00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة الحجر من آية 30 ـ 60 من ( ص 174 ـ 223 )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء الثامن)   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

[174]

الآيات

وَقِيلَ لَلَّذِينَ اتَّقَوا مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْراً لِّلَّذِينَ أحْسَنُوا فِى هـذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الأَْخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ(30) جَنَّـتُ عَدْن يَدْخُلُونَهَا تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَْنْهَـرُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ كَذلِكَ يَجْزِى اللَّهُ الْمُتَّقِينَ(31) الَّذِينَ تَتَوَفَّـهُمُ الْمَلَـئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَـمٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(32)

التّفسير

عاقبة المتقين والمحسنين:

قرأنا في الآيات السابقه أقول المشركين حول القرآن وعاقبة ذلك، والآن فندخل مع المؤمنين في اعتقادهم وعاقبته.. فيقول القرآن: (وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربّكم قالوا خيراً).

وروي في تفسير القرطبي: كان يرد الرجل من العرب مكّة في أيّام الموسم فيسأل المشركين عن محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) فيقولون: ساحر أو شاعر أو كاهن أو مجنون..

[175]

ويسأل المؤمنين فيقولون: أنزل اللّه عليه الخير والهدى.

ما أجمل هذا التعبير وأكمله «خيراً» خير مطلق يشمل كل: صلاح، سعادة، رفاه، تقدم مادي ومعنوي، خير للدنيا والآخرة، خير للإِنسان الفرد والمجتمع، وخير في: التربية والتعليم، السياسة والإِقتصاد، الأمن والحرية... والخلاصة: خير في كل شيء (لأنّ حذف المتعلق يوجب عموم المفهوم).

وقد وصفت الآيات القرآنية القرآن الكريم بأوصاف كثيرة مثل: النّور، الشفاء، الهداية، الفرقان (يفرق الحق عن الباطل)، الحق، التذكرة، وما شابه ذلك.. ولكن في هذه الآية وردت صفة «الخير» التي يمكن أن تكون مفهوماً عاماً جامعاً لكل تلك المفاهيم الخاصة.

والفرق واضح في نعت القرآن بين المشركين والمؤمنين، فالمؤمنون قالوا: «خيراً» أي أنزل اللّه خيراً، وبذلك يظهر اعتقادهم بأنّ القرآن وحي إِلهي(1).

بينما نجد المشركين عندما قيل لهم ماذا أنزل ربّكم؟ قالوا: (أساطير الأولين) وهذا إِنكار واضح لكون القرآن وحي إِلهي(2).

وتبيّن الآية مورد البحث نتيجة وعاقبة ما أظهره المؤمنون من اعتقاد، كما عرضت الآيات السابقة عاقبة ما قاله المشركين من عقاب دنيوي وأخروي، ومادي ومعنوي مضاعف: (للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة).

وقد أطلق الجزاء بالـ «حسنة» كما أطلقوا القول «خيراً»، ليشمل كل أنواع الحسنات والنعم في الحياة الدنيا، بالإِضافة إِلى: (ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين).

وتشارك عبارة «نعم دار المتقين» الإِطلاق مرّة أُخرى وكلمة «خيراً»، لأنّ الجزاء بمقدار العمل كمّاً وكيفاً.

_____________________________

1 ـ خيراً: مفعول لفعل محذوف تقديره (أنزل اللّه).

2 ـ أساطير الأولين: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره (هذه أساطير الأولين).

[176]

فيتّضح لنا ممّا قلنا إنّ الآية (للدين أحسنوا) إِلى آخرها تعبر عن كلام اللّه عزَّ وجلّ، ويقوى هذا المعنى عند مقابلتها مع الآيات السابقة.

واحتمل بعض المفسّرين أنّ الظاهر من الكلام يتضمّن احتمالين:

الأوّل: أنّه كلام اللّه.

الثّاني: أنّه استمرار لقول المتقين.

ثمّ تصف الآية التالية ـ بشكل عام ـ محل المتقين في الآخرة بالقول: (جنات عدن يدخلونها تجري من تحتها الأنهار لهم فيها ما يشاؤون).

فهل ثمّة أوسع وصفاً من هذا أم أشمل مفهوماً لبيان نعم الجنّة.

حتى أنّ التعبير يبدو أوسع ممّا ورد في الآية (71) من سورة الزخرف (وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين)، فالحديث في الآية عن (ما تشتهيه الأنفس)، في حين الحديث في الآية مورد البحث عن مطلق الإِشاءة (ما يشاؤون).

واستفاد بعض المفسّرين من تقديم (لهم فيها) على (ما يشاؤون) الحصر، أي يمكن للإِنسان أن يحصل على كل ما يشاء في الجنّة فقط دون الدنيا.

وقلنا أنّ الآيات مورد البحث توضح كيفية حياة وموت المتقين مقارنة مع ما ورد في الآيات السابقة حول المشركين والمستكبرين، وقد مرّ علينا هناك أنّ الملائكة عندما تقبض أرواحهم يكون موتهم بداية لمرحلة جديدة من العذاب والمشقة، ثمّ يقال لهم «ادخلوا ابواب جهنم..».

وأمّا عن المتقين: (الذين تتوفاهم الملائكة طيبين) طاهرين من كل تلوثات الشرك والظلم والإِستكبار، ومخلصين من كل ذنب ـ (يقولون سلام عليكم)السلام الذي هو رمز الأمن والنجاة.

ثمّ يقال لهم: (ادخلوا الجنّة بما كنتم تعملون).

والتعبير عن موتهم بـ (تتوفاهم) يحمل بين طياته اللطف، ويشير إِلى أن الموت لا يعني الفناء والعدم أو نهاية كل شيء، بل هو مرحلة انتقالية إِلى عالم

[177]

آخر.

وفي تفسير الميزان: أنّ في هذه الآية ثلاثة مسائل:

1 ـ طهارة المؤمنين من خبث الظلم.

2 ـ يقولون لهم (سلام عليكم) وهو تأمين قولي لهم.

3 ـ (ادخلوا الجنّة بما كنتم تعملون) وهو هداية لهم إِليها.

وهذه المواهب الثلاث هي التي ذكرت في الآية (82) من سورة الأنعام (الذين آمنوا ولم يلبسوا إِيمانهم بظلم أُولئك لهم الأمن وهم مهتدون).

* * *

[178]

الآيات

هَلْ يَنظُرونَ إِلآَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلَـئِكَةُ أَو يَأْتِىَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَ لـكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ(33) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهزِءُونَ(34) وقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْء نَّحْنُ وَلآَ ءَابَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْء كَذْلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلَـغُ الْمُبِينُ(35) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلِّ أُمَّة رَّسُولا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّـغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَـلَةُ فَسِيرُوا فِى الأَْرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عـقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ(36) إِن تَحْرِصْ عَلَى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَيَهْدِى مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُم مِّن نَّـصِرِينَ(37)

التّفسير

البلاغ المبين.. وظيفة الأنبياء:

يعود القرآن الكريم مرّة أُخرى ليعرض لنا واقع وأفكار المشركين

[179]

والمستكبرين ويقول بلهجة وعيد وتهديد: ماذا ينتظرون؟ (هل ينظرون إِلاّ أن تأتيهم الملائكة) أي ملائكة الموت فتغلق أبواب التوبة أمامهم حيث لا سبيل للرجوع بعد إِغلاق صحائف الأعمال!

أو هل ينتظرون أن يأتي أمر اللّه بعذابهم: (أو يأتي أمر ربّك) حيث تغلق أبواب التوبة أيضاً ولا سبيل عندها للإِصلاح.

فأي فكر يسيرهم، وأي عناد ولجاجة تحكمهم؟!

كلمة «الملائكة» وإِن كانت ترمز إِلى عنوان عام، إِلاّ أنّها في هذا الموقع يقصد منها ملائكة قبض الأرواح انسجاماً مع الآيات السابقة التي كانت تتحدث عنهم.

أمّا عبارة (يأتي أمر ربّك) فمع قبولها لاحتمالات كثيرة في تفسيرها، إِلاّ أنّ المعنى الراجح هو نزول العذاب، لورود هذا المعنى بالخصوص في آيات مختلفة من القرآن.

ومجموع الجملتين يعني تقريع المستكبرين بأنّ المواعظ الإِلهية وتذكير الأنبياء إِنْ كانت لا توقظكم من غفلتكم فإِنّ الموت والعذاب الإِلهي سيوقظكم، ولكنْ حينئذ لا ينفعكم ذلك الإِيقاظ.

ثمّ يضيف: إِنّ هؤلاء ليس أوّل مَنْ كانوا على هذه الحال والصفة وإِنّما (كذلك فعل الذين من قبلهم وما ظلمهم اللّه ولكن كانوا أنفسهم يظلمون).

وسوف يلاقون نتيجة ما كسبت أيديهم من أعمال.

والآية تؤكد مرّة أُخرى على حقيقة عود الظلم والإِستبداد والشر على الظالم المستبد الشرير في آخر المطاف، لأنّ الفعل القبيح يترك آثاره السيئة على روح ونفسية فاعله، فيسوِّد قبله ويلوِّث روحه فيفقده الأمان والإِطمئنان.

ثمّ يذكر عاقبة أمرهم بقوله: (فأصابهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤن).

«حاق بهم»: بمعنى أصابهم، إِلاّ أنّ بعض المفسّرين كالقرطبي وفريد وجدي

[180]

في تفسير لهذه الآية اعتبر معناها (أحاط بهم).

ويمكن الجمع بين المعنيين، فيكون المعنى: نزول العذاب عليهم، وكذلك محيطاً بهم.

وعلى أية حال، فتعبير الآية بـ (فأصابهم سيئات ما عملوا) يؤكد مرّة أُخرى على عودة الأعمال على فاعلها سواء في الدنيا أو في الآخرة، وتتجسم له بصور شتى، وتعذبه وتؤلمه وليس غير ذلك(1).

وتشير الآية التالية إِلى أحد أقوال المشركين الخاوية، فتقول: (وقال الذين أشركوا لو شاء اللّه ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرّمنا من دونه من شيء).

إِنّ قولهم (ولا حرّمنا) إِشارة إِلى بعض أنواع الحيوانات التي حرّم لحومها المشركون في عصر الجاهلية، والتي أنكرها رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) بشدة.

والخلاصة: أنّهم أرادوا الادعاء بأنّ كلَّ ما عملوه من عبادة للأصنام إِلى تحليل وتحريم الأشياء، إِنما كان وفقاً لرضا اللّه تعالى وبإِذنه!

ولعل قولهم يكشف عن وجود عقيدة (الجبر) ضمن ما كانوا به يعتقدون، معتبرين كل ما يصدر منهم إِنْ هو إِلاّ من القضاء المحتوم عليهم (كما فهم ذلك جمع كثير من المفسّرين).

وثمّة احتمال آخر: إِنّهم لم يقولوا ذلك اعتقاداً منهم بالجبر، وإِنّما أرادوا الإِحتجاج على اللّه سبحانه، وكأنّهم يقولون: إِنْ كانت أعمالنا لا ترضي اللّه تعالى فلماذا لم يرسل إِلينا الأنبياء لينهونا عمّا نقوم به، فسكوته وعدم منعه ما كنّا نعمل دليل على رضاه.

وهذا الإِحتمال ينسجم مع ذيل الآية والآيات التالية.

_____________________________

1 ـ وعلى هذا، فلا داعي لتقدير كلمة «جزاء» قبل «سيئات» في الآية.

[181]

ولهذا يقول تعالى مباشرة: (كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إِلاّ البلاغ المبين)... يعني.

أوّلاً: أنْ تقولوا أنَّ اللّه سكت عن أعمالنا! فإِنّ اللّه قد بعث إِليكم الأنبياء، ودعوكم إِلى التوحيد ونفي الشرك.

ثانياً: إنّ وظيفة اللّه تعالى والنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ليسَ هي هدايتكم بالجبر، بل بإِراءتكم السبيل الحق والطريق المستقيم، وهذا ما حصل فعلا.

