00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة فصلت من أول السورة ـ آية 32 من ( ص 341 ـ 402)  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء الخامس عشر   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

[341]

سورة فصّلت

مكيّة

وَعددَ آياتِها أربع وخمسون آية

[343]

«سورة فصّلت»

نظرة في المحتوى العام للسورة:

سورة «فصلت» من السور المكية، وهي بذلك لا تخرج في مضامينها الأساسية عن مثيلاتها، بل تعكس في محتواها كامل خصائص السور المكّية، من التأكيد على المعارف الإسلامية التي تتصل بالعقيدة وبالحساب والجزاء، والوعيد والإنذار، وبالبشرى للذين آمنوا.

لكن كون السورة مكّية لا يعني عدم اختصاصها بمواضيع معينة قد لا نجدها فيما سواهامن السور القرآنية الأُخرى.

بشكل عام يمكن الحديث عن محتويات السورة من خلال الخطوط العريضة الآتية:

أوّلا: التركيز على موضوع القرآن وما يتصل به من بحوث، كالإشارة الصريحة إلى حاكمية القرآن في جميع الأدوار والعصور، وصيانته من أيّ تحريف، وقوّة منطقه وتماسكه بحيث رأينا أعداء الله يخشون حتى من الإستماع إلى آياته، بل ويمنعون الناس من مجرّد الإنصات إليه.

الآيتان (41) و(42) من السورة تتحدثان عن هذه النقطة بوضوح كامل، إذ يقول تعالى: (وإنّه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه).

ثانياً: إثارة قضية خلق السماء والأرض، خاصة ما يتعلق ببداية العالم الذي

[344]

خلق من مادّة (الدخان) ثمّ مراحل نشوء الكرة الأرضية والجبال والنباتات الحيوانات.

ثالثاً: ثمّة في السورة إشارات إلى عاقبة الأقوام المغرورين الأشقياء من الأمم السابقة، مثل قوم عاد وثمود، وهناك إشارة قصيرة إلى قصة موسى(عليه السلام).

رابعاً: تتضمّن السورة تهديد المشركين وإنذار الكافرين، مع ذكر آيات القيامة وما يتعلق بشهادة أعضاء جسم الإنسان عليه، وتوبيخ الله تبارك وتعالى لأمثال هؤلاء.

خامساً: تتناول السورة قسماً من أدلة البعث والقيامة وخصوصياتهما.

سادساً: المواعظ والنصائح المختلفة التي تبعث في الروح الحياة من خلال الدعوة إلى الإستقامة في طريق الحق، وتوجيه المؤمن نحو أسلوب التعامل المنطقي مع الأعداء وكيفية هدايتهم نحو الله.

سابعاً: تنتهي السورة ببحث لطيف قصير عن آيات الآفاق والأنفس، وتعود كرةً اُخرى إلى قضية المعاد.

 

فضيلة تلاوة السورة:

ورد في الحديث الشريف عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: «من قرأ «حم السجدة» أعطي بكل حرف منها عشر حسنات»(1).

وفي حديث آخر حول فضيلة قراءة هذه السورة، قال الإمام الصادق(عليه السلام): «من قرأ «حم السجدة» كانت له نوراً يوم القيامة مد بصره وسروراً، وعاش في هذه الدنيا مغبوطاًمحموداً»(2)

و في حدث عن «سنن البيهقي» أنّ «خليل بن مرّة» كان يقول: إنّ النّبي لم ينم

____________________________________

1 ـ مجمع البيان مطلع الحديث عن السورة، المجلد 9، صفحة 2.

2 ـ مجمع البيان مطلع الحديث عن السورة، المجلد 9، صفحة 2.

[345]

ليلة من الليالي قبل أن يقرأ سورتي «تبارك» و «حم السجدة».(1)

و طبيعي أنّ هذه السورة المباركة بكل ما تتضمّن في مضامينها العالية من أنوار و معارف و مواعظ إنّما تكون مؤثرة فيما لو تحولت تلاوتها الى نور ينفذ إلى أعماق النفس، فتتحول في حياة الإنسان المسلم إلى دليل من نور يقوده في يوم القيامة نحو الصراط و الخلاص، لأنّ التلاوة مقدمة للتفكير، و التفكير مقدمة للعمل. إنّ تسمية السورة بـ «فصلت» مُشتق من الآية الثّالثة فيها. و إطلاق «حم السجدة» عليها لأنّها تبدأ بـ «حم» و الآية (37) فيها هي آية السجدة.

 

* * *

 

____________________________________

1 ـ روح المعاني، المجلد 24، ص صفحة 84.

[346]

الآيات

حم( 1 ) تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ( 2 ) كِتَـبٌ فُصِّلَتْ ءَايَـتُهُ قُرْءَاناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمِ يَعْلَمُونَ( 3 ) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ( 4 ) وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةِ مِّمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ وَفِى ءَاذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَـمِلُونَ( 5 )

 

التّفسير

عظمة القرآن:

تذكر الرّوايات أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) كان لا يكف عن عيب آلهة المشركين، ويقرأ عليهم القرآن فيقولون: هذا شعر محمّد. ويقول بعضهم: بل هو كهانة. ويقول بعضهم: بل هو خطب.

وكان الوليد بن المغيرة شيخاً كبيراً، وكان من حكّآم العرب يتحاكمون إليه في الأمور، وينشدونه الأشعاره فما اختاره من الشعر كان مختاراً، وكان له بنون  لا يبرحون من مكّة، وكان له عبيد عشرة عند كلّ عبد ألف دينار يتجر بها، وملك القنطار في ذلك الزمان (القنطار: جلد ثور مملوء ذهباً) وكان من المستهزئين برسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).

[347]

وفي يوم سأل أبوجهل الوليد بن المغيرة قائلا له:

يا أبا عبد شمس، ما هذا الذي يقول محمّد؟ أسحر أم كهان أم خطب؟

فقال: دعوني أسمع كلامه، فدنا من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وهو جالس في الحجر، فقال: يا محمّد أنشدني من شعرك.

قال(صلى الله عليه وآله وسلم): ما هو بشعر، ولكنّه كلام الله الذي به بعث أنبياءه ورسله.

فقال: اتل علىّ منهُ.

فقرأ عليه رسول الله (بسم الله الرحمن الرحيم) فلّما سمع (الوليد) الرحمن استهزأ فقال: تدعو إلى رجل باليمامة يسمّى الرحمن، قال: لا، ولكني أدعو إلى الله وهو الرحمن الرحيم.

ثم افتتح سورة «حم السجدة»، فلّما بلغ إلى قوله تعالى: (فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود) فلمّا سمعه اقشعر جلده، وقامت كلّ شعرة في رأسه ولحيته، ثمّ قام ومضى إلى بيته ولم يرجع إلى قريش.

فقالت قريش: يا أبا الحكم، صبأ أبو عبد شمس إلى دين محمّد، أما تراه لم يرجع إلينا؟ وقد قبل قوله ومضى إلى منزله، فاغتمت قريش من ذلك غماً شديداً.

وغدا عليه أبو جهل فقال: يا عم، نكست برؤوسنا وفضحتنا.

قال: وما ذلك يا ابن أخ؟

قال: صبوت إلى دين محمّد.

قال: ما صبوت، وإني على دين قومي وآبائي، ولكني سمعت كلاماً صعباً تقشعر منه الجلود.

قال أبوجهل: أشعر هو؟

قال: ما هو بشعر.

قال: فخطب هي؟

قال: إنّ الخطب كلام متصل، وهذا كلام منثور، ولا يشبه بعضه بعضاً، له

[348]

طلاوة.

قال: فكهانة هي؟

قال: لا.

قال: فماهو؟

قال: دعني أفكّر فيه.

فلّما كان من الغد قالوا: يا أبا عبد شمس ما تقول؟

قال: قولوا هو سحر، فإنّه آخذ بقلوب الناس، فأنزل الله تعالى فيه: (ذرني ومن خلقت وحيداً وجعلت له مالا ممدوداً وبنين شهوداً) إلى قوله: (عليها تسعة عشر)(1)(2).

إنّ هذه الرّواية الطويلة تكشف بوضوح مدى تأثير آيات هذه السورة، بحيث أنّ أكثر المتعصبين من مشركي مكّة أبدى تأثره بآياتها، وذلك يظهر جانباً من جوانب العظمة في القرآن الكريم.

نعود الآن إلى المجموعة الأولى من آيات هذه السورة المباركة، التي تطالعنا بالحروف المقطعة في أوّلها(حم).

لقد تحدثنا كثيراً عن تفسير هذه الحروف، ولا نرى حاجة للإعادة سوى أنّ البعض اعتبر (حم) اسماً للسورة. أو أنّ (ح) إشارة إلى «حميد» و (م) إشارة إلى «مجيد» وحميد و مجيد هما من أسماء الله العظمى.

ثم تتحدث عن عظمة القرآن فتقول: (تنزيل من الرحمن الرحيم).

إنّ «الرحمة العامة» و«الرحمة الخاصة» لله تعالى هما باعث نزول هذه الآيات الكريمة التي هي رحمة للعدو والصديق. ولها بركات خاصة للأولياء.

____________________________________

1 ـ المدثر، الآية 11 ـ 30.

2 ـ بحارالأنوار، المجلد 17، صفحة 211 فما فوق، ويمكن ملاحظة القصة في كتب اُخرى منها: تفسير القرطبي في مطلع حديثه عن السورة. المجلد الثامن، صفحة 5782.

[349]

في الواقع إنّ الرحمة هي الصفة البارزة لهذا الكتاب السماوي العظيم، التي تتجسّد من خلال آياته العطرة التي تفوح بشذاها ونورها فتضيء جوانب الحياة، وتسلك بالإنسان مسالك النجاة والرضوان.

بعد التوضيح الاجمالي الذي أبدته الآية الكريمة حول القرآن، تعود الآيات التالية إلى بيان تفصيلي حول أوصاف هذا الكتاب السماوي العظيم، وذكرت له خمسة صفات ترسم الوجه الأصلي للقرآن:

فتقول أوّلا: إنّه كتاب ذكرت مطاليبه ومواضيعه بالتفصيل كلّ آية في مكانها الخاص، بحيث يلبّي احتياجات الإنسان في كلّ المجالات والأدوار والعصور، فهو: (كتاب فصلت آياته)(1).

وهو كتاب فصيح وناطق (قرآناً عربياً لقوم يعلمون).

وهذا الكتاب بشير للصالحين نذير للمجرمين: (بشيراً ونذيراً) إلاّ أنّ أكثرهم: (فاعرض أكثرهم فهم لا يسمعون)(2).

بناء على ذلك فإنّ أول خصائص هذا الكتاب هو أنّهُ يتضمّن في تشريعاته وتعاليمه كلّ ما يحتاجهُ الإنسان وفي جميع المستويات، ويلبي ميوله ورغباته الروحية.

الصفة الثانية أنّه متكامل، لأنّ «قرآن» مشتق من القراءة، وهي في الأصل بمعنى جمع أطراف وأجزاء الكلام.

الصفة الثّالثة تتمثل بفصاحة القرآن وبلاغته، حيث يذكر الحقائق بدقّة بليغة دون أي نواقص. وفي نفس الوقت يعكسها بشكل جميل وجذّاب.

الصفتان الرابعة والخامسة تكشفان عن عمق التأثير التربوي للقرآن الكريم، عن طريق أسلوب الإنذار والوعيد والتهديد والترغيب، فآية تقوم بتشويق

____________________________________

1 ـ «كتاب» خبر بعد الخبر، وبهذا الترتيب فإنّ «تنزيل» خبر لمبتدأ محذوف و «كتاب» خبر بعدالخبر.

2 ـ «لقوم يعلمون» يمكن أن تكون متعلقة بـ «فصلت» أو بـ «تنزيل» .

[350]

الصالحين والمحسنين بحيث أنّ النفس الإنسانية تكاد تطير وتتماوج في أشواق الملكوت والرحمة. وأحياناً تقوم آية بالتهديد والإنذار بشكل تقشعر منه الأبدان لهول الصورة وعنف المشهد.

إنّ هذين الأصلين التربّويين (الترغيب والتهديد) متلازمان في الآيات القرآنية ومترابطان في أُسلوبه.

ومع ذلك فإنّ المتعصبين المعاندين لا يتفاعلون مع حقائق الكتاب المنزل، وكأنّهم لا يسمعونها أبداً بالرغم من السلامة الظاهرية لأجهزتهم السمعية، إنّهم في الواقع يفتقدون لروح السماع وإدراك الحقائق، ووعي محتويات النذير والوعيد القرآني.

وهؤلاء ـ كمحاولة منهم لثني الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) عن دعوته، وايغالا منهم في الغي

وفي زرع العقبات ـ يتحدثون عند رسول الله بعناد وعلو وغرور حيث يحكي القرآن عنهم: (وقالوا قلوبنا في أكنة ممّا تدعونا إليه وفي آذاننا و قر ومن بيننا وبينك حجاب).

مادام الأمر كذلك فاتركنا وشأننا، فاعمل ما شئت فإننا عاكفون على عملنا: (فاعمل إنّنا عاملون).

حال هؤلاء كحال المريض الأبله الذي يهرب من الطبيب الحاذق، ويحاول أن يبعد نفسه عنه بشتى الوسائل والأساليب.

إنّهم يقولون: إنّ عقولنا وأفكارنا موضوعة في علب مغلقة بحيث لا يصلها شيء.

