00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة النحل من آية 101 ـ آخر السورة من ( ص 325 ـ 374 )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء الثامن)   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

[325]

الآيات

وَإِذا بَدَّلْنَا ءَايَةً مَّكَانَ ءَايَة وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَر بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ(101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ(102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِى يُلْحِدُونَ إِلَيهِ أَعْجَمِىٌّ وَهَـذا لِسَانٌ عَرَبِىٌّ مُّبِينٌ(103) إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِأَيـتِ اللَّهِ لاَيَهْدِيِهمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(104) إِنَّمَا يَفْتَرِى الكَذِبَ الَّذِينَ لاَيؤْمِنُونَ بِأَيـتِ اللَّهِ وَأُولـَئِكَ هُمُ الْكـذِبُونَ(105)

سبب النّزول

يقول ابن عباس: (كانوا يقولون: يسخر محمّد بأصحابه، يأمرهم اليوم بأمر وغداً يأمرهم بأمر، وإِنّه لكاذب، يأتيهم بما يقول من عند نفسه).

التّفسير

الإِفتراء!

تحدثت الآيات السابقة أُسلوب الإِستفادة من القرآن الكريم، وتتناول

[326]

الآيات مورد البحث جوانب أُخرى من المسائل المرتبطة بالقرآن، وتبتدىء ببعض الشبهات التي كانت عالقة في أذهان المشركين حول الآيات القرآنية المباركة، فتقول: (وإِذا بدّلنا آية مكان آية واللّه أعلم بما ينزّل) فهذا التغيير والتبديل يخضع لحكمة اللّه، فهو أعلم بما ينزل، وكيف ينزل، ولكن المشركين لجهلهم (قالوا إِنّما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون).

وحقيقة الأمر أنّ المشركين لم يتوصلوا بعد لإِدراك وظيفة القرآن وما يحمل من رسالة، ولم يدخل في تصوراتهم وأذهانهم أنّ القرآن في صدد بناء مجتمع إِنساني جديد يسوده التطور والتقدم والحرية والمعنوية العالية...نعم، فأكثرهم لا يعلمون.

فبديهي والحال هذه أنْ يطرأ على وصفة الدواء الإِلهي لنجاة هؤلاء المرضى التغيير والتبديل تدرجاً مع ما يعيشونه، فما يعطون اليوم يكمله الغد.. وهكذا حتى تتمّ الوصفة الشاملة.

فغفلة المشركين عن هذه الحقائق وابتعادهم عن ظروف نزول القرآن، دفعهم للإِعتقاد بأنّ أقوال النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) تحمل بين ثناياها التناقض أو الإِفتراء على اللّه عزَّوجلّ! وإِلاّ لعلموا أنّ النسخ في الأحكام جزء من أوامر وآيات القرآن المنظمة على شكل برنامج تربوي دقيق لا يمكن الوصول للهدف النهائي لنيل التكامل إِلاّ به.

فالنسخ في أحكام مجتمع يعيش حالة إِنتقالية بين مرحلتين يعتبر من الضروريات العملية والواقعية، فالتحول والإِنتقال بالناس من مرحلة إِلى أُخرى لا يتم دفعة واحدة، بل ينبغي أنّ يمر بمراحل إِنتقالية دقيقة.

أيمكن معالجة مريض مزمن في يوم واحد؟

أو شفاء رجل مدمن على المخدرات لسنوات عديدة في يوم واحد؟ أوَ ليس التدرج في المعالجة من أسلم الأساليب؟

[327]

وبعد الإِجابة على هذه الأسئلة لا يبقى لنا إِلاّ أنْ نقول: ليس النسخ سوى برنامج مؤقت في مراحل إِنتقالية.

(لقد بحثنا موضوع النسخ في تفسير الآية (36) من سورة البقرة ـ فراجع).

وتستمر الآية التالية بنفس الموضوع، وللتأكيد عليه تأمر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنْ: (قل نزّله روح القدس من ربك بالحق).

«روح القدس» أو (الرّوح المقدسة) هو أمين الوحي الإِلهي «جبرائيل الأمين»، وبواسطته كانت الآيات القرآنية تتنزَّل بأمر اللّه تعالى على النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) سواء الناسخ منها أو المنسوخ.

فكل الآيات حق، وهدفها واحد يتركز في توجيه الإِنسان ضمن التربية الرّبانية له، وظروف وتركيبة الإِنسان استلزمت وجود الأحكام الناسخة والمنسوخة في العملية التربوية.

ولهذا، جاء في تكملة الآية المباركة: (ليثّبت الذين آمنوا وهدىً وبشرى للمسلمين).

يقول صاحب تقسير الميزان: إِنّ تعريف الآثار بتخصيص التثبيت بالمؤمنين والهدى والبشرى للمسلمين إِنّما هو لما بين الإِيمان والإِسلام من الفرق، فالإِيمان للقلب ونصيبه التثبيت في العلم والإِذعان، والإِسلام في ظاهر العمل ومرحلة الجوارح ونصيبها الإِهتداء إِلى واجب العمل والبشرى بأنّ الغاية هي الجنّة والسعادة.

وعلى أيّةِ حال، فلأجل تقوية الروح الإِيمانية والسير في طريق الهدى والبشرى لابدّ من برامج قصيرة الأمد ومؤقتة، وبالتدريج يحل البرنامج النهائي الثابت محلها، وهو سبب وجود الناسخ والمنسوخ في الآيات الإِلهية.

وبعد أنْ فنّد القرآن شبهات المشركين يتطرق لذكر شبهة أُخرى، أو على الأصح لذكر إِفتراء آخر لمخالفي نبي الرحمة(صلى الله عليه وآله وسلم) فيقول: (ولقد نعلم أنّهم

[328]

يقولون إِنّما يعلمه بشر).

إختلف المفسّرون في ذكر اسم الشخص الذي إدّعى المشركون أنّه كان يعلّم النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)...

فعن ابن عباس: أنّه رجل يدعى (بلعام) كان يصنع السيوف في مكّة: وهو من أصل رومي وكان نصرانياً.

واعتبره بعضهم: غلاماً رومياً لدى بني حضرم واسمه (يعيش) أو (عائش) وقد أسلم وأصبح من أصحاب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم).

وقال آخرون: إنّ معلّمه غلامين نصرانيين أحدهما اسمه (يسار) والآخر (جبر) وكان لهما كتاب بلغتهما يقرءانه بين مدّة وأُخرى بصوت عال.

واحتمل بعضهم: أنّه (سلمان الفارسي)، في حين أن سلمان الفارسي التحق بالنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في المدينة وأسلم على يديه هناك، وأنّ هذه التهم التي أطلقها المشركون كانت في مكّة، أضف إِلى ذلك كون القسم الأعظم من سورة النحل مكي وليس مدنياً.

وعلى أيّة حال، فالقرآن أجابهم بقوة وأبطل كل ما كانوا يفترون، بقوله: (لسان الذي يلحدون(1) إِليه أعجمي(2) وهذا لسان عربي مبين).

فإِنْ كان مقصودهم في تهمتهم وافترائهم أنّ مُعَلِّمَ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لألفاظ القرآن هو شخص أجنبي لا يفقه من العربية وبلاغتها شيئاً فهذا في منتهى السفة، إِذ كيف يمكن لفاقد ملكة البيان العربي أن يعلِّم هذه البلاغة والفصاحة التي عجز أمامها أصحاب اللغة أنفسهم، حتى أنّ القرآن تحداهم بإِتيان سورة من مثله فما

_____________________________

1 ـ يلحدون: من الإِلحاد بمعنى الإِنحراف عن الحق إِلى الباطل، وقد يطلق على أيِّ انحراف، والمراد هنا: إِنّ الكاذبين يريدون نسبة القرآن إِلى إِنسان ويدعون بأنّه معلم النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)!

2 ـ الإِعجام و العجمة لغةً: بمعنى الإِبهام، ويطلق الأعجمي على الذي في بيانه لحن (نقص) سواء كان من العرب أو من غيرهم، وباعتبر أنّ العرب ما كانوا يفهمون لغة غيرهم فقد استعملوا اسم (العجم) على غير العرب.

[329]

استطاعوا، ناهيك عن عدد الآيات؟!

وإِنْ كانوا يقصدون أنّ المحتوى القرآني هو من معلّم أجنبي.. فردّ ذلك أهون من الأوّل وأيسر، إذ أن المحتوى القرآني قد صُبَّ في قالب كل عباراته وألفاظه من القوة بحيث خضع لبلاغته وإِعجازه جميع فطاحل فصحاء العرب، وهذا ما يرشدنا لكون الواضع يملك من القدرة على البيان ما تعلو وقدرة وملكة أيِّ إِنسان، وليس لذلك أهلا سوى اللّه عزَّوجلّ وسبحانه عمّا يشركون.

وبنظرة تأمّلية فاحصة نجد في محتوى القرآن أنّه يمتلك المنطق الفلسفي العميق في إِثبات عقائده، وكذا الحال بالنسبة لتعاليمه الأخلاقية في تربية روح الإِنسان وقوانينه الإِجتماعية المتكاملة، وأنّ كلّ ما في القرآن هو فرق طاقة المستوى الفكري البشري حقّاً.. ويبدو لنا أن مطلقي الإِفتراءات المذكورة هم أنفسهم لا يعتقدون بما يقولون، ولكنّها شيطنة ووسوسة يدخلونها في نفوس البسطاء من الناس ليس إِلاّ.

والحقيقة أنّ المشركين لم يجدوا من بينهم مَنْ ينسبون إِليه القرآن، ولهذا حاولوا اختلاق شخص مجهول لا يعرف الناس عنه شئياً ونسبوا إِليه القرآن، عسى بفعلهم هذا أن يتمكنوا من استغفال أكبر قدر ممكن من البسطاء.

أضف إِلى ذلك كله أن تاريخ حياة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لا يسجل له اتصالات دائمة مع هذه النوعيات من البشر، وإِن كان (على سبيل الفرض) صاحب القرآن موجوداً ألا يستلزم ذلك اتصال النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) به وباستمرار؟ إِنّهم حاولوا التشبث لا أكثر، وكما قيل: (الغريق يتشبَّث بكل حشيش).

إِنّ نزول القرآن في البيئة الجاهلية وتفوقه الإِعجازي أمر واضح، ولم يتوقف تفوقه حتى في عصرنا الحاضر حيث التقدم الذي حصل في مختلف مجالات التمدّن الإِنساني، والتأليفات المتعمقة التي عكست مدى قوّة الفكر البشري المعاصر.

[330]

نعم، فمع كل ما وصلت إِليه البشرية من قوانين وأنظمة ما زال القرآن هو المتفوق وسيبقى.

وذكر سيد قطب في تفسيره: أنّ جمعاً من الماديين في روسيا عندما أرادوا الإِنتقاص من القرآن في مؤتمر المستشرقين المنعقد في سنة (1954 م) قالوا: إِنّ هذا الكتاب لا يمكن أنْ ينتج من ذهن إِنسان واحد «محمّد» بل يجب أنْ يكون حاصل سعي جمع كثير من الناس بما لا يصدق كونهم جميعاً من جزيرة العرب، وإِنّما يقطع باشتراك جمع منهم من خارج الجزيرة(1).

ولقد كانوا يبحثون ـ وفقاً لمنطقهم الإِلحادي ـ عن تفسير مادي لهذا الأمر من جهة، وما كانوا يعقلون أن القرآن نتاج إِشراقة عقلية لإِنسان يعيش في شبه الجزيرة العربية من جهة أُخرى، ممّا اضطرَّهم لأنْ يطرحوا تفسيراً مضحكاً وهو: إِشتراك جمع كثير من الناس ـ في تأليف القرآن ـ من داخل شبه الجزيرة العربية وخارجها!! على أنَّ التاريخ ينفي ما ذهبوا إِليه جملة وتفصيلا.

وعلى أيّة حال، فالآية المباركة دليل الإِعجاز القرآني من حيث اللفظ والمضمون، فحلاوة القرآن وبلاغته وجاذبيته والتناسق الخاص في ألفاظه وعباراته ما يفوق قدرة أيّ إِنسان. (قد كان لنا بحث مفصل في الإِعجاز القرآني تناولناه في تفسير الآية (23) من سورة البقرة ـ فراجع).

