00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة الحج من آية 26 ـ 41 من ( ص 319 ـ 363 )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء العاشر)   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

[ 319  ]

الآيات

وَإِذْ بَوَّأْنَا لاِِبْرَهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِى شَيْئاً وَطَهِّرْ بِيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ(26) وَأَذِّن فِى النَّاسِ بِالْجَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِر يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيق(27) لِّيَشْهَدُوا مَنَـفِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِى أَيَّام مُّعْلُومَـت عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الاَْنْعَـمِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ(28)

التّفسير

الدّعوة العامّة للحجّ!

تناولت الآية السابقة قضيّة المسجد الحرام وحجّاج بيت الله، أمّا هذه الآيات فتستعرض بناء الكعبة على يد إبراهيم الخليل (عليه السلام)، ووجوب الحجّ وفلسفته، وبعض أحكام هذه العبادة الجليلة. وبتعبير آخر: كانت الآية السابقة مقدّمة للأبحاث المختلفة التي تناولتها الآيات اللاحقة، إذ بدأت بقصّة تجديد بناء الكعبة: (وإذ بوّأنا لإبراهيم مكان البيت) أي تذكّر كيف أعددنا لإبراهيم مكان الكعبة

[ 320  ]

ليقوم ببنائها.

وكلمة «بوّأ» مشتقة من بواء، أي الأرض المسطّحة، ثمّ أطلقت على إعداد المكان مطلقاً.

وتقصد هذه الآية حسبما يراه المفسّرون أنّ الله هدى إبراهيم (عليه السلام) إلى مكان الكعبة بعد أن هدمت بطوفان نوح وخفيت معالمها. إذ حدثت عاصفة فأزالت التراب وكشفت عن اُسس البيت، أو بعث الله سحابة ظلّلت مكان البيت، أو بأيّ أُسلوب آخر كشف الله لإبراهيم (عليه السلام) أسّس الكعبة، فقام هو وإبنه إسماعيل (عليهما السلام)بتجديد بناء بيت الله الحرام(1).

وتضيف الآية الكريمة أنّه عندما تمّ بناء البيت خوطب إبراهيم(عليه السلام): (أن لا تشرك بي شيئاً وطهّر بيتي للطائفين والقائمين والركّع السجود)(2).

فمهمّة إبراهيم (عليه السلام) كانت تطهير البيت وما حوله من أي نجس ظاهر أو باطن، ومن أي صنم أو مظهر للشرك، من أجل أن يوجّه عباد الرحمن قلوبهم وأبصارهم إليه تعالى وحده في هذا المكان الطاهر، وليقوموا بأهمّ العبادات في هذه البقعة المباركة، ألا وهو الطواف والصلاة في محيط إيمانيّ لا يخالطه شرك.

وأشارت الآية أيضاً إلى ثلاثة من الأركان الأساسيّة في الصلاة: القيام، والركوع، والسجود، بالترتيب، لأنّ الأركان الباقية تستظلّ بها، على الرغم من قول بعض المفسّرين: إنّ «القائمين» تعني هنا المقيمين بمكّة، ومع ملاحظة مسألة الطواف والركوع والسجود التي جاءت قبل كلمة القائمين وبعدها يتّضح لنا أنّ القيام هنا يعني قيام الصلاة وقد إختار هذا المعنى عدد كبير من مفسّري الشيعة

___________________________

1 ـ يراجع للإطلاع على كيفية بناء الكعبة تفسير الآية (127) من سورة البقرة. كما تناولنا ذلك بشرح مسهب في تفسير الآية (96) من سورة آل عمران.

2 ـ في هذه الآية جملة محذوفة تقديرها «أوحينا» وقد أشار إلى ذلك عدد كبير من المفسّرين.

[ 321  ]

والسنّة أو نقلوه باعتباره تفسير لها(1).

وكلمتا «ركّع» وهي جمع للراكع، و «السجود» وهي جمع ساجد، لم يرد بينهما واو العطف، بل ذكرتا وصفاً لتقارب هاتان العبادتان.

وبعد إعداد البيت للعبادة، أمر الله تعالى إبراهيم (عليه السلام): (وأذّن في الناس بالحجّ يأتوك رجالا وعلى كلّ ضامر يأتين من كلّ فجّ عميق).

كلمة «أذّن» مشتقة من «الأذان» أي «الإعلان». و «رجال» جمع «راجل» أي «ماشي». و «الضامر» تعني الحيوان الضعيف. و «الفجّ» في الأصل تعني المسافة بين جبلين، ثمّ أطلقت على الطرق الواسعة و «العميق» تعني هنا «البعيد».

جاء في حديث رواه علي بن إبراهيم في تفسيره: عندما تسلّم إبراهيم (عليه السلام)هذا الأمر الربّاني قال: إنّ أذاني لا يصل إلى أسماع الناس، فأجابه سبحانه وتعالى (عليك الأذان وعليّ البلاغ)! فصعد إبراهيم (عليه السلام) موضع المقام ووضع إصبعيه في اُذنيه وقال: ياأيّها الناس كتب عليكم الحجّ إلى البيت العتيق فأجيبوا ربّكم. وأبلغ الله عزّوجلّ نداءه أسماع جميع الناس حتّى الذين في أصلاب آبائهم وأرحام اُمّهاتهم، فردّوا: لبّيك اللهمّ لبّيك! وإنّ جميع الذين يشاركون في مراسم الحجّ منذ ذلك اليوم وحتّى يوم القيامة، هم من الذين لبّوا دعوة إبراهيم (عليه السلام)(2).

وقد ذكرت الآية هنا الحجّاج المشاة أوّلا، ثمّ الراكبين، لأنّهم أفضل منزلة عند الله، بسب ما يتحمّلون من صعاب السفر أكثر من غيرهم، ولهذا السبب قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «للحاج الراكب بكلّ خطوة تخطوها راحلته سبعون حسنة، وللحاج الماشي بكلّ خطوة يخطوها سبعمائة حسنة»(3).

___________________________

1 ـ يراجع تفسير الآية موضع البحث في تفاسير الميزان، وفي ظلال القرآن، والتبيان، ومجمع البيان، والتّفسير الكبير للفخر الرازي.

2 ـ بتلخيص، عن تفسير علي بن إبراهيم حسبما نقله تفسير نور الثقلين، المجلّد الثّالث، 488.

والآلوسي في روح المعاني، والفخر الرازي، في التّفسير الكبير في تفسير الآية موضع البحث مع بعض الفارق.

3 ـ تفسير «روح المعاني»، و «مجمع البيان»، و «الفخر الرازي».

[ 322  ]

أو أنّ هذه المنزلة جاءت لتحديد أهميّة حجّ بيت الله الحرام، الذي يجب أن يتمّ بأي اُسلوب وبأيّة إمكانات. وأن لا ينتظر الحاج مركباً له.

أمّا عبارة «ضامر» فتعني الحيوان الضعيف، إشارةً إلى أنّ هذا الطريق يجعل الحيوان هزيلا، لأنّه يجتاز صحاري جافةً محرقة لا زرع فيها ولا ماء، وإستعداداً لتحمل الصعاب في هذا الطريق.

أو يكون المراد أنّ على الحاج إختيار جواد قوي سريع صابر، رشيق ضامر، متدرّب على السير في مثل هذه الطرق، ولا فائدة ترجى من الحيوان المنعم في هذا الطريق. (مثلما لا يمكن للرجال المترفين إجتياز هذا الطريق).

أمّا عبارة (من كلّ فج عميق) فهي إشارة إلى توجّه الحجاج إلى الكعبة، ليس فقط من الأماكن القريبة، بل يشمل ذلك الحجّاج من الأماكن البعيدة أيضاً. كلمة «كلّ» لا تعني هنا الإستغراق والشمول، بل الكثرة.

ويذكر المفسّر المشهور أبو الفتوح الرازي في تفسيره لهذه الآية حياة مثيرة لرجل يدعى «أبو القاسم بشر بن محمّد» فيقول: رأيت حين الطواف شيخاً هزيلا بدت عليه آثار السفر، ورسم التعب علائمه على جبينه. تقدّمت إليه وسألته من أين أنت؟ أجاب: من فجّ عميق طال قطعه خمسة أعوام! فأصبحت شيخاً هزيلا من شدّة تعب السفر وآلامه، فقلت: والله لهي مشقّة، إلاّ أنّها طاعة خالصة وحبّ عميق لله تعالى.

فسّره ذلك ثمّ أنشد:

زر من هويت وإن شطّت بك الدار وحال من دونه حجب وأستار!

لا يمنعنّك بُعد من زيارته إنّ المحبّ لمن يهواه زوّار!

حقّاً إنّ جاذبية بيت الله هي بدرجة تجعل القلوب الطافحة بالإيمان تهوى

[ 323  ]

إليه من جميع الأنحاء، قربت أم بعدت، تجذب الشاب والشيخ والصغير والكبير، من كلّ اُمّة ومكان، بعيداً أم قريباً، الكل يلبّون الله يأتونه عشّاقاً ليروا مظاهر ذات الله الطاهرة في تلك الأرض المقدّسة بأعينهم، ويشعروا برحمته التي لا حدود لها من أعماق وجودهم(1).

وتناولت الآية التالية فلسفة الحجّ في عبارة موجزة ذات دلالات عديدة فقالت: (ليشهدوا منافع لهم). أي أنّ على الناس الحجّ إلى هذه الأرض المقدّسة، ليروا منافع لهم باُم أعينهم.

وقد ذكر المفسّرون لكلمة المنافع الواردة في الآية عدّة معان، إلاّ أنّه لا تحديد لمعناها كما يبدو من ظاهر الآية، فهي تشمل جميع المنافع والبركات المعنوية والمكاسب المادية، وكلّ عائد فردي وإجتماعي وفلسفة سياسيّة وإقتصادية وأخلاقية. فما أحرى المسلمين أن يتوجّهوا من أنحاء العالم إلى مكّة ليشهدوا هذه المنافع! إنّها لعبارة جميلة! ما أولاهم أن يجعلهم الله شهوداً على منافعهم! ليروا بأعينهم ما سمعوه بآذانهم!

وعلى هذا ذكر في كتاب الكافي حديثاً عن الإمام الصادق (عليه السلام) في الردّ على إستفسار ربيع بن خيثم عن كلمة المنافع ...: منافع الدنيا أو منافع الآخرة؟ فقال: «الكل»(2).

وسنتناول بإسهاب شرح هذه المنافع في ملاحظاتنا على هذه الآية إن شاء الله.

ثمّ تضيف الآية: (ويذكروا اسم الله في أيّام معلومات على ما رزقهم من بهيمة

___________________________

1 ـ يقول العالم الفاضل العلاّمة الشعراني (رضي الله عنه): إنّ ذلك ليس عجيباً بالنسبة للذين يأتون إلى مكّة من الاندلس أو المغرب أو من أنحاء نائية في الصين أو من استرالية. حيث يستغرق سفرهم زمناً طويلا يصل إلى عدّة أشهر نظراً لوسائط النقل التي كانت تستعمل آنذاك وإفتقاد الطرق للأمن (إضافةً إلى ذلك كان البعض من المتولّهين ببيت الله يتعرّضون إلى السرقة في الطريق فيضطرون إلى العمل من أجل إعداد مؤنة باقي الطريق إلى بيت الله الحرام).

2 ـ تفسير نور الثقلين، المجلّد الثّالث، الصفحة 488 نقلا عن كتاب الكافي.

