00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة القصص من أول السورة ـ آية 28من ( ص 161 ـ 221 )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء الثاني عشر   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

[ 161 ]

سُورَة  القصص

مكيّة

وعَدَدُ آيَاتِها ثَمان وثمانُونَ آية

[ 163 ]

 «سورة القصص»

محتوى سورة القصص:

المعروف أنّ هذه السورة نزلت بمكّة، وبإمكاننا ملاحظة أنّ محتواها الكلي وخطوطها العامّة الأساسيّة على شاكلة السور المكّية(1) غير أن بعض المفسّرين استثنوا الآية 85، أو الآيات 51 ـ 55 من هذه السورة معتقدين أن الآية الأُولى «85» نزلت بالجحفة ـ وهي منطقة بين مكّة والمدينة ـ وأمّا الآيات الاربع الأُخرى فيقولون: إنّها نزلت بالمدينة. ولا يوجد دليل واضح على كلامهم..

ولعل محتوى الآيات الخمس التي تتحدث عن أهل الكتاب. (وكان أكثر أهل الكتاب يقطنون في المدينة). كان سبباً لمثل هذا التصور. في حين أن نزول الآيات القرآنية في مكّة لا يعني إنّها لابدّ أن تتحد عن المشركين في مكّة فحسب، وخاصّة أن أهالي مكّة والمدنيّة كانت لهم رحلات متقابلة وعلاقات وروابط قبلية وتجارية. وبالطبع فإن المفسّرين ذكروا سبباً آخر لنزول الآيات 52 ـ 55 يتناسب مع كونها مدينة، وسنتحدث; عن ذلك في محله إن شاء الله..

أمّا الآية (85) التي تتحدث عن عودة النّبي إلى موطنه الأصلي، أي «مكّة» فلا مانع من أن تكون نزلت حين خروجه وهجرته من مكّة على مقربة من هذه الأرض المقدسة... لأنّ النبي كان في غاية الشوق والحنين لمكّة بلد الله الحرام الآمن، والله سبحانه يبشره في هذه الآية بأنّه سيردّه إلى معاده «مكّة المكرمة».

_____________________________

1 ـ يراجع في هذا الشأن «تاريخ القرآن» لأبي عبدالله الزنجاني و«الفهرست» لابن النديم، وكتب التّفسير الأخرى..

[ 164 ]

فعلى هذا الأساس يمكن أن تكون هذه الآية ـ المشار إليها آنفاً ـ مكيّة، ولو فرضنا أنّها نزلت «بالجحفة» فهي إلى مكّة أقرب منها إلى المدينة.

وعلى هذا الأساس ـ أيضاً ـ لا يمكن ـ في تقسيم الآيات إلى مكّية ومدنية ـ إلاّ أنّ نعد هذه الآية (85) مكّية!..

أجلْ.. هذه السورة نزلت في مكّة... وفي ظروف كان المؤمنون في قبضة الأعداء الأقوياء وبين مخالبهم.. الأعداء الذين كانوا أكثر عدداً وأشدّ قدرةً وقوّةً ونفيراً..

فهؤلاء الأقلية من المؤمنين والمسلمين كانوا يرزحون تحت وطأة هذا التصور بحيث كان جماعة من المسلمين قلقين على مستقبل الإسلام وخائفين من أجله. وبما أنّ هذه الحالة كانت كثيرة الشبه بالحالة التي كان عليها بنو إسرائيل وهم بين مخالب الفراعنة، فإنّ قسماً من محتوى هذه السورة يتحدث عن قصّة بني إسرائيل وموسى(عليه السلام) والفراعنة..

ولعل هذا القسم يستوعب نصف هذه السورة تقريباً.. خاصة أنّها تتحدث عن فترة كان موسى طفلا ضعيفاً رضيعاً في قبضة الفراعنة... ولكنّ تلك القدرة التي تستوعب عالم الوجود كلّه ـ ولا تقف أية قوّة أمامها ـ تكفلت هذا الطفل الضعيف ورعته وهو في أحضان أعدائه الأقوياء، حتى منحته قدرة وقوّة قصوى قهرت سلطان الفراعنة ونكّست تيجانهم وقلبت قصورهم!!.

هكذا تتحدث هذه السورة ليطمئن المسلمون إلى لطف الله وقدرته،  ولا يرهبوا كثرة الأعداء وقوّتهم، ولا يخافوا من الطريق ذاته!..

أجل.. القسم الأوّل من هذه السورة يتضمن هذا التاريخ المليء بالدروس والعبر ويبشر المستضعفين في بداية السورة بحكومة الحق والعدل لهم وكسر شوكة الظالمين، بشرى تمنحهم الإطمئنان والقدرة.

تتحدث هذه السورة عن أن بني إسرائيل كانوا مصفدين بأغلال أعدائهم ما

[ 165 ]

داموا بعيدين عن خيمة الإيمان والتوحيد، وفاقدين لأي نوع من أنواع الحركة والنهوض والسعي الذي يتحدَّون به أعداءهم، لكن ما إن وجدوا قائدهم ونوّروا قلوبهم بنور العلم والتوحيد حتى أغاروا على الفراعنة وسيطروا على الحكم وحرروا أنفسهم من نير الفراعنة.

و«القسم الآخر» من هذه السورة يتحدّث عن «قارون»، ذلك الرجل المستكبر الثري الذي كان يعتمد على علمه وثروته... حتى لقي أثر غروره ما لقيه فرعون من مصير أسود!

احدهما غريق في الماء والآخر دفين في الأرض.. وذلك معتمد على سلطانه وجيشه في حكمه، وهذا معتمد على ماله وثروته! ليتّضح أنّه لا يمكن لتجار مكّة وأثريائهم ولا لأقويائهم من المشركين، ولا سياسييّهم في ذلك المحيط، أن يقاوموا إرادة الله في انتصار المستضعفين على المستكبرين.

وهذا القسم جاء في أواخر السورة.

وبين هذين القسمين دروس حيّة وقيّمة من التوحيد والمعاد وأهمية القرآن، وبيان حال المشركين في يوم القيامة، ومسألة الهداية والضلالة، والإجابة على حجج الأفراد الضعاف، وهي في الحقيقة «نتيجة» الأوّل و«مقدمة» للقسم الثاني.

 

فضيلة تلاوة سورة القصص:

نقرأ في بعض الأحاديث الواردة عن الرّسول الأعظم(صلى الله عليه وآله) أنّه قال: «من قرأء طسم القصص أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق بموسى وكذب به، ولم يبق ملك في السماوات والأرض إلاّ شهد له يوم القيامة أنّه كان صادقاً» (1).

كما ورد في حديث آخر عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال: «من قرأ سورة الطواسين الثلاث في ليلة الجمعة كان من أولياء الله، وفي جواره وكنفه، لم يصبه

_____________________________

1 ـ تفسير مجمع البيان في بداية سورة القصص.

[ 166 ]

في الدنيا بؤس أبداً، وأعطي في الآخرة حتى يرضى وفوق رضاه، وزوجه الله مائة زوجة من الحور العين» (1).

وبديهي أن كلّ هذا الأجر والثواب هو لأُولئك الذين يقفون جنباً إلى جنب مع أصحاب موسى(عليه السلام) والمؤمنين الصادقين ـ عند قراءة هذه السورة ـ ليبارزوا فراعنة عصرهم وقارون زمانهم، ولا يقبعون في الأجحار أو يطاطئون رؤوسهم. عند مواجهتهم الأخطار والمشاكل والأعداء، ولا يضيّعون مواهبهم ليستغلّها الآخرون..

هذا الأجر خاص لمن يقرأون ويتفكرون، وعلى ضوء هذه السورة يخططون لحياتهم وعملهم..

 

* * *

_____________________________

1 ـ ثواب الأعمال طبقاً لنقل تفسير نور الثقلين في بداية سورة القصص.

[ 167 ] 

الآيات

 طسم (1) تِلْكَ ءَايـَتُ الكِتَـبِ الْمُبِينَ (2) نَتْلُوا عَلَيكَ مِن نَّبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْم يُؤمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِى الاْرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طآئِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنآءَهُمْ وَيَسْتَحْىِ نِسآءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِى الاْرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِى الاْرْضِ وَنُرِىَ فِرْعَوْنَ وَهَـمَـنَ وَجُنُودَهُمَا مِنهُمْ مَّا كَآنُوا يَحْذَرُونَ (6)

التّفسير

المشيئة الالهية تقتضي انتصار:

هذه هي المرّة الرابعة عشرة التي نواجه بها بدايات السورة «بالحروف المقطعة» في القرآن، وقد تكررت فيها (طسم ) ثلاث مرات، وهي هنا ـ أي «طسم» ـ ثالث المرات وآخرها..

وقد بيّنا مراراً وتكراراً أنّ للحروف المقطعة من القرآن تفاسير متعددة ومختلفة، وقد ذكرناها وبحثناها بحثاً وافياً في بدايات سوَر «البقرة» و «آل

[ 168 ]

عمران» و «الأعراف».

وعلاوة على ذلك كلّه فإنّه يظهر من كثير من الرّوايات في شأن (طسم ) أن هذه الحروف إشارات موجزة عن صفات الله سبحانه وتعالى، أو أنّها أماكن مقدسّة.. ولكنّها في الوقت ذاته لا تمنع من ذلك التّفسير المعروف الذي أكّدنا عليه مراراً، وهو أنّ الله تعالى يريد أن يوضح هذه الحقيقة للجميع، وهي أنّ هذا الكتاب السماوي العظيم الذي هو أساس التغيير الكبير في تأريخ البشرية وحامل المنهج المتكامل للحياة الكريمة للإنسانيّة يتشكّل من أُمور بسيطة كهذه الحروف «ألف باء...» التي يستطيع أن يتلفظ بها كل صبّي.

ومن هنا تتجلى عظمة القرآن وأهميته القصوى، إذ يتألف من هذه الحروف البسيطة التي هي في اختيار الجميع.

ولعل هذا السبب كان داعياً لأن يكون الحديث بعد «الحروف المقطّعة» مباشرةً عن عظمة القرآن، إذ يقول: (تلك آيات الكتاب المبين )، وبالرغم من أن (الكتاب المبين ) جاء بمعنى اللوح المحفوظ كما قد ورد في الآية (61) من سورة يونس (ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلاّ في كتاب مبين ) والآية السادسة من سورة هود (كلّ في كتاب مبين ) ولكنّه جاء بمعنى القرآن في الآية محل البحث بقرينة ذكر «الآيات» وكذلك جملة (نتلوا عليك ) الواردة في الآية التي بعدها..

وقد وصف القرآن هنا بكونه «مبين» وكما يستفاد من اللغة فإنّ كلمة «مبين» تستعمل في المعنيين «اللازم والمتعدي»، فهو واضح في نفسه وموضّح لغيره، والقرآن المجيد بمحتواه المشرق يميّز الحق عن الباطل، ويبيّن الطريق اللاحب من الطريق المعوّج(1).

والقرآن بعد ذكر هذه المقدّمة القصيرة يحكى قصّة «فرعون» و «موسى» فيقول: (نتلوا عليك من نبأ موسى و فرعون بالحقّ لقوم يؤمنون ).

_____________________________

1 ـ ونذكر ضمناً أنّ التعبير بـ «تلك» المستعملة للإشارة للبعيد ـ كما بيّنا سابقاً ـ لبيان عظمة هذه الآيات أيضاً..

[ 169 ]

التعبير بـ «من» التي هي للتبعيض إشارة إلى هذه اللطيفة الدقيقة، وهي أن ما ورد ـ هنا في القرآن ـ من هذه القصّة ذات الأحداث الكبيرة يتناسب وما تقتضيه الضرورة فحسب..

والتعبير «بالحق» إشارة إلى أنّ ما ورد هنا خال من كل خرافة وأُسطورة، وبعيد عن الأباطيل والأكاذيب.. فهي إذن تلاوة مقترنة بالحق والواقعية..

والتعبير بـ (لقوم يؤمنون ) هو تأكيد على هذه الحقيقة، وهي أنّ مؤمني ذلك العصر الذين كانوا يرزخون تحت ضغوط المشركين والأعداء، عليهم أن يدركوا هذه الحقيقة، وهي أنّ الأعداء مهما تعاظمت قواهم وتزايدوا عَدَداً وَعُدَداً، وأن المؤمنين مهما قلّوا وكانوا تحت ضغط أعدائهم وكانوا ضعافاً بحسب الظاهر،  فلا ينبغي أن يهنوا وينكصوا عن طريق الحق، فكل شيء عند الله سهل يسير!..

الله الذي ربّى «موسى» في أحضان «فرعون» لإبادته وتدميره.. الله الذي أوصل العبيد والمستضعفين إلى أن يكونوا حاكمين في الأرض، وأذل الجبابرة والمستكبرين وأبادهم.

الله الذي رعى الطفل الرضيع بين أمواج النيل فحفظه ونجاه وأغرق آلاف الفراعنة الأقوياء في تلك الأمواج.. هو قادر على أن ينجيكم «أيّها المؤمنون»..

أجل، إنّ الهدف الأصل من هذه الآيات هم المؤمنون وهذه التلاوة لأجلهم، والمؤمنون الذين يستلهمون من معاني هذه الآيات ويشقّون طريقهم ـ وسط زحام المشاكل والأخطار ـ باطمئنان.

كان ذلك في الحقيقة بياناً إجمالياً، ثمّ يفصّل القرآن ما أجمله بقوله: (إن فرعون علا في الأرض ).

فقد كان عبداً ضعيفاً، وعلى أثر جهله وعدم معرفته أضاع شخصيته ووصل إلى مرحلة من الطغيان حتى أنّه ادّعى الرّبوبية.. والتعبير بـ«الأرض» إشارة إلى أرض مصر وما حولها.. وحيث أن القسم المهم العامر من الأرض في ذلك العصر

[ 170 ]

كان «مصراً» فقد جاء التعبير بالأرض بصورة مطلقة.