وبلهجة المهدد المتوعّد يبيّن القرآن الكريم أنّ حقيقة هذه الإِتهامات والإِنحرافات ناشئة من عدم انطباع الإِيمان في نفوس هؤلاء، فيقول: (إِنّ الذين لا يؤمنون بآيات اللّه لا يهديهم اللّه ولهم عذاب أليم).

لأنّهم غير لائقين للهداية ولا يناسبهم إِلاّ العذاب الإِلهي، لما باتوا عليه من التعصب والعناد والعداء للحق.

_____________________________

1 ـ في ضلال القرآن، ج 5، ص 282.

[331]

وفي آخر الآية يقول: إنّ الأشخاص الذين يتّهمون أولياء اللّه هم الكفار: (إِنّما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات اللّه وأُولئك هم الكاذبون)، فهم الكاذبون وليس أنت يا محّمد، لأنهم مع ما جاءهم من آيات بينات وأدلة قاطعة واضحة ولكنّهم يستمرون في إِطلاق الإِفتراءات والأكاذيب.

فأيّة أكاذيب أكبر من تلك التي تطلق على رجال الحق لتحول بينهم وبين المتعطشين للحقائق!

* * *

بحوث

1 ـ قبح الكذب في المنظور الإِسلامي

الآية الأخيرة بحثت مسألة قبح الكذب بشكل عنيف، وقد جعلت الكاذبين بدرجة الكافرين والمنكرين للآيات الإِلهية.

ومع أنّ موضوع الآية هو الكذب والإِفتراء على اللّه والنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، إِلاّ أنّ الآية تناولت قبح الكذب بصورة إِجمالية.

ولأهمية هذا الموضوع فقد أعطت التعاليم الإِسلامية إِفاضات خاصّة لمسألة الصدق والنهي عن الكذب، وإِليكم نماذج مختصرة ومفهرسة لجوانب الموضوع:

الصدق والأمانة من علائم الإيمان وكمال الإِنسان، حتى أنّ دلالتهما على الإِيمان أرقى من دلالة الصلاة.

وروي عن الإِمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال: «لا تنظروا إِلى طول ركوع الرجل وسجوده، فإِنّ ذلك شيء قد اعتاده ولو تركه استوحش لذلك، ولكنْ انظروا إِلى صدق حديثه وأداء أمانته»(1).

_____________________________

1 ـ سفينة البحار، مادة (صدق)، نقلا عن الكافي.

[332]

فذكر الصدق مع الأمانة لاشتراكهما في جذر واحد، وما الصدق إِلاّ الأمانة في الحديث، وما الأمانة إِلاّ الصدق في العمل.

2 ـ الكذب منشأ جميع الذنوب:

وقد اعتبرت الأحاديث الشريفة الكذب مفتاح الذنوب..

فعن علي(عليه السلام) أنّه قال: «الصدق يهدي إِلى البِر والبر يهدي إلى الجنّة»(1).

وعن الباقر(عليه السلام) أنّه قال: «إِنّ اللّه عزَّ وجلّ جعل للبشر أقفالا، وجعل مفاتيح تلك الأقفال الشراب، والكذب شر من الشراب»(2).

وعن الإمام العسكري(عليه السلام) أنّه قال: «جعلت الخبائث كلها في بيت وجعل مفتاحها الكذب»(3).

فالعلاقة بين الكذب وبقية الذنوب تتلخص في كون الكاذب لا يتمكن من الصدق، لأنّه سيكون موجباً لفضحه، فتراه يتوسَّل بالكذب عادةً لتغطية آثار ذنوبه.

وبعبارة أُخرى: إِنّ الكذب يطلق العنان للإِنسان للوقوع في الذنوب، والصدق يحدّه.

وقد جسد النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) هذه الحقيقة بكل وضوح عندما جاءه رجل وقال له: يا رسول اللّه، إِنّي لا أُصلي وأرتكب القبائح وأكذب، فأيّها أترك أوّلاً؟.

فقال له رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم): «الكذب»، فتعهد الرجل للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنْ لا يكذب أبداً.

فلمّا خرج عرضت له نيّة منكر فقال في نفسه: إِنْ سألني رسول اللّه غداً عن أمري، ماذا أقول له! فإِنْ أنكرت كان كاذباً، وإِنْ صدقت جرى عليّ الحد. وهكذا

_____________________________

1 ـ مشكاة الأنوار للطبرسي، ص 157.

2 ـ أصول الكافي، ج 2، ص 254.

3 ـ جامع السعادات، ج 2، ص 233.

[333]

ترك الكذب في جميع أفعاله القبيحة حتى تورَّع عنها جميعاً.

ولذا..فترك الكذب طريق لترك الذنوب.

3 ـ الكذب منشأ للنفاق:

لأنّ الصدق يعني تطابق اللسان مع القلب، في حين أن الكذب يعني عدم تطابق اللسان مع القلب، وما النفاق إِلاّ الإِختلاف بين الظاهر والباطن.

والآية (77) من سورة التوبّة تبيّن لنا ذلك بوضوح: (فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إِلى يوم يلقونه بما أخلفوا اللّه ما وعدوه وبما كانوا يكذبون).

4 ـ لا انسجام بين الكذب والإِيمان:

وإِضافة إِلى الآية المباركة فثمة أحاديث كثيرة تعكس لنا هذه الحقيقة الجليّة...

فقد روي أنّ رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) سُئل: يكون المؤمن جباناً؟ قال: «نعم»، قيل: ويكون بخيلا؟ قال: «نعم»، قيل: يكون كذّاباً؟ قال: «لا»(1).

ذلك لأنّ الكذب من علائم النفاق، وهو لا يتفق مع الإِيمان.

وبهذا المعنى نقل عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنّه أشار لهذا المعنى واستدل عليه بالآية مورد البحث.

5 ـ الكذب يرفع الإِطمئنان:

إِنّ وجود الثقة والإِطمئنان المتبادل من أهم ما يربط الناس فيما بينهم، والكذب من الأُمور المؤثرة في تفكيك هذه الرابطة لما يشيعه من خيانة وتقلب،

_____________________________

1 ـ جامع السعادات، ج 2، ص 322.

[334]

ولذلك كان تأكيد الإِسلام على أهمية الإِلتزام بالصدق وترك الكذب.

ومن خلال الأحاديث الشريفة نلمس بكل جلاء نهي الأئمّة(عليهم السلام) عن مصاحبة مجموعة معينة من الناس، منهم الكذّابون لعدم الثقة بهم.

فعن علي(عليه السلام) أنّه قال: «إِيّاك ومصادقة الكذّاب، فإِنّه كالسراب يقرّب عليك البعيد ويبعد عليك القريب»(1).

والحديث عن قبح الكذب وفلسفته، والأسباب الداعية إِليه من الناحية النفسية، وطرق مكافحته، كل ذلك يحتاج إِلى تفصيل طويل لا يمكن لبحثنا استيعابه، ولمزيد من الإِطلاع راجع كتب الأخلاق(2).

* * *

_____________________________

1 ـ نهج البلاغة، الكمات القصار، رقم 37.

2 ـ راجع كتابنا (الحياة على ضوء الأخلاق).

[335]

الآيات

مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمـنِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمـنِ وَلـكِنَ مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(106) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَوةَ الدُّنْيَا عَلَى الأَْخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لاَيَهْدِى الْقَومَ الْكَـفِرِينَ(107) أُولَـئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصـرِهِمْ وَأُلَـئِكَ هُمُ الْغـفِلُونَ(108) لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِى الأَْخِرَةِ هُمُ الْخـسِرُونَ(109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِن بَعْدِ مَافُتِنُوا ثمّ جـهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ(110) يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نِفْس تُجـدِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْس مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ(111)

سبب النّزول

ذكر بعض المفسّرون في شأن نزول الآية الأُولى من هذه الآيات أنّها: نزلت في جماعة أُكرهوا ـ وهو: عمار وأبوه ياسر وأُمّة سمية وصهيب وبلال وخبّاب ـ عُذِّبُوا وقُتِل أبو عمار وأَمّه وأعطاهم عمار بلسانه ما أرادوا منه، ثمّ أخبر سبحانه

[336]

بذلك رسوله(صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال قوم: كفر عمّار. فقال(صلى الله عليه وآله وسلم) كلا: «إِنّ عماراً مليء إِيماناً من قرنه إِلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه دمه».. وجاء عمّار إِلى رسول اللّه وهو يبكي، فقال النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): «ما وراءك»؟ فقال: شرّ يا رسول اللّه، ما تُركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير، فجعل رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) يمسح عينيه ويقول: «إِنْ عادوا لك فعد لهم بما قلت»، فنزلت الآية.

التّفسير

المرتدون عن الإِسلام:

تكمل هذه الآيات ما شرعت به الآيات السابقة من الحديث عن المشركين والكفار وما كانوا يقومون به، فتتناول الآيات فئة أُخرى من الكفرة وهم المرتدون.

حيث تقول الآية الأُولى: (مَنْ كفر بالله من بعد إِيمانه إِلاّ مَنْ أُكره وقلبه مطمئن بالإِيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من اللّه، ولهم عذاب عظيم).

وتشير الآية إِلى نوعين من الذين كفروا بعد إِيمانهم:

النوع الأوّل: هم الذين يقعون في قبضة العدو الغاشم ويتحملون أذاه وتعذيبه، ولكنّهم لا يصبرون تحت ضغط ما يلاقوة من أعداء الإِسلام، فيعلنون براءتهم من الإِسلام وولاءهم للكفر، على أنّ ما يعلنوه لا يتعدى حركة اللسان، وأمّا قلوبهم فتبقى ممتلئة بالإِيمان.

فهذا النوع يكون مشمولا بالعفو الإِلهي بلا ريب، بل لم يصدر منهم ذنب، لأنّهم قد مارسوا التقية التي أحلها الإِسلام لحفظ النفس وحفظ الطاقات للإِستفادة منها في طريق خدمة دين اللّه عزَّوجلّ.

النوع الثّاني: هم الذين يفتحون للكفر أبواب قلوبهم حقيقةً، ويغيّرون

[337]

مسيرتهم ويتخلّون عن إِيمانهم، فهؤلاء يشملهم غضب اللّه عزَّ وجلّ وعذابه العظيم.

ويمكن أن يكون «غضب اللّه» إِشارة إِلى حرمانهم من الرحمة الإِلهية والهداية في الحياة الدنيا، و«العذاب العظيم» إِشارة إِلى عقابهم في الحياة الأُخرى.. وعلى أيَّةِ حال، فما جاء في الآية من وعيد للمرتدين هو في غاية الشدة .

وتتطرق الآية التالية إِلى أسباب ارتداد هؤلاء، فتقول: (ذلك بأنّهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن اللّه لا يهدي القوم الكافرين) الذين يصرّون على كفرهم وعنادهم.

وخلاصة المقال: حين أسلم هؤلاء تضررت مصالحهم المادية وتعرضت للخطر المؤقت، فندموا على إِسلامهم لشدّة حبّهم لدنياهم، وعادوا خاسئين إِلى كفرهم.

وبديهي أن من لا يرغب في الإِيمان ولا يسمح له بالدخول إِلى أعماق نفسه، لا تشمله الهداية الإِلهية، لأنّ الهداية تحتاج إِلى مقدمات كالسعي للحصول على رضوانه سبحانه والجهاد في سبيله، وهذا مصداق لقوله عزَّوجلّ في آخر سورة العنكبوت: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا).

وتأتي الآية الأُخرى لتبيّن سبب عدم هدايتهم، فتقول: (أُولئك الذين طبع اللّه على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم) بحيث أنّهم حُرموا من نعمة الرؤية والسمع وادراك الحقائق: (وأُولئك هم الغافلون).

وكما قلنا سابقاً فإِنّ ارتكاب الذنوب وفعل القبائح يترك أثره السلبي على إدراك الإِنسان للحقائق وعلى عقله ورؤيته السليمة، وتدريجياً يسلب منه سلامة الفكر، وكلما ازداد في غيه كلّما اشتدت حجب الغفلة على قلبه وسمعه وبصره، حتى يؤول به المآل إِلى أن يصبح ذا عين ولكنْ لا يرى بها، وذا أُذن وكأنّه لا يسمع

[338]

بها، وتغلق أبواب روحه من تقبّل أيّة حقيقة، فيخسر الحس التشخيصي والقدرة على التمييز، والتي تعتبر من النعم الإِلهي العالية.