«أكنّة» جمع «كنان» وتعني الستار. أي أن الأمر لا يقتصر هنا على ستار واحد، بل هي ستائر من العناد والتقليد الأعمى، وأمثال ذلك ممّا يحجب القلوب ويطبع عليها.

وقالوا أيضاً: مصافاً إلى أنّ عقولنا لا تدرك ما تقول، فإنّ آذاننا لا تسمع لما

[351]

تقول أيضاً، وهي منهم إشارة إلى عطل المركز الأصلي للعمل والوسائل المساعدة الأُخرى.

وبعد ذلك، فإن بيننا وبينك حجاب سميك، بحيث حتى لو كانت آذاننا سالمة فإننا لا نسمع كلامك، فلماذا ـ إذاًـ تتعب نفسك، لماذا تصرخ، تحزن، تقوم بالدعوة ليلا ونهاراً؟ اتركنا وشأننا فأنت على دينك ونحن على ديننا.

هكذا... بمنتهى الوقاحة والجهل، يهرب الإنسان بهذا الشكل الهازل عن جادة الحق.

والطريف أنّهم لم يقولوا: «وبيننا وبينك حجاب» بل أضافوا للجملة كلمة «من» فقالوا: (ومن بيننا وبينك حجاب) وذلك لبيان زيادة التأكيد، لأنّ بزيادة هذه الكلمة يصبح مفهوم الجملة هكذا: إنّ جميع الفواصل بيننا وبينك مملوءة بالحجب، وطبيعي أن يكون حجاب مثل هذا سميكاً عازلا للغاية ليستوعب كلّ الفواصل بين الطرفين، وبذلك سوف لا ينفع الكلام مع وجود هذا الحجاب.

وقد يكون الهدف من قول المشركين: (فاعمل إنّنا عاملون) محاولتهم زرع اليأس عند النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم). أو قد يكون المراد نوعاً من التهديد له، أي اعمل ما تستطيعه ونحن سوف نبذل ما نستطيع ضدّك وضدّ دينك، والتعبير يمثل منتهى العناد والتحدي الاحمق للحق ولرسالاته.

 

* * *

 

[352]

الآيات

قُلْ إِنَّمَآ أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَىَّ أَنَّمَآ إِلَـهُكُمْ إِلَـهٌ وَحِدٌ فَاسْتَقِيمُواْ إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ( 6 ) الَّذِينَ  لاَ يُؤتُونَ الزَّكَـوةَ وَهُمْ بِاْلاَْخِرَةِ هُمْ كَـفِرُونَ( 7 ) إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّـلِحَـتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُون( 8 )

 

التّفسير

من هم المشركون؟

الآيات التي بين أيدنيا تستمر في الحديث عن المشركين والكافرين، وهي في الواقع إجابة لما صدر عنهم في الآيات السابقة، وإزالة لأي وهمّ قد يلصق بدعوة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم).

يقول تعالى لرسوله الكريم: (قل إنّما أنا بشرٌ مثلكم يوحى إلىّ انّما إلهكم إله واحد).

فلا أدّعي أنّي ملك، ولست إنساناً أفضل منكم، ولست بربّكم، ولا ابن الله بل أنا إنسان مثلكم، وأختلف عنكم بتعليمات التوحيد والنبوّة والوحي، لا أريد أن

[353]

أفرض عليكم ديني حتى تقفوا أمامي وتقاوموني أو تهددونني، لقد أوضحت لكم الطريق، وإليكم يعود التصميم والقرار النهائي.

ثمّ تستمر الآية: (فاستقيموا إليه واستغفروه)(1).

ثمّ تضيف الآية محذّرة: (وويل للمشركين).

الآية التي تليها تقوم بتعريف المشركين، وتسلّط الضوء على جملة من صفاتهم وتختص هذه الآية بذكرها، حيث يقول تعالى: (الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون).

إنّ هؤلاء يعرفون بأمرين: ترك الزكاة، وإنكار المعاد.

لقد أثارت هذه الآية كلاماً واسعاً في أوساط المفسّرين، وذكروا مجموعة احتمالات تفي تفسيرها، والسبب في كلّ ذلك هو أنّ الزكاة من فروع الدين، فكيف يكون تركها دليلا على الكفر والشرك؟

البعض أخذ بظاهر الآية وقال: إنّ ترك الزكاة يعتبر من علائم الكفر، بالرغم من عدم تلازمه مع إنكار وجوبه.

البعض الآخر اعتبر الترك مع تلازم الإنكار دليلا على الكفر، لأنّ الزكاة من ضروريات الإسلام ومنكرها يعتبر كافراً.

وقال آخرون: الزكاة هنا بمعنى التطهير والنظافة، وبذلك يكون المقصود بترك الزكاة، ترك تطهير القلب من لوث الشرك، كما جاء في الآية (81) من سورة الكهف في قوله تعالى: (خيراً منه زكاةً).

إلاّ أنّ كلمة (لا يؤتون) لا تناسب المعنى أعلاه، لذلك يبقى الإشكال على حاله.

____________________________________

1 ـ «فاستقيموا» مأخوذة من «الإستقامة» وهي هنا بمعنى التوجه بشكل مستقيم نحو شيء معين، لذا فإنها تعدت بواسطة الحرف (إلى) لأنّها تعطي مفهوم (استواء) .

[354]

لذلك لا يبقى من مجال سوى أن يكون المقصود منها هو أداء الزكاة.

المشكلة الأُخرى التي تواجهنا هنا، هي أن الزكاة شرّعت في العام الثّاني من الهجرة المباركة، والآيات التي بين أيدينا مكية، بل يذهب بعض كبار المفسّرين إلى أنّ سورة «فصلت» هي من أوائل السور النازلة في مكّة، لذلك كلّه ـ وبغية تلافي هذه المشكلة ـ فسّر المفسّرون الزكاة هنا بأنّها نوع من الإنفاق في سبيل الله، أو أنّهم تأولوا المعنى بقولهم: إنّ أصل وجوب الزكاة نزل في مكّة، إلاّ أنّ حدودها ومقدارها والنصاب الشرعي لها نزل تحديده في العام الثّاني من الهجرة المباركة.

يتبيّن من كلّ ما سلف أنّ أقرب مفهوم لمقصود الزكاة في الآية هو المعنى العام للإنفاق، أما كون ذلك من علائم الشرك، فيكون بسبب أنّ الإنفاق المالي في سبيل الله يعتبر من أوضح علامات الإيثار والحب لله، لأنّ المال يعتبر من أحبّ الأشياء إلى قلب الإنسان ونفسه، وبذلك فإنّ الإنفاق ـ وعدمه ـ يمكن أن يكون من الشواخص الفارقة بين الإيمان والشرك، خصوصاً في تلك المواقف التي يكون فيها المال بالنسبة للإنسان أقرب إليه من روحه و نفسه، كما نرى ذلك واضحاً في بعض الأمثلة المنتشرة في حياتنا.

بعبارة اُخرى: إنّ المقصود هنا هو ترك الإنفاق الذي يعتبر أحد علامات عدم إيمانهم بالخالق جلّ وعلا، والأمر من هذه الزاوية بالذات يقترن بشكل متساوي مع عدم الإيمان بالمعاد، أو يكون ترك الزكاة ملازماً لإنكار وجوبه.

وثمّة ملاحظة اُخرى تساعد في فهم التّفسير، وهي أنّ الزكاة لها وضع خاص في الأحكام والتعاليم الإسلامية، وإعطاء الزكاة يعتبر علامة لقبول الحكومة الإسلامية والخضوع لها، وتركها يعتبر نوعاً من الطغيان ولمقاومة في وجه الحكومة الإسلامية، و نعرف أنّ الطغيان ضدّ الحكومة الإسلامية يوجب الكفر.

والشاهد على هذا المطلب ما ذكره المؤرخون من «اصحاب الرّدة» وأنّهم من

[355]

«بني طي» و «غطفان» و«بني اسد» الذين امتنعوا عن دفع الزكاة لعمال الحكومة الإسلامية في ذلك الوقت، وبهذا رفعوا لواء المعارضة فقاتلهم المسلمون وقضوا عليهم.

صحيح أنّ الحكومة الإسلامية لم يكن لها وجود حين نزول هذه الآية ولكن هذه الآية يمكنها أن تكون إشارة مجملة الى هذه القضية.

وقد ذكر في التواريخ أن أهل الردّة قالوا بعد وفاة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): «أمّا الصلاة فنصلي، وأمّا الزكاة فلا يغصب أموالنا» وهكذا رأى المسلمون ضرورة قتالهم وقمع الفتنة.

الآية الآخيرة تقوم بتعريف مجموعة تقف في الجانب المقابل لهؤلاء المشركين البخلاء، وتتعرض إلى جزائهم حيث يقول تعالى: (إنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون).

«ممنون» مشتق من «منّ» وتعني هنا القطع أو النقص، لذا فإنّ غير ممنون تعني هنا غير مقطوع أو منقوص.

وقيل إنّ مصطلح «منون» ـ على وزن «زبون» ـ ويعني الموت مشتق من هذه المفردة، وكذلك المنّة باللسان، لأنّ الأوّل يعني القطع ونهاية العمر، بينما الثاني يعني قطع النعمة والشكر(1).

وذهب بعض المفسّرين إلى القول بأنّ المقصود بـ (غير ممنون) أنّه لا توجد أيّ منّة على المؤمنين فيما يصلهم من أجر وجزاء وعطاء. لكن المعنى الأوّل أنسب.

* * *

____________________________________

1 ـ يلاحظ مادة «من» في مفردات الراغب.

[356]

ملاحظة

الأهمية الإستثنائية للزكاة في الإسلام:

الآية أعلاه تعتبر تأكيداً مجدّداً وشديداً حول أهمية الزكاة كفريضة إسلامية، سواء كانت بمعنى الزكاة الواجبة أو بمفهومها الواسع، وينبغي أن يكون ذلك، لأنّ الزكاة تعتبر أحد الأسباب الرئيسية لتحقيق العدالة الإجتماعية، ومحاربة الفقر والمحرومية، وملء الفواصل الطبقية، بالإضافة إلى تقوية البنية المالية للحكومة الإسلامية، وتطهير النفس من حبّ الدنيا وحبّ المال، والخلاصة: إنّ الزكاة وسيلة مثلى للتقرب إلى الله تبارك وتعالى:

وقد ورد في الروايات الإسلامية أن ترك الزكاة يعتبر بمنزلة الكفر، وهو تعبير يشبه ماورد في الآية التي نحن بصددها.

وفي هذا المجال نستطيع أن نقف مع الأحاديث الآتية:

أوّلا: في حديث عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنّ من وصايا رسول الله لأمير المؤمنين على بن أبي طالب قوله له: «يا علي كفر بالله العظيم من هذه الأُمّة عشرة، وعدّ منهم مانع الزكاة... ثمّ قال: يا علي من منع قيراطاً من زكاة ماله فليس بمؤمن ولا مسلم ولا كرامة، يا علي: تارك الزكاة يسأل الله الرجعة إلى الدنيا، وذلك قوله عزّوجلّ: (حتى إذا جاء أحد هم الموت قال رب ارجعون...)(1).

ثانياً: في حديث آخر عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال: «إنّ الله عزّوجلّ فرض للفقراء في أموال الأغنياء فريضة لا يحمدون إلا بأدائها، وهي الزكاة، بها حقنوا دماءهم وبها سموا مسلمين»(2).

____________________________________

1 ـ وسائل الشيعة، المجلد السادس، الصفحات 18 و19 «باب ثبوت الكفر والإرتداد والقتل بمنع الزكاة استحلالا وجحوداً» وقد اعتبر بعض الفقهاء كصاحب الوسائل مثلا، أنّ الروايات أعلاه تختص بإنكار الزكاة.

2 ـ المصدر السابق.

[357]

ثالثاً: أخيراً نقرأ في حديث عن الإمام الصادق(عليه السلام) قوله: «من منع قيراطاً من الزكاة فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً»(1).

وتقدم بحث مفصل عن أهمية الزكاة في الإسلام وفلسفتها و تأريخ وجوب الزكاة في الإسلام، وكل ما يتعلق بهامن أُمور، في تفسير الآية (60) من سورة التوبة.

 

* * *

____________________________________

1 ـ المصدر السابق.

[358]

الآيات

قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِى خَلَقَ الاَْرْضَ فِى يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَـلَمِينَ( 9 ) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَسِىَ مِن فَوْقِهَا وَبَـرَكَ فِيهَآ وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَتَهَا فِى أَرْبَعَةِ أَيَّام سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ( 10 ) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِىَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَللاَِرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ ( 11 )فَقَضَـهُنَّ سَبْعَ سَمَـوَات فِى يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِى كُلِّ سَمَآء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِمَصَـبِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ( 12 )

 

التّفسير

مراحل خلق السماوات والأرض:

الآيات أعلاه نماذج للآيات الآفاقية، وعلائم العظمة، وقدرة الخلق جلّوعلا في خلق الأرض والسماء، وبداية خلق الكائنات، حيث يأمر تعالى النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) بمخاطبة الكافرين والمشركين وسؤالهم: هل يمكن إنكار خالق هذه

[359]

العوالم الواسعة العظيمة؟

لعلّ هذا الأسلوب يوقظ فيهم إحساسهم ووجدانهم فيحتكمون للحق.

يقول تعالى: (قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين). وتجعلون لله تعالى شركاء ونظائر: (وتجعلون له أنداداً).

إنّه لخطأ كبير، وكلام يفتقد إلى الدليل. (ذلك ربّ العالمين).