ويحتمل أيضاً أنّ الألف واللام للعهد أي «أرض مصر».

وعلى كل حال فإنّ فرعون ـ من أجل تقوية قواعده الإستكبارية ـ قد أقدم على عدّة جرائم كبرى!..

فالجريمة الأولى، أنّه فرّق بين أهل مصر (وجعل أهلها شيعاً ) وهي سياسة معروفة ومتبعة على امتداد التاريخ، وعليها يستند المستكبرون في حكمهم،  فلا يمكن أن تحكم الأقلية ـ التي لا تُعدّ شيئاً ـ على الأكثرية إلاّ بالخطة المعروفة «فرّق تَسُدْ» فهم مستوحشون من «كلمة التوحيد» و «توحيد الكلمة» ويخافون منهما أبداً ـ.

ويخافون من التفاف الناس بعضهم حول بعض، ولذلك يلجأون إلى الطبقية في الحكم، فهذه الطريقة وحدها تتكفل بقاءهم في الحكم، كما صنعه فرعون في أهل مصر، ويصنعه الفراعنة في كل عصر ومصر.

أجل، إنّ فرعون قسّم أهل مصر إلى طائفتي «الأقباط» و«الأسباط».

فالأقباط هم أهل مصر «الأصليون» الذين كانوا يتمتعون بجميع وسائل الرفاه والراحة، وكانت في أيديهم القصور ودوائر الدولة والحكومة.

و«الأسباط» هم المهاجرون إلى مصر من بني إسرائيل الذين كانوا على هيئة العبيد والخدم «في قبضة الأقباط»! وكانوا محاطين بالفقر والحرمان، ويحملون أشدّ الأعباء دون أن ينالوا من وراء ذلك نفعاً [ والتعبير بالأهل في شأن الطائفتين الأقباط والأسباط هو لأنّ بني إسرائيل كانوا قد سكنوا مصر مدّة طويلة فكانوا يُعدّون من أهلها حقيقة!] .

وحين نسمع أن بعض الفراعنة يستعمل مائة ألف مملوك من العبيد لتشييد مقبرة خلال عشرين سنة (كما هي الحال بالنسبة إلى هرم خوفو المعروف الكائن بمقربة من القاهرة عاصمة مصر) ويموت في سبيل ذلك آلاف العبيد والمماليك

[ 171 ]

على أثر الضرب بالأسواط وتحت ضغط العمل الشاق، ندرك جيداً الحالة الارهابية السائدة في ذلك المجتمع...

والجريمة الثّانية هي استضعافه لجماعة من أهل مصر بشكل دموي سافر كما يعبر عن ذلك القرآن بقوله:(يستضعف طائفةً منهم يذبح أبناءهم ويستحى نساءهم ).

فقد كان أصدر أمراً بأن يراقبوا الأطفال الذين يولدون من بني إسرائيل، فإن كانوا ذكوراً فإنّ حظهم الذبح، وإن كانوا إناثاً فيتركن للخدمة في المستقبل في بيوت الأقباط.

وترى ماذا كان يهدف فرعون من وراء عمله هذا؟!

المعروف أنّه رأى في منامه أن شعلة من النّار توهجت من بيت المقدس وأحرقت جميع بيوت مصر، ولم تترك بيتاً لأحد من الأقباط إلاّ أحرقته، ولكنّها لم تمسّ بيوت بني إسرائيل بسوء، فسأل الكهنة والمعبرين للرؤيا عن تأويل ذلك، فقالوا له: يخرج رجل من بيت المقدس يكون على يديه هلاكك وزوال حكومة الفراعنة(1).

وأخيراً كان هذا الأمر سبباً في عزم فرعون على قتل الرضّع من الأطفال الذكور من بني إسرائيل(2).

كما يحتمل ـ أيضاً ـ أنّ الأنبياء السابقين بشّروا بظهور موسى(عليه السلام)وخصائصه، وقد أحزن الفراعنة خبره، فلمّا اطّلعوا على هذا الأمر أقدموا على التصدي له(3).

ولكون ورود جملة (يذبح أبناءهم ) بعد جملة (يستضعف طائفة منهم )

_____________________________

1 ـ راجع في ذلك مجمع البيان، ج 7، ص 239، والتّفسير الكبير للفخر الرازي ذيل الآيات.

2 ـ المصدر السابق.

3 ـ راجع التّفسير الكبير للفخر الرازي ـ ذيل الآية محل البحث.

[ 172 ]

فإنّ مسألة أُخرى تتجلّى أمامنا، وهي أنّ الفراعنة اتّخذوا خطة لاستضعاف بني إسرائيل بذبح الأبناء، لئلا يستطيع بنوا إسرائيل أن يواجهوا الفراعنة ويحاربوهم، وكانوا يتركون النساء اللاتي لا طاقة لهن على القتال والحرب، ليكبرن ثمّ يخدمن في بيوتهم.

والشاهد الآخر هو الآية (25) في سوره المؤمن، إذ يستفاد منها ـ بصورة جيدة ـ أن خطة قتل الأبناء واستحياء النساء كانت موجودة حتى بعد ظهور موسى(عليه السلام)[ ومجيئه إلى الفراعنة] . إذ تقول: (فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم وما كيد الكافرين إلاّ في ضلال ).

وجملة (يستحي نساءهم ) يظهر منها أنّهم كانوا يصرّون على إبقاء البنات والنساء، إمّا لكي يخدمن في بيوت الأقباط، أو للإستمتاع الجنسي، أو لكلا الأمرين جميعاً.

وفي آخر جملة تأتي الآية بتعبير جامع، وفيه بيان العلة أيضاً فتقول: (إنّه كان من المفسدين ).

وباختصار فإنّ عمل فرعون يتلخص في الفساد في الأرض، فاستعلاؤه كان فساداً، وإيجاد الحياة الطبقية في مصر فساد آخر، وتعذيب بني إسرائيل واستضعافهم وذبح أبنائهم واستحياء نسائهم ليخدمن في بيوت الأقباط فساد ثالث، وسوى هذه المفاسد كانت لديه مفاسد كثيرةً أُخرى أيضاً.

والتعبير بـ «يُذبح » المشتق من مادة «المذبح» تدل على معاملة الفراعنة لبني إسرائيل كمعاملة القصابين للأغنام والأنعام الأخرى، إذ كانوا يذبحون هؤلاء الناس الأبرياء ويحتزون رؤوسهم!(1).

_____________________________

1 ـ ممّا يلفت النظر أنّ مادة (ذبح) في الفعل الثلاثي مجرّدة، وفعلها متعدٍّ بنفسه، ولكنّها هنا استعملت بصيغة التفعيل لتدلّ على الكثرة، كماتستفاد من صيغة المضارع الإستمرار على هذه الجناية [ فلاحظوا بدقة] .

[ 173 ]

وفي هذه الخطة الإجرامية من قبل الفراعنة ضد الحوامل قصص مذكورة، إذ قال بعضهم: إنّ فرعون كان قد أمر برقابة مشددة على النساء الحوامل من بني إسرائيل، وأن لا يلي إيلادهن إلاّ قابلة من القبطيّات والفرعونيّات، فإذا كان المولود ذكراً فإنّ جلاوزة القصر الفرعوني يأتون ليتسلموا «قربانهم»(1).

ولا يعرف بدقّة كم بلغ عدد «ضحايا الحوامل» من أطفال بني إسرائيل على أثر هذه الخطة الإجرامية؟ قال بعضهم: كان الضحايا من الأطفال المواليد تسعين ألفاً، وأوصلها بعضهم إلى مئات الآلاف!..

لقد كانوا يظنون أنّهم سيقفون بوجه إرادة الله الحتمية بهذه الجرائم الوحشية، فلا ينهض بنوا إسرائيل ضدهم ولا يزول سلطانهم.

ثمّ تأتي الآية الأُخرى لتقول: إنّ إرادتنا ومشيئتنا إقتضت احتواء المستضعفين بلطفنا وكرمنا (ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض )وأن تشملهم رعايتنا ومواهبنا تكون بيد الحكومة ومقاليد الأمور: (ونجعلهم أئمّة ونجعلهم الوارثين ).

ويكونون اُولي قوّة وقدرة في الأرض (ونمكّن لهم في الأرض ونُري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون )

ما أبلغ هاتان الآيتان، وما أعظم ما فيهما من رجاء وأمل!.. إذ جاءتا بصورة الفعل المضارع والاستمرار، لئلا يتصور أنّهما مختصتان بالمستضعفين من  بني إسرائيل وحكومة الفراعنة، إذ تبدآن بالقول: (ونريد أن نمن... ).

أي إنّ فرعون أراد أن يجعل بني إسرائيل شذر مذر ويكسر شوكتهم ويبير قواهم وقدرتهم، ولكننا أردنا ـ ونريد ـ أن ينتصروا ويكونوا أقوياء!

فرعون يريد أن تكون الحكومة بيد المستكبرين إلى الأبد. ولكنّا أردنا أن تكون بيد المستضعفين، فكان كما أردنا.

_____________________________

1 ـ التّفسير الكبير الفخر الرازي ذيل الآيات محل البحث.

[ 174 ]

والتعبير بـ «نمنّ» كما أشرنا إلى ذلك من قبل، معناه منح الهبات والنعم، وهو يختلف تمام الإختلاف مع «المنّ» المراد به عدّ النعم لتحقير الطرف المقابل، وهو مذموم قطعاً.

ويكشف الله في هاتين الآيتين الستار عن إرادته ومشيئته بشأن المستضعفين، ويذكر في هذا المجال خمسة أُمور بعضها مرتبط ببعض ومتقاربة أيضاً:

الأوّل: قوله تعالى: (ونريد أن نمن... ) لنشملهم بالمواهب والنعم.. الخ.

الثّاني: قوله: (ونجعلهم أئمّة ).

الثّالث: قوله: (ونجعلهم الوارثين ) أي المستخلفين بعد الفراعنة والجبابرة.

الرّابع: قوله: (ونمكن لهم في الأرض ) أي نجعلهم يحكمون في الأرض وتكون السلطة والقدرة وغيرهما لهم وتحت تصرفهم..

والخامس: إن ما كان يحذره الأعداء منهم وما عبأوه لمواجهتهم يذهب أدراج الرياح، وتكون العاقبة لهم (ونُري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون ).

هكذا لطف الله وعنايته في شأن المستضفين، أمّا من هم أُولئك المستضعفون؟! وما هي أوصافهم؟! فسنتحدث عن كل ذلك بعد قليل بأذن الله

وكان «هامان» وزير فرعون المعروف يتمتع بنفوذ وسلطة إلى درجة أن الآية المتقدمة إذ تتحدث عن جنود مصر فإنّها تعزوهم إلى فرعون وهامان معاً (وسيأتي مزيد إيضاح وشرح عن حال هاماان بإذن الله في ذيل الآية (38) من هذه السورة ذاتها).

 

* * *

 

[ 175 ]

بحوث

1 ـ حكومة المستضعفين العالمية

قلنا: إنّ الآيات المتقدمة لا تتحدث عن فترةخاصة أو معينة، ولا تختص  ببني إسرائيل فحسب، بل توضح قانوناً كلياً لجميع العصور والقرون ولجميع الأُمم والأقوام، إذ تقول: (ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمّة ونجعلهم الوارثين ).

فهي بشارةٌ في صدد انتصار الحق على الباطل والإيمان على الكفر.

وهي بشارةٌ لجميع الأحرار الذين يريدون العدالة وحكومة العدل وانطواء بساط الظلم والجور.

وحكومة بني إسرائيل وزوال حكومة الفراعنة ما هي إلاّ نموذج لتحقق هذه المشيئة الإلهية والمثل الأكمل هو حكومة نبيّ الإسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه بعد ظهور الاسلام.. حكومة الحفاة العفاة والمؤمنين المظلومين الذين كانوا موضع تحقير فراعنة زمانهم واستهزائهم ويرزخون تحت تأثير الضغوط «الظالمة» لائمّة الكفر والشرك.

وكانت العاقبة أن الله فتح على أيدي هؤلاء المستضعفين أبواب قصور الأكاسرة والقياصرة، وأنزل أُولئك من أسرّةِ الحكم والقدرة وأرغم أنوفهم بالتراب.

والمثل الأكبر والأوسع هو ظهور حكومة الحق والعدالة على جميع وجه البسيطة ـ والكرة الأرضية ـ على يد «المهديّ» أرواحنا له الفداء.

فهذه الآيات هي من جملة الآيات التي تبشّر ـ بجلاء ـ بظهور مثل هذه الحكومة، ونقرأ عن أهل البيت(عليهم السلام) في تفسير هذه الآية أنّها إشارة إلى هذا الظهور العظيم.

فقد ورد في نهج البلاغة عن علي(عليه السلام) قوله: «لتعطفن الدنيا علينا بعد شماسها

[ 176 ]

عطف الضروس على ولدها، وتلا عقيب ذلك: (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض )» (1).

وفي حديث آخر نقرأ عنه(عليه السلام) في تفسير الآية المتقدمة قوله: «هم آل محمّد (صلى الله عليه وآله) يبعث الله مهدّيهم بعد جهدهم فيعزّهم ويذل عدوّهم» (2).

ونقرأ في حديث آخر عن الإمام علي بن الحسين زين العابدين(عليه السلام) قوله: «والذي بعث محمّداً بالحقّ بشيراً ونذيراً، إنّ الأبرياء منّا أهل البيت وشيعتهم بمنزلة موسى وشيعته، وإن عدونا وأشياعهم بمنزلة فرعون وأشياعه» (3) (أي سننتصر أخيراً وينهزم أعداؤنا وتعود حكومة العدل والحق لنا).

ومن الطبيعي أن حكومة المهدي(عليه السلام) العالميّة في آخر الأمر لا تمنع من وجود حكومات إسلامية في معايير محدودة قبلها من قبل المستضعفين ضد المستكبرين، ومتى ما تمّت الظروف والشروط لمثل هذه المحكومات الإسلامية فإنَّ وعد الله المحتوم والمشيئة الإلهية سيتحققان في شأنها، ولابدّ أن يكون النصر حليفها بإذن الله.