أمّا عبارة (كذلك فعل الذين من قبلهم) فمواساة لقلب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، بأن لا يحزن ويثبت في قبال ما يواجه من قبل المشركين، وأنّ اللّه معه وناصره.

وبعد ذكر وظيفة الأنبياء (البلاغ المبين)، تشير الآية التالية باختصار جامع إِلى دعوة الأنبياء السابقين، بقولها: (ولقد بعثنا في كل أُمّة رسولا).

«الأُمّة»: من الأم بمعنى الوالدة، أو بمعنى: كل ما يتضمّن شيئاً آخر في دخله، (ومن هنا يطلق على جماعة تربطها وحدة معينة من حيث الزمان أو المكان أو الفكر أو الهدف «أُمّة».

ويتأكد هذا المعنى من خلال دراسة جميع موارد استعمال هذه الكلمة في القرآن والبالغة (64) مورداً.

ويبيّن القرآن محتوى دعوة الأنبياء(عليهم السلام)، بالقول: (أن اعبدوا اللّه واجتنبوا الطاغوت)(1).

فأساس دعوة جميع الأنبياء واللبنة الأُولى لتحركهم هي الدعوة إِلى التوحيد ومحاربة الطاغوت، وذلك لأنّ أُسس التوحيد إِذا لم تحكم ولم يطرد الطواغيت من بين المجتمعات البشرية فلا يمكن إجراء أيُّ برنامج إصلاحي.

«الطاغوت»: (كما قلنا سابقاً) صيغة مبالغة للطغيان.. أيْ التجاوز والتعدي

_____________________________

1 ـ تقدير هذه الجملة: ليقولوا لهم اعبدوا..

[182]

وعبور الحد، فتطلق على كل ما يكون سبباً لتجاوز الحد المعقول، ولهذا يطلق اسم الطاغوت على الشيطان، الصنم، الحاكم المستبد، المستكبر وعلى كل مسير يؤدي إِلى غير طريق الحق.

وتستعمل الكلمة للمفرد والجمع أيضاً وإِنْ جُمعت أحياناً بـ (الطواغيت).

ونعود لنرى ما وصلت إِليه دعوة الأنبياء(عليهم السلام) إِلى التوحيد من نتائج، فالقرآن الكريم يقول: (فمنهم مَنْ هدى اللّه ومنهم مَنْ حقت عليه الضلالة).

وهنا علت أصوات من يعتقد بالجبر استناداً إِلى هذه الآية باعتبارها المؤيدة لعقيدتهم!

ولكن قلنا مراراً إِنّ آيات الهداية والضلال إِذا جمعت وربط فيما بينها فلن يبقى هناك أيُّ إِبهام فيها، ويرتفع الإِلتباس من أنّها تشير إِلى الجبر ويتّضح تماماً أن الإِنسان مختار في تحكيم إِرادته وحريته في سلوكه أيّ طريق شاء.

فالهداية والإِضلال الالهيين إِنّما يكونا بعد توفر مقدمات الأهلية للهداية أو عدمها في أفكار وممارست الإِنسان نفسه، وهو ما تؤكّده الكثير من آيات القرآن الكريم.

فاللّه عزَّوجلّ (وفق صريح آيات القرآن) لا يهدي الظالمين والمسرفين والكاذبين ومَنْ شابههم، أما الذين يجاهدون في سبيل اللّه ويستجيبون للأنبياء(عليهم السلام) فمشمولون بألطافه عزَّ وجلّ ويهديهم إِلى صراطه المستقيم ويوفقهم إِلى السير في طريق التكامل، بينما يوكل القسم الأوّل إِلى أنفسهم حتى تصيبهم نتائج أعمالهم بضلالهم عن السبيل.

وحيث أنّ خواص الأفعال وآثارها ـ الحسنة منها أو القبيحة ـ من  اللّه عزَّوجلّ، فيمكن نسبة نتائجها إِليه سبحانه، فتكون الهدايه والإِضلال الهيين.

فالسنّة الإِلهية اقتضت في البداية جعل الهداية التشريعية ببعث الأنبياء ليدعوا الناس إِلى التوحيد ورفض الطاغوت تماشياً مع الفطرة الإِنسانية، ومن ثمّ فمن

[183]

يبدي اللياقة والتجاوب مع الدعوة فرداً كان أم جماعة يكون جديراً باللطف الإِلهي وتدركه الهداية التكوينية.

نعم، فها هي السنّة الإِلهية، لا كما ذهب إِليه الفخر الرازي وأمثاله من أنصار مذهب الجبر من أنّ اللّه يدعوا الناس بواسطة الأنبياء، ومن ثمّ يخلق الإِيمان والكفر جبراً في قلوب الأفراد (من دون أيّ سبب) والعجيب أنّه لإجمال للتساؤل ولا يسمح في الإستفهام عن سبب ذلك من اللّه عزَّوجلّ.

فما أوحش ما نسبوا اليه سبحانه.. إنّما صورة لا تتفق مع العقل والعاطفة والمنطق؟!

والتعبير الوارد في الآية مورد البحث يختلف في مورد الهداية والضلال، ففي مسألة الهداية، يقول: (فمنهم من هدى اللّه)، أمّا بالنسبة للقسم الثّاني، فلا يقول: إنّ اللّه أضلهم، بل إنّ الضلالة ثبتت عليهم والتصقت بهم: (ومنهم من حقّت عليه الضلالة).

وهذا الإِختلاف في التعبير يمكن أن يكون إِشارة لما في بعض الآيات الأخرى، والمنسجم مع ما ورد من روايات.. وخلاصته:

إنّ القسم الأعظم من هداية الإِنسان يتعلق بالمقدمات التي خلقها اللّه تعالى لذلك، فقد أعطى تعالى: العقل، وفطرة التوحيد، وبعث الأنبياء، وإِظهار الآيات التشريعية والتكوينية، ويكفي الإِنسان أن يتخذ قراره بحرية وصولا للهدف المنشود.

أمّا في حال الضلال فالأمر كلّه يرجع إِلى الضالين أنفسهم، لأنّهم اختاروا السير خلاف الوضعين التشريعي والتكويني الذي جعلهم اللّه عليه، وجعلوا حول الفطرة حجاباً داكناً وأغفلوا قوانينها، وجعلوا الآيات التشريعية والتكوينية وراء ظهورهم، وأغلقوا أعينهم وصموا أذانهم أمام دعوة الأنبياء(عليهم السلام)، فكان أنْ آل المآل بهم إِلى وادي التيه والضلال.. أوَليس كل ذلك منهم؟

[184]

والآية (79) من سورة النساء تشير إِلى المعنى المذكور بقولها: (ما أصابك من حسنة فمن اللّه وما أصابك من سيئة فمن نفسك).

وروي في أصول الكافي عن الأمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام)، في إِجابته على سؤال لأحد أصحابه حول مسألة الجبر والإِختيار، أنّه قال: «أكتب: بسم اللّه الرحمن الرحيم قال علي بن الحسين، قال اللّه عزَّ وجلّ: يا ابن آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء، وبقوتي أديت فرائضي، وبنعمتي قويت على معصيتي، جعلتك سميعاً بصيراً، ما أصابك من حسنة فمن اللّه وما أصابك من سيئة فمن نفسك، وذلك أنّي أولى بحسناتك منك، وأنت أولى بسيئاتك منّي»(1).

وفي نهاية الآية يصدر الأمر العام لأجل إِيقاظ الضالين وتقوية روحية المهتدين، بالقول: (فسيروا في الأرض فانظرواكيف كان عاقبة المكذبين).

فالآية دليل ناطق على حرية إِرادة الإِنسان، فإِنْ كانت الهداية والضلال أمرين إِجباريين، لم يكن هناك معنىً للسير في الأرض والنظر إِلى عاقبة المكذبين، فالأمر بالسير بحد ذاته تأكيد على اختيار الإِنسان في تعيين مصيره بنفسه وليس هو مجبر على ذلك.

وثمّة بحوث كثيرة وشيقة في القرآن الكريم بخصوص مسألة السير في الأرض مع التأمل في عاقبة الأُمور، وقد شرح ذلك مفصلا في تفسيرنا للآية (137) من سورة آل عمران.

الآية الأخير من الآيات مورد البحث تؤكّد التسلية لقلب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بتبيان ما وصلت إِليه حال الضّالين: (إِنّ تحرص على هداهم فإِنّ اللّه لا يهدي مَنْ يضل وما لهم من ناصرين).

«تحرص» من مادة (حرص)، وهو طلب الشيء بجديّة وسعي شديد.

_____________________________

1 ـ أصول الكافي، ج1، ص160 (باب الجبر والقدر ـ الحديث 12).

[185]

بديهي، أنّ الآية لا تشمل كل المنحرفين، لأنّ الشمول يتعارض مع وظيفة النّبي (هداية وتبليغ)، وللتاريخ شواهد كثيرة على ما لهداية الناس وإِرشادهم من أثر بالغ، وكم أولئك الذين انتشلوا من وحل الضلال ليصبحوا من خلص أنصار الحق، بل ودعاته.

فعليه.. تكون الجملة المتقدمة خاصة بمجموعة معينة من الضالين الذين وصل بهم العناد واللجاجة في الباطل لأقصى درجات الضلال، وأصبحوا غرقى في بحر الإِستكبار والغرور والغفلة والمعصية فأُغلقت أمامهم أبواب الهداية، فهؤلاء لا ينفع معهم محاولات النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لهديهم حتى وإِن طالت المدّة لأنّهم قد انحرفوا عن الحق بسبب أعمالهم الى درجة أنّهم باتوا غير قابلين للهداية.

ومن الطبيعي أن لا يكون لهكذا أُناس من ناصرين وأعوان، لأنّ الناصر  لا يتمكن من تقديم نصرته وعونه إِلاّ في أرضية مناسبة ومساعدة.

وهذا التعبير أيضاً دليل على نفي الجبر، لأنّ الناصر إِنّما ينفع سعيه فيما لو كان هناك تحرك من داخل الإِنسان نحو الصلاح والهداية فيعينه ويأخذ بيده ـ فتأمل.

ولعل استعمال «ناصرين» بصيغة الجمع للإِشارة إِلى أنّ المؤمنين على العكس من الضالين، لهم أكثر من ناصر، فاللّه تعالى ناصرهم و... الأنبياء، وعباد اللّه الصالحين، وملائكة الرحمة كذلك.

ويشير القرآن الكريم إِلى هذه النصرة في الآية (51) من سورة المؤمن: (إِنّا لننصررسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد).

وكذلك في الآية (30) من سورة فصلت: (إِنّ الذين قالوا ربّنا اللّه ثمّ استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وابشروا بالجنّة التي كنتم توعدون).

* * *

[186]

بحثان

1 ـ ما هو البلاغ المبين؟

رأينا في الآيات مورد البحث أنّ الوظيفة الرئيسية للأنبياء هي البلاغ المبين (فهل على الرسل إِلاّ البلاغ المبين).

أيْ لابدّ من الدعوة علناً، وإِذا كانت ثمّة ظروف موضوعية تستدعي من الأنبياء أن تكون دعوتهم سرية، فهذا لا يكون إِلاّ لمدّة محدودة، لإنّ الأسلوب السري في عصر دعوة الأنبياء(عليهم السلام) غير مستساغ من قبل المجتمع، فلا يكون له الأثر المطلوب والحال هذه.

فلابدّ للدعوة إِذَنْ من الإِعلان السليم القاطع المصحوب بالتخطيط والتدبير كشرط أساسي في إِنجاح الدعوة بين المجتمع.

وبمطالعة تأريخ جميع الأنبياء(عليهم السلام) نرى أنّهم كانوا يعلنون دعوتهم ببيان صريح معلن، بالرغم من قلة الناصر من قومهم بالذات.

وهذا هو خط جميع دعاة الحق (من الأنبياء وغيرهم).. فهم: لا يداهنون في دعوتهم أبداً ولا يجاملون الباطل وأهله، متحملين كل عواقب هذه الصراحة والقاطعية.