إنّ الذي يدبّر أُمور هذا العالم، أليس هو خالق السماء والأرض؟ فإذا كان سبحانه وتعالى هو الخالق، فلماذا تعبدون هذه الأصنام وتجعلونها بمنزلته؟!

إنّ الذي يستحق العبادة هو الذي يقوم بالخلق والتدبير، ويملك هذا العالم ويحكمه.

الآية التى تليها تشير إلى خلق الجبال والمعادن وبركات الأرض والمواد الغذائية، حيث تقول: (وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيّام) وهذه المواد الغذائية هي بمقدار حاجة المحتاجين: (سواء للسائلين)(1).

وبهذا الترتيب فإنّ تبارك وتعالى قد دبّر لكلّ شيء قدره وحاجته، وليس ثمّة في الوجود من نقص أو عوز، كما في الآية (50) من سورة «طه» حيث قوله تعالى: (ربّنا الذي أعطى كلّ شيء خلقه ثمّ هدى).

المقصود من «السائلين» هنا هم الناس، أو أنّها تشمل بشكل عام الإنسان والحيوان والنبات [ وإذا ذكرت بصيغة الجمع للعاقل فهي من باب التغليب].

ووفق هذا التّفسير فإنّ الله تعالى لم يحدّد احتياجات الإنسان لوحده منذ البداية وحسب، وإنّما فعل ذلك للحيوانات والنباتات أيضاً.

____________________________________

1 ـ هناك احتمالات متعدّدة حول محل (سواء) و (للسائلين) من الأعراب وبما تختص.

الأوّل: أنّ (سواء) حال بـ (أقوات) و(للسائلين) متعلق بـ (سواء) وتكون النتيجة هي التّفسير الذي أوردناه أعلاه.

الثّاني: أنّ (سواء) صفة للأيام، يعني أنّ هذه المراحل الأربع تتساوى فيما بينها. وأما (للسائلين) فإما أن تتعلق بـ (قدر) أو بمحذوف ويكون التقدير (كائنة للسائلين) يعني أنّ الأيّام الأربع هذه تعتبر جواباً للسائلين. لكن التّفسير الأوّل أوضح.

[360]

وهنا يثار هذا السؤال: تذكر الآيات القرآنية ـ أعلاه ـ أنّ خلق الأرض تمّ في يومين، وخلق الجبال والبركات والطعام في أربعة أيّام. و بعد ذلك خلق السماوات في يومين، وبذا يكون المجموع ثمانية أيّام، في حين أن أكثر من آية في كتاب الله تذكر أنّ خلق السماوات والأرض تمّ في ستة أيّام، أو بعبارة اُخرى: في ستة مراحل(1)؟

سلك المفسّرون طريقان في الإجابة على هذا السؤال:

الطريق الأوّل: وهو المشهور المعروف، ومفاده أنّ المقصود بأربعة أيّام هو تتمة الأربعة أيّام، بأن يتم في اليومين الأولين من الأربعة خلق الأرض، وفي اليومين الآخرين خلق باقي خصوصيات الأرض. مضافاً إلى ذلك اليومين لخلق السماوات، فيكون المجموع ستة أيّام أو ست مراحل.

وشبيه ذلك مايرد في اللغة العربية من القول مثلا بأنّ المسافة من هنا إلى مكّة يستغرق قطعها عشرة أيّام، وإلى المدينة المنورة (15) يوماً، أي إنّ المسافة بن مكّة والمدينة تكون خمسة أيام ومن هنا إلى مكّة عشرة أيّام(2).

وهذا التّفسير صحيح لوجود مجموعة الآيات التي تتحدث عن الخلق في ستة أيّام، وإلاّ ففي غير هذه الحالة لا يمكن الركون له، من هنا تتبين أهمية ما يقال من أنّ القرآن يفسّر بعضه بعضاً.

الطريق الآخر الذي اعتمده المفسّرون للإجابة على الإشكال أعلاه هو قولهم: إنّ أربعة أيّام لاتختص ببداية الخلق، بل هي إشارة إلى الفصول الأربعة للسنة، والتي هي بداية ظهور الأرزاق ونمو المواد الغذائية التي تنفع الإنسان

____________________________________

1 ـ يمكن مراجعة الآيات (54) من سورة الأعراف و(3) من سورة هود و(59) من سورة الفرقان و(4) من سورة السجدة و(38) سورة ق و(4) من سورة الحديد.

2 ـ في ضوء هذا التفسير يكون للآية تقديرها بالصيغة الآتية... وقدّر فيها أقواتها في تتمة أربعة أيّام أو يكون التقدير كما جاء في تفسير «الكشاف»: «كل ذلك في أربعة أيّام».

[361]

والحيوان(1).

لكن هذا التّفسير فضلا عن أنّه لا يلائم الآيات أعلاه، فإنّه أيضاً يقصر «اليوم» فيما يتعلق بالأرض ولمواد الغذائية وحسب، لأنّ معناه يتعلق بالفصول الأربعة فقط، بينما لاحظنا أن «يوم» في معنى خلق السماوات والأرض يعني بداية مرحلة!

مضافاً لذلك تكون النتيجة اختصاص يومين من الأيّام الستة لخلق الأرض، ويومين آخرين لخلق السماوات، أمّا اليومان الباقيان اللذان يتعلقان بخلق الكائنات بين السماء والأرض «ما بينهما» فليس هناك إشارة إليهما!

من كلّ ذلك يتبيّن أنّ التّفسير الأوّل أجود.

وقد لا تكون هناك حاجة للقول بأنّ «اليوم»في الآيات أعلاه هو حتماًغير اليوم العادي، لأنّ اليوم بالمعنى العادي لم يكن قد وجد قبل خلق السماوات والأرض، بل المقصود بذلك هو مراحل الخلق التي استنفذت من الزمن أحياناً ملايين بل وبلايين السنين.(2)

* * *

 

ملاحظتات

تبقى أمامنا ملاحظتان ينبغي أن نشير إليهما:

أوّلا: ما هو المقصود من قوله تعالى: (بارك فيها)؟

الظاهر أنّها إشارة إلى المعادن والكنوز المستودعة في باطن الأرض، وما على الأرض من أشجار وأنهار ونباتات ومصادر للماء الذي هو أساس الحياة والبركة، حيث تستفيد منها جميع الاحياء الأرضية.

____________________________________

1 ـ ثمّة حديث بهذا المضمون في تفسير علي بن إبراهيم.

2 ـ راجع الآية (54) من سورة الأعراف.

[362]

ثانياً: بما تتعلق الايام الاربعة في عبارة: (في أربعة أيّام) ؟

بعض المفسّرين يعتقد أنّها تخص «الأقوات» فقط. لكنّها ليست كذلك، بل تشمل الأقسام الثلاثة المذكورة في الآية (أي خلق الجبال، خلق المصادر وبركات الأرض، خلق الموارد الغذائية) لأنّه ـ خلافاً لذلك ـ فإنّ بعض هذه الأمور سوف لا تدخل في الأيام الواردة في الآيات أعلاه، وهذا أمر لا يتناسب مع نظم الآيات ونظامها.

بعد الإنتهاء من الكلام عن خلق الأرض ومراحلها التكاملية، بدأ الحديث عن خلق السماوات حيث تقول الآية: (ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً).

فكانت الإجاية: (قالتا أتينا طائعين).

وفي هذه الأثناء: (فقضاهن سبع سموات في يومين) ثم: (وأوحى في كلّ سماء أمرها) وأخيراً: (وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظاً) نعم: (ذلك تقدير العزيز العليم).

في الآيتين المتقدمتين تستلفت النظر عشر ملاحظات سنقف عليها خلال النقاط الآتية، التي ننهي من خلالها البحث في هذه المجموعة من الآيات، وهي:

أولا: كلمة «ثم» تأتي عادة للإشارة إلى التأخير في الزمان، وتأتي أحياناً للدلالة على التأخير في البيان. فإذا كان المعنى الأوّل هو المقصود فسيكون المفهوم هو أنّ خلق السماوات تمّ بعد خلق الأرض وخلق الجبال والمعادن والمواد الغذائية. أما إذا كان المعنى الثّاني هو المقصود، فليس هناك مانع من أن تكون السماوات قد خلقت وبعدها تمّ خلق الأرض، ولكن عند البيان ذكرت الآية أوّلا خلق الأرض والأرزاق ومصادرها التي يحتاجها البشر، ثمّ عرجت إلى ذكر قضية خلق السماء.

المعنى الثّاني بالإضافة إلى أنّه أكثر تناسقاً وانسجاماً مع الإكتشافات العلمية،

[363]

فهو أيضاً يتفق مع الآيات القرآنية الأُخرى، كقوله تعالى في الآيات (27ـ33) من سورة «النازعات»: (أأنتم أشد خلقاً أم السماء بناها رفع سمكها فسواها واغطش ليلها وأخرج ضحاها والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها متاعاً لكم ولأنعامكم).

إنّ هذه المجموعة من الآيات الكريمة تكشف بوضوح أنّ دحو وتوسيع الأرض وتفجر العيون ونبات الأشجار والموارد الغذائية، قد تمّ جميعاً بعد خلق السماوات. أما لو فسّرنا معنى «ثم» بالتأخير في الزمان، فعلينا أن نقول: إنّ كلّ تلك قد تكونت قبل خلق السماء، وهذا يتنافى مع المعنى الواضح للمراد من قوله تعالى: (بعد ذلك) أي أن كلّ ما ذكر قد تم خلقه بعد ذلك (أي بعد السماوات). وبذلك نفهم أن (ثم) هنا قد استخدمت للتدليل على التأخير البياني(1).

ثانياً: «استوى» من «استواء» وتعني الإعتدال أو مساواة شيئين ببعضهما، ولكن ذهب علماء اللغة والتّفسير إلى أنّ هذه الكلمة عندما تتعدّى بـ «على» يصبح معناها الإستيلاء والتسلّط على شيء مامثل (الرحمن على العرش أستوى)(2).

وعندما تتعدى بـ «إلى» فهي تعني القصد، كما في الآية التي نبحثها (ثم استوى إلى السماء) اي قصد الى السماء.

ثالثاً: جملة «هي دخان» تبيّن أن بداية خلق السماوات كان من سحب الغازات الكثيفة الكثيرة، وهذا الأمر يتناسب مع آخر ما توصلت إليه البحوث العلمية بشأن بداية الخلق والعالم.

والآن فإنّ الكثير من النجوم السماوية هي على شكل سحب مضغوطة من الغازات والدخان.

____________________________________

1 ـ أما ما نقل عن ابن عباس من قوله: إنّ خلق الأرض كان قبلا، وأما «دحو الأرض» فجاء بعد ذلك، فهو لا يحل المشكلة، وكأن ابن عباس لم يهتم عما بعد الآية من حديث عن خلق الجبال والمواد الغذائية!

2 ـ طه، الآية 5.

[364]

رابعاً: قوله تعالى: (فقال لها وللأرض أئتيا طوعاً أو كرهاً) لا تعني أن كلاماً قد جرى باللفظ، وإنّما قول الخالق وأمره هو نفسه الأمر التكويني، وهو عين إرادته في الخلق. أما التعبير بـ «طوعاً أو كرهاً» فهو إشارة إلى أنّ الإرادة الإلهية الحتمية قد ارتبطت يتكوّن السماوات والأرض. والمعنى أنّه يجب أن يحدث هذا الأمر شاءت أم أبت.

خامساً: الجملة في قوله تعالى: (أتينا طائعين) تشير إلى أنّ المواد التي تتشكل منها السماء والأرض من ناحية التكوين والخلقة، كانت مستسلمة تماماً لإرادة الله وأمره، فتقبلت شكلها المطلوب ولم تعترض أمام هذا الأمر الإلهي مطلقاً.

ومن الواضح أنّ هذا الأمر وهذا الإمتثال ليس لهما طبيعة تكليفية وتشريعية، بل حدثت بمحض التكوين فقط.

سادساً: قوله تعالى: (فقضاهن سبع سماوات في يومين) يشير إلى وجود مرحلتين في خلق السماوات، كلّ مرحلة استمرت لملايين أو مليارات السنين، وكل مرحلة تتضمن مراحل اُخرى، ومن المحتمل أن تكون هاتان المرحلتان هما مرحلة تبديل الغازات المضغوطة إلى سوائل ومواد مذابة، ثمّ مرحلة تبديل المواد المذابة إلى مواد جامدة.

كلمة «يوم» استخدمت هنا ـ كما أشرنا سابقاً ـ بمعنى مرحلة، وهو ممّا يشبع استخدامه في عدّة لغات، ويشبع استخدامه أيضاً في كلامنا اليومي، فعندما تقول مثلا: يوم لك ويوم عليك، إنّما تشير إلى مراحل الحياة المختلفة. (هناك بحث مفصل حول هذا الموضوع في نهاية تفسير الآية (54) من سورة الأعراف).

سابعاً: إنّ العدد «سبع» ربّما جاء هنا للكثرة، بمعنى أنّ هناك سماوات كثيرة وأجرام كثيرة. ومن المحتمل أن يكون الرقم للعدد، أي إن عدد السماوات هي سبع بالتحديد. ومع هذا التقييد فإنّ جميع ما نرى من كواكب ونجوم ثابتة وسيّارة هي

[365]

من السماء الأولى، وبذلك يكون عالم الخلقة متشكلا من سبع مجموعات كبرى، واحدة منها فقط أمام أنظار البشرية، وإنّ الأجهزة العلمية الفلكية الدقيقة وبحوث الإنسان، لم تتوصل إلى ما هو أبعد من السماء الأولى.