[ 324  ]

الأنعام) أي أنّه على المسلمين أن يحجّوا إلى البيت ويقدّموا القرابين من المواشي التي رزقهم الله، وأن يذكروا اسم الله عليها حين الذبح في أيّام محدّدة معروفة. وبما أنّ الإهتمام الأساس في مراسم الحجّ، ينصب على الحالات التي يرتبط فيها الإنسان بربّه ليعكس جوهر هذه العبادة العظيمة، تُقيّد الآية المذكورة تقديم القربان بذكر اسم الله على الاُضحية فقط، وهو أحد الشروط لقبولها من لدن العلي القدير. وهذا الذكر إشارة إلى توجّه الحاج إلى الله كلّ التوجّه عند تقديم الاُضحية، وهمّه كسب رضى الله وقبوله القربان، كما أنّ الإستفادة من لحم الضحية تقع ضمن هذا التوجّه.

وفي الحقيقة يعتبر تقديم الأضاحي رمزاً لإعلان الحاج إستعداده للتضحية بنفسه في سبيل الله، على نحو ما ذكر من قصّة إبراهيم (عليه السلام) ومحاولة التضحية بإبنه إسماعيل (عليه السلام). إنّ الحجّاج بعملهم هذا يعلنون إستعدادهم للإيثار والتضحية في سبيل الله حتّى بأنفسهم.

وعلى كلّ حال فإنّ القرآن بهذا الكلام ينفي اُسلوب المشركين الذين كانوا يذكرون أسماء الأصنام التي يعبدونها على أضاحيهم، ليحيلوا هذه المراسم التوحيديّة إلى شرك بالله. وجاء في ختام الآية: (فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير).

كما يمكن أنّ تفسّر هذه الآية بأنّ القصد من ذكر اسم الله في (أيّام معلومات)هو التكبير والحمد لله ربّ العالمين لما أنعم علينا من نِعَم لا تعدّ  ولا تحصى. خاصةً بما رزقنا من بهيمة الأنعام التي نستفيد في حياتنا من جميع أجزاء أبدانها(1).

* * *

___________________________

1 ـ في التّفسير الأوّل (أي ذكر اسم الله على الاُضحية) تكون «على» هنا للإستعلاء، أمّا في التّفسير الثّاني (أي الذكر المطلق لاسم الله تعالى في هذه الأيّام) فإنّ «على» تعني «من أجل» فالفرق بين هذين التّفسيرين كبير، سنشير إليه في الملاحظات.

[ 325  ]

بحوث

1 ـ ما هي الأيّام المعلومات؟

يأمرنا الله سبحانه وتعالى ـ في الآيات السابقة ـ أن نذكره في (أيّام معلومات). وجاء ذلك أيضاً في سورة البقرة الآية (203) بشكل آخر (واذكروا الله في أيّام معدودات). فما هي الأيّام المعلومات؟ وهل تطابق في معناها الأيّام المعدودات، أم لا؟

إختلف المفسّرون في هذه الأيّام، كما إختلفت الرّوايات التي ذكرت بهذا الصدد: حيث يرى بعض المفسّرين ـ ويستندون إلى بعض الأحاديث الإسلامية ـ أنّه يقصد بـ «الأيّام المعلومات» الأيّام العشرة الأُولى من ذي الحجّة، وأمّا «الأيّام المعدودات» فهي «أيّام التشريق» أي اليوم الحادي عشر والثّاني عشر والثّالث عشر من ذي الحجّة. الأيّام التي تُشرِق فيها القلوب.

أمّا المجموعة الثّانية من المفسّرين فقد استندوا إلى أحاديث أُخرى فقالوا: إنّ العبارتين تشيران إلى أيّام التشريق التي تعتبر هي الأيّام الثلاثة ذاتها، وأحياناً يضاف إليها اليوم العاشر أي عيد الأضحى.

وعبارة (فمن تعجّل في يومين فلا إثم عليه) التي جاءت في سورة البقرة، تدلّ على أنّ أيّام التشريق ليست أكثر من ثلاثة أيّام، لأنّ التعجيل فيها يحدث نقصاً في أيّامها فتصبح يومين.

ومع ملاحظة أنّ التضحية جاءت في الآيات ـ موضع البحث ـ بعد ذكر الأيّام المعلومات. ونعلم أنّ تقديم الأضاحي يتمّ في اليوم العاشر من ذي الحجّة، فإنّ ذلك يؤكّد أنّ الأيّام المعلومات هي الأيّام العشرة الأُولى من ذي الحجّة التي تنتهي بيوم الأضحى. وعلى هذا يقوى دليل التّفسير الأوّل القائل بإختلاف معنى الأيّام المعلومات والأيّام المعدودات.

[ 326  ]

ومع الأخذ بوحدة المعاني التي تضمنّتها الآيتان، يبدو أنّ الأرجح في هذه القضيّة القول بأنّ الآيتين تشيران إلى موضوع واحد، وهدفهما الإهتمام بذكر الله في أيّام معيّنة تبدأ من العاشر من ذي الحجّة وتنتهي بالثّالث عشر منه. ومن الطبيعي أن تكون إحدى الحالات التي يجب ذكر اسم الله فيها، هي حين تقديم الأضاحي(1).

2 ـ ذكر الله في أرض «منى»

جاء في روايات عديدة أنّ ذكر الله في هذه الأيّام تكبير خاص يذكر بعد إتمام صلاة ظهر يوم عيد الأضحى، ويستمر ذكر هذا التكبير في خمس عشرة صلاة (أي ينتهي بعد صلاة صبح اليوم الثّالث عشر) وهو كما يلي:

«الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلاّ الله والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد، الله أكبر على ما هدانا، والله أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام»(2).

كما نصّت بعض الأحاديث على أنّ التكبير في المرّات الخمسة عشر خاص بالذين هم بأرض «منى» في أيّام الحجّ، أمّا من كانوا في المناطق الاُخرى فعليهم ذكر هذا التكبير عقب عشر صلوات (يبدأ من بعد صلاة الظهر من يوم العيد، وينتهي بصلاة صبح اليوم الثّاني عشر)(3) والأحاديث الخاصّة بالتكبير دليل آخر على أنّ الذكر في الآيات السابقة عامّ وليس محدّداً بتقديم الأضاحي. رغم أنّ هذا المفهوم الكلّي يشمل هذا المصداق أيضاً.

___________________________

1 ـ وعليه يزول الخلاف بين هاتين المجموعتين من المفسّرين في تفسير عبارة «ويذكر اسم الله» حيث خصّصت أولاها ذكر اسم الله بتقديم الأضاحي، والاُخرى جعلت مفهومه عامّاً، وبهذا يكون التّفسير الأوّل مصداقاً للتفسير الثّاني، ويكون التّفسير الثّاني ذا مفهوم واسع وعام.

2 ـ ورد الحديث السابق عن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) وقد ذكر في بحار الأنوار، المجلّد 99، صفحة 306.

3 ـ بحار الأنوار، المجلّد 99، صفحة 307.

[ 327  ]

3 ـ فلسفة الحجّ وأسراره العميقة!

إنّ لشعائر الحجّ ـ كما هو الحال بالنسبة للعبادات الاُخرى ـ بركات كثيرة جدّاً في نفسيّة الفرد والمجتمع الإسلامي. ويمكنها ـ إن اُجريت وفق اُسلوب صحيح ـ أن تحدث في المجتمعات الإسلامية تبدّلا جديداً كلّ عام.

وتمتاز هذه المناسك بأربعة أبعاد مهمّة:

1 ـ البعد الأخلاقي للحج: أهمّ جانب في فلسفة الحجّ التغيّر الأخلاقي نحو الأحسن الذي يحصل عند الناس، فمراسم الإحرام تبعد الإنسان بشكل تامّ عن الاُمور المادية والإمتيازات الظاهرية والألبسة الفاخرة، ومع تحريم الملذّات، وبناء الذات الذي يعتبر من واجبات المحرم يبتعد الفرد عن عالم المادّة، ويدخل إلى عالم النور والصفاء والتسامي الروحي. وترى الإنسان قد إرتاح فجأةً من عبء الإمتيازات الموهومة، والدرجات والرتب والنياشين.

ثمّ تلي عمليّة الإحرام مراسم الحجّ الاُخرى تباعاً، وفيها تتوطّد علاقة الإنسان الروحيّة مع خالقه ـ لحظة بعد أُخرى ـ وتتوثّق. فينقطع عن ماضيه الأسود المملوء آثاماً وذنوباً، ويتّصل بمستقبل واضح كلّه نور وصفاء. خاصّةً أنّ مراسم الحجّ تثير في الإنسان إهتماماً كبيراً ـ في كلّ خطوة يخطوها ـ بإبراهيم (عليه السلام)محطّم الأصنام، وإسماعيل (عليه السلام) ذبيح الله. واُمّه هاجر(عليها السلام). ويتجلّى للحجّاج جهادهم وتضحياتهم، إضافةً إلى كون أرض مكّة عامّة، والمسجد الحرام وبيت الكعبة ومحلّ الطواف حولها خاصّة، تذكّر الحاجّ بالرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وقادة الإسلام العظام وجهاد المسلمين في صدر الإسلام، فيتعمّق أثر هذه الثورة الأخلاقية بدرجة يشاهد فيها الحاج في كلّ زاوية من زوايا المسجد الحرام وأرض مكّة المقدّسة وجه النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعلي (عليه السلام)، وسائر قادة المسلمين، ويسمع قعقعة سيوفهم وصهيل خيولهم.

أجل، إنّ هذه الاُمور كلّها تتّحد وتتضامن لتمهّد لثورة أخلاقية في القلوب

[ 328  ]

المستعدّة. وبشكل لا يمكن وصفه تفتح في حياة الفرد صفحة جديدة. ولهذا نصّت الأحاديث الإسلامية على أنّ الذي يؤدّي الحجّ تامّاً صحيحاً «يخرج من ذنوبه كهيئته يوم ولدته اُمّه»(1)!

فالحجّ ولادة ثانية للمسلم. يستهلّ بها حياة إنسانية جديدة، ولا حاجة هناك لإعادة القول بأنّ هذه البركات وتأثيرها وما نشير إليه بعد هذا ليست نصيب من إقتنع من مكاسب الحجّ بقشرته ورمي اللب جانباً. كما أنّها ليست نصيب من يعتبر الحجّ سياحة للتنفيس عن الخاطر، أو للتظاهر والرياء، أو طريقاً للحصول على متاع شخصي دنيوي، وهو في الحقيقة لم يتوصّل إلى معنى الحج الحقيقي، فكان نصيبه ما يستحقّه!

2 ـ البعد السياسي للحجّ

ذكر أحد كبار فقهاء المسلمين أنّ مراسم الحجّ في الوقت الذي تستبطن أخلص وأعمق العبادات، هي أكثر الوسائل أثراً في التقدّم نحو الأهداف السياسيّة الإسلامية. فجوهر العبادة التوجّه إلى الله، وجوهر السياسة التوجّه إلى خلق الله، وهذان الأمران إمتزجا في الحجّ بدرجة أصبحا كنسيج واحد.

إنّ الحجّ عامل مؤثّر في وحدة صفوف المسلمين.

الحجّ عامل مهمّ في مكافحة التعصّب القومي والعنصري والتقوقع في حدود جغرافية.

والحجّ وسيلة لتحطيم الرقابة التي تفرضها الأنظمة الظالمة، وتدمير هذه الأنظمة المتسلّطة على رقاب الشعوب الإسلامية.

والحجّ وسيلة لنقل الأنباء السياسية للبلدان الإسلامية من نقطة إلى أُخرى.

___________________________

1 ـ بحار الأنوار، المجلّد 99، الصفحة 26.