2 ـ لكل أُمّة رسول

عند قوله عزَّ وجلّ: (ولقد بعثنا في كل أُمة رسول) يواجهنا السؤال التالي: لو كان لكل أُمّة رسول لظهر الأنبياء في جميع مناطق العالم، ولكنّ التأريخ لا يحكي لنا ذلك، فيكف التوجيه؟!

وتتضح الإِجابة من خلال الإِلتفات إِلى أن الهدف من بعث الأنبياء لإِيصال الدعوة الإِلهية إِلى أسماع كل الأُمم، فعلى سبيل المثال.. عندما بعث النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في مكّة أو المدينة لم يكن في بقية مدن الحجاز الأُخرى نبي، ولكنّ رسل النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)

[187]

كانوا يصلون إِليها وبوصولهم يصل صوت رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) إِليها أسماع الجميع، بالإِضافة إِلى كتبه ورسائله العديدة التي أرسلها إِلى الدول المختلفة (إِيران، الروم، الحبشة) ليبلغهم الرسالة الإِلهية).

وها نحن اليوم كأُمّة قد سمعنا دعوة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بالرغم من بعد الشقّة التاريخية بيننا وبينه(صلى الله عليه وآله وسلم)، وذلك بواسطة العلماء الرساليين الذين حملوا رسالته إِلينا عبر القرون.. ولا يقصد من بعثة رسول لكل أُمّة إِلاّ هذا المعنى.

* * *

[188]

الآيات

وَأَقْسَمُوا بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمنِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقَّاً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ(38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِى يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَـذِبِينَ(39)إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْء إِذَا أَرَدْنـهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ(40)

سبب النّزول

ذكر المفسّرون في شأن نزول الآية الأُولى (الآية 38) أنّ رجلا من المسلمين كان له دين على مشرك فتقاضاه فكان تتعلل في بتسديده، فتأثر المسلم بذلك، فوقع في كلامه القسم بيوم القيامة وقال: والذي أرجوه بعد الموت إنّه لكذا، فقال المشرك: وإِنّك لتزعم أنّك تبعث بعد الموت وأقسم باللّه، لا يبعث اللّه مَنْ يموت. فأنزل اللّه الآية(1).

فأجاب اللّه فيها الرجل المشرك وأمثاله، وعرض المعاد بدليل واضح، وكان حديث الرجلين سبباً لطرح هذه المسألة من جديد.

_____________________________

1 ـ مجمع البيان، ذيل الآية مورد البحث.

[189]

التّفسير

المعادو .. نهاية الإِختلافات:

تعرض الآيات أعلاه جانباً من موضوع «المعاد» تكميلا لما بحث في الآيات السابقة ضمن موضوع التوحيد ورسالة الأنبياء.

فتقول الآية الأُولى: (وأقسموا باللّه جهد أيمانهم لا يبعث اللّه من يموت).

وهذا الإِنكار الخالي من الدليل والذي ابتدؤوه بالقسم المؤكّد، ليؤكّد بكل وضوح على جهلهم، ولهذا يجيبهم القرآن بقوله: (بلى وعداً عليه حقّاً ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون).

إِنّ الكلمات الواردة في المقطع القرآني مثل «بلى»، «وعداً»، «حقّاً» لتظهر بكل تأكيد حتمية المعاد.

وعموماً ـ ينبغي مواجهة مَنْ ينكر الحقّ بحجم ما أنكر بل وأقوى، كي يمحو الأثر النفسي السيء للنفي القاطع، ولابدّ من إِظهار أن نكران الحق جهل حتى يمحى أثره تماماً (ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون).

ثمّ يتطرق القرآن الكريم إِلى ذكر أحد أهداف المعاد وقدرة اللّه عزَّوجلّ على ذلك، ليرد الإِشتباه القائل بعدم إِعادة الحياة بعد الموت، أو بعبثية المعاد..

فيقول: (ليبيّن لهم الذي يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا أنّهم كانوا كاذبين)في إِنكارهم للمعاد وبأنّ اللّه لا يبعث مَنْ يموت!

لأنّ ذلك عالم الشهود، عالم رفع الحجب وكشف الغطاء، عالم تجلي الحقائق، كما نقرأ في الآية (22) من سوره ق: (لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد).

وفي الآية (9) من سورة الطارق: (يوم تبلى السرائر) أيْ تظهر وتعلن.

وكذا الآية (48) من سورة إِبراهيم: (وبرزوا اللّه الواحد القهار).

ففي يوم الشهود وكشف السرائر وإِظهارها لا معنى فيه لاختلاف العقيدة،

[190]

وإِنْ كان من الممكن أن يقوم بعض المنكرين اللجوجين بإِطلاق الأكاذيب في بعض مواقف يوم القيامة لأجل تبرئة أنفسهم، إِلاّ أنّ ذلك سيكون أمراً استثنائياً عابراً.

وهذا يشبه إِلى حد ما إِنكار المجرم لجريمته ابتداءاً عند المحاكمة، ولكنّه سرعان ما ينهار ويرضخ للحقيقة عندما تعرض عليه مستمسكات جريمته المادية التي لا تقبل إدانة غيره أبداً، وهكذا فإنّ ظهور الحقائق في يوم القيامة يكون أوضح وأجلى من ذلك.

ومع أنّ أهداف حياة ما بعد الموت (عالم الآخرة) عديدة وقد ذكرتها الآيات القرآنية بشكل متفرق مثل: تكامل الإِنسان، إجراء العدالة الإِلهية، تجسيد هدف الحياة الدنيا، الفيض واللطف الإلهيين وما شابه ذلك.. إِلاّ أنّ الآية مورد البحث أشارت إِلى هدف آخر غير الذي ذكر وهو: رفع الإِختلافات وعودة الجميع إِلى التوحيد.

ونعتقد أنّ أصل التوحيد من أهم الأصول التي تحكم العالم، وهو شامل يصدق على: ذات وصفات وأفعال اللّه عزَّوجلّ، عالم الخليقة والقوانين التي تحكمه، وكل شيء في النهاية يجب أن يعود إِلى هذا الأصل.

ولهذا فنحن نعتقد بوجود نهاية لكل ما تعانيه البشرية على الأرض ـ الناشئة من الإِختلافات المنتجة للحروب والصدامات ـ من خلال قيام حكومة واحدة تحت ضلال قيادة الإِمام المهدي «عجل اللّه تعالى فرجه الشريف» لأنّه يجب في نهاية الأمر رفع ما يخالف روح عالم الوجود (التوحيد).

أمّا اختلاف العقيدة فسوف لا يرتفع من هذه الدنيا تماماً لوجود عالم الحجب والأستار، ولا ينتهي إِلاّ يوم البروز والظهور (يوم القيامة).

فالرجوع إِلى الوحدة وانتهاء الخلافات العقائدية من أهداف المعاد الذي أشارت إِليه الآية مورد البحث.

[191]

وثمّة آيات قرآنية كثيرة كررت مسألة أنّ اللّه عزَّ وجلّ سيحكم بين الناس يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون(1).

ثمّ يشير القرآن إِلى الفقرة الثّانية من بيان حقيقة المعاد، للرد على مَنْ يرى عدم امكان إِعادة الإِنسان من جديد إِلى الحياة من بعد موته: (إِنّما قولنا لشيء إِذا أردناه أن نقول له كن فيكون).

فمع هذه القدرة التامّة.. هل ثمّة شك أو ترديد في قدرته عزَّوجلّ على إِحياء الموتى؟!

ولعل لا حاجة لتبيان أنَّ «كن» إِنّما ذكرت لضرورة اللفظ، وإِلاّ لا حاجة في أمر اللّه لـ «كن» أيضاً، فإرادته سبحانه وتعالى كافية في تحقيق ما يريد.

ولو أردنا أن نضرب مثلا صغيراً ناقصاً من حياتنا (و لله المثل الأعلى)، فنستطيع أنْ نشبهه بانطباع صورة الشيء في أذهاننا لمجرد إِرادته، فإِنّنا لا نعاني من أية مشكلة في تصور جبل شامخ أو بحر متلاطم أو روضة غناء، ولا نحتاج في ذلك لجملة أو كلمة نطلقها حتى نتخيل ما نريد، فبمجرّد إِرادة التصور تظهر الصورة في ذهننا.

ونقرأ سويةً الحديث المروي عن الإِمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام).. إِنّ صفوان بن يحيى سأله: أخبرني عن الإِرادة من اللّه تعالى ومن الخلق، فقال: «الإِرادة من المخلوق الضمير وما يبدو له بعد ذلك من الفعل، وأمّا من اللّه عزَّوجلّ فإِرادته إِحداثه لا غير ذلك، لأنّه لا يُرَوّي ولا يهم ولا يتفكر، وهذه الصفات منفية عنه وهي من صفات الخلق، فإِرادة اللّه تعالى هي الفعل لا غير ذلك، يقول له: كن فيكون، بلا لفظ ولا نطق بلسان ولا همة ولا تفكر ولا كيف كذلك كما أنّه بلا كيف»(2).

* * *

_____________________________

1 ـ راجع الآيات: (55) آل عمران، (48) المائدة، (164) الأنعام، (92) النحل و(69) الحج.

2 ـ عيون الأخبار، ج1، ص119.

[192]

الآيتان

وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِى اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِى الْدُّنْيَا حَسَنَةً وَ لأََجْرُ الأَْخِرَةِ أَكْبَرُ لَو كَانُوا يَعْلَمُونَ(41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ(42)

سبب النّزول

ذكر بعض المفسّرين في شأن نزول الآية الأُولى (41): نزلت في المعذبين بمكّة مثل صهيب وعمار وبلال وخباب وغيرهم مكّنهم اللّه في المدينة، وذكر أن صهيباً قال لأهل مكّة: أنا رجل كبير إِن كنت معكم لم أنفعكم وإِن كنت عليكم لم أضركم فخذوا مالي ودعوني، فأعطاهم ماله وهاجر إِلى رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) فقال له أحدهم: ربح البيع يا صهيب.

ويروى أنّ أحد الخلفاء كان إِذا أعطى أحداً من المهاجرين عطاءاً قال له: خذ هذا ما وعدك اللّه في الدنيا، وما أخّره لك أفضل. ثمّ تلى هذه الآية(1).

_____________________________

1 ـ مجمع البيان، ذيل الآية 41.

[193]

التّفسير

ثواب المهاجرين:

قلنا مراراً: إِنّ القرآن الكريم يستخدم أُسلوب المقايسة والمقارنة كأهم أُسلوب للتربية والتوجيه، فما يريد أن يعرضه للناس يطرح معه ما يقابله لتتشخص الفروق ويستوعب الناس معناه بشكل أكثر وضوحاً.

فنرى في الآيات السابقة الحديث عن المشركين ومنكري يوم القيامة، وينتقل الحديث في الآيات مورد البحث إِلى المهاجرين المخلصين، ليقارن بين المجموعتين ويبيّن طبيعتهما..

فيقول أوّلاً: (والذين هاجروا في اللّه من بعدما ظلموا لنبوّئَنَّهم في الدنيا حسنة) أمّا في الآخرة (ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون).

ثمّ يصف في الآية التالية المهاجرين المؤمنين الصالحين بصفتين، فيقول: (الذين صبروا وعلى ربّهم يتوكلون).

* * *

بحوث

1 ـ كما هو معروف فإِنّ للمسلمين هجرتين، الأُولى: كانت محدودة نسبياً (هجرة جمع من المسلمين على رأسهم جعفر بن أبي طالب إِلى الحبشة)، والثّانية: الهجرة العامة للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين من مكّة إِلى المدينة.

وظاهر الآية يشير إِلى الهجرة الثّانية، كما يؤيد ذلك شأن النّزول.

وقد بحثنا أهمية دور الهجرة في حياة المسلمين في الماضي والحاضر واستمرار هذا الأمر في كل عصر وزمان بشكل مفصل ضمن تفسيرنا للآية (100) من سورة النساء، والآية (75) من سورة الأنفال.