 

2 ـ من هم المستضعفون ومن هم المستكبرون؟!

كلمة «المستضعف» مشتقّة من مادة «ضعف»، ولكنّها لما استعملت في باب «الإستفعال» دلت على من يكبّل بالقيد والغلّ ويجرّ إلى الضعف.

وبتعبير آخر: ليس المستضعف هو الضعيف والفاقد للقدرة والقوّة.. بل المستضعف من لديه قوى بالفعل وبالقوة، ولكنّه واقع تحت ضغوط الظلمة والجبابرة، وبرغم أنّه مكبل بالأغلال في يديه ورجليه فإنّه غير ساكت

_____________________________

1 ـ نهج البلاغة ـ الكلمات القصار رقم 209.

2 ـ الغيبة للشيخ الطوسي حسب نقل تفسير نور الثقلين، ج 4، ص 110.

3 ـ مجمع البيان ذيل الآية.

[ 177 ]

 ولا يستسلم، ويسعى دائماً لتحيطم الأغلال ونيل الحرية، والتصدي للجبابرة والمستكبرين، ونصرة مبدأ العدل والحق.

فالله سبحانه وعد أمثال هؤلاء بالمنّ وبالحكومة على الأرض، لا الأفراد الجبناء الذين لا يجرؤن على ادنى اعتراض فكيف إذا حمي الوطيس وحان أوان التضحية والفداء؟!

فبنوا إسرائيل استطاعوا أن يأخذوا الحكومة ويرثوها من الفراعنة لأنّهم التفوا حول موسى(عليه السلام) وعبؤوا قواهم وشكّلوا صفاً واحداً، واستكملوا بقايا إيمانهم الذي ورثوه عن جدّهم إبراهيم الخليل، ونفضوا الخرافات عن أفكارهم ونهضوا مع موسى(عليه السلام).

وبالطبع فإنّ المستضعفين أنواع، فهناك مستضعف فكريٌّ، وهناك مستضعف ثقافيٌّ، وهناك مستضعف اقتصادي، وآخر مستضعف سياسي، أو أخلاقي، وأكثر ما أكّد عليه القرآن هو الإستضعاف السياسي والأخلاقي!.

وما من شك أنّ المستكبرين الجبابرة يسعون أبداً لأن يجرّوا قرابينهم إلى الاستضعاف الفكري والثقافي، ثمّ إلى الإستضعاف الإقتصادي، لئلا تبقى لهم قوّةً ولا قدرة، ولئلا يفكروا بالنهوض وتولي زمام الحكومة.

وفي القرآن المجيد ورد الكلام عن المستضعفين في خمسة موارد، وعلى العموم فإنّ هذا الكلام يدور حول المؤمنين الذين يرزخون تحت ضغوط الجبابرة.

ففي مكان من القرآن الكريم يدعو إلى الجهاد والمقاتلة في سبيل الله والمستضعفين إذ يقول: (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربّنا أخرجنا من هذه القرية الظالم

[ 178 ]

أهلها واجعل لنا من لدنك وليّاً واجعل لنا من لدنك نصيراً ).(1)

وفي مكان واحد فقط ورد الكلام عن الذين أعانوا الكفار وظلموا أنفسهم، وادعوا أنّهم مستضعفون، ولم يهاجروا في سبيل الله، فالقرآن ينفي عنهم هذا الاستضعاف فيقول: (إنّ الذين توفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنّا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأُولئك مأواهم جهنّم وساءت مصيرا ).(2)

وعلى كل حال فإنّه القرآن في كل مكان منه يدافع عن المستضعفين ويذكرهم بخير، ويعبّر عنهم بالمؤمنين الذين يرزخون تحت ضغوط المستكبرين... المؤمنون المجاهدون والساعون بجدّهم المشمولون بعنايةالله ولطفه.

 

3 ـ أسلوب المستكبرين على مدى التأريخ

لم يكن فرعون وحده يذبح أبناء بني إسرائيل ويستحيي نساءهم لا ذلالهم، فعلى مدى التاريخ نجد أسلوب الجبابرة على هذه الشاكلة، حيث يسعون لتعطيل القدرات والقوى بأية وسيلة كانت، فحيث لم يستطيعوا قتل «الرجال» يلجأون إلى قتل «الرجولة»، ويذوّبون روح الشهامة بنشر الفساد والمخدّرات والفحشاء والمنكر والإنحراف الجنسي وكثرة الشراب والقمار، ليستطيعوا براحة بال واطمئنان خاطر أن يواصلوا حكمهم و حكومتهم.

ولكنّ أنبياء الله، وخاصّة نبي الإسلام(صلى الله عليه وآله) كانوا يسعون لإيقاظ قوى الفتوة النائمة ويشحنوا قدرات الشباب الهائلة، ويحرروهم من أسر الذلة، وكانوا

_____________________________

1 ـ النساء، الآية 75.

2 ـ النساء، الآية 97.

[ 179 ]

يعلمون حتى النساء دروساً من الشجاعة والشهامة، ليقفن في صفوف الرجال ضد المستكبرين.

والشواهد على هذين المنهجين في البلاد الإسلامية في التأريخ المعاصر والتأريخ القديم كثيرة وواضحة جيّداً، فلا حاجة لسردها وذكرها بتفصيل.

 

* * *

 

[ 180 ]

الآيات

وَأَوْحَيْنآ إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيْهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِى الْيَمِّ وَلاَ تَخَافِى وَلاَ تَحْزَنِى إِنَّا رآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ ءَالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهـمـنَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَـطِئِينَ (8) وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْن لِّى وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَآ أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ (9)

 

التّفسير

في قصر فرعون!

من أجل رسم مثل حيّ لانتصار المستضعفين على المستكبرين، يدخل القرآن المجيد في سرد قصّة موسى وفرعون، ويتحدث بالخصوص عن مراحل يكون فيها موسى في أشدّ حالات الضعف، أمّا فرعون فهو في أقوى الحالات وأكثرها هيمنة.. ليتجسّد انتصار مشيئة الله على إرادة الجبابرة في أعلى الصور وأحسن الوجوه..

يقول القرآن: (وأوحينا إلى أُمّ موسى أن أرضعيه فإذا خفِت عليه فالقيه

[ 181 ]

في اليمّ ولا تخافي ولا تحزني إنّا رادّوه إليك وجاعلوه من المرسلين ).

وهذه الآية على ايجازها تشتمل على أمرين ونهيين وبشارتين، وهي خلاصة قصّة كبيرة وذات أحداث ومجريات ننقلها بصورة مضغوطة:

كانت سُلطة فرعون وحكومته الجائرة قد خططت تخطيطاً واسعاً لذبح «الأطفال» من بني إسرائيل حتى أن القوابل [ من آل فرعون] كن يراقبن النساء الحوامل [ من بني إسرائيل] .

ومن بين هؤلاء القوابل كانت قابلة لها علاقة مودّة مع أمّ موسى(عليه السلام) «وكان الحمل خفيّاً لم يظهر أثره على أم موسى» وحين أحست أم موسى بأنّها مقرّب وعلى أبواب الولادة أرسلت خلف هذه القابلة وأخبرتها بالواقع، وأنّها تحمل جنيناً في بطنها وتوشك أن تضعه، فهي بحاجة ـ هذا اليوم ـ إليها.

وحين ولد موسى(عليه السلام) سطع نور بهيّ من عينيه فاهتزّت القابلة لهذا النور وطُبع حُبُّه في قلبها، وأنار جميع زوايا قلبها.

فالتفتت القابلة إلى أم موسى وقالت لها: كنت أروم أن أخبر الجهاز الفرعوني بهذا الوليد ليأتي الجلاوزة فيقتلوه «وأنال بذلك جائزتي» ولكن ما عسى أن أفعل وقد وقع حبّه الشديد في قلبي، وأنا غير مستعدة لأن تنقص ولو شعرة واحدة من رأسه، فاهتمي بالمحافظة عليه، وأظنّ أن عدوّنا المتوقع سيكون هذا الطفل أخيراً.

ثمّ خرجت القابلة من بيت أمّ موسى فرآها بعض الجواسيس من جلاوزة فرعون وصمموا على أن يدخلوا البيت، فعرفت أخت موسى ما أقدموا عليه فأسرعت إلى أمّها وأخبرتها بأن تتهيأ للأمر، فارتبكت ولم تدر ماذا تصنع؟! وفي هذه الحالة من الإرتباك وهي ذاهلة لفت وليدها «موسى» بخرقة وألقته في التنور فاذا بالمأمورين والجواسيس يقتحمون الدار، فلم يجدوا شيئاً إلاّ التنور المشتعل ناراً.. فسألوا أم موسى عن سبب دخول القابلة عليها فقالت: إنّها صديقتي وقد

[ 182 ]

جاءت زائرة فحسب، فخرجوا ايسين.

ثمّ عادت أمّ موسى إلى رشدها وصوابها وسألت «أخت موسى» عن أخيها فأظهرت عدم معرفتها بمكانه، وإذا البكاء يعلو من داخل التنور، فركضت إلى التنور فرأت موسى مسالماً وقد جعل الله النّار عليه برداً وسلاماً «الله الذي نجّى إبراهيم الخليل من نار النمرود» فأخرجت وليدها سالماً من التنور.

لكن الأمّ لم تهدأ إذ أن الجواسيس يمضون هنا وهناك ويفتشون البيوت يمنة ويسرة، وكان الخطر سيقع لو سمعوا صوت هذا الطفل الرضيع.

وفي هذه الحال اهتدت أم موسى بإلهام جديد، إلهام ظاهره أنّه مدعاة للخطر، ولكن مع ذلك أحسّت بالإطمئنان أيضاً.

كان ذلك من الله ولابدّ أن يتحقق، فلبست ثياب عملها وصممت على أن تلقي وليدها في النيل.

فجاءت إلى نجّار مصري «وكان النجار من الأقباط والفراعنة أيضاً» فطلبت منه أن يصنع صندوقاً صغيراً.

فسألها النجار قائلا: ما تصنعين بهذا الصندوق مع هذه الأوصاف؟ ولكن الاُمّ لما كانت غير متعودة على الكذب لم تستطع دون أن تقول الحق والواقع، وأنّها من بني إسرائيل ولديها طفل تريد إخفاءه في الصندوق.

فلمّا سمع النجّار القبطي هذا الخبر صمم على أن يخبر الجلاوزة والجلاّدين، فمضى نحوهم لكن الرعب سيطر على قلبه فارتج على لسانه وكلّما حاول أن يفهمهم ولو كلمة واحدة لم يستطع، فأخذ يشير إليهم إشارات مبهمة، فظن أُولئك أنّه يستهزىء بهم فضربوه وطردوه، ولما عاد إلى محله عاد عليه وضعه الطبيعي، فرجع ثانية إليهم ليخبرهم فعادت عليه الحالة الأُولى من الإرتجاج والعيّ، وأخيراً فقد فهم أن هذا أمر إلهي وسرّ خفي، فصنع الصندوق وأعطاه لأم موسى.

ولعلّ الوقت كان فجراً والناس ـ بعد ـ نيام، وفي هذه الحال خرجت أم

[ 183 ]

موسى وفي يديها الصندوق الذي أخفت فيه ولدها موسى، فاتجهت نحو النيل وأرضعت موسى حتى ارتوى، ثمّ ألقت الصندوق في النيل فتلقفته الأمواج وأخذت تسير به مبتعدة عن الساحل، وكانت أم موسى تشاهد هذا المنظر وهي على الساحل.. وفي لحظة أحست أن قلبها انفصل عنها ومضى مع الأمواج، فلولا لطف الله الذي شملها وربط على قلبها لصرخت ولإنكشف الأمر واتضح كل شيء.

ولا أحد يستطيع أن يصور ـ في تلك اللحظات الحساسة ـ قلب الأُم بدقّة.

لا يستطيع أيّ أحد أن يصور حال أُم موسى وما أصابها من الهلع والفزع ساعة ألقت طفلها في النيل ولكنّ هذه الأبيات المترجمة عن الشاعرة «پروين اعتصامي» ـ بتصرف ـ تحكي صورة «تقريبية» عن ذلك الموقف:

أمّ موسى حين ألقت طفلها للذي رب السما أوحى لها

نظرت للنيل يمضي مسرعاً آه لو تعرف حقاً حالها

ودوي الموج فيه صاخب وفتاها شاغل بلبالها

* * *

وتناغيه بصمت: ولدي كيف يمضي بك هذا الزورق

دون ربان، وإن ينسك من هو ذو لطف فمن ذا يشفق

فأتاها الوحي: مهلا، ودعي باطل الفكر ووهما يزهق

* * *

إن موسى قد مضى للمنزل فاتق الله ولا تستعجلي

قد تلقينا الذي ألقيته بيد ترعى الفتى لا تجهلي

وخرير الماء أضحى مهده في اهتزاز مؤنس إن تسألي

* * *

وله الموج رؤوماً حدبا فاق من يحدب أمّا وأبا

[ 184 ]

كل نهر ليس يطغى عبثاً إن أمر الله كان السببا

* * *

يأمر البحر فيغدو هائجا وله الطوفان طوعاً مائجا

عالم الإيجاد من آثاره كل شيء لعلاه عارجا

* * *

أين تمضين دعيه فله خير ربّ يرتضيه لا هجا

كل هذا من جهة!..

ولكن تعالوا لنرى مايجري في قصر فرعون؟!

ورد في الأخبار أنّ فرعون كانت له بنت مريضة، ولم يكن له من الأبناء سواها، وكانت هذه البنت تعاني من آلام شديدة لم ينفعها علاج الأطباء، فلجأ إلى الكهنة فقالوا له: نتكهّنُ ونتوقع أن إنساناً يخرج من البحر يكون شفاؤها من لعاب فمه حين يدهن به جسدها، وكان فرعون وزوجه «آسية» في انتظار هذا «الحادث» وفي يوم من الأيّام.. فجأة لاح لعيونهما صندوق تتلاطمه أمواج النيل فلفت الأنظار، فأمر فرعون عمّاله أن يأتوا به ليعرفوا ما به؟!

