00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة العنكبوت من أول السورة ـ آية 30من ( ص 327 ـ 379 )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء الثاني عشر   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

سُورَة العنكبوت

مكيّة

وَعَدَدُ آياتِهَا تسع وسَتُونَ آية

 

[ 327 ]

«سورة العنكبوت»

محتوى سورة العنكبوت!

المشهور بين جمع من المحققين أنّ جميع آيات هذه السورة نازلة بمكّة، فيكون محتواها منسجماً مع محتوى السور المكية.

إذ ورد فيها الكلام على المبدأ والمعاد، وقيام الأنبياء السابقين العظام، ووقوفهم بوجه المشركين وعبدة الأصنام والجبابرة والظالمين، وانتصارهم وانهزام هذه الجماعة الظالمة! وكذلك تتحدث هذه السورة عن الدعوة الى الحق والامتحان الالهي للبشر، وذرائع الكفار في مجالات مختلفة.

غير أنّ جماعةً من المفسّرين يرون بأن إحدى عشرة آية منها نازلة بالمدينة، وهي الآيات الأُولى من السورة، ولعلّ ذلك ـ كما سنرى ـ ناتج عن سبب نزول بعض الآيات التي تتحدث عن الجهاد، والإشارة إلى موضوع المنافقين، وهذا ما يناسب السور المدنية!.

ولكن سنرى بعدئذ أنّ هذه الأُمور لا تنافي كون السورة مكيّة.

وعلى كل حال، فتسمية السورة هذه بـ «العنكبوت» مأخوذة من الآية (41) من هذه السورة، التي تشبّه عبدة الأوثان من دون الله بالعنكبوت، التي تبني بيتها من نسيجها، وهو أوهن البيوت!!.

وبصورة إجمالية، يمكن أن يقال: إن أبحاث هذه السورة تتلخص في أربعة أقسام:

1 ـ فالقسم الأوّل من السورة يتحدث عن مسألة «الامتحان»، وموضوع

[ 328 ]

«المنافقين»، وهذان الأمران متلازمان لا يقبلان الإنفكاك!! لأنّ معرفة المنافقين غير ممكنة إلاّ في طوفان الإمتحانات.

2 ـ والقسم الثّاني من هذه السورة ـ في الحقيقة ـ هو لتسلية قلب النّبي(صلى الله عليه وآله)والمؤمنين القلّة الأوائل، عن طريق بيان جوانب من حياة الأنبياء العظام السابقين، أمثال نوح وإبراهيم ولوط وشعيب(عليهم السلام) وعواقبهم!. إذ واجهوا أعداءً ألِدّاء أمثال نمرود و طواغيت المال البخلاء.

وقد بيّن هذا القسم من السورة كيفية المواجهة، وعُدّتها، وعاقبتها للمؤمنين لتطمئن قلوبهم، ولتكون هذه الآيات إنذاراً للمشركين وعبدة الأوثان، الذين لهم قلوب كالحجارة أو أشدّ قسوة، والظالمين الذين عاصروا النّبي(صلى الله عليه وآله).

3 ـ والقسم الثّالث من هذه السورة، وهو ما ورد في نهاية السورة بوجه خاص، يتحدث عن التوحيد ودلائل الله في عالم خلقه، والمواجهة مع المشركين، ويدعوا الفطرة والوجدان إلى الاحتكام والقضاء الحق!.

4 ـ أمّا القسم الرّابع من هذه السورة، ففيه مباحث متنوعة عن عجز الأصنام المصنوعة التي تعبد من دون الله، وعبادها الذين مثلهم كمثل العنكبوت، وبيان عظمة القرآن، ودلائل حقانية نبيّ الإسلام، ولجاجة المخالفين، كما تتعرض لسلسلة من المسائل التربوية أمثال: الصلاة، والعمل الصالح، والإحسان إلى الوالدين، وأسلوب مناقشة المخالفين، وما إلى ذلك.

 

فضيلة هذه السورة!

ورد في تفسير مجمع البيان عن الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله) في فضيلة هذه السورة مايلي: «من قرأ سورة العنكبوت كان له عشر حسنات بعدد كل المؤمنين والمنافقين».

ولتلاوة سورتي العنكبوت والروم في شهر رمضان في الليلة الثّالثة

[ 329 ]

والعشرين منه فضيلة قصوى، حتى أنّنا نقرأ في هذا الصدد حديثاً للإمام الصادق(عليه السلام) يقول: «من قرأ سورة العنكبوت والروم في شهر رمضان ليلة ثلاث وعشرين فهو والله من أهل الجنّة، لا استثنى فيه أبداً... ولا أخاف أن يكتب الله علي في يميني إثماً، وإن لهاتين السورتين من الله مكاناً» .(1)

ولا شك أن محتوى هاتين السورتين الغزير، والدروس العملية المهمّة منها في التوحيد، وما إلى ذلك، كلّه كاف لأن يسوق أيّ إنسان ذي لب وفكر وعمل إلى الجنّة والخلود فيها.

بل لو استلهمنا من بداية سورة العنكبوت وآياتها الأُولى العظة فلعلنا نكون مشمولين في قسم الإمام الصادق(عليه السلام)... تلك الآية التي تعرض الإمتحان لعامّة الناس دون استثناء ليفتضح المبطلون والكاذبون... فكيف يمكن أن يصدّق الإنسان بهذا الإمتحان العظيم وهو لم يهيء نفسه له!؟. ولم يكن من أهل التقوى والورع!

 

* * *

 

_____________________________

1 ـ «ثواب الأعمال» «طبقاً لتفسير نورالثقلين، ج 4، ص 147» من الجدير بالذكر أنّنا نكتب هذا القسم من هذا التّفسير في بداية ليلة 23 من شهر رمضان لسنة 1403 هجرية...

[ 330 ]

الآيات

الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا ءَامَنَّا وَهُمْ  لاَ يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَـذِبِينَ (3)

 

سبب النّزول

طبقاً لما نقل بعض المفسّرين، أنّ الآيات الإحدى عشرة الأُولى من بداية سورة العنكبوت نزلت في المدينة في شأن المسلمين الذين كانوا في مكّة وغير راغبين بالهجرة إلى المدينة.. وكانوا قد تلقوا رسائل من إخوة لهم في المدينة جاء فيها: «إن الله لا يقبل إقراركم بالإيمان حتى تهاجروا إلى المدينة» فصمموا على الهجرة وخرجوا من مكّة، فتبعهم جماعة من المشركين والتحموا بالقتال فقتل منهم جماعة وجرح آخرون «وربّما سلّم بعضهم نفسه ورجعوا إلى مكّة».

وقال بعضٌ: إنّ الآية الثّانية من هذه السورة في شأن «عمار بن ياسر» وجماعة من المسلمين الأوائل، الذين آمنوا برسالة النّبي(صلى الله عليه وآله) ولاقوا صنوف التعذيب من الأعداء.

كما قال بعضهم: إنّ الآية الثامنة نزلت في إسلام «سعد بن أبي وقاص»!

غير أنّ التدقيق في الآيات يكشف عن أنّه لا دليل على إرتباط الآيات مع

[ 331 ]

هجرة أُولئك، سوى أنّ الآيات تبيّن الضغوط على المؤمنين في ذلك الوقت من قبل أعدائهم وأحياناً من الآباء المشركين والاُمهات المشركات ضدّ أبنائهم المؤمنين.

فهذه الآيات تشجّع المسلمين على الثبات والرجولة والإستقامة أمام أمواج الضغوط من قبل الاعداء.. وإذا ورد الحديث فيها على الجهاد فالمراد منه ـ أيضاً ـ الجهاد في هذا المجال، لا الجهاد المسلّح الذي تقوم به الجماعة، فذلك شُرّع في المدينة.

وإذا ورد الحديث عن المنافقين في هذه الآيات، فلعلّه إشارة إلى المسلمين الضعاف في إيمانهم، الذي كان يتفق وجودهم بين المسلمين في مكّة أحياناً... فتارة هم مع المسلمين وتارة مع المشركين، وكانوا يميلون مع الكفة الراجحة منهما.

وعلى كل حال، فإرتباط الآيات بعضها ببعض وانسجامها توجب أن تكون هذه السورة «جميعها» مكية، وما ذكرناه من الرّوايات المتقدمة المتناقضة في ما بينها، لا يمكن أن تقطع هذا الإرتباط!

* * *

 

التّفسير

الامتحان الإلهي سنة خالدة:

نواجه في بداية هذه السورة الحروف المقطعة [ ألف ـ لام ـ ميم] أيضاً.. وقد بيّنا تفسيرها عدة مرات من وجوه مختلفة(1).

وبعد هذه الحروف المقطعة يشير القرآن إلى واحدة من أهم مسائل الحياة البشرية، وهي مسألة الشدائد والضغوط والإمتحان الإلهي.

_____________________________

1 ـ يراجع بداية تفسير سورة البقرة وبداية سورة آل عمران وبداية تفسير سورة الأعراف من التّفسير الأمثل.

[ 332 ]

فيقول أوّلا: (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ). (1)

ثمّ يذكر القرآن هذه الحقيقة ـ بعد الآية المتقدمة مباشرة، وهي أن الإمتحان سنة الهية دائمية، فالامتحان لا يختص بكم ـ أيّها المسلمين ـ بل هو سنة جارية في جميع الأمم المتقدمة، إذ يقول: (ولقد فتنا الذين من قبلهم ).

وهكذا ألقينا بهم أيضاً في أفران الإمتحانية الشديدة الصعبة... ووقعوا أيضاً ـ تحت تأثير ضغوط الأعداء القُساة والجهلة المعاندين.. فساحة الإمتحان كانت مفتوحة دائماً، واشترك فيها جماعة كثيرون.

وينبغي أن يكون الأمر كذلك، لأنّه في مقام الإدعاء يمكن لكل أحد أن يذكر عن نفسه أنّه أشرف مجاهد وأفضل مؤمن وأكثر الناس تضحيةً.. فلابدّ من معرفة قيمة هذه الإدعاءات بالإمتحان، وينبغي أن تعرف النيات والسرائر إلى أي مدى تنسجم مع هذه الإدعاءات.؟!

أجل (فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ).

من البديهي أنّ الله يعرف جميع هذه الأُمور جيداً ـ قبل أن يخلق الإنسان ـ إلاّ أنّ المراد من العلم هنا هو التحقق العيني للمسائل.. ووجودها الخارجي، وبتعبير آخر: ظهور الآثار والشواهد العملية.. ومعناه أنّه ينبغي أن يرى علم الله في هذه المجموعة عملياً في الخارج، وأن يكون لها تحقق عيني، وأن يكشف كلٌّ عمّا في نفسه وداخله... هذا هو العلم حين يطلق على مثل هذه المسائل وينسب إلى الله!.

والدليل على هذه المسألة واضح ـ أيضاً ـ لإنّ النيّات والصفات الباطنية إذا لم تحقق في عمل الإنسان وتكون عينيّة، فلا مفهوم للثواب والجزاء والعقاب!.

وبعبارة أُخرى: فإنّ هذا العالم مثله كمثل «المدرسة» أو «المزرعة»

_____________________________

1 ـ «يفتنون» مشتق من «الفتنة» وهي في الأصل وضع الذهب في النّار لمعرفة مقدار خلوصه، ثمّ أطلق هذا التعبير على كل امتحان ظاهريومعنوي.. «لمزيد الإيضاح يراجع تفسير الآية (193) من سورة البقرة».

[ 333 ]

[ والتشبيهات هذه واردة في متون الأحاديث الإسلامية] والمنهج هو أن تتفتح الإستعدادات وتربّى القابليات وتكون فعلية بعد ما كانت بالقوّة.

وينبغي أن تنمو البذور في هذه المدرسة وأن تطلع البراعم من تحت الأرض فتحاط بالرعاية والعناية لتكون شجيرات صغيرة، ثمّ تكون أشجاراً ذوات أصول قوية وأغصان ومثمرّة على تعاقب الزمن.. وهذه الأُمور لا تكون إلاّ بالإمتحان والإختبار.

ومن هنا نعرف أن الإمتحانات الإلهية ليست لمعرفة الأفراد، بل هي من أجل تربية الإستعدادات ورعايتها، لتتفتح وتكون بصورة أحسن.

فعلى هذا.. لو أردنا نحن أن نمتحن شيئاً، فهو لأجل كشف المجهول، لكنّ امتحان الله ليس لكشف المجهول، لأنّه أحاط بكل شيء علماً... بل هو لتربية الإستعدادت وايصال مرتبة «القوة» إلى «الفعل»(1).