«الطبع» هنا: بمعنى «الختم»، وهو إِشارة إِلى حالة الإِحكام المطلق، فلو أراد شخص مثلا أنْ يغلق صندوقاً معيناً بشكل محكم كي لا تصل إِليه الأيدي فإِنّه يقوم بربطه بالحبال وغيرها، ومن ثمّ يقوم بوضع ختم من الشمع على باب الصندوق للإِطمئنان من عبث العابثين.

ثمّ تعرض الآية التالية عاقبة أمرهم، فتقول: (لا جَرَمَ أنّهم في الآخرة هم الخاسرون).

وهل هناك من هو أتعس حالا من هذا الإِنسان الذي خسر جميع طاقاته وامكاناته لنيل السعادة الدائمة بإتباعه هوى النفس.

وبعد ذكر الفئتين السابقتين، أي الذين يتلفظون بكلمات الكفر وقلوبهم ملأى بالإِيمان، والذين ينقلبون إِلى الكفر مرّة أُخرى بكامل اختيارهم ورغبتهم، فبعد ذلك تتطرق الآية التالية إِلى فئة ثالثة وهم البسطاء المخدوعون في دينهم، فتقول: (ثمّ إِنّ ربّك للذين هاجروا من بعد ما فُتنوا ثمّ جاهدوا وصبروا إِنّ ربّك من بعدها لغفور رحيم)(1).

فالآية دليل واضح على قبول توبة المرتد، ولكنّ الآية تشير إِلى مَن كان مشركاً في البداية ثم أسلم، فعليه يكون المقصود به هو (المرتد الملّي) وليس (المرتد الفطري)(2).

وتأتي الآية الأخيرة لتقدم تذكيراً عاماً بقولها: (يوم تأتي كلّ نفس تجادل عن

_____________________________

1 ـ ضمير «بعدها» ـ وكما يقول كثير من المفسّرين ـ يعود إِلى «الفتنة»، في حين ذهب البعض من المفسّرين إِلى أنّه يعود إِلى الهجرة والجهاد والصبر المذكورة سابقاً.

2 ـ المرتد الفطري: هو الذي يولد من أبوين مسلمين ثمّ يرتد عن الإِسلام بعد قبوله إِياه، والمرتد الملّي: يطلق على مَن انعقدت نطفته من أبوين غير مسلمين ثمّ قبل الإِسلام، وارتَّد عنه بعد ذلك.

[339]

نفسها)(1) لتنقذها من العقاب والعذاب.

فالمذنبون أحياناً ينكرون ما ارتكبوه من ذنوب إِنكاراً تاماً فراراً من الجزاء والعقاب، والآية (23) من سورة الأنعام تنقل لنا قولهم: (واللّه ربّنا ما كّنا مشركين)، وعندما لا يلمسون أيّة فائدة لإِنكارهم يتجهون بإِلقاء اللوم على أئمتهم وقادتهم، ويقولون: (ربّنا هؤلاء أضلّونا فأْتهم عذاباً ضعفاً من النّار)(2).

ولكنْ.. لا فائدة من كل ذلك.. (وتوفّى كلُّ نفس ما عملت وهم لا يُظْلَمُون).

* * *

بحثان

1 ـ التقية وفلسفتها:

إِمتاز المسلمون الأوائل الذين تربّوا على يد النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بروح مُقاومة عظيمة أمام أعدائهم، وسجل لنا التأريخ صوراً فريدة للصمود والتحدي، وها هو «ياسر» لم يلن ولم يدخل حتى الغبطة الكاذبة على شفاه الأعداء، وما تلفظ حتى بعبارة خالية من أيّ أثر على قلبه ممّا يطمح الأعداء أن يسمعوها منه، مع أنّ قلبه مملوءاً ولاءً وإِيماناً بالله تعالى وحبّاً وإِخلاصاً للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وصبر على حاله رغم مرارتها فنال شرف الشهادة، ورحلت روحه الطاهرة إِلى بارئها صابرة محتسبة تشكو إليه ظلم وجور أعداء دين اللّه.

وها هو ولدة «عمّار» الذي خرجت منه كلمةً بين صفير الأسواط وشدّة الآلام تنم عن حالة الضعف ظاهراً، وبالرغم من اطمئنانه بإِيمانه وتصديقه لنبيّه(صلى الله عليه وآله وسلم)، إِلاّ

_____________________________

1 ـ اختلاف القول بخصوص متعلق «يوم» جار بين المفسّرين..فبعضهم يذهب إِلى أنّه متعلق بفاعل مستتر والتقدير هو «ذكرهم يوم القيامة»، واعتبره آخرون متعلقاً بفعل الغفران والرحمة المأخوذان من (الغفور الرحيم) في الآية السابقة، (ولكنّنا نرجح التّفسير الإِحتمال الأوّل لشموله).

2 ـ الأعراف، 38.

[340]

أنّه اغتمّ كثيراً وارتعدت فرائصه حتى طمأنه النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بحلِّيّة ما فعل به حفظاً للنفس، فهدأ.

ويطالعنا تأريخ (بلال) عندما اعتنق الإِسلام راح يدعو له ويدافع عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، فشدَّ عليه المشركون حتى أنّهم طرحوه أرضاً تحت لهيب الشمس الحارقة، وما اكتفوا بذلك حتى وضعوا صخرةً كبيرة على صدره وهو بتلك الحال، وطلبوا منه أنْ يكفر بالله ولكنّه أبى أنْ يستجيب لطلبهم وبقي يردد: أحدٌ أحد، ثمّ قال: أُقسم بالله لو علمتُ قولا أشد عليكم من هذا لقلته.

ونقرأ في تاريخ (حبيب بن زيد) أنّه لما أسره مسيلمة الكذاب فقد سأله: هل تشهد أنّ محمّداً رسول اللّه؟

قال: نعم.

ثمّ سأله: أتشهد أنّي رسول اللّه؟

فأجابه ساخراً: إِنّي لا أسمع ما تقول! فقطعوه إِرباً إِرباً(1).

والتأريخ الإِسلامي حافل بصور كهذه، خصوصاً تأريخ المسلمين الأوائل وتأريخ أصحاب الأئمّة(عليهم السلام).

ولهذا قال المحققون: إِنّ ترك التقية وعدم التسليم للأعداء في حالات كهذه، عملٌ جائز حتى لو أدى الأمر إِلى الشهادة، فالهدف سام وهو رفع لواء التوحيد وإِعلاء كملة الإِسلام، وخاصة في بداية دعوة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، حيث كان لهذا الأمر أهمية خاصّة.

ومع هذا، فالتقية جائزة في موارد، وواجبة في موارد أُخرى، وخلافاً لما يعتقده البعض فإِنّ التقية (في مكانها المناسب) ليست علامة للضعف، ولا هي مؤشر للخوف من تسلط الأعداء، ولا هي تسليم لهم، بقدر ما هي نوع من

_____________________________

1 ـ في ظلال القرآن، ج 5، ص 284.

[341]

المراوغة المحسوبة لحفظ الطاقات الإِنسانية وعدم التفريط بالأفراد المؤمنين مقابل موضوعات صغيرة وقليلة الأهمية.

وممّا تعارف عليه عند كل الشعوب أنْ تلجأ الأقليات المجاهدة والمحاربة إِلى أُسلوب العمل السرّي غالباً، وذلك لحفظ حياة الأفراد وتهيئة الظروف لإِكثارهم، فتشكّل مجموعات سرّية وتضع لأنفسها برامجاً غير معلنة على غيرهم، حتى أنّ البعض من أفرادهم يحاول أن يتنكر حتى في زيه، وإِذا ما تمَّ اعتقالهم من قبل السلطة المعادية لمبادئهم فيحاولون جهد الإِمكان إِخفاء حقيقة أمرهم كي  لاتخسر المجموعة كل طاقاتها، ولتكون قادرة على مواصلة الطريق بالبقية المتبقية منهم.

والعقل لا يجيز في ظروف كهذه أن تعلن المجموعة المجاهدة قليلة العدد عن نفسها، لكي لا يعرفها العدو بسهولة وهو القادر على القضاء عليها بما يملك من بطش وتسلط.

فالتقية قبل أنْ تكون برنامجاً إِسلامياً هي أسلوب عقلاني ومنطقي، ينفذه ويعمل به مَن يعيش صراعاً مع عدو قوّي متمكن منه.

ولذا فقد ورد تعبير (الترس) عن التقية في الأحاديث الشريفة، فعن الإِمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال: «التقية ترس المؤمن، والتقية حرز المؤمن»(1).

(لاحظوا أنّ التقية هنا شبّهت بالترس، والترس إِنّما يستعمل في ميادين الحرب والقتال مع الأعداء لحفظ القوى الثائرة).

وإِذا رأينا أنّ الأحاديث الشريفة تعتبر التقية علامةً للدين والإِيمان وتقدرها بتسعة أعشار الدين، فإِنّما هو للسبب المذكور.

والمجال ـ في هذا الكتاب ـ لا يسع للخوض في تفصيل موضوع التقية، وكل

_____________________________

1 ـ وسائل الشيعة، ج 11، الحديث (6) من الباب (24) من أبواب الأمر بالمعروف.

[342]

ما أردنا بيانه هو أنّ مَنْ يستنكر التقية ويذمها إِنّما هو جاهل بشروطها وفلسفتها.

وثمة حالات تحرم فيها التقية، حينما يكون حفظ النفس فيها سبباً لزوال الدين نفسه، أو قد تؤدي التقية لحدوث فساد عظيم، فيجب والحال هذه كسر طوق التقية واستقبال كل خطر يترتب على ذلك(1).

2 ـ المرتد الفطري والملي و.. المخدوعين:

لايواجه الإِسلام الذين لا يعتنقون الإِسلام من (أهل الكتاب) بالشدّة والقسوة وإِنّما يدعوهم باستمرار ويتحدث معهم بالمنطق السليم، فإِذا لم يقتنعوا وراموا البقاء على ديانتهم فيعطون الأمان والتعهد بحفظ أموالهم وأرواحهم ومصالحهم المشروعة بعد أن يعلنوا قبول شرط أهل الذمة في عهدهم مع المسلمين.

أمّا الذين يقبلون الإِسلام ومن ثمّ يرتدون عنه فيواجهون بشدّة وعنف، لأنّ عملا كهذا يؤدي إِلى أضرار فادحة تصيب المجتمع الإِسلامي، وهو بمثابة نوع من الحرب ضد الحكومة الإِسلامية، وغالباً ما يصدر مثل هذا العمل مستبطناً النية السيئة بإِيصال أسرار المجتمع الإِسلامي (ونقاط القوة والضعف) ليد الأعداء المتربصين للمسلمين الدوائر.

فلهذا، مَنْ انعقدت نطفته وكان أبواه مسلمين عند انعقاد النطفة (مسلم الولادة) ثمّ تثبت المحكمة الإِسلامية بأنّه قد ارتد عن الإِسلام يباح دمه، تقسَّم أمواله على ورثته، تبيّن عنه زوجته، وظاهراً لا تقبل توبته، أيْ أنّ هذه الأحكام الثلاثة تجري في حقه على كل حال، ولكن إِذا ندم وتاب صادقاً، فإِنّ توبته ستقبل عند اللّه تعالى (وتوبة المرأة تقبل على الأطلاق).

_____________________________

1 ـ لأجل المزيد من الإِيضاح في مسألة التقية وأحكامها وفلسفتها وأدلتها، راجعوا كتابنا (القواعد الفقهية)، الجزء الثالث.

[343]

وإِذا ارتدَّ إِنسان ما عن الإِسلام ولم يكن مسلماً بالولادة، يتعيّن عليه التوبة، فإِنَّ تاب قُبِلَتْ توبته وينجو من العقاب.