ومثل الصندوق «المجهول» الخفيّ أمام فرعون، ولم يتمكن أحد أن يفتحه.

بلى كان على فرعون أن يفتحه لينجو موسى على يد فرعون نفسه، وفتح الصندوق على يده فعلا!.

فلمّا وقعت عين آسية عليه سطع منه نور فأضاء قلبها، ودخل حبّه في قلوب الجميع، ولا سيما قلب امرأة فرعون «آسية».. وحين شفيت بنت فرعون من لعاب فمه زادت محبّته أكثر فأكثر(1).

ولنعد الآن إلى القرآن الكريم لنسمع خلاصة القصّة من لسانه! يقول القرآن

_____________________________

1 ـ ورد هذا القسم من الرّواية عن ابن عباس في تفسير الفخر الرازي كما هناك روايات آخرها في تفسير «أبو الفتوح» و«مجمع البيان».

[ 185 ]

في هذا الصدد: (فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوّاً وحزناً ).

كلمة «التقط» مأخوذة من مادة «التقاط» ومعناها في الأصل الوصول إلى الشيء دون جهد وسعي، وإنّما سميت الأشياء التي يعثر عليها «لقطة» للسبب نفسه أيضاً..

وبديهي أنّ الفراعنة لم يجلبوا الصندوق الذي فيه الطفل الرضيع من الماء ليربوه في أحظانهم فيكون لهم عدواً لدوداً، بل أرادوه ـ كما قالت امرأة فرعون ـ قرة عين لهم.

ولكن النتيجة والعاقبة..كان ما كان وحدث ما حدث.. وكما يقول علماء الأدب: إنّ اللام في الآية هنا (فالتقطه آل فرعون ليكون.. ) هي «لا العاقبة» ليست «لام العلة» ولطافة التعبير كامنة في أنّ الله سبحانه يريد أن يبيّن قدرته، وكيف أن هذه الجماعة «الفراعنة» عبّأت جميع قواها لقتل بني إسرائيل، وإذا الذي أرادوا قتله ـ وكانت كل هذه المقدمات من أجله ـ يتربى في أحضانهم كأعزّ ابنائهم.

والتعبير ـ ضمناً ـ بآل فرعون يدل على أنّ الملتقط لم يكن واحداً، بل اشترك في التقاط الصندوق جماعة من آل فرعون، وهذا بنفسه شاهد على أنّهم كانوا ينتظرون مثل هذا الحدث!.

ثمّ تختتم الآية بالقول: (إنّ فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين ).

كانوا خاطئين في كل شيء، وأي خطأ أعظم من أن يحيدوا عن طريق العدل والحقّ، وأن يبنوا قواعد حكمهم على الظلم والجور والشرك!.

وأي خطأ أعظم أن يذبحوا آلاف الأطفال ليقتلوا موسى(عليه السلام)، ولكن الله سبحانه أودعه في أيديهم وقال لهم: خذوا عدوّكم هذا وربّوه ليكبر عندكم؟!(1)

_____________________________

1 ـ يقول الراغب في مفرداته: إن الفرق بين «الخاطىء» «والمخطىء» هو أنّ الخاطىء هو من يقدم على عمل لا يخرج من عهدته ويطوي طريق الخطأ بنفسه..

أمّا المخطي فيقال في من يقدم على عمل ويخرج من عهدته، إلاّ أنّه يخطيء في الاثناء صدفة، فيتلف العمل.

[ 186 ]

ويستفاد من الآية التالية أن شجاراً حدث ما بين فرعون وامرأته، ويحتمل أن بعض أتباعه كانوا قد وقفوا عند رأس الطفل ليقتلوه، لأنّ القرآن الكريم يقول في هذا الصدد: (وقالت امرأة فرعون قرّة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً.. ).

ويلوح للنظر أنّ فرعون وجد في مخايل الطفل والعلائم الأُخرى ومن جملتها إيداعه في التابوت «الصندوق» وإلقاءه بين أمواج النيل، وما إلى ذلك ـ أن هذا الطفل من بني إسرائيل، وأن زوال ملكه على يده، فجثم كابوسٌ ثقيل على صدره من الهم وألقى على روحه ظلّة، فأراد أن يجري قانون إجرامه عليه.

فأيده أطرافه وأتباعه المتملّقون على هذه الخطة، وقالوا: ينبغي أن يذبح هذا الطفل، ولا دليل على أن لا يجري هذا القانون عليه.

ولكن آسية امرأة فرعون التي لم ترزق ولداً ذكراً، ولم يكن قلبها منسوجاً من قماش عمال قصر فرعون، وقفت بوجه فرعون وأعوانه ومنعتهم من قتله.

وإذا أضفنا قصّة شفاء بنت فرعون بلعاب فم موسى ـ على ما قدمناه ـ فسيكون دليلا آخر يوضح كيفية انتصار آسية في هذه الازمة.

ولكن القرآن ـ بجملة مقتضية وذات مغزى كبير ـ ختم الآية قائلا: (وهم  لا  يشعرون! ).

أجل، إنّهم لم يشعروا أنّ أمر الله النافذ ومشيئته التي لا تقهر، اقتضت أن يتربى هذا الطفل في أهم المراكز خطراً... ولا أحد يستطيع أن يردّ هذه المشيئة،  ولا يمكن مخالفتها أبداً..

 

* * *

 

 

[ 187 ]

ملاحظة

تخطيط الله العجيب..

إظهار القدرة.. ليس معناه أن الله إذا أراد أن يهلك قوماً جبارين، يرسل عليهم جنود السماوات والأرض، فيهلكهم ويدمرهم تدميراً.

إظهار القدرة هو أن يجعل الجبابرة والمستكبرين يدمرون أنفسهم بأيديهم، يلهم قلوبهم بالإلقاء أنفسهم في البئر التي حفروها لغيرهم، وأن يصنعوا لأنفسهم سجناً يموتون فيه! وأن يرفعوا أعواد المشانق ليعدموا عليها!..

وفي قضية الفراعنة الجبابرة المعاندين حدث مثل هذا، وتمّت تربية موسى ونجاته في جميع المراحل على أيديهم.

فالقابلة التي أولدت موسى كانت من الأقباط.

والنجار الذي صنع الصندوق الذي أخفي فيه موسى كان قبطيّاً.

والذين التقطوا الصندوق كانوا من آل فرعون!.

والذي فتح باب الصندوق كان فرعون بنفسه أو امرأته آسية.

وأخيراً فإن المكان الآمن والهادىء الذي تربّى فيه موسى ـ البطل الذي قهر فرعون ـ هو قصر فرعون ذاته.

وبهذا الشكل يظهر الله تعالى قدرته.

 

* * *

 

[ 188 ]

الآيات

وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسَى فـرِغاً إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِى بِهِ لَوْلاَ أَنْ رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤمِنِينَ (10) وَقَالَتْ لاُِخْتِهِ قُصِّيْهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُب وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْت يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَـصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَـهُ إِلى أُمِّهِ كَىْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلاَ تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (13)

 

التّفسير

عودة موسى إلى حضن أُمّه:

في هذه الآيات تتجسدُ مشاهد جديدة.. فأمُّ موسى التي قلنا عنها: إنّها ألقت ولدها في أمواج النيل، بحسب ما فصّلنا آنفاً.. اقتحم قلبها طوفان شديدٌ من الهمّ على فراق ولدها، فقد اصبح مكان ولدها الذي كان يملأ قلبها خالياً وفارغاً منه.

فأوشكت أن تصرخ من أعماقها و تذيع جميع أسرارها، لكن لطف الله تداركها، وكما يعبّر القرآن الكريم (وأصبح فؤاد أمّ موسى فارغاً إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين ).

[ 189 ]

«الفارغ» معناه الخالي، والمقصود به هنا أن قلب أم موسى أصبح خالياً من كل شيء إلاّ من ذكر موسى.. وإن كان بعض المفسّرين يرون أن المقصود به هو خلوّ القلب من الهمّ والغمّ، أو أنّه خال من الإلهام والبشائر التي بشرت بها  أُم موسى من قبل، ولكن مع الإلتفات لهذه الجمل والتدقيق فيها يبدوا هذا التّفسير غير صحيح.

وطبيعيّ تماماً أنّ أُمّاً تفارق ولدها بهذه الصورة يمكن أن تنسى كل شيء إلاّ ولدها الرضيع، ويبلغ بها الذهول درجةً لا تلتفت معها إلى ما سيصيبها وولدها من الخطر لو صرخت من أعماقها وأذاعت أسرارها.

ولكن الله الذي حمّل أُم موسى هذا العبء الثقيل ربط على قلبها لتؤمن بوعد الله، ولتعلم أنّه بعين الله، وأنّه سيعود إليها وسيكون نبيّاً.

كلمة «ربطنا» من مادة «ربط» ومعناها في الأصل شدّ وثاق الحيوان أو ما أشبهه بمكان ما ليكون محفوظاً في مكانه، ولذلك يدعى هذا المحلّ الذي تربط فيه الحيوانات بـ «الرباط» ثمّ توسعوا في اللغة فصار معنى الربط: الحفظ والتقوية والإستحكام، والمقصود من «ربط القلب» هنا تقويته.. أي تثبيت قلب أم موسى، لتؤمن بوعد الله وتتحمل هذا الحادث الكبير.

وعلى أثر لطف الله أحست أم موسى بالإطمئنان، ولكنّها أحبت أن تعرف مصير ولدها، ولذلك أمرت أخته أن تتبع أثره وتعرف خبره (وقالت لأخته قصّيه ).

كلمة «قصّيه» مأخوذة من مادة «قصّ» على زنة «نصَّ» ومعناها البحث عن آثار الشيء، وإنّما سميّت القصّة قصّةً لأنّها تحمل في طياتها أخباراً مختلفة يتبع بعضها بعضاً.

فاستجابت «أُخت موسى» لأمر أمّها، وأخذت تبحث عنه بشكل لا يثير الشبهة، حتى بصرت به من مكان بعيد، ورأت صندوقه الذي كان في الماء يتلقفه

[ 190 ]

آل فرعون.. ويقول القرآن في هذا الصدد: (فبصرت به عن جنب ).

ولكن أُولئك لم يلتفتوا إلى أن أخته تتعقبه (وهم لا يشعرون ).

قال البعض: إن خدم فرعون كانوا قد خرجوا بالطفل من القصر بحثاً عن مرضعة له، فرأتهم أخت موسى.

ويبدوا أنّ التّفسير الأوّل أقرب للنظر، فعلى هذا بعد رجوع أم موسى إلى بيتها أرسلت أخته للبحث عنه، فرأت - من فاصلة بعيدة ـ كيف استخرجه  آل فرعون من النيل لينجو من الخطر المحدق.

هناك تفاسير أُخرى لجملة (وهم لا يشعرون ) أيضاً.

فالعلامة «الطبرسي» لا يستعبد أن يكون تكرار هذه الجملة في الآية السابقة والآيات اللاحقة إشارة إلى هذه الحقيقة، وهي أن فرعون جاهل بالاُمور الى هذه الدرجة فكيف يدعي الرّبوبية؟ وكيف يريد أن يحارب مشيئة الله التي لا تُقهر!؟.

وعلى كل حال، فقد اقتضت مشيئة الله أن يعود هذا الطفل إلى أُمّه عاجلا ليطمئن قلبها، لذلك يقول القرآن الكريم: (وحرمنا عليه المراضع من قبل )(1).

وطبيعيٌ أن الطفل الرضيع حين تمر عليه عده ساعات فإنه يجوع ويبكي  ولا يطيق تحمل الجوع، فيجب البحث عن مرضع له، ولا سيما أن ملكة مصر «امرأة فرعون» تعلق قلبها به بشدّة، وأحبّته كروحها العزيزة.

كان عمال القصر يركضون من بيت لآخر بحثاً عن مرضع له، والعجيب في الأمر أنّه كان يأبى أثداء المرضعات.

لعل ذلك آت من استيحاشه من وجوه المرضعات، أو أنّه لم يكن يتذوق

_____________________________

1 ـ «المراضع» جمع «مُرضِع» على زنة «مُخبر» ومعناها المرأة التي تسقي الطفل لبنها من ثديها، وقال البعض: (المراضع) جمع (مَرضَع) على زنة (مكتب) أي مكان الإرضاع، أي، «الأثداء» وقال البعض: يحتمل أن تكون الكلمة جمعاً للمصدر الميمي «مرضع» بمعنى الرضاع، ولكن المعنى الأوّل أنسب كما يبدو..

[ 191 ]

ألبانهن، إذ يبدو لبن كلٍّ منهن مرّاً في فمه، فكأنّه يريد أن يقفز من أحضان المراضع، وهذا هو التحريم التكويني من قبل الله تعالى إذ حرّم عليه المراضع جميعاً.

ولم يزل الطفل لحظة بعد أُخرى يجوع أكثر فأكثر وهو يبكي وعمال فرعون يدورون به بحثاً عن مرضع بعد أن ملأ قصر فرعون بكاءً وضجيجاً، ومازال العمال في مثل هذه الحال حتى صادفوا بنتاً أظهرت نفسها بأنّها لا تعرف الطفل، فقالت: (هل أدلّكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون ).

إنّني أعرف امرأة من بني إسرائيل لها ثديان مملوءان لبناً، وقلب طافح بالمحبّة، وقد فقدت وليدها، وهي مستعدةً أن تتعهد الطفل الذي عندكم برعايتها.

فسرّ بها هؤلاء وجاءوا بأمّ موسى إلى قصر فرعون، فلمّا شمّ الطفل رائحة أُمّه التقم ثديها بشغف كبير، وأشرقت عيناه سروراً، كما أن عمّال القصر سرّوا كذلك لأنّ البحث عن مربية له أعياهم، وامرأة فرعون هي الأُخرى لم تكتم سرورها للحصول على هذه المرضع أيضاً.