وعلى أية حال، فللمهاجرين مقام سام في الإسلام، وقد اهتم النّبي

[194]

الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) بهم كثيراً وكذا المسلمون من بعد، وذلك لأنّهم جعلوا حياتهم المادية وما يملكون في خدمة الدعوة الإِسلامية المباركة، ممّا حدا بالبعض أن يعرض حياته للمخاطر، والبعض الآخر ترك كل أمواله (كصهيب) معتبراً نفسه رابحاً في هذه الصفقة المباركة.

ولو لم تكن تلك التضحيات لأُولئك المهاجرين لما سمح المحيط الفاسد في مكّة وتحكم الشياطين عليها بأن يخرج صوت الإِسلام ليعم أسماع الجميع، وَلَكُتِمَ الصوت وقبر في صدور المؤمنين إِلى الأبد، ولكنّ المهاجرين بتحولهم المدروس الواعي وهجرتهم المباركة لم يفتحوا مكّة فحسب، وإِنّما أوصلوا صوت الإسلام إِلى أسماع العالم، فأصبحت الهجرة سنّة إِسلامية تجري على مرّ التأريخ إِذا ما واجهت ما يشبه ظروف مكّة قبل الهجرة.

2 ـ التعبير بـ (هاجروا في اللّه) من دون ذكر كلمة «سبيل» إِشارة إِلى ذروة الإِخلاص الذي كان يحملونه أُولئك المهاجرون الأُول، فهم هاجروا لله وفي سبيله وطلباً لرضاه وحماية لدينه ودفاعاً عنه، وليس لنجاتهم من القتل أو طلباً لمكاسب مادية أُخرى.

3 ـ وتظهر لنا جملة (من بعدما ظلموا) عدم ترك الميدان فوراً، بل لابدّ من الصبر والتحمل قدر الإِمكان.

أمّا عندما يصبح تحمل العذاب من العدو باعثا على زيادة جرأته وجسارته، وإضعاف المؤمنين.. فهنا تجب الهجرة لأجل كسب القدرة اللازمة وتهيئة خنادق المواجهة المحكمة، ويستمر بالجهاد على كافة الأصعدة من موقع أفضل، حتى تنتهي الحال إِلى نصر أهل الحق في الساحات العسكرية والعلمية والتبليغية...

4 ـ أمّا قوله تعالى: (لنبوئنهم في الدنيا حسنة) «نبوئنهم» من (بوأت له مكاناً) أي هيأته له ووضعته فيه ـ فيشير إِلى أن المهاجرين في اللّه وإِنْ كانوا ابتداءً يفتقدون إِلى الإمكانيات المادية المستلزمة للمواجهة، إِلاّ أنّهم في النهاية ـ حتى

[195]

في الجانب الدنيوي ـ منتصرون(1).

فلماذا بعد ذلك يتحمل الإِنسان ضربات الأعداء المتوالية ويموت منها ذليلا؟! لماذا لا يهاجر وبكل شجاعة ليجاهد عدوّه من موضع جديد فيأخذ منه حقّه؟!

وقد عرض هذا الموضوع بوضوح أكثر في الآية (100) من سورة النساء، حيث تقول: (ومَنْ يهاجر في سبيل اللّه يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة).

5 ـ إِن سبب انتخاب صفتين للمهاجرين «الصبر» و «التوكل» واضح، لما يواجه من ظروف صعبة ومتعبة، تحتاج الثبات والصبر على مرارة تلك الظروف في الدرجة الأُولى، ثمّ الإِعتماد الكامل على اللّه سبحانه وتعالى. وأساساً فإنّ الإِنسان لو إفتقد في الحوادث العصبية والشدائد القاسية المعتمد المطمئن والسند المعنوي المحكم، فإنّ الصبر والإستقامة والثبات تكون مستحيلة.

وقال البعض: إِنّ انتخاب «الصبر» هنا، لأنّ ابتداء السير في طريق الهجرة إِلى اللّه يحتاج إلى المقاومة والثبات أمام رغبات النفس، أما انتخاب «التوكل» فلأجل أنّ نهاية السير هي الإِنقطاع عن كل شيء غير اللّه عزَّ وجلّ والإِرتباط به.

وعلى هذا، تكون الصفة الأُولى لأوّل الطريق والثانيه لآخره(2).

وعلى أية حال.. فلا سبيل الى الهجرة الخارجية دون الهجرة الباطنية، فعلى الإِنسان أنْ يقطع علائقة المادية الباطنية أوّلاً بهجرته نحو الفضائل الأخلاقية، ليستطيع أنْ يهاجر ويترك دار الكفر ـ مع كل ما له فيها ـ منتقلا إِلى دار الإِيمان.

* * *

_____________________________

1 ـ «لنبوئنهم»: في الأصل من (بوأ) بمعنى تساوي أجزاء مكان ما.. على عكس «نبوء» على وزن (مبدأ) بمعنى عدم تساوي أجزاء المكان. وعلى هذا فـ «بوّأت له مكاناً» أي ساويت له مكاناً، ثمّ بمعنى هيأته له.

2 ـ التّفسير الكبير للفخر الرازي، في تفسير الآية مورد البحث.

[196]

الآيتان

وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالا نُّوحِى إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ(43) بِالْبَيِّنـتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرونَ(44)

التّفسير

اِسألوا إِن كنتم لا تعلمون!

بعد أنْ عرض القرآن في الآيتين السابقتين حال المهاجرين في سياق حديثه عن المشركين، يعود إِلى بيان المسائل السابقة فيما يتعلق بأُصول الدين من خلال إِجابته لأحد الإِشكالات المعروفة; حين يتقول المشركون: لماذا لم ينزل اللّه ملائكة لإِبلاغ رسالته؟ ... أو يقولون: لِمَ لَمْ يجهز النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بقدرة خارقة ليجبرنا على ترك أعمالنا!؟..

فيجيبهم اللّه عزَّ وجلّ بقوله: (وما أرسلنا من قبلك إِلاّ رجالا نوحي إِليهم).

نعم. فإِنّ أنبياء اللّه(عليهم السلام) جميعهم من البشر، وبكل ما يحمل البشر من غرائز وعواطف إِنسانية، حتى يحس بالألم ويدرك الحاجة كما يحس ويدرك الآخرون.

في حين أن الملائكة لا تتمكن من إِدراك هذه الأُمور جيداً والاطلاع على ما

[197]

يدور في أعماق الإِنسان بوضوح.

إِنّ وظيفة الأنبياء إِبلاغ رسالة السماء والوحي الإِلهي، وإِيصال دعوة اللّه إلى الناس والسعي الحثيث وبالوسائل الطبيعية لتحقيق أهداف الوحي، وليس باستعمال قوى إِلهية خارقة للسنن الطبيعية لإِجبار الناس بقبول الدعوة وترك الإِنحرافات، وإِلاّ فما كان هناك فخر للإِيمان ولا كان هناك تكامل.

ثمّ يضيف القول (تأكيداً لهذه الحقيقة): (فاسألوا أهل الذكر إِن كنتم لا تعلمون).

«الذكر»: بمعنى العلم والإِطلاع، و«أهل الذكر» له من شمولية المفهوم بحيث يستوعب جميع العالمين والعارفين في كافة المجالات. وإِذا فسّر البعض كلمة «أهل الذكر» في هذا المورد بمعنى (أهل الكتاب)، فهو لا يعني حصر هذا المصطلح بمفهوم معين، وما تفسيرهم في واقعة إِلاّ تطبيق لعنوان كلي على أحد مصاديقه. لأنّ السؤال عن الأنبياء والمرسلين السابقين وهل أنّهم من جنس البشر وذوي رسالات ووظائف ربانية، يجب أن يكون من علماء أهل الكتاب.

وبالرّغم من عدم وجود الوفاق التام بين علماء اليهود والنصارى من جهة والمشركين من جهة أُخرى، إِلاّ أنّهم مشتركون في مخالفتهم للإِسلام، ولهذا فيمكن أن يكون علماء أهل الكتاب مصدراً جيداً بالنسبة للمشركين في معرفة أحوال الأنبياء السابقين.

يقول الراغب في مفرداته: إِنّ الذكر على معنيين، الأوّل: الحفظ. والثّاني: التذكر واستحضار الشيء في القلب. ولذلك قيل: الذكر ذكران، ذكر بالقلب وذكر باللسان.. ولذا رأينا أنّ الذكر يطلق على القرآن لأنّه يعرض الحقائق ويكشفها.

ثمّ تقول الآية التالية: (بالبيّنات والزّبر)(1).

_____________________________

1 ـ أعطى المفسّرون احتمالات متعددة في الفعل الذي تتعلق به عبارة (بالبينات والزبر)... فقال بعضهم: إنّها متعلقة  بـ «لا تعلمون» كما قلنا وهو ينسجم مع ظاهر الآيات، وبملاحظة أن الفعل (علم) يتعدى بالباء وبدونها، وقال بعض آخر: أنّها متعلقة بجملة تقديرها «أرسلنا» وهي في الأصل «أرسلناهم بالبينات والزبر»، وقال آخرون: إنّها متعلقة بجملة «وما أرسلنا» في الآية السابقة، وقال غيرهم: إنّها متعلقة بجملة «نوحي إِليهم»، والواضح أنّ جميع الآراء المطروحة كل منها يحدد مفهوماً معيناً للآية، ولكنّها في المجموع العام فالتفاوت غير كبير فيما بينها.

[198]

«البينات»: جمع بيّنة، بمعنى الدلائل الواضحة. ويمكن أن تكون هنا إِشارة إِلى معاجز وأدلة إِثبات صدق الأنبياء(عليهم السلام) في دعوتهم.

«الزبر»: جمع زبور، بمعنى الكتاب.

فالبينات تتحدث عن دلائل إِثبات النّبوة، والزّبر إِشارة إِلى الكتب التي جمعت فيها تعليمات الأنبياء.

ومن ثمّ يتوجه الخطاب إِلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): (وأنزلنا إِليك الذكر لتبيّن للناس ما نزل إِليهم ولعلهم يتفكرون)، ليبيّن للناس مسؤوليتهم تجاه آيات ربّهم الحق.

فدعوتك و رسالتك ليست بجديدة من الناحية الأساسية، وكما أنزلنا على الذين من قبلك من الرسل كتباً ليعلموا الناس تكاليفهم الشرعية، فقد أنزلنا عليك القرآن لتبيّن تعاليمه ومفاهيمه، وتوقظ به الفكر الإِنساني ليسيروا في طريق الحق بعد شعورهم بالمسؤولية الملقاة على عاتقهم، وليتجهوا صوب الكمال (وليس بطريق الجبر والقوة).

بحث

من هم أهل الذكر؟

ذكرت الرّوايات الكثيرة المروية عن أهل البيت(عليهم السلام) أنّ «أهل الذكر» هم الأئمّة المعصومون(عليهم السلام)، ومن هذه الرّوايات:

روي عن الإِمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) في جوابه عن معنى الآية أنّه قال: «نحن أهل الذكر ونحن المسؤولون»(1).

_____________________________

1 ـ تفسير نور الثقلين، ج3، ص55.

[199]

وعن الإِمام الباقر(عليه السلام) في تفسير الآية أنّه قال: «الذكر القرآن وآل الرّسول أهل الذكر وهم المسؤولون»(1).

وفي روايات أُخرى: أنَّ «الذكر» هو النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، و«أهل الذكر» هم أهل البيت(عليهم السلام)(2).

وثمّة روايات متعددة أُخرى تحمل نفس هذا المعنى.

وفي تفاسير وكتب أهل السنّة روايات تحمل نفس المعنى أيضاً، منها:

ما في التّفسير الأثنى عشري: روي عن ابن عباس في تفسير هذه الآية، قال: هو محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين(عليهم السلام) هم أهل الذكر والعقل والبيان(3).

فهذه ليست هي المرّة الأُولى في تفسير الرّوايات للآيات القرآنية ببيان أحد مصاديقها دون أن تقيد مفهوم الآية المطلق.