* * *

 

بحث

الإمتحانات في وجوه مختلفة:

وبالرّغم من أن بيان عمومية الإمتحان لجميع الأمم والأقوام كان له أثر كبير فعّال بالنسبة لمؤمني مكّة، الذين كانوا يمثلون الأقلية في ذلك العصر، وكان التفاتهم إلى هذه الحقيقة سبباً في وقوفهم بوجه الأعداء بصبر واستقامة... إلاّ أن ذلك لم يكن منحصراً في مؤمني مكّة، بل إن كل جماعة وطائفة لها نصيب من هذه السنة الإلهية فهم شركاء فيها، إلاّ أن الإمتحانات الإلهية لهم تأتي بصور مختلفة.

_____________________________

1 ـ لمزيد الإيضاح في مسألة الإمتحان الإلهي وجوانبها المختلفة، يراجع التّفسير الأمثل ذيل الآية (157) من سورة البقرة حيث بيّناه بتفصيل!...

[ 334 ]

فالجماعة الذين يعيشون في محيط ملوث بالمفاسد والوساوس تحيط بهم من كل جانب، فإن امتحانهم الكبير في مثل هذا الجو والظروف، هو أن لا يتأثروا بلون المحيط وأن يحفظوا أصالتهم ونقاءهم.

والجماعة الذين يعيشون تحت ضغط الحرمان والفقر، يرون بأنّهم لو صمموا على ترك رأس مالهم الأصيل «الإيمان» فإنّهم سرعان ما يتخلصوا من الفقر والحرمان لكن ثمن ذلك هو فقدانهم للايمان والتقوى والكرامة والحرية والشرف، فهنا يكمن امتحانهم..

وجماعة آخرون على عكس أُولئك غرقى في اللذائذ والنعم، والإمكانات المادية متوفرة لديهم من جميع الوجوه... ترى هل يؤدون في مثل هذه الظروف الشكر على النعم.. أم سيبقون غرقى في اللذائذ والغفلة وحب الذات والأنانية... غرقى الشهوات والإغتراب عن المجتمع وعن أنفسهم!

وجماعة منهم كالمتغربين في عصرنا، يرون بعض الدول بعيدة عن الله والفضيلة والأخلاق حقّاً، ولكنّها تتمتع بالتمدن المادي المذهل والرفاه الإجتماعي. هنا تجذب هؤلاء المتغرّبين قوّة خفية إلى سلوك هذا النوع من الحياة أو سحق جميع القيم والأصول والأعراف التي يعتقدون بها، ويبيعون أنفسهم أذلاء عملاء لتلك الدول، ليوفروا لهم ولمجتمعهم مثل هذه الحياة... وهذا نوع آخر من الإمتحان.

المصائب، والآلآم والهموم، والحروب والنزاعات، والقحط والغلاء، وما تثيره الحكومات الأنانية لتجذبهم إليها وتستعبدهم به وأخيراً الأمواج النفسية القوية والشهوات، كلّ منها وسيلة للإمتحان في طريق عباد الله، والسائرين في الميادين التي تتميز فيها شخصية الأفراد وتقواهم وإيمانهم وطهارتهم وأمانتهم وحريتهم.. الخ.

ولكن لا طريق للانتصار في هذه الإمتحانات الصعبة لاجتيازها إلاّ الجدّ

[ 335 ]

السعي المستمر، والاعتماد على لطف الله سبحانه.

ومن الطريف أنّنا نقرأ حديثاً عن أحد المعصومين في أصول الكافي في تفسير الآية (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يُفتنون ) يقول فيه: «يُفتنون كما يفتن الذهب، ثمّ قال يخلصون كما يخلص الذهب» (1).

وعلى كل حال، فإن طالبي العافية الذين يظنون أنّ إظهار الإيمان كاف بهذا المقدار ليكونوا في صفوف المؤمنين وفي أعلى عليين في الجنّة مع النّبيين والصديقين والشهداء والصالحين، فهم في خطأ كبير.

وعلى حدّ تعبير أميرالمؤمنين(عليه السلام) في نهج البلاغة: «والذي بعثه بالحق لتبلبلن بلبلة ولتغربلن غربلة، ولتساطن سوط القدر حتى يعود أسفلكم أعلاكم وأعلاكم أسفلكم»(2).

قال(عليه السلام): هذا الكلام والناس جديدو عهد ببيعته، وينتظرون ما سيفعل ببيت المال، أيقسمه حسب الجاه والمقامات بحسب المعايير السابقة، فيبعّض في المال، فيعطى الكثير لبعضهم بحسب المقام، والقليل للبعض الآخر!.. أم سيسير معهم بالعدل المحمّدي؟

 

* * *

 

 

_____________________________

1 ـ أصول الكافي، طبقاً لما نقل في تفسير نور الثقلين، ج 4، ص 148.

2 ـ نهج البلاغة، خطبة 16.

[ 336 ]

الآيات

أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ (4) مَن كَانَ يَرْجُوا لِقَآءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لاَت وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جَـهَدَ فَأِنَّمَا يُجَـهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِىٌّ عَنِ الْعَـلمِينَ (6) وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـلِحَـتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِى كَانُوا يَعْمَلُونَ (7)

 

التّفسير

لا مهربَ من سلطان الله:

كان الكلام في الآيات السابقة عن امتحان المؤمنين الشامل، والآية الأُولى من الآيات أعلاه تهديد شديد للكفار والمذنبين، لئلا يتصوروا أنّهم حين يضيّقون على المؤمنين ويضغطون عليهم ولا يعاقبهم الله فوراً، فإنّ الله غافل عنهم أو عاجز عن عذابهم، تقول الآية هذه: (أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون ).

فلا ينبغى أن يغرّهم إمهال الله إيّاهم فهو امتحان لهم، كما أنّه فرصة للتوبة

[ 337 ]

والعودة إلى ساحة الله تعالى.

وما ذهب إليه بعض المفسّرين من أنّ هذه الآية هي إشارة إلى المؤمنين المذنبين، فلا يناسب هذا التّفسير سياق الآيات بأي وجه، بل جميع القرائن تدل على أنّ المقصود بالآية هم المشركون والكفار.

ثمّ يتحدث القرآن مرّة أُخرى عن سيرالمؤمنين ومناهجهم، ويقدم النصح لهم، فيقول: (من كان يرجوا لقاء الله ) فعليه أن يعمل ما في وسعه على امتثال الأوامر الإلهية والاحكام الشرعية، لأنّ الوقت المعيّن سيأتي حتماً (فأنّ أجل الله لأت )(1).

أجل، إنّ وعد الله هذا لا يقبل التخلّف، هو طريق لابدّ من اجتيازه، ثمّ إنّ الله سبحانه يسمع أحاديثكم، وهو مطلع على أعمالكم ونيّاتكم... لأنّه (هو السميع العليم ).

وفي معنى قوله تعالى: (لقاء الله ) وما المقصود منه؟ فسّره بعض المفسّرين بملاقاة الملائكة، كما فسّره البعض بملاقاة الحساب والجزاء.. وبعض بملاقاة الحكم وأمر الحق.. وآخرون بأنّه كناية عن يوم القيامة.. في حين أنّه لا دليل على أن تفسّر هذه الآية بهذه المعاني المجازية.

وينبغي القول أن «لقاء الله» في يوم القيامة ليس لقاءاً حسيّاً بل نوعاً من الشهود الباطني، لأنّ الستائر الضخمة لعالم المادة تنكشف عن عين روح الإنسان، وتبدو في حالة الشهود للإنسان!

وكما يقول العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان: إنّ المقصود من لقاء الله، هو أنّ العباد يكونون في موقف لا يكون بينهم وبين الله حجاب، لأنّ طبيعة يوم القيامة هي ظهور الحقائق كما يقول القرآن: (ويعلمون أنّ الله هو الحقّ المبين )

_____________________________

1 ـ هذه الجملة ـ في الحقيقة ـ فيها حذف، والتقدير «من كان يرجو لقاء الله فيبادر بالطاعة قبل أن يلحقه الأجل» أو «من كان يرجو لقاء الله ويقول آمنت بالله فليقله مستقيماً صابراً عليه فإنّ أجل الله لآت».

[ 338 ]

[ سورة النور الآية 25] (1).

أمّا الآية التي تليها، فهي ـ في الحقيقة ـ تعليل لما سبق بيانه في الآية الآنفة، إذ تقول: إن على المؤمنين الذين يرغبون في لقاء الله السعي بما اوتوا من قدرة وقابلية من أجل ذلك فإن نتيجة كل ذلك السعي والجهاد وتحمل الشدائد ترجع ثمارها للعامل نفسه: (ومن جاهد فإنّما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين ).

إن خطة الإمتحان الالهي هي الجهاد، جهاد النفس وهواها، وجهاد الاعداء الألداء، لحفظ الإيمان والتقوى والطهارة، ونفع ذلك يعود للانسان... وإلاّ فإنّ الله وجود غير متناه من جميع الوجوه، وغير مفتقر لأي شيء حتى يتم بواسطة طاعة الناس أو عبادتهم جبرانه، ولا ينقصه شيء حتى يكمله الآخرون، فكل ما عندهم فمنه، وليس لهم شيء من أنفسهم!.

ويتّضح هنا من هذا البيان أن الجهاد لا يعني بالضرورة جهاد العدوّ المسلّح، بل يحمل معناه اللغوي الذي يشمل كل أنواع السعي والجد لحفظ الإيمان والتقوى، وتحمل أنواع الشدائد، والمواجهات «الموضعية» للأعداء الألدّاء والحاقدين.

والخلاصة أنّ جميع منافع هذا الجهاد ترجع للشخص المجاهد نفسه، وهو الذي يفوز بخير الدنيا والآخرة في جهاده، وحتى إذا كان المجتمع يستفيد من بركات هذا الجهاد، فهو في مرحلة أُخرى بعده.

فعلى هذا، متى ما وفّق أي إنسان إلى الجهاد فنال نصيب منه، فعليه أن يشكر الله على هذه النعمة!.

وآخر آية ـ محل البحث ـ توضيح لما تقدم ذكره في الآية السابقة بشكل مبهم تحت عنوان الجهاد، فهنا يكشف القرآن حقيقة الجهاد فيقول: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم ).

_____________________________

1 ـ بحثنا المراد من لقاء الله في الجزء الأوّل ذيل الآية (46) من سورة البقرة فليراجع هناك أيضاً.

[ 339 ]

إذن أوّل فائدة كبيرة لهذا الجهاد الكبير [ وهو الإيمن والعمل الصالح] هي تكفير الذنوب وسترها على الإنسان، كما أن الثواب سيكون من نصيبهم، كما يقول القرآن في نهاية هذه الآية أيضاً: (ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون ).

كلمة «نكفّر» مشتقة من مادة «تكفير» ومعناها في الأصل التغطية والستر، والمقصود بتغطية الذنوب هنا عفو الله وصفحه!

والتعبير بـ(أحسن الذي كانوا يعملون ) مع أن الله يجزي على الأعمال الصالحة ـ حسنةً كانت أم أحسن لعله إشارة إلى أنّنا نجازي جميع أعمالهم الصالحة والحسنة بأحسن الجزاء، أي إذا كانت بعض أعمالهم أحسن وبعضها حسناً، فنحاسب الجميع بالأحسن، وهذا هو معنى تفضل الله سبحانه.

وفي آيات أُخرى من القرآن، كالآية (38) من سورة النور وردت الإشارة إلى ذلك أيضاً (ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله ).

 

* * *

 

[ 340 ]

 

الآيتان

وَوَصَّيْنَا الاِْنْسَـنَ بِوَلِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جَـهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَآ إِلَىَّ مَرْجِعُكمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُوا الصَّـلَحَـتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِى الْصَّـلِحِينَ (9)

 

سبب النّزول

وردت روايات مختلفة في شأن نزول الآية الآنفة الذكر، ومضمون الجميع واحد وهي أنّ بعض الرجال الذين كانوا في مكّة وأسلموا(1)، حين سمعت أمهاتهم بذلك صممن على أن لا يتناولن طعاماً ولا يشربن ماءً حتى يرجع أبناؤهن عن الإسلام، وبالرغم من أن أية واحدة من هؤلاء الأُمهات لم تف بقولها، ورجعت عن إضرابها عن الطعام، إلاّ أنّ الآية المتقدمة نزلت لتوضح للجميع اُسلوب المعاملة بين الأبناء والآباء والأُمهات، في مجال الكفر والإيمان.