ولكن كيف تكون العوالم الستة لأخرى؟ وممّ تتشكّل؟ فهو أمر لا يعلمه إلاّ الله تعالى.

والمعتقد هنا أنّ هذا التّفسير هو الأصح. (في هذا الموضوع يمكن مراجعة نهاية تفسير الآية (29) من سورة البقرة).

ثامناً: قوله تعالى: (وأوحى في كلّ سماء أمرها) تشير إلى أنّ المسألة لم تنته بخلق السماوات وحسب، بل إنّ في كل منها مخلوقات وكائنات ونظام خاص وتدبير معين، بحيث أن كلّ واحدة تعتبر بحد ذاتها دليلا على العظمة والقدرة والعلم.

تاسعاً: قوله تعالى: (وزينا السماء الدنيا بمصابيح) تدل على أنّ جميع النجوم زينة للسماء الأولى، وتبدو في نظر الإنسان كالمصابيح المعلقة في سقف هذه السماء الزرقاء، وهي ليست للزينة وحسب، حيث تجذب بتلألؤها الخاص المتعاقب قلوب عشاق أسرار الخلقة، بل في الليالي المعتمة تكون مصابيح للتائهين وأدلة لمن يسير في الطريق، تعينهم على تعيين اتجاه الحركة.

أمّا «الشهب» التي تظهر كنجوم سريعة تظهر في السماء بوميض سريع قبل أن تنطفىء، فهي في الواقع سهام تستقر في قلوب الشياطين وتحفظ السماء من نفوذهم. (راجع تفسير الآية 17 من سورة الحجر ونهاية الآية السابعة من سورة الصافات).

عاشراً: قوله تعالى: (ذلك تقدير العزيز العليم) تكملة للجمل التسع السابقة، وتشكل بمجموعها عشرة كاملة، تقول: إنّ ما حدث في السماء والأرض منذ بداية الخلق إلى مرحلة التشكّل والنظام الدقيق، كان وفق برنامج محسوب ومقدّر، تمّ

[366]

تنظيمه من قبل المبدأ الأزلي ذي العلم والقدرة المطلقتين، وإن أي تفكير في أي بحر من هذه البحور يقودنا نحو المبدأ العظيم جلّت قدرته.

 

* * *

 

[367]

الآيات

فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَـعِقَةً مِّثْلَ صَـعِقَةِ عَاد وَثَمُودَ( 13 ) إِذْ جَآءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللهَ قَالُواْ لَوْ شَآءَ رَبُّنَا لاََنْزَلَ مَلَـئِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَـفِرُونَ( 14 ) فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُواْ فِى الاَْرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللهَ الَّذِى خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُواْ بِآيَـتِنَا يَجـحَدُونَ( 15 ) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِى أَيَّام نَّحِسَات لِّنُذِْيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْىِ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الاَْخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لاَ يُنْصَرُونَ( 16 )

 

التّفسير

أحذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود!

بعد البحث المهم الذي تضمّنته الآيات السابقة حول التوحيد ومعرفة الخالق جلّ وعلاه تنذر الآيات ـ التي بين أيدينا ـ المعارضين والمعاندين الذين تجاهلوا كلّ هذه الدلائل الواضحة والآيات البينات، وتحذرهم أن نتيجة الإعراض نزول

[368]

العذاب بهم، يقول تعالى: (فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود)(1).

عليكم أن تخافوا هذه الصاعقه المميتة المحرقة التي اذا نزلت بساحتكم تفنيكم وتحل بداركم الدمار.

لاحظنا في بداية هذه السورة المباركة أنّ بعض زعماء الشرك في مكّة مثل «الوليد بن المغيرة» وبرواية اُخرى «عتبة بن ربيعة» جاءوا إلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)للتحقيق حول القرآن ودعوة الرّسول وطرحوا عليه بعض الأسئلة وفي سياق إجابة رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) لهم تلا عليهم الآيات الاُولى من هذه السورة، وعندما وصل النّبي في تلاوته إلى الآيات أعلاه وهدّدهم بصاعقة مثل صاعقة عاد وثمود، ارتعشت أجسادهم و أصيبوا بالخوف بحيث أنّهم لم يكونوا قادرين على الإستمرار في الكلام، لذلك عادوا إلى قومهم وذكروا لهم تأثرهم العميق واضطرابهم ووجلهم من هذه الكلمات.

«الصاعقة» كما يقول الراغب في المفردات، تعني الصوت المهيب في السماء، ويشتمل على النّار أو الموت أو العذاب. (ولهذا السبب تطلق الصاعقة على الموت أحياناً، وعلى النّار في أحيان اُخرى).

والصاعقة ـ وفقاً للتحقيقات العلمية الراهنة ـ هي شرارة كهربائية عظيمة تحدث بين مجموعة من الغيوم التي تحمل الشحنات الكهربائية الموجبة، وبين الأرض التي تكون شحنتها «سالبة» وتصيب عادة قمم الجبال والأشجار وأي شيء مرتفع، وفي الصحاري المسطحة تصيب الإنسان والأنعام، كما أن حرارتها شديدة للغاية بحيث أنّها تحيل أي شيء تصيبه إلى رماد، وتحدث صوتاً مهيباً وهزّة أرضية قوية في المكان الذي تضربه.

____________________________________

1 ـ «الفاء» في «فإن اعرضوا» هي «فاء التفريع» كما قيل، بناءاً على ذلك فإنّ هذا الإنذار الحاسم يعتبر فرعاً ونتيجة للإعراض عن الآيات التوحيدية السابقة.

[369]

الله تبارك وتعالى ـ كما تنص على ذلك آيات القرآن ـ عاقب بعض الأقوام الأشقياء من الأمم السابقة بالصاعقة.

والطريف هنا أنّ عالم اليوم برغم التقدم الهائل في العلوم، بقي عاجزاً عن اكتشاف وسيلة لمنع الصاعقة.

وسيبقى هذا السؤال: لماذا ذكرهنا قوم عاد وثمود من بين جميع الأقوام السابقة؟

السبب يعود إلى أنّ العرب كانوا على اطّلاع بخبر أُولئك الأقوام، وكانوا قد شاهدوا بأعينهم آثار مدنهم المدّمرة، إضافة إلى أنّهم كانوا يعرفون أخطار الصواعق، لأنّهم يعيشون في الصحراء والبادية.

يواصل الحديث القرآني سياقه بالقول: (إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم ألا تعبدوا إلا الله).

إنّ استخدام تعبير (من بين أيديهم و من خلفهم) هو إشارة إلى ما ذكرناه أعلاه من أنّ الأنبياء قد استخدموا جميع الوسائل والأساليب لهدايتهم، وحاولوا طرق كلّ الأبواب حتى ينفذوا إلى قلوبهم المظلمة.

وقد يكون التعبير إشارة إلى الأنبياء الذين بعثوا خلال أزمنة مختلفة إلى هؤلاء الأقوام، وطرحوا عليهم نداء التوحيد.

لكن لنرى ماذا كان جوابهم حيال هذه الجهود العظيمة الواسعة لرسل الله تعالى؟

يقول تعالى: (قالوا لو شاء ربّنا لأنزل ملائكة) لإبلاغ رسالته بدلا من إرسال الناس.

والآن وما دام الأمر كذلك: (فإنا بما أرسلتم به كافرون). وما جئتم به  لا  نعتبره من الله!

إنّ مفهوم هذا الكلام لا يعني إيمان هؤلاء بأنّ هؤلاء رسل الله حقّاً، و.أنّهم

[370]

 لا يؤمنون بهم، وإنّما مفهوم الكلام رفض هؤلاء دعوة الرسل في أنّهم مبلغوا رسالات الله من الاساس، حيث حملوهم على الكذب والإدّعاء. (ذلك فإنّ جملة (بما أرسلتم به )هي للإستهزاء أو السخرية، أو أن يكون المقصود بها هو: طبقاً لإدعائكم بأنّكم رسل الله تبلغون عنه).

إنّها نفس الذريعة التي ينقلها القرآن مراراً على لسان منكري النبوات ورسالات الله ومكذبي الرسل، من الذين كانوا يتوقعون أن يكون الأنبياء دائماً ملائكة، وكأنما البشر لا يستحقون مثل هذا المقام.

مثال ذلك قولهم في الآية(7) من سورة الفرقان: (وقالوا ما لهذا الرّسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيراً).

إنّ قائد البشر يجب أن يكون من صنف البشر، كي يعرف مشاكل الإنسان واحتياجاته ويحس آلامهم و يتفاعل مع قضاياهم، وكي يستطع أن يكون القدوة والأسوة، لذلك يصرح القرآن في الآية (9) من سورة «الأنعام» بقوله تعالى: (ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلا).

بعد المجمل الذي بينته الآيات أعلاه، تعود الآيات الآن ـ كما هو أسلوب القرآن الكريم ـ إلى تفصيل ما أوجز من خبر قوم عاد وثمود، فتقول: (فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشدّ منّا قوّة).

إنّ هؤلاء القوم كانوا يعيشون في أرض «الأحقاف» من (حضرموت) جنوب الجزيرة العربية، وكانوا يتصفون بوضع استثنائي فريد من حيث القوّة الجسمانية والمالية والتمدّن المادي، فكانوا يبنون القصور الجميلة والقلاع المحكمة، خاصة في الأماكن المرتفعة حيث يرمز ذلك إلى قدرتهم و يكون وسيلة لإستعلائهم.

لقد كانوا رجالا مقاتلين أشدّاء، فأصيبوا بالغرور بسبب قدراتهم الظاهرية ومجدهم المادي، حتى ظنّوا أنّهم أفضل من الجميع، وأنّ قوّتهم لا تقهر، ولذلك قاموا بتكذيب الرسل والإنكار عليهم، وتكالبوا على نبيّهم «هود».

[371]

لكن القرآن يرد على هؤلاء ودعواهم بالقول: (أو لم يروا أنّ الله الذي خلقهم هو أشدّ منهم قوّة).

أليس الذي خلقهم خلق السماوات والأرض؟

بل هل يمكن المقايسة بين هاتين القدرتين، فأين القدرة المحدودة الفانية من القدرة المطلقة اللامتناهية الأزلية؟!

ما للتراب وربّ الأرباب(1)؟!

تضيف الآية في النهاية قوله تعالى: (وكانوا بآياتنا يجحدون).

نعم، إنّ الإنسان الضعيف المحدود سوف يطغى بمجرّد أن يشعر بقليل من القدرة والقوة، وأحياناً بدافع من جهله، فيتوهم أنّه يصارع الله جلّ وعلا!!

لكن ما أسهل أن يبدل الله عوامل حياته إلى موت ودمار، كما تخبرنا الآية عن مآل قوم عاد: (فأرسلنا عليهم ريحاً صرصراً في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحيوة الدنيا).

إنّ هذه الريح الصرصر، وكما تصرح بذلك آيات اُخرى، كانت تقتلعهم من الأرض بقوّة ثمّ ترطمهم بها، بحيث أصبحوا كأعجاز النخل الخاوية. (يلاحظ الوصف في سورة «القمر» الآية 19ـ20 وسورة الحاقة الآية 6 فما بعد).

لقد استمرت هذه الريح سبع ليال وثمانية أيّام، وحطّمت كيانهم وكل وسائل عيشهم، نكالا بما ركبوا من حماقة وعلو وغرور، ولم يبق منهم سوى أطلال تلك القصور العظيمة، وآثار تلك الحياة المرفهة.

هذا في الدنيا، وهناك في الآخرة: (ولعذاب الآخرة أخزى).

إنّ العذاب الأخروي هو في الواقع كالشرارة في مقابل بحر لجي من النّار.

____________________________________

1 ـ إنّ هذا التعبير يشبه في الواقع جملة: «الله أكبر» حيث تقوم بتعريف الله (جلّ وعلا) بأنّه أعظم وأكبر من جميع الموجودات، ذلك أنّنا نعلم أن لا قياس بين الإثنين (التراب ورب الأرباب) ولكن الله يتحدّث إليها بلساننا، لذلك نرى أمثال هذه الألفاظ والتعابير في كلامه تعالى

[372]

والأنكى من ذلك أن ليس هناك من ينصرهم: (وهم لا ينصرون).

فبعد عمر من الجد والعمل في سبيل التظاهر بالعظمة والعلو، يصيبهم الله تعالى بعذاب أذلهم في هذه الدنيا، وفي العالم الآخر ينتظرهم ما هم أشد و أصعب!

«صرصر»: على وزن (دفتر) مشتقّة في الأصل من كلمة «صُرّ» على وزن «شرّ» وتعني الغلق بإحكام، لذا تستعمل كلمة «صرّه» للكيس الذي يحتوي على المال وهو مغلق بشكل جيّد. ثمّ أطلقت على الرياح الباردة جداً، أو التي فيها صوت عال، أو الرياح المسمومة القاتلة. وقد تكون الرياح العجيبة التي شملت قوم «عاد» تحمل كلّ هذه الصفات جميعاً.

(أيّام نحسات) تعني الأيام المشؤومة التي اعتبرها البعض بأنّها الأيّام المليئة بالتراب والغبار، أو الأيّام الباردة جداً، وهذه المعاني يمكن أن تكون مرادة من الآيات التي نحن بصددها.

لقد أشار أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) في خطب نهج البلاغة إلى قصة عاد، كي تكون درساً أخلاقياً تربوياً يتعظ منه الأخرون. يقول(عليه السلام): «واتعظوا فيها بالذين قالوا: من أشدّ منّا قوّة؟ حملوا إلى قبورهم، فلا يدعون ركباناً، وأنزلوا الأجداث فلا يدعون ضيفاناً، وجعل لهم من الصفيح أجنان، ومن التراب أكفان، ومن الرفات جيران»(1).