وقد يُنْظَر للحكم السياسي الصادر بحقِّ المرتدّ الفطري على أنّ فيه نوعاً من الخشونة والقسوة وفرضاً للعقيدة وسلباً لحرية الفكر، ولكنّ حقيقة هذه الأحكام تختص بمن يظهر عقائده المخالفة أو يدعو لها ولا تطال من يعتقد باعتقادات مخالفة ولكنّه لم يظهرها للناس، لأنّ الدعوة للعقائد المخالفة تمثل في واقعها حرباً للنظام الإِجتماعي الموجود، وعليه فلا تكون الخشونة والحال هذه عبثاً، ولا تتنافى وحرية الفكر والإِعتقاد، وكما قلنا فإِنّ شبيه هذا القانون موجود في كثر من دول الغرب والشرق مع بعض الإِختلافات.

وينبغي الإِلتفات إِلى أنّ قبول الإِسلام يجب أن يكون طبقاً للمنطق، والذي يولد من أبوين مسلمين وينشأ بين أحضان بيئة إِسلامية، فمن البعيد عدم ادراكه محتوى الإِسلام، ولهذا يكون ارتداده وعدوله عن الإِسلام أشبه بالخيانة منه من عدم إِدراك الحقيقة، ولذلك فهو يستحق ما خُطَّ في حقه من عقاب.

على أنّ الأحكام عادةً لا تخصص لشخص أو شخصين وإِنّما يلحظ فيها المجموع العام(1).

* * *

_____________________________

1 ـ اختلف المفسّرون بخصوص جملة «مَنْ كفر بالله...»، فاعتبرها بعضهم: شرحاً وتوضيحاً للجملة السابقة لها وأنّها بدل لعبارة «الذين لا يؤمنون بآيات اللّه»، فيما اعتبرها آخرون: بدلا لكلمة «كاذبون»، وقال بعضهم: أنّها مبتدأ محذوف الخبر ويقدروها بـ «مَن كفر بالله مِن بعد إِيمانه فعليهم غضب من اللّه ولهم عذاب أليم»، فجزاء الشرط محذوف لدلالة الجملة التالية على ذلك.

وثمّة احتمال رابع (ويبدو أفضل الإِحتمالات) وهو: أنّها مبتدأ، وخبرها في نفس الآية وغير ومحذوف، أمّا عبارة «لكنْ من شرح للكفر صدراً» فهي توضيح جديد للمبتدأ لوقوع جملة إِستثنائية بينها وبين خبرها، وهذا النوع من التعبير كثير الاستعمال حتى في غير اللغة العربية ـ فتأمل.

[344]

الآيات

وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ ءَامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَان فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ(112) وَلَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فأخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظـلِمُونَ(113) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلـلا طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِن كُنْتُم إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ(114)

التّفسير

الذين كفروا فأصابهم العذاب

قلنا مراراً: إِنّ هذه السورة هي سورة النِعَمْ، النعم المادية والمعنوية وعلى كافة الأصعدة، وقد مرَّ ذكر في آيات متعددة من هذه السورة المباركة.

وتصور لنا الآيات أعلاه عاقبة الكفر بالنعم الإِلهية على شكل مثل واقعي.

ويبتدأ التصوير القرآني بضرب مثل لمن لم يشكر نعمة اللّه عليه: (ضرب اللّه مثلا قرية كانت آمنة) لا تضطر إِلى هجرة إِجبارية، بل تعيش في أمن وأمان

[345]

(مطمئنة) ومضافاً الى ذلك (يأتيها رزقها رغداً من كل مكان).

ولكنّ حالها قد تبدّل في النهاية (فكفرت بأنعم اللّه فأذاقها اللّه لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون).

وإِضافة لاستكمال نعم اللّه المادية عليهم، فقد أضاف لهم من النعم المعنوية ما يستقر به حالهم في الدنيا، ويدام لهم ذلك في الآخرة، فبعث بين ظهرانيهم رسل وأنبياء وأرسلت إِليهم التعاليم السماوية (ولقد جاءهم رسول منهم فكذّبوه).

فكانت النتيجة أنْ: (فأخذهم العذاب وهم ظالمون).

وإنّكم حين تطلعون على هذه النماذج الواقعية من الأُمم السابقة، فاعتبروا بها ولا تنهجوا طريق أُولئك الغافلين الظالمين من الكافرين بأنعم اللّه (فكلوا ممّا رزقكم اللّه حلالا طيباً واشكروا نعمة اللّه إِنْ كنتم إِيّاه تعبدون).

* * *

بحوث

1 ـ أهو مثالٌ أمْ حدثٌ تاريخي؟

لقد عبّرت الآيات أعلاه عند حديثها عن تلك المنطقة العامرّة بكثرة النعم، والتي أصاب أهلها بلاء الجوع والخوف نتيجة كفرهم بأنعم اللّه، عبّرت عن ذلك بكلمة «مثلا» وبذات الوقت فإِنّ الآية استخدمت الأفعال بصيغة الماضي، ممّا يشير إِلى وقوع ما حدث فعلا في زمن ماض، وهنا حصل اختلاف بين المفسّرين في الهدف من البيان القرآني، فقسمٌ قد احتمل أنّ الهدف هو ضرب مثال عام، وذهب القسم الثّاني إِلى أنّه لبيان واقعة تأريخية معيّنة.

وتطرّق مؤيدو الإِحتمال الثّاني إِلى تحديد المنطقة التي حدثت فيها هذه الواقعة. فذهب بعضهم أنّها أرض مكّة، ولعل (يأتيها رزقها رغداً من كل مكان)تدعو إِلى تقوية هذا الإِحتمال، لأنّه دليل على أنّ هذه المنطقة مجدبة، وما تحتاج

[346]

إِليه يأتيها من خارجها، وما جاء في الآية (57) من سورة القصص (يجبى إِليه ثمرات كل شيء) يعضد هذا المعنى، خصوصاً وأنّ المفسّرين قد قطعوا بأنّها إِشارة إِلى مكّة المكرمة.

ويُردّ هذا الزعم بعدم معرفة حادثة كهذه في تأريخ مكّة على ما للحادثة من وضوح، فغير معروف عن مكّة أنّها عاشت أيّاماً رغيدة ومن ثمّ جاءها القحط والجوع!

وقال بعض آخر: حدثت هذه القصّة لجمع من بني إِسرائيل في منطقة ما، وأنّهم أُبتلوا بالقحط والخوف على أثر كفرانهم بنعم اللّه.

وما يؤيد ذلك ما روي عن الإِمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال: «إِنّ قوماً في بني إِسرائيل تؤتى لهم من طعامهم حتى جعلوا منه تماثيل بمدن كانت في بلادهم يستنجون بها فلم يزل اللّه بهم حتى اضطرّوا إِلى التماثيل يبيعونها ويأكلونها وهو قول اللّه» (ضرب اللّه مثلا...)(1).

ورويت روايات أُخرى قريبة من هذا المضمون عن الإِمام الصادق(عليه السلام)وتفسير علي بن إِبراهيم ممّا لا يمكن الإِعتماد الكامل على أسانيدها، وإِلاّ لكانت المسألة واضحة(2).

وثمّة احتمال آخر وهو أنّ الآية تشير إِلى قوم «سبأ» الذين عاشوا في اليمن، وقد ذكر القرآن الكريم قصتهم في الآيات (15 ـ 19) من سورة سبأ، وكيف أنّهم كانوا يعيشون على أرض ملؤها الثمار والخيرات في أمن وسلام، حتى أصابهم الغرور والطغيان والإِستكبار وكفران النعم الإِلهية، فأهلكهم اللّه وشتّت جمعهم وجعلهم عبرة للآخرين.

وجملة (يأتيها رزقها رغداً من كل مكان) ليست دليلا قاطعاً على أنّها لم

_____________________________

1 ـ تفسير نور الثقلين، ج 3، ص 91 (لاحظ بأن الرّواية عن تفسير العياشي، وأحاديثه مرسلة).

2 ـ المصدر السابق.

[347]

تكن عامرّة بذاتها، لأنّه من الممكن أنْ يقصد بـ «كل مكان» أطرافها وضواحيها، وكما هو معروف فإِنّ المحاصيل الزراعية لإِقليم كبير تنتقل إِلى المدينة أو القرية المركزية في تلك المنطقة.

وينبغي التذكير مرّة أُخرى بعدم وجود المانع من شمولية إِشارة الآية إِلى كل ما ذكر من احتمالات.

وعلى أيّةِ حال، فليس ثمّة مشكلة مهمّة في تفسير هذه الآية وذلك لكثرة المناطق التي أصابها مثل هذه العاقبة عبر التاريخ.

وإِذا كان عدم الإِطمئنان الكافي في تعيين محل المنطقة قد دفع بعض المفسّرين إِلى اعتبار الموضوع مثالا عامّاً مجرّداً وليس منطقة معينة، فظاهر الآيات مورد البحث لا يناسب ذلك التّفسير، بل يشير إِلى وجود منطقة معينة وحادثة تأريخية.

2 ـ الرابطة ما بين الأمن والرّزق الكثير

ذكرت الآيات ثلاث خصائص لهذه المنطقة العامرّة المباركة:

الخاصية الأُولى: الأمن.

الخاصية الثّانية: الإِطمئنان في إِدامة الحياة.

الخاصية الثّالثة: جلب الأرزاق والمواد الغذائية الكثيرة إِليها.

وترتبط هذه الخواص فيما بينها ترابطاً علّياً وحسب تسلسلها، فكل خاصية ترتبط بما قبلها ارتباط علة ومعلول، فلو فُقِدَ الأمن لما اطمأن الإِنسان على إِدامة حياته في مكانه المعيّن، وإِذا فقد الإِثنان فلا رغبة حقيقية لأحد على الإِنتاج وتحسين الوضع الإِقتصادي هناك.

فالآية تقدم درساً عملياً لمن يرغب في بلاد عامرّة وحرّة ومستقلة، فقبل كل شيء لابدّ من توفير حالة الأمن، ومن ثمّ بعث الإِطمئنان في قلوب الناس

[348]

بخصوص مستقبل وجودهم في تلك المنطقة، ومن بعد ذلك يأتي دور تحريك عجلة الإِقتصاد.

فبهذه النعم المادية الثلاثة تصل المجتمعات إِلى درجة تكامل حياتها المادية فقط، ووصولا للحياة المتكاملة من كافة الجوانب (مادياً ومعنوياً) تحتاج المجتمعات إِلى نعمة الإِيمان والتوحيد، ولهذا فقد جاء بعد ذكر هذه النعم: (ولقد جاءهم رسول منهم).

3 ـ لباس الجوع والخوف

ذكرت الآيات في بيان عاقبة الكافرين بنعم اللّه، قائلةً: (فأذاقها اللّه لباس الجوع والخوف) فمن جهة: شبّهت الجوع والخوف باللباس، ومن جهة أُخرى: عبّرت بـ «أذاقها» بدلا من (ألبسها).

وحمل هذا التفاوت في التعبير المفسّرين إِلى التوقف والتأمل في الآية...

فالتعبير يحمل بين طياته إِشارة لطيفة، فمثلا:

قال ابن الراوندي لابن الأعرابي الأديب: هل يذاق اللباس؟

قال ابن الأعرابي: لا بأس ولا لباس يا أيُّها النسناس، هب أنّك تشكّ أنّ محمّداً ما كان نبيّاً أمّا كان عربياً!!(1).

وعلى أيّةِ حال، فالتعبير إِشارة إِلى أن القحط والخوف كانا من الشدة وكأنّهما لباس قد أحاط بأبدانهم من كل الجهات، وأبدانهم في تماس معه، ومن جهة أُخرى فقد وصلت حالة لمسهم للخوف والقحط كأنّهم يتذوقونه بألسنتهم.

وهو تعبير عن أشدّ حالات الخوف ومنتهى حالات الفقر والذي يمكن أنّ يصيب جميع وجود الإِنسان.

_____________________________

1 ـ تفسير الفخر الرازي، ج 20، ص 128.

[349]

فكما أنّ نعمة الأمن والرفاه قد غطّت كامل وجودهم في البداية، فها هم وقد حال بهم الأمر لأنْ يحل الفقر والخوف محلّها في آخر مطافهم نتيجة لكفرانهم بنعم اللّه سبحانه.