ولعلهم قالوا للمرضع: أين كنت حتى الآن، إذ نحن نبحث عن مثلك منذ مدّةً.. فليتك جئت قبل الآن، فمرحباً بك وبلبنك الذي حلّ هذه المشكلة.

تقول بعض الرّوايات: حين استقبل موسى ثدي أُمّه، قال هامان وزير فرعون لأم موسى: لعلك أُمّه الحقيقية، إذ كيف أبى جميع هذه المراضع ورضي بك، فقالت: أيّها الملك، لأنّي امرأة ذات عطر طيب ولبني عذب، لم يأتي طفل رضيع إلاّ قبل بي، فصدّقها الحاضرون وقدموا لها هدايا ثمينة(1).

ونقرأ في هذا الصدد حديثاً قال الراوي: فقلت للإمام الباقر(عليه السلام) ; فكم مكث موسى غائباً من أُمّه حتى ردّه الله؟ قال «ثلاثة أيّام»(2).

_____________________________

1 ـ تفسير الفخر الرازي، ج 24، ص 231.

2 ـ تفسير نور الثقلين، ج 4، ص 116.

[ 192 ]

وقال بعضهم: هذا التحريم التكويني لأنّ الله لم يرد لموسى أن يرتضع من الألبان الملوثة بالحرام.. الملوّثة بأموال السرقة، أو الملوّثة بالإجرام والرشوة وغصب حقوق الآخرين، وإنّما أراد لموسى أن يرتضع من لبن طاهر كلبن أُمّه ليستطيع أن ينهض بوجه الأرجاس ويحارب الآثمين.

وتم كل شيء بأمر الله (فرددناه إلى أُمّه كي تقرّ عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون (1)).

هنا ينقدح سؤال مهم وهو: هل أودع آل فرعون الطفل «موسى» عند أُمّه لترضعه وتأتي به كل حين ـ أو كل يوم ـ إلى قصر فرعون لتراه امرأة فرعون؟!

أم أنّهم أودعوا موسى في القصر وطلبوا من المرضع «أم موسى» أن تأتي بين فترات متناسبة إلى القصر لترضعه؟!

لا يوجد دليلٌ قوي لأيٍّ من الإحتمالين، إلاّ أن الإحتمال الأوّل أقرب للنظر كما يبدو!

وهناك سؤال آخر أيضاً، وهو: هل انتقل موسى إلى قصر فرعون بعد إكماله فترة الرضاعة، أم أنّه حافظ على علاقته بأُمّه وعائلته وكان يتردد ما بين القصر وبيته؟!

قال بعضهم: أودع موسى بعد فترة الرضاعة عند فرعون وامرأته، وتربى موسى عندهما، تنقل في هذا الصدد قصص عريضة حول موسى وفرعون، ولكن هذه العبارة التي قالها فرعون لموسى(عليه السلام) بعد بعثته (ألم نربّك فينا وليداً ولبثت فينا من عمرك سنين؟! )(2)، تدل بوضوح على أن موسى عاش في قصر فرعون مدة، بل مكث هناك سنين طويلة.

ويستفاد من تفسير علي بن إبراهيم أن موسى(عليه السلام) بقي مع كمال الإحترام في

_____________________________

1 ـ تحدثنا عن الجذر اللغوي لمادة «تقرّ عينها» في ذيل الآية «74» من سورة الفرقان ـ فيراجع هناك.

2 ـ الشعراء، الآية 18.

[ 193 ]

قصر فرعون حتى مرحلة البلوغ، إلاّ أنّ كلامه عن توحيد الله أزعج فرعون بشدة إلى درجة أنّه صمّم على قتله، فترك موسى القصر ودخل المدينة فوجد فيها رجلين يقتتلان، أحدهما من الأقباط والآخر من الأسباط، فواجه النزاع بنفسه «وسيأتي تفصيل ذلك في شرح الآيات المقبلة إن شاء الله»(1).

 

 

* * *

 

_____________________________

1 ـ لاحظ تفسير علي بن إبراهيم طبقاً لما ورد في نور الثقلين، ج 4، ص 117.

[ 194 ]

الآيات

وَلَمّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى ءَاتَيْنَـهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِى الْـمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَة مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِن شِيعَتِهِ وَهَذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَـثَهُ الَّذِى مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِى مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضى عَلَيْهِ قَالَ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطـنِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ (15)قَالَ رَبِّ إِنِّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فَاغْفِر لَى فَغَفَرَ لَهُ إِنّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَىَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ (17)

 

التّفسير

موسى (عليه السلام) وحماية المظلومين:

في هذه الآيات نواجه المرحلة الثّالثة من قصّة موسى(عليه السلام) وما جرى له مع فرعون، وفيها مسائل تتعلق ببلوغه، وبعض الأحداث التي شاهدها وهو في مصر قبل أن يتوجه إلى «مدين» ثمّ سبب هجرته إلى مدين.

تقول الآيات في البداية (ولمّا بلغ أشده واستوى آتيناه حكماً وعلماً

[ 195 ]

وكذلك نجزي المحسنين ).

كلمة «أشدّ» مشتقّة من مادة «الشدّة» وهي القوّة.

وكلمة «استوى» مشتقة من «الاستواء» ومعناها كمال الخلقة واعتدالها.

وهناك كلام بين المفسّرين في الفرق بين المعنيين:

فقال بعض المفسّرين: المقصود من بلوغ الأشد هو أن يصل الإنسان الكمال من حيث القوى الجسمانية، وغالباً ما يكون في السنة الثامنة عشرة من العمر.. أمّا الإستواء فهو الاستقرار والاعتدال في أمر الحياة، وغالباً ما يحصل ذلك بعد الكمال الجسماني.

وقال بعضهم: إنّ المقصود من بلوغ الأشد هو الكمال الجسماني، وأمّا الاستواء فهو الكمال العقلي والفكري.

ونقرأ في حديث عن الإمام الصادق(عليه السلام) في كتاب معاني الأخبار قال: فلمّا بلغ أشدّه واستوى قال: «أشدّه ثمان عشر سنة واستوى، التحى» (1).

وليس بين هذه التعابير فرق كبير، ومن مجموعها ـ مع ملاحظة المعنى اللغوي للكلمتين «الأشدّ والاستواء» ـ يستفاد منهما أنّهما يدلان على التكامل في القوى الجسمية والعقلية والروحية.

ولعل الفرق بين «الحكم» و «العلم» هو أنّ الحكم يراد منه العقل والفهم والقدرة على القضاء الصحيح، والعلم يراد به العرفان الذي لا يصحبه الجهل.

أمّا التعبير (كذلك نجزي المحسنين ) فيدل بصورة جليّة على أن موسى(عليه السلام)كان جديراً بهذه المنزلة، نظراً لتقواه وطهارته وأعماله الصالحة، إذ جازاه الله «بالعلم والحكم» وواضح أنّ المراد بالحكم والعلم هنا ليس النبوّة والوحي وما إليهما.. لأنّ موسى(عليه السلام) يومئذ لم يبعث بعد، وبقي مدّة بعد ذلك حتى بعث نبيّاً.

بل المقصود والمراد من الحكم والعلم هما المعرفة والنظرة الثاقبة والقدرة

_____________________________

1 ـ تفسير نور الثقلين، ج 4، ص 117.

[ 196 ]

على القضاء الصحيح وما شابه ذلك، وقد منح الله هذه الأُمور لموسى(عليه السلام) لطهارته وصدقه وأعماله الصالحة كما ذكرنا آنفاً.

ويفهم من هذا التعبير ـ إجمالا ـ أنّ موسى(عليه السلام) لم يتأثر بلون المحيط الذي عاشه في قصر فرعون، وكان يسعى إلى تحقيق العدل والحق ما استطاع إلى ذلك سبيلا.. رغم أنّ جزئيات تلك الاعوام غير واضحة.

وعلى كل حال فإن موسى (دخل المدينة على حين غفلة من أهلها ).

فما هي المدينة المذكورة في الآية المتقدمة؟ لا نعرفها على وجه التحقيق.. لكن الاحتمال القوي أنّها عاصمة مصر.. وكما يقول بعض المفسّرين فإنّ موسى(عليه السلام) على أثر المشاجرات بينه وبين فرعون، ومخالفاته له ولسلطته التي كانت تشتدّ يوماً بعد يوم حتى بلغت أوجها، حُكم عليه بالتبعيد عن العاصمة.. لكنّه برغم ذلك فقد سنحت له فرصة خاصّة والناس غافلون عنه أن يعود إلى المدينة ويدخلها.

ويحتمل أيضاً، أنّ المقصود دخوله المدينة من جهة قصر فرعون.. لأنّ القصور يومئذ كانت تشاد على أطراف المدينة ليعرف الداخل إليها والخارج منها.

والمقصود من جملة (على حين غفلة من أهلها ) هو الزمن الذي يستريح الناس فيه من أعمالهم، ولا تُراقب المدينة في ذلك الحين بدقّة، ولكن أي حين وأي زمن هو؟!

قال بعضهم: هو أوّل الليل، لأنّ الناس يتركون أعمالهم ويعطلون دكاكينهم ومحلاتهم ابتغاء الراحة والنوم، وجماعة يذهبون للتنزه، وآخرون لأماكن أُخرى.. هذه الساعة هي المعبر عنها بساعة الغفلة في بعض الرّوايات الإسلامية.

وهناك حديث شريف عن النّبي(صلى الله عليه وآله) في هذا الشأن يقول: «تنفّلوا في ساعة الغفلة ولو بركعتين خفيفتين».

[ 197 ]

وقدورد في ذيل هذا الحديث الشريف هذه العبارة «وساعة الغفلة ما بين المغرب والعشاء» (1).

والحق أنّ هذه الساعة ساعة غفلة وكثيراً ما تحدث الجنايات والفساد والإنحرافات الأخلاقية في مثل هذه لساعة من أوّل الليل.. فلا الناس مشغولون بالكسب والعمل، ولا هم نائمون، بل هي حالة غفلة عمومية تغشى المدينة عادةً، وتنشط مراكز الفساد أيضاً في هذه الساعة.

واحتمل البعض أن ساعة الغفلة هي ما بعد نصف النهار، حيث يستريح الناس من أعمالهم استراحة مؤقتة، ولكن التّفسير الأوّل أقرب للنظر كما يبدو.

وعلى كل حال، موسى دخل المدينة، وهنالك واجه مشادّة ونزاعاً، فاقترب من منطقة النزاع (فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوّه ).

والتعبير بـ «شيعته» يدل على أن موسى قبل أن يبعث كان له أتباع وأنصار وشيعة من بني إسرائيل، وربّما كان قد اختارهم لمواجهة فرعون وحكومته كنواة اساسية.

فلمّا بصر الإسرائيلي بموسى استصرخه (فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوّه ).

فجاءه موسى(عليه السلام) لاستنصاره وتخليصه من عدوّه الظالم.. الذي يقال عنه أنّه كان طباخاً في قصر فرعون، وكان يريد من الإسرائيلي أن يحمل معه الحطب إلى القصر، فضرب موسى هذا العدو بقبضة يده القوية على صدره، فهوى إلى الأرض ميتاً في الحال تقول الآية: (فوكزه موسى فقضى عليه )(2).

وممّا لا شك فيه، فإنّ موسى لم يقصد أن يقتل الفرعوني، ويتّضح ذلك من خلال الآيات التالية أيضاً.. ولا يعني ذلك أن الفراعنة لم يكونوا يستحقون القتل،

_____________________________

1 ـ وسائل الشيعة، ج 5، ص 249 [ باب 20 من أبواب الصلوات المندوبة] .

2 ـ «وكز» مآخوذ من «الوكز» على زنة «رمز» ومعناه الضرب بقبضة اليد، وهناك معان اُخرى لا تناسب المقام..

[ 198 ]

ولكن لاحتمال وقوع المشاكل والتبعات المستقبلية على موسى وجماعته.

لذلك فإنّ موسى(عليه السلام) أسف على هذا الأمر (قال هذا من عمل الشيطان إنّه عدوّ مبين ).

وبتعيبر آخر: فإنّ موسى(عليه السلام) كان يريد أن يبعد الفرعوني عن الرجل الإسرائيلي، وإن كان الفرعونيون يستحقون أكثر من ذلك. لكن ظروف ذلك الوقت لم تكن تساعد على مثل هذا العمل، وكما سنرى فإن ذلك الأمر دعا موسى(عليه السلام) إلى أن يخرج من مصر إلى أرض مدين وحرمه من البقاء في مصر.

ثمّ يتحدث القرآن عن موسى(عليه السلام) فيقول: (قال ربّ إنّي ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنّه هو الغفور الرحيم ).

ومن المسلم به أنّ موسى(عليه السلام) لم يصدر منه ذنب هنا، بل ترك الأولى، فكان بنبغي عليه أن يحتاط لئلا يقع في مشكلة، ولذلك فإنّه استغفر ربّه وطلب منه العون، فشمله اللطيف الخبير بلطفه.

لذلك فإنّ موسى(عليه السلام) حين نجا بلطف الله من هذا المأزق (قال ربّ بما أنعمت على ) من عفوك عني وانقاذي من يد الاعداء وجميع ما أنعمت علي منذ بداية حياتي لحدّ الآن (فلن أكون ظهيراً للمجرمين ). ومعيناً للظالمين.

بل سأنصر المؤمنين المظلومين، ويريد موسى(عليه السلام) أن يقول: إنّه لا يكون بعد هذا مع فرعون وجماعته أبداً.. بل سيكون إلى جانب الإسرائيليين المضطهدين..».

واحتمل بعضهم أن يكون المقصود بـ «المجرمين» هو هذا الإسرائيلي الذي نصره موسى، إلاّ أن هذا الإحتمال بعيد جدّاً، حسب الظاهر.