وكما قلنا فـ «الذكر» يعني كل أنواع العلم والمعرفة والإِطلاع، و«أهل الذكر» هم العلماء والعارفون في مختلف المجالات، وباعتبار أن القرآن نموذج كامل وبارز للعلم والمعرفة أطلق عليه اسم «الذكر»، وكذلك شخص النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فهو مصداق واضح للـ «ذكر» والأئمّة المعصومون باعتبارهم أهل بيت النّبوة ووارثو علمه(صلى الله عليه وآله وسلم) فهم(عليهم السلام) أفضل مصداق لـ «أهل الذكر».

وهذا لا ينافي عمومية مفهوم الآية، ولا ينافي مورد نزولها أيضاً (علماء أهل الكتاب) ولهذا اتجه علماؤنا في الفقه والاُصول عند بحثهم موضوع الإِجتهاد

_____________________________

1 ـ تفسير نور الثقلين، ج3، ص56.

2 ـ تفسير نور الثقلين، ج3 ص55 و 56.

3 ـ إِحقاق الحق، ج3، ص 428 ـ والمقصود من تفسير الأثنى عشر، هو تفاسير كل من: أبي يوسف، ابن حجر، مقاتل بن سليمان، وكيع بن جراح، يوسف بن موسى، قتادة، حرب الطائي، السدي، مجاهد، مقاتل بن حيان، أبي صالح ومحمد بن موسى الشيرازي.

وروي حديث آخر عن جابر الجعفي في تفسير الآية، في كتاب الثعلبي أنّه قال: لما نزلت هذه الآية قال علي(عليه السلام): «نحن أهل الذكر» ـ راجع المصدر أعلاه ـ .

[200]

والتقليد إِلى ضرورة ووجوب أتباع العلماء لمن ليست له القدرة على استنباط الأحكام الشرعية، ويستدلون بهذه الآية على صحة منحاهم.

وقد يُتساءل فيما ورد عن الإِمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) في كتاب (عيون أخبار الرضا(عليه السلام)): أنّ علماءً في مجلس المأمون قالوا في تفسير الآية: إِنما عُني بذلك اليهود والنصارى، فقال الرضا(عليه السلام): «سبحان اللّه وهل يجوز ذلك، إذَاً يدعونا إلى دينهم ويقولون: إنّه أفضل من الإِسلام...» ثمّ قال: «الذكر رسول اللّه ونحن أهله»(1).

وتتلخص الإِجابة بقولنا: إِنّ الإِمام قال ذلك لمن كان يعتقد أن تفسير الآية منحصر بمعنى الرجوع إِلى علماء أهل الكتاب في كل عصر وزمان، وبدون شك أنّه خلاف الواقع، فليس المقصود بالرجوع إِليهم على مر العصور والأيّام، بل لكل مقام مقال، ففي عصر الإِمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) لابدّ من الرجوع إِليه على أساس إنّه مرجع علماء الإِسلام ورأسهم.

وبعبارة أُخرى: إذا كانت وظيفة المشركين في صدر الإِسلام لدى سؤالهم عن الأنبياء السابقين وهل أنّهم من جنس البشر هي الرجوع إِلى علماء أهل الكتاب لا إِلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، فهذا لا يعني أن على جميع الناس في أي عصر ومصر أن يرجعوا إِليهم، بل يجب الرجوع إِلى علماء كل زمان.

وعلى أية حال.. فالآية مبيّنة لأصل إِسلامي يتعيّن الأخذ به في كل مجالات الحياة المادية والمعنوية، وتؤكّد على المسلمين ضرورة السؤال فيما لا يعلمونه ممن يعلمه، وأن لا يورطوا أنفسهم فيما لا يعلمون.

وعلى هذا فإنّ «مسألة التخصص» لم يقررها القرآن الكريم ويحصرها في المسائل الدينية بل هي شاملة لكل المواضيع والعلوم المختلفة، ويجب أن يكون

_____________________________

1 ـ تفسير نور الثقلين، ج3، ص57.

[201]

من بين المسلمين علماء في كافة التخصصات للرجوع إِليهم.

وينبغي التنويه هنا إِلى ضرورة الرجوع إِلى المتخصص الثابت علمه وتمكنه في اختصاصه، بالإِضافة إِلى توفر عنصر الإِخلاص في عمله فهل يصح أن نراجع طبيباً متخصصاً ـ على سبيل المثال ـ غير مخلص في عمله؟!

ولهذا وضع شرط العدالة في مسائل التقليد إِلى جانب الإِجتهاد والأعلمية، أي لابدّ لمرجع التقليد من أن يكون تقياً ورعاً بالإِضافة إِلى علميته في المسائل الإِسلامية.

* * *

[202]

الآيات

أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَن يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَْرْضَ أَوْ يَأتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَيَشْعُرُونَ(45) أَو يأخُذَهُمْ فِى تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ(46) أَوْ يَأخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّف فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ(47)

التّفسير

لكلِّ ذنب عقابه:

ثمّة ربط في كثير من بحوث القرآن بين الوسائل الإِستدلالية والمسائل الوجدانية بشكل مؤثر في نفوس السامعين، والآيات أعلاه نموذج لهذا الأُسلوب.

فالآيات السابقة عبارة عن بحث منطقي مع المشركين في شأن النّبوة والمعاد، في حين جاءت هذه الآيات بالتهديد للجبابرة والطغاة والمذنبين.

فتبتدأ القول: (أفأمِنَ الذين مكروا السيئات) من الذين حاكوا الدسائس المتعددة حسباً منهم لإِطفاء نور الحق والإِيمان (أن يخسف بهم الأرض).

فهل ببعيد (بعد فعلتهم النكراء) أنْ تتزلزل الأرض زلزلة شديدة فتنشق القشرة الأرضية لتبتلعهم وما يملكون، كما حصل مراراً لأقوام سابقة؟!

[203]

«مكروا السيئات»: بمعنى وضعوا الدسائس والخطط وصولا لأهدافهم المشؤمة السيئة، كما فعل المشركون للنيل من نور القرآن ومحاولة قتل النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وما مارسوه من إِيذاء وتعذيب للمؤمنين المخلصين.

«يخسف»: من مادة «خسف»، بمعنى الإِختفاء، ولهذا يطلق على اختفاء نور القمر في ظل الأرض اسم (الخسوف)، يقال (بئر مخسوف) للذي إِختفى ماؤه، وعلى هذا يسمّى اختفاء الناس والبيوت في شق الأرض الناتج من الزلزلة خسفاً.

ثمّ يضيف: (أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون أو يأخذهم في تقلبهم)أيْ عند ذهابهم ومجيئهم وحركتهم في اكتساب الأموال وجمع الثروات. (فما هم بمعجزين).

وكما قلنا سابقاً، فإِنّ «معجزين» من الإِعجاز بمعنى ازالة قدرة الطرف الآخر، وهي هنا بمعنى الفرار من العذاب ومقاومته.

أو أنّ العذاب الإلهي لا يأتيهم على حين غفلة منهم بل بشكل تدريجي ومقرونا بالأنذار المتكرر: (أو يأخذهم على تخوف).

فاليوم مثلا، يصاب جارهم ببلاء، وغداً يصاب أحد أقربائهم، وفي يوم آخر تتلف بعض أموالهم... والخلاصة، تأتيهم تنبيهات وتذكيرات الواحدة تلو الأخرى، فإِنْ استيقظوا فما أحسن ذلك، وإِلاّ فسيصيبهم العقاب الإِلهي ويهلكهم.

إِنّ العذاب التدريجي في هذه الحالات يكون لاحتمال أن تهتدي هذه المجموعة، واللّه عزَّ وجلّ لا يريد أن يعامل هؤلاء كالباقين (فإِنّ ربّكم لرؤوف رحيم).

ومن الملفت للنظر في الآيات مورد البحث، ذكرها لأربعة أنواع من العذاب الإِلهي:

الأوّل: الخسف.

الثّاني: العقاب المفاجىء الذي يأتي الإِنسان على حين غرة من أمره.

الثّالث: العذاب الذي يأتي الإِنسان وهو غارق في جمع الأموال وتقلبه في

[204]

ذلك.

الرّابع: العذاب والعقاب التدريجي.

والمسلم به أنّ نوع العذاب يتناسب ونوع الذنب المقترف، وإِنْ وردت جميعها بخصوص (الذين مكروا السيئات) لعلمنا أنّ أفعال اللّه لا تكون إِلاّ بحكمة وعدل.

وهنا.. لم نجد رأياً للمفسّرين ـ في حدود بحثنا ـ حول هذا الموضوع، ولكنْ يبدو أنّ النوع الأوّل من العقاب يختص بأُولئك المتآمرين الذين هم في صف الجبارين والمستكبرين كقارون الذي خسف اللّه تعالى به الأرض وجعله عبرة للناس، مع ما كان يتمتع به من قدرة وثروة.

أمّا النوع الثّاني فيخص المتآمرين الغارقين بملذات معاشهم وأهوائهم، فيأتيهم العذاب الإِلهي بغتة وهم لا يشعرون.

والنوع الثّالث يخص عبدة الدنيا المشغولين في دنياهم ليل نهار ليضيفوا ثروة إِلى ثروتهم مهما كانت الوسيلة، حتى وإِنْ كانت بارتكاب الجرائم والجنايات وصولا لما يطمحون له! فيعذبهم اللّه تعالى وهم على تلك الحالة(1).

وأمّا النوع الرّابع من العذاب فيخص الذين لم يصلوا في طغيانهم ومكرهم وذنوبهم إِلى حيث اللارجعة، فيعذبهم اللّه بالتخويف. أيْ يحذرهم بإِنزال العذاب الأليم في أطرافهم فإِنْ استيقظوا فهو المطلوب، وإِلاّ فسينزل العذاب عليهم ويهلكهم.

وعلى هذا، فإنّ ذكر الرأفة والرحمة الإِلهية ترتبط بالنوع الرّابع من الذين مكروا السيئات، الذين لم يقطعوا كل علائقهم مع اللّه ولم يخربوا جميع جسور العودة.

* * *

_____________________________

1 ـ مع أنّ «التقلب» لغةً، بمعنى التردد والذهاب والمجيء، مطلقاً ولكنْ في هكذا موارد ـ كما قال أكثر المفسّرين وتأييد الرّوايات لذلك ـ بمعنى التردد في طريق التجارة وكسب المال ـ فتأمل.

[205]

الآيات

أَوَ لَمْ يَرَوْا مَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَىْء يَتَفَيَّؤُا ظِلَـلُهُ عَنِ الَْيمِينِ وَالشَّمَآئِلِ سُجَّداً لَّلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ(48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِى السَّمـوتِ وَمَا فِى الأَْرْضَ مِن دَابَّة وَالْمَلـئِكَةُ وَهُمْ لاَيَسْتَكْبِرُونَ(49) يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون(50)

التّفسير

سجود الكائنات للّه عزَّ وجلّ:

تعود هذه الآيات مرّة أُخرى إِلى التوحيد بادئةً بـ: (أوَلم يروا إِلى ما خلق اللّه من شيء يتفيؤا ظلاله عن اليمين والشمائل سُجّداً للّه وهم داخرون)(1).

أيْ: ألم يشاهد المشركون كيف تتحرك ظلال مخلوقات اللّه يميناً وشمالا لتعبر عن خضوعها وسجودها له سبحانه؟!

ويقول البعض: إِنّ العرب تطلق على الظلال صباحاً اسم (الظل) وعصراً

_____________________________

1 ـ داخر: في الأصل من مادة (دخور) أيْ: التواضع.

[206]

(الفيء)، وإِذا ما نظرنا إِلى تسمية (الفيء) لقسم من الأموال والغنائم لوجدنا إِشارة لطيفة لحقيقة.. إِنّ أفضل غنائم وأموال الدنيا لا تلبث أنْ تزول ولا يعدو كونها كالظل عند العصر.

ومع ملاحظة ما اقترن بذكر الظلال في هذه الآية من يمين وشمال، وإِنّ كلمة الفيء استعملت للجميع.. فيستفاد من ذلك: أن الفيء هنا ذو معنى واسع يشمل كل أنواع الظلال.