 

_____________________________

1 ـ ورد في بعض الروايات اسم (سعد بن أبي وقاص) وفي بعضها اسم (عياش بن أبي ربيعة المخزومي).

[ 341 ]

التّفسير

أفضل الوصايا بالنسبة للوالدين:

إنّ واحداً من أهم الإمتحانات الإلهية، هي مسألة «التضاد» بين خط الإيمان والتقوى وبين علاقة العاطفية والقرابة.. والقرآن في هذا المجال ـ يوضح وظيفة المسلمين بجلاء!

في البداية يتحدث عن قانون كلّي يستمد من جذور العواطف الإنسانية وردّ الجميل فيقول: (ووصينا الإنسان بوالديه ).

وبالرغم من أنّ هذا حكم تشريعي، ولكن هذه المسألة قبل أن تكون «لازماً» تشريعياً، لها وجود في فطرة الانسان بشكل قانون تكويني. وخاصّة أن التعبير بـ «الإنسان» هنا يلفت النظر.. فهذا القانون لا يختصُّ بالمؤمنين، بل كلّ من كان جديراً بأن يحمل اسم الإنسان ينبغي أن يكون عارفاً بحق الأبوين... وأن لا ينسى تكريمهما واحترامهما والإحسان إليهما طيلة عمره.. وإن كان كل ذلك لا يفي بحقوقهما!.

بعد ذلك، ومن أجل أن لا يتبادر إلى الذهن أنّ العلاقة العاطفية بالوالدين يمكن أن تكون حاكمةً على العلاقة بين الإنسان وربّه وإيمانه، يأتي استثناء صريح ـ ليوضّح هذا الموضوع في الآية، فيقول تعالى: (وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما ).

والتعبير بـ(جاهداك ) مفهومه بذل قصارى جهدهما وإصرارهما ومنتهى سعيهما للحيلولة بين الولد وبين الإيمان بالله.

والتعبير بـ(ما ليس لك به علم ) إشارة إلى عدم منطقية الشرك، لأنّ الشرك لو كان صحيحاً واقعاً لكان عليه دليل بيّن.

وبتعبير آخر: متى ما لم يعلم الإنسان بشيء فلا ينبغي أن يتبعه فكيف إذا كان يعلم ببطلانه؟

[ 342 ]

فهذا الاتباع هو اتّباع للجهل، فلو أن الوالدين أمراك باتباع الجهل فلا تطعهما.

وأساساً فإنّ التقليد الأعمى خطأ حتى ولو كان في مورد الإيمان، فكيف إذا كان هذا التقليد للكفر والشرك!.

وهذه الوصية وردت ـ أيضاً ـ في سورة لقمان مع اضافة (وصاحبهما في الدنيا معروفاً ) فمع عدم قبول دعوتهما للشرك، ينبغي عليك احترامهما والاحسان إليهما والارفاق بهما.

ولا ينبغي أن يتصور أحد أن وجوب مخالفة الأبوين فيما لو دعوا ولديهما الى الشرك دليل على جواز الاساءة لهما، فهذا يؤكّد منتهى تأكيد الإسلام على احترام الأبوين.

وبهذا ـ يستفاد من هذا المنطلق أصل كلي: أي إن شيئاً لايمكن أن يكون حاكماً على علاقة الإنسان بالله، لأنّها مقدمة على كل شيء، حتى على علاقته بأبويه التي هي أقرب العلائق إليه.

والحديث المعروف «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» (1)... الذي نقل عن أمير المؤمنين علي(عليه السلام) يعطينا معياراً واضحاً لهذه المسائل!.

ثمّ يضيف تعالى في نهاية الآية (إليّ مرجعكم فانبئكم بما كنتم تعملون )وأجازيكم دون غمط ونقص في الثواب أو العقاب.

وهذه الجملة ـ في الحقيقة تهديد لأُولئك الذين يسيرون في طريق الشرك، والذين يدعون الآخرين إلى هذا الطريق.. لأنّها تقول بصراحة: إنّ الله يرى أعمالكم ويحفظهما ثمّ يعيدها إليكم «في معادكم».

والآية التي بعدها تؤكّد الحقيقة في أُولئك المؤمنين الذين يعملون الصالحات، وتكرر هذا المضمون أيضاً (والذين آمنوا وعملوا الصالحات

_____________________________

1 ـ نهج البلاغة، الكلمات القصار ـ الجملة 165.

[ 343 ]

لندخلنهم في الصالحين ).

وأساساً فإنّ عمل الإنسان يترك في الإنسان أثره.. فالعمل الصالح يصبغ الإنسان بلونه ويدخله في زمرة «الصالحين».

كما أنّ العمل السيء يدخله في زمرة «الخاطئين والمسيئين».

ولكن ما الغاية من هذا التكرار؟!

قال بعضهم: في الآيات السابقة إشارة إلى أُولئك الذين يسلكون طريق الحق، أمّا هذه الآية فهي إشارة إلى أُولئك الذين هم الأدلاء والهداة الى طريق التوحيد، لأنّ التعبير بـ «الصالحين» ورد في كثير من الأنبياء، إذ كانوا يطلبون من الله أن يدخلهم في الصالحين.

كما يحتمل أيضاً، أنّ الكلام في الآيات المتقدمة كان عن غفران الذنوب وتكفير السيئات وما يستحقه المؤمنون من الجزاء، إلاّ أنّه هنا إشارة عن مقامهم الرفيع الذي هو في نفسه ثواب آخر! فهم في صف الصالحين،صف الأنبياء والصديقين والشهداء، وهم جلساؤهم ورفقاؤهم في الجنان.

* * *

 

ملاحظة

الإحسان إلى الوالدين:

ليست هذه هي المرّة الأُولى التي يشير فيها القرآن إلى هذه المسألة الإنسانية المهمّة، فقد أشار إليها في سورة الإسراء الآية (23) من قبل، وسترد الإشارة إليها بعد في سورة لقمان الآيتين (14) و (15) وسورة الأحقاف الآية (15) أيضاً.

وفي الحقيقة إنّ الإسلام يدعو إلى احترام الوالدين في أسمى مراتبه، حتى مع كونهما مشركين، أو عند دعوتهما إلى الشرك الذي هو أبغض الأشياء في نظر

[ 344 ]

الإسلام، فإنّ الإسلام يوجب احترامهما في الوقت الذي يمنع من إطاعتهما في قبول الشرك والاستجابة إلى ذلك!.

وهذا في الواقع واحد من الإمتحانات الإلهية العظيمة.. التي أشير إليها في بداية هذه السورة، لأنّهما قد يبلغان من العمر أحياناً يصعب معه تحمّلهما.. فهنا ينبغي على الأبناء أن يؤدوا امتحانهم في مجال ردّ الاحسان وإطاعة أمر الله.. وأن يحافظوا على والديهما بأحسن وجه!.

نقرأ في حديث عن النّبي(صلى الله عليه وآله) أنّ رجلا جاء إليه فقال: «يا رسول الله، من أبرّ؟ قال: أمّك: قلت: ثمّ من؟ قال: أمّك. قلت: ثمّ من؟ قال: ثمّ أمّك. قلت: ثمّ من؟ قال: ثمّ أباك ثمّ الأقرب فالأقرب» (1).

وفي حديث آخر ـ وهو وارد في كثير من الكتب ـ أن النّبي(صلى الله عليه وآله) قال: «الجنّة تحت أقدام الأمّهات» (2). فلابدّ للوصول إلى الجنّة من الخضوع والتذلل في مقابلها كتراب الأقدام.

 

* * *

 

 

_____________________________

1 ـ مجمع البيان ذيل الآيات محل البحث...

2 ـ المصدر السابق.

[ 345 ]

الآيات

وَمِنَ النَّاسَ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِاللهِ فَإِذَآ أُوذِىَ فِى اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللهِ وَلَئِنْ جَآءَ نَصْرٌ مِّنْ رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَ لَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِى صُدُورِ الْعَـلَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللهَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَـفِقِينَ (11) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّبِعُواْ سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَـيَـكُمْ وَمَا هُم بِحَـمِلِينَ مِّنْ خَطَـيَـهُم مِّن شَىْء إِنَّهُمْ لَكَـذِبُونَ (12)وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَـمَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13)

 

التّفسير

شركاء في الانتصار أمّا في الشدّة فلا!

حيث أنّ الآيات المتقدمة تحدثت عن المؤمنين الصالحين والمشركين بشكل صريح، ففي الآيات الأُولى من هذا المقطع يقع الكلام على الفريق الثّالث  ـ أي المنافقين ـ فيقول القرآن فيهم: (ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ) فلا يصبرون على الاذى والشدائد،

[ 346 ]

ويحسبون تعذيب المشركين لهم واذى الناس أنّه عذاب من الله (ولئن جاء نصر من ربّك ليقولن إنّا كنّا معكم )فنحن معكم في هذا الافتخار والفتح.

ترى هل يظنون أن الله خفيّ عليه ما في أعماق قلوبهم فلا يعرف نياتهم (أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين ).

ولعل التعبير بـ «آمنا» بصيغة الجمع، مع أنّ الجملة التي تليه جاءت بصيغة المفرد، هو من جهة أنّ هؤلاء المنافقين يريدون أن يقحموا أنفسهم في صف المؤمنين، فلذلك يقولون «آمنا» أي آمنا كسائر الناس الذين آمنوا.

والتعبير بـ(أوذي في الله ) معناه أوذي في سبيل الله، أي إنّهم قد يتعرض لهم العدوّ ـ احياناً ـ وهم في سبيل الله والإيمان فيؤذيهم.

الطريف هنا أنّ القرآن يعبر عن مُجازاة الله بـ «العذاب» وعن إيذاء الناس  بـ «الفتنة» وهذا التعبير إشارة إلى أنّ إيذاء الناس ليس عذاباً ـ في حقيقة الأمر ـ بل هو امتحان وطريق إلى التكامل.

وبهذا فإنّ القرآن يعلمهم أن لا يقايسوا بين هذين النوعين «العذاب» و«الإيذاء» ولاينبغي أن يتنصّلوا من «الإيمان» بحجّة أن المشركين والمخالفين يؤذيهم فإن هذ الإيذاء جزء من منهج الإمتحان الكلي في هذه الدنيا.

وهنا ينقدح سؤالٌ وهو: أي نصر جعله الله حليف المسلمين ونصيبهم، ليدعي المنافقون أنّهم شركاء في هذا النصر مع المسلمين؟!

ونقول في الجواب: إنّ الجملة الآنفة الذكر جاءت بصيغة «الشرط» ونعلم أنّ الجملة الشرطية لا دليل فيها على وجود الشرط، بل مفهومها هو أنّه لو اتفق أن كان النصر حليفكم في المستقبل، فإنّ هؤلاء المنافقين ـ ضعاف الإيمان ـ يرون أنفسهم شركاء في هذا النصر!

إضافة إلى كل ذلك فإنّ المسلمين في مكّة كانت لهم انتصارات على المشركين غير عسكرية بل انتصارات في التبليغ و «الإعلام» ونفوذ في الأفكار

[ 347 ]

العامة وتوغّل الإسلام في طبقات المجتمع...

ثمّ بعد هذا كله فإنّ التعبير بالايذاء مناسب لمحيط مكّة... وإلاّ فقلّ أن اتفق مثل هذا الإيذاء في محيط المدينة.

وقد تنوّر واتضح ـ ضمناً ـ هذا الموضوع الدقيق، وهو أن التعبير بالمنافق  لا يختص بمن ليس في قلبه ايمان اطلاقاً ويدعي الإيمان، بل حتى الافراد من ضعاف الإيمان الذين يتراجعون عن عقيداتهم نتيجة الضغوط والتأثير بفلان وفلان فهؤلاء أيضاً يُعدون من المنافقين.. والآية محل البحث ـ كما يظهر ـ تتحدث عن هذا النوع من المنافقين، وتصرح بأنّ الله مطلع على نيّاتهم وعليم بسرائرهم.

وفي الآية التالية ـ لمزيد التأكيد ـ يضيف القرآن قائلا: (وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين ).

فلو تصوروا أنّهم إذا أخفوا الحقائق فإنّهم سيكونون في منأى عن علم الله فهم في خطأ كبير جدّاً.