* * *

 

ملاحظتان

أوّلا: ما هي وسيلة فناء قوم عاد؟

وفقاً للآية (13) من هذه السورة، فإنّ قوم عاد وثمود أهلكوا بالصاعقة. في حين أنّ الآيات التي نبحثها تقول: إنّهم أبيدوا بالريح الصرصر العاتية، فهل هناك

____________________________________

1 ـ نهج البلاغة: الخطبة رقم (111).

[373]

تعارض بين الاثنين؟

في الجواب ذكر المفسّرون وعلماء اللغة معنيين للصاعقة، أحدهما عام، والآخر خاص.

فالصاعقة بمعناها العام تعني أي شيء يهلك الإنسان، وهي كما يقول العلاّمة الطبرسي في مجمع البيان: «المهلكة من كلّ شيء».

أمّا المعنى الخاص، فالصاعقة شرارة عظيمة من النّار تنزل من السماء، وتحرق كلّ ما يوجد في طريقها، كما وضحنا ذلك آنفاً.

بناءً على هذا، لو كانت الصاعقة بالمعنى الأوّل فلا تعارض بينها وبين الرياح القوية.

يقول الراغب في المفردات: «قال بعض أهل اللغة: الصاعقة على ثلاثة أوجه: الموت كقوله: (فصعق من في السموات ومن في الأرض) وقوله: (فأخذتهم الصاعقة)والعذاب كقوله: (أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود)والنّار كقوله: (ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء) وما ذكره فهو أشياء حاصلة من الصاعقة فإن الصاعقة هي الصوت الشديد من الجوّ، ثمّ يكون منه نار فقط أو عذاب أو موت وهي في ذاتها شيء واحد وهذه الأشياء تأثيرات منها».

وثمة احتمال آخر، هو أن قوم عاد قد شملهم نوعان من العذاب: الأوّل الرياح الشديدة التي دمّرت كلّ شيء والتي سلطها الله عليهم أيّاماً عديدة، ثم جاء بعد ذلك دور الصاعقة النّارية المميتة التي شملتهم بأمرالله.

لكن المعنى الأوّل يبدو أكثر تناسباً مع الموضوع، خصوصاً إذا لاحظنا الآيات الأُخرى التي تتحدث عن عقاب قوم عاد وهلاكهم. (راجع الآيات في سورة الذاريات ـ آية41، وسورة الحاقة ـ آية6، والقمر الآيتان «18» و«19»).

 

[374]

ثانياً: أيام قوم عاد النحسة

البعض يعتقد أنّ أيّام السنة نوعان: أيّام نحسة مشؤومة، وأيام سعيدة مباركة. ويستدلون على ذلك بالآيات أعلاه، فيقولون: هناك تأثيرات مجهولة تؤثر في الليالي والأيّام، ونشعر نحن بآثار ذلك، بينما أسبابها ما تزال مبهمة بالنسبة لنا.

وقال البعض: إنّ الأيام النحسة في الآية التي نبحثها هي الأيّام المملوءة بالتراب والغبار.

وقوم عاد قد أصيبوا بمثل هذه الرياح الشديدة بحيث باتوا لا يرى أحدهم الآخر، كما تفيد ذلك الآيتان (24ـ25) من سورة «الأحقاف» في قوله تعالى: (فلّما رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم، تدمّر كلّ شيء بأمر ربّها فأصبحوا لا يرى إلاّ مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين).

وسوف نقوم ببحث مفصل حول مفهوم الأيّام النحسة والأيّام السعيدة، في نهاية حديثنا عن الآية (19) من سورة القمر، إن شاء الله تعالى.

 

* * *

 

[375]

الآيتان

وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَـهُمْ فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صَـعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ( 17 ) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَكَانَواْ يَتَّقُونَ( 18 )

 

التّفسير

عاقبة قوم ثمود:

بعد أن تحدثت الآيات السابقة عن قوم عاد، تبحث هاتان الآيتان في قضية قوم ثمود ومصيرهم، حيث تقول: إنّ الله قد بعث الرسل والأنبياء لهم مع الدلائل البينة، إلاّ أنّهم: (وأمّا ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى).

لذلك: (فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون).

وهؤلاء مجموعة تسكن «وادى القرى» (منطقة بين الحجاز والشام) وقد وهبهم الله أراضي خصبة خضراء مغمورة، وبساتين ذات نعم كثيرة، وكانوا يبذلون الكثير من جهدهم في الزراعة. ولقد وهبهم الله العمر الطويل والأجسام القوية، وكانوا مهرة في البناء القوي المتماسك، حيث يقول القرآن عنهم في ذلك: (وكانوا

[376]

ينحتون من الجبال بيوتاً آمنين)(1).

لقد جاءهم نبيّهم بمنطق قوي وقلب ملؤه الحبّ، ومعه المعاجز الإلهية، إلاّ أنّ هؤلاء القوم المغرورين المستعلين لم يرفضوا دعوته ـ وحسب ـ بل آذوه وأتباعه القليلين، لذلك شملهم الله بعقابه في الدنيا، ولن يغني ذلك عن عذاب الآخرة شيئاً.

نقرأ في الآية (78) من سورة الأعراف أنّهم أصيبوا بزلزلة عظيمة، فبقيت أجسادهم في المنازل بدون حراك: (فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين).

وفي الآية (5) من سورة الحاقة قوله تعالى بشأنهم: (فأمّا ثمود فأهلكوا بالطاغية).

أمّا الآية (67) من سورة هود فتقول عنهم: (و أخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين).

أمّا الآية التي نحن بصددها فقد استخدمت تعبير «صاعقة».

قد يتصور البعض أن هناك تعارضاً بين هذه التعابير، ولكن عند التدقيق يظهر أنّ الكلمات الأربع أعلاه (رجفة، طاغية، صيحة، صاعقة) ترجع جميعاً إلى حقيقة واحدة، لأنّ الصاعقة ـ كم قلنا سابقاً ـ لها صوت مخيف، بحيث يمكن أن نسميها بالصيحة السماوية، ولها أيضاً ناراً محرقة، وهي عندما تسقط على منطقة معينة تحدث هزّة شديدة، وكذلك هي وسيلة للتخريب.

في الواقع إنّ البلاغة القرآنية تستوجب أن تبيّن الأبعاد المختلفة للعذاب الإلهي بتعابير مختلفة وفي سياق آيات عديدة كيما تخلّف اثراً عميقاً في نفس الانسان.

وهؤلاء القوم قد واجهتهم عوامل مختلفة للموت في إطار حادثة واحدة، بحيث أن كلّ عامل لوحده يكفي لإبادتهم كالصيحة المميتة مثلا، أو الهزة الأرضية

____________________________________

1 ـ الحجر، الآية 82.

[377]

القاتلة، أو النّار المحرقة، وأخيراً الصاعقة المخيفة.

ولكن قد يتساءل عن مصير الاشخاص الذين آمنوا بصالح(عليه السلام) بين هذه الأمواج القاتلة من الصواعق، فهل احترقوا بنيران غيرهم؟

القرآن يجيبنا على ذلك بقول الله عزّوجلّ: (ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون).

لقد أنجى هذه المجموعة إيمانها وتقواها، بينما شمل العذاب تلك الكثرة الطاغية بسبب كفرها وعنادها، والمجموعتان يمكن أن تكونا نموذجاً لفئات من هذه الأُمة.

قال بعض المفسّرين: لقد آمن بنبيّ الله صالح (110) أشخاص من بين مجموع القوم، ولقد أنقذ الله هؤلاء وأنجاهم في الوقت المناسب.

* * *

 

ملاحظة

أنواع الهداية الإلهية:

الهداية على نوعين: أوّلا «الهداية التشريعة» وهي تشمل إبانة الطريق والكشف عنه بجميع العلائم. ثمّ هناك «الهداية التكوينية» التي هي في واقعها إيصال إلى المطلوب أو الوصول إلى الهدف.

لقد تجمعت الهدايتان معاً في الآيات التي نبحثها، فالآيات تتحدث أولا عن هداية ثمود و هذه هي الهداية التشريعية التي استبانوا من خلالها الطريق.

ثم أضافت الآية عن وصف حالهم بأنّهم استحبوا العمى على الهدى، وهذه هي عين الهداية التكوينية والتوصّل نحو الهدف.

وهكذا فإنّ الهداية بمعناها الأوّل قد تمّت من خلال بعثة الرسل والأنبياء، أمّا الهداية بمعناها الثّاني والتي ترتبط بإرادة واختيار أي إنسان، فلم تتمّ بسبب غرور

[378]

القوم وتكبرهم وعلوهم، لأنّهم: (فاستحبوا العمى على الهدى).

إنّ هذا ـ بحدّ ذاته ـ دليل على مبدأ «حرية الإرادة الإنسانية» وعدم الجبر.

ولكن ـ برغم صراحة ووضوح الآيات ـ نرى أنّ بعض المفسّرين كالفخر الرازي يصرون على إنكار دلالة الآية، وذكروا كلاماً لا يليق بمنزلة الباحث المحقق، وذلك بسبب ميولهم نحو عقيدة الجبر(1)!!

 

* * *

 

____________________________________

1 ـ يلاحظ الفخر الرازي في التّفسير الكبير في نهاية حديثه عن هذه الآية.

[379]

الآيات

وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَآءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ( 19 ) حَتَّى إِذَا مَا جَآءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَـرُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ( 20 ) وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُواْ أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِى أَنْطَقَ كُلَّ شَىْء وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّة وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ( 21 ) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَـرُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ وَلَـكِن ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ( 22 ) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمْ الَّذِى ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِّنَ الْخَـسِرِينَ( 23 )

 

التّفسير

كانت الآيات السابقة تتحدث عن الجزاء الدنيوي للكفار المغرورين والظالمين والمجرمين. أمّا الآيات التي نبحثها الآن فتتحدث عن العذاب الأخروي، وعن مراحل مختلفة من عقاب أعداء الله.

يقول تعالى: (ويوم يحشر أعداء الله إلى النّار).

[380]

وكي تتصل الصفوف ببعضها يتمّ تأخيرالصفوف(1) حتى تلتحق بها الصفوف الأُخرى: (فهم يوزعون).

وحينذاك: (حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون)(2).

يا لهم من شهود؟ فأعضاء الإنسان تشهد بنفسها عليه ولا يمكن إنكار شهادتها، لأنّها كانت حاضرة في جميع المشاهد والمواقف وناظرة لكل الأعمال، وهي إذ تتحدث فبأمر الله تعالى.

وهنا يثار سؤال: هل تعني شهادة هذه الأعضاء من جسم الإنسان أنّ الله تبارك وتعالى يخلق فيها قدرة الإحساس والإدراك والشعور، وبالتالي القدرة على الكلام؟

أم أنّ آثار الذنوب سوف تظهر في ذلك اليوم (يوم البروز) لأنّها مطبوعة عليها طوال عمر الإنسان، كما نقول في تعبيراتنا الشائعة: إن صفحة وجهه تحكي وتخبر ما يخفيه فلان في سرّه؟

أو أنّ الأمر يكون كما في حال الشجرة التي أوجد الله تعالى فيها الصوت وأسمعه موسى(عليه السلام)؟

في الواقع يمكن قبول كلّ هذه التفاسير، وقد جاءت مبثوثة في تفاسير المفسّرين.

طبعاً لا يوجد مانع من أن يقوم تعالى بخلق الإدراك والشعور في الأعضاء، فتشهد في محضر الله تعالى عن علم ومعرفة، خصوصاً وأن ظاهر الآيات يشير للوهلة الأولى إلى هذا المعنى. وهو ما يعتقده البعض فيما يخص تسبيح وحمد

____________________________________

1 ـ «يوزعون» من «وزع» وهي بمعنى المنع، وعندما تستخدم للجنود أو الصفوف الأُخرى، فإن مفهومها يعني أن يبقى المجموع إلى أن يلتحق بهم آخر نفر.

2 ـ «ما» في قوله تعالى: (إذا ما جاءوها) زائدة، وهي هنا للتأكيد.

[381]

وسجود ذرات العالم وكائنات الوجود بين يدي الله تبارك وتعالى.

والمعنى الثّاني محتمل أيضاً لإننا نعلم أنّ أي كائن في هذا العالم لا يفنى من الوجود، وأنّ آثار أقوالنا وأفعالنا سوف تبقى في أعضائنا وجوارحنا، ومن الطبيعي أن تعتبر «الشهادة التكوينية» هذه من أوضح الشهادات وأجلاها، إذ  لا مجال لإنكارها، كما في إصفرار الوجه ـ الذي يعتبر عادةً دليلاـ على الخوف  لا يمكن إنكاره، واحمراره دليل على الغضب أو الخجل.

وإطلاق النطق على هذا المعنى يكون مقبولا أيضاً.

أمّا الإحتمال الاخير في أن تنطق الأعضاء بإذن ا لله تعالى دون أن يكون لها شعور بذلك أو يظهر منها اثر تكويني، فإنّ ذلك بعيد ظاهراً، لأنّه في مثل هذه الحالة لا تعتبر الحالة مصداقاً للشهادة التشريعية ولا مصداقاً للشهادة التكوينية، فلا عقل هناك ولا شعور ولا الأثر الطبيعي للعمل، وسوف تفقد قيمة الشهادة في المحكمة الإلهية الكبرى.