 

 

* * *

[ 199 ]

مسألتان

1 ـ ألم يكن عمل موسى هذا مخالفاً للعصمة!

للمفسّرين أبحاث مُذيّلة وطويلة في شأن المشاجرة التي حدثت بين القبطي والإسرائيلي وقتل موسى للقبطي.

وبالطبع فإنّ أصل هذا العمل ليس مسألة مهمّة.. لأنّ الظلمة الأقباط والفراعنة المفسدين الذين قتلوا آلاف الأطفال من بني إسرائيل ولم يتأبّوا يحجموا عن أية جريمة ضد بني إسرائيل، لم تكن لهم حرمة عند بني إسرائيل.

إنّما المهم عند علماء التّفسير هو تعبيرات موسى(عليه السلام) التي ولّدت إشكالات عندهم.

فهو تارة يقول: (هذا من عمل الشيطان ).

وفي مكان آخر يقول: (ربّي إنّي ظلمت نفسي فاغفر لي ).

فكيف تنسجم أمثال هذه التعابير مع عصمة الأنبياء حتى قبل بعثتهم ورسالتهم.

ولكن هذه الإشكالات تزول بالتوضيح المتقدم في تفسير الآية الآنفة، وهو أن ما صدر من موسى(عليه السلام) هو من قبيل «ترك الأولى» لا أكثر، إذ كان عليه أن يحتاط قبل أن يضرب القبطي، فلم يحتط، فأوقع نفسه في مشاكل جانبية، لأنّ قتل القبطي لم يكن أمراً هيناً حتى يعفو عنه الفراعنة.

ونعرف أن ترك الأُولى لا يعني أنّه عمل حرام ذاتاً، بل يؤدي الى ترك عمل أهم وأفضل، دون أن يصدر منه عمل مخالف ومناف لذلك العمل!.

ونظير هذه التعابير ما ورد في بعض قصص الأنبياء من جملتهم أبو البشر آدم(عليه السلام) التي تقدم شرحه في ذيل الآية (19) من سورة الأعراف.

ونقرأ في حديث عن الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) في تفسير الآيات

[ 200 ]

المتقدمة:

«قال هذا من عمل الشيطان» يعنى الاقتتال الذي وقع بين الرجل لا ما فعله موسى (عليه السلام) من قتله «إنّه» يعنى الشيطان «عدوّ مضل مبين» ـ وأمّا المراد من جملة ـ «ربّ إنّي ظلمت نفسي فاغفرلي» يعنى ان موسى يريد أن يقول وضعت نفسي غير موضعها بدخول هذه المدينة «فاغفرلي» أي استرني من أعدائك لئلا يظفروا بي فيقتلوني...». (1)

 

2 ـ دعم المجرمين وإسنادهم من أعظم الآثام:

هناك باب مفصل في الفقه الإسلامي فيه أحاديث وافرة تتحدث حول «الإعانة على الإثم» و«معاونة الظلمة» وتدل على أن واحداً من أسوأ الآثام إعانة الظالمين والمجرمين، وتكون سبباً لأن يشترك المعين في مصيرهم الأسود.

وأساساً فإنّ الظلمة والمجرمين ـ أمثال فرعون ـ في المجتمع أيّاً كان هم أفراد معدودون، وإذا لم يساعد المجتمع هؤلاء لم يكونوا فراعنة، فهؤلاء القلّة المتفرعنون.. إنّما يعتمدون على الناس الضعاف أو الانتهازيين وعبدة الدنيا، الذين يلتفّون حولهم ويكونون لهم أجنحة وأذرعاً، أو على الأقل يكثّرون السواد ليوفروا لهم القدرة الشيطانية.

وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تشير إلى هذا الأصل الإسلامي، فنحن نقرأ في الآية الثّانية من سورة المائدة قوله تعالى: (وتعاونوا على البرّ والتقوى  ولا  تعاونوا على الإثم والعدوان ).

كما أنّ القرآن يصرّح في بعض آياته بالقول: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا

_____________________________

1 ـ عيون أخبار الرضا طبقاً لما ورد في تفسير نور الثقلين، ج4، ص119.

[ 201 ]

فتمسكم النّار ).(1)

وسواء كان «الرّكون» هنا بمعنى الميل القلبي، أو بمعنى الإعانة الظاهرية، أو إظهار الرضا والمحبّة، أو طلب الخير لهم.. هذه المعاني التي ذكرها المفسّرين «للركون» يجمعها مفهوم جامع لها، وهو الإتكاء والاعتماد والتعلق وما إلى ذلك، وهذا المفهوم شاهد حي على مقصودنا.

ونقرأ في هذا الصدد حديثاً للإمام على بن الحسين(عليه السلام) مع «محمّد بن مسلم الزهري» الذي كان رجلا عالماً، إلاّ أنّه كان يتعاطف ويتعاون مع الجهاز الأموي ولا سيما مع هشام بن عبد الملك، يحذّره الإمام في حديثه هذا من إعانة الظالمين والركون إليهم، وهو حديث مثير جدّاً.. وقد جاء فيه: «أو ليس بدعائهم إيّاك حين دعوك جعلوك قطباً أداروا بك رحى مظالمهم، وجسراً يعبرون عليك إلى بلاياهم، سلّماً إلى ظلالتهم، داعياً إلى عينهم سالكاً سبيلهم، يدخلون بك الشك على العلماء ويقتادون بك قلوب الجهال إليهم، فما أقل ما أعطوك في قدر ما أخذو منك، وما أيسر ما عمروا لك في جنب ما خرّبوا عليك! فانظر لنفسك فإنّه لا ينظر إليها غيرك، وحاسبها حساب رجل مسؤول» (2).

والحقّ أنّ هذا المنطق البليغ المؤثر للإمام(عليه السلام) لكل عالم من وعّاظ السلاطين مرتبط بالظالمين راكن إليهم، يمكن أن يبصّره بمصيره المشؤوم عاقبته المخزية.

ويذكر ابن عباس أن آية (ربّ بما أنعمت علي فلن أكون ظهيراً للمجرمين )من جملة الآيات التي تؤكّد على أن الركون للمجرمين ذنب عظيم، وإعانة المؤمنين إطاعة لأمر الله سبحانه.

_____________________________

1 ـ سورة هود، الآية 114.

2 ـ تحف العقول، ص 66.

[ 202 ]

قالوا لبعض العلماء: إنّ فلاناً أصبح كاتباً للظالم الفلاني، ولا يكتب له إلاّ الدخل والخرج. وحياته وحياة عائلته مرهونة بما يحصل عليه من مال لقاء هذا العمل، وإلاّ فسيقع هو وأُسرته في فقر مدقع.

فكان جواب هذا العالم: أمّا سمع قول العبد الصالح «موسى» (ربّ بما أنعمت عليّ فلن أكون ظهيراً للمجرمين )(1).

 

* * *

_____________________________

1 ـ كان لنا بحثان مستوفيان في مجال إعانة الظالمين في ذيل الآية (2) من سورة المائدة وذيل الآية (112) من سورة هود، فلا بأس بمراجعتهما.

[ 203 ]

الآيات

فَأَصْبَحَ فِى الْمَدِينةِ خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذا الَّذِى اسْتَنْصَرَهُ بِالاَْمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِىٌّ مُّبِينٌ (18) فَلَمَّآ أَن أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِى هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يَـمُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِى كَمَا قَتَلْتَ نَفساً بِالاَْمْسِ إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِى الاَْرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) وَجَآءَ رُجُلٌ مِّنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ يَسْعى قَالَ يَـمُوسى إِنَّ المَلأَ يَأتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّى لَكَ مِنَ النَّـصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْهَا خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِى مِنَ الْقَوْمِ الظَّـلِمِينَ (21) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَآءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّى أَنْ يَهْدِيَنِى سَوَآءَ السَّبِيلِ (22)

 

التّفسير

موسى يتوجّه إلى مدين خُفيةً:

نواجه في هذه الآيات المقطع الرّابع من هذه القصّة ذات المحتوى الكبير.

حيث أن مقتل الفرعوني في مصر انتشر بسرعة، والقرائن المتعددة تدلّ على

[ 204 ]

أن القاتل من بني إسرائيل، ولعل اسم موسى(عليه السلام) كان مذكوراً من بين بني إسرائيل المشتبه فيهم.

وبالطبع فإنّ هذا القتل لم يكن قتلا عادياً، بل كان يعد شرارة لانفجار ثورة مقدمة للثورة.. ولا شك أن جهاز الحكومة لا يستطيع تجاوز هذه الحالة ببساطة ليعرّض أرواح الفرعونيين للقتل على أيدي عبيدهم من بني إسرائيل.

لذلك يقول القرآن في بداية هذا المقطع (فأصبح في المدينة خائفاً يترقب )(1).

وهو على حال من الترقب والحذر، فوجيء في اليوم التالي بالرجل الإسرائيلي الذي آزره موسى بالأمس يتنازع مع قبطي آخر وطلب من موسى أن ينصره (فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه )(2).

ولكن موسى تعجب منه واستنكر فعله و (قال له موسى إنك لغوي مبين )إذ تحدث كل يوم نزاعاً ومشادة مع الآخرين، وتخلق مشاكل ليس أوانها الآن، إذ نحن نتوقع أن تصيبنا تبعات ما جرى بالأمس، وأنت اليوم في صراع جديد أيضاً!!

ولكنّه كان على كل حال مظلوماً في قبضة الظالمين (وسواء كان مقصراً في المقدمات أم لا) فعلى موسى(عليه السلام) أنّ يعينه وينصره ولا يتركه وحيداً في الميدان، فلمّا أن أراد أن يبطش بالذي هو عدوّ لهما صاح ذلك القبطي: (ياموسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس ) ويبدو من عملك هذا أنّك لست إنساناً منصفاً (ان

_____________________________

1 ـ كلمة «يترقب» مأخوذة من «الترقب»، ومعناه الإنتظار، وموسى هنا في انتظار نتائج هذه الحادثة، ومحل الجملة إعراباً ـ خبر بعد خبر، وإن قيل أنّها حال، إلاّ أنّ هذا القول ضعيف.

(*) كلمة «يستصرخ» مشتقة من مادة «الإستصراخ»، ومعناها الإستغاثة، ولكنّها في الأصل تعني الصياح أو طلب الصياح من الآخر، وهذا عادةً ملازم للإعانة...

[ 205 ]

تريد إلاّ أن تكون جباراً في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين )(1).

وهذه العبارة تدلّ بوضوح على أن موسى(عليه السلام) كان في نيّته الإصلاح من قبل، سواءً في قصر فرعون أو خارجه، ونقرأ في بعض الرّوايات أن موسى(عليه السلام) كانت له مشادات كلامية مع فرعون في هذا الصدد، لذا فإن القبطي يقول لموسى: أنت كل يوم تريد أن تقتل إنساناً، فأىّ إصلاح هذا الذي تريده أنت؟! في حين أن موسى(عليه السلام) لو كان يقتل هذا الجبار، لكان يخطو خطوة أُخرى في طريق الإصلاح..

وعلى كل حال فإنّ موسى التفت إلى أن ما حدث بالأمس قد انتشر خبره، ومن أجل أن لا تتسع دائرة المشاكل لموسى فإنّه أمسك عن قتل الفرعوني في هذا اليوم.

ومن جهة أُخرى فإنّ الأخبار وصلت إلى قصر فرعون فأحسّ فرعون ومن معه في القصر أن تكرار مثل هذه الحوادث ينذره بالخطر، فعقد جلسة شورى مع وزارئه وانتهى «مؤتمرهم» إلى أن يقتلوا موسى، وكان في القصر رجل له علاقة بموسى فمضى إليه وأخبره بالمؤامرة.. وكما يقول القرآن الكريم: (وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إنّي لك من الناصحين ).

ويبدو أنّ هذا الرجل هو «مؤمن آل فرعون» الذي كان يكتم إيمانه ويدعى «حزقيل» وكان من أسرة فرعون، وكانت علاقته بفرعون وثيقة بحيث يشترك معه في مثل هذه الجلسات.

وكان هذا الرجل متألماً من جرائم فرعون، وينتظر أن تقوم ثورة «إلهية»

_____________________________

1 ـ يعتقد جماعة من المفسّرين أن هذه الجملة قالها الإسرائيلي لموسى، لأنّه ظن أن موسى يريد قتله، ولكن القرائن الكثيرة في الآية تنفي هذا الإحتمال!

[ 206 ]

ضده فيشترك معها.

ويبدو أنّه كان له أمل كبير بموسى(عليه السلام) إذ كان يتوسم في وجهه رجلا ربّانياً صالحاً ثوريّاً، ولذلك فحين أحسّ بأن الخطر محدق بموسى أوصل نفسه بسرعة إليه وانقذه من مخالب الخطر، وسنرى بعدئذ أن هذا الرجل لم يكن فيُ هذا الموقف فحسب سنداً وظهيراً لموسى، بل كان يعدّ عيناً لبني إسرائيل في قصر فرعون في كثير من المواقف والأحداث.

أمّا موسى(عليه السلام) فقد تلقى الخبر من هذا الرجل بجدّية وقبل نصحه ووصيته في مغادرة المدينة (فخرج منها خائفاً يترقب ).

وتضرع إلى الله بإخلاص وصفاء قلب ليدفع عنه شرّ القوم و (قال ربّ نجني من القوم الظالمين ).

فأنا أعلم ياربّ أنّهم ظلمة ولا يرحمون، وقد نهضت ـ دفاعاً عن المحرومين ـ بوجه الظالمين، ولم آل جهداً ووسعاً في ردع الأشرار عن الاضرار بالطيبين، فأسألك ـ يا ربّي العظيم ـ أن تدفع عنّي أذاهم وشرّهم.