ونكرر هنا ـ مرّة اُخرى أنّ التعبير بالمنافقين ليس دليلا على أنّ هذه الآيات نزلت في المدينة، صحيح أنّ مسألة النفاق تقع عادة بعد انتصار جماعة والإستيلاء على الحكومة.. حيث يغير المخالفون أقنعتهم ويعملون في الخفاء حينئذ، إلاّ أن للنفاق ـ كما قلنا ـ معنى واسع، ويشمل حتى الأفراد ضعاف الإيمان الذين يبدّلون عقيدتهم لأدنى مكروه يصيبهم.

والآية الأُخرى بعدها تشير إلى منطق المشركين الخاوي والملتوي، الذي  لا يزال موجوداً في طبقات المجتمع الواسعة فتقول: (وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتّبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم )(1).

_____________________________

1 ـ جملة «ولنحمل» فعل دالّ على الأمر، وقد ولّد هذا التعبير إشكالا عند بعض المفسّرين، وهو: هل يمكن أن يأمر الإنسان نفسه؟! ثمّ قالوا في رد هذا الإشكال. إنّ هذا الأمر في حكم القضية الشرطية أي «إن اتبعتمونا حملنا خطاياكم» ـ كما في تفسير الرّازي ـ إلاّ أنّه في اعتقادنا لا يمنع أن يأمر الإنسان نفسه، والآمر والمأمور شخص واحد، إلاّ أنّه ذو اعتبارين... «فتأمل بدقّة» .

[ 348 ]

واليوم نرى كثيراً من الخبثاء يقولون للآخرين عند دعوتهم إلى أمر: إن كان فيه ذنب فعلى رقابنا!.

في حين أنّنا نعلم أنّه لا يمكن لأحد أن يتحمل وزر أحد، وأساساً فإنّ هذا العمل ليس معقولا وليس منطقياً.... فالله عادل سبحانه ولا يؤاخذ أحداً بجرم الآخر.

ثمّ بعد كل ذلك فإنّ الإنسان لا تسقط عنه المسؤولية في العمل بمثل هذه الكلمات، ولا يمكن له التنصّل منها... وخلافاً لما يتوهمه بعض الحمقى فإنّ مثل هذه التعبيرات لا تنقص من عقابهم حتى بمقدار رأس الإبرة.

ولذلك فلا يعتدّ بمثل هذا الكلام في أية محكمة كانت ولا يقبل من المذنب أن يقول: إن فلاناً تحمّل عنّي الوزر وجعله في رقبته!.

صحيح أن ذلك الإنسان حثه على الإجرام ودفعه إلى اقترافه، فهو شريكه، إلاّ أن هذا الإشتراك في الجريمة لا يخفّف عنه المسؤولية!

لذلك فإنّ القرآن يقول بصراحة في الجملة التالية (وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنّهم لكاذبون ).

هنا ينقدح السؤال التالي.. «إنّ الصدق والكذب هما في موارد الجمل الخبرية، في حين أن هذه الجملة إنشائية «ولنحمل خطاياكم» وليس في الجملة الإنشائية صدق أو كذب، فلم عبّر القرآن عنهم بأنّهم «كاذبون»؟!

والجواب على هذا السؤال يتّضح من البيان الذي ذكرناه سابقاً، وهو أن الجملة الأمرية هنا تتحول إلى جملة شرطية، ومفهومها أنّه إن اتبعتمونا حملنا خطاياكم وآثامكم، ومثل هذه الجملة تقبل الصدق والكذب(1).

_____________________________

1 ـ لدينا طريق آخر على الجواب على هذا السؤال، لأنّنا نعتقد وجود الصدق والكذب في الجملة الإنشائية أيضاً، ويلاحظ هذا في التعبيرات العرفية أيضاً... لأنّ الشخص ـ مثلا ـ إذا أمر بشيء ما فهو دليل على تعلقه به، وحين نقول: إنّه يكذب، فمعناه أنّه لم يطلبه «فلاحظوا بدقّة» .

[ 349 ]

وبعد ذلك، ومن أجل أن لا يتصور أن هؤلاء الدعاة للكفر والشرك وعبادة الأصنام والظلم، لا شيء عليهم من العقاب لهذا العمل، فإنّ القرآن يضيف في الآية التالية قائلا: (وليحملن أثقالهم أثقالا مع ثقالهم ).

وثقل الذنب هذا... هو ثقل ذنب الإغراء والإغواء وحث الآخرين على الذنب، وهو ثقل السنّة التي عبّر عنها النّبي(صلى الله عليه وآله) فقال: «من سنّ سنةً سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من وزره شيء!» (1).

المهم أنّهم شركاء في آثام الآخرين، وإن لم ينقص من وزر الآخرين وإثمهم مقدار من رأس الإبرة.

وتختتم الآية بالقول: (وليسئلنّ يوم القيامة عمّا كانوا يفترون ).

وينقدح هنا سؤال آخر وهو: ما المراد من هذا الإفتراء الذي يسألون عنه؟!

ولعل ذلك إشارة إلى الإفتراءات التي نسبوها إلى الله، وكانوا يقولون: «إن الله أمرنا أن نعبد الأصنام!».

أو أنّه إشارة إلى كلامهم الذي كانوا يقولون: «ولنحمل خطاياكم».

لأنّهم كانوا يدّعون أن مثل تلك الأعمال لا يترتب عليها إثم... وإن هذا الكلام كان افتراءً، وينبغي أن يجيبوا على ما يسألون بصدده!

أو أنّه يقال لهم على نحو الحقيقة والواقع يوم القيامة: هلموا لتحملوا أثقال الآخرين، فيمتنعون من ذلك ويظهر كذبهم وافتراءهم.... أو أنّ ظاهر كلامهم كان يعني أن كلّ إنسان يمكن أن يتحمل وزر الأخر ويكون مسؤولا عنه، في حين أن هذا الكلام كذب وافتراء محض أيضاً، وكل إنسان مسؤول عن عمله!.

* * *

_____________________________

1 ـ التّفسير الكبير للرازي، ج 25، ص 40.

[ 350 ]

مسألتان

1 ـ السنن الحسنة والسنن السيئة:

التخطيط لعمل ما ـ أو لمنهج ما ـ في المنطق الإسلامي له أثرهُ.. ويحمل صاحبه المسؤولية عنه ـ شاء أم أبى ـ ويكون مشاركاً للآخرين الذين يعملون بما خططه وسنّه، لأنّ أسباب العمل هي من مقدمات العمل، ونعرف أن كل شخص يكون دخيلا في مقدمة عمل إنسان آخر فهو شريكه أيضاً، فحتى لو كانت المقدمة بسيطة، إلاّ أن ذلك الشخص شريك مع ذي المقدمة.

والشاهد على هذا الكلام حديث منقول عن الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله) وهو أن سائلا جاء والنّبي(صلى الله عليه وآله) في طائفة من صحابته فطلب العون فلم يجبه أحد، ثمّ قام اليه رجل وناوله شيئاً فقام: الآخرون ورغّبوا في إعانته فقال النّبي(صلى الله عليه وآله): «من سنَّ خيراً فاستن به كان له أجره ومن أجور من تبعه غير منتقص من أجورهم شيئاً، ومن سنّ شرّاً فاستن به كان عليه وزره ومن أوزار من تبعه غير منتقص من أوزارهم شيئاً» --(1).

وقد ورد نظير هذا الحديث بعبارات مختلفة في مصادر الحديث عند الشيعة والسنة وهو حديث مشهور.

 

2 ـ جواب على سؤال:

أثار بعضهم هنا هذا السؤال، وهو أنّنا نلاحظ أحياناً في القوانين الإسلامية أن الدية تقع على شخص آخر... فمثلا في حالة قتل «الخطأ المحض» تقع الدية على العاقلة «والمراد بالعاقلة أقارب الرجل الذكور من طرف الأب... الذين تتوزع فيما بينهم دية قتل الخطأ المحض، ويدفع كلٌّ منهم قسماً حتى تتمّ الدية!».

أو ليست هنا منافاة بين هذه المسألة وبين الآيات المتقدمة؟

_____________________________

1 ـ تفسير الدر المنثور...

[ 351 ]

وفي الجواب على هذا السؤال نقول: إنّ «ضمان العاقلة» في الحقيقة نوع من التأمين الإلزامي المتقابل بين أعضاء العشيرة الواحدة.

فالإسلام ـ من أجل أن لا يتحمل الفرد الواحد العبء الثقيل للدية ـ ألزم أفراد العشيرة بأن يضمن بعضهم بعضاً في ديّة قتل الخطأ، وأن يقسموا المبلغ فيما بينهم فيدفع كل فرد منهم حصّة.

فقد يُخطىء اليوم أحدهم، وغداً قد يرتكب هذا الخطأ شخص آخر من العشيرة... «لمزيد الإيضاح نوكل المراجعة إلى الكتب الفقهية، بحث الديات».

وعلى كل حال، فإنّ هذا المنهج نوع من التعاون في سبيل حفظ المنافع المتقابلة، ولا يعني بأي وجه تحمل وزر الآخرين، خاصة وأنّ دية قتل الخطأ ليست أصلا جريمة ذنب، بل هي تعويض عن الخسارة! «فتأمل بدقّة» .

 

* * *

 

[ 352 ]

الآيات

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَة إلاَّ خَمْسَيْنَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَـلِمُونَ (14) فَأَنْجَيْنَـهُ وَأَصْحَـبَ السَّفِيْنَةِ وَجَعَلْنَـهَآ ءَايَةً لِّلْعَـلَمِينَ (15) وَإِبْراهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوالله وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ أَوْثَـناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِندَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُواْ لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إلاَّ الْبََلَـغُ الْمُبِينُ (18) أَوَ لَمْ يَرَواْ كَيْفَ يُبْدِىءُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (19)

 

التّفسير

إشارة لقصتي نوح وإبراهيم:

لما كان الكلام في البحوث السابقة عن الإمتحانات العامّة في الناس، فإنّ

[ 353 ]

الكلام هنا ـ وفي ما بعد ـ يقع على الإمتحانات الشديدة للأنبياء، وكيف أنّهم كانوا تحت ضغط الأعداء وإيذائهم، وكيف صبروا وكانت عاقبة صبرهم النصر! ليكون هذا الكلام تسلية لقلوب أصحاب النّبي(صلى الله عليه وآله) الذين كانوا تحت وطأة التعذيب الشديد من قبل الأعداء ـ من جانب ـ وتهديداً للأعداء لينتظروا عاقبتهم الوخيمة من جانب آخر.

تبدأ الآيات أوّلا بالكلام على أوّل نبي من أولي العزم وهو «نوح»(عليه السلام)، وتتحدث عنه بعبارات موجزة، لتُجملَ قسماً من حياته التي تناسب ـ كثيراً ـ الواقع الراهن للمسلمين ـ آنئذ ـ فتقول: (ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلاّ خمسين عاماً ).

كان نوح مشغولا ليلَ نهارَ بالتبليغ ودعوة قومه إلى توحيد الله ـ فرادى ومجتمعين،مستفيداً من جميع الفرص في هذه المدة الطويلة (أي تسعمائة وخمسين عاماً) يدعوهم إلى الله.. ولم يشعر بالتعب والنصب من هذا السعي المتتابع ولم يظهر عليه الضعف والفتور.

ومع كل هذا الجهد الجهيد لم يؤمن به إلاّ جماعة قليلة في حدود الثمانين شخصاً كما تنقل التواريخ (أي بمعدّل نفر واحد لكل اثنتي عشرة سنة!).

فعلى هذا لا تظهروا الضعف والتعب في سبيل الدعوة إلى الحق ومواجهة الإنحرافات، لأنّ منهجكم أمام منهج «نوح» سهل للغاية.

لكن لاحظوا كيف كانت عاقبة قوم نوح الظالمين الألدّاء: (فأخذهم الطوفان وهم ظالمون ).

وهكذا انطوى «طومار» حياتهم الذليلة، وغرقت قصورهم وأجسادهم وآثارهم في الطوفان وأمواجه.

والتعبير بـ (ألف سنة إلاّ خمسين عاماً ) مع إمكان القول «تسعمائة وخمسين سنة» من البداية، هو إشارة إلى عظمة المدة وطول الزمان، لأنّ عدد

[ 354 ]

«الألف» وأيّ ألف؟ ألف سنة! يعدّ مهماً وعدداً كبيراً بالنسبة لمدّة التبليغ.

وظاهر الآية الآنفة أنّ هذا المقدار لم يكن هو عمر نوح(عليه السلام) بتمامه (وإن ذُكر ذلك في التوراة الحديثة، في سفر التكوين الفصل التاسع) بل عاش بعد الطوفان فترة أُخرى، وطبقاً لما قاله بعض المفسّرين فقد كانت الفترة هذه ثلاثمائة سنة!