[ 329  ]

وأخيراً الحجّ عامل مؤثّر في تحطيم قيود العبودية والإستعمار وتحرير المسلمين.

ولهذا السبب كان موسم الحجّ زمن الجبابرة كبني اُميّة وبني العبّاس الذين كانوا يسيطرون على الأراضي الإسلامية المقدّسة، ويراقبون كلّ تحرّك تحرّري إسلامي ليقمعوه بقوّة، كان الموسم متنفّساً للحرية ولإتّصال فئات المجتمع الإسلامي الكبير بعضها مع بعض، لطرح القضايا السياسيّة المختلفة التي تهمّ كلّ مسلم.

وعلى هذا الأساس قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في معرض حديثه عن فلسفة الفرائض والعبادات «الحجّ تقوية للدّين»(1).

كما أنّ أحد السياسيين الأجانب المشهورين قال: «الويل للمسلمين إن لم يعرفوا معنى الحجّ، والويل لأعدائهم إذا أدرك المسلمون معنى الحجّ»!

وإعتبرت الأحاديث الإسلامية الحجّ جهاد الضعفاء، إذ يمكن للشيوخ والنساء الضعيفات المشاركة في الحجّ ليظهروا عظمة الاُمّة الإسلامية. وليدخلوا الرعب في قلوب أعداء الإسلام بمشاركتهم في صفوف المصلّين المتراصّة في دوائر تحيط ببيت الله الحرام. وهي توحّد الله وتكبّره.

3 ـ البعد الثقافي للحجّ

يمكن أن يؤدّي إلتقاء المسلمين أيّام الحجّ دوراً فعّالا في التبادل الثقافي في المجتمع الإسلامي، خاصّةً إذا لاحظنا أنّ إجتماع الحجّ العظيم يمثّل بشكل حقيقي فئات المسلمين من أنحاء العالم، حيث لا تصنّع في المشاركة في حجّ بيت الله الحرام، فالحجّاج جاؤوا من شتّى المجموعات والعناصر والقوميات، وقد إجتمعوا رغم إختلاف ألسنتهم.

___________________________

1 ـ نهج البلاغة، الكلمات القصار، رقم 252.

[ 330  ]

لهذا ذكرت الأحاديث الإسلامية أنّ من فوائد الحجّ نشر أخبار آثار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في أنحاء العالم الإسلامي. يقول «هشام بن الحكم» أحد أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام) المخلصين نقلا عن هذا الإمام العظيم (عليه السلام) أنّه قال حول فلسفة الحجّ والطواف حول الكعبة: «إنّ الله خلق الخلق ... وأمرهم بما يكون من أمر الطاعة في الدين، ومصلحتهم من أمر دنياهم، فجعل فيه الإجتماع من الشرق والغرب، وليتعارفوا ولينزع كلّ قوم من التجارات من بلد إلى بلد ...، ولتعرف آثار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتعرف أخباره ويذكر لا ينسى»(1).

ولهذا السبب كان المسلمون يجدون في الحجّ متنفّساً من جور الخلفاء والسلاطين الظلمة الذين منعوا المسلمين من نشر هذه الأحكام، لحلّ مشاكلهم بالإجتماع بأئمّة الهدى (عليهم السلام) في المدينة المنوّرة ومكّة المكرّمة، وبكبار علماء المسلمين، لينهلوا من مناهل القرآن النقيّة والسنّة النبويّة الشريفة.

ومن جهة ثانية يمكن أن يكون الحجّ مؤتمراً ثقافياً إسلامياً يحضره مفكّروا العالم الإسلامي في أيّام الحجّ في مكّة المكرّمة، ليتحاوروا فيما بينهم ويعرضوا نظرياتهم وأفكارهم على الآخرين.

وقد أصبحت الحدود بين البلدان الإسلامية ـ الآن ـ سبباً لتشتّت ثقافتهم الأصيلة، وإقتصار تفكير مسلمي كلّ بلد بأنفسهم فقط، حتّى تقطّعت أواصر المجتمع الإسلامي الموحّد. بينما يستطيع الحجّ أن يغيّر هذا الوضع.

وما أجمل ما قاله الإمام الصادق (عليه السلام) في ختام الحديث السابق الذي رواه هشام بن الحكم: «ولو كان كلّ قوم إنّما يتكلّمون على بلادهم وما فيها هلكوا، وخربت البلاد، وسقطت الجلب والأرباح، وعميت الأخبار»(2).

___________________________

1 ـ وسائل الشيعة، المجلّد الثامن، الصفحة 9.

2 ـ المصدر السابق.

[ 331  ]

4 ـ البعد الإقتصادي للحجّ

خلافاً لما يراه البعض، فإنّ مؤتمر الحجّ العظيم يمكن أن يستفاد منه في تقوية أُسس الإقتصاد في البلدان الإسلامية. بل إنّه وفق أحاديث إسلامية معتبرة يشكّل البعد الإقتصادي جزءاً مهمّاً من فلسفة الحجّ.

فما المانع من وضع اُسس سوق مشتركة إسلامية خلال إجتماع الحجّ العظيم، ليوسّع المسلمون مجال التبادل التجاري فيما بينهم بشكل تعود منافعهم إليهم لا إلى أعدائهم. ومن أجل تحرير إقتصادهم من التبعية الأجنبية، وهذا العمل عبادة وجهاد في سبيل الله، ولا يمكن أن يكون حبّاً للدنيا وطمعاً فيها.

ولذا أشار الإمام الصادق (عليه السلام) في الحديث السابق خلال شرحه فلسفة الحجّ، إلى هذا الموضوع بصراحة بإعتبار أنّ أحد أهداف الحجّ، تقوية العلاقات التجارية بين المسلمين.

وجاء في حديث آخر للإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير الآية (198) من سورة البقرة (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربّكم). قال (عليه السلام): «فإذا أحلّ الرجل من إحرامه وقضى فليشتر وليبيع في الموسم»(1).

وكما يبدو فإنّ هذا العمل لا إشكال فيه، بل فيه ثواب وأجر.

وبهذا المعنى جاء في نهاية حديث عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليهما السلام)لبيان فلسفة الحجّ بشكل مسهب: (ليشهدوا منافع لهم)(2) إشارة إلى المنافع المعنوية والماديّة. والأخيرة على رأي بعضهم معنوية أيضاً.

فالحجّ بإختصار عبادة عظيمة لو اُستفيد منها بشكل صحيح في تشكيل مؤتمرات متعدّدة سياسيّة وثقافية وإقتصادية، لحلّ مشاكل العالم الإسلامي، ومفتاحاً لحلّ معضلات المسلمين، وقد يكون هو المراد من حديث الإمام الصادق

___________________________

1 ـ تفسير العياشي، حسبما جاء في تفسير الميزان، المجلّد الثّاني، ص86.

2 ـ بحار الأنوار، ج99، ص32.

[ 332  ]

(عليه السلام) حيث قال: «لا يزال الدين قائماً ما قامت الكعبة»(1).

كما قال الإمام علي (عليه السلام) «الله الله في بيت ربّكم، لا تخلوه ما بقيتم فإنّه إن ترك لم تناظروا»(2) أي لا يمهلكم الله إن تركتم بيت ربّكم خالياً.

ولأهميّة هذا الموضوع الذي خصّص له باب في الأحاديث الإسلامية تحت عنوان «وجوب إجبار الوالي الناس على الحجّ» فإذا أراد المسلمون تعطيل الحجّ في عام من الأعوام، فعلى الحكومات الإسلامية أن ترسلهم بالقوّة إلى مكّة(3).

4 ـ ما هو مصير لحوم الأضاحي في عصرنا؟

يستفاد من الآية السالفة الذكر أنّ الهدف من تقديم الاُضحية، إضافةً إلى الجوانب المعنوية والروحية والتقرّب إلى الله تعالى، يشمل الإستفادة من لحومها ومنح قسم منها إلى الفقراء والمحتاجين.

وتحريم الإسراف في الإسلام ليس خافياً على أحد، فقد أكدّه القرآن والحديث والدليل العقلي. ومن هذا كلّه نستنتج عدم جواز ترك اللحوم على الأرض في «منى» ولا يجوز دفنها، إذ أنّ وجوب تقديم الأضاحي لا يقصد به هذه الأعمال فيجب نقل لحومها إلى مناطق أُخرى بحاجة إليها إن لم نجد محتاجين في «منى» ليستفاد منها على أفضل وجه، وهذا هو مقتضى الجمع بين الأدلّة والبراهين.

ولكنّنا نجد ـ ومع الأسف ـ أنّ الكثير من المسلمين عملوا بالحكم الأوّل، ونسوا العمل بالحكم الثّاني، ولذا نشهد في كلّ عام تلف الآلاف المؤلّفة من لحوم الأضاحي التي بإمكانها أن تكون منبع غذائي مهمّ لشرائح المحرومين في

___________________________

1 ـ وسائل الشيعة، ج8، ص14.

2 ـ نهج البلاغة، الوصيّة، 47.

3 ـ وسائل الشيعة، ج8، ص15.

[ 333  ]

المجتمعات الإسلامية، ولكنّها تترك في تلك الأرض المقدّسة بحالة سلبية ومزعجة جدّاً. وقد تحدّث لحدّ الآن الكثير من المفكّرين وعلماء المسلمين حول هذا الموضوع مع المسؤولين في المملكة العربية السعودية، وحتّى أنّهم تبرّعوا بتكاليف حفظها ونقلها إلى المؤسّسات المختّصة، ولكن جمود وتحجّر رجال الدين الوهّابيين من جهة، وعدم إهتمام المسؤولين في الحكومة السعودية من جهة أُخرى كانت مانعاً لتنفيذ هذا المشروع.

ومع غضّ النظر عن مسألة حرمة الإسراف التي هي من الثوابت في التفكير الإسلامي، فإنّ منظر المذابح يوم عيد الأضحى في الحجّ حالياً بشع وغير منطقي إلى درجة يثير علامات الإستفهام لدى كلّ ضعيف الإيمان حول شعيرة الحجّ بالكامل، ويعطي للأعداء مبرّراً قويّاً للطعن والتقبيح غافلين عن أنّ هذه المسألة هي نتيجة جهل وإهمال رجال الدين الوهّابيين والسلطات السعودية، فعلى هذا، فإنّ عظمة الإسلام وأصالة مناسك الحجّ توجب على المسلمين من جميع مناطق العالم أن يمارسوا الضغط على المسؤولين في تلك الدولة لإنهاء هذه الحالة الموحشة، وتنفيذ الحكم الإسلامي في هذه المسألة.

وإذا وردت أحاديث إسلامية في حرمة إخراج لحوم الأضاحي من أرض «منى» أو من «حرم مكّة» فإنّ ذلك يعود إلى زمن كان فيه في مكّة المكرّمة عدد كاف من المستهلكين والمستحقّين.

ولهذا ورد في حديث صحيح الإسناد عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّ أحد أصحابه سأله عن هذا الموضوع، فأجاب: «كنّا نقول لا يخرج منها بشيء لحاجة الناس إليه، فأمّا اليوم فقد كثر الناس فلا بأس بإخراجه»(1).

* * *

___________________________

1 ـ وسائل الشيعة، المجلّد العاشر، الصفحة 150 (أبواب الذبح الباب 42 الحديث 5).

[ 334  ]

الآيتان

ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ(29) ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَـتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمْ الاَْنْعَـمُ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الاَْوْثَـنِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ(30)

التّفسير

تتابع هذه الآيات البحث السابق عن مناسك الحجّ مشيرةً إلى جانب آخر من هذه المناسك، فتقول أوّلا: (ثمّ ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم) أي ليطّهروا أجسامهم من الأوساخ والتلوّث، ثمّ ليوفوا ما عليهم من نذور. و (ليطّوفوا بالبيت العتيق) أي يطوفوا بذلك البيت الذي صانه الله عن المصائب والكوارث وحرّره.

