فحسب، وهو وسيلة لهداية البشر إلى الصراط المستقيم، وموهبة إلهية عظيمة بالنسبة للسائرين على طريق الحق، وهو ماء الحياة بالنسبة للعطاشى كي ينتهلوا منه.

وقد ورد نفس هذا المعنى بعبارة اُخرى في الآية (44) من سورة فصلت حيث تقول الآية: (قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر).

ثم تقول الآية مفسرة للصراط المستقيم: (صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض).

وهل هناك طريق أكثر استقامة من الطريق الذي ينتهي بخالق عالم الوجود؟

وهل هناك أحسن من هذا الطريق؟

فالسعادة الحقيقية هي السعادة التي يدعو إليها الخالق، والوصول إليها يجب أن يكون عبر الطريق الوحيد الذي انتخبه الباريء لها.

أمّا آخر جملة في هذه الآية ـ وهي آخر آية في سورة الشورى ـ فهي في الحقيقة دليل على أن الطريق المستقيم هو الطريق الوحيد الذي يوصل إلى الخالق، حيث تقول: (ألا إلى الله تصير الأمور).

فبما أنّه يملك عالم الوجود ويحكمه ويدبره لوحده، وبما أن برامج تكامل الإنسان يجب أن تكون تحت إشراف هذا المدبّر العظيم، لذا فإن الطريق المستقيم هو الطريق الوحيد الذي يوصل إليه، والطرق الأُخرى منحرفة وتؤدي إلى الباطل، وهل هناك حق في هذا العالم غير ذاته المقدسة؟!

هذه الجملة بُشرى للمتقين، وهي في نفس الوقت تهديد للظالمين والمذنبين، لأن الجميع سوف يرجعون إلى الخالق.

وهي دليل على أن الوحي يجب أن يكون من الخالق فقط، لأن جميع الأُمور ترجع إليه وتدبير كلّ شيء بيده، ولهذا السبب وجب أن يكون الباري تعالي هو

[589]

مصدر الوحي بالنسبة للأنبياء حتى تتمّ الهداية الحقيقية.

وهكذا نرى أن بداية ونهاية هذه الآيات منسجمة فيما بينها ومترابطة، ونهاية السورة ـ أيضاً ـ يتلاءم مع بديتها والموضوع العام الساري عليها.

* * *

 

ملاحظات

1ـ ماذا كان دين الرّسول الأعظم قبل نبوته؟

لا يوجد شك في أن الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يسجد لصنم قبل بعثته أبداً، ولم ينحرف عن خط التوحيد، فتاريخ حياته يعكس بوضوح هذا المعنى، إلاّ أن العلماء يختلفون في الدين الذي كان عليه:

فذهب بعضهم أنّه دين المسيح(عليه السلام)، لأن المسيحية كانت الدين الوحيد الرسمي غير المنسوخ قبل بعثة الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم).

وقال البعض الآخر: إنه دين إبراهيم(عليه السلام)، لأنّه (شيخ الأنبياء) وأبوهم، وقد ذكرت بعض آيات القرآن أن دين الإسلام هو دين إبراهيم: (ملة أبيكم إبراهيم)(1).

أمّا البعض الآخر فلم يذكر شيئاً واكتفى بالقول بأننا نعلم بأنّه كان على دين معين إلاّ أنّه لم يتوضح لنا ما هو.

وبالرغم من أن كلا من هذه الأقوال يستند إلى دليل معين، إلاّ أنّها ليست قطعية، وأفضلها قول آخر وهو: لقد كان الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) يملك برنامجاً خاصاً من قبل الخالق وكان يعمل به، وفي الحقيقة فقد كان له دين خاص حتى زمان نزول الإسلام عليه .

والدليل على هذا الكلام الجملة التي ذكرناها قبل قليل، والوارد في نهج البلاغة، وهو «ولقد قرن الله به ومن لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته،

____________________________________

1 ـ الحج، الآية 78.

[590]

يسلك به طريق المكارم، ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره».

فوجود مثل هذا الملك يدل على وجود برنامج خاص.

والدليل الآخر هو أنّ التاريخ لم يذكر لنا أبداً أن الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) انشغل بالعبادة في معابد اليهود أو النصارى أو الأديان الأُخرى، ولم يكن إلى جوار الكفار في معابدهم، ولا إلى جوار أهل الكتاب في كنائسهم، وفي نفس الوقت فقد استمر في سلوك طريق التوحيد وكان متمسكاً بقوة بالأصول الأخلاقية والعبادة الإلهية.