طبعاً... هذا العمر الطويل بالقياس إلى أعمار زماننا كثير جداً ولا يعدّ طبيعيّاً أبداً، ويمكن أن يكون ميزان العمر في ذلك العصر متفاوتاً مع عصرنا هذا... وبناءً على المصادر التي وصلت إلى أيدينا فإنّ قوم نوح كانوا معمرين، وعمر نوح بينهم أيضاً كان أكثر من المعتاد، ويشير هذا الأمر ضمناً إلى هيئة تركيب أجسامهم كانت تمكّنهم من أن يعمّروا طويلا.

إنّ دراسات العلماء في العصر الحاضر تدلّ على أن عمر الإنسان ليس له حد ثابت، وما يقوله بعضهم بأنّه محدود بمائة وعشرين سنة، و أكثر أو أقل، فلا أساس له... بل يمكن أن يتغير بحسب اختلاف الظروف.

واليوم وبواسطة التجارب استطاع العلماء أن يضاعفوا عمر قسم من النباتات أو الموجودات الحيّة، إلى اثني عشر ضعفاً على العمر الطبيعي، وحتى في بعض الموارد ـ ولا تتعجبوا ـ أوصلوا هذه الفترة للنباتات أو غيرها إلى تسعمائة مرّة ضعف عمرها الطبيعي... وإذا حالفهم التوفيق فيمكنهم أن يضاعفوا عمر الإنسان، فيمكن أن يعمّر الإنسان عندئذ آلاف السنين.(1)

وينبغي الإلتفات ضمناً إلى أن كلمة «الطوفان» في الأصل معناها كل حادثة تحيط بالإنسان، وهي مشتقّة من مادة «الطواف» ، ثمّ استعمل هذا التعبير للماء الغزير أو السيل الشديد الذي يستوعب مساحة كبيرة من الأرض ويغرقها، كما يطلق على كل شيء كثير وشديد وفيه حالة الاستيعاب، سواءً كان ريحاً أو ناراً

_____________________________

1 ـ لمزيد التوضيح في مسألة طول العمر، بمناسبة الأبحاث المتعلقة بطول عمر المهدي(عليه السلام)، يراجع كتاب «المهدي تحول كبير».

[ 355 ]

أو ماءً، فيسمى كلٌّ منها طوفاناً... كما قد يردُ بمعنى ظلمة الليل الشديدة أيضاً.(1)

الطريف أنّ القرآن يقول: (وهم ظالمون ) أي إنّهم حين وقوع العذاب «الطوفان» كانوا لا يزالون في ظلمهم أيضاً.

وهذا إشارة إلى أنّهم لو تركوا تلك الأعمال، وندموا على ما فعلوا، وتوجّهوا إلى الله، لما ابتلوا بمثل هذه العاقبة أبداً.

ويضيف القرآن الكريم في الآية الأُخرى (فانجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين )(2).

ثمّ يعقّب على قصّة نوح وقومه التي وردت بشكل مضغوط، ويأتي بقصّة إبراهيم(عليه السلام)، ثاني الأنبياء الكبار من أولي العزم فيقول: (وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون )(3).

هنا بيّن القرآن منهجين مهمّين من مناهج الأنبياء العملية والاعتقادية، وهما الدعوة إلى توحيد الله والتقوى ـ في مكان واحد ـ ثمّ يختتم القول: أن لو فكرتم جيداً لكان ذلك خيراً لكم عند اتباعكم لمذهب التوحيد والتقوى، إذ ينجيكم من دنياكم الملوّثة بالذنوب والشقاء، وتكون آخرتكم هي السعادة الأبديّة.

ثمّ يذكر إبراهيم(عليه السلام) أدلة بطلان عبادة الأصنام والأوثان، ويبيّن في تعابير مختلفة يتضمّن كل منها دليلا على فساد مذهبهم وبطلانه فيقول أوّلا: (إنّما تعبدون من دون الله أوثاناً ).

هذه الأوثان هي الأصنام الخالية من الروح.. الأصنام التي ليس لها إرادة،

_____________________________

1 ـ المفردات للراغب.

2 ـ القول في ما هو مرجع الضمير في «جعلناها» للمفسّرين احتمالات كثيرة، فبعضهم قال: هو إشارة إلى مجموع هذه الواقعة والحادثة، وقال بعضهم: هي نجاة نوح(عليه السلام) فحسب ـ مع أصحابه ـ وأشار بعضهم إلى أن المراد من «جعلناها» هي السفينة، وظاهر العبارة المتقدمة ـ أيضاً ـ تؤيد هذا الإحتمال الأخير، وحقاً كانت هذه السفينة آيةً من آيات الله في ذلك العصر، وفي تلك الحادثة العظيمة.

3 ـ الظّاهر أنّ «إبراهيم» معطوف على كلمة «نوح» وفعله «أرسلنا» ، وبعضهم عطفه على مفعول (أنجيناه) وبعضهم جعله مفعولا لفعل محذوف تقديره «اذكر» .

[ 356 ]

ولا عقل، وهي فاقدة لكل شيء، بحيث أن شكلها بنفسه هو دليل على بطلان عقيدة «عبادة الأوثان»

(لاحظوا أن «الأوثان» هي جمع لكلمة «وثن» على زنة «صنم» ومعناها «الحجارة المنحوتة» الموضوعة للعبادة!).

ثمّ يتوسع في حديثه ويمضي إلى مدى أبعد فيقول: ليست هذه الأوثان بهيئتها تدل على أنّها لا تستحق العبادة فحسب، بل أنتم تعلمون بأنّكم تكذبون وتضعون اسم الآلهة على هذه الأوثان: (وتخلقون إفكا ).

فأي دليل لديكم على هذا الكذب سوى حَفنة من الأوهام والخرافات الباطلة.

وحيث أن كلمة «تخلقون» مشتقّة من الخلق، وتعني أحياناً الصنع والإبداع، وأحياناً تأتي بمعنى الكذب، فإنّ بعض المفسّرين ذكر تفسيراً آخر لهذه الجملة غير ما بيّناه آنفاً... وقالوا إنّ المقصود من هذا التعبير هو أنّكم تنحتون هذه الأوثان... المعبودات الباطلة المزوّرة بأيديكم، وتصنعونها (فيكون المراد من الإفك هنا هو المعبودات المزورّة) والخلق هو النحت هنا(1).

ثمّ يبيّن الدليل الثّالث وهو أن عبادتكم لهذه الأوثان إمّا لأجل المنافع المادية، أو لعاقبتكم في «الأُخرى» وكلا الهدفين باطل... وذلك: (إنّ الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقاً ).

وأنتم تعتقدون بأنّ هذه الأصنام لم تكن خلقتكم، بل الخالق هو الله، فالذي يتكفل بالرزق هو الله (فابتغوا عند الله الرزق ).

ولأنّه هو الذي يرزقكم فتوجهوا إليه (واعبدوه واشكروا له ).

وبتعبير آخر، فإن واحداً من أسباب العبادة وبواعثها هو الإحساس بالشكر

_____________________________

1 ـ «الإفك» يطلق في الأصل على كل شيء مختلف عن حقيقته، ولذلك يطلق على الكذب ـ خاصة الكذب الكبير ـ أنّه إفك، كما تطلق هذه الكلمة على الرياح المخالفة لإتجاهها ومسيرها فيقال «رياح مؤتفكة».

[ 357 ]

للمنعم الحقيقي، وتعرفون أن المنعم الحقيقي هو الله، فالشكر والعبادة يختصان ـ أيضاً ـ بذاته المقدسة.

وإذ كنتم تبتغون الدار الأُخرى فإنّه (إليه ترجعون ).

فالأصنام لا تصنع شيئاً هنا ولا هناك!.

وبهذا الأدلّة الموجزة والواضحة ألجم منطقهم الواهي وأفحمهم.

ثمّ يلتفت إبراهيم (عليه السلام) مهدّداً لهم ومبدياً عدم اكتراثه بهم قائلا: (وإن تكذبوا فقد كذب أُمم من قبلكم ) كذبوا أنبياءهم فنالوا الخزي بتكذيبهم والعاقبة الوخيمة (وما على الرّسول إلاّ البلاغ المبين ) سواءً استجاب له قومه، أم لم يستجيبوا له دعوته وبلاغه!

والمقصود بالأُمم قبل أُمة إبراهيم(عليه السلام) ، أُمة نوح(عليه السلام) وما بعده من الأُمم وبالطبع فإنّ إرتباط هذه الآيات يوجب أن تكون هذه الجملة من كلمات إبراهيم(عليه السلام)، وهذا ما يذهب إليه كثير من المفسّرين عند تفسيرهم للنص، أو يحتملون ذلك!.

والاحتمال الآخر: إنّ الخطاب في هذه الآية للمشركين من أهل مكّة المعاصرين للنّبي(صلى الله عليه وآله) وجملة (كذب أُمم من قبلكم ) فيها تتناسب أكثر مع هذا الاحتمال.

أضف إلى ذلك، فإنّ نظير هذا التعبير الذي ورد في الآية 25 من سورة الزمر، والآية (25) من سورة فاطر، هو أيضاً في شأن نبي الإسلام(صلى الله عليه وآله) والمشركين العرب في مكّة. ولكن ـ وعلى أي حال ـ أيّاً من التّفسيرين كان ذلك، فليس هناك تفاوتٌ في النتيجة!.

والقرآن يترك قصّة إبراهيم هنا مؤقتاً، ويكمل البحث الذي كان لدى إبراهيم في صدد التوحيد وبيان رسالته بدليل المعاد، فيقول: (أو لم يروا كيف يبدىء الله الخلق ثمّ يعيده ).

[ 358 ]

والمراد بالرؤية هنا هي الرؤية «القلبية» والعلم، أي كيف لا يعرف هؤلاء خلق الله؟ فالذي له القدرة على الإيجاد أولا قادر على إعادته أيضاً، فالقدرة على شيء ما هي قدرة على أمثاله وأشباهه أيضاً.

كمايأتي هذا الإحتمال، وهو أنّ الرؤية هنا هي الرؤية «البَصَيريّة» والمشاهدة بالعين... لأنّ الإنسان يرى بعينيه كيف تحيا الأرض وتنمو النباتات، وتتولد الدجاجة من البيض، والأطفال من النطف... فمن له القدرة على هذا الأمر قادر على أن يحيي الموتى من بعدُ أيضاً.

ويضيف في آخر الآية على سبيل التأكيد (إنّ ذلك على الله يسير ). لأنّ تجديد الحياة قبال الإيجاد الأوّل يُعدّ أمراً بسيطاً.

وطبيعي أنّ هذا التعبير يناسب منطق الناس وفهمهم، وإلاّ فإن اليسير والعسير لا مفهوم لهما عند من قدرته غير محدودة والمطلقة... فهذه قدراتنا التي أوجدت مثل هذا «المفهوم»، ومع الإلتفات إلى إنجازها... ظهرت لدينا أُمور يسيرة وأُخرى عسيرة.

* * *

 

[ 359 ]

الآيات

قُلْ سِيِرُوا فِى الاَْرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنشِىءُ النَّشْأةَ الاَْخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَآءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَآ أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِى الاَْرْضِ وَلاَ فِى السَّمَآءِ وَمَا لَكُمْ مِّنْ دُونِ اللهِ مِن وَلِىٍّ  وَلاَ نَصِير (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَاَيَـتِ اللهِ وَلِقآئِهِ أُولَـئِك يئِسُواْ مِن رَّحْمَتِى وَأُولَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23)

 

التّفسير

الآيسون من رحمة الله:

هذه الآيات تواصل البحث في المعاد أيضاً، على صُورة جُمَل معترضة في قصّة إبراهيم(عليه السلام).

وليست هذه أوّل مرّة نواجه فيها مثل هذا الأسلوب... فهذه هي طريقة القرآن دائماً، فعندما يبلغ مرحلة حساسة من ذكر قصّة ما، يترك بقيّة القصّة مؤقتاً للإستنتاج أكثر، ثمّ يعطي النتائج اللازمة.

وعلى كل حال، فإنّ القرآن يدعو في الآية الأُولى من هذا المقطع الناس إلى

[ 360 ]

«السير في الآفاق» في مسألة المعاد... في حين أن الآية السابقة كانت السمة فيها «السير في الأنفس» أكثر! يقول القرآن: (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ) انظروا الى أنواع الموجودات الحية، والاقوام والاُمم المتنوعة والمختلفة، وكيف أنّ الله تعالى خلقها أولا، ثمّ أن الله نفسه الذي أوجدها في البداية من العدم قادر ايضاً على ايجادها في الآخرة (ثمّ الله ينشىءُ النشأة الآخرة )

ولأنّه أثبت قدرته على كل شيء حين خلق الخلق أولا، إذن فـ ـ(إنَّ الله على كل شيء قدير ).