وكلمة «تفث» تعني ـ كما قال كبار اللغويين والمفسّرين ـ القذارة وما يلتصق بالجسم وزوائده كالأظافر والشعر. ويقول البعض: إنّ أصلها يعني القذارة التي تحت الأظافر وأمثالها(1). ورغم إنكار بعض اللغويين لوجود مثل هذا الإشتقاق

___________________________

1 ـ عن قاموس اللغة، ومفردات الراغب الاصفهاني، وكنز العرفان، وتفسير مجمع البيان، وتفاسير أُخرى.

[ 335  ]

في اللغة العربية، إلاّ أنّ الراغب الاصفهاني نقل كلام بدويّ قاله بحقّ أحد الأشخاص القذرين: «ما أتفثك وأدرنك» دليلا على عربية هذه الكلمة ووجود إشتقاق لها في اللغة العربية.

وقد فسّرت (ليقضوا تفثهم) في الأحاديث الإسلامية بتقليم الأظافر وتطهير البدن ونزع الإحرام. وبتعبير آخر: تشير هذه العبارة إلى برنامج «التقصير» الذي يعدّ من مناسك الحجّ. وجاء في أحاديث إسلامية أُخرى بمعنى حلاقة الرأس التي تعتبر أحد أساليب «التقصير».

كما جاء في «كنز العرفان» حديث رواه ابن عبّاس في تفسير هذه الآية: «القصد إنجاز مشاعر الحجّ كلّها»(1) إلاّ أنّه لا سند لدينا لحديث ابن عبّاس هذا.

والذي يلفت النظر في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه فسّر عبارة (ليقضوا تفثهم) بلقاء الإمام، وعندما سأله الراوي عبدالله بن سنان عن توضيح لهذه المسألة قال: «إنّ للقرآن ظاهراً وباطناً»(2).

وهذا الحديث ربّما كان إشارة إلى ملاحظة تستحقّ الإهتمام. وهي أنّ حجّاج بيت الله الحرام يتطهّرون عقب مناسك الحجّ ليزيلوا الأوساخ عن أبدانهم، فعليهم أن يطهّروا أرواحهم أيضاً بلقاء الإمام (عليه السلام)، خاصّةً وأنّ الخلفاء الجبابرة كانوا يمنعون لقاء المسلمين لإمامهم في الظروف العادية. لهذا تكون أيّام الحجّ خير فرصة للقاء الإمام، وبهذا المعنى نقرأ حديثاً للإمام الباقر (عليه السلام) قال فيه: «تمام الحجّ لقاء الإمام»(3).

وكلاهما ـ في الحقيقة ـ تطهير، أحدهما تطهير لظاهر البدن من القذارة والأوساخ، والآخر تطهير باطني من الجهل والمفاسد الأخلاقية.

___________________________

1 ـ كنز العرفان، المجلّد الأوّل، ص270.

2 ـ نور الثقلين، المجلّد الثّالث، صفحة 492.

3 ـ وسائل الشيعة المجلّد، العاشر، الصفحة 255 (أبواب المزار الباب الثّاني الحديث الثّاني عشر).

[ 336  ]

أمّا «الوفاء بالنذر» فيعني أنّ كثيراً من الناس ينذرون تقديم أضاحي إضافيّة في الحجّ، أو التصدّق بمال، أو القيام بعمل خيري في أيّام الحجّ، ولكنّهم ينسون ويغفلون عن كلّ ذلك عند وصولهم إلى مكّة، لهذا أكّد القرآن عليهم الوفاء بالنذور، وإلاّ يقصّروا في ذلك(1).

أمّا لماذا سمّيت الكعبة بالبيت العتيق؟

«العتيق» مشتقّة من «العتق» أي التحرّر من قيود العبودية، وربّما كان ذلك لأنّ الكعبة تحرّرت من قيود ملكية عباد الله، ولم يكن لها مالك إلاّ الله، كما حرّرت من قيد سيطرة الجبابرة كإبرهة.

ومن معاني «العتيق» أيضاً الشيء الكريم الثمين، وهذا المعنى يتجسّد في الكعبة بوضوح. ومن المعاني الاُخرى للعتيق «القديم» يقول الراغب الاصفهاني: العتيق المتقدّم في الزمان أو المكان أو الرتبة. وهذا المعنى أيضاً واضح بالنسبة للكعبة، فهي أقدم مكان يوحّد فيه الله. وبحسب ما جاء في القرآن (إنّ أوّل بيت وضع للناس)(2)وعلى كلّ حال فلا مانع من إطلاق العتيق على بيت الله بعد ملاحظة ما تتضمنّه هذه الكلمة من معان، أشار كلّ مفسّر إلى جانب منها. أو ذكرت الأحاديث المختلفة جوانب أُخرى من معانيها.

أمّا المراد من «الطواف» الوارد في آخر الآية المذكور أعلاه فهناك بحث بين المفسّرين (هناك طوافان ـ بعد مراسم عيد الأضحى في منى ـ على الحجّاج أن يقوموا بهما، الطواف الأوّل يدعى «طواف الزيارة»، والثّاني «طواف النساء»).

يرى بعض الفقهاء والمفسّرين أنّ مفهوم الطواف عام هنا، لأنّ الآية لم تتضمّن

___________________________

1 ـ إحتمل بعض المفسّرين القصد من النذور القيام بمشاعر الحجّ، إلاّ أنّه بمراجعة حالات إستعمال كلمة النذر في القرآن المجيد، يتّضح لنا أنّه يقصد المعنى المتداول من كلمة النذر، لهذا فإنّ إستخدامها في مناسك الحجّ دون دليل، خلافاً لمعناها الظاهر.

2 ـ آل عمران، 96.

[ 337  ]

قيوداً أو شرطاً ما، فهي تضمّ طواف الحجّ وطواف النساء، حتّى أنّها تشمل طواف العمرة أيضاً(1).

في وقت يرى مفسّرون آخرون أنّ الآية تقصد طواف الزيارة فقط، الذي يجب على الحاج بعد إحلاله من إحرام الحجّ(2).

إلاّ أنّ الأحاديث الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام) تفيد أنّ القصد هنا طواف النساء، ففي حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير (وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق) قال: «طواف النساء»(3).

كما روي عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) حديث بهذا المعنى(4).

وهذا الطواف يسمّى عند أهل السنّة طواف الوداع.

ومع ملاحظة هذه الأحاديث يبدو التّفسير الأخير هو الأقوى، خاصّةً إذا عبّر بهذا المعنى أيضاً في تفسير (ثمّ ليقضوا تفثهم). حيث يجب إضافة إلى تطهير البدن من القذارة والشعر الزائد، إستعمال العطر أيضاً. ومن المعلوم أنّه لا يجوز إستعمال العطور في الحجّ إلاّ بعد إتمام الطواف والسعي، أو عندما لا يكون طواف بذمّة الحاج إلاّ طواف النساء.

وأشارت الآية الأخيرة إلى خلاصة ما بحثته الآيات السالفة الذكر، حيث تبدأ بكلمة «ذلك» التي لها جملة محذوفة تقديرها «كذلك أمر الحجّ والمناسك» ثمّ تضيف تأكيداً لأهميّة الواجبات التي شرحت (ومن يعظّم حرمات الله فهو خير له عند ربّه).

والمقصود هنا بـ «الحرمات» ـ طبعاً ـ أعمال ومناسك الحجّ، ويمكن أن

___________________________

1 ـ كنز العرفان، المجلّد الأوّل، الصفحة 271.

2 ـ مجمع البيان نقلها في تفسير الآية ـ موضع البحث ـ عن بعض المفسّرين لم يذكر أسماءهم.

3 ـ وسائل الشيعة المجلّد التاسع الصفحة 390 أبواب الطواف الباب الثّاني.

4 ـ المصدر السابق.

[ 338  ]

يضاف إليها إحترام الكعبة خاصة والحرم المكّي عامّة. وعلى هذا فإنّ تفسير هذه الآية بإختصاصها بالمحرّمات ـ أي كلّ ما نهى الله عنه ـ أو جميع الواجبات، مخالف لظاهر الآية. كما يجب الإنتباه إلى أنّ «حرمات» جمع «حرمة» وهي في الأصل الشيء الذي يجب أن تحفظ حرمته، وألاّ تنتهك هذه الحرمة أبداً.

ثمّ تشير هذه الآية وتناسباً مع أحكام الإحرام إلى حلّية المواشي، حيث تقول: (واُحلّت لكم الأنعام إلاّ ما يتلى عليكم).

عبارة (إلاّ ما يتلى عليكم) يمكن أن تكون إشارة إلى تحريم الصيد على المحرم الذي شرع في سورة المائدة الآية (95) حيث تقول: (ياأيّها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم).

كما قد تكون إشارة إلى عبارة جاءت في نهاية الآية ـ موضع البحث ـ تخصّ تحريم الاُضحية التي تذبح للأصنام التي كانت متداولة زمن الجاهلية. لأنّ تذكية الحيوان يشترط فيها ذكر اسم الله عليه عند الذبح، ولا يجوز ذكر اسم الصنم أو أي اسم آخر عليه.

وفي ختام هذه الآية ورد أمران يخصّان مراسم الحجّ ومكافحة العادات الجاهلية:

الأوّل يقول: (فاجتنبوا الرجس من الأوثان) و «الأوثان» جمع «وثن» على وكن «كفن» وتعني الأحجار التي كانت تُعبد زمن الجاهلية، وهنا جاءت كلمة الأوثان أيضاحاً لكلمة «رجس» التي ذكرت في الآية، حيث تقول: (اجتنبوا الرجس). ثمّ تليها عبارة (من الأوثان) أي الرجس هو ذاته الأوثان.

كما تجب ملاحظة أنّ عبدة الأوثان زمن الجاهلية كانوا يلطّخونها بدماء الأضاحي، فيحصل مشهد تقشّعر الأبدان من بشاعته، وقد يكون التعبير السابق إشارة إلى هذا المعنى أيضاً.

[ 339  ]

والأمر الثّاني هو (واجتنبوا قول الزور) أي الكلام الباطل الذي لا أساس له من الصحّة.

مسألة: ما معنى (قول الزور)؟

يرى بعض المفسّرين أنّه إشارة إلى كيفيّة تلبية المشركين في مراسم الحجّ في زمن الجاهلية، لأنّهم يلبّون بشكل يتضمّن الشرك بعينه، ويبعدونه من صورته التوحيديّة، فقد كانوا يردّدون: «لبّيك لا شريك لك، إلاّ شريكاً هو لك! تملكه وما ملك!».

حقّاً إنّه كلام باطل ودليل على (قول الزور) الذي يعني في الأصل: الكلام الكاذب، والباطل، والبعيد عن حدود الإعتدال.

ومع هذا فإنّ إهتمام الآية المذكورة بأعمال المشركين في مراسم الحجّ على زمن الجاهلية، لا يمنع من تعميمها على بطلان أيّة عبادة للأصنام بأيّة صورة كانت، وإجتناب أي قول باطل مهما كانت صورته.

ولهذا فسّرت بعض الأحاديث الأوثان بلعبة الشطرنج، وقول الزور بالغناء، والشهادة بالباطل. وفي الحقيقة فإنّ ذلك بيان لبعض أفراد ذلك الكلّي، وليس القصد منه حصر معنى الآية بهذه المصاديق فقط. وجاء في حديث للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في خطبة ألقاها على المسلمين «أيّها الناس، عدلت شهادة الزور بالشرك بالله، ثمّ قرأ (فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور)».