فعندما يقف الإِنسان وقت طلوع الشمس متجهاً نحو الجنوب فإِنّه سيرى شروق قرص الشمس من الجهة اليسرى لأفق الشرق، فتقع ظلال جميع الأشياء المجسمة على يمينه (جهة الغرب)، ويستمر هذا الأمر حتى تقترب الظلال نحو الجهة اليمنى لحين وقت الظهر، وعندها ستتحول الظلال إلى الجهة المعاكسة (اليسرى) وتستمر في ذلك حتى وقت الغروب فتصبح طويلة وممتدة نحو الشرق، ثمّ تغيب وتنعدم عند غروب الشمس.

وهنا.. يعرض الباري سبحانه حركة ظلال الأجسام يميناً وشمالا بعنوانها مظهراً لعظمته جل وعلا واصفاً حركتها بالسجود والخضوع.

أثر الظِلال في حياتنا:

ممّا لا شك فيه أنّ لظلال الأجسام دور مؤثر في حياتنا، ولعل الكثير منّا غير ملتفت إِلى هذه الحقيقة، فوضع القرآن الكريم إِصبعه على هذه المسألة ليسترعي الإِنتباه لها.

للظلال (التي هي ليست سوى عدم النّور) فوائد جمّة:

1 ـ كما أنّ لأشعة الشمس دور أساسي في حياتنا، فكذلك الظلال، لأنّها تقوم بعملية تعديل شدّة الحرارة لأشعة الشمس.

إِنّ الحركة المتناوبة للظلال تحفظ حرارة الشمس لحد متعادل ومؤثر، وبدون

[207]

الظلال فسيحترق كل شيء أمام حرارة الشمس الثابتة وبدرجة واحدة ولمدّة طويلة.

2 ـ وثمّة موضوع مهم آخر وربّما على خلاف تصور معظم الناس، ألاَ وهو: إِنّ النّور ليس هو السبب الوحيد في رؤية الأشياء، بل لابدّ من اقتران الظل بالنّور لتحقيق الرؤية بشكل طبيعي.

وبعبارة أُخرى: إِنّ النّور لو كان يحيط بجسم ما ويشع عليه باستمرار بما لا يكون هناك مجالا للظل أو نصف الظل، فإِنّه والحال هذه لا يمكن رؤية ذلك الجسم وهو غارق بالنّور.،

أيْ: كما أنّه لا يمكن رؤية الأشياء في الظلمة القاتمة، فكذا الحال بالنسبة للنور التام، ويمكن رؤية الأشياء بوجود النّور والظلمة (النّور والظلال).

وعلى هذا يكون للظلال دور مؤثر جدّاً في مشاهدة وتشخيص ومعرفة الأشياء وتمييزها ـ فتأمل.

وثمّة ملاحظة أُخرى في الآية: وهي: ورود «اليمين» بصيغة المفرد في حين جاءت الشمال بصيغة الجمع «شمائل».

فالإِختلاف في التعبير يمكن أن يكون لوقوع الظل في الصباح على يمين الذي يقف مواجهاً للجنوب ثمّ يتحرك باستمرار نحو الشمال حتى وقت الغروب حين يختفي في أفق الشرق(1).

واحتمل المفسّرون أيضاً: مع أن كلمة (اليمين) مفرداً إِلاّ أنّه يمكن أن يراد بها الجمع في بعض الحالات، وهي في هذه الآية تدل على الجمع(2).

وجاء في الآية أعلاه ذكر سجود الظلال بمفهومه الواسع، أما في الآية التالية فقد جاء ذكر السجود بعنوانه برنامجاً عاماً شاملا لكل الموجودات المادية وغير

_____________________________

1 ـ تفسير القرطبي، ضمن تفسير الآية.

2 ـ تفسير أبو الفتوح الرازي، ج7، ص110.

[208]

المادية، وفي أي مكان، فتقول: (ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون)، مسلمين لله ولأوامره تسليماً كاملا.

وحقيقة السجود نهاية الخضوع والتواضع والعبادة، وما نؤديه من سجود على الأعضاء السبعة ما هو إِلاّ مصداق لهذا المفهوم العام ولا ينحصر به.

وبما أنّ جميع مخلوقات اللّه في عالم التكوين والخلق مسلمة للقوانين العامّة لعالم الوجود، التي أفاضتها الإِرادة الإِلهية فإِنّ جميع المخلوقات في حالة سجود له جلّ وعلا، ولا ينبغي لها أن تنحرف عن مسير هذه القوانين، وكلها مظهرة لعظمة وعلم وقدرة الباري عزَّ وجلّ، ولتدلل على أنّها آية على غناه وجلاله.. والخلاصة: كلها دليل على ذاته المقدسة.

«الدابة»: بمعنى الموجودات الحية، ويستفاد من ذكر الآية لسجود الكائنات الحية في السماوات والأرض على وجود كائنات حية في الأجرام السماوية المختلفة علاوة على ما موجود على الأرض.

وقد إِحتمل البعض: عبارة «من دابة» قيد لـ «ما في الأرض» فقط، أيْ: إِنّ الحديث يختص بالكائنات الحية الموجودة على الأرض.

ويبدو ذلك بعيداً بناءً على ما جاء في الآية (29) من سورة الشورى (ومن آياته خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة).

صحيح أنّ السجود والخضوع التكويني لا ينحصر بالكائنات الحية، ولكنّ تخصيص الإِشارة بها لما تحمله من أسرار وعظمة الخلق أكثر من غيرها.

وبما أنّ مفهوم الآية يشمل كلا من: الإِنسان العاقل المؤمن، والملائكة، والحيوانات الأُخرى، فقد استعمل لفظ السجود بمعناه العام الذي يشمل السجود الإِختياري والتشريعي وكذا التكويني الإِضطراري.

أمّا الإِشارة إِلى الملائكة بشكل منفصل في الآية فلأنّ الدابة تطلق على الكائنات الحيّة ذات الجسم المادي فقط، بينما للملائكة حركة وحضور وغياب،

[209]

ولكنْ ليس بالمعنى المادي الجسماني كي تدخل ضمن مفهوم «الدابة».

وروي في حديث النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «إِنّ لله تعالى ملائكة في السماء السابعة سجوداً منذ خلقهم إِلى يوم القيامة، ترعد فرائصهم من مخافة اللّه تعالى، لا تقطر من دموعهم قطرة إِلاّ صارت ملكاً، فإِذا كان يوم القيامة رفعوا رؤوسهم وقالوا: ما عبدناك حق عبادتك»(1).

أمّا جملة (وهم لا يستكبرون) فإِشارة لحال وشأن الملائكة التي لا يداخلها أيٌّ استكبار عند سجودها وخضوعها لله عزَّوجلّ.

ولهذا ذكر صفتين للملائكة بعد تلك الآية مباشرةً وتأكيداً لنفي حالة الإِستكبار عنهم: (يخافون ربّهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون).

كما جاء في الآية (6) من سورة التحريم في وصف جمع من الملائكة: (لا يعصون اللّه ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون).

ويستفاد من هذه الآية بوضوح.. أنّ علامة نفي الإِستكبار شيئان:

أ ـ الشعور بالمسؤولية وإِطاعة الأوامر الإِلهية من دون أي اعتراض، وهو وصف للحالة النفسية لغير المستكبرين.

ب ـ ممارسة الأوامر الإِلهية بما ينبغي والعمل وفق القوانين المعدة لذلك.. وهذا انعكاس للأول، وهو التحقيق العيني له.

وممّا لا ريب فيه أنّ عبارة (من فوقهم) ليست إِشارة إِلى العلو الحسي والمكاني، بل المراد منها العلو المقامي، لأنّ اللّه عزَّوجلّ فوق كل شي مقاماً.

كما نقرأ في الآية (61) من سورة الأنعام: (وهو القاهر فوق عباده)، وكذلك في الآية (127) من سورة الأعراف: (وإِنّا فوقهم قاهرون) حينما أراد فرعون أن يظهر قدرته وقوته!

* * *

_____________________________

1 ـ مجمع ذيل البيان، ذيل الآية المبحوثة.

[210]

الآيات

وَقَالَ اللَّهُ لاَ تَتَّخِذُوا إِلـهَيْنَ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلـهٌ وحِدٌ فَإِيَّـىَ فَارْهَبُونِ(51) وَلَهُ مَا فِى السَّمَـوتِ وَالأَْرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ(52) وَمَا بِكُمْ مِّنْ نِّعْمَة فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُون(53) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِّنكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ(54) لِيَكْفُرُوا بِمَآ ءَاتَيْنـهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ(55)

التّفسير

دين حق ومعبود واحد:

تتناول هذه الآيات موضوع نفي الشرك تعقيباً لبحث التوحيد ومعرفة اللّه عن طريق نظام الخلق الذي ورد في الآيات السابقة، لتتّضح الحقيقة من خلال المقارنة بين الموضوع، ويبتدأ بـ: (وقال اللّه لا تتخذوا إِلهين اثنين إنّما هو إِلـه واحد فإِيّاي فارهبون).

وتقديم كلمة «إِيّاي» يراد بها الحصر كما في «إِيّاك نعبد» أيْ: يجب الخوف

[211]

من عقابي لا غير.

ومن الملفت للنظر أنّ الآية أشارت إِلى نفي وجود معبودين في حين أن المشركين كانوا يعبدون أصناماً متعددة.

ويمكن أن يكون ذلك إِشارة إِلى إِحدى النقاط التالية أو إِلى جميعها:

1 ـ إِنّ الآية نفت عبادة اثنين، فكيف بالأكثر؟!

وبعبارة أُخرى: إِنّها بيّنت الحد الأدنى للمسألة ليتأكّد نفي الأكثر، وأيُّ عدد ننتخبه (أكثر من واحد) لابدّ له أن يمر بالإِثنين.

2 ـ كل ما يعبد من دون اللّه جمع في واحد، فتقول الآية: أن لا تعبدوها مع اللّه، ولا تعبدوا إِلهين (الحق والباطل).

3 ـ كان العرب في الجاهلية قد انتخبوا معبودين:

الأوّل: خالق العالم، أيْ اللّه عزَّوجلّ وكانوا يؤمنون به.

والثّاني: الأصنام، واعتبروها واسطة بينهم وبين اللّه، واعتبروها كذلك منبعاً للخير والبركة والنعمة.

4 ـ يمكن أن تكون الآية ناظرة إِلى نفي عقيدة (الثنويين) القائلين بوجود إِله للخير وآخر للشر، ومع انتخابهم لأنفسهم هذا المنطق الضعيف الخاطيء، إلاّ إنّ عبدة الأصنام قد غالوا حتى في هذا المنطق وتجاوزوه لمجموعة من الالهة!

وينقل المفسّر الكبير العلاّمة الطبرسي في تفسير هذه الآية عبارة لطيفة نقلها عن بعض الحكماء: (نهاك ربك أن تتخذ إِلهين فاتخذت آلهة، عبدتَ: نفسك وهواك، وطبعك ومرادك، وعبدتَ الخلق فأنّى تكون موحداً).

ثمّ يوضح القرآن أدلة توحيد العبادة بأربعة بيانات ضمن ثلاث آيات ... فيقول أوّلاً (وله ما في السموات والأرض) فهل ينبغي السجود للأصنام التي لا تملك شيئاً، أم لمن له ما في السماوات والأرض؟

ثمّ يضيف: (وله الدين واصباً).

[212]

فعندما يثبت أن عالم الوجود منه، وهو الذي أوجد جميع قوانينه التكوينية فينبغي أن تكون القوانين التشريعية من وضعه أيضاً، ولا تكون طاعة إِلاّ له سبحانه.

«واصب»: من «الوصوب»، بمعنى الدوام. وفسّرها البعض بمعنى (الخالص) (ومن الطبيعي أن ما لم يكن خالصاً لم يكن له الدوام. أما الذين اعتبروا «الدين» هنا بمعنى الطاعة، فقد فسّروا «واصباً» بمعنى الواجب، أيْ: يجب إِطاعة اللّه فقط.

ونقرأ في رواية عن الإِمام الصادق(عليه السلام) أنّ شخصاً سأله عن قول اللّه (وله الدين واصباً) قال: «واجباً»(1).

والواضح أنّ هذه المعاني متلازمة جميعها.