ومن الضروري الانتباه إلى أنّ قوله تعالى: (حتى إذا ما جاءوها) يبيّن أنّ شهادة أعضاء الإنسان تتمّ في محكمة النّار، فهل مفهوم ذلك أنّ الشهادة تتمّ في النّار، في حين أنّ النّار هي نهاية المطاف، أم أنّ المحكمة تنعقد بالقرب من النّار؟

الإحتمال الثّاني هو الأقرب كما يظهر.

ثمّ ما هو المقصود من (جلود) بصيغة الجمع؟

الظاهر أنّ المقصود بذلك هو جلود الأعضاء المختلفة للجسم، جلد اليد والرجل والوجه وغير ذلك.

أمّا الروايات التي تفسّر ذلك بـ «الفروج» فهي في الحقيقة من باب بيان المصداق، وليس حصر مفهوم الجلود في ذلك.

ومن جانب آخر ربّ سائل يسأل: لماذا تشهد العين والأذن والجلود فقط، دون أعضاء الجسم الأُخرى؟ وهل الشهادة مقتصرة على هذه الأعضاء، أو أنّ

[382]

هناك أعضاء اُخرى تشهد؟

ما نستفيده من الآيات القرآنية الأُخرى أنّ هناك أعضاء اُخرى في جسم الإنسان تشهد عليه، إذ نقرأ في الآية (65) من سورة «يس» قوله تعالى: (وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون).

وفي الآية (24) من سورة «النور» قوله تعالى: (يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم).

وهكذا يتضح أنّ هناك أعضاء اُخرى تقوم بالإدلاء بالشهادة، إلاّ أنّ ما تذكره الآية التي بين أيدينا من أعضاء تعتبر في الدرجة الأولى، لأن معظم أعمال الإنسان تتم بمساعدة العين والأذن، وإنّ الجلود هي أول من يقوم بملامسة الأعمال.

المجرمون يستغربون هذه الظاهرة، وآية استغرابهم قوله تعالى: (وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا).

لسان حالهم يقول: لقد كنّا لسنين مديدة نحافظ عليكم من الحر والبرد ونعتني بنظافتكم، فلماذا أنتم هكذا؟

وفي الجواب يقولون: (قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كلّ شيء).

لقد أعطانا الله مهمّة القيام بالشهادة على أعمالكم في هذه المحكمة العظيمة، ولا نملك نحن سوى الطاعة، فالذي أعطى غيرنا من الكائنات قابلية النطق أعطانا ـ أيضاً ـ هذه القابلية(1).

والطريف هنا أن أُولئك يسألون جلودهم دون باقي الأعضاء من الشهود كالعين والأذن.

____________________________________

1 ـ هذا التّفسير وارد عندما يكون معنى الآية: (أنطقنا الله الذي أنطق كلّ شيء ناطق) ولكن يحتمل أن يكون معنى أنطق كل شيء بالمعنى المطلق، بمعنى أنّ الله الذي أنطق جميع الموجودات وهو يكشف عن جميع الأسرار اليوم، هو الذي أنطقنا، فلا تتعجبوا من كلامنا فجميع كائنات العالم ستنطق في هذا اليوم.

[383]

قد يكون السبب في ذلك أنّ شهادة الجلود هي أغرب وأعجب من جميع الأعضاء الأُخرى، وأوسع منها جميعاً، فتلك الجلود التي يجب عليها أن تذوق طعم العذاب الإلهي ـ قبل غيرها من الأعضاء ـ تقوم بمثل هذه الشهادة، وهذا الأمر محيّر حقاً!

ثم تستمر الآية بقوله تعالى: (وهو خلقكم أول مرّة وإليه ترجعون).

ومرة اُخرى تضيف: (وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم  ولا أبصاركم ولا جلودكم).

وإنّ سبب إخفائكم لأعمالكم هو: (ولكن ظننتم أنّ الله لا يعلم كثيراً ممّا تعملون).

كنتم غافلين عن أنّ الله يسمع ويرى، يشهد أعمالكم في كلّ حال ومكان، ويعلم أسراركم ما بطن منها وما ظهر، ثمّ هناك عناصر الرقابة التي ترافقكم وهي معكم في كلّ مكان، فهل تستطيعون إنجاز عمل مخفي عن أعينكم وآذانكم وجلودكم؟

إنّكم في قبضة القدرة الإلهية وتحت نظر الشهود المستترين والظاهرين حتى أدوات ذنبكم تشهد ضدكم؟!

يروي المفسّرين أنّ الآية أعلاه نزلت في ثلاثة نفر من كفار قريش وطائفة من بني ثقيف ذوي بطون كبيرة و رؤوس صغيرة اجتمعوا بجوار الكعبة وهم يتسارّون، فقال أحدهم: أتظنون أن الله يسمع كلامنا وحديثنا هذا؟

فأجاب آخر: تكلّم بهدوء واخفض صوتك، فإذا تحدثنا بصوت عال فهو (أي الله جلّ جلاله) يسمعه، وإذا خفضنا أصواتنا فلا يسمعنا.

فقال الثّالث: إذا كان الله يسمع الكلام العالي فهو حتماً يسمع الصوت الضعيف أيضاً.

[384]

وهنا نزلت الآية الكريمة: (وما كنتم تستترون أن...)(1).

ثم يقول تعالى: (وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربّكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين)(2)(3).

هل أن هذا الحديث هو من قبل الله تعالى، وأن كلام الأعضاء والجوارح ينتهي إلى قوله تعالى: (أنطقنا الله الذي أنطق كلّ شيء)، أم أنّ مايليه استمرار له ؟

المعنى الثّاني يبدو أكثر توافقاً، وعبارات الآية تتلاءم معه أكثر، بالرغم من أن أعضاء الجسم وجوارحه إنّما تتحدث هنا بأمر الله تعالى وبإرادته، والمعنى في الحالتين واحد تقريباً.

* * *

 

بحثان

الأوّل: حسن الظن وسوء الظن بالله تعالى

توضح الآيات بشكل قاطع خطورة سوء الظن بالله تعالى، ومآل ذلك إلى الهلاك والخسران.

وبعكس ذلك فإنّ حسن الظن بالله تعالى سبب للنجاة في الدنيا والآخرة.

وفي حديث عن الإمام الصادق(عليه السلام) يقول: «ينبغي للمؤمن أن يخاف الله خوفاً كأنّه يشرف على النّار، ويرجوه رجاءً كأنّه من أهل الجنّة، إنّ الله تعالى يقول: (وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربّكم)...ثم قال: إنّ الله عند ظن عبده، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر»(4).

____________________________________

1 ـ نقل هذه الحادثة (باختلاف) الكثير من المفسّرين، منهم: القرطبي، الطبرسي، الفخر الرازي، الألوسي، المراغي، وكذلك نقل الحادثة كلّ من البخاري ومسلم والترمذي، وما أوردناه أعلاه مأخوذ عن القرطبي مع التصرّف. المجلد الثامن، صفحة5795.

2 ـ «ذلكم» مبتدأ و (ظنكم) خبر له. لكن البعض احتمل أنّ (ظنكم) بدل و (أرداكم) خبر (ذلكم).

3 ـ «أرداكم» من «ردى» على وزن «رأى» وتعني الهلاك.

4 ـ عن مجمع البيان نهاية تفسير الآية مورد البحث.

[385]

وروي عن الصادق(عليه السلام)عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): أنّ الله إذا حاسب الخلق يبقى رجل قد فضلت سيئاته على حسناته، فتأخذه الملائكة إلى النّار وهو يلتفت، فيأمر الله بردّه، فيقول له: لم إلتفت؟ ـ وهو تعالى أعلم به ـ فيقول: يا ربّ ما كان هذا ظنّي بك، فيقول الله تعالى: يا ملائكتي! وعزّتي وجلالي والائي وعلوي وارتفاع مكاني، ما ظن بي عبدي هذا ساعة من خير قط، ولو ظنّ بي ساعة من خير ما ودعته بالنّار، أجيزوا له كذبه وأدخلوه الجنّة». ثمّ أضاف رسول الله: ليس من عبد يظن بالله عزّوجلّ خيراً إلاّ كان عند ظنّه به وذلك قوله عزّوجلّ: (وذلكم ظنّكم الذي ظننتم بربّكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين)(1).

 

الثّاني: الشهود في محكمة القيامة

عندما تقول: إنّ جميع الناس سيحاكمون في العالم الآخر، فقد يتبادر إلى الذهن أنّ المحكمة هناك تشبه محاكم هذه الدنيا، إذ سيحضر كلّ فرد أمام القاضي وبيده ملفه، وثمّة شهود في القضية، ثمّ يبدأ السؤال والجواب قبل أن يصدر الحكم النهائي.

وقد أشرنا مراراً إلى أنّ الألفاظ سيكون لها مفهوم أعمق في ذلك العالم بحيث يصعب أو يستحيل علينا تصوّر مداليلها، لأننا سجناء هذه الدنيا ومقاييسها.

ولكن نستطيع ـ مع ذلك ـ أن نقترب من بعض حقائق العالم الآخرمن خلال ما نستفيده من الآيات القرآنية والأحاديث المروية عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأئمّة المسلمين من أهل بيته(عليهم السلام)، وتتبيّن لنا آثار عن عظمة وعمق الحياة في ذلك العالم ومحكمة يوم البعث، ولو بشكل إجمالي.

فمثلا عندما يقال:«ميزان الأعمال» قد ينصرف الذهن إلى المعنى الذي نتصوّر فيه أعمالنا في ذلك اليوم خفيفة أو ثقيلة، حيث توزن في ميزان ذي كفتين.

____________________________________

1 ـ عن تفسير علي بن إبراهيم كما نقل عنه تفسير نور الثقلين، المجلد الرابع، صفحة 544.

[386]

ولكن عندما نقرأ في روايات المعصومين(عليهم السلام) أنّ أمير المؤمنين علي(عليه السلام) هو ميزان الأعمال، بمعنى أنّ قيمة الأعمال وشخصية الأفراد ستقاس بمقياس يكون مركزه شخصياً الإمام العظيم وبمقدار مشابهة الإنسان لسلوك هذا الإمام العظيم واقترابه منه سيكون له وزن أكثر، وبمقدار بعده عنه سيكون خفيفاً في ميزان أعماله وحسابه.

ومن خلال هذا المعنى نفهم ماذا يعني ميزان الأعمال هناك.

وفي مسألة «الشهود» فإنّ الآيات القرآنية تكشف لنا الستار ـ كذلك ـ عن حقائق اُخرى، إذ يتبيّن أنّ مفهوم الشهود هناك يختلف عن شهود محاكم هذه الدنيا.

وفي قضية الشهود ـ بالذات ـ نستفيد من آيات القرآن الكريم أنّ هناك ستة أنواع من الشهود في تلك المحكمة:

1 ـ أنّ أول الشهود وأعلاهم شأناً هو الذات الإلهية الطاهرة: (وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلاّ كنّا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه)(1).

إنّ شهادة الله تكفي لكل شيء، إلاّ أنّ مقتضى اللطف الإلهي والعدالة الربوبية تستوجب أن يضع تعالى شهوداً آخرين.

2 ـ الأنبياء والأوصياء: يقول القرآن الكريم: (فكيف إذا جئنا من كلّ أُمّة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً)(2).

ونقرأ في حديث ورد في (الكافي) عن الإمام الصادق(عليه السلام) حول نزول هذه الآية وهو قوله (عليه السلام):«نزلت في أُمّة محمّد خاصة، في كلّ قرن منهم إمام منّا، شاهد

____________________________________

1 ـ يونس، الآية 61.

2 ـ النساء، الآية 41.

[387]

عليهم ومحمّد شاهد علينا»(1).

3 ـ شهادة اللسان واليد والرجل والعين والأذن: كما في قوله تعالى: (يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون )(2).

ومن الآية التي نحن بصددها نستفيد أنّ العين والأذن هما من قائمة الشهود أيضاً، ونستفيد كذلك من بعض الرّوايات أنّ كلّ أعضاء الجسم ستقوم بدورها بالشهادة على الأعمال التي قامت بها(3).

4 ـ شهادة الجلود: لقد تحدثت الآيات التي نحن بصددها عن هذا الموضوع بصراحة، بل وأضافت أنّ المذنبيين لم يكونوا يتوقعون أن تشهد عليهم جلودهم، فخاطبوها بالقول: (لم شهدتم علينا)؟ فيأتي الجواب من جلودهم: (أنطقنا الله الذي أنطق كلّ شيء وهو خلقكم أول مرّة وإليه ترجعون)(4).

5 ـ الملائكة: يقول تعالى: (وجاءت كلّ نفس معها سائق وشهيد)(5). ومفهوم الآية الكريمة أنّ كلّ إنسان يحشر إلى القيامة، يكون معه ملك يسوقه نحو الحساب وتشهد الملائكة عليه.

6 ـ الأرض: إنّ الأرض التي تحت أقدامنا، وتؤمن لنا مختلف البركات والنعم، تقوم أيضاً بمراقبتنا بدقّة، وتحدّث في ذلك اليوم ما كان منّا عليها، يقول تعالى: (يومئذ تحدّث أخبارها)(6).

7 ـ شهادة الزمان: بالرغم من عدم إشارة نصوص الآيات القرآنية إلى هذه الشهادة، ولكن نستفيد هذه الشهادة من أحاديث الأئمة المعصومين(عليهم السلام)، فعن أمير

____________________________________

1 ـ أصول الكافي، المجلد الأول، صفحة 190.