4 ـ أثر كفران النعمة في تضييع المواهب الإِلهية

رأينا في الرّواية المتقدمة كيف راح أُولئك المرفهون بتطهير أجسادهم بواسطة المواد الغذائية بعد أنْ تسلطت عليهم الغفلة وساورهم الغرور، حتى ابتلاهم اللّه بالقحط والخوف.

وعرض الحادثة ما هو إِلاّ تنبيه للناس ولكل الأمم الغارقة بالنعم الإِلهية، على أنّ الإِسراف والتبذير وتضييع النعم لا ينجو من عقوبة وغرامة ثقيلة الوقع.

وهو تنبيه أيضاً للذين يرمون نصف غذائهم (الزائد عن الحاجة) في أكياس الأوساخ دائماً.

وهو تنبيه كذلك لأُولئك الذين يهيئون غذاءً يكفي لعشرين شخصاً، وليس لهم من الضيوف إِلاّ أربعة، ولا يصل الزائد منه إِلى بطون الجياع من الناس.

وهو تنبيه للذين يجمعون المواد الغذائية في بيوتهم لاستعمالهم الخاص، ويملؤون مخازنهم انتظاراً لارتفاع سعرها في الأسواق حتى يفسد ويذهب هباءً من غير أنْ يستفيدوا من بيعها بسعر مناسب قبل فسادها.

نعم، فلا يخلو أيّ عمل ممّا ذكر من عقوبة إِلهية، وأقل ما يعاقبون به هو سلب تلك النعم عنهم.

وتتّضح أهمية المسألة إِذا علمنا أنّ المواد الغذائية على سطح الكرة الأرضية محددة بنسبة، فأيُّ إِفراط في أيِّ نوع من المواد يؤدي إِلى حرمان نسبة من البشر من تلك المواد.

ولذلك جاء التأكيد الشديد حول هذه المسألة في الأحاديث الشريفة، حتى

[350]

روي عن الإِمام الصادق(عليه السلام) قوله: «كان أبي يكره أن يمسح يده في المنديل وفيه شيء من الطعام تعظيماً له، إِلاّ أنْ يمصها، أو يكون إِلى جانبه صبي فيمصها، قال: فإِنّي أجد اليسير يقع من الخوان فأتفقده فيضحك الخادم، ثمّ قال: إِنّ أهل قرية ممن كان قبلكم كان اللّه قد وسّع عليهم حتى طغوا، فقال بعضهم لبعض: لو عمدنا إِلى شيء من هذا النقي فجعلناه نستنجي به كان ألين علينا من الحجارة، قال عليه السلام: فلما فعلوا ذلك بعث اللّه على أرضهم دواباً أصغر من الجراد فلم تدع لهم شيئاً خلقه اللّه إِلاّ أكلته من شجر أو غيره، فبلغ بهم الجهد إِلى أنّ أقبلوا على الذي كانوا يستنجون به، فأكلوه، وهي القرية التي قال اللّه تعالى: (ضرب اللّه مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة) إِلى قوله: (بما كانوا يصنعون)(1)

* * *

_____________________________

1 ـ تفسير نور الثقلين، ج 3، ص 91 و 92

[351]

الآيات

إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيِر وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغ وَلاَ عَاد فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(115)وَلاَ تَقَولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هـذَا حَلـلٌ وَهـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ(116) مَتـعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(117) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبلُ وَمَا ظَلَمْنـهُمْ وَلـكِن كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ(118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهـلَة ثُمَّ تَابُوا مِن بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ(119)

التّفسير

لا يفلح الكاذبون:

بعد أنْ تحدثت الآيات السابقة عن النعم الإِلهية ومسألة شكر النعمة، تأتي الآيات أعلاه لتتحدث عن آخر حلقات الموضوع وتطرح مسألة المحرمات

[352]

الواقعية وغير الواقعية لتفصل بين الدين الحق وبين البدع التي أُحدثت في دين اللّه، وتشرع بالقول: (إِنّما حرّم عليكم الميتة والدّم ولحم الخنزير وما أُهِلَّ لغير اللّه به)(1).

وقد بحثنا موضوع تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير بالتفصيل في تفسيرنا للآية (173) من سورة البقرة.

إِنّ تلوّث هذه المواد الثلاث بات اليوم ليس خافياً على أحد، فالميتة مصدر لأنواع الجراثيم، والدم من أكثر مكونات البدن تقبلا للتلوّث بالجراثيم، وأمّا لحم الخنزير فيعتبر سبباً للإِصابه بالكثير من الأمراض الخطرة، وفوق كل ذلك (وكما قلنا في تفسيرنا لسورة البقرة) فتناول لحم الخنزير والدم له الأثر الخطير على الحالة النفسية والأخلاقية للإِنسان، بسبب التأثير الحاصل منهما على هرمونات البدن، (و الميتة بسبب عدم ذبحها وخروج دمها فإِنّ أضرار التلوّث تتضاعف فيها).

أمّا فلسفة تحريم ما يذبح لغير اللّه (حيث كانوا بدلا من ذكر اسم اللّه عند الذبح يذكرون أسماء أصنامهم أو لا يتلفظون بشيء) فليست صحية، بل هي أخلاقية ومعنوية، حيث نعلم بعدم كفاية علّة التحليل والتحريم في الإِسلام بملاحظة الجانب الصحي للموضوع، بل من المحرمات ذات جانب معنوي صرف، وحرمت بلحاظ تهذيب الروح والنظر إِلى الجنبة الأخلاقية، وقد يأتي التحريم في بعض الحالات حفظاً للنظام الإِجتماعي.

فتحريم أكل لحم ما لم يذكر عليه اسم اللّه إِنّما كان بلحاظ أخلاقي. فمن جهة يكون التحريم حرباً على الشرك وعبادة الأصنام، ومن جهة أُخرى يكون دعوة إِلى خالق هذه النعم.

_____________________________

1 ـ أُهِلَّ: من الإِهلال، مأخوذُ من الهلال، بمعنى إِعلاء الصوت عند رؤية الهلال، وباعتبار أنّ المشركين كانوا إِذا ذبحوا حيواناتهم للأصنام صرخوا عالياً بأسماء أصنامهم، فقد عبّر عنه بـ «أُهِلَّ».

[353]

ويستفاد من المحتوى العام للآية والآيات التالية أنّ الإِسلام يوصي بالإِعتدال في تناول اللحوم، فلا يكون المسلم كالذين حرّموا على أنفسهم تناول اللحم واكتفوا بالأغذية النباتية، ولا كالذين أحلّوا لأنفسهم أكل اللحوم أيّاً كانت كأهل الجاهلية والبعض ممن يدّعي التمدّن في عصرنا الحاضر، ممن يجيزون أكل كل لحم (كالسحالي والسرطان وأنواع الديدان).

جواب على سؤال:

وهنا يأتي السؤال التالي.. ذكرت الآية المباركة أربعة أقسام من الحيوانات المحرمة الأكل أو أجزائها، والذي نعلمه أنّ المحرم من اللحوم أكثر ممّا ذكر، حتى أنّ بعض السور القرآنية ذكرت من المحرمات أكثر من أربعة أقسام (كما في الآية (3) من سورة المائدة).

فلماذا حددت الآية أربعة أشياء فقط؟

وجواب السؤال ـ كما قلنا في تفسير الآية (145) من سورة الأنعام ـ : أنّ الحصر الموجود في الآية هو حصر إِضافي، أيْ أنّ المقصود من استعمال «إِنّما» في هذه الآيات لنفي وإِبطال البدع التي كان يقول بها المشركون في تحريم بعض الحيوانات، و كأنّ القرآن يقول لهم: هذه الأشياء حرام، لا ما تقولون!

وثمّة إِحتمال آخر، وهو أنْ تكون هذه المحرمات الأربعة هي المحرمات الأصلية أو الأساسية، حيث أنّ «المنخنقة» المذكورة في آية (3) من سورة المائدة داخلة في إِحدى الأقسام الأربعة (الميتة).

أمّا المحرمات الأُخرى من أجزاء الحيوانات أو أنواعها ـ كالوحوش ـ فتأتي في الدرجة الثّانية، ولذا أتى حكم تحريمها بطريق سنّة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وعليه فيمكن أنْ يكون الحصر في الآية حصراً حقيقياً ـ فتأمل.

وفي نهاية الآية سياقاً مع الأسلوب القرآني عند تناوله ذُكرت الحالات

[354]

والموارد الإِستثنائية، يقول: (فمن اضطر) كأن يكون في صحراء ولا يملك غذاء (غير باغ ولا عاد فإِنّ اللّه غفور رحيم).

«باغ» أو الباغي: (من البغي) بمعنى «الطلب»، ويأتي هنا بمعنى طلب اللذة أو تحليل ما حرم اللّه.

«عاد» أو العادي، (من العدو) أي «التجاوز»، ويأتي هنا بمعنى أكل المضطر لأكثر من حد الضرورة.

وورد تفسير (الباغي) في أحاديث أهل البيت(عليهم السلام) بأنّه (الظالم)، و(العادى) بمعنى (الغاصب)، وجاء ـ أيضاً ـ الباغي: هو الذي يخرج على إِمام زمانه، والعادي، هو السارق.

وإِشارة الرّوايات المذكورة يمكن حملها على الإِضطرار الحاصل عند السفر، فإِذا سافر شخص ما طلباً للظلم والغصب والسرقة ثمّ اضطر إِلى أكل هذه اللحوم المحرمة فسوف لا يغفر له ذنبه، حتى وإِن كان لحفظ حياته من الهلاك المحتم.

وعلى أيّةِ حال، فلا تنافي بين ما ذهبت إِليه التفاسير وبين المفهوم العام للآية، حيث يمكن جمعها.

وتأتي الآية التالية لتطرح موضوع تحريم المشركين لبعض اللحوم بلا سبب أو دليل، والذي تطرق القرآن إِليه سابقاً بشكل غير مباشر، فتأتي الآية لتطرحه صراحةً حيث تقول: (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على اللّه الكذب)(1).

أيْ إِنّ ما جئتم به ليس إِلاّ كذبة صريحة أطلقتها ألسنتكم في تحليلكم أشياء بحسب ما تهوى أنفسكم، وتحريمكم لأخرى! (أشارة إِلى الأنعام التي حرمها

_____________________________

1 ـ وهكذا أصل تركيب جملة (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب): اللام: ..لام التعليل، «ما» في «لما تصف».. مصدرية، و«الكذب» ..مفعول لـ «تصف» ..فتكون العبارة: (لا تقولوا هذا حلال وهذا حرام لتوصيف ألسنتكم الكذب).

[355]

البعض على نفسه، والبعض الآخر حللها لنفسه بعد أنْ جعل قسماً منها لأصنامه).

فهل أعطاكم اللّه حقّ سنّ القوانين؟ أمْ أنّ أفكاركم المنحرفة وتقاليدكم العمياء هي التي دفعتكم لإِحداث هذه البدع؟ ..أوَ ليس هذا كذباً وافتراءاً على اللّه؟!

وجاء في الآية (136) من سورة الأنعام بوضوح: (وجعلوا لله ممّا ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم  فلا يصل إلى اللّه وما كان لله فهو يصل إِلى شركائهم ساء ما يحكمون).

ويستفاد كذلك من الآية (148) من سورة الأنعام: (سيقول الذين أُشركوا لو شاء اللّه ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرّمنا من شيء) أنّهم كانوا يجعلون لأنفسهم حق التشريع في التحليل والتحريم، ويظنون أنّ اللّه يؤيد بدعهم! (وعلى هذا فكانوا يضعون البدعة أوّلاً ويحللون ويحرمون ثمّ ينسبون ذلك إِلى اللّه فيكون إِفتراءاً آخر)(1).

ويحذر القرآن في آخر الآية بقوله: (إِن الذين يفترون على اللّه الكذب لا يفلحون) لأنّ من مسببات الشقاء الأساسية الكذب والإِفتراء على أيِّ إِنسان، فكيف به اذا كان على اللّه عزَّ وجلّ!؟ فلا أقل والحال هذه من مضاعفة آثاره السيئة.

وتوضح الآية التالية ذلك الخسران، فتقول: (متاع قليل ولهم عذاب أليم).