إنّ هذا الحديث أيضاً إشارة إلى سعة مفهوم هذه الآية.

* * *

[ 340  ]

الآيات

حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ الرِّيحُ فِى مَكَان سَحِيق(31) ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَـئِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ(32) لَكُمْ فِيهَا مَنَـفِعُ إِلَى أَجَل مُّسَمّىً ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ(33)

التّفسير

تعظيم شعائر الله دليل على تقوى القلوب:

عقّبت الآيات هنا المسألة التي أكدّها آخِر الآيات السابقة، وهي مسألة التوحيد، وإجتناب أي صنم وعبادة الأوثان. حيث تقول (حنفاء لله غير مشركين به)(1) أي أقيموا مراسم الحجّ والتلبية في حالة تخلصون فيها النيّة لله وحده  لا يخالطها أي شرك أبداً.

«حنفاء» جمع «حنيف» أي الذي إستقام وإبتعد عن الضلال والإنحراف، أو

___________________________

1 ـ «حنفاء» و «غير مشركين»، كلاهما حال لضمير «فاجتنبوا»، و «اجتنبوا» في الآية السابقة.

[ 341  ]

بتعبير آخر: هو الذي سار على الصراط المستقيم، لأنّ «حنف» على وزن «صدف» تعني الرغبة، ومَن رغب عن كلّ إنحراف فقد سار على الصراط المستقيم.

وعلى هذا فإنّ الآية السابقة إعتبرت الإخلاص وقصد القربة إلى الله محرّكاً أساسيّاً في الحجّ والعبادات الاُخرى، حيث ذكرت ذلك بشكل عام، فالإخلاص أصل العبادة. والمراد به الإخلاص الذي لا يخالطه أي نوع من الشرك وعبادة غير الله.

جاء في حديث عن الإمام الباقر (عليه السلام) أجاب فيه مبيّناً معنى كلمة حنيف: «هي الفطرة التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله، قال: فطرهم الله على المعرفة»(1).

إنّ التّفسير الذي تضمنّه هذا الحديث، هو في الواقع إشارة إلى أساس الإخلاص، أي: الفطرة التوحيديّة التي تكون مصدراً لقصد القربة إلى الله، وتحريكاً ذاتياً من الله.

ثمّ ترسم الآية ـ موضع البحث ـ صورة حيّة ناطقة عن حال المشركين وسقوطهم وسوء طالعهم، حيث تقول: (ومن يشرك بالله فكأنّما خرّ من السّماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح من مكان سحيق)(2).

«السّماء» هنا كناية عن التوحيد، و «الشرك» هو السبب في السقوط من السّماء هذه.

ومن الطبيعي أن تكون في هذه السّماء نجوماً زاهرة وشمساً ساطعة وقمراً منيراً فطوبى لمن يكون شمساً أو قمراً أو في الأقل نجماً متلألئاً، ولكن الإنسان عندما يسقط من هذا المكان العالي يبتلى بأحد أمرين: فإمّا يصبح طعماً للطيور الجوارح أثناء سقوطه وقبل وصوله إلى الأرض، وبعبارة أُخرى: يبتلى بفقدانه هذا

___________________________

1 ـ توحيد الصدوق، حسبما نقله تفسير الصافي.

2 ـ «تخطفه» مشتقّة من «الخطف» على وزن فعل، بمعنى الإمساك بالشيء أثناء تحرّكه بسرعة و «سحيق» تعني «البعيد» وتطلق على النخلة العالية كلمة «سحوق».

[ 342  ]

المكان السامي بأهوائه النفسيّة المعاندة. حيث تأكل هذه الأهواء جانباً من وجوده.

وإذا نجا بسلام منها، ابتلي بعاصفة هوجاء تدكّه في إحدى زوايا الأرض بقوّة تفقده سلامته وحياته، ويتناثر بدنه قطعاً صغيرة في أنحاء المعمورة، وهذه العاصفة الهوجاء قد تكون كناية عن الشيطان الذي نصب شراكه للإنسان!

وممّا لا شكّ فيه أنّ الذي يسقط من السّماء يفقد كلّ قدرة على اتّخاذ قرار ما. وتزداد سرعة سقوطه لحظة بعد أُخرى نحو العدم، ويصبح نسياً منسياً.

حقّاً أنّ الذي يفقد قاعدة السّماء التوحيديّة. يفقد القدرة على تقرير مصيره بنفسه. وكلّما سار في هذا الإتّجاه إزداد سرعة نحو الهاوية، وفقد كلّ ما لديه.

ولا نجد تشبيهاً للشرك يُضاهي في هذا التشبيه الرائع.

كما تجب ملاحظة ما تأكّد في هذا الزمان من حالة إنعدام الوزن في السقوط الحرّ. ولهذا تجرى إختبارات على الفضائيين للإستفادة من هذه الحالة ليعدّوا أنفسهم للسفر إلى الفضاء. لأنّ مسألة إنعدام الوزن هي التي تؤدّي بالإنسان إلى إضطرابه بشكل خارق أثناء السقوط الحرّ.

والذي ينتقل من الإيمان إلى الشرك ويفقد قاعدته المطمئنة وأرضه الثابتة تبتلى روحه بمثل حالة إنعدام الوزن، ويسيطر عليه إضطراب خارق للعادة.

وأوجزت الآية التالية مسائل الحجّ وتعظيم شعائر الله ثانية فتقول (ذلك)أي إنّ الموضوع كما قلناه، وتضيف (ومن يعظّم شعائر الله فإنّها من تقوى القلوب).

«الشعائر» جمع «شعيرة» بمعنى العلامة والدليل، وعلى هذا فالشعائر تعني علامات الله وأدلّته، وهي تضمّ عناوين لأحكامه وتعاليمه العامّة، وأوّل ما يلفت النظر في هذه المراسم مناسك الحجّ التي تذكّرنا بالله سبحانه وتعالى.

ومن البديهي كون مناسك الحجّ من الشعائر التي قصدتها هذه الآية. خاصّة

[ 343  ]

مسألة الاُضحية التي إعتبرتها الآية (36) من نفس السورة ـ وبصراحة ـ من شعائر الله، إلاّ أنّ من الواضح مع كلّ هذا إحتفاظ الآية بمفهوم شمولي لجميع الشعائر الإسلامية، ولا دليل على إختصاصها ـ فقط ـ بالأضاحي، أو جميع مناسك الحجّ. خاصّةً أنّ القرآن يستعمل «من» التي يستفاد منها التفريق في مسألة أضحية الحجّ، وهذا دليل على أنّ الاُضحية من شعائر الله كالصفا والمروة التي تؤكّد الآية (158) من سورة البقرة على أنّهما من شعائر الله (إنّ الصفا والمروة من شعائر الله).

ويمكن القول: إنّ شعائر الله تشمل جميع الأعمال الدينيّة التي تذكّر الإنسان بالله سبحانه وتعالى وعظمته، وإنّ إقامة هذه الأعمال دليل على تقوى القلوب.

كما تجب ملاحظة أنّ المراد من عبارة (يعظّم) ليس كما قاله بعض المفسّرين من عظمة جثّة الاُضحية وأمثالها، بل حقيقة التعظيم تعني تسامي مكانة هذه الشعائر في عقول الناس وبواطنهم، وأن يؤدّوا ما تستحقّه هذه الشعائر من تعظيم وإحترام.

كما أنّ العلاقة بين هذا العمل وتقوى القلب واضحة أيضاً، فالتعظيم رغم أنّه من عناوين القصد والنيّة، يحدث كثيراً أن يقوم المنافقون بالتظاهر في تعظيم شعائر الله. إلاّ أنّ ذلك لا قيمة له، لأنّه لا ينبع من تقوى القلوب. إنّما تجده حقيقة لدى أتقياء القلوب. ونعلم أنّ مركز التقوى وجوهر إجتناب المعاصي والشعور بالمسؤولية إزاء التعاليم الإلهيّة في قلب الإنسان وروحه، ومنه ينفذ إلى الجسد. لهذا نقول: إنّ تعظيم الشعائر الإلهيّة من علامات التقوى القلبيّة(1).

وقد جاء في حديث عن الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال وهو يشير إلى صدره

___________________________

1 ـ بما أنّ هناك إرتباطاً بين الشرط والجزاء، وكلاهما يخصّان موضوعاً واحداً، نجد في الآية السالفة الذكر محذوفاً تقديره (ومن يعظّم شعائر الله فإنّ تعظيمها من تقوى القلوب). ويمكن أن يكون الجزاء محذوفاً فتكون عبارة «فإنّها من تقوى القلوب» علّة نابت عن معلول تقديره: «ومن يعظّم شعائر الله فهو خير له فإنّ تعظيمها من تقوى القلوب».

[ 344  ]

المبارك: «التقوى هاهنا»(1).

ويستدلّ من بعض الأحاديث أنّ مجموعة من المسلمين كانوا يعتقدون بعدم جواز الركوب على الاُضحية (الناقة أو ما شابهها) حين جلبها من موطنهم إلى منى للذبح، كما يرون عدم جواز حلبها أو الإستفادة منها بأي شكل كان، ولكن القرآن نفى هذه العقيدة الخرافية حيث قال: (لكم فيها منافع إلى أجل مسمّى).

وجاء في حديث نبوي أنّ الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) مرّ برجل يسوق بدنة وهو في جهد، فقال (عليه السلام): «اركبها» فقال: يارسول الله إنّها هدي. فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) «اركبها ويلك»(2).

كما أكّدت أحاديث عديدة وردتنا عن أهل البيت (عليهم السلام) هذا الموضوع ومنها حديث رواه أبو بصير عن الإمام الصادق (عليه السلام) في قوله عزّوجلّ: (لكم فيها منافع إلى أجل مسمّى) قال: «إن احتاج إلى ظهرها ركبها من غير عنف عليها، وإن كان لها لبن حلبها حلاباً لا ينهكها»(3).

والحقيقة أنّ الحكم أعلاه معتدل وحدّ وسط بين عملين يتّصفان بالإفراط وبعيدين عن المنطق.

فمن جهة كان البعض لا يحتفظ بالأضاحي أبداً حيث يذبحها قبل الوصول إلى «منى» ويستفيد من لحومها. وقد نهى القرآن عن ذلك كما جاء في الآية الثّانية من سورة البقرة (لا تحلّوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد).

ومن جهة أُخرى كان آخرون يفرطون إلى درجة عدم الإستفادة من الانعام بمجرّد تخصيصها للاُضحية، فلا يحلبونها ولا يركبون عليها إن كانت ممّا يركب وإن بعدت المسافة بين موطنهم ومكّة، وقد أجازت الآية موضع البحث ذلك.

___________________________

1 ـ تفسير القرطبي، المجلّد السابع، الصفحة 448.

2 ـ التّفسير الكبير للفخر الرازي، المجلّد الثّالث والعشرين، الصفحة 33.

3 ـ نور الثقلين، المجلّد الرّابع، الصفحة 497.

[ 345  ]

والنقد الوحيد الذي يمكن أن يوجّه إلى التّفسير السالف الذكر، هو أنّ الآيات السابقة، لم تتطرّق إلى الأضاحي، فكيف يعود ضمير الآية اللاحقة إليها؟

ولكن مع ملاحظة كون حيوان الأضاحي من مصاديق «شعائر الله» التي اُشير إليها في الآية السابقة، وسيأتي ذكرها أيضاً بعد هذا، يتّضح بذلك الجواب عن هذا الإستفسار(1).