2 ـ النور، الآية 24.

3 ـ لئالي الأخبار، صفحة 462.

4 ـ فصلت، الآية 21.

5 ـ سورة ق، الآية 21.

6 ـ الزلزال، الآية 4.

[388]

المؤمنين علي بن أبي طالب قوله (عليه السلام): «ما من يوم يمرّ على ابن آدم إلاّ قال له ذلك اليوم: يا ابن آدم! أنا يوم جديد، وأناعليك شهيد، فقل فيّ خيراً واعمل في خيراً، أشهد لك يوم القيامة»(1).

ما أعجب هذه الشهود التي تشهد علينا في تلك المحكمة! إنّه خليط عجيب من الملائكة وأعضاء الجسم والأنبياء والأوصياء، والأعظم من ذلك هي شهادة الله تبارك وتعالى علينا الذي يسمع ويرى ويحيط علمه بكل شيء، فيراقب أعمالنا ويشهد علينا... لكنّا لا نبالي!!؟

ألا يكفي الإيمان بوجود مثل هؤلاء الشهود أن يسير الإنسان في طريق الحق والعدالة والتقوى والنزاهة!؟

 

* * *

 

____________________________________

1 ـ سفينة البحار، المجلد الثّاني، مادة يوم.

[389]

الآيتان

فَإِن يَصْبِرُواْ فَالنَّارُ مَثْوىً لَّهُمْ وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَاهُمْ مِّنَ الْمُعْتَبِينَ( 24 ) وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ فَزَيَّنُواْ لَهُمْ مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِى أُمِم قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِّنَ الْجِنِّ وِالاِْنسِ إِنَّهُمْ كَانُواْ خَـسِرِينَ( 25 )

 

التّفسير

قرناء السوء:

في أعقاب البحث السابق الذي تحدثت في الآيات الكريمة عن مصير «أعداء الله» جاءت الآيتان أعلاه لتشيران إلى نوعين من العقاب الأليم الذي ينتظر هؤلاء في الدنيا والأخرة.

يقول تعالى: (فإن يصبروا فالنار مثوى لهم)(1) ولا يمكنهم الخلاص منها لأنّها مصيرهم سواء صبروا أو لم يصبروا.

«مثوى» من «ثوى» على وزن «هوى» وتعني المقرومحل الإستقرار.

والآية الكريمة هذه تشبه الآية (16) من سورة «الطور» حيث قوله تعالى:

____________________________________

1 ـ يكون التقدير هكذا: «فإن يصبروا أو لا يصبروا فالنار مثوى لهم».

[390]

(اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم).

وكذلك تشبه الآية (21) من سورة «إبراهيم» حيث قوله تعالى: (سواء علينا أجزعنا أم صبرنا مالنا من محيص).

وللتأكيد على هذا الأمر تضيف الآية: (وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين).

«يستعتبون» مأخوذه في الأصل من (العتاب) وتعني إظهار الخشونة، ومفهوم ذلك أنّ الشخص المذنب سيستسلم للوم صاحب الحق كي يعفو عنه ويرضى عنه، لذلك فإنّ كلمة (استعتاب) تعني الإسترضاء وطلب العفو(1).

ثم تشير الآية الثانية إلى العذاب الدنيوي لهؤلاء فتقول: (وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم) حيث قام هؤلاء الجلساء بتصوير المساويء لهم حسنات.

«قيضنا» من (قيض) على وزن (فيض) وتعني في الأصل قشرة البيضة الخارجية، ثمّ قيلت لوصف الأشخاص الذين يسيطرون على الإنسان بشكل كامل، كسيطرة القشرة على البيضة.

وهذه إشارة إلى أنّ أصدقاء السوء والرفاق الفاسدين يحيطون بهم من كل مكان، حيث يصادرون أفكارهم، ويهيمنون عليهم بحيث يفقدون معه قابلية الإدراك والإحساس المستقل، وعندها ستكون الأمور القبيحة السيئة جميلة حسنة في نظرهم، وبذلك ينتهي الإنسان إلى الوقوع في مستنقع الفساد وتغلق بوجهه أبواب النجاة.

في بعض الأحيان تستخدم كلمة «قيضنا» لتبديل شيء مكان شيء آخر، ووفقاً لهذا المعنى سيكون مقصود الآية، هو أنّنا سنأخذ منهم الأصدقاء الصالحين ونسلب منهم رفاق الخير، لنبدلهم بأصدقاء السوء والقرناء الفاسدين.

لقد ورد هذا المعنى بشكل أوضح في الآيتين (36ـ37) من سورة «الزخرف»

____________________________________

1 ـ يلاحظ «مفردات الراغب» و «لسان العرب» في مادة «عتب».

[391]

في قوله تعالى: (ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين وإنّهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنّهم مهتدون).

إنّ التمعّن بالمجتمعات الفاسدة والفئات المنحرفة الضالة ينتهي بنا ـ بسهولة ـ إلى اكتشاف آثار أقدام الشياطين في حياتهم، إذ يحاصرهم رفاق السوء وقرناء الشر من كلّ جانب وصوب، ويسيطرون على أفكارهم ويقلبون لهم الحقائق.

قوله تعالى: (مابين أيديهم وما خلفهم) لعله إشارة لإحاطة الشياطين من كل جانب وتزيين الأُمور لهم.

وقيل أيضاً في تفسيرها أنّ (ما بين أيديهم) إشارة إلى لذات الدنيا وزخارفها، (وما خلفهم) هو إنكار القيامة والبعث.

وقد يكون (مابين أيديهم) إشارة إلى وضعهم الدنيوي (وما خلفهم) إلى المستقبل الذي سينتظرهم وأبناءهم، إذ عادة ما يرتكب هذه الجرائم تحت شعار تأمين المستقبل.

وبسبب هذا الوضع تضيف الآية بأن الامر الالهي صدر بعذابهم وان مصيرهم هو مصير الاُمم السالفة: (وحق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس)(1).

ثم تنتهي الآية بقوله تعالى: (إنهم كانوا خاسرين).

إنّ هذه الآيات تعتبر ـ في الواقع ـ الصورة المقابلة والوجه الآخر، وسوف تتحدث الآيات القادمة عن المؤمنين الصالحين المنصورين في الدنيا والآخرة بالملائكة التي تبشرهم بكل خير، وتكشف عنهم الغم والحزن.

 

* * *

____________________________________

1 ـ «في أمم» متعلقة بفعل محذوف، وفي التقدير تكون الجملة: «كائنين في أمم قد خلت» . و من المحتمل أن تكون «في» هنا بمعنى «معَ» .

[392]

الآيات

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَذَا الْقُرْءَانِ وَالْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ( 26 ) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ عَذَاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِى كَانُواْ يَعْمَلُونَ( 27 ) ذَلِكَ جَزَآءُ أَعْدَآءِ اللهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ بِاَيَـتِنَا يَجْحَدُونَ( 28 ) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ رَبَّنَآ أَرِنَا الَّذِينَ أَضَلاَّنَا مِنَ الْجِنِّ وَالاِْنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الاَْسْفَلِينَ( 29 )

 

التّفسير

الضجيج في مقابل صوت القرآن!!

بعد أن تحدثت الآيات السابقة عن الأقوام الماضين كقوم عاد وثمود، وتحدثت عن جلساء السوء وقرناء الشر، تتحدث المجموعة التي بين أيدينا من الآيات البينات عن جانب من جوانب الإنحراف لمشركي عصر رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)لقد ورد في بعض الرّوايات أنّ رسول اللّه(عليهم السلام) ما أن يرفع صوته في مكّة ليتلو القرآن بصوته الجميل وأُسلوبه الخاشع، حتى كان المشركون يقومون بإبعاد الناس

[393]

عنه ويقولون: أطلقوا الصفير وارفعوا أصواتكم بالشعر حتى لا تسمعوا كلامه(1)!

القرآن الكريم يشير إلى هذا المعنى في هذه الآيات، حيث يقول: (وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون).

هذا الأسلوب في مواجهة تأثير الحق ونفوذه بالرغم من كونه أُسلوباً قديماً، إلاّ أنّه يستخدم اليوم بشكل أوسع وأخطر لصرف أفكار الناس وخنق أصوات المنادين بالحق والعدالة، فهؤلاء يقومون بملء المجتمع بالضوضاء حتى لا يسمع صوت الحق. ومع الالتفات الى أن معنى كلمة «والغوا» المشتقة من «لغو» لها معنى واسع يشمل أي كلام فارغ، ندرك جيداً سعة هذا المنهج المتبع.

فتارة يتمّ اللغو بواسطة الضجة والضوضاء والصفير.

واُخرى بواسطة القصص الكاذبة والخرافية.

وثالثة بواسطة قصص الحب والعشق المثيرة للشهوات!

وقد يتجاوز مكرهم مرحلة القول فيقومون بتأسيس مراكز خاصة بالفساد وأنواع الأفلام المبتذلة والمطبوعات المنحرفة الرخيصة،، والألاعيب السياسية الكاذبة والمثيرة، إنّهم يعمدون إلى الإستعانة بأي أسلوب يؤدي إلى حرف أفكار الناس واهتماماتهم عن الحق.

والانكى من ذلك طرح بعض البحوث والقضايا الفارغة التافهة في الاوساط العلمية لتثار حولها ضجة تهيمن على اهتمامات الناس ووعيهم، وتصدّهم عن التفكير بالقضايا الأساسية والأُمور المهمّة.

لكن... هل استطاع المشركون التغلّب على القرآن الكريم بأعمالهم هذه؟! لقد عمّهم الفناء وذهبت أساليبهم الشريرة ادراج الرياح، وامتد القرآن واتسع في تأثيره حتى استوعب أرجاء الدنيا.

الآية الأُخرى تشير إلى عذاب هؤلاء فتقول: (فلنذيقنّ الذين كفروا عذاباً

____________________________________

1 ـ تفسير المراغي، المجلد 24، صفحة 125، وتفسير روح المعاني، المجلد 24، أيضاً، صفحة 106.

[394]

شديداً) خاصة أُولئك الذين يمنعون الناس من سماع آيات الله.

وهذا العذاب يمكن أن يشملهم في الدنيا بأن يقتلوا على أيدي أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أو يقعوا في أسرهم، وقد يكون في الآخرة، أو يكون العذاب في الدنيا والآخرة معاً.

قوله تعالى: (ولنجزينهم أسوأ الذي كانوا يعملون).

فهل لهؤلاء عمل أسواً من الكفر والشرك وإنكار آيات الله ومنع الناس وصدّهم عن سماع كلام الحق؟

لكن لماذا أشارت الآية إلى «أسوأ» بالرغم من أنّهم يرون جزاء كلّ أعمالهم؟

قد يكون هذا التعبير للتأكيد على موضوع الجزاء والتهديد به بيان حديثه، وفيه إشارة لمنعهم الناس عن سماع كلام النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم).

كما أنّ قوله تعالى: (كانوا يعملون) دليل على أنّه سيتمّ التأكيد على الأعمال التي كانوا يقومون بها دائماً، وبعبارة اُخرى: إنّ ما يعملونه لم يكن أمراً مؤقتاً بل كانت سنتهم وسيرتهم الدائمة.

وللتأكيد على قضية العذاب، يأتي قوله تعالى: (ذلك جزاء أعداء الله النّار)(1).

وهذه النّار ليست مؤقتة زائلة بل: (لهم فيها دار الخلد) نعم، فذلك: (جزاء بما كانوا بآياتنا يجحدون)(2).

إنهم لم ينكروا الآيات الإلهية وحسب، بل منعوا الآخرين من سماعها.

«يجحدون» من «جحد» على وزن «عهد» وتعني في الأصل كما يرى «الراغب» في «المفردات»: إلغاء ونفي شيء ثابت في القلب، أو إثبات شيء منفي في القلب. أو هو بعبارة اُخرى: إنكار الحقائق مع العلم بها، وهذا من أسوأ أنواع

____________________________________

1 ـ «النّار» يمكن أن تكون «عطف بيان» أو «بدل» لـ «جزاء» أو أن تكون (خيراً لمبتدأ محذوف) والتقدير هو النّار».

2 ـ «جزاء» يمكن أن تكون مفعولا لفعل محذوف تقديره «يجزون جزاء» أو أن تكون مفعولا لأجله.

[395]

الكفر (راجع نهاية الآية (14) من سورة النمل).

إنّ الإنسان عندما يصاب ببلاء معين، خاصة إذا كان بلاءاً شديداً، فإنّه يفكر بمسببه الأصلي كي يعثر عليه وينتقم منه، وأحياناً يود تقطيعه قطعة قطعة إذا استطاع ذلك.

لذلك تشير الآية التالية إلى هذا المعنى الذي سيشمل الكفار وهم في الجحيم فيقول: (وقال الذين كفروا ربّنا أرنا اللذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين).

إنّ أُولئك كانوا ينهونا عن سماع قول النّبي وكانوا يقولون: إنّه ساحر مجنون، ثم كانوا يكثرون من اللغو حتى لا نسمع صوته وكلامه، وبدلا عن ذلك كانوا يشغلوننا بأساطيرهم وأكاذيبهم.

أمّا الآن وقد فهمنا أن كلامه(صلى الله عليه وآله وسلم) هو روح الحياة الخالدة، وأنّ نغمات صوته حياة النفوس الميتة، ولكن «ولات ساعة ندم».

لا ريب أنّ المقصود من الجن والإنس ـ في الآية ـ هم الشياطين، والناس الذين يقومون بالغواية مثل الشياطين، وليس هما شخصان معينان.