ويمكن أنْ تكون (متاع قليل) إِشارة إِلى أجنّة الحيونات الميتة التي كانوا يحللونها لأنفسهم ويأكلون لحومها، أو إِشارة إِلى إِشباعهم حب الذات وعبادتها بواسطة جعل البدع، أو أنّهم بتثبيت الشرك وعبادة الأصنام في مجتمعهم يتمكنون أن يحكموا على الناس مدّة من الزمن، وكل ذلك (متاع قليل) سيعقبه (عذاب

_____________________________

1 ـ ولذا جاء ذكر افتراءهم في الآية مسبوقاً باللام ليكون نتيجة وغاية لبدعهم ـ فتأمل.

[356]

أليم).

ويطرح السؤال التالي: لماذا حرّمت على اليهود محرّمات إِضافية؟

الآية التالية كأنها جواب على السؤال المطروح، حيث تقول: (وعلى الذين هادوا حرّمنا ما قصصنا عليك من قبل).

وهو إِشارة إِلى ما ذكر من الآية (146) من سورة الأنعام: (وعلى الذين هادوا حرّمنا كلّ ذي ظفر ومن البقر والغنم حرّمنا عليهم شحومهما إِلاّ ما حملت ظهور هما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإِنّا لصادقون).

(ذي ظفر): هي الحيوانات ذات الظفر الواحد كالخيل.

(ما حملت ظهورهما): الشحوم التي في منطقة الظهر منها.

(الحوايا): الشحوم التي على أطراف الأمعاء والخاصرتين.

وحقيقة هذه المحرمات الإِضافية العقاب والجزاء لليهود جراء ظلمهم، ولذلك يقول القرآن الكريم في آخر الآيات مورد البحث: (وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون).

وكذلك ما جاء في الآيتين (160 و 161) من سورة النساء: (فبظلم من الذين هادوا حرّمنا عليهم طيبات أُحلت لهم وبصدهم عن سبيل اللّه كثيراً وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل).

فكان تحريم قسماً من اللحوم على اليهود ذا جنبة عقابيّة دون أنْ يكون للمشركين القدرة على الإِحتجاج في ذلك.

وما حرّمه المشركون إِنْ هو إِلاّ بدعة نشأت من خرافاتهم وأباطيلهم، لأنّ ما فعلوه ما كان جارياً لا عند اليهود ولا عند المسلمين (ويمكن أنْ تكون إِشارة الآية تؤدي إِلى هذا المعنى وهو إنّكم فعلتم ما لا يتفق مع أيَّ كتاب سماوي).

وفي آخر آية من الآيات مورد البحث، وتمشياً مع الأُسلوب القرآني، يبدأ القرآن بفتح أبواب التوبة أمام المخدوعين من الناس والنادمين من ضلالهم،

[357]

فيقول: (ثمّ إِنّ ربّك للذين عملوا السوء بجهالة ثمّ تابوا من بعد ذلك وأصلحوا انّ ربّك من بعدها لغفور رحيم).

ويلاحظ في هذه الآية جملة أُمور:

أوّلاً: اعتبرت علّة ارتكاب الذنب «الجهالة»، والجاهل المذنب يعود إِلى طريق الحق بعد ارتفاع حالة الجهل، وهؤلاء غير الذين ينهجون جادة الضلال على علم واستكبار وغرور وتعصب وعناد منهم.

ثانياً: إِنّ الآية لا تحدّد موضوع بالتوبة القلبية والندم، بل تؤكّد على أثر التوبة من الناحية العملية وتعتبر الإِصلاح مكملا للتوبة، لتبطل الزعم القائل بإِمكان مسح آلاف الذنوب بتلفظ «أستغفر اللّه»، وتؤكّد على وجوب إِصلاح الأُمور عملياً، وترميم ماأُفْسِدَ من روح الإِنسان أو المجتمع بارتكاب تلك الذنوب، للدلالة إِلى التوبة الحقيقية لا توبة لقلقة اللسان.

ثالثاً: التأكيد على شمول الرحمة الإِلهية والمغفرة لهم، ولكن بعد التوبة والإِصلاح: (إِنّ ربّك من بعدها لغفور رحيم).

وبعبارة أُخرى إِنّ مسألة قبول التوبة لا يكون إِلاّ بعد الندم والإِصلاح، وقد ذكر ذلك في ثلاثة تعابير:

أوّلاً: باستعمال الحرف «ثمّ».

ثانياً: «من بعد ذلك».

ثالثاً: «من بعدها».

لكي يلتفت المذنبون إِلى أنفسهم ويتركوا ذلك التفكير الخاطيء بأنْ يقولوا: نرجو لطف اللّه وغفرانه ورحمته، وهم على ارتكاب الذنوب دائمون.

* * *

[358]

الآيات

إِنَّ إِبْرهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْركِينَ(120)شَاكِراً لأَِنْعُمِهِ اجْتَبـهُ وَهَدَاهُ إِلى صِراط مُّسْتَقِيم(121) وءَاتَيْنـهُ فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِى الأَْخِرَةِ لَمِنَ الصَّـلِحِينَ(122) ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(123) إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبِّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَومَ الْقِيـمَةِ فِيَما كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ(124)

التّفسير

كان إِبراهيم لوحده أُمّة!

كما قلنا مراراً بأنّ هذه السورة هي سورة النعم، وهدفها تحريك حس الشكر لدى الإِنسان بشكل يدفعه لمعرفة خالق وواهب هذه النعم.

والآيات تتحدث عن مصداق كامل للعبد الشكور لله، ألا وهو «إِبراهيم» بطل التوحيد، وأوّل قدوة للمسلمين عامة وللعرب خاصة.

والآيات تشير إِلى خمس من الصفات الحميدة التي كان يتحلى بها

[359]

إِبراهيم(عليه السلام).

1 ـ (إِن إِبراهيم كان أُمّة).

وقد ذكر المفسّرون أسباباً كثيرة للتعبير عن إِبراهيم(عليه السلام) بأنّه «أُمّة» وأهمها أربع:

الأوّل: كان لإِبراهيم شخصية متكاملة جعلته أن يكون أُمّة بذاته، وشعاع شخصية الإِنسان في بعض الأحيان يزداد حتى ليتعدى الفرد والفردين والمجموعة فتصبح شخصيته تعادل شخصية أُمّة بكاملها.

الثّاني: كان إِبراهيم(عليه السلام) قائداً وقدوة حسنة ومعلماً كبيراً للإِنسانية، ولذلك أطلق عليه (أُمّة) لأنّ «أُمّة» اسم مفعول يطلق على الذي تقتدي به الناس وتنصاع له.

وثمّة إرتباط معنوي خاص بين المعنيين الأوّل والثاني، حيث أنّ الذي يكون بمرتبة إِمام صدق واستقامة لأُمّة ما، يكون شريكاً لهم في أعمالهم وكأنّه نفس تلك الأُمّة.

الثّالث: كان إِبراهيم(عليه السلام) موحداً في محيط خال من أيِّ موحد، فالجميع كانوا يخوضون في وحل الشرك وعبادة الأصنام، فهو والحال هذه «أُمّة» في قبال أمّة المشركين (الذين حوله).

الرّابع: كان إِبراهيم(عليه السلام) منبعاً لوجود أُمّة، ولهذا أطلق القرآن عليه كلمة «أُمّة».

ولا مانع من أنْ تحمل هذه الكلمة القصيرة الموجزة كل ما ذكر ما معان كبيرة..

نعم فقد كان إِبراهيم أمّة وكان إِماماً عظيماً، وكان رجلا صانع أُمّة، وكان منادياً بالتوحيد وسط بيئة إِجتماعية خالية من أيّ موحد(1).

_____________________________

1 ـ وفي الرّوايات عنه(صلى الله عليه وآله وسلم) أن عبد المطلب: «يُبعث يوم القيامة أُمّة وحده، عليه بهاء الملوك وسيماء الأنبياء» لأنّه كان مدافعاً عن التوحيد في بيئة الشرك وعبادة الأصنام. (سفينة البحار، ج 2، ص 139).

[360]

وقال الشاعر:

ليس على اللّه بـمستـنـكـر أنْ يـجمع العالـم في واحـد

2 ـ صفته الثّانية في هذه الآيات: أنّه كان (قانتاً لله).

3 ـ وكان دائماً على الصراط المستقيم سائراً على طريق اللّه، طريق الحق (حنيفاً).

4 ـ (ولم يكُ من المشركين) بل كان نور اللّه يملأ كل حياته وفكره، ويشغل كل زوايا قلبه.

5 ـ وبعد كل هذه الصفات، فقد كان (شاكراً لأنعمه).

وبعد عرض الصفات الخمسة يبيّن القرآن الكريم النتائج المهمّة لها، فيقول:

1 ـ (اجتباه) للنّبوة وإِبلاغ دعوته.

2 ـ (وهداه إِلى صراط مستقيم) وحفظه من كل انحراف، لأنّ الهداية لا تأتي لأحد عبثاً، بل لابدّ من توفر الإِستعداد والأهلية لذلك.

3 ـ (وآتيناه في الدنيا حسنة).

«الحسنة» في معناها العام كل خير وإِحسان، من قبيل منح مقام النّبوة مروراً بالنعم المادية حتى نعمة الأولاد وما شابهها.

4 ـ (وأنّه في الآخرة لمن الصالحين).

ومع أنّ إِبراهيم كان على رأس الصالحين في الدنيا، فإِنّه سيكون منهم في الآخرة كما أخبرنا بذلك القرآن الكريم، وهذه دلالة على عظمة مقام الصالحين بأن يحسب إِبراهيم(عليه السلام) على ما له من مقام سام كأحدهم في دار الآخرة، ولِمَ لا يكون ذلك وقد طلب إِبراهيم(عليه السلام) ذلك من ربّه حين قال: (ربِّ هب لي حكماً وألحقنى بالصالحين)(1).

_____________________________

1 ـ سورة الشعراء، 83.

[361]

5 ـ وختمت عطايا اللّه عزَّ وجلّ لإِبراهيم(عليه السلام) لما ظهر منه من صفات متكاملة بأن جعل دينه عاماً وشاملا لكل ما سيأتي بعده من زمان ـ وخصوصاً للمسلمين ـ ولم يجعل دينه مختصاً بعصر أهل زمانه، فقال اللّه عزَّوجلّ: (ثمّ أوحينا إِليك أن اتبع ملّة إِبراهيم حنيفاً)(1).

ويأتي التأكيد مرّة أُخرى: (وما كان من المشركين).

وبملاحظة الآيات السابقة يبدو لنا هذا السؤال: إِنْ كان دين الإِسلام هو نفس دين إِبراهيم وأنّ المسلمين يتبعون سنن إِبراهيم(عليه السلام) في كثير من المسائل ومنها إِحترام يوم الجمعة، فلماذا اتّخذ اليهود يوم السبت عيداً لهم بدلا من الجمعة ويعطلون فيه أعمالهم؟

إِنّ آخر آية من الآيات مورد البحث تجيب على السؤال المذكور حين تقول: (إِنّما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه) أيْ أنّ السبت وما حرم في السبت كان عقوبة لليهود، وقد اختلفوا فيه أيضاً، فمنهم مَنْ قبله ومنهم مَنْ أهمله.

وتقول بعض الرّوايات: أنّ موسى(عليه السلام) دعا قومه بني اسرائيل لاحترام يوم الجمعة وتعطيل أعمالهم فيه، وهو دين إِبراهيم(عليه السلام)، إِلاّ إنّهم تعلّلوا، واختاروا يوم السبت، فجعله اللّه عطلة لهم ولكنْ بضيق وشدّة، ولهذا لا ينبغي الإِعتماد على تعطيل يوم السبت، لأنّه إِنّما كان استثنائياً وذا طابع جزائي، وأفضل دليل على هذا الأمر أنّ اليهود أنفسهم اختلفوا في يومهم المنتخب هذا، فبعض احترمه وبعض آخر خالف ذلك وأدام العمل والكسب فيه حتى أصابهم عذاب اللّه.