ثمّ يقول في نهاية الآية: (أفغير اللّه تتقون).

فهل يمكن للأصنام أن تصدَّ عنكم المكروه أو أن تفيض عليكم نعمة حتى تتقوها وتواظبوا على عبادتها؟!

هذا..(وما بكم من نعمة فمن اللّه).

فهذه الآية تحمل البيان الثّالث بخصوص لزوم عبادة اللّه الواحد جلّ وعلا، وأنّ عبادة الأصنام إِن كانت شكراً على نعمة فهي ليست بمنعمة، بل الكل بلا استثناء منعّمون في نعم اللّه تعالى، وهو الأحق بالعبادة لا غيره.

وعلاوة على ذلك...(ثمّ إِذا مسّكم الضرّ فإِليه تجأرون).

فإِنْ كانت عبادتكم للأصنام دفعاً للضر وحلا للمعضلات، فهذا من اللّه وليس من غيره، وهو ما تظهره ممارساتكم عملياً حين إِصابتكم بالضر، فَلِمَن تلتجئون؟ إِنّكم تتركون كل شيء وتتجهون إِلى اللّه.

وهذا البيان الرّابع حول مسألة التوحيد بالعبادة.

_____________________________

1 ـ تفسير البرهان، ج2، ص373.

[213]

«تجئرون»: من مادة (الجؤار) على وزن (غبار)، بمعنى صوت الحيوانات والوحوش الحاصل بلا اختيار عند الألم، ثمّ استعملت كنايةً في كل الآهات غير الإختيارية الناتجة عن ضيق أو ألم.

إِنّ اختيار هذه العبارة هنا إِشارة إِلى أنّه عندما تتراكم عليكم الويلات ويحل بكم البلاء الشديد تطلقون حينها صرخات الإِستغاثة اللاإِختيارية.. وأنتم بهذه الحال، أتوجهون النداء لغيره سبحانه وتعالى؟! فلماذا إِذَنْ في حياتكم الإِعتيادية وعندما تواجهون المشاكل اليسيرة تلتجؤون إِلى الأصنام؟!

نعم. فاللّه سبحانه يمسع نداءكم في كل الحالات ويغيثكم ويرفع عنكم البلاء (ثمّ إِذا كشف الضر عنكم إِذا فريق منكم بربّهم يشركون) بالعود إِلى الأصنام!

وفي الحقيقة ... فالقرآن في الآية يشير إِلى فطرة التوحيد في جميع الناس، إِلاّ أنّ حجب الغفلة والغرور والجهل والتعصب والخرافات تغطيها في الأحوال الإِعتيادية.

ولكنْ، عندما تهب عواصف البلاء تنقلع تلك الحجب فيظهر نور الفطرة براقاً من جديد ليرى الناس لمن يتوجهون، فيدعون اللّه مخلصين بكامل وجودهم، فيرفع عنهم أغطية البلاء المتأتية من تلك الحجب، (لاحظوا أنّ الآية قالت: (كشف الضر) أيْ: رفع أغطية البلاء).

ولكنْ.. عندما تهدأ العاصفة ويرتفع البلاء وتعودون إِلى شاطيء الأمان، تعاودون من جديد على الغفلة والغرور، وتظهرون الشرك بعبادتكم للأصنام مجدداً!

وفي آخر آية (من الآيات مورد البحث) يأتي التهديد بعد إِيضاح الحقيقة بالأدلة المنطقية: (ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون).

وَيُشَبَّهُ ذلك بتوجيه النصائح والإِرشادات لمنحرف متخلف لا يفيد معه هذا الأُسلوب المنطقي فيقطع معه الحديث باللين ليواجه بالتهديد عسى أن يرعوي

[214]

فيقال له: مع كل ما قلنا لك... إِفعل ما شئت ولكن سترى نتيجة عملك عاجلا أم آجلا.

وعلى هذا فتكون اللام في «ليكفروا» يراد به التهديد، وكذا «تمتعوا» أمر يراد به التهديد أيضاً، أمّا مجيء الفعل الأوّل بصيغة الغائب «ليكفروا» والثّاني بصيغة المخاطب «تمتعوا»، فكأنه افترض غيابهم أوّلاً فقال: ليذهبوا ويكفروا بهذه النعم، وعند تهديدهم يلتفت إِليهم ويقول: تمتعوا بهذه النعم الدنيوية قليلا فسيأتي اليوم الذي تدركون فيه عظم خطئكم وسترون عاقبة أعمالكم.

والآية (30) من سورة إِبراهيم تشابه الآية المذكورة من حيث الغرض: (قل تمتعوا فإِنّ مصيركم إِلى النّار)(1)

* * *

_____________________________

1 ـ احتمل جمع من المفسّرين: أنّ «ليكفروا» غاية ونتيجة للشرك والكفر الذي نسب إِليهم في الآية التي قبلها، فيكون المعنى أنّهم بعد إِنجائهم من الضر تركوا طريق التوحيد وساروا في طريق الشرك ليكفروا بنعم اللّه وينكرونها.

[215]

الآيات

وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَيَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْنـهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ(56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنـتِ سُبْحـنَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ(57) وَإِذابُشِّرَ أَحَدُهُم بِالأُْنثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ(58) يَتَورَى مِنَ القَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُون أَمْ يَدُسُّهُ فِى التُّرابِ أَلاَ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ(59) لِلَّذِينَ لاَيُؤمِنُونَ بِالأَْخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَْعْلَى وَهُوَ الْعَزِيَزُ الْحَكِيمُ(60)

التّفسير

عندما كانت ولادة البنت عاراً!

بعد أن عرضت الآيات السابقة بحوثاً استدلالية في نفي الشرك وعبادة الأصنام، تأتي هذه الآيات لتتناول قسماً من بدع المشركين وصوراً من عاداتهم القبيحة، لتضيف دليلا آخراً على بطلان الشرك وعبادة الأصنام، فتشير الآيات إِلى ثلاثة أنواع من بدع وعادات المشركين:

[216]

وتقول أوّلاً: (ويجعلون لما لا يعلمون نصيباً ممّا رزقناهم)(1).

وكان النصيب عبارة عن قسم من الإِبل بقية من المواشي بالإِضافة إِلى قسم من المحاصيل الزراعية، وهو ما تشير إِليه الآية (136) من سورة الأنعام: (وجعلوا لله ما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إِلى اللّه وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون).

ثمّ يضيف القرآن الكريم قائلا: (تالله لتسئلنّ عمّا كنتم تفترون).

وسيكون بعد السؤال اعتراف لا مفر منه ثمّ الجزاء والعقاب، وعليه فما تقومون به له ضرر مادي من خلال ما تعملونه بلا فائدة، وله عقاب أخروي لأنّكم أسأتم الظن بالله واتجهتم إِلى غيره.

أمّا البدعة الثّانية فكانت: (ويجعلون لله البنات سبحانه) من التجسم ومن هذه النسبة. (ولهم ما يشتهون) أيْ: إنّهم لم يكونوا ليقبلوا لأنفسهم ما نسبوا إِلى اللّه، ويعتبرون البنات عاراً وسبباً للشقاء!

وإكمالا للموضوع تشير الآية التالية إِلى العادة القبيحة الثّالثة: (وإِذا بشر أحدهم بالأُنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم)(2).

ولا ينتهي الأمر إِلى هذا الحد بل (يتوارى من القوم من سوء ما بشر به).

ولم ينته المطاف بعد، ويغوص في فكر عميق: (أيمسكه على هون أم يدسّه في

_____________________________

1 ـ ذكر المفسّرون رأيين في تفسير «ما لا يعلمون» وضميرها:

الأوّل: أن ضمير «لا يعلمون» يعود إِلى المشركين أيْ أنّ المشركين يجعلون للأصنام نصيباً وهم لا يعلمون لها خيراً وشراً (وهذا ما انتخبناه من تفسير).
والثّاني: إِنّ الضمير يعود إِلى نفس الأصنام، أيْ يجعلون للأصنام نصيباً في حين أنّها لا تدرك، لا تعقل، لا تعلم!
والتّفسير الثّاني يظهر نوعاً من التضاد بين عبارات الآية، لأنّ «ما» تستمعل عادة لغير العاقل و«يعلمون» تستعل للعاقل عادةً.
أمّا في التّفسير الأوّل فـ «ما» تعود على الأصنام و«يعلمون» على عبدتها.

2 ـ الكظيم: تطلق على الإِنسان الممتليء غضباً.

[217]

التراب).

وفي ذيل الآية، يستنكر الباري حكمهم الظالم الشقي بقوله: (ألا ساء ما يحكمون).

وأخيراً يشير تعالى إِلى السبب الحقيقي وراء تلك التلوثات، ألا هو عدم الإِيمان بالآخرة: (للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم).

فكلّما اقترب الإِنسان من العزيز الحكيم انعكس في روحه نور صفاته العليا من العلم والقدرة والحكمة وابتعد عن الخرافات والبدع والأفعال القبيحة.

وكلما ابتعد عنه تعالى غرق بقدر ذلك البعد في ظلمات الجهل والضعف والذلة والقبائح.

فالسبب الرئيسي لكل انحراف وقبح وخرافة هو الغفلة عن ذكر اللّه وعن محكمته العادلة في الآخرة، أمّا ذكر اللّه والآخرة فدافع أصيل للإِحساس بالمسؤولية ومحاربة الجهل والخرافة، وعامل قدرة وقوة وعلم للإِنسان.

* * *

بحوث

1 ـ لماذا اعتبروا الملائكة بناتاً لله؟

تطالعنا الكثير من آيات القرآن الكريم بأنّ المشركين كانوا يقولون بأنّ الملائكة بنات اللّه جلّ وعلا، أو أنّهم كانوا يعتبرون الملائكة إِناثاً دون نسبتها إِلى اللّه..

كما في الآية (19) من سورة الزخرف: (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن اناثاً)، وفي الآية (40) من سورة الإِسراء: (أفأصفاكم ربّكم بالبنين واتخذ من الملائكة إِناثاً).

[218]

يمكن أن تكون هذه الإِعتقادات بقايا خرافات الأقوام السابقة التي وصلت عرب الجاهلية، أو ربما يحصل هذا الوهم بسبب ستر الملائكة عنهم وحال الإِستتار أكثر ما يختص بحال النساء، ولهذا تعتبر العرب الشمس مؤنثاً مجازياً والقمر مذكراً مجازياً أيضاً، على اعتبار أنّ قرص الشمس لا يمكن للناظر إِليه أن يديم النظر لأنه يستر نفسه بقوة نوره، أمّا قرص القمر فظاهر للعين ويسمح للنظر إِليه مهما طالت المدّة.

وثمّة احتمال آخر يذهب إِلى الكناية عن لطافة الملائكة، والإِناث أكثر من الذكور لطافة.

وعلى أية حال.. فهذه إِحدى ترسبات الخرافات القديمة التي تكلست في مخيلة البشرية حتى وصلت للبعض ممن يعيش في يومنا هذا، ولا تختص هذه الخرافة بقوم دون آخر لأنّنا نلاحظ وجودها في أدبيات عدد من لغات العالم! فنرى الأديب مثلا حينما يريد وصف جمال امرأة ينعتها بالملائكة، وذاك الفنان الذي يريد أن يعبر عن الملائكة فيجعلها بهيئة النساء، في حين أن الملائكة لا تملك جسماً مادياً حتى يمكننا أن نصفه بالمذكر أو المؤنث.

2 ـ لماذا شاع وأد البنات في الجاهلية؟

الوأد في واقعه أمرٌ رهيب، لأنّ الفاعل يقوم بسحق كل ما بين جوانحه من عطف ورحمة، ليتمكن من قتل إِنسان بريء ربّما هو من أقرب الأشياء إِليه من نفسه!

والأقبح من ذلك افتخاره بعمله الشنيع هذا!

فأين الفخر من قتل إنسان ضعيف لا يقوى حتى للدفاع عن نفسه؟ بل كيف يدفن الإِنسان فلذة كبده وهي حية؟!