ثمّ قرر موسى(عليه السلام) أن يتوجه إلى مدينة «مدين» التي كانت تقع جنوب الشام وشمال الحجاز، وكانت بعيدة عن سيطرة مصر والفراعنة.. ولكنه شاب تربّى في نعمة ورفاه ويتجه إلى سفر لم يسبق له في عمره أن يسافر إليه، فلا زاد ولا متاع ولا صديق ولا راحلة ولا دليل، وكان قلقاً خائفاً على نفسه، فلعل أصحاب فرعون سيدركونه قبل أن يصل إلى هدفه «مدين» ويأسرونه ثمّ يقتلونه.. فلا عجب أن يظل مضطرب البال!

أجل، إن على موسى(عليه السلام) أن يجتاز مرحلة صعبة جدّاً، وأن يتخلص من الفخ الذي ضربه فرعون وجماعته حوله ليصطادوه، ليستقرّ أخيراً إلى جانب المستضعفين ويشاطرهم آلامهم بأحاسيسه وعواطفه، وأن يتهيأ لنهضة إلهية

[ 207 ]

لصالحهم وضد المستكبرين.

إلاّ أنّه كان لديه في هذا الطريق وعواطفه رأس مال كبير وكثير لا ينفد أبداً، وهو الإيمان بالله والتوكل عليه، لذا لم يكترث بأي شيء وواصل السير.. (ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربّي أن يهديني سواء السبيل )(1).

 

* * *

_____________________________

1 ـ «تلقاء» مصدر أو اسم مكان، ومعناه هنا: الجهة والصوب الذي قصده.

[ 208 ]

الآيات

وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِى حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعآءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّى لِمَآ أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْر فَقِيرٌ (24) فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِى عَلَى اسْتِحْيَآء قَالَتْ إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَآءَهُ وَقَصَّ عَلَيهِ الْقَصَصَ قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّـلِمِينَ (25)

 

التّفسير

عملٌ صالح يفتح لموسى أبواب الخير:

نواجه هنا المقطع الخامس من هذه القصّة، وهي قضيّة ورود موسى(عليه السلام) إلى مدينة مدين.

هذا الشاب الطاهر الذي لا يغش أحداً أمضى عدّة أيّام في الطريق، الطريق التي لم يتعود المسير فيها من قبل أبداً، ولم يكن له بها معرفة، وكما يقول بعضهم: اضطر موسى إلى أن يمشي في هذا الطريق حافياً، وقيل: إنّه قطع الطريق في

[ 209 ]

ثمانية أيّام، حتى لقي ما لقي من النصب والتعب، وورمت قدماه من كثرة المشي.

وكان يقتات من نبات الأرض وأوراق الشجر دفعاً لجوعه، وليس له أمام مشاكل الطريق وأتعابه إلاّ قلبه المطمئن بلطف الله الذي خلّصه من مخالب الفراعنة.

وبدأت معالم «مدين» تلوح له من بعيد شيئاً فشيئاً، وأخذ قلبه يهدأ ويأنس لاقترابه من المدينة، ولما اقترب ثمّ عرف بسرعة أنّهم أصحاب أغنام وأنعام يجتمعون حول الآبار ليسقوا أنعامهم وأغنامهم.

يقول القرآن في هذا الصدد: (فلما ورد ماء مدين وجد عليه أمّة من الناس يسقون ووجد من دونهما امرأتين تذودان )(1).

فحركه هذا المشهد... حفنة من الشبان الغلاظ يملأون الماء ويسقون الأغنام، ولا يفسحون المجال لأحد حتى يفرغوا من أمرهم.. بينما هناك امرأتان تجلسان في زاوية بعيدة عنهم، وعليهم آثار العفّة والشرف، جاء إليهما موسى(عليه السلام)ليسألهما عن سبب جلوسهما هناك و (قال ما خطبكما )(2).

وَلِمَ لا تتقدمان وتسقيان الأغنام؟!

لم يرق لموسى(عليه السلام) أن يرى هذا الظلم، وعدم العدالة وعدم رعاية المظلومين، وهو يريد أن يدخل مدينة مدين، فلم يتحمل ذلك كله، فهو المدافع عن المحرومين ومن أجلهم ضرب قصر فرعون ونعمته عرض الحائط وخرج من وطنه، فهو لا يستطيع أن يترك طريقته وسيرته وأن يسكت أمام الجائرين الذين لا ينصفون المظلوم!..

فقالت البنتان: إنّهما تنتظران تفرق الناس وأن يسقي هؤلاء الرعاة اغنامهم:

_____________________________

1 ـ «تذودان» مشتقة من «ذود» على زنة «زرد» ومعناها المنع، فهما إذاً كانتا تذودان أغنامهما لئلا تختلط بالأغنام الأُخرى.

2 ـ ما خطبكما: أي ما شأنكما وما شغلكما هنا؟!

[ 210 ]

(قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء )(1).

ومن أجل أن لا يسأل موسى: أليس لكما أب؟ ولماذا رضي بارسال بناته للسقي مكانه، أضافتا مكملتين كلامهما (وأبونا شيخ كبير ) فلا هو يستطيع أن يسقي الأغنام، وليس عندنا أخ يعينه على الأمر فلا حيلة لنا إلاّ أن نؤدي نحن هذا الدور.

فتأثر موسى(عليه السلام) من سماعه حديثهما بشدة. فأي أناس هؤلاء لا ينصفون المظلوم، ولا هم لهم غير أنفسهم.

فتقدم وأخذ الدلو وألقاها في البئر.. يقال: إن هذه الدلو كان يجتمع عليها عدّة نفر ليخرجوها بعد امتلائها من الماء، إلاّ أن موسى(عليه السلام) استخرجها بقوته وشكيمته وهمّته بنفسه دون أن يعينه أحد (فسقى لهما ) أغنامهما.

ويقال: إنّ موسى(عليه السلام) حين اقترب من البئر لام الرعاء، قال: أي أناس أنتم  لا همّ لكم إلاّ أنفسكم! وهاتان البنتان جالستان؟! ففسحوا له المجال وقالوا له: هلمّ واملأ الدلو، وكانوا يعلمون أن هذه الدلو حين تمتليء لا يستخرجها إلاّ عشرة أنفار من البئر.

ولكن موسى(عليه السلام) بالرغم من تعب السير في الطريق والجوع ملأ الدلو وسحبها بنفسه وسقى أغنام المرأتان جميعها.. (ثمّ تولّى إلى الظل وقال ربّ إنّي لما أنزلت إلىّ من خير فقير ).

أجل.. إنّه متعب وجائع، ولا أحد يعرفه في هذه المدينة، فهو غريب، وفي الوقت ذاته كان مؤدباً وإذا دعا الله فلا يقول: ربّ إنّي أريد كذا وكذا، بل يقول: (ربّ إنّي لما أنزلت إلي من خير فقير ) أي إنّه يكشف عن حاجته فحسب، ويترك الباقي إلى لطف الله سبحانه.

لكن هلمّ إلى العمل الصالح، فكم له من أثر محمود! وكم له من بركات

_____________________________

1 ـ «يصدر» مأخوذ من مادة «صدر» ومعناه الخروج من الماء، «والرعاء» جمع راع، وهو سائس الغنم.

[ 211 ]

عجيبة! خطوة نحو الله ملءُ دلو من أجل إنصاف المظلومين، فتح لموسى فصلا جديداً، وهيأ له من عالم عجيب من البركات المادية والمعنوية.. ووجد ضالته التي ينبغي أن يبحث عنها سنين طوالا.

وبداية هذا الفصل عندما جاءته احدى البنتين تخطو بخطوات ملؤها الحياء والعفة ويظهر منها أنّها تستحي من الكلام مع شاب غريب: رجوعهما إليه بهذه السرعة على غير ما اعتادتا عليه، فقصتا عليه الخبر، فأرسل خلفه (فجاءته إحداهما تمشي على استحياء ) فلم تزد على أن (قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا ).

فلمع في قلبه إشراقٌ من الأمل، وكأنّه أحس بأنّ واقعة مهمّة تنتظره وسيواجه رجلا كبيراً!.. رجلا عارفاً بالحق وغير مستعد أن يترك أي عمل حتى لو كان ملء الدلو أن يجزيه عليه، هذا الرجل ينبغي أن يكون انساناً نموذجياً ورجلا سماوياً وإلهيّاً.. ربّاه.. ما أروعها من فرصة.

أجل، لم يكن ذلك الشخص الكبير سوى «شعيب» النّبي الذي كان يدعو الناس لسنين طوال نحو الله، كان مثلا لمن يعرف الحق ويطلب الحق، واليوم إذ تعود بنتاه بسرعة يبحث عن السبب، وحين يعرف الأمر يقرر أن يؤدي ما عليه من الحق لهذا الشاب كائناً من كان.

تحرك موسى(عليه السلام) ووصل منزل شعيب، وطبقاً لبعض الروايات، فإنّ البنت كانت تسير أمام موسى لتدله على الطريق، إلاّ أن الهواء كان يحرّك ثيابها وربّما انكشف ثوبها عنها، ولكن موسى لما عنده من عفة وحياء طلب منها أن تمشي خلفه وأن يسير أمامها، فإذا ما وصلا إلى مفترق طرق تدله وتخبره من أي طريق يمضي إلى دار أبيها شعيب:(1)

دخل موسى(عليه السلام) منزل شعيب(عليه السلام)، المنزل الذي يسطع منه نور النبوّة.. وتشع

_____________________________

1 ـ انظر: أبوالفتوح الرازي ـ ذيل الآيات.

[ 212 ]

فيه الروحانية من كل مكان.. وإذا شيخ وقور يجلس ناحيةً من المنزل يرحب بقدوم موسى(عليه السلام)، ويسأله:

من أين جئت؟! وما عملك؟! وما تصنع في هذه المدينة. وما مرادك وهدفك هنا؟!

ولِمَ أراك وحيداً؟!

وأسئلة من هذا القبيل..

يقول القرآن في هذا الصدد: (فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين ) فأرضنا بعيدة عن سيطرتهم وسطوتهم ولا تصل أيديهم إلينا، فلا تقلق ولا تشعر نفسك الوحشة، فأنت في مكان آمن ولا تفكر بالغربة، فكل شيء بلطف الله سيتيسر لك!..

فالتفت موسى إلى أنّه وجد استاذاً عظيماً.. تنبع من جوانبه عيون العلم والمعرفة والتقوى، وتغمر وجوده الروحانيّة.. ويمكن أن يروي ظمأه منه.

كما أحسّ شعيب أنّه عثر على تلميذ جدير ولائق، وفيه استعداد لأن يتلقى علومه وينقل إليه تجارب العمر!

أجل.. كما أن موسى شعر باللذة حين وجد أستاذاً عظيماً.. كذلك أحس شعيب بالفرح والسرور حين عثر على تلميذ مثل موسى.

* * *

 

مسألتان

1 ـ أين كانت مدين؟!

«مدين» : اسم مدينة كان يقطنها «شعيب » وقبيلته، هذه المدينة كانت تقع في شرق خليج العقبة [ وشمال الحجاز وجنوب الشامات] وأهلها من أبناء إسماعيل

[ 213 ]

«الذبيح» ابن إبراهيم الخليل(عليها السلام)، وكانت لهم تجارة مع مصر وفلسطين ولبنان.

أمّا اليوم فيطلق على «مدين» اسم «معان».

كما أن بعضاً من المفسّرين يعتقدون أن مدين اسم لجماعة كانت تعيش ما بين خليج العقبة وجبل سينا المعروف بطور سيناء، وجاء اسمها في التوراة بـ «مديان» أيضاً(1).

كما يرى البعض: إنّ أساس تسمية هذه المدينة «بمدين» هو لأنّ أحد أبناء إبراهيم الخليل واسمه «مدين»كان يعيش في هذه المدينة(2).

وفي الوقت الحاضر يبدو في الخرائط الجغرافية للأردن أن إحدى مدنها في الجنوب الغربي منها، واسمها «معان» تحمل الأوصاف ذاتها التي كانت في مدين.. وتنطبق عليها تماماً.

 

2 ـ دروس كثيرة توحي بالعبر:

في هذا القسم من قصّة موسى(عليه السلام) دروس كثيرة توحي بالعبر:

أ ـ إنّ أنبياء الله هم حماة المظلومين دائماً، فموسى سواءً كان في مصر أو كان في مدين كان يسيئهُ أن يرى ظلماً وتجاوزاً على حقوق الآخرين، وكان ينهض لنصرة المظلوم.. ولم لا يكون كذلك، وأحد أهداف بعثة الأنبياء نصرة المظلوم.

ب ـ أداء عمل صغير لله له بركات كثيرة!

لم يفعل موسى سوى أنّه جلب دلواً من الماء وسقى الأغنام للبنتين، ولم يكن له هدف سوى مرضاة الله الخالق سبحانه!

ولكن كم كان لهذا العمل الصغير من خير وبركة؟! لأنّه صار سبباً لأن يصل

_____________________________

1 ـ راجع أعلام القرآن، ص 572.

2 ـ راجع روح المعاني، ج 20، ص 51.

[ 214 ]

إلى منزل شعيب نبي الله، وأن يتخلّص من الغربة، وأن يجد مأوى يطمئن إليه، وصار من نصيبه الأكل الهنيء والثياب والزوجة الصالحة، وأهم من كل ذلك.. إنّه وصل إلى شعيب، ذلك الشيخ الكبير الذي يتمتع بضمير حي وله دين سماوي، فعاش معه عشر سنين وأصبح مهيأً لقيادة الأُمة في ذلك الوقت..

ج ـ إنّ رجال الله لا يتركون أي عمل سدىً ـ وخاصّة ما يعمله المخلصون ـ دون أن يؤدوا أجره.. ولهذه السبب فإنّ شعيباً حين بلغه ما قدمه موسى(عليه السلام) من عمل ـ وهو شاب لم يكن معروفاً لم يكن معروفاً هناك ـ لم يقرّ حتى أرسل خلفه ليعطيه أجره.

د ـ وهذه المسألة تثير الإنتباه، وهي أن موسى كان يذكر الله دائماً، ويطلب منه العون في كل أمر، يوكل حل مشاكله إليه.