وثمّة احتمال آخر أنْ تكون إِشارة الآية مرتبطة ببدع المشركين في موضوع الأغذية الحيوانية، لأنّ الآيات السابقة تطرقت لذلك من خلال إِجابتها على

_____________________________

1 ـ «الحنيف»: بمعنى الذي يترك الإِنحراف ويتجه إِلى الإِستقامة والصلاح، وبعبارة أُخرى، يغض نظره عن الأديان والأوضاع المنحرفة ويتوجه نحو صراط اللّه المستقيم، الدين الموافق للفطرة، ولهذا يسمى الصراط المستقيم، فالتعبير بالحنيف يحمل بين طياته إِشارة خفيّة إِلى أنّ التوحيد هو دين الفطرة.

[362]

تساؤل: لماذا لم يحرم في الإِسلام ما كان محرماً في دين اليهود؟ فجاء الجواب أنّ ذلك كان عقاباً لهم، فيطرح السؤال مرّة أُخرى حول عدم حرمة صيد الأسماك يوم السبت في الأحكام الإِسلامية في حين أنّه محرم على اليهود ..فيكون الجواب بأنّه كان عقاباً لليهود أيضاً.

وعلى أيّةِ حال، فثمّة ارتباط بين هذه الآيات والآيات (163 ـ 166) من سورة الأعراف التي تتحدث الحديث عن «أصحاب السبت»، حيث عرضت قصتهم، وكيف أنّ صيد السمك قد حرّم عليهم في يوم السبت، ومخالفة قسم منهم لهذا الأمر، والعقاب الشديد الذي نزل عليهم بعد ذلك الإِمتحان الإِلهي.

وينبغي الإِلتفات إِلى أنّ «السبت» في الأصل بمعنى تعطيل الأعمال للإِستراحة، ولذلك سمي يوم السبت، لأنّ اليهود كانوا يعطلون أعمالهم فيه، وبقي هذا الإِسم مستعملا حتى بعد مجيء الإِسلام، إِلاّ أنّه لا عطلة فيه.

ويقول القرآن الكريم في آخر الآية: (وإِنّ ربّك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون).

وكما أشرنا سابقاً فإِنّ إِحدى خصائص يوم القيامة إِنهاء الإِختلافات على كافة الأصعدة، والعودة إِلى التوحيد المطلق، لأنّ يوم القيامة هو يوم: البروز، الظهور، كشف السرائر والبواطن، وكشف الغطاء ويوم رفع الحجب.

* * *

[363]

الآيات

ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجـدِلْهُم بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ(125) وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خيْرٌ للِّصَّـبِرِينَ(126) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلاَتَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَتَكُ فِى ضَيْق مَمَّا يَمْكُرُونَ(127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ(128)

التّفسير

عشرة قواعد أخلاقية .. سلاحٌ داعية الحق:

حملت آيات السورة بين طياتها أحاديث كثيرة ومتنوعة، فقد تناولت المشركين واليهود وأصناف المخالفين بشكل عام، تارة بلهجة لينة وأُخرى بأُسلوب تقريع شدة، وخصوصاً الآيات السابقة لما لها من عمق وشدة أكثر ممّا سبقها من الآيات المباركات.

أمّا الآيات أعلاه والتي تمثل خاتمة بحوث وأحاديث سورة النحل، فتبيّن

[364]

أهم الأوامر الأخلاقية الأساسية التي ينبغي التحصن بها عند مواجهة المخالفين على أساس منطقي، كما وتبيّن كيفية العقاب والعفو وأُسلوب الصمود أمام مؤامرتهم وما شابه ذلك.

ويمكن تسمية ذلك بالأصول التكتيكية ومنهج المواجهة في الإِسلام ضد المخالفين، كما وينبغي العمل به كقانون كلي شامل لكل زمان ومكان.

ويتلخص هذا البرنامج الرّباني بعشرة أُصول، تم ترتيبها وفقاً لتسلسل الآيات مورد البحث:

1 ـ (أُدعُ إِلى سبيل ربّك بالحكمة):

«الحكمة»: بمعنى العلم والمنطق والإِستدلال، وهي في الأصل بمعنى (المنع) وقد أُطلقت على العلم والمنطق والإِستدلال لقدرتها على منع الإِنسان من الفساد والإِنحراف...

فأوّل خطوة على طريق الدعوة إِلى الحقّ هي التمكن من الإِستدلال وفق المنطق السليم، أو النفوذ إِلى داخل فكر الناس ومحاولة تحريك وإِيقاظ عقولهم، كخطوة أُولى في هذا الطريق.

2 ـ (والموعظة الحسنة):

وهى الخطوة الثّانية في طريق الدعوة إِلى اللّه، بالإِستفادة من عملية تحريك الوجدان الإِنساني، وذلك لما للموعظة الحسنة من أثر دقيق وفاعل على عاطفة الإِنسان وأحاسيسه، وتوجيه مختلف طبقات الناس نحو الحقّ.

وفي الحقيقة فإِنّ «الحكمة» تستثمر البُعد العقلي للإِنسان، و«الموعظة الحسنة» تتعامل مع البُعد العاطفي له(1).

_____________________________

1 ـ قال بعض المفسّرين في الفرق ما بين الحكمة، والموعظة الحسنة، المجادلة بالتي هي أحسن: أنّ الحكمة إِشارة إِلى الأدلة القطعية ..الموعظة الحسنة إِشارة إِلى الأدلة الظنية .. والمجادلة بالتي هي أحسن إِشارة إِلى الأدلة التي تهدف إِلى إِفحام المخالفين من خلال إِلزامهم بما به يقبلون. (إِلاّ أنّ ما أوردناه أعلاه يبدو أكثر مناسبة للمقصود).

[365]

إِنّ تقييد «الموعظة» بقيد «الحسنة» لعلّه إِشارة إِلى أنّ النصيحة والموعظة إِنّما تؤدي فعلها على الطرف المقابل إذا خليت من أيّةِ خشونة أو استعلاء وتحقير التي تثير فيه حسّ العناد واللجاجة وما شابه ذلك.

فكم من موعظة أعطت عكس ما كان يُؤَمَّل بها بسبب أُسلوب طرحها الذي يُشْعِر الطرف المقابل بالحقارة والإِهانة كأن تكون الموعظة امام الآخرين ومقرونة بالتحقير، أو يستشمّ منها رائحة الاستعلاء في الواعظ، فتأخذ الطرف المقابل العزة بالإِثم ولا يتجاوب مع تلك الموعظة.

وهكذا يترتب الأثر الإِيجابي العميق للموعظة إِذا كانت «حسنة».

3 ـ (وجادلهم بالتي هي أحسن).

الخطوة الثّالثة تختص بتخلية أذهان الطرف المخالف من الشبهات العالقة فيه والأفكار المغلوطة ليكون مستعداً لتلقي الحق عند المناظرة.

وبديهي أنْ تكون المجادلة والمناظرة ذات جدوى إِذا كانت (بالتي هي أحسن) ، أيْ أنْ يحكمها الحق والعدل والصحة والأمانةوالصدق، وتكون خالية من أيّةِ إِهانة أو تحقير أو تكبر أو مغالطة، وبعبارة شاملة: أنْ تحافظ على كل الأبعاد الأِنسانية السليمة عند المناظرة.

وفي ذيل الآية الأُولى، يقول القرآن: (إِنّ ربّك هو أعلم بِمَنْ ضلّ عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين).

فالآية تشير إِلى أنّ وظيفتكم هي الدعوة إِلى طريق الحق بالطرق الثلاثة المتقدمة، أمّا مسألة مَنْ الذي سيهتدي ومَنْ سيبقى على ضلاله، فعلم ذلك عند اللّه وحده سبحانه.

وثمة إِحتمال آخر في مقصود هذه الجملة وهو بيان دليل للتوجيهات الثلاث المتقدمة، أيْ: إِنّما أمر سبحانه بهذه الأوامر الثلاثة لأنّه يعلم الكيفية التي تؤثر بالضالين لأجل توجيههم وهدايتهم.

[366]

4 ـ إِنصب الحديث في الأصول الثلاثة حول البحث المنطقي والأُسلوب العاطفي والمناقشة المعقولة مع المخالفين، وإِذا حصلت المواجهة معهم ولم يتقبلوا الحق وراحوا يعتدون، فهنا يأتي الأصل الرابع: (وإِنْ عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به).

5 ـ (ولئن صبرتم لهو خير للصابرين):

وتقول الرّوايات: إِنّ الآية نزلت في معركة (أُحد) عندما شاهد رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) شهادة عمّه حمزّة بن عبدالمطلب المؤلمة (حيث لم يكتف العدو بقتله بل شقّ صدره بوحشية وقساوة فظيعة وأُخرج كبده أو قلبه وقطع أُذنه وأنفه) وتأذى النّبي لذلك كثيراً وقال: «اللّهم لك الحمد وإِليك وأنت المستعان على ما أرى» ثمّ قال: «لئن ظفرت لأمثلّن ولأمثلّن ولأمثلّن» وعلى رواية أُخرى أنّه قال: «لأمثلّن بسبعين منهم» فنزلت الآية: (وإِنْ عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين) فقال رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم): «أصبر أصبر»(1).

ربّما كانت تلك اللحظة من أشد لحظات حياة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ولكنّه تمالك زمام أُمور نفسه واختار الطريق الثّاني، طريق العفو والصبر.

ويحكي لنا التأريخ ما قام به الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) حين فتح مكّة، فما أنْ وطأت أقدام المسلمين المنتصرة أرض مكّة حتى أصدر نبى الرحمة(صلى الله عليه وآله وسلم) العفو العام عن اُولئك الجفاة، فوفى بوعده الذي قطعه على نفسه في معركة أُحُد(2).

وحري بالإِنسان إِذا أراد أنْ ينظر إِلى أعلى نموذج حي في العواطف الإِنسانية، أنْ يضع قصتي أُحد وفتح مكّة نصب عينيه ليقارن ويربط بينهما.

ولعل التأريخ لا يشهد لأيّة أمّة منتصرة عوملت بمثل ما عامل به النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)

_____________________________

1 ـ تفسير العياشي، وتفسير الدر المنثور في تفسير الآية (على ما ذكره تفسير الميزان).

2 ـ يلاحظ في بعض الرّوايات إِنّ القول بالمثلة بأكثر من واحد عند الظفر كان من بعض المسلمين (راجع تفسير التبيان، ج 6، ص 440).

[367]

والمسلمون مشركي مكّة عند انتصارهم عليهم، على الرغم من أن المسلمين كانوا من ابناء تلك البيئة التي نفذ شعور الإِنتقام والحقد فيها ليتوغل ويركد في أعماق المجتمع، بل وكانت الأحقاد تتوارث جيلا بعد جيل الى حدّ كان عدم الإِنتقام يُعدّ عيباً كبيراً لا يمكن ستره!

ومن ثمار عفو وسماحة الإِسلام أنْ اهتزت تلك الأُمة الجاهلة العنيدة من أعماقها واستيقظت من نوم غفلتها، وراح أفرادها كما يقول عنهم القرآن الكريم: (يدخلون في دين اللّه أفواجاً).

6 ـ (واصبر وما صبرك إِلاّ بالله):

والصبر إِنّما يكون مؤثراً وفاعلا إذا قصد به رضوانه تعالى ولا يلحظ فيه أيّ شيء دون ذلك.

وهل يتمكن أيّ إِنسان من الصبر على الكوارث المقطعة للقلب من غير هدف معنوي وبدون قوة إِلهية ويتحمل الالآم دون فقدان الإِتزان!؟ .. نعم، ففي سبيل رضوان اللّه كل شيء يهون وما التوفيق إِلاّ منه عزَّوجلّ.

7 ـ وإِذا لم ينفع الصبر في التبليغ والدعوة إِلى اللّه، ولا العفو والتسامح، فلا ينبغي أنْ يحل اليأس في قلب المؤمن أو يجزع، بل عليه الإِستمرار في التبليغ بسعة صدر وهدوء أعصاب أكثر، ولهذا يقول القرآن الكريم في الأصل السابع: (ولا تحزن عليهم).

لأنّ الحزن والتأسف على عدم إِيمان المعاندين يترك أحد أثرين على الإِنسان، فإِمّا أنْ يصيبه اليأس الدائم، أو يدفعه إِلى الجزع والغضب وضعف التحمل، فالنهي عن الحزن عليهم يحمل في واقعه نهياً للأمرين معاً، فينبغي للعاملين في طريق الدعوة إِلى اللّه .. عدم الجزع وعدم اليأس.