وهذا ليس بالأمر الهيّن، فأيُّ إِنسان ومهما بلغت به الوحشية لا يقدم على

[219]

هكذا جريمة بشعة من غير أن تكون لها مقدمات إِجتماعية ونفسية واقتصادية عميقة الأثر والتأثير تدعوه لذلك...

يقول المؤرخون: إِنّ بداية وقوع هذا العمل القبيح كانت على أثر حرب جرت بين فريقين منهم في ذلك الوقت، فأسر الغالب منهم نساء وبنات المغلوب، وبعد مضي فترة من الزمن تمّ الصلح بينهم فأراد المغلوبون استرجاع أسراهم إِلاّ أنّ بعضاً من الأسيرات ممن تزوجن من رجال القبيلة الغالبة اخترن البقاء مع الأعداء ورفضن الرجوع إِلى قبيلتهن، فصعب الأمر على آبائهن بعد أن أصبحوا محلا للوم والشماتة، حتى أقسم بعضهم أنْ يقتل كل بنت تولد له كي لا تقع مستقبلا أسيرة بيد الأعداء!

ويلاحظ بوضوح ارتكاب أفظع جناية ترتكب تحت ذريعة الدفاع عن الشرف والناموس وحيثية العائلة الكاذبة.. فكانت النتيجة: ظهور بدعة وأد البنات القبيحة وانتشارها بين جمع منهم حتى أصبحت سنّة جاهلية، ولفظاعتها فقد أنكرها القرآن الكريم بشدّة بقوله: (وإِذا المؤودة سئلت بأي ذنب قتلت)(1).

وثمّة احتمال آخر يذهب إِلى دور الطبيعة الإِنتاجية للأولاد الذكور، والنزوع إِلى الطبيعة الإِستهلاكية عند الإِناث، وماله من أثر على الحياة الإِجتماعية والإِقتصادية، فالولد الذكر بالنسبة لهم ذخر مهم ينفعهم في القتال والغارات وفي حفظ الماشية وما شابه ذلك من الفوائد، في حين أنّ البنات لسن كذلك.

ومن جانب آخر.. فقد سببت الحروب والنزاعات القبلية قتل الكثير من الرجال والأولاد ممّا أدى لإِختلال التوازن في نسبة الإِناث إِلى الذكور، حتى وصل وجود الولد الذكر عزيزاً ودفع الرجل لأن يتباهى بين قومه حين يولد له مولود ذكراً، وينزعج ويتألم عند ولادة البنت.. ووصل حالهم لحد (كما يقول عنه

_____________________________

1 ـ سورة التكوير، 9.

[220]

بعض المفسّرون) أنّ الرجل في الجاهلية يغيّب نفسه عن داره عند قرب وضع زوجته لئلا تأتيه بنت وهو في الدار!

وإِذا ما أخبروه بأنّ المولود ذكر فيرجع إِلى بيته وبشائر الفرح تتعالى وجنتيه، ولكنّ الويل كل الويل والثبور فيما لو أخبروه بأنّ المولود بنتاً ويمتلىء غيظاً وغضباً(1).

وقصّة «الوأد» ملأى بالحوادث المؤلمة...

منها: ما روي أنّ رجلا جاء إِلى رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) فأعلن إِسلامه، وجاءه يوماً فسأله: إِنّي أذنبت ذنباً عظيماً فهل لي من توبة؟ فقال رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم): «إِنّ اللّه تواب رحيم»، قال: يا رسول اللّه إِنّ ذنبي عظيم قال: «ويلك مهما كان ذنبك عظيماً فعفو اللّه أعظم منه»، قال: لقد سافرت في الجاهلية سفراً بعيداً وكانت زوجتي حبلى وعندما عدت بعد أربع سنوات استقبلتني زوجتي فرأيت بنتاً في الدار، فقلت لها: ابنة مَنْ هذه؟ قالت: ابنة جارنا. فظننت أنّها سترحل عن دارنا بعد ساعة، فلم تفعل، ثمّ قلت لزوجتي: أصدقيني مَنْ هذه البنت؟ قالت: ألا تذكر أنّي كنت حاملة عندما سافرت، إنّها إبنتك. فنمت تلك الليلة مغتماً، أنام واستيقظ، حتى اقترب وقت الصباح نهضت من فراشي وذهبت إِلى فراش ابنتي فأخرجتها وأيقظتها وطلبت منها أن تصحبني إِلى حائط النخل، فتبعتني حتى اقتربنا من الحائط فأخذت بحفر حفيرة وهي تعينني على ذلك، وعندما إنتهيت من ذلك وضعتها في وسط الحفرة.. وهنا فاضت عينا رسول اللّه بالدمع.. ثمّ وضعت يدي اليسرى على كتفها وأخذت أهيل التراب عليها بيدي اليمنى، فأخذت تصرخ وتدافع بيديها ورجليها وتقول: أبي ما تصنع بي!؟ ثمّ أصاب لحيتي بعض التراب فرفعت يدها تمسحه عنها، وأدمت ذلك حتى دفنتها.

_____________________________

1 ـ تفسير الفخر الرازي، ج20، ص 55.

[221]

فقال رسول اللّه وهو يمسح دموعه: «لولا أنْ سبقت رحمة اللّه غضبه لعجل اللّه لك العذاب»(1).

وكذلك ما روي في (قيس بن عاصم) أحد أشرف ورؤساء قبيلة بني تميم في الجاهلية، وقد أسلم عند ظهور النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، جاء يوماً إِلى النّبي وقال له: أِنّ آباءنا كانوا يدفنون بناتهم أحياءاً، وقد دفنت أنا (12) بنتاً، وعندما ولدت لي زوجتي البنت الثّالثة عشر أخفت أمرها وادّعت أنّها ماتت عند الولادة، ثمّ أودعتها آخرين، وعندما علمت بذلك بعد مدّة، أخذتها إِلى مكان بعيد ودفنتها حيّة دون أن أعتني ببكائها وتضرعها.

فتأذى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) من ذلك فقال ودموعه جارية: «من لا يِرحم لا يُرحم» ثمّ التفت إِلى قيس وقال: «إِنّ لك يوماً سيئاً»، فقال قيس: ما أفعل لتكفير ذنبي؟ فقال النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): «حرر من العبيد بعدد ما وأدت»(2).

وروي أيضاً أن (صعصعة بن ناجية) جد الفرزدق الشاعر المعروف، وكان رجلا شريفاً حرّاً فقيل: إنّه كان في الجاهلية يحارب الكثير من العادات القبيحة حتى أنّه اشترى (360) بنتاً من آبائهن كي ينقذهن من القتل، وقد أعطى يوماً دابته مع بعيرين لأب كان يريد قتل ابنته.

وقال له الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) ذات مرّة (في ما معناه): ما أحسن ما صنعت وأجرك عند اللّه.

وقال الفرزدق فخراً بعمل جده:

ومنّـا الذي منـع الوائـدات فأحيـا الوئيـد فلم توئـد(3)

وسنرى كيف أنّ الإِسلام قد أصم تلك الفواجع العظام، واعتبر للمرأة مكانة ما كانت تحظى بها من قبل على مر العصور.

_____________________________

1 ـ القرآن يواكب الدهر، ج2، ص314 (مضموناً).

2 ـ الجاهلية والإِسلام، ص 632.

3 ـ قاموس الرجال، ج5، ص 125 (مضموناً).

[222]

3 ـ دور الإِسلام في إِعادة اعتبار المرأة:

لم يكن احتقار المرأة مختصاً بعرب الجاهلية، فلم تلق المرأة أدنى درجات الإِحترام والتقدير حتى في أكثر الأُمم تمدناً في ذلك الزمان، وكانت المرأة غالباً ما يتعامل معها باعتبارها بضاعة وليست إِنساناً محترماً، ولكنّ عرب الجاهلية جسدوا تحقير المرأة بأشكال أكثر قباحة ووحشية من غيرهم، حتى أنّهم ما كانوا يدخلونهن في الأنساب كما نقرأ ذلك في الشعر الجاهلي المعروف:

بنونـا بنو أبـائـنـا وبـنـاتـنـا بنـوهن أبـنـاء الـرجال الأبـاعد

وكانوا أيضاً لا يورثون النساء، ولم يجعلوا لتعدد الزوجات حدّاً، وعملية الزواج أو الطلاق أسهل من شربة الماء عندهم.

وعندما ظهر الإِسلام حارب بشدّة هذه المهانة من كافة أبعادها، وبالخصوص مسألة اعتبار ولادة البنت عاراً، حتى وردت الرّوايات الكثيرة التي تؤكّد على أنّ البنت باب من أبواب رحمة اللّه للعائلة.

وأولى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ابنته فاطمة الزهراء(عليها السلام) من الإِحترام ما جعل الناس في عجب من أمره، حيث كان (صلى الله عليه وآله وسلم) مع ما يحظى به من شرف ومقام، كان يقبل يد الزهراء(عليها السلام)، وعندما يعود من السفر يذهب إِليها قبل أي أحد. وعندما يريد السفر كان بيت فاطمة الزهراء(عليها السلام) آخر بيت يودّعه.

وحينما أُخبر بولادة الزهراء(عليها السلام)، رأى الإِنقباض في وجوه أصحابه فقال على الفور: «ما لكم! ريحانة أشمها، ورزقها على اللّه عزَّ وجلّ»(1).

وفي حديث أنّه(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «نعم الولد البنات، ملطفات، مجهزات، مؤنسات، مفليات»(2).

وفي حديث آخر: «مَنْ دخل السوق فاشترى تحفة فحملها إِلى عياله كان كحامل الصدقة إِلى قوم محاويج، وليبدأ بالإِناث قبل الذكور، فإِنّه مَنْ فرّح ابنته

_____________________________

1 ـ وسائل الشيعة، ج15 ص102.

2 ـ وسائل الشيعة، ج15، ص100.

[223]

فكأنّما أعتق رقبة من ولد إِسماعيل»(1).

فالإِحترام الذي أولاه الإِسلام للمرأة قد أعاد لها شخصيتها الضائعة بين حوالك الجاهلية، وحررها من العادات البالية، وأنهى عصر تحقيرها.

وإِن كان غور هذا الموضوع يستلزم التفصيل فسنتطرق إِلى ذلك في تفسيرنا للآيات المناسبة له، ولكنّ ما يحز في النفوس ولا يمكن السكوت عنه ما يشاهد في كثير من مجتمعاتنا الإِسلامية من آثار لنفس ذلك التوجه الجاهلي الموبوء، فإِلى الآن نرى الكثير من العوائل تفرح وتسر عندما يأتيها مولود ذكر، وتتأسف وتتأفف عندما تكون المولودة بنتاً! وعلى أقل التقادير ترجح ولادة الولد على البنت!.

من الممكن أن تكون الظروف الخاصة اقتصادياً واجتماعياً، المرتبطة بوضع المرأة في مجتمعاتنا، عاملا على وجود عادات وحالات خاطئة، إِلاّ أنّه ينبغي على المؤمنين المخلصين مكافحة هذا النمط من التفكير واقتلاع جذوره الإِجتماعية والإِقتصادية، فالإِسلام لا يقبل من أتباعه بعد (14) قرن العود إِلى أفكار الجاهلية المقيتة.. فهذا السلوك في واقعه نوع من الجاهلية الثّانية.

ولا ينبغي أن تأخذنا التصورات السارحة فنرى عن بعد أن المرأة قد نالت مناها في عالم الغرب وأنّها تحظى من الإِحترام والتحرر ما تحسد عليه! فالحياة العمليه في الغرب تؤكّد بما لا يقبل الشك أنّ المرأة هناك محتقرة، وقد جعلت لعبة مبتذلة ووسيلة رخيصة لإِشباع الشهوات أو وسيلة إِعلان للبضائع والمنتوجات(2).

* * *

_____________________________

1 ـ مكارم الأخلاق، ص 54.

2 ـ ومن جميل الصدف أن كتب هذا البحث في اليوم العشرين من جمادى الثّانية سنة 1401، وهو يوم ولادة فاطمة الزّهراء(عليها السلام).




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21403659

  • التاريخ : 20/04/2024 - 00:36

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net