وقد وردت عدّة روايات ـ وفقاً لنقل العلاّمة المجلسي في بحار الأنوارـ في المصادر الإسلامية عن أن الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) كان مؤيداً منذ بداية عمره بروح القدس. وحتماً فإنّه كان يعمل وفقاً لما يستلهمه من روح القدس(1).

ويرى العلاّمة المجلسي أن الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) كان نبياً قبل أن يكون رسولا، فالملائكة كانت تتحدث معه أحياناً وكان يسمع صوتها، وأحياناً كان الإلهام الإلهي ينزل عليه ضمن الرؤيا الحقيقية الصادقة، وبعد أربعين سنة وصل إلى منزلة الرسالة ونزل القرآن والإسلام عليه، وقد ذكر لذلك ستة أدلة حيث يتلاءم بعضها مع ما ذكرناه أعلاه (للإستزادة راجع المجلد 18 من بحار الأنوار ص277 فما بعدها).

 

2ـ الجواب على سؤال

بعد هذا البحث قد يُطرح هذا السؤال: لماذا تقول الآية: (ماكنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان) رغم ما ذكرناه من إيمان وأعمال النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قبل نبوّته؟

وبالرغم من أنّه ورد جواب هذا السؤال بشكل موجز في تفسير الآية، إلاّ أنّه من الأفضل إعطاء توضيح أكثر بهذا الخصوص.

المقصود أنّ الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن يعرف بتفصيلات هذا الدين ولا بمحتوى

____________________________________

1 ـ بحار الأنوار، ج 18، ص288.

[591]

القرآن، قبل نزوله وقبل تشريع الإسلام.

أمّا كلمة الإيمان، فلو لا حظنا أن هذه الكلمة وردت بعد الكتاب، وبملاحظة الجمل الأُخرى الواردة بعدها في الآية، يتضح أن المقصود بها هو الإيمان بمحتوى هذا الكتاب السماوي وليس مطلق الإيمان، لذا لا يوجد أي تعارض مع ذكرناه، ولا يمكن أن تكون هذه الجملة وسيلة لذوي النفوس المريضة كي يستدلوا بها على نفي الإيمان بشكل مطلق عن الرّسول، وينكرون الحقائق التاريخية في هذا المجال.

وقد ذكر بعض المفسّرين أجوبة اُخرى لهذا السؤال منها:

أ ـ المقصود من الإيمان ليس الإعتقاد لوحده، بل مجموع الإعتقاد والإقرار باللسان والأعمال وهذا هو المقصود به في التعبير الإسلامي.

ب ـ المقصود من الإيمان هو الإعتقاد بالتوحيد والرسالة، ونحن نعلم أن النّبي كان موحداً، إلاّ أنّه لم يكن يؤمن برسالته بعد.

ج ـ المقصود من الإيمان هو أركان الإيمان التي لا يتوصل إليها الإنسان عن طريق العقل، والطريق الوحيد لذلك هو الأدلة النقلية (مثل العديد من خصوصيات المعاد).

د ـ هناك محذوف في هذه الآية وفي التقدير: ما كنت تدري كيف تدعو الخلق إلى الإيمان(1).

ولكن حسب اعتقادنا فإن المعنى الأوّل

أفضل المعاني وأكثرها تلاؤماً مع محتوى الآية.

 

3ـ ملاحظة أدبية

هناك كلام كثير حول الضمير في جملة: (لكن جعلناه نوراً) لمن يعود،

____________________________________

1 ـ الآلوسي في روح المعاني، المجلد 25، ص55، وقد ذكر احتمالات اُخرى إلاّ أنّنا لم نذكرها لعدم أهميتها.

[592]

فذهب البعض أن المقصود هو القرآن نفسه، الكتاب السماوي العظيم لرسول الإسلام(صلى الله عليه وآله وسلم)، ويحتمل أن يكون هذا النور هو النور الإلهي لـ(الإيمان).

ولكن الأفضل أن يعود هذا الضمير إلى الإثنين (القرآن والإيمان)، فما داما ينتهيان بحقيقة واحدة، لذا فلا مانع من أن يعود الضمير المفرد إليهما.

إلهي، نور قلوبنا دائماً بنور إيمانك، واهدنا بلطفك إلى الخير والسعادة.

إلهي، ترحّم علينا بالصبر والتحمل حتى لا نطغى عند النعم ولا نجزع عند المصائب والفتن.

إلهي، اجعلنا في صفّ المؤمنين المخلصين في ذلك اليوم الذي يكون فيه الظالمون والمستكبرون حيارى تائهين، والمؤمنون مصونين في ظل حمايتك،

آمين ربّ العالمين

نهاية سورة الشورى

* * *

 




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21404566

  • التاريخ : 20/04/2024 - 07:25

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net