فهذه الآية والآية التي قبلها ـ أيضاً ـ أثبتتا بواسطة قدرته الواسعة إمكان المعاد.. مع فرق أن الآية الأُولى تتحدث عن الإنسان نفسه وخلقه وما حوله! والآية الثّانية تأمر بمطالعة حالات الأُمم والموجودات الأخرى، ليروا الحياة الأُولى في صور مختلفة وظروف متفاوتة تماماً، وليطّلعوا على عموميّة قدرة الله، وليستيقنوا قدرته على إعادة هذه الحياة!.

كما أن إثبات التوحيد يتمُّ ـ أحياناً ـ عن طريق مشاهدة «الآيات في الأنفس» وأحياناً عن طريق «الآيات في الآفاق» فكذلك يتمّ إثبات المعاد عن هذين الطريقين أيضاً.

وفي عصرنا هذا يمكن أن تبيّن هذه الآيات للعلماء معنىً أعمق وأدق، وهو أن يمضوا ويلاحظوا الموجودات الحيّة الأُولى التي هي في أعماق البحار على شكل فسائل ونباتات وغيرها، وفي قلب الجبال، وبين طبقات الأرض، ويطلعوا على جانب من أسرار بداية الحياة على وجه الأرض، ويدركوا عظمة الله وقدرته، وليعلموا أنّه قادر على إعادة الحياة أيضاً(1).

_____________________________

1 ـ سبق أن تعرضنا إلى بحث حول «السير في الأرض» وآثاره، غير أنّ البحث الفائت كانت فيه جوانب من دروس العبرة في مجال قصص الأمم الماضية وطغاتها. التّفسير الأمثل ذيل الآية (137) سورة آل عمران، فلا بأس بمراجعتها.

[ 361 ]

هذا وإن كلمة «النشأة» في الأصل، تعني إيجاد الشيء وتربيته، وقد يعبرأحياناً عن الدنيا بالنشأة الأولى، كما يعبر عن الأُخرى بالنشأة الآخرة!.

وهذه اللطيفة جديرة بالملاحظة، وهي أنّ في ذيل الآيات السابقة ورد التعبير «إن ذلك على الله يسير» وورد التعبير هنا (إن الله على كل شيء قدير ).

ولعل منشأ التفاوت والإختلاف هو أن الآية الأُولى تعالج مطالعة محدودة، أمّا الثّانية فتعالج وتبيّن مطالعة وسيعة جدّاً.

ثمّ يتعرض القرآن الكريم إلى إحدى المسائل المتعلقة بالمعاد، وهي مسألة الرحمة والعذاب، فيقول: (يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقلبون ).

ومع أنّ رحمة الله مقدمةٌ على غضبه، إلاّ أن الآية هنا تبدأ أولا بذكر العذاب ثمّ الرحمة، لأنّها في مقام التهديد، وما يناسب مقام التهديد هو هذا الأُسلوب!.

هنا ينقدح السؤال التالي:

كيف يتحدث القرآن أوّلا عن العذاب والرحمة، ثمّ يتحدث عن معاد الناس إليه (واليه تقلبون )؟ في حين أن القضية على العكس من ذلك، ففي البداية يحضر الناس عند ساحته، ثمّ يشملهم العذاب أو الرحمة.. وربّما كان هذا هو السبب في أن يعتقد بعضهم أن العذاب والرحمة المذكورين هنا هما في هذه الدنيا.

ونقول جواباً على مثل هذا السؤال: إن العذاب والرحمة ـ بقرينة الآيات السابقة واللاحقة ـ هما عذاب القيامة ورحمتها، وجملة (وإليه تقلبون ) إشارة إلى الدليل على ذلك: أي: بما أنّ معادكم إليه وكتابكم وحسابكم لديه، فالعذاب والرحمة ـ أيضاً ـ بإرادته وتحت أمره!.

ولا يبعد أن يكون العذاب والرحمة في هذه الآية لهما معنى واسع، بحيث

[ 362 ]

يشمل العذاب والرحمة في الدارين.

كما يتّضح أنّ المراد بقول: (من يشاء ) هو المشيئة الإلهية المقرونة بحكمته، أي كل من كان جديراً ومستحقاً لذلك.. فإن مشيئة الله ليست عبثاً، بل منسجمة مع الإستحقاق والجدارة!.

وجملة «تنقلبون» من مادة«القلب» ومعناها في الأصل: تغيير الشيء من صورة إلى صورة أُخرى، وحيث أن الإنسان في يوم القيامة يعود إلى هيئة الموجود الحي الكامل بعد أن كان تراباً لا روح فيه، فقد ورد هذا التعبير في إيجاده ثانيةً أيضاً.

ويمكن أن يكون هذا التعبير إشارة إلى هذه اللطيفة الدقيقة ـ أيضاً ـ وهي أن الإنسان يتبدل في الدار الأُخرى ويتغيّر تغيراً ينكشف باطنه به وتتجلى أسراره الخفية، وبهذا فهي تنسجم مع الآية (9) من سورة الطارق (يوم تبلى السرائر ).

وإكمالا لهذا البحث الذي يبيّن أن الرحمة والعذاب هما بيد الله والمعاد إليه، يضيف القرآن: إذا كنتم تتصورون أنّكم تستطيعون أن تهربوا من سلطان الله وحكومته ولايمسّكم عذابه، فأنتم في خطأ كبير... فليس الأمر كذلك! (وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء )(1).

وإذا كنتم تتصورون أنّكم تجدون من يدافع عنكم وينصركم هناك، فهذا خطأ محضٌ أيضاً (وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير ).

وفي الحقيقة، فإنّ الفرار من قبضة الله وعذابه، إمّا بأن تخرجوا من حكومته، وإمّا بأن تعتمدوا مع بقائكم في حكومته على قدرة الآخرين لتدافعوا عن أنفسكم، فلا الخروج ممكن، لأنّ البلاد كلّها له وعالم الوجود كلّه ملكه الواسع،

_____________________________

1 ـ كلمة «معجزين» مشتقّة من مادة «عجز»، ومعناها في الأصل التخلّف والتأخر عن الشيء، ولذلك تستعمل هذه الكلمة في الضعف الباعث على التخلف والتأخر، «المعجزة» معناه الذي يجعل الآخر عاجزاً، وحيث أن الأفراد الذين يفرون من سلطان أحد وقدرته، يعجزونه عن ملاحقتهم، لذلك استعملت كلمة «معجز» في هذا الصدد أيضاً...

[ 363 ]

ولا يوجد أحد يستطيع أن يقف أمام قدرته وينهض للدفاع عنكم.

 

يبقى هنا سؤالان: ـ

أوّلا: مع الإلتفات إلى هذه الحقيقة، وهي أن مقصود الآية هو في الكفار والمشركين، وهم سكنة الأرض، فما معنى قوله تعالى: (ولا في السماء ) وأي مفهوم له هنا؟!

وينبغي أن يقال في الجواب، أن هذا التعبير هو نوع من التأكيد والمبالغة، أي إنكم لا تستطيعون أن تخرجوا من قدرة الله وسلطانه في هذه الأرض، ولا في السماوات، إذ حتى لو فرضنا أنّكم تستطيعون أن تصعدوا في السماء، فمازلتم تحت قدرته و سلطانه.

أو إنّه: لا تستطيعون أن تعجزوا الله في مشيئته بواسطة من في الأرض، ولا بواسطة من تعبدون في السماوات، من أمثال الملائكة والجن (والتّفسير الأوّل أكثر مناسبة ـ طبعاً ـ)

ثانياً: ما الفرق بين الولي والنصير؟!

يرى العلامة «الطبرسي» في «مجمع البيان» وقيل: إن الولي الذي يتولى المعونة بنفسه والنصير يتولى النصرة تارةً بنفسه بأن يأمره غيره به»(1).

بل يمكن القول مع ملاحظة الكلمتين هاتين، أن الولي إشارة إلى من يعيّن دون طلب [ من عليه الولاية] ، والنصير هو المستصرخ الذي يأتي لإعانة الإنسان بعد استصراخه.

وهكذا يغلق القرآن جميع أبواب الفرار بوجه هؤلاء المجرمين..

لذلك يقول في الآية التي بعدها بشكل قاطع: (والذين كفروا بآيات الله ولقائه أُولئك يئسوا من رحمتي )

_____________________________

1 ـ مجمع البيان، ج ، ص 352.

[ 364 ]

ثمّ يضيف مؤكداً: (وأُولئك لهم عذاب أليم ).

العذاب الأليم» هو لزم اليأس من رحمة الله.

والمراد بـ «ايات الله» إمّا هي «الآيات التكوينية» أي آثار عظمة الله في نظام خلقه وإيجاده، وفي هذه الصورة فهي إشارة إلى مسألة التوحيد، في حين أن كلمة «لقائه» إشارة إلى مسألة المعاد، أي إنّهم منكرون للمبدأ وللمعاد كليهما.

أو أنّ المراد من آيات الله هي «الآيات التشريعية» أي هي الآيات التي أنزلها الله على أنبيائه، التي تتحدث عن المبدأ وعن النبوة وعن المعاد، وفي هذه الحال يكون التعبير بـ «لقائه» من قبيل ذكر الخاص بعد العام.

كما يمكن أن يكون المقصود من آيات الله هي جميع الآيات في عالم الوجود والتشريع.

وينبغي ذكر هذه المسألة ـ أيضاً ـ وهي أن «يئسوا» فعل ماض والهدف منه هو الاستقبال ـ أي في يوم القيامة ـ والعرب عادةً إذا تحدثوا عن أمر مستقبلي بصورة التأكيد عبروا عنه بصيغة الماضي، للدلالة على تحققه قطعاً وحتماً.

 

* * *

 

 

 

[ 365 ]

 

 

 

 

الآيات

فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إلاِّ أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَـهُ اللهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِى ذلِكَ لاََيَـت لِّقَوْم يُؤمِنُونَ (24) وَقَالَ إِنَّما اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثَـناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَـمَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْض وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّـصِرِينَ (25) فَأَمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّى مُهِاجِرٌ إِلَئ رَبِّى إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَـقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِى ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَـبَ وَءاتَيْنَـهُ أَجْرَهُ فِى الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِى الاَْخِرَةِ لَمِّنَ الصَّـلِحِينَ (27)

 

التّفسير

اسلوب المستكبرين في جوابهم لإبراهيم:

والآن علينا أن نعرف ماذا قال هؤلاء القوم الضّالون لإبراهيم(عليه السلام) ردّاً على أدلته الثّلاثة في مجال التوحيد والنّبوة والمعاد؟!

إنّهم ـ قطعاً ـ لم يكن لديهم جواب منطقي وكجميع الأقوياء المستكبرين فقد توسّلوا بقدراتهم الشيطانية وأصدروا أمراً بقتله، حيث يصرّح بذلك القرآن الكريم فيقول: (فما كان جواب قومه إلاّ أن قالوا اقتلوه أو حرّقوه! ).

[ 366 ]

ويستفاد من هذا التعبير أن جماعة كانوا يميلون إلى حرق إبراهيم بالنّار، في حين كانت جماعة أُخرى تقترح أن يقتل بالسيف أو ما شاكله!

وأخيراً رُجح الرأىُ الأوّل، لأنّهم كانوا يعتقدون أنّ أشدّ حالات الإعدام هو الاحراق بالنّار.

كما ويحتمل أيضاً أنّهم جميعاً كانوا يفكرون في قتله بالوسائل الطبيعية، غير أنّهم اتفقوا أخيراً على إحراقه بالنّار، وأن يبذلوا قصارى جهدهم في هذا الأمر.

وفي هذه الآية الكريمة لم يرد كلام عن كيفية إحراق إبراهيم(عليه السلام) بالنّار سوى هذا المقدار الذي استكملت به الآية الكريمة، وهو (فأنجاه الله من النّار ).

غير أن تفصيل ما جرى عليه من الإحراق ورد في سورة الأنبياء (الآيات 68 ـ 70) وقد بيّنا ذلك هناك، فلا بأس بمراجعته!

ويضيف القرآن في الختام (إنّ في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ).