وعلى كلّ حال تذكر الآية في ختامها نهاية مسار الاُضحية: (ثمّ محلّها إلى البيت العتيق).

وعلى هذا يمكن الإستفادة من الانعام المخصّصة للاُضحية ما دامت في الطريق إلى موضع الذبح، وبعد الوصول يجرى ما يلزم. وبالطبع فإنّ المفسّرين يقولون بأنّ الذبح يجب أن يتمّ في منى إن كانت الاُضحية تخصّ الحجّ. أمّا إذا كانت لعمرة مفردة ففي أرض مكّة. وبما أنّ الآيات المذكورة تبحث في مراسم الحجّ، فيجب أن يكون للبيت العتيق (الكعبة) مفهوم واسع ليشمل بذلك أطراف مكّة (أي منى) أيضاً.

* * *

___________________________

1 ـ ما ذكر أعلاه هو تفسير واضح للآية موضع البحث، وهنا نذكر تفسيرين آخرين:

الأوّل: إنّ ضمير «فيها» يعود إلى المناسك الحجّ جميعاً، وهنا يكون تفسيرها «لكم منافع في جميع مناسك الحجّ حتّى الزمن المحدّد بإنتهاء الحجّ أو نهاية العالم، ومن ثمّ تقع آخر مراسم الحجّ حيث يخلع الحاج إحرامه ويصبح مجاوراً للكعبة ليؤدّي طوافي الحجّ والنساء» وبهذا تكون هذه الآية شبيهة بالآية التي فسّرناها سابقاً (ليشهدوا منافع لهم).
والتّفسير الثّاني: أن يعود ضمير «فيها» إلى الشعائر الإلهيّة كلّها، إضافة إلى التعاليم الإسلامية العظيمة، وعندها يكون معنى الآية «لكم جزاء جميل ومنافع كبيرة في مجموع التعاليم الإسلامية والشعائر الإلهيّة حتّى نهاية العالم، ومن ثمّ يجزيكم خالق البيت العتيق». إلاّ أنّ التّفسير الذي ذكرناه في متن الكتاب أكثر ملاءمة وأقرب معنى إلى سائر الآيات القرآنية والأحاديث الإسلامية وأكثر إنسجاماً معها.

[ 346  ]

الآيتان

وَلِكُلِّ أُمَّة جَعَلْنَا مَنسَكاً لِّيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الاَْنْعَـمِ فَإِلَـهُكُمْ إِلَـهٌ وَحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الُْمخْبِتِينَ(34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّـبِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِى الصَّلَـوةِ وَمِمَّا رَزَقْنَـهُمْ يُنفِقُونَ(35)

التّفسير

بشّر المخبتين:

يمكن أن يتساءل الناس عن الآيات السابقة. ومنها التعليمات الواردة بخصوص الاُضحية، كيف شرّع الإسلام تقديم القرابين لكسب رضى الله؟ وهل الله سبحانه بحاجة إلى قربان؟ وهل كان ذلك متّبعاً في الأديان الاُخرى، أو يخصّ المشركين وحدهم؟

تقول أوّل آية ـ من الآيات موضع البحث ـ لإيضاح هذا الموضوع أنّ هذا الأمر لا يختصّ بكم، بل إنّ كلّ اُمّة لها قرابين: (ولكلّ اُمّة جعلنا منسكاً ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام).

[ 347  ]

يقول الراغب الاصفهاني في مفرداته: «النُسك» يعني العبادة، والناسك هو العابد، ومناسك الحجّ تعني المواقف التي تؤدّى فيها هذه العبادة، أو إنّها عبارة عن الأعمال نفسها.

إلاّ أنّ العلاّمة الطبرسي يقول في «مجمع البيان» وأبو الفتوح الرازي في «روح الجنان»: «المنسك» (على وزن منصب) يمكن أن يعني ـ على وجه التخصيص ـ الاُضحية، بين عبادات الحجّ الاُخرى(1).

ولهذا خصّ المنسك ـ رغم مفهومه العام وشموله أنواع العبادات في مراسم الحجّ ـ هنا بتقديم الاُضحية بدلالة (ليذكروا اسم الله).

وعلى كلّ حال فإنّ مسألة الاُضحية كانت دوماً مثار سؤال، لإمتزاج التعبّد بها بخرافات المشركين الذين يتقرّبون بها إلى أوثانهم على نهج خاصّ بهم.

ذبح حيوان باسم الله ولكسب رضاه يبيّن إستعداد الإنسان للتضحية بنفسه في سبيل الله، والإستفادة من لحم الاُضحية وتوزيعه على الفقراء أمر منطقي.

ولذا يذكر القرآن في نهاية هذه الآية (فإلهكم إله واحد) وبما أنّه إله واحد (فله أسلموا) وبشّر الذين يتواضعون لأحكامه الربّانية و (بشّر المخبتين)(2).

ثمّ يوضّح القرآن المجيد في الآية التالية صفات المخبتين (المتواضعين) وهي أربع: إثنتان منها ذات طابع معنوي، وإثنتان ذات طابع جسماني.

يقول في الأوّل: (الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم) لا يخافون في غضبه دون سبب ولا يشكّون في رحمته، بل إنّ خوفهم ناتج عن عظمة المسؤوليات التي بذمّتهم، وإحتمال تقصيرهم في أدائها، وليقينهم بجلال الله سبحانه يقفون بين يديه

___________________________

1 ـ ولهذا السبب يقال: نسكت الشاة، أي ذبحتها.

2 ـ «المخبتين» مشتقّة من «الإخبات» وأصلها «خبت» وهي الأرض المستوية الواسعة التي يمشي الإنسان فيها بكلّ سهولة. كما جاءت بمعنى الإطمئنان والخضوع، لأنّ السير في هذه الأرض يلازمه الإطمئنان، ولهذا تكون خاضعة مستسلمة للسائرين عليها.

[ 348  ]

بكلّ خشوع(1).

والثّاني: (والصابرين على ما أصابهم) فهؤلاء يصبرون على ما يكابدونه في حياتهم من مصائب وآلام، ولا يرضخون للمصائب مهما عظمت وإزداد بلاؤها، ويحافظون على إتّزانهم ولا يفرّون من ساحة الإمتحان، ولا يصابون باليأس والخيبة، ولا يكفرون بأنعم الله أبداً. وبإيجاز نقول: يستقيمون وينتصرون.

والثّالث والرابع: (والمقيمي الصلاة وممّا رزقناهم ينفقون) فمن جهة توطّدت علاقتهم ببارىء الخلق وإزدادوا تقرباً إليه، ومن جهة أُخرى إشتدّ إرتباطهم بالخلق بالإنفاق.

وبهذا يتّضح جليّاً أنّ الإخبات والتسليم والتواضع التي هي من صفات المؤمنين ليست ذات طابع باطني فقط، بل تظهر وتبرز في جميع أعمال المؤمنين.

* * *

___________________________

1 ـ بحثنا في تفسير الآية الثّانية من سورة الأنفال بإسهاب دوافع الخوف من الله.

[ 349  ]

الآيات

وَالْبُدْنَ جَعَلْنَـهَا لَكُم مِّن شَعَـئِرِ اللهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَـهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(36) لَن يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا وَلَـكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الُْمحْسِنِينَ(37) إِنَّ اللهَ يَدَفِعُ عَنِ الّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّ اللهَ  لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّان كَفُور(38)

التّفسير

لماذا الاُضحية؟

عاد الحديث عن مراسم الحجّ وشعائره الإلهيّة والاُضحية ثانية، ليقول أوّلا: (والبُدن جعلناها لكم من شعائر الله) إنّ «البُدن» وهي الإبل البدينة تعلّقت بكم من جهة، ومن جهة أُخرى هي من شعائر الله وعلائمه في هذه العبادة العظيمة. فالاُضحية في الحجّ من المظاهر الجليّة لهذه العبادة التي أشرنا إلى فلسفتها من

[ 350  ]

قبل.

«البدن» على وزن «القدس» جمع لـ«البُدنة» على وزن «عجلة» وهي الناقة الكبيرة والسمينة. وقد أكّدها لأنّها تناسب إقامة وليمة لإطعام الفقراء والمحتاجين في مراسم الاُضحية، ومن المعلوم أنّ سمن الحيوان ليس من الشروط الإلزامية في الاُضحية. وكلّ ما يلزم هو أن لا يكون ضعيفاً.

ثمّ تضيف الآية: (لكم فيها خير) فمن جهة تستفيدون من لحومها وتطعمون الآخرين، ومن جهة أُخرى تستفيدون من آثارها المعنوية بإيثاركم وسماحكم وعبادتكم الله، وبهذا تتقرّبون إليه سبحانه وتعالى.

ثمّ تبيّن الآية ـ بعبارة موجزة ـ كيفية ذبح الحيوان (فاذكروا اسم الله عليها صواف) أي اذكروا اسم اللّه حين ذبح الحيوان وفي حالة وقوفه مع نظائره في صفوف.

وليس لذكر الله حين ذبح الحيوان أو نحر الناقة صيغة خاصّة. بل يكفي ذكر اسم من أسماء الله عليها، كما يبدو من ظاهر الآية، إلاّ أنّ بعض الرّوايات ذكرت صيغة محدّدة، وهي في الواقع من أعمال الإنسان الكامل، حيث روي عن ابن عبّاس أنّه قال: الله أكبر، لا إله إلاّ الله والله أكبر، اللهم منك ولك(1).

إلاّ أنّه ورد في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) عبارات أكثر وضوحاً فبعد شراء الاُضحية توجّهها إلى القبلة وتقول حين الذبح: «وجّهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين، إنّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله ربّ العالمين لا شريك له وبذلك اُمرت وأنا من المسلمين، اللهمّ منك ولك بسم الله وبالله والله أكبر، اللهمّ تقبّل منّي»(2).

كلمة «صوافّ» جمع «صافّة» بمعنى الحيوان الواقف في صفّ. وكما ورد في

___________________________

1 ـ مجمع البيان في تفسير ختام الآية، وروح المعاني في تفسير هذه الآية بإختلاف يسير.

2 ـ وسائل الشيعة، المجلّد العاشر، صفحة 138 ـ أبواب الذبح الباب (37).

[ 351  ]

الأحاديث فإنّ القصد من ذلك عقل رجلي الناقة الأماميتين معاً حين وقوفها من أجل منعها من الحركة الواسعة حين النحر. وطبيعي أنّ أرجل الناقة تضعف حين تنزف مقداراً من الدم، فتتمدّد على الأرض، ويقول القرآن المجيد هنا (فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر) أي عندما تستقر ويهدأ جانبها (كناية عن لفظ الأنفاس الأخيرة). فكلوا منها وأطعموا الفقير القانع والسائل المعتر.

الفرق بين «القانع» و «المعتر» هو أنّ القانع يطلق على من يقنع بما يُعطى وتبدو عليه علائم الرضى والإرتياح ولا يعترض أو يغضب، أمّا المعترّ فهو الفقير السائل الذي يطالبك بالمعونة ولا يقنع بما تعطيه، بل يحتجّ أيضاً.

كلمة «القانع» فمشتقّة من «القناعة»، و «المعترّ» مشتقّة من «عرّ» على وزن (شرّ) وهي في الأصل تعني الجرب، وهو مرض عارض تظهر علاماته على جلد الإنسان. ثمّ اُطلقت كلمة «المعترّ» على السائل الذي يطلب العون ولكن بلسان معترض. وتقديم القانع على المعترّ إشارة إلى ضرورة الإهتمام أكثر بالمحرومين المتّصفين بالعفّة وعزّة النفس.