8 ـ (ولا تكُ في ضيق ممّا يمكرون).

فمهما كانت دسائس العدو العنيد واسعة ودقيقة وخطرة فلا ينبغي لك ترك

[368]

الميدان، لظنك أنْ قد وقعت في زواية ضيقة وحصار محكم، بل لابدّ من التوكل على اللّه، وسوف تفشل كل الدسائس وتبطل مفعولها بقوة الإِيمان والثبات والمثابرة والعقل والحكمة.

وآخر آية من سورة النحل تعرض الأمرين التاسع والعاشر، حيث تقول:

9 ـ (إِنّ اللّه مع الذين اتقوا):

التقوى في جميع أبعادها وبمفهومها الواسع، ومنها: التقوى في مواجهة المخالفين بمراعاة أُصول الأخلاق الإِسلامية عند المواجهة، فمع الأسير لابدّ من مراعاة أصول المعاملة الإِسلامية، ومع المنحرف ينبغي مراعاة الإِنصاف والأدب والتورع عن الكذب والإِتهام، وفي ميدان القتال لابدّ من التعامل على ضوء التعليمات العسكرية وفق الموازين والضوابط الإِسلامية، فمثلا: ينبغي عدم الهجوم على العزل من الأعداء، عدم التعرض للأطفال والنساء والعجزة، ولا التعرض للمواشي والمزارع لأجل إِتلافها، ولا يقطع الماء على العدو ... وخلاصة القول: تجب مراعاة أُصول العدل مع العدو والصديق (وطبيعي أن تخرج بعض الموارد عن هذا الحكم إِستثناءاً وليس قاعدة).

10 ـ (والذين هم محسنون).

أكّد القرآن الكريم في كثير من آياته البيّنات بأن يقابل المؤمن إِساءة الجاهل بالإِحسان، عسى أنْ يخجل الطرف المقابل أو يستحي من موقفه المتشنج، وبهذه السلوكية الرائعة قد ينتقل ذلك الجاهل من (ألدّ الخصام) إِلى أحسن الأصدقاء (ولي حميم)!

وإِذا عمل بالإِحسان في محله المناسب، فإِنّه أفضل أُسلوب للمواجهة، والتأريخ الإِسلامي يرفدنا بعيّنات رائعة في هذا المجال .. ومنها: موقف معاملة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) مع مشركي مكّة بعد الفتح، معاملة النّبي الكريم(صلى الله عليه وآله وسلم) لـ (وحشي) قاتل حمزّة، معاملته(صلى الله عليه وآله وسلم) لأسرى معركة بدر الكبرى، معاملته(صلى الله عليه وآله وسلم) مع مَنْ كان يؤذيه

[369]

بمختلف السبل من يهود زمانه .. ونجد شبيه معاملة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) مع الآخرين قد تجسدت عملياً في حياة علي(عليه السلام) وسائر الأئمّة(عليهم السلام)، وكل ذلك يكشف لنا بوضوح أهمية الإِحسان في حياة الإنسان من وجهة نظر الإِسلام.

ومن دقيق العبارة في هذا المجال ما نجده في نهج البلاغة ضمن الخطبة المعروفة بخطبة همّام، ذلك الرجل الزاهد العابد الذي طلب من أمير المؤمنين(عليه السلام)أنْ يصف له المتقين، حيث اكتفى أمير المؤمنين(عليه السلام) بذكر الآية المباركة من مجموع القرآن وقال: (إِتق اللّه وأحسن إِنّ اللّه مع الذين اتقوا والذين هم محسنون)(1).

ولكنّ السائل العاشق للحقِّ لم يروَ عطشه بهذا البيان المختصر، ممّا اضطر الإِمام(عليه السلام) أنْ يعرض له بياناً أكثر تفصيلا حتى استخرجت من فمه الشريف أكمل خطبة في وصف المتقين، حوت على أكثر من مائة صفة لهم، إِلاّ أنّ جوابه المختصر يبيّن أنّ الآية المباركة مختصر جامع لكل صفات المتقين.

وبنظرة تأمليّة ممعنة إِلى الأصول العشرة المذكورة، تتبيّن لنا جميع الخطوط الأصليّة والفرعية لأُسلوب مواجهة المخالفين، وأنّ هذه الأُصول إِنّما احتوت كل الأُسس المنطقية والعاطفية والنفسية والتكتيكية، وكل ما يؤدي للنفوذ إِلى أعماق نفوس المخالفين للتأثير الايجابي فيها.

ومع ذلك ... فالإِكتفاء بالمنطق والإِستدلال في مواجهة الأعداء وفي كل الظروف لا يقول به الإِسلام ولا يقرّه، بل كثيراً ما تدعو الضرورة لدخول الميدان عملياً في مواجهة الأعداء حتى يلزم الأمر في بعض الأحيان المقابلة بالمثل والتوسل بالقوّة في قبال ا ستعمال القوة من قبل الأعداء، وبالتدابير المبيتة في قبال ما يبيتون أُمور، ولكنْ أُصول العدل والتقوى والأخلاق والإِسلامية يجب أنْ تراعى في جميع الحالات.

_____________________________

1 ـ نهج البلاغة، خطبة 193.

[370]

ولو عمل المسلمون وفق هذا البرنامج الشامل لساد الإِسلام كل أرض المعمورة أو معظمها على أقل التقادير.

خاتمة مقال سورة النحل «سورة النِعَم»:

ممّا يلفت النظر في السورة المباركة ـ كما قلنا سابقاً ـ ذكرها لكثير من النعم الإِلهية، المادية منها والمعنوية، الظاهرية والباطنية، الفردية والإِجتماعية، ممّا دعت المفسّرين لأن يطلقوا عليها اسم (سورة النعم).

وبملاحظة ودراسة آيات السورة تظهر لنا في حدود الأربعين نعمة من النعم الكبيرة والصغيرة متوزعة بين طياتها، وسنذكر أدناه فهرساً لهذه النعم مع التأكيد على أنّ الهدف من ذكرها إِنّما هو لأمرين:

الأوّل: تعليم درس التوحيد وبيان عظمة الخالق.

الثّاني: تقوية حب وتعلق الإِنسان بخالقه وتحريك غريزة الشكر لديه.

1 ـ (خلق السماوات).

2 ـ (والأرض).

3 ـ (والأنعام خلقها).

4 ـ الإِستفادة من صوفها وجلدها (لكم فيها دفء).

5 ـ (ومنافع).

6 ـ (منها تأكلون).

7 ـ الإِستفادة من جمال الإِستقلال الإِقتصادي (ولكم فيها جمال).

8 ـ (وتحمل أثقالكم ـ والخيل والبغال والحمير لتركبوها).

9 ـ الهداية إِلى الصراط المستقيم (وعلى اللّه قصد السبيل).

10 ـ (وهو الذي أنزل من السماء ماءً لكم منه شراب).

11 ـ إِنشاء المراعي (ومنه شجر وفيه تسيمون).

[371]

12 ـ (ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات).

13 ـ (وسخر لكم الليل والنهار).

14 ـ (والشمس والقمر).

15 ـ (والنجوم).

16 ـ (وما ذرأ لكم في الأرض مختلفاً ألوانه).

17 ـ (وهو الذي سخّر البحر لتأكلوا منه لحماً طريّاً وتستخرجوا منه حلية تلبسونها).

18 ـ (وترى الفلك مواخر فيه).

19 ـ (وألقى في الأرض رواسي أنّ تميد بكم).

20 ـ (وأنهاراً).

21 ـ (وسبلا).

22 ـ (وعلامات) لمعرفة الطرق.

23 ـ (وبالنجم هم يهتدون) في معرفة الطرق ليلا.

24 ـ (واللّه أنزل من السماء ماءً فأحيا به الأرض بعد موتها).

25 ـ (نسقيكم ممّا في بطونه من بين فرث ودم لبناً خالصاً سائغاً للشاربين).

26 ـ (ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً).

27 ـ العسل (فيه شفاء للناس).

28 ـ (واللّه جعل لكم من أنفسكم أزواجاً).

29 ـ (وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة).

30 ـ (ورزقكم من الطيبات) بمعناها الواسع.

31 ـ (وجعل لكم السمع).

32 ـ (والأبصار).

33 ـ (والأفئدة).

[372]

34 ـ (واللّه جعل لكم من بيوتكم سكناً) وهي البيوت الثابتة.

35 ـ (وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً) وهي البيوت المتحركة.

36 ـ (ومن أطوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إِلى حين).

37 ـ نعمة الظلال (واللّه جعل لكم ممّا خلق ظلالا).

38 ـ نعمة وجود الملاجيء الآمنة في الجبال (وجعل لكم من الجبال أكناناً).

39 ـ (وجعل لكم سرابيل تقيكم الحرّ).

40 ـ (وسرابيل تقيكم بأسكم) أيْ: في الحروب.

وجاء في خاتمة هذه النعم: (كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون).

الهدف من ذكر النعم:

لا حاجة للتنبيه على أنّ ذكر النعم الإِلهية الواردة في القرآن الكريم لا يقصد منها إِلقاء المِنّة أو كسب الوجاهة وما شابه ذلك، فشأن الباري أجلُّ وأسمى من ذلك وهو الغني ولا غني سواه. ولكنّ ذكرها جاء ضمن أُسلوب تربوي مبرمج يهدف لإِيصال الإِنسان إِلى أرقى درجات الكمال الممكنة من الناحيتين المادية والمعنوية. وأقوى دليل على ذلك ما جاء في أواخر كثير من الآيات السابقة من عبارات والتي تصب ـ مع كثرتها وتنوعها ـ في نفس الإِتجاه التربوي المطلوب.

فبعد ذكر نعمة تسخير البحار، يقول القرآن في الآية (14): (لعلكم تشكرون).

وبعد بيان نعمة الجبال والأنهار والسبل، يقول في الآية (15): (لعلكم تهتدون).

وبعد بيان أعظم النعم المعنوية (نعمة نزول القرآن) تأتي الآية (44) لتقول: ( لعلّهم يتفكّرون).

وبعد ذكر نعمة آلات المعرفة المهمّة (السمع والبصر والفؤاد)، تقول الآية (78): (لعلّكم تشكرون).

[373]

وبعد الإِشارة إِلى إِكمال النعم الإِلهية، تقول الآية (81): (لعلّكم تسلمون).

وبعد ذكر جملة أُمور في مجال العدل والإِحسان ومحاربة الفحشاء والمنكر والظلم، تأتي الآية (90) لتقول: (لعلّكم تذكرون).

والحقيقة أنّ القرآن الكريم قد أشار إِلى خمسة أهداف من خلال ما ذكر في الموارد الستة أعلاه:

1 ـ الشكر.

2 ـ الهداية.

3 ـ التفكّر.

4 ـ التسليم للحق.

5 ـ التذكّر.

وممّا لا شك فيه أنّ الأهداف الخمسة مترابطة فيما بينها ترابطاً وثيقاً فالإِنسان يبدأ بالتفكر، وإِذا نسي تذكّر، ثمّ يتحرك فيه حس الشكر لواهب النعم عليه، فيفتح الطريق إِليه ليهتدي، وأخيراً يسلِّم لأوامر مولاه.

وعليه، فالأهداف الخمسة حلقات مترابطة في طريق التكامل، وإِذا سلك السالك ضمن الضوابط المعطاة لحصل على نتائج مثمرّة وعالية.

وثمّة ملاحظة، هي أنّ ذكر النعم الإِلهية بشكليها الجمعي والفردي إِنّما يراد بها بناء الإِنسان الكامل.

إِلهي! أحاطت نعمك بكل وجودنا، فغرقنا في بحر عطاياك، ولكننا لم نعرفك بعد.

إِلهي! هب لنا بصراً وبصيرة نرى بهما طريق معرفتك وحبّك، ووفقنا للسير في مراضيك وأوصلنا إِلى منزل الشاكرين حقاً.

اللّهم! أنت تعلم بحوائجنا دون غيرك، وتعلم أكثر منّا لما نريد، فَمُنَّ علينا لنكون كما تحب، واجعلنا خيراً ممّا يظن الناس إِنّك سميع مجيب.

* * *




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21401484

  • التاريخ : 19/04/2024 - 07:58

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net