ولم تكن علامة وآية واحدة في هذا الصدد وفي هذه الحادثة، بل علائم وآيات... فمن جانب فإنّ عدم تأثير النّار في جسد إبراهيم بنفسه معجزة واضحة، وتبدل النّار إلى روضة و«سلام» على إبراهيم كما هو معروف معجزة أُخرى، وعدم استطاعة هذه الجماعة القوية التغلب على شخص واحد ـ وهو أعزل من كل وسيلة بحسب الظاهر ـ كان معجزة ثالثة أيضاً.

كما أنّ عدم تأثير هذا الحادث العجيب الخارق للعادة في أُولئك المظلمة قلوبهم، آية من آيات الله، إذ يسلب التوفيق من أمثال هؤلاء الأفراد المعاندين الألدّاء، بحيث لا تؤثر فيهم أعظم الآيات!.

وقد ورد في بعض الرّوايات أنّه لما اُلقي بإبراهيم الخليل مكتوف اليدين والرجلين في النّار، فإن الشيء الوحيد الذي احترق منه هو الحبل الذي كان مشدوداً وموثقاً به(1).

_____________________________

1 ـ تفسير روح المعاني، ج 20، ص 130.

[ 367 ]

أجل، إنّ نار الجهل وجناية المنحرفين إنّما أحرقت وسائل الاسر، فتحرر إبراهيم(عليه السلام) منها... وهذه بنفسها تعدُّ آية أُخرى.

وربّما كان ـ لهذه الأسباب ـ أن عبّر القرآن عن قصّة نوح وسفينته بقوله: (جعلناها آية ) بصيغة الإفراد، ولكنّه عبّر هنا بقوله: (لآيات ) بصيغة الجمع!.

وعلى كل حال فإنّ ابراهيم(عليه السلام) نجّي من النّار بصورة خارقة للعادة وبلطف الله سبحانه، غير أنّه لم يترك أهدافه.. بل نهض بالأمر وازداد همّة وأعطى لأهدافه حرارة أكثر.

ثمّ توجه إبراهيم إلى المشركين (وقال إنّما اتخذتم من دون الله أوثاناً مودّة بينكم في الحياة الدنيا ) ولكن هذه المودّة والمحبّة تتلاشى في الآخرة (ثمّ يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضاً ومأواكم النّار ومالكم من ناصرين ).

كيف تكون الأوثان أساساً للمودّة بين عبدة الأوثان؟!

هذا السؤال يمكن الإجابة عليه من عدّة طرق:

الأوّل: أن عبادة الصنم أو الوثن كانت رمزاً للوحدة لكل قوم ولكل قبيلة، لأنّ كل جماعة اختارت لنفسها وثناً، كما ذكروا في شأن أصنام الجاهلية، إذ كان كل صنم يعود لقبيلة من القبائل العربية، فصنم «العزّى» كان لقريش، و«اللاّت» كان خاصاً بثقيف، أمّا «منات» فكان خاصاً بالأوس والخزرج!.

الثّاني: أن عبادة الأوثان تربط بينهم وبين اسلافهم وغالباً ما كانوا يعتذرون بمثل هذا العذر ويقولون: إنّ هذه الأوثان كان عليها السلف ونحن نتبع السلف ونمضي على دين آبائنا.

ثمّ بعد هذا كلّه فإنّ سراة(1) الكفار كانوا يدعون أتباعهم إلى عبادة الأوثان، وكان هذا الأمر بمثابة «حلقة الاتصال» بين السراة والأتباع.

_____________________________

1 ـ «السراة» جمع مفردها سريّ ـ كبير القوم. (المصحح)

[ 368 ]

ولكن هذه العلائق والوشائج والإرتباطات الخاوية تتقطع جميعها يوم القيامة، وكل فرد يلقي التبعة والذنب على رقبة الآخر، ويلعنه ويتبرأ. منه ومن عمله، حتى المعبودات التي كانوا يتصورون أنّها الوسيلة إلى الله، وكانوا يقولون في شأنها (ما نعبدهم إلاّ ليقربونا إلى الله زلفى )،(1) ـ تتبرأ منهم.

وكما يصوّر القرآن هذه الحالة في سورة مريم الآية 82 يقول: (كلاّ سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضداً ).

فعلى هذا، يكون المراد من قوله تعالى: (يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضاً ) هو أنّهم يتبرأ بعضهم من بعض في ذلك اليوم، وما كان أساساً لعلاقة المودة الكاذبة في الدنيا يكون مدعاة للعداوة والبغضاء في الآخرة.. كما يعبّر القرآن عن ذلك في الآية (67) من سورة الزخرف فيقول: (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدوّ إلاّ المتقين ).

ويستفاد من بعض الرّوايات أنّ هذا الحكم غير مختص بعبدة أوثان، بل هو لجميع أُولئك الذين اختاروا «إماماً باطلا» لأنفسهم، فاتبعوه وتعاهدوا معه على المودة، ففي يوم القيامة يكونون أعداءً فيما بينهم، ويتبرأ بعضهم من بعض ويلعن بعضهم بعضاً.(2) في حين أنّ علاقة المحبّة بين المؤمنين قائمة على أساس التوحيد وعبادة اللّه وإطاعة أمر الحق في هذه الدنيا وهذه العلاقة سيكتب لها الدوام، وفي الآخرة تكون أكثر تماسكاً.. حين إنّه يستفاد من بعض الروايات أنّ المؤمنين يستغفر بعضهم لبعض ويتشفع بعضهم لبعض في يوم القيامة.. في وقت يتبرأ فيه المشركون بعضهم من بعض ويلعن بعضهم بعضاً(3).

وفي الآية التي بعد تلك الآية إشارة إلى إيمان لوط وهجرة إبراهيم، إذ تقول:

_____________________________

1 ـ سورة الزمر، الآية 3.

2 ـ أصول الكافي، طبقاً لما ورد في تفسير نور الثقلين، ج 4، ص 154.

3 ـ كتاب الصدوق، طبقاً لما ورد في تفسير نور الثقلين، ج4، ص154.

[ 369 ]

(فآمن له لوط ).

«لوط» نفسه من الأنبياء العظام، وكانت له مع إبراهيم علاقة قربى «يقال إنّه كان ابن أخت ابراهيم(عليه السلام)» وحيث أن اتّباع شخص عظيم ـ لإبراهيم ـ بمنزلة أفراد اُمّة كاملة فقد تحدث سبحانه ـ خاصةً ـ عن إيمان «لوط» وشخصيته الكبرى المعاصرة لإبراهيم(عليه السلام)، ليتّضح أنّه إذ لم يؤمن الآخرون، فإنّ ذلك ليس مهمّاً.

ويبدوا أنّه كانت في أرض بابل قلوب مهيأة لقبول دعوة إبراهيم الخليل(عليه السلام)، وقد التفوا حوله بعد مشاهدة تلك المعجزة العظيمة، غير أنّه من المسلّم به أنّهم كانوا «أقليّة».

ثمّ تضيف الآية عن هجرة إبراهيم(عليه السلام) فتقول: (وقال إنّي مهاجر إلى ربّي إنّه هو العزيز الحكيم ).

ومن الوضوح بمكان أنّه حين يؤدي القادة الإلهيون رسالتهم في محيط ما، ويكون هذا المحيط ملوثّاً وتحت تأثير الجبابرة، بحيث لا تتقدّم دعوتهم أكثر، فينبغي أن يهاجروا إلى منطقة أُخرى لتتسع دعوة الله في الإرض!.

فلذلك تحرك ابراهيم(عليه السلام) وزوجه سارة ـ بمعيّة لوط ـ من بابل إلى أرض الشام مهد الأنبياء والتوحيد، ليستطيع أن يكتسب جماعة هناك ويوسع دعوة التوحيد!.

من الطريف أنّ إبراهيم(عليه السلام) يقول في هذا الصدد: (إنّي مهاجر إلى ربي )لأنّ ذلك الطريق كان طريق الله، طريق رضاه، وطريق دينه ومنهاجه.

وبالطبع فإنّ بعض المفسّرين احتمل أن يكون الضمير في قوله تعالى: (وقال إنّي مهاجر ) عائد على لوط(عليه السلام)، أي إنّ لوطاً قال: إنّي مهاجر إلى ربّي، وظاهر الجملة منسجم مع هذا المعنى أيضاً، إلاّ أن الشواهد التاريخية تدلّ على أن الضمير يعود على إبراهيم(عليه السلام)، وكانت هجرة لوط بمعية إبراهيم.

[ 370 ]

والشاهد على هذا الكلام قول إبراهيم(عليه السلام) في الآية (99) من سورة الصافات (إنّي ذاهب إلى ربّي سيهدين ). (1)

وفي آخر آية من هذا المقطع يقع الكلام على المواهب الأربع التي منحها الله لإبراهيم(عليه السلام) بعد الهجرة العظيمة:

الموهبة الأولى: الأبناء الصالحون، من أمثال إسحاق ويعقوب، ليسرجوا مصباح الإيمان والنّبوة في بيته وأسرته ويحافظوا عليه، إذ يقول القرآن: (ووهبنا له إسحق ويعقوب ) وهما نبيّان كبيران واصل كلّ منهما السير على منهاج إبراهيم(عليه السلام)محطم الأصنام.

الموهبة الثّانية: (وجعلنا في ذريّته النّبوة والكتاب ) ولم تكن النّبوة في إسحاق بن إبراهيم ويعقوب حفيده فحسب، بل استمر خط النّبوة في ذريّة إبراهيم(عليه السلام) واُسرته حتى نبوّة خاتم الأنبياء محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) متعاقبون من ذرية إبراهيم، نوّروا العالم بضياء التوحيد.

الموهبة الثّالثة: (وآتيناه أجره في الدنيا ) فما هو هذا الأجر الذي لم يوجهه القرآن؟ لعله إشارة إلى أُمور مختلفة مثل الاسم الحسن، ولسان الصدق والثناء بين جميع الأُمم، لأنّ الأُمم كلها تحترم ابراهيم(عليه السلام) على أنّه نبي عظيم الشأن، ويفتخرون بوجوده ويسمونه «شيخ الأنبياء».

عمارة أرض مكّة كانت بدعائه، وجذب قلوب الناس جميعاً نحوه، لتتذكر ذكريات التجلي والإيمان كل سنة في مناسك الحج، كل ذلك من هذا الأجر المشار اليه في القرآن.

الموهبة الرّابعة: هي (إنّه في الآخرة من الصالحين ) وهكذا تشكّل هذه

_____________________________

1 ـ هناك بحث مفصل في هجرة إبراهيم(عليه السلام) من بابل إلى الشام في ذيل الآية (71) من سورة الأنبياء من التّفسير الأمثل، فلا بأس بمراجعته.

[ 371 ]

المواهب مجموعة كاملة من المفاخر.

* * *

 

ملاحظتان

1 ـ أكبر الفخر!...

«الدخول في الصالحين» بالشكل الذي يستنتج من كثير من آيات القرآن هو أوج الفخر، وقد يحظى به انسان معين فيكون من نصيبه. ولذلك فإنّ كثيراً من الأنبياء كانوا يسألون الله أن يدخلهم في زمرة عباده الصالحين.

فيوسف(عليه السلام) بعد وصوله إلى أبرز الإنتصارات الظاهرية يسأل الله فيقول: (توفني مسلماً والحقني بالصالحين ).(1)

وكذلك نبيّ الله سليمان(عليه السلام) مع ما لديه من جاه وحشمة وجلالة، يطلب من الله (أدخلني برحمتك في عبادك الصالحين )(2)

وشعيب(عليه السلام)، ذلك النّبي العظيم، حين وقع العقد على استئجار موسى قال له: (ستجدني إن شاء الله من الصالحين ).(3)

وإبراهيم(عليه السلام) أيضاً يطلب لنفسه من الله أن يكون في زمرة الصالحين (ربّ هب لي حكماً وألحقني بالصالحين ).(4)

كما يطلب من الله أن يرزقه أبناءً صالحين فيقول: (ربّ هب لي من الصالحين ).(5)

_____________________________

1 ـ سورة يوسف، الآية 101.

2 ـ سورة النمل، الآية 19.

3 ـ سورة القصص، الآية 37.

4 ـ سورة الشعراء، الآية 83.

5 ـ سورة الصافات، الآية 100.

[ 372 ]

كما نلاحظ في كثير من الآيات أن الله سبحانه حين يمدح أنبياءه العظام في كتابه، يصفهم بأنّهم «من عباده الصالحين».