فحين قتل القبطي وعرف أنّه «ترك الأولى» استغفر ربّه فوراً و(قال ربّ إنّي ظلمت نفسي فاغفرلي ).

وحين خرج من مصر سأل الله أن يحفظه و(قال ربّ نجني من القوم الظالمين ).

وحين وصل أرض مدين (قال عسى ربّي أن يهديني سواء السبيل! ).

وحين سقى أغنام «شعيب» وتولى إلى الظل دعا ربّه و(قال ربّ إنّي لما أنزلت إلي من خير فقير ).

وهذا الدعاء الأخير ـ خاصة ـ الذي دعا به في وقت تحوط فيه الأزمات وهو في أشدّ الحاجات، دعا به وهو في غاية التأدب والخشوع، ولم يسأل الله أن يحقق له ما يحتاج، بل سأل المزيد وقال: (ربّ إنّي لما أنزلت إلي من خير فقير ).

هـ ـ لا ينبغي التصور أن موسى(عليه السلام) إنّما كان يذكر الله في الشدائد فحسب، فهو لم ينس ذكر الله حتى حين كان في نعمة ورفاهية من العيش، إذ كان يعيش في

[ 215 ]

قصر فرعون ـ لذلك ورد في الرّوايات.. «درج موسى كان يوماً عند فرعون فعطس موسى فقال: الحمد لله ربّ العالمين. فأنكر فرعون ذلك عليه ولطمه وقال: ما هذا الذي تقول؟ فوثب موسى على لحيته ـ وكان طويل اللحية ـ فهلبها أي قلعها، فآلمه ألماً شديداً، فهم فرعون بقتله فقالت له امرأته، هذا غلام حدث لا يدري ما يقول وقد لطمته بلطمه إيّاك. فقال فرعون: بلى يدري...» الخ (1).

 

* * *

_____________________________

1 ـ نور الثقلين، ج 4، ص 117.

[ 216 ]

الآيات

قَـالَتْ إِحْدهُمَـا يأَبَتِ اسْتئْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَئْجَرْتَ الْقَوِىُّ الاَْمِينُ (26) قالَ إِنِّى أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَىَّ هَـتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِى ثَمَـنِىَ حِجَج فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَمآ أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِى إِنْ شَآءَ اللهُ مِنَ الصَّـلِحِينَ (27) قَـالَ ذلِكَ بَيْنِى وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الاَْجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْونَ عَلَىَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28)

 

التّفسير

موسى في دار شعيب:

هذا هو المقطع السادس من قصّة حياة موسى(عليه السلام) المثيرة، جاء موسى إلى منزل شعيب، منزل قرويّ بسيط، منزل نظيف ومليء بالروحيّة العالية، وبعد أن قصّ عليه قصّته، بادرت إحدى بنتي شعيب بالقول ـ وبعبارة موجزة ـ : إنّني أقترح أن تستأجره لحفظ الأغنام ورعايتها: و(قالت يا أبت استأجره إنّ خير من استأجرت القويُّ الأمين ).

هذه البنت التي تربّت في حجر النّبي الكبير، ينبغي أن تتحدث بمثل هذا

[ 217 ]

الحديث الوجيز الكريم، وأن تؤدي الكلام حقّه بأقلّ العبارات.

تُرى من أين عرفت هذه البنت أنّ هذا الشاب قويُّ وأمين أيضاً؟ مع أنّها لم تره الاّ لأوّل مرّة على البئر، ولم تتّضح لها سوابق حياته!

والجواب على هذا السؤال واضح وجليّ.. إذ لاحظت قوته وهو يُنحيّ الرعاء عن البئر ويملأ القربة الثقيلة لوحده ويطالب بحق المظلوم، وأمّا أمانته وصدقه فقد اتّضحا لها منذ أن سارت أمامه إلى بيت أبيها، فطلب منها أن تتأخر ويتقدمها، لئلا تضرب الريح ثيابها!.

أضف إلى ذلك.. من خلال نقله قصته لشعيب فقد اتّضحت قوته في دفعه القبطي عن الإسرائيلي وقتله إيّاه بضربة واحدة.. وأمانته وصدقه.. في عدم مساومته الجبابرة.

فرضي شعيب(عليه السلام) باقتراح ابنته، وتوجه إلى موسى و(قال إنّي أريد أن أُنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج ) ثمّ أضاف قائلا: (فإن أتممت عشراً فمن عندك )(1).

وعلى كل حال، فلا أريد إيذاءك (وما أريد أن أشقّ عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين ).

فأنّا ألتزم بالعهد والميثاق وأفي بما نتعاقد عليه، ولا أشدّد عليك في الأمور، وأتعامل معك معاملة حسنة وصالحة.. إن شاء الله.

ومن خلال هذا الإقتراح هناك أسئلة كثيرة حول الزواج من ابنة شعيب والمهر وسائر الخصوصيات، وسنبحث عنها في البحوث القادمة إن شاء الله.

واستجابة لهذا القرار والعقد الذي أنشأه شعيب مع موسى.. وافق موسى

_____________________________

1 ـ هذا المضمون نفسه ورد في رواية منقولة في تفسير علي بن إبراهيم، فقال لها شعيب: أمّا قوته فقد عرفتينه إنّه يستقى الدلو وحده، فبم عرفت أمانته؟ فقالت: «إنّه لمّا قال لي تأخري عنّي ودليني على الطريق فإنّا من قوم لا ينظرون في أدبار النساء عرفت أنّه ليس من الذين ينظرون أعجاز النساء فهذه أمانته» .

[ 218 ]

و(قال ذلك بيني وبينك )..

ثمّ أردف مضيفاً بالقول: (أيّما الأجلين قضيت فلا عدوان عليَّ ) أي سواءً قضيت عشر سنين أو ثماني سنين «حجج» فلا عدوان علي..

ومن أجل استحكام العقد بينهما جعل موسى(عليه السلام) اللّه كفيلا وقال: (والله على ما نقول وكيل! ).

وبهذه البساطة أصبح موسى صهراً لشعيب على ابنته.

* * *

 

بحوث

1 ـ شرطان أساسيان للإدارة الصحيحة

في العبارة القصيرة التي وردت في الآيات المتقدمة على لسان بنت شعيب في شأن استئجار موسى، كان من أهم الشروط وأكثرها أصالةً شرطان لخّصا في «القوّة» و«الأمانة».

ومن البديهي أنّ القوّة المذكورة ـ آنفاً ـ ليس المراد منها قوّة الجسم فحسب، بل القدرة على تحمّل المسؤولية أيضاً.

فالطبيب «القوي الأمين» هو الطبيب الذي له معرفة جيدة وكافية في عمله، وله تسلّط عليه أيضاً.

والمدير القوى هو الذي يعرف «أصول الإدارة» ويعرف الأهداف المطلوبة.. وله تسلط في وضع الخطط و«البرامج»، وله سهم وافر في الإبتكار وتنظيم الأعمال.. ويعبي القوى في سبيل الوصول للهدف المعين.

وفي الوقت ذاته يكون مشفقاً وناصحاً وأميناً وصادقاً في العمل.

والأشخاص الذين يقنعون في تحمل المسؤولية وجود الأمانة والطهارة فحسب، هم مخطئون بمقدار خطأ من يعتمد على سمة التخصص والعلم فحسب.

[ 219 ]

فالمتخصصون الخونة والعلماء المنحرفون يضربون ضربتهم كما يضربها المخلصون الذين لاحظ لهم من الإطلاع والمهارة في العمل.

وإذا أردنا أن نخرّب دولة ما فينبغي أن نوكل الأُمور إلى إحدى هاتين الطائفتين..إلى مدراء خائنين لـ «الأمانة»، إلى المخلصين الذين لاحظ لهم من العلم والإدارة والنتيجة واحدة.

إنّ منطق الإسلام هو أن يوكل كل عمل إلى شخص قوي أمين مقتدر، ليصل نظام المجتمع إلى الكمال، وإذا ما تأمّلنا في سبب زوال الحكومات في طول التأريخ، وفكّرنا في الأمر، وجدنا العامل الأصلي هو إيكال الأمر إلى إحدى هاتين الطائفتين اللتين تكلمنا عنهما آنفاً.

ومن الطريف أنّ منهج الإسلام في جميع الأُمور أنّه يقرن «العلم مع التقوى» جنباً إلى جنب.

فمرجع التقليد لابدّ أن يكون «مجتهداً عادلا» والقاضي وكذلك القائد يجب أن يكون «مجتهداً عادلا».. وبالطبع فإن شروطاً أُخرى ينبغي توفرها أيضاً، ولكن أساس هذه الشروط جميعاً شرطان هما «العلم المقترن بالتقوى والعدل».

 

2 ـ اسئلة عن زواج موسى من بنت شعيب!...

ذكرنا ـ آنفاً ـ أنّ الآيات المتقدمة تحمل بين ثنايها أسئلة متعددة، وعلينا أن نجيب عليها ولو باختصار:

أ ـ هل يجوز من الناحية الشرعية والفقهية، أن تكون الزوجة غير معلومة، بل يقال عند إجراء صيغة العقد «أزوّجك إحدى البنتين مثلا»؟...

والجواب: ليس من المعلوم أن العبارة السابقة (أنكحك إحدى ابنتي هاتين )ذكرت عند إجراء صيغة العقد.. بل الظاهر أنّه جرى كلام و مقدمات للعقد والزواج، وبعد موافقة موسى على الزواج، ثمّ تجري صيغة العقد على واحدة

[ 220 ]

بعينها.

ب ـ هل يمكن أن يكون المهر مجهولا، أو مردداً بين النقصان والتمام؟!

والجواب: يفهم من لغة الآية أن المهر الواقعي كان ثماني سنوات خدمة.. أمّا السنتان الأخريان فموكلتان لرغبة موسى، أن شاء أدّاهما، وإلاّ فلا!

ج ـ وهل يجوز أساساً أن يكون المهر «خدمة وعملا»؟!

وكيف يمكن الزواج من امرأة على هذا المهر والدخول بها، والمهر بعد لم يتمّ، ولا يمكن إتمامه في مكان واحد!

والجواب: إنّه لا دليل على عدم جوازمثل هذا المهر، بل إطلاقات الأدلة على المهر في شريعتنا ـ أيضاً ـ تشمل كل شيء ذي قيمة!

كما أنّه لا يلزم أداء المهر في مكان واحد، بل يكفي أن يكون في ذمّة الرجل، والمرأة مالكة له.

وأصل السلامة والإستصحاب يقضيان أنّ هذا الرجل يحيا مدّةً ويستطيع أداء هذا المهر.

د ـ أساساً كيف يمكن جعل الخدمة للأب مهراً للبنت؟! فهل المرأة بضاعة تباع في مقابل الخدمة(1)؟!..

والجواب: لا شكّ أن شعيباً كان يحرز رضا ابنته على مثل هذا المهر، ولديه وكالة منها على هذا العقد، وبتعبير آخر: إن المالك الأصلي لما في ذمّة موسى، هي زوجته «بنت شعيب».

ولكن.. حيث أنّهم كانوا يعيشون في بيت واحد وفي غاية الصفاء والنقاء، ولم تكن بينهم فرقة وانفصال «كما هي الحال بالنسبة إلى كثير من الأسر القروية

_____________________________

1 ـ قال المحقق الحلي في الشرائع «يصح العقد على منفعة كتعليم الصنعة والسورة من القرآن وكل عمل محلل، وعلى إجارة الزوج نفسه مدّة معينة» ويضيف الفقيه الكبير الشيخ محمّد حسن صاحب الجواهر بعد ذكر تلك العبارة قوله: «وفاقاً للمشهور» (جواهر الكلام، ج 31، ص 4).

[ 221 ]

القديمة التي تبدو حياتها منسجمة تمام الإنسجام» فلم تكن هذه المسألة ـ مسألة أداء الدين ـ محل بحث ولا كيف يوفّى المهر.

المهم هنا أن المالك للمهر البنت وحدها لا الأب، والخدمات التي قدمها موسى كانت في هذا السبيل أيضاً.

هـ ـ كان مهر بنت شعيب مهراً ثقيلا نسبياً ـ لأنّنا إذا أردنا أن نلاحظ أجرة العامل العادي خلال شهر ثمّ خلال سنة، وبعدئذ نضاعف ذلك ا لأجر إلى ثماني مرات فسيكون مبلغاً كثيراً جدّاً.

الجواب: أولا لم يكن هذ ا الزواج زواجاً بسيطاً، بل كان مقدمة لبقاء موسى عند «شعيب» متبعاً شاكلته ومذهبه، ومقدمة لأن يدرس موسى(عليه السلام) في جامعة علمية كبرى خلال هذه الفترة الطويلة، والله العالم كم تعلم موسى من «شيخ مدين» في هذه المدّة من اُمور؟!

ثمّ بعد ذلك كله، لو قلنا: إنّ هذه المدة الطويلة كان يقضيها موسى في خدمة شعيب، ففي مقابل ذلك سيؤمن له شعيب مصرفه ونفقات زوجه من هذا الطريق أيضاً.. فإذا جردنا مصرف موسى ونفقاته من أجرة عمله لم يكن المهر غالياً ـ بل سيبقى مبلغ زهيد وخفيف!..

3 ـ يستفاد ضمناً من هذه القصّة أن ما يشيع في عصرنا من أن اقتراح الأب على إختيار البعل لابنته أمر مصيب، لا مانع منه وليس معيباً، فإذا وجد الأب شخصاً لائقاً وجديراً، فله الحق أن يقترح عليه الزواج من ابنته، كما فعل شعيب(عليه السلام)مع موسى في شأن ابنته(عليه السلام) والزواج منها.

4 ـ إسما ابنتي شعيب: واحدة «صفورة» أو «صفورا» وهي التي تزوجت من موسى(عليه السلام)، أمّا الثّانية فاسمها «ليا»(1).

* * *

_____________________________

1 ـ مجمع البيان، ج 7، ص 249.




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21334699

  • التاريخ : 28/03/2024 - 13:26

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net