وينبغي الإلتفات إلى أنّ عبارة (كلوا منها) توجب أن يأكل الحجّاج من أضاحيهم، ولعلّها ترمي إلى مراعاة المساواة بين الحجّاج والفقراء.

وتنتهي الآية بالقول: (كذلك سخّرناها لكم لعلّكم تشكرون). وإنّه لمن العجب أن يستسلم حيوان عظيم الجثّة هائل القوّة لطفل يعقل يديه معاً ثمّ ينحره. (وطريقة النحر تتمّ بطعنة سكّين حادّة في لبّة الناقة، لتنزف دمها، وليلفظ هذا الحيوان أنفاسه بسرعة).

ولإيضاح أهميّة تسلّط الإنسان على الحيوان في الذبح، فإنّ الله جلّ وعلا يسلب أحياناً طاعة هذا الحيوان وإنقياده للإنسان، حيث نشاهد هياج البعير وتبدلّه إلى موجود خطر لا يستطيع كبح جماحة عدّة رجال أقوياء بعد ما كان

[ 352  ]

مسخّر حتّى لصبي صغير!!

وهناك ثمّة أسئلة، وهي: ما هي حاجة الله تعالى للاُضحية؟

وما هي فلسفة الاُضحية؟

وهل لهذا العمل فائدة تعود إلى الله سبحانه؟

تجيب الآية التالية عن هذه الأسئلة (لن ينال الله لحومها ولا دماؤها). إنّ الله ليس بحاجة إلى لحوم الأضاحي، فما هو بجسم، ولا هو بحاجة إلى شيء، وإنّما هو موجد كلّ وجود وموجود. إنّ الغاية من الاُضحية كما تقول الآية: (ولكن يناله التقوى منكم) فالهدف هو أن يجتاز المسلمون مراحل التقوى ليبلغوا الكمال ويتقرّبوا إلى الله.

إنّ جميع العبادات دروس في التربية الإسلامية، فتقديم الاُضحية ـ مثلا ـ فيه درس الإيثار والتضحية والسماح والإستعداد للشهادة في سبيل الله، وفيه درس مساعدة الفقراء والمحتاجين. وعبارة (لن ينال الله لحومها ولا دماؤها) مع أنّ دماءها غير قابلة للإستفادة، ربّما تشير إلى الأعمال القبيحة التي كان يمارسها أعراب الجاهلية، الذين كانوا يلطّخون أصنامهم وأحياناً على الكعبة بدماء هذه القرابين.

وقد اتّبعهم في ممارسة هذا العمل الخرافي مسلمون جاهلون، حتّى نهتهم هذه الآية المباركة(1) وممّا يؤسف له وجود هذه العادات الجاهلية في بعض المناطق حيث يرشّون دماء الاُضحية على باب وجدران منزلهم الجديد، حتّى أنّهم يمارسون هذا العمل القبيح الخرافي في المساجد الجديدة العمران أيضاً. ولذا يجب على المسلمين الواعين الوقوف بقوّة ضدّ هذا العمل.

___________________________

1 ـ كنز العرفان، المجلّد الأوّل، صفحة 314.

[ 353  ]

ثمّ تشير الآية ثانيةً إلى نعمة تسخير الحيوان قائلة: (كذلك سخّرها لكم لتكبّروا الله على ما هداكم).

إنّ الهدف الأخير هو التعرّف على عظمة الخالق جلّ وعلا الذي هداكم بمنهجه التشريعي والتكويني إلى تعلّم مناسك الحجّ والتعاليم الخاصّة بطاعته والتعبّد له، هذا من جهة.

ومن جهة أُخرى جعل هذه الحيوانات الضخمة القويّة طيّعة لكم تقدّمونها أضاحي إستجابةً لله تعالى، وتعملون عملا طيّباً يُساعد المحتاجين، وتستفيدون من لحومها في تأمين حياتكم. لهذا تقول الآية في الختام: (وبشّر المحسنين)اُولئك الذين استفادوا من هذه النعم الإلهيّة في طاعة الله، وأنجزوا واجباتهم على خير وجه، ولم يقصّروا في الإنفاق في سبيل الله أبداً. وفاعلوا الخير هؤلاء لم يحسنوا للآخرين فقط، بل شمل إحسانهم أنفسهم على أفضل وجه أيضاً.

وقد تؤدّي مقاومة خرافات المشركين التي أشارت إليها الآيات السابقة إلى إثارة غضب المتعصّبين المعاندين، ووقوع إشتباكات محدودة أو واسعة، لهذا طمأن الله سبحانه وتعالى المؤمنين بنصره (إنّ الله يدافع عن الذين آمنوا).

لتتّحد قبائل عرب الجاهلية مع اليهود والنصارى والمشركين في شبه الجزيرة العربية للضغط على المؤمنين كما يحلو لهم، فلن يتمكّنوا من بلوغ ما يطمحون إليه، لأنّ الله وعد المؤمنين بالدفاع عنهم وعداً تجلّى صدقه في دوام الإسلام حتّى يوم القيامة، ولا يختّص الدفاع الإلهي عن المؤمنين في الصدر الأوّل للإسلام وحسب، بل هو ساري المفعول أبد الدهر، فإن كنّا على نهج الذين آمنوا. فالدفاع الإلهي عنّا أكيد. ومن ذا الذي لا يلتمس دفاع الله سبحانه عن عباده الصالحين؟

وفي الختام توضّح هذه الآية موقف المشركين وأتباعهم بين يدي الله بهذه

[ 354  ]

العبارة الصريحة (إنّ الله لا يحبّ كلّ خوّان كفور) اُولئك الذين أشركوا بالله حتّى أنّهم ذكروا أسماء أوثانهم عن التلبية. فثبتت عليهم الخيانة والكفر لأنعم الله حيث يسمّون أوثانهم عند تقديم الأضاحي، ولا يذكرون اسم الله عليها، فكيف يحبّ الله قوماً كهؤلاء الخونة الكفرة؟!

* * *

[ 355  ]

الآيات

أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَـتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ(39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَـرِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْض لَّهُدِّمَتْ صَوَمِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَتٌ وَمَسَـجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ(40) الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّـهُمْ فِى الاَْرْضِ أَقَامُوا الصَّلَوةَ وَءَاتَوُا الزَّكَوةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَـقِبَةُ الاُْمُورِ(41)

التّفسير

أوّل حكم بالجهاد:

ذكرت روايات أنّ المسلمين عندما كانوا في مكّة، كانوا يتعرّضون كثيراً لأذى المشركين، فجاء المسلمون إلى رسول الله ما بين مشجوج ومضروب يشكون إليه ما يُعانون من قهر وأذىً، فكان صلوات الله عليه وآله يقول لهم: «اصبروا فانّي لم اُؤمر بالقتال» حتّى هاجر، فأنزل الله عليه هذه الآية بالمدينة،

[ 356  ]

وهي أوّل آية نزلت في القتال(1).

هناك إختلاف بين المفسّرين في كونها أوّل آية نزلت بالجهاد، فهناك مَن يؤيّد ذلك، وهناك من يرى أنّ أوّل آية نزلت في الجهاد هي آية (قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ..)(2) وعدّ البعض آية (إنّ الله إشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم ..)(3) هي الأُولى(4).

إلاّ أنّ اُسلوب الآية يناسب هذا الموضوع بشكل أفضل لأنّ تعبير «إذن» جاء بصراحة واضحة فيها، ولم يرد في الآيتين الاُخريين، وبتعبير آخر: إنّ الإذن بالجهاد منحصر في هذه الآية.

ولمّا وعد الله المؤمنين بالدفاع عنهم في الآية السابقة يتّضح جيداً الإرتباط بين هذه الآيات .. تقول الآية: إنّ الله تعالى أذن لمن يتعرّض لقتال الأعداء وعدوانهم بالجهاد، وذلك بسبب أنّهم ظلموا: (أُذن للذين يقاتلون بأنّهم ظلموا) ثمّ أردفت بنصرة الله القادر للمؤمنين (وإنّ الله على نصرهم لقدير).

إنّ وعد الله بالنصر جاء مقروناً بـ «قدرة الله». وهذا قد يكون إشارة إلى القدرة الإلهيّة التي تنجد الناس حينما ينهضون بأنفسهم للدفاع عن الإسلام، لا أن يجلسوا في بيوتهم بأمل مساعدة الله تعالى لهم، أو بتعبير آخر: عليكم بالجدّ والعمل بكلّ ما تستطيعون من قدرة، وعندما تستحقّون النصر بإخلاصكم ينجدكم الله وينصركم على أعدائه، وهذا ما حدث للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في جميع حروبه التي كانت تتكلّل بالنصر.

ثمّ توضّح هذه الآيات للمظلومين ـ الذين أذن لهم بالدفاع عن

___________________________

1 ـ تفسير مجمع البيان، وتفسير الفخر الرازي للآية موضع البحث.

2 ـ البقرة، 190.

3 ـ التوبة، 111.

4 ـ الميزان، المجلّد الرّابع عشر، صفحة 419.

[ 357  ]

 أنفسهم ـ بواعث هذا الدفاع، ومنطق الإسلام في هذا القسم من الجهاد فتقول: (الذين اُخرجوا من ديارهم بغير حقّ) وذنبهم الوحيد أنّهم موحّدون: (إلاّ أن يقولوا ربّنا الله).

ومن البديهي أنّ توحيد الله موضع فخر للمرء وليس ذنباً يبيح للمشركين إخراج المسلمين من بيوتهم وإجبارهم على الهجرة من مكّة إلى المدينة، وتعبير الآية جاء لطيفاً ـ يُجلّي إدانة الخصم، فنحن على سبيل المثال نقول لناكر الجميل: لقد أذنبنا عندما خدمناك، وهذه كناية عن جهل المخاطب الذي يجازي الخير شرّاً(1).

ثمّ تستعرض الآية واحداً من جوانب فلسفة تشريع الجهاد فتقول: (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدّمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً).

أي إنّ الله إن لم يدافع عن المؤمنين، ويدفع بعض الناس ببعضهم عن طريق الإذن بالجهاد، لهدّمت أديرة وصوامع ومعابد اليهود والنصارى والمساجد التي يذكر فيها اسم الله كثيراً.

ولو تكاسل المؤمنون وغضّوا الطرف عن فساد الطواغيت والمستكبرين ومنحوهم الطاعة، لما أبقى هؤلاء أثراً لمراكز عبادة الله، لأنّهم سيجدون الساحة خالية من العوائق، فيعملون على تخريب المعابد، لأنّها تبثّ الوعي في الناس، وتعبّىء طاقتهم في مجابهة الظلم والكفر. وكلّ دعوة لعبادة الله وتوحيده مضادّة للجبابرة الذين يريدون أن يعبدهم الناس تشبّهاً منهم بالله تعالى، لهذا يهدّمون أماكن توحيد الله وعبادته، وهذا من أهداف تشريع الجهاد والإذن بمقاتلة الأعداء.

___________________________

1 ـ وبهذا يتّضح أنّ الإستثناء في الآية المذكورة متّصل غاية الأمر إنّه كنائي مع ذكر فرد ادّعائي. (فتأمّل).

[ 358  ]

وقد أورد المفسّرون معاني متفاوتة لـ «الصوامع» و «البيع» و «الصلوات» و «المساجد» والفرق بينها، وما يبدو صحيحاً منها هو أنّ:

«الصوامع» جمع «صومعة» وهي عادةً مكان خارج المدينة بعيد عن أعين الناس مخصّص لمن ترك الدنيا من الزهّاد والعبّاد. (ويجب ملاحظة أنّ «الصومعة» في الأصل تعني البناء المربّع المسقوف، ويبدو أنّها تطلق على المآذن المربّعة القواعد المخصّصة للرهبان.