ويستفاد من مجموع هذه الآيات ـ بصورة جيدة ـ أن أسمى مراحل تكامل الإنسان هو أن يكون عبداً صالحاً.

ما معنى الصلاح؟! وبعبارة أجلى: ما معنى أن يكون الإنسان صالحاً؟!

معناه: أن يكون جديراً بالاعتقاد والإيمان، جديراً بالعمل، جديراً بالقول، جديراً بالاخلاق!

أمّا ما يقابل الصالح فهو الفاسد، ونعرف أن «الفساد في الأرض» تعبير يشمل جميع أنواع الظلم والأعمال السيئة.

وفي القرآن الكريم يستعمل الصلاح ـ أحياناً ـ في مقابل الفساد، ويستعمل ـ أحياناً ـ في مقابل السيئة، وتعني «الذنب» وما لا يليق.

 

2 ـ مواهب إبراهيم العظيمة

قال بعض المفسّرين: إنّ في الآية الآنفة لطيفة دقيقة.. هي أنّ الله بدل جميع الأُمور والأحوال التي تؤدي بإبراهيم إلى الإستياء، إلى الضدّ.

فعبدة الأوثان في بابل أرادوا إحراقه بالنّار، فتبدلت روضة وسلاماً.

وأرادوه أن يبقى منفرداً معزولا عن الناس، فوهب الله له أُمّة عظيمة وجعل النّبوة في ذراريه.

وكان بعض أقاربه ضالا وعابداً للصنم كما هي الحال في «آزر» فأعطاه الله مكانه أبناءً مهتدين وهادين للآخرين.

ولم يكن لإبراهيم(عليه السلام) في بداية حياته مال ولا جاه، فوهب له الله مالا وجاهاً عظيماً.

[ 373 ]

وكان إبراهيم(عليه السلام) في بداية أمره مجهولا لا يعرفه الناس حتى أن عبدة الأوثان في بابل حين أرادوا تعريفه (قالوا سمعنا فتىً يذكرهم يقال له إبراهيم ).

لكن الله سبحانه رفع مقامه وأعلى صيته، حتى أنّه إذا ذكر قيل في حقّه «شيخ الأنبياء» أو «شيخ المرسلين»(1).

 

* * *

_____________________________

1 ـ تفسير الرازي، بشيء من التصرف.

[ 374 ]

 

 

 

 

الآيات

وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأتُونَ الْفَـحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَد مِّنَ الْعَـلَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتأتُونَ فِى نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إلاَّ أَنْ قَالُواْ ائْتِنَا بِعَذَابِ اللهِ إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّـدِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِى عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30)

 

التّفسير

المنحرفون جنسياً:

بعد بيان جانب ممّا جرى لإبراهيم(عليه السلام) يتحدث القرآن عن قسم من قصّة حياة النّبي المعاصر لإبراهيم «لوط»(عليه السلام) فيقول: (ولوطاً إذْ قال لقومه إنّكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين )(1).

«الفاحشة» كما بيناها من قبل، مشتقّة من مادة «فَحَشَ» وهي في الأصل تعني كل فعل أو كلام سيء للغاية،والمراد بها هنا الإنحراف الجنسي. (اللواط).

ويستفاد من جملة (ما سبقكم بها من أحد من العالمين ) بصورة جليّة أن

_____________________________

1 ـ يمكن أن تكون كلمة «لوطاً» عطفاً على كلمة (نوحاً) فتكون بمنزلة المفعول «لأرسلنا» ويمكن أن يكون مفعولا لفعل محذوف تقديره «واذكر لوطاً».

[ 375 ]

هذا العمل السيء والمخزي لم يسبق له ـ على الأقل بشكل عام وجماعي ـ أن يقع في أية أُمة أو قوم كما وقع في قوم لوط.

ذكروا في أحوال قوم لوط أن واحداً من عوامل تلوثهم بهذا الذنب هو أنّهم كانوا قوماً بخلاء جداً، ولمّا كانت مدنهم على قارعة الطريق التي تمرّ بها قوافل الشام، فقد كانوا يظهرون هذا العمل «الإنحراف» لبعض ضيوفهم أو العابرين لينفروهم وكي لا يضيفوهم، إلاّ أنّهم تعودوا على هذا العمل القبيح، وقويت فيهم رغبة اللواط، فسقطوا في الوحل المخزي شيئاً فشيئاً.

على كل حال، سينؤون بحمل ذنوبهم وذنوب من يعمل عملهم، دون أن ينقص من ذنوب الآخرين شيء أبداً (وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثالهم! ).

لأنّهم كانوا مؤسسي هذه السنة المشؤومة، ونحن نعرف أن من سنّ سنة ما فهو شريك في عمل من يعمل بها أيضاً.

لوط(عليه السلام) هذا النّبي العظيم، كشف أخيراً ما في نفسه وقال لقومه (أإنّكم لتأتون الرجال ) أفتريدون أن تقطعوا النسل (وتقطعون السبيل )(1).

ولا ترعوون عن الأعمال المخزية في مجالسكم العامة (وتأتون في ناديكم المنكر ).

«النادي» مشتق من «النداء» وهو يعني المجلس العام، كما يأتي أحياناً بمعنى مكان التنزّه، لأنّ الأفراد هناك ينادي بعضهم بعضاً وترتفع أصواتهم.

والقرآن لم يبيّن هنا بتفصيل أية منكرات كانوا يأتونها في مجالسهم ونواديهم.. لكنّها قطعاً كانت متناسبة مع عملهم السيء المخزي.. وكما ورد في

_____________________________

1 ـ يرى جماعة من المفسّرين وجوهاً واحتمالات أُخرى لجملة «وتقطعون السبيل» منها ما فسّروه بقطع الطريق على الناس في سفرهم مع الإلتفات إلى ماضيهم وتأريخهم المعروف، لأنّ القوافل تضطر أن تأخذ طريقاً غير مطروق من أجل أن تسلم من شرّ هؤلاء ولئلا تبتلي بهم، كما فسّره بعضهم بسرقة أموال المسافرين في القافلة ولكن التّفسير الأوّل المشار إليه في المتن أنسب للآية كما يبدوا للنظر، لأنّ واحداً من أسرار تحريم اللواط وفلسفته هو خطر قطع النسل كما صرحت به الرّوايات.

[ 376 ]

بعض التواريخ، فإنّهم كانوا يتسابون بكلمات الفحش والإبتذال، أو يضرب أحدهم الأخر على ظهره. أو يلعبون القمار، وأو يعبثون كاالاطفال وخاصة الترامي بالحجارة الصغيرة فيما بينهم أو على العابرين، ويستعملون أنواع الآلات الموسيقية، ويكشفون عوراتهم في مجتمعهم ويغدون عراة... الخ(1).

في حديث عن النّبي(صلى الله عليه وآله) كما تنقله «أم هاني» أنّه قال مفسراً لمعنى: (وتأتون في ناديكم المنكر ) أنّهم «كانوا يخذفون من يمرّ بهم ويسخرون منه» (2)أي يرمون من يمرّ بهم بالحجارة ويسخرون منه.

والآن فلنلاحظ ماذا كان جواب هؤلاء القوم الضالين المنحرفين، على كلمات النّبي لوط(عليه السلام) المنطقية.

يقول القرآن: (فما كان جواب قومه إلاّ أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين ).

أجل هكذا، كان جواب هؤلاء المفتونين فاقدي العقل والدراية إذ أجابوا به من منطلق السخرية والإستهزاء إزاء دعوة لوط(عليه السلام) المنطقية والمعقولة.

كما يستفاد جيداً من هذا الجواب أنّ لوطاً(عليه السلام) كان قد هدّدهم بعذاب الله، بالإضافة إلى كلامه البيّن ذي الدليل الواضح في ما لو استمروا بهذا العمل القبيح، إلاّ أنّهم تركوا جميع مواعظه وتمسكوا بتهديده بالعذاب، فقالوا: (ائتنا بعذاب الله ) على سبيل الإستهزاء والسخرية!!... كما أشير إلى هذا الموضوع في سورة القمر الآية (36) بقوله تعالى: (ولقد أنذرهم بطشتنا فتماروا بالنذر ).

ويستشف ـ ضمناً ـ من تعبير هؤلاء القوم أنّهم كانوا يريدن أن يستنتجوا من عدم نزول العذاب على كذب لوط(عليه السلام) ، في حين أن رحمة الله هي التي تمهلهم وتعطيهم الفرصة لمراجعة أنفسهم وإعادة النظر!

_____________________________

1 ـ سفينة البحار، ج 2، ص 517.

2 ـ تفسير القرطبي ذيل الآيات محل البحث.

[ 377 ]

وهنا لم يكن للوط(عليه السلام) بدّ إلاّ أن يلتفت إلى الله بقلب حزين مهموم... و(قال ربّ انصرني على القوم المفسدين ).

القوم المنحرفين، المتمادين في الأرض فساداً، والذين تركوا تقواهم وأخلاقهم الإنسانية وألقوا العفة والطهارة خلف ظهورهم، وسحقوا العدل الإجتماعي تحت أقدامهم، ومزجوا عبادة الأوثان بفسد الأخلاق والظلم، وهددوا نسل الإنسان بالفناء والزوال، فيا ربّ انصرني على هؤلاء القوم المفسدين.

* * *

 

ملاحظة

بلاء الإنحراف الجنسي:

الإنحراف الجنسي ـ سواءً كان في أوساط الرجال «اللواط» أم في أوساط النساء «المساحقة» ـ لهو من أسوأ الإنحرافات الأخلاقية، ومصدر المفاسد الكثيرة في المجتمع.

وأساساً فإنّ طبيعة «كلّ من الرجل والمرأة» مخلوقة بشكل يمنح الهدوء والإشباع الصحيح السالم في العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة «عن طريق الزواج المشروع» وأي نوع من الميول الجنسية في غير هذه الصورة هو انحراف عن طبع الإنسان الصحيح، وهو نوع من الأمراض النفسيّة الذي لو قُدّر له أن يستمرّ لاشتد خطره يوماً بعد يوم، وتكون نتيجته البرود الجنسي بالنسبة ما بين الرجل والمرأة، والإشباع غير الصحيح من «الجنس المماثل» أي «اللواط» أو«السحاق».

ولهذا النوع من العلائق غير المشروعة أثر مدمّر في جهاز البدن، بل حتى في سلسلة الأعصاب والروح. إذ يسقط الرجل من رجولته والمرأة من أنوثتها!

[ 378 ]

بحيث أن أمثال هؤلاء الرجال والنساء المنحرفين جنسياً يبتلون بضعف جنسي شديد،  ولا  يستطيعون أن يكونوا آباءً وأمهات صالحين لأبنائهم في المستقبل، وربّما كانوا غير قادرين حتى على الإنجاب بصورة كلية «بسبب هذا الإنحراف».

إن المنحرفين جنسياً يغدون بالتدريج منزوين منعزلين عن المجتمع، ويحسون بالغربة في مجتمعهم وفي أنفسهم أيضاً، كما يبتلون بنفصام الشخصية، وإذا لم يهتموا بإصلاح أنفسهم ، فمن الممكن أن يبتلوا بأمراض جسمية ونفسية مختلفة.

ولهذا السبب ـ ولأسباب أخلاقية واجتماعية أُخرى ـ حرّم الإسلام الإنحراف الجنسي تحريماً شديداً بأي شكل كان وفي أية صورة، كما قرر للذي يقوم بهذا العمل عقاباً صارماً يبلغ أحياناً إلى درجة الإعدام والقتل!.

والموضوع المهم هو أن الانفلات الاخلاقي والتميّع الجنسي والابتذال للعالم المتمدن والحضارة المادية قد جرّت كثيراً من الفتيان والفتيات إلى الإنحراف الكبير.

في البداية يرغّبون الفتيان في أن يلبسوا ثياب النساء وأن يظهروا بمظهر خاص، ويدعون النساء أن يلبسن ثياب الرجال، وتبدأ من هنا قضية الإنحراف الجنسي حتى تصل إلى أقبح الأعمال الوقحة في هذا المجال، وتأخذ شكلاً قانونياً بحيث يعدون هذا الأمر عادياً لا يستحق أي نوع من العقاب أو التبعة، ولا يسع القلم إلاّ أن يستحي ويخجل من وصف ذلك(1).

 

* * *

 

_____________________________

1 ـ كان لنا في صدد الإنحراف الجنسي بحث مفصل في ذيل الآية (81) سورة هود...

 

 

 




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21335775

  • التاريخ : 28/03/2024 - 17:36

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net