ولا مانع من تثنية الفعل عندمايكون الفاعل مجموعتان، كما في قوله تعالى: (فبأي آلاء ربّكما تكذبان).

قال بعض المفسّرين في تفسير قوله تعالى: (ليكونا من الأسفلين): المقصود أنّ المضلين من الجن والإنس سيكونون في أسفل درك من الجحيم، ولكن الأظهر منه أنّ شدة غضبهم يدفعهم إلى وضع من أغواهم تحت أقدامهم ليركلونهم ويكونوا في أدنى مقام في مقابل ما كان لهم من مقام و مكانة عليا في الحياة الدنيا.

 

* * *

 

[396]

الآيات

إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَـمُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنَّةِ الَّتِى كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ( 30 )نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَفِى الاَْخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَاتَدَّعُونَ( 31 ) نُزُلا مِّنْ غَفُور رَّحِيمِ( 32 )

 

التّفسير

نزول الملائكة على المؤمنين الصامدين:

يعتمد القرآن الكريم في أسلوبه وضع صور متقابلة ومتعارضد للحالات التي يتناولها كي يوضحها بشكل جيد من خلال المقايسة والمقارنة فبعد أن تحدث عن المنكرين المعاندين الذين يصدون عن آيات اللّه، وأبان جزاءهم وعقوبتهم، بدأ الآن (في الصورة المقابلة) في الحديث عن المؤمنين الراسخين في إيمانهم، وأشار إلى سبعة أنواع من الثواب الذي يشملهم جزاء ومثوبة لهم.

يقول تعالى:(انّ الذين قالوا ربّنا الله ثمّ استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألاّ تخافوا ولا تحزنوا).

[397]

إنّه تعبيرجميل وشامل يتضمّن كلّ الخير والصفات الحميدة، فأولا يوجّه القلب إلى الله ويوثق الإيمان به تعالى ويقويه، ثمّ سيطرة هذا الإيمان وهيمنته على كلّ مرافق الحياة، وثبات السير في هذا الطريق; طريق الأستقامة(1).

هناك الكثير من الذين يدّعون محبة الله، إلاّ أنّنا لا نرى الاستقامة واضحة في عملهم وسلوكهم، فهم ضعفاء وعاجزون بحيث عندما يشملهم طوفان الشهوة يودّعون الإيمان ويشركون في عملهم; وعندما تكون منافعهم في خطر يتنازلون عن إيمانهم الضعيف ذلك.

ففي حديث عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه بعد أن تلا الآية قال: «قد قالها الناس ثمّ كفر أكثرهم فمن قالها حتى يموت فهو ممن استقام عليها»(2).

وفي نهج البلاغة يفسّر الإمام علي (عليه السلام) هذه الآية بعبارات حيّة وناطقة عميقة المعنى يقول (عليه السلام): «وقد قلتم «ربنا الله» فاستقيموا على كتابه، وعلى منهاج أمره، وعلى الطريقة الصالحة من عبادته، ثمّ لا تمرقوا منها، ولاتبتدعوا فيها، ولا تخالفوا عنها»(3).

وفي مكان آخر نرى أنّ الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) أجاب في تفسير معنى الاستقامة بقوله: «هي والله ما أنتم عليه»(4).

وهذا لا يعني أنّ الاستقامة تختص بالولاية فقط، بل إنّ قبول قيادة أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) سيضمّن بقاء خط التوحيد، والطريق الإسلامي الأصيل، واستمرار العمل الصالح، وهذا هو تفسيره(عليه السلام) لمعنى الاستقامة.

وخلاصة القول أن قيمة الإنسان هي بالإيمان والعمل الصالح، وهذه القيمة

____________________________________

1 ـ «استقاموا» من «الإستقامة» وتعني الثبات على الطريق المستقيم الخط الصحيح. وفسرها بعض علماء اللغة بمعنى «الإعتدال» ولا يستبعد الجمع بين المعنيين.

2 ـ مجمع البيان في نهاية الحديث عن الآية.

3 ـ نهج البلاغة، الخطبة رقم 176.

4 ـ مجمع البيان في نهاية الحديث عن الآية.

[398]

يتحدث عنها الله تبارك وتعالى بقوله: (قالوا ربّنا الله ثمّ استقاموا).

لذلك فقد روي أنّ رجلا جاء إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال له: أخبرني بأمر أعتصم به؟ فقال رسول الله: «قل ربّي الله ثمّ استقم».

ثم سأن الرجل رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) عن أخطر شيء ينبغي عليه أن يخشاه. فمسك رسول الله لسانه وقال: هذا(1).

والآن لنرَ ما هي المواهب الإلهية التي سيشمل من يتمسك بهذين الأصلين؟

القرآن الكريم يشير إلى سبع مواهب عظيمة تبشرهم ملائكة الله بها عندما تهبط عليهم. ففي ظل الإيمان والاستقامة يصل الإنسان إلى مرحلة بحيث تنزل عليه الملائكة وتعلمهُ.

فبعد البشارتين الأولى والثانية والمتمثلتين بعدم (الخوف) و(الحزن) تصف الآية المرحلة الثّالثة بقوله تعالى: (وابشروا بالجنّة التي كنتم توعدون).

والبشارة الرّابعة يتضمّنها قوله تعالى: (نحنُ أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة) فلن نترككم وحيدين، بل نعينكم في الخير وتعصمكم عن الانحراف حتى تدخلوا الجنّة.

والبشارة الخامسة قوله تعالى: (ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم) أي في الجنّة.

أمّا البشارة السادسة فلا تختص بالنعم المادية وما تريدونه. بل الاستجابة إلى العطايا والمواهب المعنوية: (ولكم فيها ما تدعون).

أمّا البشارة السابعة والأخيرة فهي أنّكم ستحلون ضيوفاً لدى الباريء عزّوجلّ وفي جنته الخالدة، وستقدم لكم كلّ النعم تماماً مثلما يتمّ الترحيب بالضيف العزيز من قبل المضيف: (نزلا من غفور رحيم).

* * *

 

____________________________________

1 ـ روح البيان، المجلد الثامن، صفحة 254.

[399]

ملاحظات

في طيات هذه الآيات المبينة، والتعابير القرآنية القصيرة البليغة ذات المعاني الكبيرة ; ثمّة ملاحظات دقيقة ولطيفة نقف عليها من خلال النقاط الآتية:

1 ـ هل نزول الملائكة على المؤمنين المستقيمين يتمّ أثناء الموت والانتقال من هذا العالم إلى العالم الآخر، كما يحتمل ذلك بعض المفسّرين، أم أن نزولهم يكون في ثلاثة مواطن; عند (الموت) وعند (دخول القبر) وعند (الإحياء والبعث والنشور)، أو إنّ هذه البشائر تكون دائمة ومستمرة، وتتمّ بواسطة الإلهام المعنوي، حيث تستقر الحقائق في أعماق المؤمنين بالرغم من أنّها في لحظة الموت ولحظة الحشر تكون بشائر الملائكة أجلى وأوضح؟

يبدو أن المعنى الأخير أنسب، وذلك لعدم وجود قيد أو شرط في الآية.

ويؤيد ذلك أنّ الملائكة تقول في البشارة الرّابعة: (نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة) وهذا دليل على أنّ المؤمنين من ذوي الاستقامة يسمعون هذا الكلام من الملائكة في الدنيا عندما يكونون أحياء، إلاّ أنّ ذلك لا يكون باللسان واللفظ، بل يسمعون ذلك بأذان قلوبهم بما يشعرون به من هدوء واستقرار وسكينة وإحساس كبير بالراحة عند المشاكل والصعاب.

صحيح أنّ بعض الروايات قيدت نزول الملائكة وحضورهم عند الموت، إلاّ أن ثمّة روايات اُخرى اشارت إلى معنىً أوسع يشمل الحياة أيضاً(1).

ويمكن أن نستنتج من مجموع الروايات أنّ ذكر خصوص الموت هو بعنوان المصداق لهذا المفهوم الواسع، ونعرف هنا أنّ التفاسير الواردة في الروايات غالباً ما توضح المصاديق.

إنّ بشائر الملائكة ستشع في أرواح المؤمنين وأعماق ذوي الاستقامة حتى تهبهم القوّة والقدرة على مواجهة أعاصير الحياة ومشقاتها، وتثبّت أقدامهم من

____________________________________

1 ـ يمكن ملاحظة ذلك في نور الثقلين، المجلد الرابع، الصفحات 546 و547 الروايات رقم: 38ـ40ـ45ـ46.

[400]

السقوط والإنحراف.

2 ـ قال بعض المفسّرين في التفريق بين الخوف والحزن، أنّ (الخوف) يختص بالحوادث التي تثير القلق لدى الإنسان لكنّها تقع في المستقبل، فيبقى الإنسان قلقاً حذراً إزاءها ومنتظر وقوعها. أمّا (الحزن) فهو ممّا يختص بالحوادث المؤسفة التي وقعت في الماضي.

وعلى أساس هذا المعنى يأتي خطاب الملائكة: أن لا تقلقوا من الصعوبات التي تنتظركم، سواء في هذه الدنيا أو عند الموت أو في مراحل البعث، ولا تحزنوا على ذنوبكم الماضية أو الأبناء الذين سيبقون بعدكم.

وتقديم (الخوف) على (الحزن) قد يكون بسبب أنّ المؤمن أكثر ما يكون قلقاً إزاء حوادث المستقبل، خاصةً ما يتعلق منها بالحشر والجزاء واليوم الآخر.

وقال البعض أيضاً: إنّ (الخوف) من العذاب، بينما (الحزن) على ما فات من الثواب، والملائكة تقوم بزرع الأمل عندهم في الحالتين بواسطة الألطاف الإلهية والمواهب والعطايا الربانية.

3 ـ قوله تعالى: (كنتم توعدون) هو تعبير جامع تتداعى فيه كلّ صفات الجنّة في ذهن المؤمنين ذوي الاستقامة، بمعنى أنّ الجنّة كلّها وبكل ما سمعتم عنها وعن نعيمها مسخّرة لكم، من حورها وقصورها إلى مواهبها الكثيرة وعطاياها المعنوية التي لا يدركها الإنسان، ولم تخطر ببال أحد: (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين)(1).

4 ـ في البشارة الرّابعة تعرّف الملائكة نفسها بأنّها تلتزم جانب المؤمنين في الدنيا والآخرة; تقوم بنصرهم وإنزال السكينة عليهم، وهي صورة تقابل الآيات السابقة من هذه السورة المباركة عندما وصفت أعداء الله من الكفار من المعاندين والمكذبين، وكيف أنّهم يتأوهون من عذا ب النّار ويمتلئون غيظاً وغضباً على من

____________________________________

1 ـ الم سجدة، الآية 17.

[401]

أضلّهم في الحياة الدنيا، ويريدون الانتقام منهم.

5 ـ الفرق بين البشارة الخامسة والسادسة، أنّ في الخامسة يقال لهم: إنّ ما ترغبونه وتريدونه موجود هناك، فإن مجرّد رغبتكم في شي ما يتزامن مع مثوله أمامكم.

ولكن قوله تعالى في (تشتهي أنفسكم): يستخدم للإشارة إلى الرغبات واللذات المادية، وإنّ قوله تعالى في (ما تدعون): يشير إلى ما تريدونه من المواهب المعنوية والعطايا والملذات الروحانية.

وخلاصة الكلام: أنّ كلّ شيء موجود هناك، سواء كان مادياً أم معنوياً.

6 ـ «نزل» تعني كما أشرنا سابقاً، ما يقدمه المضيف إلى ضيفه، بينما فسّرها البعض بأوّل ما يقدّم إلى الضيف. والتعبير في كلّ الأحوال يكشف عن أن جميع المؤمنين ذوي الاستقامة هم ضيوف الله ونزل رحمته وجنته ومائدته.

7 ـ إنّ التدقيق في هذه البشائر ووعود الحق من قبل الباريء جلّ وعلا، والتي تعطى للمؤمنين بواسطة ملائكة الله الكرام، سوف تحرك في وجود الإنسان الدوافع نحو الإيمان والاستقامة، تجعل الروح البشرية تتعشق السير في هذا الطريق.

وفي ظل هذه الأجواء المضيئة بالطاعة والبشرى، استطاع الإسلام العزيز أن يصنع من عرب الجاهلية مجموعة نموذجية لا تتوانى عن الإيثار والتضحية بالغالي والعزيز في سبيل منعة الإسلام والمسلمين وانتصارهم على كلّ المشاكل والعقبات.

وينبغي أن ننتبه هنا إلى أنّ «الاستقامة» مثلها مثل «العمل الصالح» هي ثمرة لشجرة الإيمان، إذ الإيمان يدعو الإنسان إلى الاستقامة متى ما نفذ إلى عمق الإنسان، وتأسست قواعد وجوده النفسي على التقوى، مثلما تعمق الاستقامة في طريق الحق والإيمان.

[402]

وهكذا يكون لهذين العاملين أثران متبادلان متقابلان.

والذي نستفيده، من الآيات القرآنية الأُخرى، أنّ الإيمان والاستقامة لا يجلبان البركات المعنوية والروحية وحسب، وإنّما يرفل الإنسان من خلالهما بالبركات المادية التي تسود عالمنا هذا، إذ نقرأ في الآية (16) من سورة الجن قول الله تعالى: (وان لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءً غدقاً) وستشملهم فيما يشملهم سنوات ملأى بالخير والعطاء والبركة.

 

* * *

 




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21339426

  • التاريخ : 29/03/2024 - 15:49

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net