و «البِيع» جمع بيعة بمعنى معبد النصارى، ويطلق عليها كنيسة أيضاً.

و «الصلوات» جمع صلاة، بمعنى معبد اليهود، ويرى البعض أنّها معرّبة لكلمة «صلوتا» العبرية، التي تعني المكان المخصّص بالصلاة.

وأمّا «المساجد» فجمع مسجد، وهو موضع عبادة المسلمين.

والصوامع والبيع رغم أنّها تخصّ النصارى، إلاّ أنّ إحداهما معبد عامّ والاُخرى لمن ترك الدنيا، ويرى البعض أنّ «البيع» لفظ مشترك يطلق على معابد اليهود والمسيحيين.

وعبارة (يذكر فيها اسم الله كثيراً) وصف خاص بمساجد المسلمين حسب الظاهر، لأنّها أكثر إزدحاماً من جميع مراكز العبادة الاُخرى في العالم، حيث تجرى فيها الصلوات الخمس في أيّام السنة كلّها، في وقت نجد فيه المعابد الاُخرى لا تفتح أبوابها للمصلّين إلاّ في يوم واحد من الاسبوع، أو أيّام معدودات في السنة.

وفي الختام أكّدت هذه الآية ثانية وعد الله بالنصر (ولينصرنّ الله من ينصره)ولا شكّ في إنجاز هذا الوعد، لأنّه من ربّ العزّة القائل: (إنّ الله لقوي عزيز). من أجل ألاّ يتصوّر المدافعون عن خطّ التوحيد أنّهم وحيدون في ساحة قتال الحقّ للباطل، ومواجهة جموع كثيرة من الأعداء الأقوياء.

وبنور من هذا الوعد الإلهي إنتصر المدافعون عن سبيل الله على أعدائهم في

[ 359  ]

معارك ضارية خاضوها بضآلة عدد وعدّة، ذلك النصر الذي لا يمكن أن يقع إلاّ بإمداد إلهي.

وآخر آية تفسّر المراد من أنصار الله الذين وعدهم بنصره في الآية السابقة، وتقول: (الذين إن مكّناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر).

إنّهم فئة لا تلهو ولا تلعب كالجبابرة بعد إنتصارها، ولا يأخذها الكبر والغرور، إنّما ترى النصر سلّماً لإرتقاء الفرد والجماعة. إنّها لن تتحوّل إلى طاغوت جديد بعد وصولها إلى السلطة، لإرتباطها القويّ بالله، والصلاة رمز هذا الإرتباط بالخالق، والزكاة رمز للإلتحام مع الخلق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعامتان قويتان لبناء مجتمع سليم. وهذه الصفات الأربع تكفي لتعريف هؤلاء الأفراد، ففي ظلّها تتمّ ممارسة سائر العبادات والأعمال الصالحة، وترسم بذلك خصائص المجتمع المؤمن المتطور(1).

كلمة «مكّنا» مشتقة من «التمكين» الذي يعني إعداد الأجهزة والمعدّات الخاصّة بالعمل، من عدد وآلات ضرورية وعلم ووعي كاف وقدرة جسمية وذهنية.

وتطلق كلمة «المعروف» على الأعمال الجيدة والحقّة، و «المنكر» يعني العمل القبيح، لأنّ الكلمة الأُولى تطلق على الأعمال المعروفة بالفطرة، والكلمة الثّانية على الأعمال المجهولة والمنكرة. أو بتعبير آخر: الأُولى تعني الإنسجام مع الفطرة الإنسانية، والثّانية تعني عدم الإنسجام.

وتقول الآية في ختامها (ولله عاقبة الاُمور) وتعني أنّ بداية أي قدرة ونصر من الله تعالى، وتعود كلّها في الأخير إليه ثانية (إنّا لله وإنّا إليه راجعون).

* * *

___________________________

1 ـ تناولنا أهميّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومسائل هذين الواجبين الإسلاميين، والجواب عن إستفسارات في هذا المجال ببحث مسهب في تفسير الآية (104) من سورة آل عمران.

[ 360  ]

بحوث

1 ـ فلسفة تشريع الجهاد

رغم أنّنا بحثنا مسألة الجهاد بحثاً واسعاً(1) قبل هذا، إلاّ أنّه مع ملاحظة إحتمال أن تكون الآيات ـ موضع البحث ـ أُولى الآيات التي أجازت للمسلمين الجهاد، وإحتوت إشارة إلى فلسفة هذا الحكم، وجدنا ضرورة تناولها بإيجاز.

وقد أشارت هذه الآيات إلى أمرين مهمّين في فلسفة الجهاد:

أوّلهما: جهاد المظلوم للظالم، وهو من حقوقه المؤكّدة والطبيعيّة، التي يؤكّدها عقل الإنسان وفطرته. وليس له أن يستسلم للظلم، بل عليه أن ينهض ويصرخ ويتسلّح ليقطع دابر الظالم ويدفعه.

وثانيهما: جهاد الطواغيت الذين ينوون محو ذكر الله من القلوب بتهديم المعابد التي هي مراكز لبثّ الوعي وإيقاظ الناس، فيجب مناهضة هؤلاء لمنعهم من محو ذكر الله بتخديرهم، ثمّ جعلهم عبيداً لها.

وممّا يلفت النظر أنّ تخريب المعابد والمساجد لا يعني تخريبها مادّياً فقط، بل قد يكون بأساليب غير مباشرة كثيرة، كإشاعة برامج التسلية والترفيه المقصودة، وبثّ الدعايات المسمومة، والإعلام المضادّ لحرف الناس عن المساجد، فتحوّل أماكن العبادة إلى خرائب مهجورة.

وفي هذا جواب لمن يسأل: لماذا اُجيز للمسلمين إستخدام القوّة وخوض الحرب لتحقيق أهدافهم؟ ولماذا لا يتمّ تحقيق الأهداف الإسلامية باللجوء إلى التعقّل والمنطق؟

وهل يفيد المنطق ذلك الظالم الذي يهجّر المسلمين من ديارهم لا لذنب إقترفوه سوى إعتقادهم بتوحيد الله. فتراه يستولي على منازلهم وأموالهم،

___________________________

1 ـ تناولنا فلسفة الجهاد بالبحث في تفسير الآية 193 من سورة البقرة.

[ 361  ]

 ولا يلتزم بأي قانون ومنطق تجاههم؟!

فهل يمكن ردع هؤلاء المجانين بغير لغة السلاح والقوّة؟!

وهذا ينطبق على من يقول لنا: لماذا لا تساومون الكيان الصهيوني وتفاوضونه؟

الكيان الصهيوني الذي إنتهك جميع القوانين الدولية وقرارات المنظمات الدولية التي أقرّتها شعوب العالم، وسحق ويسحق جميع القوانين البشرية والتعاليم السماوية، هل يعترف بالمنطق؟!

الكيان الصهيوني الذي قصف المدارس والمستشفيات بالقنابل المحرقة، فقتل آلاف الأطفال والنساء والشيوخ الآمنين الأبرياء وجعلهم إرباً إرباً! كيف يخاطب بالمنطق؟

وهكذا الأمر بالنسبة للذين يرون في المعبد والمسجد الذي يبثّ الوعي بين الناس ويقود حركة الجماهير، منافساً لمصالحه غير المشروعة؟! ويعملون بما لديهم من قوّة لهدمه! فهل يمكن التفاوض سلميّاً معهم؟! وإذا نظرنا إلى المجتمع الإنساني نظرة واقعية ووضعنا القضايا الفكرية جانباً، فلا نجد مفرّاً من اللجوء إلى القوّة والسلاح؟!

وليس هذا عجزاً في منطقنا، بل لعدم إستعداد الجبابرة لقبول المنطق السليم، ومتى وجدنا المنطق فاعلا لجأنا إليه.

2 ـ من هم الذين وعدهم الله بالنصر؟

إنّه لمن الخطأ الإعتقاد بأنّ نصر الله المؤمنين ووعدهم بالدفاع عنهم ـ الذي جاء في الآيات السابقة ومن آيات قرآنية أُخرى ـ بعيد عن سنّة الله في خلقه وقوانين الحياة!

ليس الأمر هكذا، فالله يعدّ بنصرة الذين يعبئون جميع طاقاتهم ليدخلوا

[ 362  ]

ميدان القتال بكلّ قوّة، ولهذا نطالع في الآيات السالفة: (لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض). فلا يدفع الله الظالمين بإمداداته الغيبيّة وبقدرة الصواعق والزلازل التي يبعثها إلاّ في حالات إستثنائية، إنّما يدفع شرّهم عن المؤمنين بمن يدافع عنهم، أي المؤمنين الحقيقيين.

وعليه فلا يعني الوعد الإلهي بالنصر رفع المسؤولية والتكاسل والتواكل بالإعتماد على ما وعد الله للمؤمنين، بل يجب التحرّك الواسع لضمان النصر الإلهي وتهيئة مستلزماته.

والجدير بالذكر أنّ هذه المجموعة من المؤمنين لا يتوجّهون إلى الله قبل النصر فقط، بل بعد النصر أيضاً، فهم (الذين إن مكّناهم في الأرض أقاموا  الصلاة ...) يوطّدون علاقتهم مع الله. والنصر لديهم وسيلة لنشر الحقّ والعدل ومكارم الأخلاق.

وخصّصت بعض الرّوايات الآية السابقة بالمهدي (عجّل الله فرجه) وأصحابه أو بآل محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) بشكل عامّ، فقد جاء في حديث عن الإمام الباقر (عليه السلام) حين تفسير الآية (الذين إن مكّناهم في الأرض ...) قال: إنّ هذه الآية (الذين إن ...)نزلت في آل محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) والمهدي (عج) وأصحابه «يملّكهم الله مشارق الأرض ومغاربها، ويظهر الدين ويميت الله به وبأصحابه البدع والباطل، كما أمات الشقاة الحقّ، حتّى لا يرى أين الظلم، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر»(1).

وقد وردت أحاديث أُخرى في هذا المجال، وهي عبارة عن مصاديق بارزة للآية ولا تمنع عموم الآية، لا يمكنها منع، فمفهوم الآية الواسع يشمل جميع المؤمنين والمجاهدين في سبيل الله.

___________________________

1 ـ تفسير علي بن إبراهيم (حسبما نقله تفسير نور الثقلين، المجلّد الثّالث، ص506).

[ 363  ]

3 ـ «المحسنين»، «المخبتين»، «أنصار الله»

وتأمر الآيات المذكورة أعلاه والتي قبلها أحياناً بتبشير «المحسنين»، ثمّ تعرفّهم أنّهم من المؤمنين، وليسوا من الخونة الكفّار ..

وأحياناً أُخرى تتكلّم حول «المخبتين» (المتواضعين) وتصفهم بأنّهم خشّع في الصلاة، صابرون على المصائب منفقون ممّا وهبهم الله.

وتعدّد هذه الآيات كذلك ميزات «أنصار الله» الذين لا يطغون عند إنتصارهم، بل يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.

وخلاصة هذه الآيات تكشف لنا أنّ المؤمنين الصادقين لهم جميع هذه الخصائص، فهم من جهة أقوياء في عقيدتهم والتزامهم المسؤولية، ومن جهة ثانية برهنوا على أنّهم أقوياء ومستقيمون في علاقتهم مع الخالق والخلق وفي مكافحة الفساد.

* * *




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21337835

  • التاريخ : 29/03/2024 - 06:24

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net